65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الثلاثاء، 20 فبراير 2024

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

 

الكتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء}
المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)
المحقق: فؤاد علي منصور


الحمد لله خالق الألسن واللغات واضع الألفاظ للمعاني بحسب ما اقتضته حكمه البالغات الذي علم آدم الأسماء كلها وأظهر بذلك شرف اللغة وفضلها.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح الخلق لسانا وأعربهم بيانا وعلى آله وصحبه أكرم بهم أنصارا وأعوانا.
هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه واخترعت تنويعه وتبويبه وذلك في علوم اللغة وأنواعها وشروط أدائها وسماعها حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع وأتيت فيه بعجائب وغرائب حسنة الإبداع.
وقد كان كثير ممن تقدم يلم بأشياء من ذلك ويعتني في بيانها بتمهيد المسالك غير أن هذا المجموع لم يسبقني إليه سابق ولا طرق سبيله قبلي طارق وقد سميته بالمزهر في علوم اللغة.
وهذا فهرست انواعه

النوع الأول - معرفة الصحيح الثابت.
الثاني - معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت.
الثالث - معرفة المتواتر والآحاد.
الرابع - معرفة المرسل والمنقطع.
الخامس - معرفة الأفراد.
السادس - معرفة من تُقْبَل روايته ومَن تُرَد.
السابع - معرفة طرق الأخذ والتحمل.
الثامن - معرفة المصنوع وهو الموضوع ويذكر فيه المدرج والمسروق.
وهذه الأنواع الثمانية راجعة إلى اللغة من حيث الإسناد.
التاسع - معرفة الفصيح.
العاشر - معرفة الضعيف والمنكر والمتروك.
الحادي عشر - معرفة الرديء المذموم.

  الثاني عشر - معرفة المطرد والشاذ.
الثالث عشر - معرفة الحوشي والغرائب والشوارد والنوادر.
الرابع عشر - معرفة المهمل والمستعمل.
الخامس عشر - معرفة المفاريد.
السادس عشر - معرفة مختلف اللغة.
السابع عشر - معرفة تداخل اللغات.
الثامن عشر - معرفة توافق اللغات.
التاسع عشر - معرفة المعرب.
العشرون - معرفة الألفاظ الإسلامية.
الحادي والعشرون - معرفة المولد.
وهذه الأنواع الثلاثة عشر راجعة إلى اللغة من حيث الألفاظ.
الثاني والعشرون - معرفة خصائص اللغة.
الثالث والعشرون - معرفة الإشتقاق.
الرابع والعشرون - معرفة الحقيقة والمجاز.
الخامس والعشرون معرفة المشترك.
السادس والعشرون - معرفة الأضداد.
السابع والعشرون - معرفة المترادف.
الثامن والعشرون - معرفة الإتباع.
التاسع والعشرون - معرفة الخاص والعام.
الثلاثون - معرفة المطلق والمقيد.
الحادي والثلاثون - معرفة المشجر.
الثاني والثلاثون - معرفة الإبدال.
الثالث والثلاثون - معرفة القلب.
الرابع والثلاثون - معرفة النحت.
وهذه الأنواع الثلاثة عشر راجعة إلى اللغة من حيث المعنى.
الخامس والثلاثون - معرفة الأمثال.
السادس والثلاثون - معرفة الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأذواء والذوات.
السابع والثلاثون - معرفة ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف.

  الثامن والثلاثون - معرفة ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب.
التاسع والثلاثون - معرفة الملاحن والألغاز وفتيا فقيه العرب.
وهذه الأنواع الخمسة راجعة إلى اللغة من حيث لطائفها وملحها.
الأربعون - معرفة الأشباه والنظائر.
وهذا راجع إلى حفظ اللغة وضبط مفاريدها.
الحادي والأربعون - معرفة آداب اللغوي.
الثاني والأربعون - معرفة كتاب اللغة.
الثالث والأربعون - معرفة التصحيف والتحريف.
الرابع والأربعون - معرفة الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء.
الخامس والأربعون - معرفة الأسماء والكُنى والألقاب والأنساب.
السادس والأربعون - معرفة المؤتلف والمختلف.
السابع والأربعون - معرفة المتفق والمفترق.
الثامن والأربعون - المواليد والوفيات.
وهذه الأنواع الثمانية راجعة إلى رجال اللغة ورواتها.
التاسع والأربعون - معرفة الشعر والشعراء.
الخمسون - معرفة أغلاط العرب.
(تصدير)

وقبل الشروع في الكتاب نصدر بمقالة ذكرها أبو الحسين أحمد بن فارس في أول كتابه فقه اللغة:
قال: اعلم أن لعلم العرب أصلا وفرعا أما الفرع فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: رجل وفرس وطويل وقصير وهذا هو الذي يبدأ به عند التعلم.
وأما الأصل فالقول على وضع اللغة وأوليتها ومنشئها ثم على رسوم العرب في مخاطباتها وما لها من الافتنان تحقيقا ومجازا.
والناس في ذلك رجلان: رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره وآخر جمع الأمرين معا وهذه هي الرتبة العليا لأن بها يعلم خطاب القرآن والسنة وعليها يعول أهل النظر والفتيا وذلك أن طالب العلم اللغوي يكتفي من أسماء الطويل باسم

  الطويل ولا يضيره ألا يعرف الأشق والأمق وإن كان في علم ذلك زيادة فضل.
وإنما لم يضره خفاء ذلك عليه لأنه لا يكاد يجد منه في كتاب الله تعالى شيئا فيحوج إلى علمه ويقل مثله أيضا في ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانت ألفاظه صلى الله عليه وسلم هي السهلة العذبة.
ولو أنه لم يعلم توسع العرب في مخاطباتها لعي بكثير من علم محكم الكتاب والسنة ألا ترى قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة} إلى آخر الآية.
فسر هذه الآية في نظمها لا يكون بمعرفة غريب اللغة والوحشي من الكلام.
(وإنما معرفته بغير ذلك مما لعل كتابنا هذا يأتي على أكثره بعون الله) .
والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن متوسما بالأدب لو سئل عن الجزم والتسويد في علاج النوق فتوقف أو عي به أو لم يعرفه لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصا شائنا لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى ولو قيل له: هل تتكلم العرب في النفي بما لا تتكلم به في الإثبات ثم لم يعلمه لنقصه ذلك (في شريعة الأدب) عند أهل الأدب (لا أن ذلك يرده عن دينه أو يجره لمأثم) كما أن متوسما بالنحو لو سئل عن قول القائل // من الطويل //:
(لهنك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذب من يقولها)

  فتوقف أو فكر أو استمهل لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هينا لكن لو قيل له مكان (لهنك) : ما أصل القسم وكم حروفه (وما الحروف المشبهة بالأفعال التي يكون الاسم بعدها منصوبا وخبره مرفوعا) فلم يجب لحكم عليه بأنه لم يشام صناعة النحو قط.
فهذا الفصل بين الأمرين.
ثم قال: والذي جمعناه في مؤلفنا هذا مفرق في أصناف كتب العلماء المتقدمين (رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء) وإنما لنا فيه اختصار مبسوط أو بسط مختصر أو شرح مشكل أو جمع متفرق.
انتهى.
وبمثل قوله أقول في هذا الكتاب وهذا حين الشروع في المقصود بعون الله المعبود.
النوع الأول

معرفة الصحيح ويقال له الثابت والمحفوظ

فيه مسائل:
- الأولى - في حدِّ اللغة وتصريفها:
قال أبو الفتح ابن جني في الخصائص: حدُّ اللغةِ أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم.
ثم قال: وأما تَصْريفها فهي فُعْلة من لَغَوْت أي تكلَّمت وأصلها لغوة ككُرَة وقُلَة وثُبَة كلها لاماتها واوات (لقولهم كروت بالكرة وقلوت بالقلة ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب) .
وقالوا فيها لُغاتٌ ولُغُون كثُبَات وثُبُون.
وقيل منها لَغِيََ يَلْغَى إذا هَذَى قال: (من الرجز)
(ورب أسراب حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ)
وكذلك اللَّغو قال تعالى: {وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْو مَرُّوا كِرَاماً} .
أي بالباطل.
وفي الحديث: (من قال في الجمعة صَهْ فقد لَغَا) : أي تكلَّم.
انتهى كلامُ ابن جني.
وقال إمامُ الحرمين في البرهان: اللغةُ من لَغِي يَلْغَى من باب رَضِي إذا لهِج بالكلام وقيل من لَغَى يَلْغَى.
وقال ابن الحاجب في مختصره: حدُّ اللغةِ كلُّ لفظٍ وُضِعَ لمعنى.
وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: اللغاتُ: عبارةٌ عن الألفاظ الموضوعةِ للمعانِي.
- الثانية - في بيان واضعِ اللغة أتوقيفٌ هي وَوَحْيٌ أم اصطلاح وتواطؤ.
قال ابو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة: اعلم أنَّ لغة العرب توقيفٌ ودليل ذلك قولُه تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
فكان ابنُ عباس يقول: عَلَّمَه الأسماء كلها وهي هذه (الأسماء) التي يتعارفُها الناسُ من دابَّة وأرضٍ وسهل وجبل (وجمل) وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.  **وروى خَصِيف عن مجاهد قال: علَّمه اسمَ كلِّ شيء.
وقال غيرهما: إنما علَّمه أسماءَ الملائكة.
وقال آخرون: علَّمه أسماءَ ذُرِّيَّتِه أجمعين.
قال ابنُ فارس: والذي نَذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابنِ عباس.
فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: ثم عرضَهُنَّ أو عرضَها فلما قال عَرَضَهم عُلِم أن ذلك لأعيانِ بني آدم أو الملائكة لأن موضوع الكناية في كلام العرب أن يُقَالُ لِمَا يَعْقِل: (عرضهم) ولما لا يعقل: عرضَها أو عرضهن.
قيل له: إنما قال ذلك - والله أعلم - لأنه جمع ما يَعْقِل وما لا يعقل فغلَّب ما يعقل وهي سُنَّةٌ من سُنن العرب (أعني باب التغليب) وذلك كقوله تعالى: {واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبع} .
فقال: (منهم) تغليبا لمن يَمْشي على رِجْلين وهم بنو آدم.
فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحُسام وعضب إلى غير ذلك من أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مُصْطَلَحاً عليه قيل له: كذلك نقولُ.
والدليلُ على صحته إجماعُ العلماءِ على الاحتجاج بلغةِ القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه ثم احتجاجهُم بأشعارهم ولو كانت اللغة مُوَاضَعةً واصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأوْلَى منَّا فِي الاحتجاج (بنا) لو اصطلحنا على لغةِ اليوم ولا فَرْق.
ولعل ظانا يظنُّ أن اللغةَ التي دللنا على أنها توقيفٌ إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد وليس الأمر كذلك بل وقف الله عز وجلَّ آدم عليه السلام على ما شاء أن يُعَلِّمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله ثم عَلّم بعد آدم من الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - نبيا نبيا ما شاء الله أن يُعَلِّمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فآتاه الله من ذلك مالم يُؤتِه أحدا قبلَه تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدمة ثم قر الأمر قَراره فلا نعلمُ لغة من بعده حدثَتْ.
فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمِّل وجدَ من نُقَّاد العلم من يَنْفيه ويَرُدّه.
ولقد بلَغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلَّمه ببعضِ ما أنكَره أبو الأسود  فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغةٌ لم تبلغك.
فقال له: يابن أخي إنه لا خيرَ لك فيما لم يَبْلُغْني. فعرَّفَه بلُطْف أن الذي تكلَّم به مُخْتَلَق. وخَلَّة أخرى: إنه لم يبلغنا أن قوما من العرب في زمانٍ يقاربُ زماننا أجمعوا على تسميةِ شيء من الأشياءِ مُصْطَلِحِين عليه فكنا نستدل بذلك على اصطلاحٍ قد كان قبلَهم.
وقد كان في الصحابة رضي الله عنهم - وهم البُلَغاءُ والفصحاءُ - من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاءَ به وما عَلِمناهم اصطلَحوا على اختراعِ لغة أو إحْدَاث لفظةٍ لم تتقدمهم.
ومعلوم أن حوادثَ العالَم لا تنقضي إلا بانْقِضَائِه ولا تزولُ إلا بِزَواله وفي كل ذلك دليلٌ على صحَّة ما ذهَبْنا إليه من هذا الباب.
هذا كله كلام ابن فارس وكان من أهل السنة.
(رأي ابن جني)

وقال ابنُ جني في الخصائص وكان هو وشيخه أبو علي الفارسي مُعْتَزِلِيَّيْن: باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح
هذا موضع مُحْوِج إلى فَضْل تأمُّل غير أن أكثَر أهلِ النظر على أن أصلَ اللغةِ إنما هو تواضعٌ واصطلاح (لا) وَحْيٌ ولا توقيفٌ إلا أن أبا علي (رحمه الله) قال لي يوما: هي من عند الله واحتج بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ كُلَّها} وهذا لا يتناول موضعَ الخلاف وذلك أنه قد يجوز أن يكونَ تأويلُه: أَقدَرَ آدَمَ على أَنْ واضَعَ عليها.
وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا مَحالة فإذا كان ذلك مُحْتَمَلاً غير مُسْتَنْكَر سقط الاسْتِدلال به.
وقد كان أبو علي (رحمه الله) أيضا قال به في بعض كلامه وهذا أيضا رأي أبي الحسن على أنه لم يمنعْ قولَ مَنْ قال إنها تواضعٌ منه وعلى أنه قد فُسِّر هذا بأن قيل: إنه تعالى علَّم آدمَ أسماء جميع المخلوقات بجميع اللَّغات: العربية والفارسية والسريانية والعِبرانية والرُّومية وغير ذلك من (سائر اللغات) فكان آدمُ وولدُه يتكلمون بها.
ثم إن ولدَه تفرَّقوا في  الدنيا وعَلِق كلُّ واحد منهم بلغة من تلك اللغات فغَلَبَتْ عليه واضمحلَّ عنه ما سواها لِبُعْدِ عَهْدهم بها
وإذا كان الخبرُ الصحيحُ قد ورد بهذا وجب تَلقِّيه باعتقاده والانطواء على القول به.
فإن قيل: فاللغةُ فيها أسماءٌ وأفعالٌ وحروف وليس يجوز أن يكون المُعلَّمُ من ذلك الأسماءَ (وحدَها) دونَ غيرها مما ليس بأسماء فكيف خَصَّ الأسماءَ وحدَها قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماءُ أقوى القُبُل الثلاثة ولا بد لكل كلامٍ مفيدٍ (منفرد) منَ الاسم وقد تستغني الجملةُ المستقلةُ عن كل واحد من الفعل والحرف فلما كانت الأسماء من القوة والأوليَّة في النفس والرتبةِ على ما لا خفاءَ به جاز أن يُكْتَفَى بها عَمَّا هو تالٍ لها ومحمول في الحاجة إليه عليها.
قال: ثم لِنعد (فَلْنقل) في الاعتلال لمن قال بأنَّ اللغة لا تكون وحْياً وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصلَ اللغة لا بدَّ فيه من المُوَاضعة.
قالوا: وذلك بأن يَجْتَمِعَ حكيمان أو ثلاثةٌ فصاعدا فيحتاجوا إلى الإبانةِ عن الأشياءِ المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سِمَةً ولفظا إذا ذُكِرَ عُرِفَ به ما مُسَمَّاه ليمتاز عن غيره وليُغْني بذِكْره عن إحْضَاره إلى مرآة العين فيكون ذلك أقربَ وأخَفَّ وأسهلَ من تَكلُّف إحضاره لبلوغ الغرضِ في إبانة حاله بل قد يُحْتاج في كثير من الأحوال إلى ذِكْر ما لا يمكن إحضارُه ولا إدْنَاؤُه كالفاني وحال اجتماع الضدين على المحل الواحد (و) كيف يكون ذلك لو جاز وغيرُ هذا مما هو جارٍ في الاستحالة والتَّعَذُّر مَجْراه فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا إنسان (إنسان إنسان) فأي وقتٍ سُمِع هذا اللفظ عُلِم أن المراد به هذا الضرْب من المخلوق وإن أرادوا سِمَةَ عَيْنه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا: يد عين رأس قدَم أو نحو ذلك فمتى سُمعت اللفظة من هذا عرف معْنِيُّهَا وهلمَّ جرا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال والحروف.
ثم لك (من بعد ذلك) أن تنقلَ هذه المُواضعة إلى غيرها فتقول: الذي اسمه

(1/15)


إنسان فليجعل مكانه (مَرْد) والذي اسمهُ رأس فليجعل مكانه (سر) وعلى هذا بقيةُ الكلام.
وكذلك لو بُدِئت اللغةُ الفارسيَّة فوقعت المُوَاضعة عليها لجاز أن تُنْقَلَ ويُوَلَّد منها لغاتٌ كثيرة من الرومية والزِّنجية وغيرهما وعلى هذا ما نشاهدُه الآن من اختراع الصُّنَّاع لآلاتِ صنائعهم من الأسماء كالنَّجار والصائغ والحائك) والبنَّاء و (كذلك) الملاَّح قالوا: (ولكن) لا بد لأوَلها من أن يكون متواضعا (عليه) بالمشاهدة والإيماء.
قالوا: والقديمُ - سبحانه - لا يجوزُ أن يُوصَف بأن يُوَاضِعَ أحدا على شيء إذ قد ثبتَ أن المُوَاضَعة لا بدَّ معها من إيماءٍ وإشارةٍ بالجارحةِ نحوُ المُومَأُ إليه والمشار نحوه.
(قالوا) والقديمُ (سبحانه) لا جارحةَ له فيصحُّ الإيماء والإشارة منه بها فبطل عندهم أن تَصِحَّ المُوَاضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه.
قالوا: ولكن يجوزُ أن يَنْقُلَ اللهُ تعالى اللغة التي قد وقَع التواضعُ بين عبادهِ عليها بأن يقولَ: الذي كنتم تعبِّرون عنه بكذا عَبِّروا عنه بكذا والذي كنتم تسمُّونه كذا ينبغي أن تسمُّوه كذا وجوازُ هذا منه - سبحانه - كجوازِه من عبادِه ومن هذا الذي في الأصوات ما يتعاطاه الناسُ الآن من مخالفة الأشْكال في حروف المُعْجَم كالصورة التي توضع للمُعَمَّيات والتراجم وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلامُ ذوي اللغات كما اختلفت ألسنُ الأصوات المرتَّبة على مذاهبهم في المواضعات فهذا قولٌ من الظهور على ما تراه.
إلا أنني سألتُ يوما بعضَ أهله فقلت: ما تنكر أن تصح المواضعة من الله - سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام - خشبةٍ أو غيرها - إقبالا على شخص من الأشخاص وتحريكا لها نحوَه ويُسْمع - في حال تحرك الخشبة نحوَ ذلك الشخص - صَوْتاً يضَعُه اسما له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعاتٍ مع أنه - عزَّ اسمُه - قادرٌ على أن يُقْنِعَ في تعريفه ذلك

(1/16)


بالمرَّة الواحدة فتقومُ الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقامَ جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة وكما أن الإنسان أيضا قد يجوزُ إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبةٍ نحو المرادِ المتواضَعِ عليه فيقيمها في ذلك مقامَ يده لو أراد الإيماء بها نحوَه.
فلم يُجب عن هذا بأكثرَ من الاعترافِ بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلا فأحكيه عنه وهو عندي (و) على ما تراه الآن لازمٌ لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغة مُرْتجلة غير ناقلة لسانا إلى لسان فاعرف ذلك.
وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدَويِّ الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشَحِيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونَزيب الظبْي ونحو ذلك. ثم وُلِّدت اللغاتُ عن ذلك فيما بعد.
وهذا عندي وجهٌ صالح ومذهب مُتَقَبَّل.
واعلم فيما بعد أنني على تَقَادم الوقت دائمُ التَّنْقير والبحث عن هذا الموضع فأجد الدَّواعي والخوالج قويَة التَّجاذب لي مختلفةَ جهاتِ التَّغَول على فكري وذلك (أنني) إذا تأملتُ حالَ هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة الإرهاف والرِّقَّة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمحُ به أمامَ غَلْوَةِ السِّحْرِ فمن ذلك ما نَبَّه عليه أصحابنا (رحمهم الله) ومنه ما حَذَوْتُه على أمثلتهم فعرفت بتَتَابُعه وانْقِياده وبُعْدِ مَرَاميه وآماده صحةَ ما وُفِّقُوا لتقديمه منه ولُطْفِ ما أُسْعِدوا به وفُرِق لهم عنه وانْضَاف إلى ذلك واردُ الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى فَقَويَ في نفسي اعتقادُ كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحيٌ.
ثم أَقول في ضد هذا: (إنه) كما وقع لأصحابنا ولنا وتَنَبَّهوا.
وتنبهنا على تأمُّل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر أن يكونَ الله تعالى قد خَلق مِنْ قبلنا وإن بَعُدَ مَدَاهُ عَنّا مَنْ كان ألطفَ منا أذهانا وأسْرَعَ خَوَاطِرَ وأجرا جنانا فأقف

(1/17)


بين الخلتين حسيرا وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا وإن خطر خاطرٌ فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به.
هذا كله كلامُ ابن جني.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعهُ تاج الدين الأرموي في الحاصل وسراج الدين الأرموي في التحصيل ما ملخَّصه:
النظر الثاني في الواضع: الألفاظُ إما أن تدل على المعاني بذواتها أو بوَضْع الله إياها أو بوَضْع الناس أو بكَون البعْض بوَضْع الله والباقي بوضع الناس والأول مذهب عباد بن سليمان والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فُورَك والثالث مذهب أبي هاشم وأما الرابع فإما أن يكونَ الابتداءُ من الناس والتَّتِمَّة من الله وهو مذهب قوم.
أو الابتداءُ من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني.
والمحققون متوقفون في الكل إلا في مذهب عباد.
ودليل فسادِه أن اللفظَ لو دلَّ بالذات لفَهِم كلُّ واحد منهم كلَّ اللغات لعدم اختلاف الدلالات الذاتية واللازمُ باطلٌ فالملزوم كذلك.
واحتجَّ عباد بأنه لولا الدّلالةُ الذاتيَّةُ لكان وضعُ لفظٍ من بين الألفاظ بإزاء معنى من بين المعاني ترجيحا بلا مُرَجِّح وهو محال.
وجوابُهُ أن الواضعَ إن كان هو الله فتخصيصُه الألفاظَ بالمعاني كتخصيص العالَم بالإيجاد في وقتٍ من بين سائر الأوقات وإن كان هو الناس فلعلَّه لتعين الخَطَران بالبال ودليلُ إمكانِ التوقف احتمالُ خَلْقِ الله تعالى الألفاظَ وَوَضْعِها بإزاء المعاني وخَلْقِ علومٍ ضروريةٍ في ناس بأن تلك الألفاظَ موضوعةٌ لتلك المعانِي.
ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن يتولى واحدٌ أو جمعٌ وضَع الألفاظِ لمعانٍ ثم

(1/18)


يُفْهِموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالداتِ مع أطفالهن.
وهذان الدليلان هما دليلا إمكانِ التوزيع.
واحتج القائلون بالتوقيف بوجوه:
أولها - قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
فالأسماء كلها معلمة من عند الله بالنَّص وكذا الأفعالُ والحروف لعَدم القائل بالفَصْل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء لأن الاسم ما كان علامة والتمييزُ من تَصَرُّفِ النحاة لا منَ اللغة ولأنَّ التكلمَ بالأسماء وحْدَها متعذر.
وثانيها - أنه سبحانَه وتعالى ذَمَّ قوما في إطلاِقهم أسماء غيرَ توقيفية في قوله تعالى: {إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} .
وذلك يقتضي كونَ البواقي توقيفية.
وثالثها - قوله تعالى {ومن آياته خلق السماوات والأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} .
والأَلْسنةُ اللُّحْمَانية غيرُ مُرادة لعدم اختلافها ولأن بدائعَ الصُّنْع في غيرها أكثرُ فالمراد هي اللغات.
ورابعها - وهو عقلي - لو كانت اللغاتُ اصطلاحية لاَحْتِيج في التخاطب بوَضْعِها إلى اصطلاحٍ آخر من لغةٍ أو كتابةٍ ويعودُ إليه الكلامُ ويلزم إما الدَّور أو التسلسلُ في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاءِ إلى التوقيف.
واحتجَّ القائلون بالاصطلاح بوَجْهين:
أحدهما - لو كانت اللغاتُ توقيفية لتقدَّمت واسطةُ البعثةِ على التوقيف والتقدّمُ باطلٌ وبيانُ الملازمة أنها إذا كانت توقيفية فلا بدَّ من واسطة بين الله والبشر وهو النبيُّ لاسْتِحالة خطابِ الله تعالى مع كلِّ أحد وبيانُ بُطْلاَن التَّقَدُّم قوله تعالى {ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وهذا يَقْتَضِي تقدُّمَ اللغة على البعثة.

(1/19)


والثاني - لو كانت اللغاتُ توقيفية فذلك إما بأن يَخْلُق الله تعالى عِلماً ضروريا في العاقل أنَّه وَضَع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألاَّ يخلقَ علما ضروريا أصلا والأولُ باطلٌ وإلا لكان العاقلُ عالما بالله بالضرورة لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكَوْن اللهِ وضَع كذا لِكَذا كان علمُه بالله ضروريا ولو كان كذلك لبطَلَ التكليفُ.
والثاني باطلٌ لأن غيرَ العاقل لا يمكنُه إنهاءُ تمام هذه الألفاظ.
والثالثُ باطل لأن العلمَ بها إذا لم يكن ضروريا احتيج إلى توقيفٍ آخر ولَزِم التسلسل.
والجواب عن الأولى من حُجَجِ أصحابِ التوقيف: لِمَ لاَ يَجُوزُ أن يكون المرادُ من تعليم الأسماء الإلهامَ إلى وضْعها.
ولا يقالُ: التعليمُ إيجادُ العلم فإنا لا نُسَلِّم ذلك بل التعليم فعلٌ يترتب عليه العلم ولأجله يُقال علَّمْتُه فلم يتعلَّم.
سلمنا أن التعليمَ إيجاد العلم لكن قد تقرر في الكلام أن أفعالَ العباد مخلوقةٌ لله تعالى فعلى هذا: العلمُ الحاصل بها مُوجَد لله.
سلَّمناه لكنَّ الأسماءَ هي سِماتُ الأشياء وعلاماتُها مثل أن يعلَّمَ آدَمُ صلاحَ الخيل لِلْعَدْو والجمال للحَمْل والثيران للحَرْث فَلِمَ قلتُم: إن المراد ليس ذلك وتخصيصُ الأَسماءِ بالألفاظ عرفٌ جديد.
سلمنا أن المرادَ هو الألفاظُ ولكن لِم لا يجوزُ أن تكون هذه الألفاظ وضعها قوم آخرون قبل آدمَ وعلَّمها الله آدم.
وعن الثانية أنه تعالى ذمَّهم لأنهم سمُّوا الأصنامَ آلهة واعتقدوها كذلك.
وعن الثالثة أن اللسانَ هو الجارحة المخصوصة وهي غيرُ مرادة بالاتفاق والمجازُ الذي ذكرتموه يعارِضُه مَجازاتٌ أخر نحو مخارج الحروف أو القدرة عليها فلم يثبت التَّرجيح.
وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يَسْتَدعي تقدُّمَ اصطلاحٍ آخر بدليل تعليم الوالدين الطفلَ دون سابقةِ اصطلاحٍ ثمة.
والجوابُ عن الأولى من حُجَّتَي أصحابِ الاصطلاحِ: لا نُسَلِّمُ توقُّفَ التوقيف على البعثة لجوازِ أن يخلق الله فيهم العلمَ الضروري بأن الألفاظَ وُضِعَت لكذا وكذا.
وعن الثانية: لِمَ لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروريَّ في العقلاء أن واضعا وَضعَ تلك الألفاظ لتلكَ المعاني وعلى هذا لا يكونُ العلم بالله ضروريا.
سلَّمناه لكن لِمَ لا يجوز أن يكون الإله معلومَ الوجود بالضرورة لبعض العقلاء

(1/20)


قوله: (لَبَطَلَ التكليف) قُلْنا: بالمعرفة.
أمَّا بسائر التكاليف فلا.
انتهى.
وقال أبو الفتح بن برهان: في كتاب الوصول إلى الأصول:
اختلف العلماءُ في اللغة: هل تَثبُتُ توقيفا أو اصطلاحا فذهبت المعتزلةُ إلى أن اللغات بأسْرها تثبت اصطلاحا وذهبت طائفةٌ إلى أنها تثبتُ توقيفا.
وزعم الأستاذُ أبو إسحاق الإسفرائيني أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التَّواضع يَثْبتُ توقيفا وما عدا ذلك يجوز أن يثبت بكل واحدٍ من الطريقين.
وقال القاضي أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفا ويجوز أن يثبت اصطلاحا ويجوز أن يثبت بعضه توفيقا وبعضه اصطلاحا والكل ممكن.
وعمدة القاضي أن الممْكن هو الذي لو قُدِّر موجودا لم يعرض لوجوده محال ويعلم أن هذه الوجوه لو قُدِّرَت لم يعرض من وجودها محال فوجب قَطْعُ القول بإمكانها.
وعمدةُ المعتزلة أن اللغات لا تدلُّ على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوزُ اختلافُها ولو ثبتت توقيفا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلقَ الله العلم بالصِّيغَة ثم يخلق العلْمَ بالمدلول ثم يخلق لنا العلم بجَعْل الصيغة دليلا على ذلك المدلول ولو خلقَ لنا العلمَ بصفاته لجاز أن يخْلُق لنا العلم بذاته ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف وبطلت المحنة.
قلْنا: هذا بناءٌ على أصل فاسد فإنا نقول: يجوز أن يخلق اللهُ لنا العلم بذاته ضرورة وهذه المسألة فرع ذلك الأصل.
وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني: أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبتَ اصطلاحا لافْتَقَرَ إلى اصطلاحٍ آخر يتقدَّمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.
قلنا: هذا باطل فإن الإنسان يمكنه أن يُفْهمَ غيرَه معانيَ الأسامي كالطفل ينشأُ غيرَ عالمٍ بمعاني الألفاظ ثم يتعلَّمها من الأبوين من غير تَقَدُّمِ اصطلاح.

(1/21)


وعمدةُ مَنْ قال: إنها تَثْبتُ توقيفا قولُه تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} .
وهذا لا حجَّةَ فيه من جهة القَطْع فإنه عُمُوم والعمُوم ظاهرٌ في الاستغراق وليس بنص.
قال القاضي: أما الجوازُ فثابتٌ من جهة القطع بالدليل الذي قدَّمْتُه وأما كيفيةُ الوقوع فأنا متوقف فإن دلَّ دليل من السَّمْع على ذلك ثبت به.
وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلفَ أربابُ الأصول في مأخَذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيفٌ من الله تعالى وصار صائرون إلى أنها تثبتُ اصطلاحا وَتَوَاطُؤاً وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن القَدْر الذي يُفْهم منه قصدُ التواطؤ لا بدَّ أن يُفْرضَ فيه التوقيف.
والمختارُ عندنا أن العقلَ يجوِّزُ ذلك كلَّه فأما تجويزُ التوقيف فلا حاجةَ إلى تكلُّف دليلٍ فيه ومعناه أن يُثْبِتَ الله تعالى في الصدور علوما بَدِيهيَّةً بِصَيغٍ مخصوصة بمعاني فتتبَيَّنُ العقلاءُ الصِّيَغَ ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وَضْع الصيغ على حكم الإرداة والاختيار وأما الدليلُ على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعدُ أن يحرك الله تعالى نفوسَ العقلاء لذلك ويُعْلِم بعضَهم مرادَ بعض ثم ينشئون على اختيارهم صِيغاً وتقترنُ بما يريدون أحوالٌ لهم وإشارات إلى مسميات وهذا غيرُ مُسْتَنْكَر وبهذا المسلك ينطلقُ الطفل على طَوَالِ ترديد المُسْمَع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجوازُ في الوجهين لم يبق لِما تخيَّله الأستاذ وجهٌ والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تَثْبُت في النفوس فإذا لم يمنع ثبوتها لم يبقَ لِمَنْع التوقيف والاصطلاح بعدَها معنى ولا أحد يمنعُ جوازَ ثبوت العلومِ الضرورية على النحو المبَيَّن.
فإن قيل: قد أثْبَتُّمُ الجواز في الوجهين عموما فما الذي اتفق عندكم وقوعه
قلنا: ليس هذا مما يُتَطَرَّقُ إليه بمسالك العقول فإن وقوعَ الجائز لا يُسْتَدْرك إلا بالسَّمْعِ الْمَحْضِ ولم يَثْبت عندنا سمعٌ قاطع فيما كان من ذلك وليس في قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنعُ أن تكونَ اللغاتُ لم يكن يعلمها فعلَّمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتَها ابتداء وعلَّمه إياها.

(1/22)


وقال الغزالي في المنخول: قال قائلون: اللغاتُ كلُّها اصطلاحية إذ التَّوقيفُ يَثبت بقولِ الرسول عليه السلام ولا يُفْهم قولُه دون ثبوت اللغة.
وقال آخرون: هي توقيفية إذ الاصطلاحُ يعرض بعد دعاء البعضَ بالاصطلاح ولا بدَّ من عبارة يُفْهَم منها قصدُ الاصطلاح.
وقال آخرون ما يُفْهَمُ منه: قصدُ التَّوَاضُع توقيفي دون ما عَدَاه ونحنُ نجوز كونَها اصطلاحية بأن يحرِّكَ اللهُ رأسَ واحدٍ فيفهم آخرُ أنه قصدَ الاصطلاح.
ويجوز كونُها توقيفية بأن يثبت الرب تعالى مراسمَ وخطوطا يفهمُ الناظر فيها العباراتِ ثم يتعلُم البعضُ عن البعضِ.
وكيف لا يجوزُ في العقل كلُّ واحدٍ منهما ونحن نرى الصبيَّ يتكلمُ بكلمة أبويه ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صِغَره فإذَنْ الكل جائزٌ.
وأما وقوعُ أحدِ الجائزين فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ظاهرٌ في كونه توقيفيا وليس بقاطع ويُحْتَمل كونُها مصطلحا عليها من خَلْق الله تعالى قبل آدم.
انتهى.
وقال ابن الحاجب في مختصره: الظاهرُ من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.
قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج البيضاوي: مَعْنى قولِ ابن الحاجب: القولُ بالوقْفِ عن القَطْع بواحدٍ من هذه الاحتمالات.
وترجيحُ مذهب الأشعري بغلَبَة الظن.
قال وقد كان بعضُ الضُّعفاءِ يقول: إن هذا الذي قاله ابنُ الحاجب مذهبٌ لم يقلْ به أحدٌ لأن العلماءَ في المسألة بين متوقِّفٍ وقاطع بمقالتِه فالقولُ بالظهور لا قائل به.
قال: وهذا ضعيف فإن المتوقِّف لعدم قاطع قد يرجح بالظن ثم إن كانت المسألةُ ظنِّية اكتُفي في العمل بها بذلك التَّرجيح وإلا توقف عن العمل بها.
ثم قال: والإنصافُ أن الأدلةَ ظاهرةٌ فيما قاله الأشعري.
فالمتوقف إن توقَّفَ لعدم القَطْعِ فهو مصيب وإن ادَّعى عدمَ الظهور فغيرُ مصيب.
هذا هو الحقُّ الذي فاه به جماعةٌ من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دَقِيق العِيد في (شرح العنوان) .
وقال فِي رفع الحاجب: اعلم ان للمسألة مقامَين: أحدُهما الجوازُ فمن قائل:

(1/23)


لا يجوزُ أن تكون اللغةُ إلا توقيفا.
ومن قائل: لا يجوزُ أن تكون إلا اصطلاحا.
والثاني أنه ما الذي وقع على تقدير جوازِ كلٍّ من الأمرين والقول بِتجْويز كل من الأمرين هو رأيُ المحققين ولم أرَ مَن صَرّح عن الأشعري بخلافه.
والذي أراه أنه إنما تكلم في الوقوع وأنه يجوز صدور اللغة اصطلاحا ولو مَنع الجواز لنَقَله عنه القاضي وغيره من محقِّقي كلامِه ولم أرَهم نقلوه عنه بل لم يَذكره القاضي وإمام الحرَمَين وابن القُشَيري والاشعري في مسألة مبدأ اللغات البتَّة وذكر إمامُ الحرَمين الاختلافَ في الجواز ثم قال: إن الوقوعَ لم يثبت وتبعه القشيري وغيره.
(آراء في علم اللغات)

تنبيهات

أحدها - إذا قلنا بقول الأشعري إن اللغات توقيفيَّة - ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابنُ الحاجب وغيره: أحدُها بالوَحْي إلى بعض الأنبياء والثاني بخَلق الأصوات في بعض الأجسام والثالث بعلمٍ ضروري خلَقه في بعضهم حَصَل به إفادةُ اللَّفظِ للمعنى.
قال ابنُ السبكي في رفع الحاجب: والظاهرُ من هذه هو الأول لأنه المعتادُ في عِلْم الله تعالى.
الثاني - قول الإمام الرازي فيما تقدم: لم لا يجوز أن تكون هذه الألفاظ وضَعَها قومٌ آخرون قبلَ آدم.
قال في رَفْع الحاجب: لسنا ندَّعي أن قبل آدم الجِنّ والبن فذلك لم يَثْبُت عندنا بل قال القاضي في التقريب: جاز تواضُع الملائكةِ المخلوقة قبله.
قال ابنُ القشيري: وقد كانوا قبلَه يتخاطبون ويفهمون.
الثالث - قولُ أهل الاصطلاح: لو كانت اللغات توقيفية لتقدمت واسطة البعثة

(1/24)


على التوقيف أحسنُ من جواب الإمام عن جواب ابن الحاجب حيث قال: إذا كان آدمُ عليه السلام هو الذي عُلِّمَها اندفع الدور.
قال في رفع الحاجب: لأنَّ لآدم حالتين: حالة النبوة وهي الأولى وفيها الوحْيُ الذي من جملته تعليمُ اللغات وعلمها الخلق إذ ذاك ثم بُعِث بعد أن عَلَّمَها قومَه فلم يكن مبعوثا لهم إلا بعد علمهم اللغات فبُعِث بلسانهم.
قال: وحاصلُه أن نبوَّته متقدمةٌ على رسالته والتعليمُ متوسط فهذا وجهُ اندفاع الدَّوْر.
الرابع - قال في رفع الحاجب: الصحيحُ عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة وهو ما صحَّحه ابنُ الأنباري وغيرُه ولذلك قيل ذِكْرُها في الأصول فضولٌ.
وقيل: فائدتها النظرُ في جواز قَلْب اللغة فحُكِي عن بعض القائلين بالتَّوْقيف منعُ القَلْب مطلقا فلا يجوزُ تسمية الثَّوْب فرسا والفرس ثوبا.
وعن القائلين بالاصطلاح تجويزُه.
وأما المتوقِّفون - قال المازَرِي - فاختلَفوا فذهب بعضُهم إلى التجويز كمذهبِ قائلِ الاصطلاح وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصَّابوني إلى المَنْع وجوَّزَ كونَ التوقيف واردا على أنه وجبَ ألاَّ يقعَ النطقُ إلا بهذه الألفاظ.
قال ابن السبكي.
والحقُّ عندي - وإليه يشيرُ كلامُ المازَري - أنه لا تَعَلُّقَ لهذا بالأصل السابق فإن التوقيفَ لو تمَّ ليس فيه حجرٌ علينا حتى لا يُنْطَقُ بسِواه فإن فُرِض حجرٌ فهو أمرٌ خارجي والفرعُ حكمُه حكم الأشياءِ قبل وُرودِ الشرائع فإنا لا نعلمُ في الشَّرْع ما يدلُّ عليه وما ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوعٌ.
قال المازَرِي: وقد عُلِم أن الفقهاءَ المحققين لا يحرِّمون الشيء بمجرد احتمالِ ورود الشرع بتحريمه وإنما يحرِّمونه عند انْتهاضِ دليلِ تحريمه.
قال: وإن اسْتُنِد في التحريم إلى الاحتياط فهو نظرٌ في المسألة من جهة أخرى وهذا كله فيما لا يؤَدِّي قلبهُ إلى فسادِ النظام وتغييرُه إلى اختلاطِ الأحكام فإن أدَّى إلى ذلك - قال المازَري: فلا نختلفُ في تحريم قَلبِه لا لأَجل نفسه بل لأجلِ ما يُؤدِّي إليه.
قال في شرح المنهاج: إن بناءَ المسألة على هذا الأصل غيرُ صحيح فإن هذا الأصل في أن هذه اللغاتِ الواقعة بين أظْهُرِنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخْصٍ خاصٍّ اصطلح مع صاحبه على إطلاق لفظِ الثوب على الفرس مثلا.
وقال الزَّرْكشِي في البحر: حكى الأستاذ أبو منصور قولا: إن التوقيف وقع

(1/25)


في الابتداء على لُغَة واحدة وما سواها من اللغات وقعَ التوقيف عليها بعد الطوفان من الله تعالى في أولاد نوح حين تفرَّقوا في أقطار الأرض.
قال: وقد رُوي عن ابن عباس: أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل.
وأَرادَ به عربيةَ قريش التي نزل بها القرآن.
وأما عربية قَحْطان وحِمْير فكانت قبلَ إسماعيل عليه السلام.
وقال في شرح الأسماء: قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين: إنها كلَّها توقيفٌ من الله تعالى.
وقال أهلُ التحقيق من أصحابنا: لا بد من التوقيف في أصل اللغةِ الواحدة لاسْتِحَالة وقوعِ الاصطلاح على أوَّل اللغات من غيرِ معرفةٍ من المصطلحين بعَينِ ما اصطلحوا عليه وإذا حصلَ التوقيفُ على لغةٍ واحدة جاز أن يكونَ ما بعدَها من اللغات اصطلاحا وأن يكون تَوقيفاً ولا يُقْطَع بأحدهما إلا بدلالة.
قال: واختلفوا في لغة العرَب فمَن زعم أن اللغاتِ كلَّها اصطلاحٌ فكذا قوله في لغة العرب ومن قال بالتَّوقيف على اللغةِ الأولى وأجاز الاصطلاحَ فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب فمنهم من قال: هي أول اللغات وكلُّ لغةٍ سواها حدثَتْ بعدها إما توقيفا أو اصطلاحا واستدلوا بأن القرآن كلامُ الله وهو عربي وهو دليلٌ على أن لغةَ العربِ أسبقُ اللغات وجودا.
ومنهم من قال: لغة العرب نوعان:
أحدهما - عربيةُ حِمْير وهي التي تكلموا بها من عَهْد هود ومَنْ قَبله وبقي بعضُها إلى وقتنا.
- والثانية - العربيَّةُ المحْضَة التي نزل بها القرآن وأولُ من أُنْطقَ لسانُه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحْضة يَحْتَمِل أمرين: إما أن يكون اصطلاحا بينه وبين جُرْهم النازلين عليه بمكة وإما أن يكون توقيفا من الله تعالى وهو الصواب. انتهى.
- ذكر الآثار الواردة في أن الله تعالى علم آدم عليه السلام اللغات: -
قال وَكِيع في تفسيره: حدَّثنا شَريك عن عاصم بن كليب الجرمي عن سعيد ابن معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} .
قال: علمه كل شيء علَّمه القَصْعَةَ وَالْقُصَيْعَة والفَسوَة والفُسَيْوَةَ.
أخرجه ابنُ جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم بلفظ: علَّمه اسمَ الصحْفَة والقدْر وكلَّ شيءٍ حتى الفسوة والفسية.

(1/26)


وأخرج وَكِيع عن سعيد بن جُبَير في قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} .
قال: علمه اسمَ كلِّ شيء حتى البعير والبقرة والشاة.
وأخرج وَكيع وعبد بن حميد في تفسيرهما عن مجاهد في قوله: {وَعَلَّم آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: علَّمه كلَّ شيء.
ولفظ عبد بن حميد: ما خلقَ اللهُ كله.
وأخرج عبد بن حميد وابنُ أبي حاتم في تفسيرهما من طريق السدي عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
قال: عرض عليه أسماءَ ولدِه إنسانا إنسانا والدَّوَاب فقيل: هذا الحمار هذا الجمل هذا الفرس.
وأخرج ابنُ جزي في تفسيره من طريق الضَّحاك عن ابن عباس في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .
قال: هي هذه الأسماء التي يَتعارف بها الناسُ إنسان ودابة وأرض وسهل بحر وجَبَل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جُبَير في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: اسم الإنسان واسم الدابة واسم كلِّ شيء.
وأخرج عبد عن بن قَتَادة فِي قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: علم آدم من أسماء خَلْقه ما لم يُعَلِّم الملائكة فسمَّى كلَّ شيء بِاسْمِه وأَلْجَأ كلَّ شيء إلى جنسه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: علمه القصعة من القُصَيْعة والفسوة من الفسية.
وأخرج إسحاقُ بن بشر في كتاب المبتدأ وابن عساكر في تاريخ دمشق عن عطاء قال: {يا آدم أنْبئْهُم بأسمائهم} فقال آدم: هذه ناقةٌ جمل بقرة نعجة شاة وفرس وهو من خَلْق ربي فكلُّ شيء سَمَّى آدم فهو اسمُه إلى يوم القيامة وجعل يدعو كلَّ شيء باسمه وهو يمرُّ بين يديه فعلِمَت الملائكةُ أنه أكرمُ على الله وأعلمُ منهم.
قلت: في هذا فضيلةٌ عظيمة ومَنْقَبَةٌ شريفة لِعلْمِ اللغة

(1/27)


وأخرج الدَّيلمي في مسند الفردوس عن عطية بن بشر مرفوعا في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: علَّمه في تلك الأسماء ألْفَ حِرْفَة.
وأخرج ابنُ جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: أسماء ذُرِّيته أجمعين.
وأخرج عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: أَسماء الملائكة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن حميد الشامي قال: علَّم آدمَ أسماءَ النجوم.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغتُه في الجنة العربيةَ فلما عَصَى سلَبه اللهُ العربية فتكلم بالسريانية فلما تاب ردَّ الله عليه العربية.
قال عبد الملك بن حبيب: كان اللسانُ الأوّلُ الذي نزل به آدمُ من الجنة عربيا إلى أن بَعُد العهدُ وطال حرف وصار سُرْيانياً وهو منسوب إلى أرض سُورَى أو سوريانة وهي أرضُ الجزيرة بها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغَرَق.
قال: وكان يُشَاكِل اللسانَ العربي إلا أنه محرف وهو كان لسانَ جميع مَنْ في سفينة نوح إلاَّ رجلا واحدا يقال له جُرهم فكان لسانه لسانَ العربي الأول فلما خرجُوا من السفينة تزوج إرَم بن سام بعض بناته فمنهم صار اللسانُ العربي في ولده عَوْص أبي عاد وعَبيل وجاثر أبي ثمود وجديس وسُمِّيَت عادٌ باسم جرهم لأنه كان جدهم من

(1/28)


الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرْفَخَشْذ بن سام إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلم منهم بنو قحطان اللسانَ العربي.
أقسام العرب

وقال ابنُ دِحْيَة: العربُ أقسام:
الأول - عاربة وعرباء: وهم الخلَّص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح وهي: عاد وثمود وأُمَيم وعَبيل وطَسْم وجَدِيس وعِمْلِيق وجُرْهم وَوََبار.
ومنهم تعلم إسماعيل عليه السلام العربية.
والقسم الثاني - المتعربة: قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخُلَّص وهم بنو قحطان.
والثالث المستعربة - وهم الذين ليسوا بخلص أيضا كما في الصحاح.
قال ابن دِحية وهم بنو إسماعيل وهم ولد معد بن عدنان بن أُدّ.
وقال ابنُ دريد في الجمهرة: العربُ العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطَسْم وجَديس وأُمَيم وجاسم وقد انْقرض أكثرُهم إلا بقايا متفرقين في القبائل.
قال: وسُمي يعرب بن قحطان لأنه أولُ من انعدلَ لسانُه من السُّريانية إلى العربية.
وهذا معنى قول الجوهري في الصحاح: أولُ من تكلَّم بالعربية يعربُ بن قحطان.
وأخرج ابنُ عساكر في التاريخ بسَنَدٍ رواه عن انس بن مالك موقوفا قال: لما حَشرَ الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا فاجتمعوا ينظرون لماذا حُشِروا له فنادى مُنَادٍ: مَنْ جعل المَغرِب عن يمينه والمشرق عن يساره واقْتَصَد البيتَ الحرام بوَجْهِه فله كلامُ أهلِ السماء.
فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يَعْرُبُ بن قحطان بن هود أنت هو فكان أولَ من تكلم بالعربية المَبينَة فلم يزل المنادي يُنَادي مَنْ فَعل

(1/29)


كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوتُ وَتَبَلْبَلَتِ الألسُن فسُمِّيت بابل.
وكان اللسان يومئذ بابليا.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان عن بُرَيدة رضي الله عنه في قوله تعالى: {بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ} قال: بلسان جُرْهم.
وقال محمد بن سلام الجمحي في كتاب (طبقات الشعراء) : قال يونس بن حبيب: أول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ثم قال محمد بن سلام: أخبرني مِسْمَع بن عبد الملك أنه سمع محمد بن علي يقول - قال ابن سلام: لا أدري رَفَعَه أم لا وأظنه قد رفعه - أولُ من تكلَّم بالعربية ونَسِي لسانَ أبيه إسماعيلُ عليه السلام.
وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا: {قرآنا عَرَبيّاً لقومٍ يعلمون} ثم قال: (أُلْهِمَ إسماعيلُ هذا اللسان العربيَّ إلهاما) .
قال محمد بن سلاَّم وأخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العربُ كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم.
وكذلك يروى أن إسماعيل جاوَرهم وأصْهر إليهم ولكنَّ العربيةَ التي عنى محمد بن علي اللسان الذي نزل به القرآن وما تكلمت به العرب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتلك عربيةٌ أخرى غير كلامنا هذا.
وقال الحافظ عِمَاد الدين بن كَثِير في تاريخه: قيل إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل عليه السلام والصحيح المشهور أن العربَ العاربة قبلَ إسماعيل هم عاد وثمود وطسم وجَديس وأُمَيم وجُرْهم والعماليق وأمم

(1/30)


آخرون لا يعلَمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه أيضا.
فأما العربُ المستعربة وهم عربُ الحجاز فمن ذرِّية إسماعيل عليه السلام وأما عربُ اليمن وحِمْيرَ فالمشهورُ أنهم من قَحْطان واسمه مهزَّم قاله ابن مَاكُولا.
وذكروا أنهم كانوا أربعةَ إخوة: قحطان وقاحط ومقحط وفالَغ وقَحْطان بن هود وقيل هود وقيل أخوه وقيل من ذريته وقيل إن قحطان من سُلالة إسماعيل حكاه ابنُ إسحاق وغيره.
والجمهور على أن العربَ القحطانية من عرب اليمن وغيرُهم ليسوا من سلالة إسماعيل.
وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن سعيد المعداني: أنبأنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماسي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف يعقوب بن السكِّيت قال: حدَّثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول مَن فُتق لسانُه بالعربية المتينة إسماعيلُ عليه السلام وهو ابنُُ أربع عشرة سنة فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار هكذا حدثني به أبو جزي.
هذه طريقةٌ موصولة للحديث السابق من طريق الجُمَحِي.
- ذِكْر إيحاءِ اللغة إلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام -
قال أبو أحمد الغِطْريف في جُزْئه: حدثنا أبو بكر بن محمد بن أبي شيبة ببغداد: أخبرنا أبو الفضل حاتم بن الليث الجوهري حدثنا حماد بن أبي حمزة اليشكري حدثنا علي بن الحسين بن واقد نبأنا أُبي عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله مَا لَكَ أفصحنا ولم تَخرج من بين أَظْهرِنا قال: كانت لغةُ إسماعيل قد دَرَست فجاء بها جبريلُ عليه السلام فحفَّظَنِيهَا فحفظتُها.
أخرجه ابنُ عساكر في تاريخه.
وأخرج البيهقي في شُعَب الإيمان من طريق يونس بن محمد بن إبراهيم بن

(1/31)


الحارث التيمي عن ابيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم دَجْن: كيف ترون بواسقها قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمهاقال: كيف ترون قواعدها قالوا ما أحسنها وأشد تمكنها قال: كيف ترون جَوْنَها قالوا: ما أحسنه وأشد سواده قال: كيف ترون رَحَاها استدارت قالوا: نعم ما أحسنها وأشد استدارتها قال: كيف ترون برقها أخفيا أم وميضا أم يشق شقا قالوا: بل يشق شقا.
فقال: الحياءُ.
فقال رجل: يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك قال: حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسانٍ عربي مبين.
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُثِّلت لي أُمَّتي في الماء والطين وعُلِّمْت الأسماءَ كلَّها كما عُلّم آدمُ الأسماءَ كلها) .
- المسألة الثالثة - في بيان الحكمة الداعية إلى وضْع اللغة:
قال الكِيَا الهَرَّاسي في تعليقه في أُصول الفقه: وذلك أن الإنسانَ لمَّا لم يكن مكتفيا بنفسه في معاشه ومُقِيمات معاشه لم يكن له بدٌّ من أن يسترفد المعاونة من غيره ولهذا اتَّخَذ الناسُ المدنَ ليجتمعوا ويتعاونوا.
وقيل: إن الإنسان هو المتمدن بالطبع والتوحُّش دَأْبُ السباع ولهذا المعنى توزَّعَت الصنائع وانْقَسَمَت الحِرَف على الخَلْق فكلُّ واحدٍ قصَر وقتَه على حِرْفة يشتغل بها لأن كلَّ واحد من الخَلْق لا يمكنُه أن يقوم بجُمْلَة مَقَاصِده فحينئذ لا يخْلُو من أن يكونَ محلُّ حاجته حاضرة عنده أو غائبة بعيدة عنه فإن كانت حاضرة بين يديه أمكنه الإشارة إليها وإن كانت غائبة فلا بدَّ له من أن يدلَّ على محل حاجاته وعلى مَقْصوده وغَرضه فوضعوا الكلامَ دلالة ووجدوا اللسانَ أسرعَ الأعضاءِ حركة وقبولا للترداد.
وهذا الكلام إنما هو حرفٌ وصوتٌ فإن تركه سدى غفلا امتدَّ وطال وإن قطعه تقطَّع فقطَّعوه وجزؤوه على حركات أعضاءِ الإنسان التي يخرج منها الصوت وهو من أقصى الرِّئة إلى منتهى الفم فوجدوه تسعة وعشرين حرفا لا تزيد على ذلك

(1/32)


ثم قسَّموها على الحلْق والصَّدْر والشَّفَةِ واللثَّة ثم رَأَوْا أن الكفاية لا تقعُ بهذه الحروف التي هي تسعةٌ وعشرون حرفا ولا يحصل له المقصود بإفرادها فركبوا منها الكلامَ ثُنائيّاً وثلاثيا ورباعيا وخماسيا هذا هو الأصل في التركيب وما زاد على ذلك يُستَثْقَل فلم يضعوا كلمة أصلية زائدة على خمسة أحرف إلا بطريق الإلْحاق والزيادة لحاجة وكان الأصلُ أن يكون بإزاءِ كل معنى عبارةٌ تدلُ عليه غير أنه لا يمكنُ ذلك لأَن هذه الكلمات متناهيةٌ وكيف لا تكون متناهية ومَوَارِدها ومَصَادرها متناهية فدعت الحاجةُ إلى وضع الأسماء المشتَركة فجعلوا عبارة واحدة لمسَمَّيَاتٍ عِدَّة كالعَيْنِ والجَوْن واللون ثم وضعوا بإزاء هذا على نقيضه كلماتٍ لمعنى واحد لأن الحاجةَ تدعو إلى تأكيد المعْنى والتحريض والتقرير فلو كُرّرَ اللفظ الواحد لسَمُجَ ومُجَّ.
ويقال: الشيء إذا تكرر تكرَّج.
والطِّباعُ مجبولةٌ على مُعَاداة المُعَادات فخالفوا بين الألفاظ والمعنى واحد.
ثم هذا ينقسم إلى ألفاظ متواردة وألفاظ مترادفة: فالمتواردة كما تسمى الخمر عقارا وصهباء وقهوة وسلسالا والسبعُ ليثا وأسدا وضِرْغاماً.
والمترادفة هي التي يقام لفظ مقام لفظ لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد كما يقال: أصلح الفاسد ولم الشعث ورتق الفتق وشعب الصدع.
وهذا أيضا مما يَحْتَاجُ إليه البليغ في بلاغته فيقال خطيبٌ مِصْقَع وشاعر مُفْلِق فَبِحُسْنِ الألفاظ واختلافها على المعنى الواحد ترصع المعاني في القلوب وتَلْتَصِق بالصدور ويزيد حسنُه وحَلاوته وطَلاَوته بضَرْب الأمثلة به والتشبيهات المجازية وهذا ما يَسْتَعْمِلُه الشعراء والخطباء والمترسِّلون ثم رأوا أنه يضيقُ نِطاقُ النُّطق عن استعمال الحقيقة في كل اسمٍ فعدَلوا إلى المجاز والاستعارات.
ثم هذه الألفاظ تنقسم إلى مشتركة وإلى عامَّة مطلقة وتسمى مستغرقة وإلى ما هو مفرد بإزاء مفرد وسيأتي بيان ذلك.

(1/33)


وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلا بالتَّعارف ولا تعارفَ إلا بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ أمَّا أنها أيسر فِلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرِضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلُّف اختياري.
وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها.
وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ كذات الله تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات ويمكن أن يكونَ لكل شيءٍ لفظٌ.
فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعة بإزاء المعاني.
(حد الوضع)

- المسألة الرابعة - في حدِّ الوَضْع:
قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي: الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهِم منه الثاني.
قال: وهذا تعريفٌ سديد فإنك إذا أطلقت قولك: (قام زيد) فُهِمَ منه صُدُور القيام منه.
قال: فإن قلتَ: مدلولُ قولنا: (قام زيد) صدور قيامه سواءٌ أطلقنا هذا اللفظ أم لم نُطْلِقه فما وجهُ قولكم: بحيث إذا أطلق. . قلت: الكلامُ قد يخرج عن كونه كلاما وقد يتغيَّر معناه بالتقييد فإنك إذا قلتَ: (قام الناس) اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم.
فإذا قلتَ: (إن قام الناس) خرج عن كونه كلاما بالكلية فإذا قلتَ: (قام الناس إلا زيدا) .
لم يخرجْ عن كونه كلاما ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيدا.
فعلم بهذا أن لإفادة (قام الناس) الإخبار بقيام جميعهم شرطين: أحدهما ألا تبتدئَه بما يخالِفُه.
والثاني ألا تختمَه بما يخالفه. وله شرطٌ ثالث أيضا وهو أن يكونَ صادرا عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي.
فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبه لها.
فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله: (قام الناس) إلا بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه.

(1/34)


فإن قلت: مِنْ أين لنا اشتراطُ ذلك واللفظُ وحدَه كافٍ في ذلك لأن الواضع وضَعَه لذلك قلت: وضْعُ الواضع له معناه أنه جعله مُهَيَّأً لأن يفيد ذلك المعنى عند استعمال المتكلم على الوجه المخصوص والمفيدُ في الحقيقة إنما هو المتكلم واللفظُ كالآلة الموضوعة لذلك.
فإن قلتَ: لو سمعنا (قام الناس) ولم نَعْلَم مِنْ قائِله هل قصده أم لا وهل ابتدأه أو ختمه بما يغيِّره أو لا هل لنا أن نُخبِر عنه بأنه قال: قام الناس قلت: فيه نظر يحتمل أن يُقال بجوازه لأن الأصل عدمُ الابتداء والختم بما يُغيّره ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن العُمْدة ليس هو اللفظ ولكنَّ الكلام النفساني القائم بذات المتكلم وهو حكمه واللفظ دليل عليه مشروط بشُروط ولم تتحقَّق.
ويُحْتَمل أن يقال: إن العلم بالقصد لا بد منه لأنه شَرْطٌ والشكُّ في الشرط يقتضي الشك في المشروط والعلم بعدم الابتداء والختم بما يخالفُه لا يُشْتَرَط لأنهما مانعان والشكُّ في المانع لا يقتضي الشك في الحكم لأن الأصلَ عدمه.
قال واختار والدي - رحمه الله - أنه لا بدَّ من أن يعلم الثلاثة.
انتهى.
- المسألة الخامسة - اختلف هل وضَعَ الواضعُ المفرداتِ والمركَّبات الإسنادية أو المفردات خاصة دون المركبات الإسنادية فذهب الرازي وابنُ الحاجب وابنُ مالك وغيرُهم إلى الثاني وقالوا: ليس المركَّب بموضوع وإلا لتوقَّفَ استعمالُ الجُمل على النَّقْل عن العرب كالمفردات.
ورجَّح القَرَافي والتاج السبكي في جمع الجوامع وغيرهما من أهل الأصول أنه موضوع لأن العربَ حَجَرت في التراكيب كما حَجَرت في المفردات.
وقال ابن إبار في شرح الفصول في قول ابن عبد المعطي: الكلامُ هو اللفظُ المركب المفيد بالوضع كذا قال الجزولي وكان شيخي سعد الدين يقولُ فيه بغير ذلك لأنَّ واضعَ اللغةِ لم يَضَع الجملَ كما وضعَ المفردات بل ترك الجُمل إلى اختيار المتكلِّم.
يُبَيِّنُ ذلك لك أن حال الجُمل لو كانت حال المفردات لكان استعمالُ الجمل وفهم معانيها متوقفا على نقلها عن العرب كما كانت المفردات كذلك

(1/35)


ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويودِعوها كتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات.
- المسألة السادسة - قال الإمام فخر الدين الرَّازي وأتباعه: لا يجبُ أن يكون لكلِّ معنى لفظٌ لأنَّ المعانيَ التي يمكن أن تُعْقَل لا تَتَناهى والألفاظ متناهيةٌ لأنَّها مركبة من الحروف والحروف متناهية والمركَّب من المُتناهي مُتَنَاهٍ والمتناهي لا يَضْبِطُ ما لا يَتَنَاهى وإلاَّ لزم تَناهي المدلولات.
قالوا فالمعاني منها ما تكثرُ الحاجةُ إليه فلا يَخْلُو عن الألفاظ لأن الداعيَ إلى وضْع الألفاظ لها حاصلٌ والمانعُ زائل فيجب الوضعُ والتي تَنْدُر الحاجة إليها يجوزُ أن يكونَ لها ألفاظٌ وألاَّ يكون.
- المسألة السابعة - قالوا أيضا: ليس الغرضُ من الوَضْع إفادةَ المعاني المفردة بل الغرضُ إفادةُ المركَّبَات والنسب بين المفردات كالفاعليَّة والمفعولية وغيرهما وإلا لَزِم الدَّور وذلك لأن إفادةَ الألفاظِ المفردة لمعانيها موقوفةٌ على العِلْم بكونها موضوعة لتلك المسميات والعلم بذلك موقوفٌ على العلم بتلك المسميات فيكون العلمُ بالمعاني متقدما على العِلْم بالوَضْع فلو استَفَدْنا العلم بالمعاني من الوَضع لكان العلْمُ بها متأخرا عن العلم بالوَضْع وهو دَوْرٌ.
فإنْ قِيلَ هذا بَعْينِهِ قائمٌ فِي المركَّبَاتِ لأنَّ المركَّبَ لا يفيدُ مدلولَه إلا عند العلم بكونه موضوعا لذلك المدلول والعلم به يَسْتدعي سبقَ العلم بذلك المدلول فلو استفدنا العلمَ بذلك المدلول من ذلك المركَّب لزِم الدَّوْر.
فالجواب أنَّا لا نُسَلِّم أن إفادةَ المركب لمدلوله تتوقَّفُ على العلم بكوْنه موضوعا له بل على العلم بكون الألفاظ المفردة موضوعة للمعاني المفردة حتى إذا تُلِيَت الألفاظ المفردةُ عُلِمَتْ مفردات المعاني منها والتناسبُ بينهما من حركاتِ تلك الألفاظ فظَهرَ الفرق.
- المسألة الثامنة - اخْتُلِفَ: هل الألفاظ موضوعةٌ بإزاء الصُوَر الذهنية - أي الصورة التي تَصَوَّرها الواضع في ذِهْنِه عند إرادة الوَضْع - أو بإزاء الماهيات الخارجية
فذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى الثاني وهو المختارُ وذهب الإمام فخر

(1/36)


الدين وأتباعه إلى الأول واستدلوا عليهِ بأن اللفظ يتغر بحسب تغيُّر الصورة في الذِّهن فإن مَنْ رأَى شَبحاً من بعيد وظَنَّه حَجراً أطلق عليه لفظ الحجر فإذا دَنا منه وظنَّه شجرا أطلق عليه لفظ الشجر فإذا دَنَا وظنَّه فرسا أطلق عليه اسم الفرس فإذا تحقَّق أنه إنسان أطلق عليه لفظَ الإنسان فَبَانَ بهذا أن إطلاقَ اللفظ دائر مع المعاني الذهنيَّة دون الخارجية فدل على أن الوضْعَ للمعنى الذهني لا الخارجي.
وأجاب صاحبُ التحصيل عن هذا بأنه إنما دار مع المعاني الذِّهنية لاعْتقاد أنها في الخارج كذلك لا لِمُجرَّد اختلافِها في الذهن.
قال الأسنوي في شرح منهاج الإمام البيضاوي: وهو جواب ظاهر.
قال ويظهرُ أن يُقال: إن اللفظ موضوع بإزاءِ المعنى من حيث هو مع قَطْعِ النظر عن كونه ذهنيا أو خارجيا فإن حصولَ المعنى في الخارج والذهن من الأوصاف الزائدة على المعنى واللفظُ إنما وُضِعَ للمعنى من غير تقييده بوَصْفٍ زائد.
ثم إن الموضوعَ له قد لا يُوجد إلا في الذهن فقط كالعلم ونحوه. انتهى.
وقال ابو حيان في شرح التسهيل: العجبُ ممن يُجيز تركيبا مَا في لغة من اللغات من غير أن يسمعَ من ذلك التركيب نظائرَ وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية فكما لا يجوز إحداثُ لفظٍ مفردٍ كذلك لا يجوز في التراكيب لأن جميعَ ذلك أمورٌ وضعية والأمورُ الوضعيةُ تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان والفرقُ بين علم النحو وبين علم اللغة أن علمَ النحو موضوعُه أمورٌ كلية وموضوعُ علم اللغة أشياء جزئية وقد اشتركا معا في الوضْع انتهى.
وقال الزَّركشيُّ في البحر المحيط: لا خِلاَفَ أن المفرداتِ موضوعةٌ كوضع لفظ (إنسان) للحيوان الناطق وكوَضْعِ (قام) لحدوث القيام في زمن مخصوص وكَوَضْع (لعلَّ) للترجِّي ونحوها واختلفوا في المركبات نحو (قام زيد) و (عمرو منطلق) فقيل ليست موضوعة ولهذا لم يتكلم أهلُ اللغة في المركبات ولا في تأليفها وإنما تكلموا في وَضْع المفردات وما ذاك إلاَّ لأن الأمر فيها مَوْكول إلى المتكلِّم بها واختاره فخرُ الدين الرازي وهو ظاهرُ كلام ابن مالك حيث قال: إن

(1/37)


دلالة المتكلم عقليَّة لا وَضعيَّة واحتجَّ له في كتاب الفيصل على المفصل بوجهين:
أحدهما - أن من لا يَعْرف من الكلام العربي إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر فإنه لا يَفْتَقر عند سماعهما مع الإسناد إلى مَعرّف بمعنى الإسناد بل يُدْرِكه ضرورة.
وثانيهما - إن الدَّال بالوضع لا بدَّ من إحصائه ومنع الاستئناف فيه كما كان في المفردات والمركَّبات القائمة مقامها فلو كان الكلامُ دالا بالوضْع وجب ذلك فيه ولم يكن لنا أن نتكلم بكلام لم نُسْبَق إليه كما لم نَستعمل في المفردات إلا ما سَبَق اسْتِعماله وفي عدم ذلك برهانٌ على أنَّ الكلام ليس دالا بالوضع.
وحكاه ابنُ إياز عن شيخه قال: ولو كان حالُ الجُمَلِ كحال المفرداتِ في الوضع لكان استعمال الجمل وفهم معانيها متوقفا على نقلها عن العرب كما كانت المفردات كذلك ولوجب على أهل اللغة أن يتتبعوا الجمل ويُودِعُوها كُتبَهم كما فعلوا ذلك بالمفردات ولأن المركّباتِ دلالتُها على معناها التركيبي بالعقل لا بالوضع فإنَّ مَنْ عرف مسمَّى (زيد) وعرف مسمَّى (قائم) وسمع (زيد قائم) بإعرابه المخصوص فَهِمَ بالضرورة معنى هذا الكلام وهو نِسْبَةُ القيام إلى زيد نعم يصح أن يقالَ: إنها موضوعة باعتبار أنها متوقفة على معرفة مفرداتها التي لا تُستفاد إلا من جهة الوَضْع ولأَن لِلَّفْظ المركَّب أجزاء مادية وجزءا صوريا وهو التأليفُ بينهما وكذلك لمعناه أجزاءٌ مادية وجزءٌ صوري والأَجزاءُ المادية من اللفظ تدلُّ على الأَجزاءِ المادية من المعنى والجزءُ الصوري منه يدل على الجزء الصوري من المعنى بالوَضْع.
والثاني - أنها موضوعة فوضعت (زيد قائم) للإسناد دون التَّقوية في مفرداته ولا تَنَافي بين وَضْعها مفردة للإسناد بدون التَّقوية وَوَضْعها مركَّبة للتَّقوية ولا تختلف باختلاف اللغات فالمضافُ مقدَّم على المضاف إليه في بعض اللغات ومؤخَّر عنه في بَعْض ولو كانت عقلية لفهم المعنى واحدا سواءٌ تقدم المضافُ على المضاف إليه أو تأخر وهذا القولُ ظاهرُ كلام ابنِ الحاجب حيث قال: أقسامُها مفرد ومركب.
قال القَرَافي: وهو الصحيح.
وعزَاه غيرُه للجمهور بدليل أنها حَجَرت في التَّراكيب كما حَجَرت في المفردات فقالت: من قال: (إن قائم زيدا) ليس من كلامنا.
ومن قال: (إن زيدا

(1/38)


قائم) فهو من كلامنا ومن قال: (في الدار رجلٌ) فهو من كلامنا ومن قال: (رجل في الدار) فليس من كلامنا إلى ما لا نهاية له في تراكيب الكلام وذلك يدل على تَعَرُّضِهَا بالوضعِ للمركبات.
قال الزَّرْكَشِيّ: والحقُّ أن العربَ إنما وَضَعَتْ أنواعَ المرَكَّبَاتِ أما جُزئيات الأنواع فلا فَوَضَعَتْ باب الفاعل لإسْناد كلِّ فعلٍ إلى مَنْ صَدَرَ منه أما الفاعلُ المخصوص فلا.
وكذلك باب (إن وأخواتها) أما اسمها المخصوص فلا.
كذلك سائر أنواعِ التراكيب.
وأحالت المعنى على اختيار المتكلم فإنْ أراد القائلِ بِوَضْع المركبات هذا المعنى فصحيح وإلا فممنوع.
قال: ولم أر لهم كلاما في المثنى والمجموع والظاهرُ أنهما موضوعان لأنهما مفردان وهو الذي يقتضيه حدُّهم للمفرد ولهذا عامَلُوا جُمُوعَ التكسير معاملةَ المفردِ في الأحكام لكنْ صَرَّح ابنُ مالك في كلامه على حدِّهما بأنهما غيرُ موضوعين ويبعدُ أن يقالَ: فرَّعه على رأيهِ في عدم وضْعِ المركبات لأنه لا تركيب فيها لا سيما أن المركب في الحقيقة إنما هو الإسنادُ وكذا القولُ في أسماء الجُموع والأجناس مما يدلُّ على متعدد والقول بعدم وضْعه عجيب لأن أكثره سماعي وقد صرَّح ابنُ مالك بأنَّ (شَفْعاً) ونحوه مما يدل على الاثنين موضوع.
وقال الجُوَينِي: الظاهرُ أن التثنية وُضِعَ لفظُها بعد الجمع لِمَسِيس الحاجة إلى الجمع كثيرا ولهذا لم يُوجد في سائر اللغات تثنية والجمع موجود في كل لغة وَمِنْ ثمَّ قال بعضهم: أقلُّ الجمع اثنان كأَن الواضع قال: الشيءُ إما واحدٌ وإما كثير لا غيرُ فجعل الاثنين في حدِّ الكثرة.
- المسألة التاسعة - قال الإمام عضد الدين الإيجي في رسالة له في الوَضْع: اللَّفْظُ قد يوضع لشخصٍ بعينه وقد يُوضع له باعتبار أمرٍ عام وذلك بأن يُعْقل أمرٌ مشتَرَك بين مشخصات ثم يُقال: هذا اللفظ موضوع لكلِّ واحدٍ من هذه المشخصات بخصوصه بحيث لا يُفاد ولا يُفْهم به إلاَّ واحد بخصوصه دون القَدْر المشترك فتعقل ذلك المشترك آلة للوضع لا أنه الموضوع له فالوَضْع كلِّي والموضوعُ له مشخص وذلك مثلُ اسم الإشارة فإنَّ (هذا) مثلا موضوعُه ومسماه

(1/39)


المشارُ إليه المشخص بحيث لا يَقْبَلُ الشركة وما هو من هذا القبيل لا يُفيدُ التشخُّص إلا بقرينة تفيدُ تعيينه لاسْتواءِ نسبة الوَضْع إلى المسميات.
قال: ثم اللفظُ مدلوله إما كلي أو مشخص والأول إما ذاتٌ وهو اسم الجنس أو حدَث وهو المصدر أو نسبة بينهما وذلك إما أن يكون يُعْتَبَر من طَرَفِ الذات وهو المشتق أو من طَرَف الحدَث وهو الفِعْل والثاني العلم فالوَضعُ إما كلي أو مشخص والأول مدلولُه إما معنى في غيره يتعيَّنُ بانضمام غيره إليه وهو الحرف أولا فالقرينةُ إن كانت في نحو الخطاب فالضميرُ وإن كانت في غيره فإما حسيَّة وهو اسمُ الإشارة أو عقليَّة وهو الموصول فالثلاثة مشتركة فإن مدلولَها ليس معاني في غيرها وإن كانت تتحصَّل بالغير فهي أسماء.
- المسألة العاشرة - نقلَ أهلُ أُصول الفِقْه عن عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة أنه ذهبَ إلى أنَّ بين اللفظِ ومدلولهِ مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضعَ قال: وإلا لكانَ تخصيصُ الاسمِ المُعيّنِ بالمسمَّى المُعيَّن ترجيحا من غير مُرَجِّح.
وكان بعضُ مَنْ يرَى رأْيَه يقول: إنه يعرفُ مناسبةَ الألفاظِ لمعانيها فَسُئِل ما مُسَمَّى (اذغاغ) وهو بالفارسية الحجر فقال: أجدُ فيه يُبْساً شديدا وأراه الحجر.
وأنكَر الجمهور هذه المقالة وقال: لو ثبتَ ما قالَه لاهْتَدَى كلُّ إنسان إلى كل لغةٍ ولما صحَّ وضعُ اللفظِ للضدين كالقَرْءِ للحيض والطهر والجَوْن للأَبيض والأسود وأجابوا عن دليله بأنَّ التخصيص بإرادة الواضع المختار خصوصا إذا قلنا: الواضعُ هو الله تعالى فإن ذلك كتخصيصه وجود العالَم بوقت دون وقت وأما أهل اللغة والعربية فقد كادوا يُطْبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني لكن الفرقَ بين مذهبهم ومذهب عباد أن عبَّاداً يراها ذاتية موجبة بخلافهم.
وهذا كما تقول المعتزلة بمراعاة الأصْلح في أفعالِ الله تعالى وُجوباً وأهل السنة لا يقولون بذلك مع قولهم إنه تعالى يفعل الأصْلَح لكن فضلا منه ومَنَّاً لا وجوبا.
ولو شاء لم يفعله.
مناسبة الألفاظ للمعاني

وقد عقد ابنُ جنِّي في الخصائص بابا لمناسبة الألفاظ للمعاني وقال:

(1/40)


هذا مَوْضع شريف نبَّه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول.
قال الخليل: كأنهم تَوَهَّموا في صوت الجُنْدُب استطالة و (مدا) فقالوا: (صَرّ) في صوت البازي تقطيعا فقالوا: (صرصر) .
وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلاَن: إنها تأتي للاضطراب والحرَكة نحو (النقزان) و) الغليان والغَثيان فقابلوا بِتَوَالي حركاتِ الأمثالِ تواليَ حركات الأفعال.
قال ابنُ جني: وقد وجدتُ أشياء كثيرة من هذا النَّمَط من ذلك المصادرُ الرُّباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزَّعْزَعَة والقَلقلة والصلصلة والقعقعة و (الجرجرة) والقَرْقَرة.
والفَعلى إنما تأتي للسرعة نحو (البَشَكى و) الجمزى والوَلقى.
ومن ذلك باب اسْتفعل جعلوه للطَّلب لما فيه من تَقََدُّم حروفٍ زائدة على الأصول كما يتقدَّم الطلبُ الفعل وجعلوا الأفعالَ الواقعة عن غير طلب إنما تفجأُ حروفها الأصول أو ما ضارع الأصول (فالأصولُ نحو قولهم: طعِم ووهَب ودخل وخرج وصعِد ونزل فهذا إخبار بأصولٍ فاجأت عن أفعال وَقعت ولم يكن معها دلالة تدل على طلبٍ لها ولا إعمال فيها وكذلك ما تقدَّمت الزيادة فيه على سمت الأصل نحو أحس وأكرم وأعطى وأولى فهذا من طريق الصيغة بوزن الأصل في نحو دَحْرج وسَرْهف ... .)

(1/41)


وكذلك جعلوا تكرير العين نحو فرَّح وبَشَّر فجعلوا قوة اللفظِ لقوة المعنى وخصُّوا بذلك العين لأنها أقْوَى من الفاء واللام إذ هي واسطة لهما ومكنوفةٌ بهما فصارا كأنهما سِيَاج لها ومَبْذولان للعَوارِض دونها ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها.
(فأما مقابلةُ الألفاظ بما يُشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع ونَهْج مُتْلَئِبّ عند عَارِفيه مَأمُوم وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمت الأحداث المعبر بها عنها فَيَعدِلونها بها ويَحتذُونها عليها وذلك أكثرُ مما نقدره وأضعافُ ما نستشعره من ذلك قولهم: خَضَم وقضِم ف) الخَضْم لأكل الرَّطْب (كالبِطّيخِ والقِثَّاء وما كان من نحوها من المأكول الرطب) والقضْمُ لأكل اليابس (نحو قَضَمَت الدَّابة شعيرها ونحو ذلك.
وفي الخبر: (قد يُدْرَكُ الخَضْم بالقَضْم) أي قد يُدرك الرخاء بالشدة واللين بالشَّظَف.
وعليه قول أبي الدَّرْداء: يَخْضَمون ونقضَم والموعد الله) فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس (حَذْواً لمسموع الأصوات على مَحْسوس الأحْداث) (ومن ذلك قولهم) النَّضْح للماء ونحوه والنَّضْخ أقوى منه (قال اللهُ سُبْحَانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضّاخَتَانِ} ) فجعلوا الحاء لرقتها للماءِ الخفيف والخاءَ لِغَلظها لما هو أقوى (منه) ومن ذلك القد طولا والقط عرضا لأن الطاءَ أخفض للصوت وأسرعُ قطعا له من الدَّال فجعلوا لِقَطْع العَرض لِقُرْبِه وسرعته.
والدال المَاطلة لمَا طال من الأثَر وهو قَطْعُهُ طولا.
قال: وهذا الباب واسعٌ جدا لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُه.
قُلت: ومِنْ أَمْثِلة ذلك ما في الجمهرة: الخَنَنَ في الكلام أشدُّ من الغَنَن

(1/42)


والخُنّة أشد من الغُنَّة والأنِيتُ أشد من الأنِين والرَّنين أشد من الحِنين.
وفي (الإبدال) لابن السكيت يقال: القَبْصة أصغرُ من القَبْضة.
قال في الجمهرة: القَبْصُ: (الأخذُ بأطراف الأنامل) والقَبْضُ: الأخذ بالكفِّ كلها.
وفي الغريب المصنف عن أبي عَمْرو: هذا صَوْغُ هذا إذا كان على قَدْره وهذا سَوْغُ هذا إذا وُلِدَ بعد ذاك على أَثره ويقال: نَقَبَ على قومه ينقُب نِقابةً من النَّقيب وهو العَرِيف ونكَب عليهم ينكُب نِكابةً وهو المَنْكِب وهو عَون العَرِيف.
وقال الكسائي: القَضْمُ للفرس والخَضْمُ للإنسان.
وقال غيرُه: القَضْم بأطراف الأسنان والخَضْم بأقْصى الأَضراس.
وقال أبو عمرو: النَّضْح بالضاد المعجمة: الشرب دون الرِّيّ والنَّصْح بالصاد المهملة: الشُّرْب حتى يَرْوَى والنَّشْح بالشين المعجمة دون النَّضْح بالضاد المعجمة.
وقال الأَصْمعيّ من أصوات الخيل: الشّخِيرُ والنَّخِيرُ والكَريرُ فالأوَّل من الفم والثاني من المَنْخَرين والثالث من الصَّدر.
وقال الأصمعي: الهَتْل من المطر أصغرُ من الهَطْل.
وفي الجمهرة: العَطْعَطَةُ بإهمال العين: تتابعُ الأصوات في الحرب

(1/43)


وغيرها.
والغَطْغَطة بالإعجام: صوتُ غَلَيَان القِدْر وما أشبهه.
والجَمْجَمَة بالجيم: أن يُخْفِي الرجلُ في صدره شيئا ولا يبديه.
الحمحمة بالحاء: أن يردِّد الفرسُ صوتَه ولا يَصْهَلِ.
والدَّحْدَاح بالدال: الرجل القصير.
والرَّحْرَاح بالراء: الإناء القصير الواسع.
والجَفْجَفَةُ بالجيم: هَزِيز المَوْكِب وحَفِيفُه في السير.
والحَفْحَفَةُ بالحاء: حفيفُ جَنَاحي الطائر.
ورجل دَحْدَح بفتح الدالين وإهمال الحاءين: قصير ورجل دُخْدُخ بضم الدَّالين وإعجام الخاءين: قصيرٌ ضخْم.
والجَرْجَرَة بالجيم: صوتُ جَرْعِ الماء في جَوف الشَّارب.
والخَرْخَرة بالخاء: صوتُ تردُّد النَّفَس في الصدْر وصوت جَرْي الماء في مضيق.
والدَّرْدَرَة: صوت الماء في بطون الأودية وغيرها إذا تدافع فَسَمِعْتَ له صوتا.
والغَرْغَرَة: صوتُ ترديد الماء في الحَلْق من غير مَجّ ولا إسَاغة.
والقَرْقَرَة: صوتُ الشراب في الحلق.
والهَرْهَرَةُ: صوت تَرْدِيد الأسد زئيرَه.
والكَهْكَهَة: صوتُ تردِيد البعير هَدِيره.
والقَهْقَهَةُ: حكاية استِغْرَاب الضحك.
والوَعْوَعَةُ: صوت نُبَاح الكلب إذا رَدَّده.
والوَقْوَقَةُ: اختلاطُ الطير.
والوَكْوَكَةٌُ: هديرُ الحمام.
والزَّعْزَعَةُ بالزاي: اضطرابُ الأشياء بالريح.
والرَّعْرَعَةُ بالراء: اضطرابُ الماء الصافي والشراب على وجه الأرض.
والزَّغْزَغَةُ بالزاي وإعجام الغين: اضطراب الإنسان في خِفّة ونَزَق.
والكَرْكَرَة بالكاف: الضحك.
والقَرْقَرَة بالقاف: حكاية الضحك إذا اسْتَغْرَب الرجلُ فيه.
والرَّفْرَفَة بالراء: صوت أَجنِحة الطائر إذا حَام ولم يَبْرح.
والزَّفْزَفَة بالزاي: صوتُ حفيف الريح الشديدة الهبوب وسَمِعْتُ زفزفةَ الموكِب إذا سمعت هَزيزِه.
والسَّغْسَغَةُ بإهمال السين: تحريك الشيء من موضعه لِيُقْلَعَ مثل الوَتَدِ وما أشبهه ومثل السن.
والشَّغْشَغَةُ بالإعجام: تحريك الشيء في موضعه ليتَمكَّن يقال: شَغْشَغ السِّنان في الطَّعْنة إذا حرَّكه ليتمكن.
والوَسْوَسَةُ بالسين: حركة الشيء كالحَلْي.
والوَشْوَشة بالإعجام: حركة القوم وهَمْسُ بعضِهم إلى بعض.
فانْظر إلى بديع مناسبةِ الألفاظ لمعانيها وكيف فَاوَتَت العربُ في هذه الألفاظ المُقْتَرنة المتقاربة في المعاني فجعلت الحرفَ الأضْعف فيها والألْين والأخْفَى والأسْهل والأهْمس لِمَا هو أدْنى وأقل وأخف عملا أو صوتا وجعلت الحرفَ الأقْوى والأشد والأظهر والأجهر لِمَا هو أقوى عملا وأعظم حِسّاً ومن ذلك المد والمط فإنَّ فعْلَ المط أقوى لأنه مدٌّ وزيادةُ جَذْب فناسَب الطاء التي هي أَعْلى من الدال.

(1/44)


قال ابن دُريد: المدُّ والمتُّ والمطُّ متقاربةٌ في المعنى.
ومن ذلك الجُفّ بالجيم: وعاءُ الطَّلْعة إذا جَفت.
والخُفُّ بالخاء: الملبوس وخفُّ البعير والنعامة ولا شك أن الثلاثة أقوى وأجلَد من وعاءِ الطَّلعة فخُصَّت بالحاءِ التي هي أعلى من الجيم.
وفي ديوان الأدب للفارابي: الشّازِب: الضَّامر من الإبل وغيرها.
والشاصب: أشد ضُمْراً من الشازب.
وفيه قال الأصمعي: ما كان من الرياح من نفخ فهو برد وما كان من لفح فهو حَرٌّ.
وفي فقه اللغة للثعالبي: إذا انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم الرأسِ فهو أَجْلَحُ فإن بلغ الانحسارُ نصف رأسِه فهوَ أَجْلَى وأَجْلَه.
وفيه: النَّقْشُ في الحائط والرَّقْشُ في القِرْطاس والوَشْمُ في اليد والوَسْمُ في الجِلْدِ والرَّشْمُ على الحِنْطَة والشَّعير والوَشْيُ في الثوب.
وفيه الدُّبُر يقال له الاسْت والشّعرُ الذي حوله يقال له الاسْبُ.
وفيه الحَوَص: ضِيقُ العينين.
والخَوَص غُؤُورُهُما مع الضِّيق.
وفيه: اللَّسْب من العقرب واللسع من الحية.
وفيه: وسَخُ الأُذنِ أُفّ ووسَخ الأظفار تُفٌّ.
وفيه: اللِّثَامُ: النِّقاب على حَرْف الشَّفة واللّغَامُ على طرف الأنف.
وفيه: الضَّرْب بالرَّاحة على مُقَدَّم الرأس: صَقْعٌ وعلى القَفَا صَفْعٌ وعلى الخَدِّ بِبَسْطِ الكَفِّ لَطْمٌ وبقَبْضِ الكَفِّ لَكْمٌ وبِكلْتَا اليَدَيْنِ لَدْمٌ وعلى الجَنْبِ بالإصْبَعِ وَخْزٌ (وعلى الصدْر والجَنْبِ وَكْزٌ ولَكْزٌ) وعلى الحَنَكِ والذَّقَنِ وَهْزٌ (ولهْزٌ) .

(1/45)


وفيه يُقَالُ: خَذَفَه بالحَصى وحَذَفَه بالعصا وقَذَفَه بالحجر.
وفيه: إذا أخرجَ المكْروبُ أو المريضُ صوتا رَقِيقاً فهو الرَّنين فإنْ أخْفَاهُ فهو الهَنِينُ فإنْ أَظْهَرَه فخرج خافيا فهو الحَنِينُ فإن زاد فيه فهو الأنين فإن زاد في رَفعه فهو الخَنِين.
فانْظُرْ إلى هذه الفُروق وأشباهها باختلاف الحرف بحسب القوَّة والضَّعف وذلك في اللغة كثيرٌ جدا وفيما أوردناه كفاية.
- المسألة الحادية عشرة - قال ابن جني: الصواب - وهو رأي أبي الحسن الأَخفش - سواءٌ قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم تُوضع كلها في وقت واحد بل وقعت متلاحقة متتابعة.
قال الأخفش: اختلافُ لغاتِ العرب إنما جاءَ من قِبَل أنَّ أول ما وُضِع منها وُضِعَ على خلاف وإن كان كله مسوقا على صحة وقياس ثم أَحدثوا من بعدُ أشْيَاء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وُضِعَ في الأصل مختلفا.
قال: ويجوز أن يكونَ الموضوعُ الأولُ ضَرْباً واحدا ثم رأى مَنْ جاءَ بعد أن خالف قياسَ الأولِ إلى قياسٍ ثانٍ جارٍ في الصحة مَجْرَى الأوَّل.
قالَ: وأما أي الأجناس الثلاثة - الاسم والفعل والحرف - وُضِع قبلُ فلا يُدْرى ذلك ويحتمل في كل من الثلاثة أنه وُضِع قبل وبه صرَّح أبو علي.
قال: وكان الأخفشُ يذهب إلى أن ما غُيِّر لكَثْرة استعماله إنما تصوَّرَتهُ العربُ قبل وضْعِه وعَلِمَت أنه لا بدَّ من كثرة استعمالهما إياه فابتدؤوا بتغييره عِلْماً (منهم) بأنه لا بدَّ من كثرة الداعية إلى تغييره.
قال: ويجوزُ أن تكون كانت قديمة معربة فلما كثرت غُيِّرت فيما بعد.

(1/46)


قال: والمقُول عندي هو الأول لأنه أدل على حِكمتها وأشهدُ لها بعِلْمِها بمصاير أمْرِها فتركوا بعضَ الكلام مبنيا غير معرب نحو أمس (وهؤلاء) وأين وكيف وكم وإذ و (حيث) عِلْماً بأنهم سيستكْثِرُون منها فيما بعد فيجبُ لذلك تغييرها.
- المسألة الثانية عشرة - في الطريق إلى معرفة اللغة:
قال الإمام فخر الدين الرَّازي في المحصول وأتباعه: الطريقُ إلى معرفة اللغة إما النقلُ المحْضُ كأكثرِ اللغة أو استنباطُ العقل من النَّقْل كما إذا نُقِلَ إلينا أنَّ الجمع المعرَّف يدخله الاستثناء ونقل إلينا أن الاستثناءَ إخراجُ ما يتناوله اللفظ فحينئذ يستدلُّ بهذين النَّقْلين على أن صِيَغ الجمع للعموم.
وأما العقل الصِّرف فلا مجالَ له في ذلك.
قال: والنقلُ المحضُ إما تواترٌ أو آحاد.
قلت: وسيأتي بَسْطُ الكلام فيهما في النوع الثالث.
ولم يذكر ابنُ الحاجب في مختصره ولا الآمدي في الأحكام سوى الطريق الأول وهو النقل المَحْضُ: إما تواترا وهو مالا يَقْبَل التشكيك كالسماء والأرض والحرِّ والبَرْدِ ونحوها وإما آحادا كالقُرْءِ ونحوه من الألفاظ العربية.
قال الإمام فخر الدين والآمدي: وأكثرُ ألفاظ القرآن من الأول أي المتواتر.
وقال ابنُ فارس في فقه اللغة: باب القول في مأْخذ اللغة:
تُؤخَذ اللّغُة اعتيادا كالصبيِّ العربيِّ يسمعُ أبويه أو غيرهما فهو يأخذ اللغةَ عنهم على ممر الأوقات وتؤخذ تلقنا من مُلَقِّن وتؤخذُ سماعا من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويُتَّقَى المظنون.
وستأتي بقيةُ كلامه في نوع من تقبل روايته ومن ترد وكذا كلامُ ابن الأنباري في ذلك ويؤْخذ من كلامهما أن ضابط الصحيح من اللغة ما اتََّصل سَنَدُه بنَقْل العَدْل الضابط عن مِثله إلى منتهاه على حدِّ الصحيح من الحديث.

(1/47)


(شرائط اللغة)

وقال الزَّرْكَشِيّ في البحر المحيط: قال أبو الفضل بن عبدان في شرائط الأحكام وتبعه الجيلي في الإعجاز: لا تلزمُ اللغةُ إلا بخمس شرائط:
أحدها - ثبوت ذلك عن العرب بسند صحيح يوجب العمل.
والثاني - عدالةُ الناقلين كما تُعْتَبَرُ عدالتُهم في الشَّرعيات.
والثالث - أن يكون النقلُ عَمّن قولُه حجة في أصل اللغة كالعرب العاربة مثل قحطان ومعد وعدنان فأما إذا نقلوا عمَّن بعدهم بعد فَسَادِ لسانهم واختلاف المولدين فلاَ.
قال الزركشي: ووقع في كلام الزمخشري وغيره الاستشهادُ بشِعْر أبي تمام بل في الإيضاح للفارسي ووجه بأنَّ الاستشهاد بتقرير النّقَلة كلامَهم وأنه لم يخرج عن قوانين العرب.
وقال ابنُ جني يُسْتَشْهَدُ بشِعر المولَّدين في المعاني كما يُستَشْهد بشعر العرب في الألفاظ.
والربع - أن يكون الناقلُ قد سَمِعَ منهم حِسّاً وأما بغيره فلا.
والخامس - أن يسمع من الناقل حسا.
انتهى.
وقال ابنُ جني في الخصائص مَنْ قال إن اللغة لا تُعْرَف إلا نقلا فقد أخطأ فإنها قد تُعَلمُ بالقرائن أيضا فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر: // من البسيط //
(قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم ... طارُوا إليه زَرَافات وَوُحْدَانا)
يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات.
وقال عبد اللطيف البغدادي في شرح الخطب النباتية: اعلم أن اللغوي شَأنُه أن يَنْقُل ما نطقت به العربُ ولا يتعداه وأما النَّحوي فشأنُه أن يتصرف فيما ينْقُله

(1/48)


اللغوي ويقيس عليه ومِثَالُهما المحدِّث والفقيه فشأنُ المحدث نقلُ الحديث برُمَّته ثم إن الفقيهَ يتلقَّاه ويتصرَّفُ فيه ويبسط فيه عِلَله ويقيسُ عليه الأمثال والأشباه.
قال أبو علي - فيما حكاه ابنُ جني: يجوزُ لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم وشعرنا على شعرهم.
- المسألة الثالثة عشرة - في أن اللغة هل تثبت بالقياس
قال الكِيَا الهرَّاسي في تعليقه الذي استقر عليه آراء المحققين من الأصوليين: إن اللغة لا تَثْبت قياسا ولا يجري القِياسُ فيها.
وقال كثيرٌ من الفقهاء: القياسُ يجري في اللغة وعُزِي هذا إلى الشافعي رضي الله عنه ولم يدُل عليه نصُّه إنما دلَّت عليه مسائلُه فنُصدِّر المسألة بتصويرها فنقول: أما أسماء الأعلام الجامدة والألقاب المحضة فلا يجري القياسُ فيها لأنه لا يُفيد وصفا للمُسَمَّى وإنما وُضِعَت لمجرَّد التعيين والتعريف ولو قَلَبْتَ فَسَمَّيْت زيدا بعمرو وعكسه لصح إذ كلُّ اسمٍ منها لم يختص بمن سُمِّي به لمعنى حتى لا يجوزَ أن يُعْدَل به إلى غيره.
فليست هذه الصورةُ من محل الخلاف.
ولا يجوزُ أيضا أن يكونَ محل الخلاف المصادر التي يُقال هي مشتَقةٌ من الأفعال نحو ضرب ضربا فهو ضارب وقتل قَتْلاً فهو قاتل فهذا ليس بقياس بل هو معلومٌ ضرورة من لغتهم ونُطْقِهم به على هذا الوجه ولكن محل الخلاف الأسماءُ المشتقَّة من المعاني كما يُقال في الخمر إنه مشتقٌّ من المُخَامرة أو التَّخْمير فإذا سُمِّي خَمْراً من هذا الاشتقاق كان ما وُجِد فيه ذلك خمرا كالنبيذ وغيره.
قال: وهذا عندنا باطلٌ والدليل عليه أن إجراءَ القياس في اللغة لا يخلُو إما أن يُعْلَمَ عقلا أو نقلا أما العقلُ فلا مجالَ له في ذلك لأنه يجوزُ أن يكونَ واضعُ اللغة قد قصدَ بهذا الاسم أن يختص بما سُمِّي به ويجوز أن يكُونَ لم يقصد الاختصاص بل يُسمّى به كل ما في معناه وإذا كان الأمران جائزين في العقل لم يرجَّح أحدُهما على الآخر من غير مرجح.
وإن كان بطريق النقل فالنقل إما تَوَاتُر أو آحاد أما التواتر فلا مَطْمع فيه إذْ لو كان لَعَلِمْناه ولكان مُخَالِفُه مكابرا وأما الآحادُ فظنٌّ وتخمين لا يستندُ إلى أصلٍ مَقطوع به.

(1/49)


فإن قيل: فالأقيسةُ الشّرعيةُ كلُّها مظنونةٌ ويُعْمَل بها.
قلنا: تلك مستندة إلى سَمْعيّ مقطوعٍ به في وجوب العمل وهو إجماعُ الصحابة وليس في قياس اللغة شيءٌ من ذلك.
فإن قيل: فالمعنى الظاهرُ في موضع الاشتقاق أصلٌ يُقاس عليه فكلُّ محَلٍّ يوجدُ فيه ذلك المعنى ينبغي أن يَجْري عليه ذلك الاسم. قلنا: قد بيَّنا أن ذلك ظنٌّ وتخمينٌ لا يَسْتَنِدُ العملُ به إلى أصلٍ مَقْطوع به فكيف يقاسُ عليه
وقال أبو الفتح بن برهان في كتاب الوصول إلى الأُصول: لا يجوزُ إجراءُ القياس في الأسامي اللغوية المشتقة خلافا للقاضي وابن شُرَيح وطوائفَ من الفقهاء فإنهم أثبتوا الأسَامِي بالقياس وقالوا: النبيذُ يسمَّى خمرا لأن فيه شدة مُطْرِبة فهو كعصير العنب. واللِّوَاط يسمى زنا لأنه وَطْء في فرج مُشتهى طبعا محرّمٍ قطعا فكان زنا كالوَطْءِ في القُبل.
وذَكَرَ الدليل على رده كما تقدم في كلام الكِيَا الهرّاسِي في تعليقه سواء.
ثم قال: وعمدةُ الخَصْم أن العرب وَضعت اسمَ الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودا ثم انقَرضَ وحدَث حيوانٌ آخرُ فسمِّي بذلك بطريق الإلحاق والقياس.
قلنا: هذا ليس بصحيح بل العربُ وضَعت هذا الاسم للجنس والجنسُ لا يَنْقَرض.
قالوا: إذا جاز إجراءُ القياسِ في الأحكام الشَّرعية عند فَهْم المعنى جاز إجراءُ القياس في الأسَامِي اللغوية عند فَهْم المعنى.
قلنا: هذا باطلٌ فإن القياس الشَّرعي إنما جاز إثباتُ الأحكام به بالإجماع المتَّفَق عليه وليس فيما تنَازعْنَا فيه إجماع وليس المقصودُ من إثبات الاسم اللغوي إثباتَ الحكم فإن القياسَ يجري في الأسامي اللغوية قبل الشَّرع على رأي مُثْبتي القياس في اللغة ولأن المعنى في القياس الشَّرعي مطَّرِد وفي القياس اللغوي غيرُ مطَّرد فإن البَنْج لا يسمى خمرا وإن كان يخامِرُ العقل والدار لا تسَمَّى قارُورة وإن كانت الأشياء تستقر فيها والغرابُ لا يسمى أَبْلَق وإن اجتمع فيه السوادُ والبياض.
فليس القياسُ الشرعي كالقياس اللغوي في المعنى وإن تمسكوا بأنَّ القياسَ يجري في المصادر نحو ضرب يضرِب ضربا وأكل يأكل أكلا فلسنا نسلم أن اللغة تثبت بالقياس وإنما تثبتُ نقلا عن العرب.

(1/50)


- وقال إمامُ الحرَمين في البرهان: ذهب بعضُ أصحابنا في طوائف من الفِرَق إلى أن اللغةَ لا يمتنعُ إثباتها قياسا وإنما قالوا ذلك في الأسماء المشتقّةِ كالخمر فإنها من التخمير أو المخامرة فقال هؤلاء: إن خَصّصَت العربُ في الوَضْع اسم الخمر بالخمر النيئة العتيقة يجوزُ تسميةُ النبيذ المشتد خمرا لمشاركتِه الخمر النيئة فيما منه اشتقاقُ الاسم.
والذي نرتضيه أن ذلك باطلٌ لِعلْمنا أن العربَ لا تلتزم طردَ الاشتقاق وأقربُ مُمَالٍ إليه أن الخمرَ ليس في معناها الإطراب وإنما هي المخامرة أو التخمير فلو ساغ الاستمساكُ بالاشتقاق لكان كلُّ ما يَخْمِر العقل أو يُخامره ولا يُطْربُ خمرا وليس الأمر كذلك والقولُ الضابطُ فيه أن الذي يدعي ذلك إن كان يزعمُ أن العربَ أرادته ولم تَبُح به فهو متحكم من غير تثبت وتوقيف فإن اللغاتِ على خلاف ذلك ولم يصح فيها ادّعاءُ نَقْل وإن كان يزعمُ أن العربَ لم تَعْن ذلك فَيُلْحِق فإلحاق شيءٍ بلسانها - وهي لم تُرِده - محال.
والقياسُ في حكم من يبتدىء وضع صيغة.
فإن قيل: الأقيسة الحكمية يدور فيها هذا التقسيم.
قلنا: أَجَل ولكنْ ثَبَتَ قاطعٌ سمعي على أنها متعلَّق الأحكام.
فإن نقلتم قاطعا من أهل اللسان اتَّبَعْنَاه.
ثم السرُّ فيه أن الإجماع انعقَد على وجوب العمل عند قيام ظنون القائسين فلم تكن الظنونُ موجبة علما ولا عملا وليس في اللغات عَمل.
وإن كنتم تظنون شيئا فلا نمنعكم من الظن ولكن لا يسوغُ الحكمُ بالظن المجرد.
فإن تعلق هؤلاء بالأسماء المشتقَّة من الأفعال كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري على قضيَّةٍ واحدة فقد ثبت في هذه الفنون من طريق النقل اطّرادُ القياس فاتَّبعناه ولا يجري هذا في محل النزاع.
قال الغزَالي في المنخول: اختلفوا في أن اللغات هل تثبتُ قياسا ووجهُ تنقيح محل النزاع أن صوغَ التصاريف على القياس ثابتٌ في كل مصدر نُقِل بالاتفاق وهو في حكم المنقول وتبديلُ العبارات ممتنعٌ بالاتفاق كتسمية الفرس دارا وتسميةِ الدار فرسا ومحلُّ النزاع القياسُ على عبارة تشير إلى معنى وهو حائدٌ عن منهج القياس كقولهم للخمر خمرا لأنه يُخامر العقل أو يَخْمِرُه.
فهل تسمَّى الأشربة المخامِرة للعقل خمرا وكذا قولهم للبعير إذا استحقَّ الحمل فهو حِقّ.

(1/51)


وجوَّز الأستاذُ أبو إسحاق مثلَ هذا القياس.
والمختار منعه إن كان إثبات هذا القياس مظنونا فلا يُقبل إذ ليس هذا في مَظِنّة وجوبِ عمل وإن كان معلوما فأثْبتوا مستنده ولا نَقْل من أهل اللغة في جواز ذلك ولا من الشارع ومسلكُ العقل ضرورية ونظرية منحسم في الأسامي واللغات وإن قاسوا على القياس في الشرع فَتَحكُّم لأن مستند ذلك التأسي بالصحابة فما مستندُ هذا القياس ثم أطبقوا على أن البَنْج لا يسمَّى خمرا مع كونه مخمرا فإن سموه فليسموه الدار قارورة لمشاركتها القارورة في هذا المعنى وهذا محال.
(سعة اللغة)

- المسألة الرابعة عشرة - في سعَة اللغة:
قال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول على لغة العرب وهل يجوز أن يُحاط بها

قال بعض الفقهاء: كلامُ العرب لا يحيطُ به إلا نبيٌّ.
قال ابنُ فارس: وهذا كلام حَرِيٌّ أن يكونَ صحيحا وما بَلَغَنا أن أحدا ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلِّها فأما الكتاب المنسوب إلى الخليلوما في خاتمته من قوله: هذا آخرُ كلام العرب فقد كان الخليلُ أورعَ وأتقى لله تعالى من أن يقول ذلك.
وقد سمعت علي بن محمد بن مِهْرُوَيه يقول: سمعت هارون بن هزاري يقول: سمعت سفيان بن عُيَيْنة يقول: مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى رجلٍ خُلِقَ من الذَّهب والمِسك فليَنْظُر إلى الخليل بن أحمد.
وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلَل المَصاحفي عن النَّضْر بن شُمَيل قال: كنا نُمَيِّل بين ابن عَوْنٍ والخليل بن أحمد أيهما نُقدّم في الزهد والعبادة فلا نَدْري أيهما نقدم.
قال: وسمعتُ النضر بن شُمَيل يقول: ما رأيتُ أحدا أعلمَ بالسُّنَّة بعد ابن عوْن من الخليل بن أحمد.
قال: وسمعتُ النضر يقول: أُكِلَت الدنيا بأدَب الخليل وكُتُبِه وهو في خُصّ لا يُشْعَر به.

(1/52)


قال ابن فارس: فهذا مكان الخليل من الدِّين أَفَتُرَاه يُقْدِم على أن يقول: هذا آخرُ كلام العرب
ثم إن في الكتابِ المَوْسُوم به من الإخلال ما لا خفاءَ به على علماء اللغة ومَنْ نظر في سائرِ الأصناف الصحيحة عَلِم صحَّةَ ما قُلْناه.
انتهى كلام ابنُ فارس.
وهذا الذى نَقَله عن بعض الفقهاءِ نصَّ عليه الإمامُ الشافعى رضي الله عنه فقال في أوائل الرسالة: لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهبا وأكثرُها ألفاظا ولا نعلمُ أن يحيط بجميع عِلْمِه إنسان غير نبي ولكنه لا يذهبُ منه شيء على عامَّتها حتى لا يكونَ موجودا فيها مَنْ يعرِفه والعلمُ به عند العرب كالعِلم بالسنة عند أهلِ الفقه لا يعلمُ رجلٌ جميعَ السنن فلم يذهب منها عليه شيء وإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن.
وإذا فرق عِلْم كلِّ واحد منهم ذهب عليه الشيءُ منها ثم ما ذهب منها عليه موجودٌ عند غيره وهم في العلم طبقاتٌ منهم الجامعُ لأكْثَره وإن ذهب عليه بعضُه ومنهم الجامعُ لأقلَّ مما جمع غيرُه وليس قليلُ ما ذهب من السُّنن على مَنْ جمع أكثرَها دليلا على أن يطلبَ عِلمه عند غير أهل طبقته من أهلِ العلم بل يَطلبُ عند نُظرائه ما ذهب عليه حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي فتفرَّد جملة العلماء بجملتها وهم درجات فيما وعوا منها وهذا لسانُ العرب عند خاصّتِها وعامتها لا يذهبُ منه شيءٌ عليها ولا يُطْلبُ عند غيرها ولا يعلمُه إلا من قبله منها ولا يَشْرَكها فيه إلا من اتَّبعها وقبِله منها فهو من أهل لسانها وعِلْمُ أكثر اللسان في أكثر العرب أعمُّ من عِلْم أكثر السنن في العلماءِ.
هذا نص الشافعي بحُروفِه.
وقال ابن فارس في موضع آخر: باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها وأن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيرا من الكلام ذهب بِذهَاب أهله.
ذهب علماؤُنا أو أكثرُهم إلى أنَّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلُّ ولو جاءَنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلامٌ كثير وأَحْرِ بهذا القول أن يكونَ

(1/53)


صحيحا لأنَّا نرى علماء اللُّغَة يختلفون في كثيرٍ مما قالَتْه العربُ فلا يكادُ واحدٌ منهم يُخبرُ عن حقيقةِ ما خُولف فيه بل يسلك طريقَ الاحتمال والإمكان ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقةِ قَوْل العرب في الإغراء: كَذَبك كذا.
وعما جاءَ في الحديث من قَوْله: كَذَب عليكم الحجُّ.
وكَذَبك العسَلُ.
وعن قول القائل: // من الطويل)
(كذبت عليكم أوعدوني وعللوا ... بي الأرض والأقوام قردان موظبا)
وعن قول الآخر) : // من الكامل //
(كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ بارِدٌ ... إن كُنتِ سائلتي غبوقا فاذْهبي)
ونحن نعلم أن قول: (كذب) يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء.
وكذلك قولهم: عَنْكَ في الأرض.
وعنك شيئا.
وقول الأفوه: // من الرمل //
(عنكُم في الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ... ورُوَيداً يَفْضَح الليل النهار)

(1/54)


ومن ذلك قولهم: أَعْمَدُ من سيِّدٍ قَتَله قومُه.
أي هل زاد على هذا فهذا من مُشْكِلِ الكلام الذي لم يُفَسَّر بعدُ وقال ابن ميادة // من الطويل //
(وأعْمَدُ من قومٍ كَفَاهم أخُوهُمُ ... صِدامَ الأَعادي حين فُلَّتْ نُيوبُها)
قال الخليل وغيره: معناه: هل زدنا على أن كفَيْنا إخواننا.
وقال ابو ذؤيب: // من الكامل //
(صَخِبُ الشَّوَارِبِ لا يزالُ كأنَّه ... عبدٌ لآلِ أبي رَبيعةَ مُسْبَعُ)
فقوله (مسبع) ما فُسِّر حتى الآنَ تَفْسيراً شافيا.
ومن هذا الباب قولهم: يا عِيد مالَك ويا هَيْء مالك وياشيء مالك.

(1/55)


ولم يُفَسِّروا قولهم: صَهْ.
وَوَيْهَك.
وإنيهْ.
ولا قول القائل: // من الطويل //
(بخائي بِكَ الحَقْ يَهْتِفون وحَيَّ هَلْ)
ويقولون: خاءِ بكما وخَاء بكم.
فأما الزَّجْرُ والدُّعاءُ الذي لا يُفهَمُ موضوعُه فكثيرٌ كقولهم: حيَّ وحيَّ هَلا وبعَيْنٍ ما أَرَيَنَّك في مَوْضعِ اعْجل. وهَجْ وهَجَا ودَعْ وَدَعاً ولَعاً للعاثر يدعون له.
ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقولوادعدع: ولا لَعْلَعْ ولكن قولوا اللهمَّ ارْفَع وَانْفَعْ) فلولا أن للكلمتين معنى مفهوما عند القومِ ما كَرِههما صلى الله عليه وسلم

(1/56)


وقولهم في الزَّجْرِ: أخِّرْ وَأَخِّرِي وهَأْهَأْ وهَلاَ وهَابْ وَأَرْحِبْ وَأرْحِبي وَعَدْعَدْ وعاجِ وياعاطِ وِيَعَاطِ وإجِدْ واجْدَمْ وجِدِحْ لا نعلم أحدا فسَّر هذا.
وهو باب يكثرُ ويُصَحِّحُ ما قلناه.
ومن المشتَبَه الذي لا يقالُ فيه اليومَ إلا بالتقريب والاحتمال وما هو بغريب اللفظ لكنَّ الوقوف على كُنهه مُعتَاصٌ قولنا: الحِين والزمانُ والدهرُ والأوَان وبضع سنين والغِنَى والفَقْر والشريف والكريم واللئيم والسّفِيه والسِّفْلة وما أشبه ذلك مما يطول ولا وجه فيه غير التقريب والاحتمال وإلا فإن تحديدَه حتى لا يجوزَ غيرُه بعيد.
وقد كان لذلك كلِّه ناس يعرفونه وكذلك يعلمون معنى ما نَسْتَغْرِبه اليوم نحن من قولنا عُبْسور في الناقة وعَيْسَجُور وامرأة ضِناك وفرس أشقُّ أمَقُّ

(1/57)


خِبَقُّ ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرَّسمُ الذي نراه.
قال: وعلماء هذه الشريعة وإن كانوا اقتصروا من علم هذا على معرفة رَسْمِه دون عِلْم حقائقه فقد اعتاضوا عنه دَقيقَ الكلام في أصول الدِّين وفروعه من الفقه والفرائض ومن دقيق النحو وجليله ومن عِلْم العَرُوض الذي يُربأْ بحُسْنِه ودقَّته واستقامته على كل ما تبجَّح به الناسبون أنفسهم إلى الفلسفة ولكل زمانٍ علم وأشرف العلوم علوم زماننا هذا ولله الحمد.
هذا كلُّه كلام ابن فارس.
(أبنية الكلام)

- المسألة الخامسة عشرة - في عدة أبنية الكلام:
قال ابنُ دُرَيْدٍ في الجمهرة:
إذا أردت أن تُؤَلِّف بناء ثُنائيّاً أو ثلاثيا أو رُباعيّاً أو خُماسيّاً فخذْ من كل جنس من أجناس الحروف المتباعدة ثم أَدِرْ دَارَةً فوقع ثلاثة أحرف حَواليها ثم فُكَّها من عند كل حرفٍ يمنة ويسرة حتى تُفَكّ الأحرفُ الثلاثة فيخرج من الثلاثي ستة أبنية وتسعة أبنية ثنائية - وهذه الصورة:
فإذا فعلت ذلك استقصيتَ من كلام العرب ما تكلَّموا به وما رغبوا عنه.
قال: وأنا مفسر لك ما يرتفع من الأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية إن شاء الله تعالى بضَرْبٍ من الحِساب واضح.
فإذا أردت أن تستقصي من كلام العرب ما كان على حرفين مما تكلَّموا به او رغبوا عنه مما يَأتَلف أو لا يأتلف مثل: كم وقد وعن وأخواتها فانظر إلى الحروف المعجمة وهي ثمانيةٌ وعشرون حرفا فاضْرب بعضها في بعض تبلغ سبعمائة وأربعة وثمانين حَرْفاً ولا يكون الحرف الواحد كلمة.
فإذا أزوجتهن حرفين حرفين صِرْن ثلاثمائة واثنتين وتسعين (392) بناء

(1/58)


مثل دم وما اشبهه فإذا قَلَبْتَهُ عاد إلى سبعمائة وأربعة وثمانين (784) بناء منها ثمانية وعشرون (بناء) مشتبهة الحرفين مثل هه قلْبُه وغير قَلبه (لفظٌ) واحد.
ومنها ستمائة (600) بناء صحيحة ثنائية لا واو فيها ولا ياء ولا همزة يجمعها ثلاثمائة قبل القلب ومنها مائة وخمسون (750) بناء ثنائية ممزوجة بهذه الأحرف الثلاثة (المعتلة) : الياء والواو والهمزة ويجمعها خمسة وسبعون بناء ثنائيا قبل القلب ومنها ستة (756) أبنية معتلة يَجْمَعُها ثلاثة أبنية قبل القلْب ومنها ثلاثة (759) أبنية مضاعفة وخمسة وعشرون (784) بناء ثنائيا صحاحا مضاعفة فافهم فقد بيَّنت لك عِدّة ما يخرج من الثنائي مما تكلَّموا به ورغبوا عنه.
وإذا أردت أن تؤلف الثلاثي فاضرب ثلاثة أحرف معتَلات في التسعة الثنائية المعتلة فتصير سبعة وعشرين بناء ثلاثية معتلات كلها.
وتضرب الثلاثة المعتلات أيضا في مائة وخمسين بناء ثنائيا حرف منها صحيح وحرف منها معتل فتصير أربعمائة وخمسين بناء ثلاثيا حرفان منها معتلاَّن وحرف صحيح وتضرب الثلاثة المعتلات في ستمائة بناء صحيحة الحرفين فتصير ألفا وثمانمائة (1800) بناء ثلاثي حرفان منها صحيحان وحرف معتل وتضرب خمسة وعشرين (حرفا صحيحا) في ستمائة بناء ثنائي صحاح الحروف فتصير خمسة عشر ألفا وستمائة و (خمسة) وعشرين (15625) ثلاثيا فهذا أكثرُ ما يخرج من البناء الثلاثي.
فإذا أردت أن تؤلِّف الرباعي فعلى القياس تضرب الثلاث المعتلات في سبعة وعشرين بناء ثلاثيا ثم تضرب في أربعمائة وخمسين ثم في الألف والثمانمائة ثم تضرب الخمسة والعشرين الصحاح في الخمسة عشر ألف بناء ثلاثي صحاح الحروف فما بَلَغ فهو عدد الأبنية الرباعية وكذلك سبيل الخماسي الصحيح فأما السداسي فلا يكون إلا بالزوائد.
انتهى.
وذكر حمزة الأصبهاني في كتاب الموازنة فيما نقله عنه المؤرخون قال ذَكَر الخليل في كتاب (العَيْن) أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المُسْتَعمَل والمهمل على

(1/59)


مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار اثنا عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثنا عشر: (12305412) الثنائي سَبعِمائة وستة وخمسون (756) والثلاثي تسعة آلاف ألف وستمائة وخمسون (9000650) والرباعي أربعمائة مائة ألف وواحد وتسعون ألفا وأربعمائة (491400) والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفا وسِتمائة (11793600) .
وقال أبو بكر محمد بن حسن الزَّبَيدي في مختصر كتاب العَين: عدّةُ مُسْتَعْمَلِ الكلام كلِّه ومُهمَلِه ستةُ آلاف ألف وسِتِّمائة ألف وتسعةٌ وخمسون ألفا وأربعمائة (6659400) المستعملُ منها خمسةُ آلاف وسِتمائة وعشرون (5620) والمهملُ ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون ألفا وسبعمائة وثمانون (6653780) عِدَّةُ الصحيح منه ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وخمسون ألفا وأربعمائة (6653400) والمعتلَّ ستة آلاف (6000) .
المستعملُ من الصحيح ثلاثة آلاف وتسعمائة وأربعة وأربعون (3944) والمهملُ منه ستة آلاف ألف وتسعة وثمانون ألفا وأربعمائة وستة وخمسون (6089456) المستعمل من المعتل ألف وستمائة وستة وسبعون (1676) .
والمهملُ منه أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرون (4324) عدة الثنائي سبعمائة وخمسون (750) والمستعملُ منه أربعمائة وتسعة وثمانون (489) والمهملُ مائتان وواحد وستون (261) .
الصحيح منه ستمائة والمعتل مائة وخمسون (150) .
المستعمل من الصحيح أربعمائة وثلاثة (403) .
والمهمل مائة وسبعة وتسعون (197) والمستعمل من المعتل ستة وثمانون (86) .
والمهملُ أربعة وستون (64) وعدة الثلاثي تسعة عشر ألفا وستمائة وخمسون (19650) المستعمل منه أربعة آلاف ومائتان وتسعة وستون

(1/60)


(4269) .
والمهملُ خمسة عشر ألفا وثلاثمائة وواحد وثمانون (15381) .
الصحيح منه ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة (13800) والمعتلُّ سوى اللفيف خمسة آلاف وأربعمائة (5400) واللَّفيفُ أربعمائة وخمسون (450) .
المستعمل من الصحيح ألفان وستمائة وتسعة وسبعون (2679) والمهملُ أحد عشر ألفا ومائة وواحد وعشرون (11121) .
والمستعملُ من المعتل سوى اللفيف ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثون (1434) والمهملُ ثلاثة آلاف وتسعمائة وستة وستون (3966) .
والمستعملُ من اللفيف مائة وستة وخمسون (156) والمهملُ مائتان وأربعة وتسعون (294) .
وعدة الرباعي ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وأربعمائة (303400) المستعمل ثمانمائة وعشرون (820) والمهمل ثلاثمائة ألف وألفان وخمسمائة وثمانون (302580) .
وعدَّة الخماسي ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفا وستمائة (6375600) المستعل منه اثنان وأربعون (42) والمهملُ ستة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة وسبعون ألفا وخمسمائة وثمانية وخمسون (6375558) .
قال الزَّبيدي وهذا العددُ من الرباعي والخماسي على الخمسة والعشرين حرفا من حروف المعجم خاصة دون الهمزة وغيرها وعلى ألا يتكرر في الرباعي والخماسي حرف من نَفْس الكلمة.
قال وعدة الثنائي الخفيف والضربين من المضاعف على نحو ما ألحقناه في الكتاب: ألفا حرف ومائتان حرف وخمسة وسبعون حرفا المستعملُ من ذلك ألف حرف وثمانمائة وخمسة وعشرون والمعتل أربعمائة وخمسون المستعملُ من الصحيح تسعة وخمسون والمهمل ألف وسبعمائة وستة وستون والمستعملُ من المعتل ثلاثة وأربعون والمهمل أربعمائة وسبعة.
(بداية التصنيف في اللغة)

- المسألة السادسة عشر: أولُ مَنْ صَنَّف في جَمْع اللُّغَةِ الخليلُ بن أحمد ألف في ذلك كتابَ العَين المشهور قال الإمام فخر الدين في المحصول: أصل

(1/61)


الكُتب المصنَّفَة في اللغة كتابُ العين وقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه.
وقال السِّيرافِي في طبقات النحاة - في ترجمة الخليل: عملَ أوَّل كتاب العين المعروف المشهور الذي به يتهيأ ضبطُ اللغة وهذه العبارةُ من السِّيرافي صريحةٌ في أن الخليلَ لم يُكَمِّلْ كتابَ العين وهو الظَّاهرُ لما سيأتي من نَقْل كلام الناس في الطَّعْن فيه بل أكثرُ الناس أنْكَرُوا كونَه من تصنيف الخليل.
قال بعضهم: ليس كتابُ العين للخليل وإنما هو لِلَّيث بن نَصْر بن سيار الخُرَاساني.
وقال الأزهري: كان الليثُ رجلا صالحا عمِل كتاب العين ونسبَه إلى الخليل لينفق كتابه باسمه ويرغب فيه.
وقال بعضهم: عَمِلَ الخليلُ من كتاب العين قطعة من أوَّله إلى حرف الغين وكَمَّله الليث ولهذا لا يُشْبِهُ أولَه آخرُه.
وقال ابن المعتز: كان الخليلُ منقطعا إلى اللَّيْث فلما صنَّف كتابه العين خصَّه به فحظِيَ عنده جدا ووقع منه مَوْقِعاً عظيما ووهَبَ له مائة ألف وأقبل على حِفْظِه ومُلاَزَمَتِهِ فحفظ منه النصف واتَّفَق أنه اشترى جارية نفيسة فَغَارَت ابنةُ عمه وقالت: والله لأغيظنَّه وإن غِظْتُه في المال لا يُبَالي ولكني أراهُ مُكِبّاً ليلَه ونهارَه على هذا الكتاب والله لأفجَعَّنه به فأحْرَقتْهُ.
فلما عَلِمَ اشتدَّ أسفُه ولم يكن عند غيرِه منه نسخةٌ.
وكان الخليلُ قد مات فأمْلَى النِّصْفَ من حِفْظه وجمع علماءَ عصره وأمرهم أن يُكَمِّلُوه على نَمَطه وقال لهم: مَثِّلوا واجتهدوا فعملوا هذا التَّصْنيف الذي بأيْدِي الناس.
أَوْرَدَ ذلك ياقوت الحموي في مُعجم الأُدباء.
وقال أبو الطيِّب عبد الواحد بن علي اللغوي في كتاب مراتب النحويين: أبْدَعَ الخليلُ بَدائع لم يسبق إليها فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في كتابه المُسمَّى كتابَ العين فإنه هو الذي رتَّب أبوابه وتوفِّيَ من قبل أن يحشوه.
أخبرنا محمد بن يحيى قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعْلَبَ يقول: إنما وقع

(1/62)


الغلط في كتاب العين لأن الخليل رسمه ولم يَحْشه ولو كان هو حَشاه ما بقيَ فيه شيءٌ لأَن الخليل رجلٌ لم يُرَ مثلُه وقد حشا الكتاب أيضا قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤخذ منهم رواية وإنما وُجد بنقل الورَّاقين فاختلَّ الكتابُ لهذه الجهة.
وقال محمد بن عبد الواحد الزاهد: قال حدَّثني فتى قَدِمَ علينا من خُراسان وكان يقرأ عليَّ كتاب العين قال أخبرني أبي عن إسحاق بن راهَويْه قال: كان الليثُ صاحبُ الخليل بن أحمد رجلا صالحا وكان الخليلُ عَمِل من كتاب العين باب العين وحدَه وأحبَّ الليثُ أن يَنْفُق سوقُ الخليل فصنَّف باقي الكتاب وسمَّى نفسه الخليل وقال لي مرة أخرى: فسمَّى لسانه الخليل من حبِّه للخليل بن أحمد.
فهو إذا قالَ في الكتاب: قال الخليل بن أحمد: فهو الخليل.
وإذا قال: وقال الخليلُ مطلقا فهو يحكي عن نفسه فكلُّ ما في الكتاب من خَلل فإنه منه لا من الخليل.
انتهى.
وقال النووي في تحرير التنبيه: كتابُ العين المنسوبُ إلى الخليل إنما هو من جَمْع اللّيثِ عن الخليل.
ذِكْرُ قَدْحِ الناس في كتاب العين

تقدَّمَ في كلام الإمام فخر الدين أنَّ الجمهورَ من أهل اللغة أَطْبَقُوا على القَدْح فيه وتقدَّم كلامُ ابن فارس في ذلك في المسألة الرابعة عشرة.
وقال ابنُ جني في الخصائص: أما كتاب العين ففيه من التخليط والخلل والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل فَضْلاً عن نفسه ولا محالة أن هذا التَّخْليط لَحِق هذا الكتابَ من قِبَل غيره فإن كان للخليل فيه عَمَلٌ فلعلَّه أوْمَأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء ولم يَلِه بنفسه ولا قرَّره ولا حرَّره ويدلُّ على أنه كان نحَا نحْوَه أنني أجدُ فيه معاني غامضة ونَزَوَات للفكر لطيفة وصيغة في بعض الأحوال مستحكمة وذاكرتُ به يوما أبا علي فرأيتُه مُنْكِراً له فقلت له: إن تصنيفَه مُنْساق متوجه وليس فيه التعسُّف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنَّف إنسان لغة بالتركية تصنيفا جيدا يؤخذ به في العربية أو كلاما هذا نحوه.
انتهى.

(1/63)


وقال أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي اللغوي مؤلف مختصر العين في أول كتابه - اسْتِدْرَاكُ الغَلَطِ الواقع في كتاب العَين - وهو مجلَّد لطيف يخاطب بعضَ إخوانه:
وصل إلينا أَيَّدَكَ الله كتابَك تذكُرُ فيه ما أُولع به قومٌ من ضَعَفَة أهل النَّظر من التحامل علينا والتسرع بالقول فينا بما نسبُوه إلينا من الاعتراض على الخليل بن أحمد في كتابه والتَّخْطِئَة له في كثير من فُضُوله وقلت إنهم قد استمالوا جماعة من الحشوية إلى مذهبهم وعَدَلوا بهم إلى مقالتهم بما لبسوا به وشنَّعوا القول فيه وسألتَ أن أَحْسم ما نَجَم من إفْكِهِم وأرد ما نَدَر من غَرْبِ ألسنتهم ببيانٍ من القول مُفْصِح واحتجاج من النظر مُوضح.
وقد كنتَ - أَيَّدَك الله في صحَّة تمييزك وعظيم النعمة عليك - في نظرك جديرا ألا تُعرِّج على قوم هم بالحال التي ذَكرتَ وأن يقعَ لهم العذرُ لديك بوجوه جَمَّة منها: تخلفهم في النظر وقلةُ مطالعتهم للكتب وجهلُهم بحُدُودِ الأدب مع أن العلَّة المُوجبة لمقالتهم والباعثةَ لتسرُّعِهم علةُ الحسد الذي لا يُدَاوى سَقَمه ولا يُؤْسَى جرحه فقد قال الحكيم: // من البسيط //
(كلُّ العَداوات قد تُرجى إفاقتها ... إلاَّ عداوةَ مَنْ عاداك من حَسدِ) .
أوليسَ من العجب العجيب والنادِر الغريب أن يَتوهَّم علينا مَنْ به مُسْكَة من نظَرٍ: أو رمَق من فَهْم تخطئةَ الخليل في شيءٍ من نظرِه والاعتراضَ عليه فيما دقَّ او جل من مذهبه والخليلُ بنُ أحمد أَوْحَدُ العصر وقريعُ الدهر وجهبذ الأمة وأستاذ أهل الفطنة والذي لم يُرَ نظيرُه ولا عُرِف في الدنيا عديلُه وهو الذي بَسط النحوَ ومَدَّ أطنابَه وسبَّب عِلَلَه وفَتَقَ معانية وأوضحَ الحِجاج فيه حتى بلغ أَقْصى حدودِه وانتهى إلى أبعدِ غاياته ثم لم يرضَ أن يؤلِّفَ فيه حرفا أو يَرْسُمَ منه رَسْماً نَزَاهَةً بنفسه وتَرَفُّعاً بقَدْرِه إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه فَكَرِهَ أن يكونَ لمن تقدمه تاليا وعلى نظَرِ مَن سَبَقهُ مُحْتَذِياً واكتفى في ذلك بما أَوْحَى إلى سيبويه من عِلْمِه ولقَّنه من دقائقِ نَظره ونتائج فِكره ولطائفَ حكمته فحَمل سيبويه ذلك عنه وتقلده وألفَّ فيه الكتاب الذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه كما امتنع على مَنْ تأخَّرَ بعده.
ثم ألَّف على مذهب الاخْتراع وسبيل الإبداعِ كتابي الفرش

(1/64)


والمثال في العَروض فحصرَ بذلك جميعَ أوزانِ الشعر وضمَّ كلَّ شيءٍ منه إلى حيِّزه وأَلْحَقَه بشَكْله وأقام ذلك عن دوائرَ أَعْجَزَتِ الأذهان وبَهَرَتِ الفِطَن وغمرتِ الألباب وكذلك ألَّف كتاب المُوسيقى فَزَمَّ فيه أصناف النَّغَم وحََصَر به أنواع اللحون وحدَّد ذلك كله ولخصه وذكر مَبَالغ أقسامه ونهاياتِ أعداده فصار الكتابُ عِبرةً للمُعتبرين وآية للمتوسِّمين.
ولما صنعَ إسحاق بن إبراهيم كتابَه في النَّغم واللحون عَرضه على إبراهيم بن المهدي فقال له: لقد أحسنت يا أبا محمد وكثيرا ما تحسنفقال إسحاق: بل أحسنَ الخليلُ لأَنه جعلَ السبيلَ إلى الإحسان.
فقال إبراهيم: ما احسن هذا الكلامفممن أخَذْتَهُ قال: من ابن مُقْبِل إذ سمع حمامة فاهتاج فقال: // من الطويل //
(ولو قَبْلَ مَبْكاها بكيتُ صبابة ... إذا لشَفيت النفسَ قبل التندُّم)
(ولكن بكَتْ قبلي فهاج ليَ البُكا ... بُكاها فقلت: الفضلُ للمتقدِّم)
ثم ذهب بعد - في حَصْر جمع الكلام - مذهبَهُ من الإحاطة التي لم يتعاطاها غيرُه ولا تعرضها أحدٌ سواه فثقَّف الكلام وزمَّ جميعه وبين قيامَ الأبنية من حروف المُعْجم وتعاقب الحروف لها بنظَرٍ لم يُتَقَدَّم فيه وإبْداعٍ لم يُسْبَق إليه ورَسَمَ في ذلك رُسُوماً أكملَ قياسها وأعطى الفائدةَ بها فكان هذا قدرَه في العِلم ومبلغَه من النفاذ والفَهْم حتى قال بعضُ أهل العلم: إنه لا يجوزُ على الصِّراط بعد الأنبياءِ عليهم السلام أحدٌ أدقُّ ذِهْناً من الخليل ولو أن الطاعنَ علينا يتصفّحُ صَدْر كتابُنا (المختصر من كتاب العين) لَعَلِمَ أنَّا نَزَّهْنا الخليل عن نِسْبَة المُحال إليه ونَفَيْنا عنه من القَوْل ما لا يليقُ به ولم نَعْدُ في ذلك ما كان عليه أهلُ العلم وحذَّاق أهل النظر.
وذلك أنَّا قلنا في صَدْر الكتاب: ونحن نَرْبأُ بالخليل عن نِسْبَة الخَلَل إليه أو التعرض للمقاومة له بل نقول: إن الكتاب لا يصح له ولا يثبتُ عنه وأكثرُ الظن فيه أن الخليل سَبَّب أصله وثقَّف كلام العرب ثم هلَك قبل كَماله فتعاطى إتمامَه من لا يقومُ في ذلك مقامه فكان ذلك سببَ الخَللِ الواقع فيه والخطأِ الموجود فيه

(1/65)


هذا لفظُنا نصا وقد وافقْنا بذلك مقالةَ أبي العباس أحمد بن يحيى ثَعْلب قبل أن نُطالِعَها أو نسمعَ بها حتى ألفيناها بخط الصولي في ذكر فضائل الخليل.
قال الصولي: سمعتُ أبا العباس ثعلبا يقول: إنما وقع الغلط في كتاب العين لأن الخليل رسَمهُ ولم يحشه ولو أن الخليل هو حشاه ما بقى فيه شيئا لأن الخليلَ رجلٌ لم يُرَ مثلُه.
قال: وقد حَشَا الكتاب قومٌ علماء إلا أنه لم يُؤْخذ عنهم رواية إنما وُجد بنقل الورَّاقين فلذلك اختلَّ الكتاب.
ومن الدليل على ما ذكره أبو العباس من زيادات الناس فيه اختلافُ نُسَخِه واضطرابُ رواياته إلى ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخِّرِين والاستشهاد بالمرذول من اشعار المُحْدَثين فهذا كتابُ ابنُ مُنذر بن سعيد القاضي الذي كتبه بالقَيْروَان وقابلَه بمصر بكتابِ ابن وَلاّد وكتابُ ابن ثابت المُنتسَخ بمكة قد طالعناهما فألفينا في كثير من أبوابهما: أخبرنا المسعري عن أبي عُبيد وفي بعضها: قال ابنُ الأعرابي وقال الأصمعي هل يجوزُ أن يكون الخليل يروي عن الأصمعي وابن الأعرابي أو ابي عُبيد فضلا عن المسعري وكيف يروي الخليلُ عن أبي عبيد وقد تُوفِّيَ الخليل سنة سبعين ومائة وفي بعض الروايات سنة خمس وسبعين ومائة وأبو عبيد يومئذ ابنُ ست عشرة سنة.
وعلى الرواية الأخرى ابن إحدى وعشرين لأنَّ مَوْلد أبي عبيد سنة أربع وخمسين ومائة ووفاتَه سنة أربع وعشرين ومائتين ولا يجوز أن يُسْمَع عن المسعري عِلُم أبي عُبيد إلا بعد مَوْتِه وكذلك كان سماعُ الخُشَني منه سنة سبع وأربعين ومائتين فكيف يُسْمَع الموتى في حالِ مَوْتهم أو يَنْقُلُون عمن وُلِد مِن بعدهم.
وحدثنا إسماعيل بن القاسم البغدادي - وهو أبو علي القالي - قال لما وَرَدَ كتابُ العَين من بلد خُراسان في زمن أبي حاتم أنكره أبو حاتم وأصحابه أشد الإنكار ودفعَهُ بأبْلَغِ الدَّفع وكيف لا ينكِرُهُ أبو حاتم على أن يكون بريئا من الخَلَل سليما من الزَّلل وقد غَبر أصحابُ الخليل بعدُ مدة طويلة لا يعرفون هذا الكتابَ ولا يَسمعون به منهم النَّضر بن شُميل ومُؤَرِّج ونصر بن علي وأبو الحسن

(1/66)


الأخفش وأمثالهم ولو أن الخليل ألَّف الكتاب لَحَمَله هؤلاءِ عنه وكانوا أَوْلَى بذلك من رجلٍ مجهول الحال غير مشهور في العلم انفرَدَ به وتوحَّدَ بالنقل له.
ثم دَرَجَ أصحابُ الخليل فتوفي النضر بن شُمَيل سنة ثلاث ومائتين والأخفش سنة خمس عشرة ومائتين ومؤَرّج سنة خمس وتسعين ومضت بعدُ مدة طويلة ثم ظهر الكتابُ بأخَرَةٍ في زمان أبي حاتم وفي حال رياسته وذلك فيما قارب الخمسين والمائتين لأن أبا حاتم تُوُفِّي سنة خمس وخمسين ومائتين فلم يلتفت أحدٌ من العلماءِ إليه يومئذ ولا استجازوا روايةَ حرفٍ منه ولو صحَّ الكتابُ عن الخليل لبَدر الأصمعي واليَزِيديّ وابنُ الأعرابي وأشباههم إلى تزيين كتبهم وتحليته علمهم بالحكاية عن الخليل والنَّقْلِ لِعِلْمِه وكذلك مَنْ بعدهم كأبي حاتم وأبي عُبيد ويعقوب وغيرهم من المصنفين فما عَلِمنا أحدا منهم نَقَلَ في كتابه عن الخليل من اللغة حَرْفاً.
ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أن جميعَ ما وَقَع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين وبخلاف مذهب البصريين فمن ذلك ما بدىء الكتابُ به وبُني عليه من ذكر مَخارج الحروف في تقديمها وتأخيرها وهو على خلاف ما ذكره سيبويه عن الخليل في كتابه وسيبويه حاملٌ علمَ الخليل وأوْثَقُ الناس في الحكاية عنه ولم يكن لِيَخْتَلِف قولُه ولا لِيتناقَض مذهبُه ولسنا نريدُ تقديم حرفِ العين خاصة للوَجْه الذي اعتلَّ به ولكن تقديمَ غير ذلك من الحروف وتأخيرها.
وكذلك ما مضى عليه الكتابُ كلُّه من إدْخال الرُّباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف وهو مذهبُ الكوفيين خاصة.
وعلى ذلك استمرَّ الكتابُ من أوله إلى آخره.
إلى ما سنذكره من نحو هذا.
ولو أن الكتاب للخليل لما أَعْجَزَه ولا أشْكل عليه تثقيفُ الثنائي الخفيف من الصحيح والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعِلّتين ولما جعل ذلك كله في باب سمَّاه: (اللفيف) فأدْخَلَ بعضَه في بعض وخَلَط فيه خَلْطاً لا ينفصلُ منه شيءٌ عما هو بخلافه ولوَضع الثُّلاثي المعتل على أقسامه الثلاثة لِيسْتَبينَ معتلُّ الياءِ من معتل الواو والهمزة ولما خلَط الرباعي والخماسي من أولهما إلى آخرهما.

(1/67)


ونحن على قَدْرنا قد هذَّبْنا جميعَ ذلك في كتابنا المختصَر منه وجَعَلْنا لكلِّ شيءٍ منه بابا يحصُره وعددا يجمعه.
وكان الخليلُ أَوْلَى بذلك وأَجْدَر ولم نحْكِ فيه عن الخليل حَرْفاً ولا نَسَبْنا ما وقع في الكتاب عنه توخِّياً للحق وقصْداً إلى الصدق وأنا ذَاكِرٌ الآنَ من الخطأ الواقع في كتاب العَيْن ما لا يذهب على َمنْ شَدَا شيئا من النَّحو أو طالَع بابا من الاشتقاق والتصريف ليقومَ لنا العُذْر فيما نَزَّهْنا الخليل عنه.
انتهى كلام الزَّبيدي في صَدْر كتاب الاستدراك.
قلت: وقد طالعتُه إلى آخره فرأيت وجه التخطئة فيما خطىء فيه غالبُه من جهة التصريف والاشتقاق كَذِكْرِ حرفٍ مَزِيدٍ في مادة أصلية أو مادةٍ ثُلاثية في مادة رُباعية ونحو ذلك وبعضُه ادعى فيه التصحيف وأما أنه يُخَطأ في لفظة من حيث اللغة بأن يقال: هذه اللفظة كذبٌ أو لا تُعرف فمعاذَ الله لم يقع ذلك.
وحينئذ لا قَدْح في كتاب العين لأن الأولَ الإنكارُ فيه راجعٌ إلى الترتيب والوضْع في التأليف وهذا أمْرٌ هَيّن لأنَّ حاصله أن يقال: الأَوْلَى نقلُ هذه اللفظة من هذا الباب وإيرادُها في هذا الباب.
وهذا أمرٌ سَهلٌ وإن كان مقامُ الخليل يُنزَّه عن ارتكاب مثل ذلك إلاَّ أنه لا يمنعُ الوثوقَ بالكتاب والاعتمادَ عليه في نقل اللغة.
والثاني إن سُلِّم فيه ما ادعى من التصحيف يقال فيه ما قالته الأئمة: ومَنْ ذا الذي سَلِمَ من التصحيف كما سيأتي في النوع الثالث والأربعين مع أنه قليل جدا وحينئذ يزول الإشكال الذي يأتي نَقْله عن الإمام فخر الدين في النوع الثالث.
فائدة - ممن ألَّف أيضا الاستدراك على العين أبو طالب المُفَضَّل بن سَلَمَة بن عاصم الكُوفيّ من تلامذة ثعلب قال أبو الطيب اللغوي: ردَّ أشياء من كتاب العين للخليل أكثرُها غيرُ مَردود وأبو طالب هذا متقدِّم الوفاة على الزَّبيدي.
فائدة - قال ابو الحسن الشَّاري في فهرسته: كان شيخُنا أبو ذر يقول: المختصرات التي فُضِّلَت على الأمَّهات أربعة: مختصر العين للزَّبيدي ومختصر

(1/68)


الزَّاهر للزَّجاجي ومختصر سيرة ابن إسحاق لابن هِشام ومختصر الواضحة للفضل بن سلمة. قال الشاري: وقد لهج الناسُ كثيرا بمختصر العين للزَّبيدي فاستعملوه وفضَّلوه على كتاب العَين لكونه حَذَف ما أورده مؤلِّفُ كتاب العَيْن من الشواهد المختلقة والحروف المصحفة والأبنية المختلة وفضَّلوه أيضا على سائر ما أُلِّف على حروف المعجم من كتب اللغة مثل جمهرة ابن دريد وكتب كُراع لأجل صِغَر حجمه وأَلْحَق به بعضُهم ما زاده أبو علي البغدادي في (البارع) على كتاب العين فكَثُرَت الفائدة.
قال: ومَذْهبي ومذهب شيخي أبي ذر الخُشَني وأبي الحسن بن خَرُوف أن الزَّبيدي أخلَّ بكتاب العَين كثيرا لِحَذْفه شواهدَ القرآن والحديث وصحيحَ أشعار العرب منه. ولما عَلِمَ ذلك من مُخْتَصَر العين الإمام أبو غالب تَمّام بن غالب المعروف بابن التَّيَّاني عمل كتابه العظيم الفائدة الذي سمَّاه بفَتْح العين واتى فيه بما في العَيْن من صحيح اللغة الذي لا اختِلاف فيه على وجهه دون إخْلالٍ بشيء من شواهد القرآن والحديث وصحيحِ أشعار العرب وطرَح ما فيه من الشواهد المختلقة والحروف المُصَحَّفة والأبنية المختلة ثم زاد فيه ما زاده ابنُ دُريد في الجمهرة فصار هذا الديوانُ محتويا على الكتابين جميعا وكانت الفائدةُ فيه فَصْلَ كتاب العين من الجمهرة وسِياقه بلفظه لِينْسب ما يحكى منه إلى الخليل إلا أن هذا الديوان قليلُ الوجود لم يعرج الناسُ على نَسْخه بل مالوا إلى جمهرة ابن دريد ومُحكم ابن سيده وجامع ابن القَزَّاز وصِحَاح الجوهري ومُجْمَل ابن فارس وأفعال ابن القُوطيّة وابن طريف ولم يعرجوا أيضا على بارع أبي علي البغدادي ومُوعَبُ أبي غالب بن التَّيَّاني المذكور وهما من أصحِّ ما أُلِّف في اللغة على حروف المعجم والكتُب التي مالوا إلى الاعتناءِ بها قد تكلَّم العلماءُ فيها إلا أن الجمْهرة لابنِ دُريد أثنى عليه كثيرٌ من العلماءِ ويوجد منه النُّسَخُ الصحيحةُ المروِيَّة عن أكابر العلماء.
وقال بعضهم: إنه من أحسن الكتب المؤلَّفة على الحروف وأصحها لغة وقد آخذه أبو علي الفارسي النحوي وأبو علي البَغدادي القَالِي وأبو سعيد السِّيرافي النحوي وغيرهم من الأئمة.
وأما كتاب العَيْن المنسوب إلى الخليل فهو أصلٌ في معناه وهو الذي نهج

(1/69)


طريقةَ تأليف اللغة على الحروف وقديما اعتَنى به العلماء وقبِلَه الجهَابذة فكان المبرد يَرْفع مِن قدره ورواه أبو محمد بن دَرَسْتويه وله كتاب في الردِّ على المفضَّل ابن سلمة فيما نسبَه من الخلَل إليه ويكادُ لا يوجدُ لأبي إسحاق الزجاجي حكايةٌ في اللغة إلا منه وقد تكلَّم الناس فيه بما هو مشهور وأصحُّ كتابٍ وُضِعَ في اللغة على الحروف بارعُ أبي علي البغدادي ومُوعَب بن التَّيَّاني.
انتهى.
فائدة - ترتيب كتابُ العين ليس على التَّرتيب المعهود الآن في الحروف وقد أكْثرَ الأدباءُ من نَظْم الأبيات في بيان ترتيبه من ذلك قول أبي الفرج سلمة بن عبد الله المعَافِري الجزيري: // من البسيط //
(يا سائلي عن حروف العين دونكَهَا ... في رتبة ضمَّها وزنٌ وإحْصاء)
(العين والحاء ثم الهاءُ والخاء ... والغين والقاف ثم الكاف أكْفاءُ)
(والجيم والشين ثم الضادُ يتبعها ... صاد وسين وزاي بَعْدها طاء)
(والدال والتاء ثم الطاءُ متَّصِل ... بالظاءِ ذال وثاء بعدها راءُ)
(واللام والنون ثم الفاء والباء ... والميم والواو والمهموز والياء)
قال أبو طالب المفضَّل بن سَلَمة الكوفي: ذكر صاحبُ العين أنه بدأ كتابَه بحرف العين لأنها أَقْصى الحروف مَخْرجاً.
قال: والذي ذكره ِسيبَويْه أن الهمزةَ أَقْصى الحروف مخرجا.
قال: ولو قال بدأتُ بالعين لأنها أكثرُ في الكلام وأشدُّ اختلاطا بالحروف لكان أولى.
وقال ابن كَيْسان: سمعتُ مَنْ يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبْدَأْ بالهمزة لأنها يلحقها النقصُ والتغييرُ والحذفُ ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداءِ كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مُبْدَلَةً ولا بالهاءِ لأنها مهموسة خفيَّة لا صوتَ لها فنزلتُ إلى الحيِّز الثاني وفيه العين والحاء فوجَدْت العين أنْصَعَ الحرفين فابتدأت به ليكون أحسنَ في التأليف وليس العلْمُ بتقدم شيءٍ على شيء لأنه كلَّه مما يُحتاج إلى معرفته فبأي بدأت كان حَسناً وأولاها بالتقديم أكثرُها تصرُّفاً.
انتهى.
وقال أبو العباس أحمد بن ولاَّد في كتاب المقصور والممدود: لعلَّ بعضَ

(1/70)


مَنْ يقرأ كتابنا يُنْكِرُ ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم لأنها حرفٌ معتل ولأن الخليل تَرَك الابتداءَ به في كتاب العين لأنَّ كتاب العين لا يمكن طالب الحرفِ منه أن يَعلَمَ مَوْضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكونَ قد نظر في التصريف وعرفَ الزائد والأصلي والمعتلَّ والصحيح والثلاثي والرباعي والخماسي ومراتبَ الحروف من الحَلْق واللسان والشَّفَة وتصريفَ الكلمة على ما يمكنُ من وُجوهِ تصريفها في اللفظ على وجوه الحركات وإلحاقها ما تحمل من الزائد ومواضع الزوائد بعد تصريفها بلا زيادةٍ.
ويحتاجُ مع هذا إلى أن يعلمَ الطريقَ التي وصلَ الخليل منها إلى حَصْر كلام العرب فإذا عرفَ هذه الأشياءَ عرفَ مَوْضع ما يطلُبُ من كتاب العين.
قال: وكتابُنا قَصَدْنا فيه التقريب على طالب الحَرْفَ وأن يستويَ في العلم منه بموضعه العالِم والمتعلم.
انتهى.
تذنيب - قال تاج الدين أحمد بن مكتوم في تذكرته: سُئل بعضُهم لِم سمِّيَ كتابُ الجيم - تصنيف أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني - بهذا الاسم فقال لأن أوله حرف الجيم كما سمِّي كتاب العين لأن أولَه حرفُ العين.
قال فاستحسنَّا ذلك ثم وقفنا على نسخةٍ من كتاب الجيم فلم نجده مبدوءا بالجيم.
فائدة - روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي مُنذر بن سعيد عن أبي العباس أحمد بن محمد بن ولاد النحوي عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل.
فرع - ومِنْ مشاهير كُتب اللّغةِ التي نَسَجَت على مِنْوَال العين كتابُ (الجَمْهَرَة) لأبي بكر بن دُريد.
قال في خطبته: قد ألَّف (أبو عبد الرحمن) الخليلُ بنُ أحمد (الفَرْهُودِي رضوان الله عليه) كتابَ العين فأَتْعَبَ مَنْ تَصَدَّى لغَايته وعَنَّى من سَما إلى نهايته فالمُنْصِفُ له بالغَلب مُعْترف والمُعَاند متكلِّف وكلُّ مَنْ بَعْدَه له تَبَع أقرَّ بذلك أم جَحَد ولكنَّه رحمه الله - ألَّف كتابَه مُشاكِلاً لِثُقُوب فَهْمِه وذَكَاءِ فِطْنَتِه وحِدَّةِ أذهان أهل دَهْرِه.

(1/71)


وأمْلينا هذا الكتاب والنَّقْص في الناس فاشٍ والعَجْزُ لهم شامل إلا خصائص كَدَرَارِيِّ النُّجوم في أَطْرَافِ الأُفق فسهَّلنا وَعْرَه ووطَّأْنا شَأْزَه وأَجْرَيْنَاه على تأليف الحروف المُعْجمة إذ كانت بالقلوب أَعْلَق وفي الأَسْماع أَنْفَذ وكان عِلْمُ العامَّة بها كعلم الخاصة.
وسَمَّيْناه كتاب (الجمهرة) لأنا اخْتَرْنا له الجمهور من كلام العرب وأرجأنا الوحشي.
انتهى.
وقال ابنُ جنِّي في الخصائص: وأما كتابُ الجمهرة ففيه أيضا من اضْطِراب التَّصْنيف وفسادِ التَّصْريف مما أَعْذِرُ واضعَه فيه لبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر ولمَّا كتبتُه وقعتُ في مَتونه وحواشيه جميعا من التنبيه على هذه المواضع ما اسْتَحْيَيْت من كَثْرَته ثم إنه لما طال علي أوْمَأْتُ إلى بعضه وضربتُ البَتَّةَ عن بعضه.
قلت: مقصودُه الفسادُ من حيث ابنية التصريف وذكرُ المواد في غير محالها كما تقدم في العَيْن ولهذا قال: أعذر واضعَه فيه لِبُعْدِه عن معرفة هذا الأمر يعني أن ابنَ دُريد قصيرُ الباع في التصريف وإن كان طويلَ الباعِ في اللغة.
وكان ابنُ جني في التصريف إماما لا يشُقُّ غبارُه فلذا قال ذلك.
وقال الأزهري ممن ألَّف الكتبَ في زماننا فَرُمِي بافتعالِ العربيَّةِ وتوليد الألفاظ أبو بكر بن دُريد وقد سألتُ عنه إبراهيمَ بن عرفة - يعني - نِفْطَويه فلم يَعْبَأْ به ولم يوثقه في روايته.
قلت: معاذ اللههو بَريءٌ مما رُمِي به وَمَنْ طالَع الجمهرة رأي تحرِّيه في روايته وسَأَذْكرُ منها في هذا الكتاب ما يُعْرَفُ منه ذلك ولا يُقْبل فيه طعنُ نِفْطَويه لأنه كانَ بينهما مُنافرةٌ عظيمةٌ بحيث إنَّ ابنَ دُرَيد هجاه بقوله: // من السريع //
(لَوْ أُنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى نِفْطَويْه ... لكان ذاك الوَحْيُ سُخْطاً عَلََيه)
(وشَاعِرٍ يُدْعَى بِنصْفِ اسْمِه ... مُسْتَأْهلٌ للصَّفْعِ في أَخْدَعَيْه)
(أَحْرَقَهُ اللهُ بنِصفِ اسْمِه ... وَصَيَّرَ الباقي صُرَاخاً عَلَيْه)

(1/72)


وهجا هو ابن دريد بقوله: // من مجزوء الرجز //
(ابنُ دُرَيْدٍ بَقَرَه ... وفيه عِيّ وَشَرَه)
(وَيَدَّعِي مِنْ حُمْقِه ... وَضْعَ كِتَابِ الْجَمْهَرَه)
(وهو كتابُ الْعَيْن ... إلاَّ أَنَّهُ قدْ غَيَّرَه)
وقد تقرر في علم الحديث أنَّ كلامَ الأقرانِ في بعضهم لا يقدح.
وقال بعضهم: أمْلَى ابنُ دُرَيْد الجمهرَة في فارس ثم أَمْلاها بالبَصْرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلاَّ في الهَمزةِ واللفيف فلذلك تختلف النسخ والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد جَخْجَخْ لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.
قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللُّغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دُرَيد وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.
وقال بعضهم: كان لأبي علي القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال فأبى فاشتدَّت به الحاجةُ فباعها بأربعين مثقالا وكتبَ عليها هذه الأبيات: // من الطويل //
(أَنِسْتُ بها عشرين عاما وبعتُها ... وقد طال وَجْدِي بعدَها وحَنيني)
(وما كان ظنِّي أنني سأبيعها ... ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني)
(ولكن لِعَجْزٍ وافتقارٍ وصِبْيَة ... صغارٍ عليهم تستهل شؤوني)
(فقلت - ولم أملك سوابق عبرتي ... مقالة مكوى الفؤاد حَزين)
(وقد تُخْرِجُ الحاجاتُ - يا أم مالك - ... كرائم من ربٍّ بِهِنَّ ضَنِين)
قال: فأَرْسَلها الذي اشتراها وأرسل معها أربعين دينارا أُخْرى رحمهم الله.

(1/73)


وجدت هذه الحكاية مكتوبة بخط القاضي مجد الدين الفيروزابادي صاحبِ القاموس على ظَهْرِ نسخة من العُبَاب للصَّغَاني ونقلها من خَطِّه تلميذُه أبو حامد محمد بن الضياءِ الحنفي ونقلتُها من خطِّه.
وقد اختصر الجمهرةَ الصاحبُ إسماعيلُ بن عباد في كتاب اسماه (الجوهرة) .
وفي آخره يقول: // من الرجز //
(لما فَرَغْنا من نِظَامِ الجَوْهره ... أعورت العَيْن ومات الجَمْهَرَه)
(ووقف التَّصنيف عند القَنْطره)
وألَّفَ أتباعُ الخليل وأتباعُ أتباعه وهلم جَرًّا كُتُباً شتى في اللغة ما بين مُطَوَّلٍ ومختَصر وعامٍّ في أنْواع اللغة وخاصٍّ بنوع منها كالأجناس للأصمعي والنوادر واللُّغات لأبي زيد والنوادر للكسائي والنوادر واللغات للفرَّاءِ واللغات لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى والجيم والنوادر والغريب لأبي عَمْرو إسحاق بن مرار الشيباني والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام والنوادر لابن الأعرابي البارع للمفضل بن سلمة واليواقيت لأبي عمر الزاهد غلام ثعلب.
والمنضد لكُراع والتهذيب للأزهري والمُجْمَل لابن فارس وديوان الأدب للفارابي والمحيط للصحاب ابن عباد والجامع للقراز وغير ذلك مما لا يُحْصى حتى حُكِي عن الصاحب ابن عباد أن بعضَ الملوك أرسل إليه القدومَ عليه فقال له في الجواب: أحتاجُ إلى ستين جمَلاً أنقل عليها كتبَ اللغة التي عندي.
وقد ذهب جلُّ الكتب في الفِتَنِ الكائنة من التَّتار وغيرهم بحيث إن الكتبَ الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا تجيء حِمْل جملٍ واحدٍ وغالبُ هذه الكتب لم يََلتزم فيها مؤلفوها الصحيحَ بل جمعُوا فيها ما صحَّ وغيرَه وينبِّهون على ما لم يثبت غالبا.
وأولُ مِن التزمَ الصحيح مقتصرا عليه الإمامُ أبو نصر إسماعيل بن حماد الجَوْهَري ولهذا سمَّى كتابه بالصحاح وقال في خطبته: قد أوْدَعْتُ هذا الكتاب ما صحَّ عندي من هذه اللغة التي شرَّف الله منزلتَها وجعل عِلْم الدين والدينا مَنُوطاً بمعرفتها على ترتيبٍ لم أُسْبَق إليه وتهذيبٍ لم أُغلبْ عليه بعد تحصيلها بالعراق رواية وإتقانها دِراية ومُشافهتي بها العربَ العاربة في ديارهم بالبادية ولم آل في ذلك نُصْحاً ولا ادَّخَرتُ وسعا.

(1/74)


قال أبو زكريا الخطيب التِّبريزي اللغوي: يقال كتاب الصِّحاح بالكسر وهو المشهور وهو جمع صحيح كظريف وظراف ويقال: الصَّحاح بالفتح وهو مفرد نعت كصحيح.
وقد جاءَ فَعال بفتح الفاءِ لغة في فعيل كصحيح وصَحاح وشحيح وشَحاح وبريءٍ وبَراءٍ.
قال: وكتاب الصحاح هذا كتابٌ حسنُ الترتيب سَهلُ المطلبِ لِما يُراد منه وقد أتى بأشياءَ حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة إلا أنه مع ذلك فيه تصحيفٌ لا يُشَكُّ في أنه من المصنِّف لا من الناسخ لأنَّ الكِتاب مبنيٌّ على الحروف.
قال: ولا تخلو هذه الكتبُ الكِبار من سهو يقع فيها أو غلط.
غير أن القليل من الغَلط الذي يقع في الكُتب إلى جنبِ الكثير الذي اجتهدوا فيه وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه معفوٌّ عنه.
هذا كلام الخطيب أبي زكريا.
وقال أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي اللغوي في كتابه (يتيمة الدهر) في محاسن أهل العصر: كان الجوهريُّ من أعاجيبِ الزمان وهو إمام في اللغة وله كتاب الصحاح وفيه يقول أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري: // من المنسرح //
(هذا كتابُ الصِّحاح سيّدُ ما ... صُنِّف قبل الصحاح في الأدبِ)
(تَشْمَلُ أبوابهُ وَتَجْمَعُ ما ... فُرِّق في غيره من الكُتُبِ)
وقال ابنَ برِّي: الجوهري أَنْحَى اللغويين.
وقال ياقوت الحموي في معجم الأدباء: كتاب الصحاح هو الذي بأيْدي الناس اليوم وعليه اعتمادُهم أحْسنَ الجوهري تصنيفَه وجوَّدَ تأليفَه هذا مع تصحيف فيه في عدة مواضع تَتَبَّعَهَا عليه المحققون.
وقيل: إن سببه أنه لما صنَّفَهُ سُمِع عليه إلى باب الضاد المعجمة وعَرَضَ له وسْوَسَة فألْقى نفسه من سَطْحٍ فمات.
وبقي سائر الكتاب مسوَّدة غيرَ مُنَقَّح ولا مبيَّض فبيَّضَه تلميذُه إبراهيم بن صالح الورَّاق فَغَلِطَ فيه في مواضع وكان وفاة الجوهري في حدود الأربعمائة.

(1/75)


وقد ألَّف الإمام أبو محمد عبد الله بن برِّي الحواشيَ على الصِّحاح وصَلَ فيها إلى أثناء حرف الشين فأكملها الشيخ عبد الله بن محمد البسطي.
وألَّف الإمام رضي الدين الصَّغَاني التَّكْمِلَة على الصحاح ذَكَرَ فيها ما فاته من اللغة وهي أكبرُ حجما منه وكان في عَصْر صاحب الصَّحاح ابنُ فارس فالتزم أن يذكرَ في مُجْمَله الصحيح.
قال في أوله: قد ذَكرنا الواضحَ من كلام العرب والصحيحَ منه دون الوَحْشيّ المُسْتَنْكر ولم نألُ في اجتباءِ المشهور الدَّالِّ على غُرَر وتفسير حديث أو شعر والمقصودُ في كتابنا هذا من أوله إلى آخره التقريبُ والإبانةُ عما ائْتَلف من حروف العربية فكان كلاما وذِكْرُ ما صحَّ من ذلك سماعا أو من كتابٍ لا يشكُّ في صحَّةِ نَسَبه لأنَّ مَنْ عَلِم أن الله تعالى عند مَقَالِ كلِّ قائل فهو حَرِيٌّ بالتَّحَرُّج من تطويل المؤلَّفات وتكثيرها بمُسْتَنْكَرِ الأقاويل وشنيع الحكايات وبُنَيَّات الطُّرُق فقد كان يُقال: مَنْ تتبَّع غرائبَ الأحاديث كَذَب ونحن نعوذ بالله من ذلك.
وقال في آخر المجمل: قد توخَّيْتُ فيه الاختصارَ وآثرتُ فيه الإيجازَ واقتصرتُ على ما صحَّ عندي سماعا ومن كتابٍ صحيح النسب مشهورٍ ولولا توخِّي ما لم أشكك فيه من كلام العرب لَوَجَدْتُ مقالا.
وأعظمُ كتابٍ أُلِّفَ في اللغة بعد عَصْرِ الصحاح كتابُ المُحْكَم والمحيط الأعظم لأبي الحسن علي بن سِيدَه الأندلسي الضَّرير ثم كتابُ العُباب للرضي الصَّغاني ووصل فيه إلى فصل (بكم) حتى قال القائل: // من مجزوء الرجز //
(إن الصغاني الذي ... حاز العلوم والحكم)
(كان قُصَارى أَمْرِه ... أن انتهى إلى بكم)
ثم كتابُ القاموس للإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفَيْرُوزَابادي شيخ شيوخنا ولم يصل واحدٌ من هذه الثلاثة في كَثرَة التَّدَاول إلى ما وصل إليه الصحاح

(1/76)


ولا نقصت رتبةُ الصحاح ولا شُهْرَته بوجود هذه وذلك لالتزامه ما صحَّ فهو في كُتب اللغة نظيرُ صحيح البخاري في كُتب الحديث وليس المَدَارُ في الاعتماد على كَثَرة الجمع بل على شرْط الصحة.
قال صاحبُ القاموس في خُطْبته: وكنتُ بُرْهَةً من الدَّهْر ألتمس كتابا جامعا (صحيحا) بسيطا ومصنفا على الفصح والشوادر مُحيطاً ولما أعياني الطلاب شرعتُ في كتابي الموسوم باللامع المُعْلَم العُجَاب الجامعِ بين المُحْكَم والعُبَاب فهما غُرَّتا الكُتب المصنفة في هذا الباب ونَيِّرَا بَرَاقِع الفضل والآداب وضَمَمْتُ إليهما زيادات امْتَلأَ بها الوطِاب واعْتَلَى منها الخِطَاب ففاقَ كلَّ مؤلف (في هذا الفن) هذا الكتابُ غيرَ أني خَمَّنْتُه في ستين سِفْراً يُعْجز تحصيلُه الطُّلاب وسُئِلْتُ تقديم كتاب وجيز على ذلك النظام وعَمَلٍ مُفَرَّغ في قالَبِ الإيجاز والإحكام مع التزام إتمام المعاني وإبرام المباني فصرفت صوبَ هذا القصد عِناني وألَّفتُ هذا الكتاب محذوفَ الشواهد مطروحَ الزوائد مُعْرِباً عن الفُصُحِ والشَّوارد وجعلت (بتوفيق الله) زُفَرَاً في زِفْر ولَخَّصتُ كلَّ ثلاثين سِفراً في سِفْر.
ثم قال: ولما رأيت إقْبالَ الناس على صحاح الجوهري وهو جدير بذلك غيرَ أنه فاته

(1/77)


ثلثا اللغة أو أكثر إما بإهمال المادة أو بترك المعاني الغريبة النَّادّة أردتُ أن يظهر بادىء بدءٍ فَضْلَ كتابي عليه ونَبَّهْت فيه على أشياء ركب الجوهري (رحمه الله) فيها خلاف الصواب غير طاعنٍ فيه ولا قاصد بذلك (تَنْدِيداً له) وإزراء عليه (وَغضّاً منه بل استيضاحا للصواب واسْتِرْباحاً للثواب وتحرزا وحذارا من أن ينمى إلى التصحيف أو يُعْزَى إلى الغلط والتحريف ... ) واخْتَصَصْتُ كتابَ الجوهري من (بين) الكتب اللُّغَوية مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة لِتَدَاوُله واشتهارِه بخصوصه واعتماد المدرسين على نُقُوله ونصوصه.
انتهى.
وفي القاموس يقول بعض الأدباء: // من الكامل //
(مذ مدَّ مجدُ الدين في أيامه ... من بعض بحر علومه القاموسا)
(ذهبت صحاح الجوهري كأنها ... سحر المدائن حين القى موسى)
قلت: ومع كَثرةِ ما في القاموس من الجمع للنَّوادّ والشوارد فقد فاته أشياءُ ظفِرتُ بها في أثناء مطالعتي لكُتُب اللغة حتى هَمَمْتُ أن أجْمَعَها في جُزءِ مُذَيِّلاً عليه وهذا آخر الكلام في هذا النوع ونشرعُ بعده إن شاء الله تعالى في بقية الأنواع.
النوع الثاني

معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت

هذا النوع يقابلُ النوعَ الأولَ الذي هو الصحيح الثابتُ والسبب في عدم ثبوت هذا النوع عدمُ اتصال سَنَدِه لسقوطِ راوٍ منه أو جهالته أو عدم الوثوق براويته لفَقْدِ شَرْطِ القَبول فيه كما سيأتي بيانُه في نوع من تقبل روايته ومن ترد أو للشك في سماعه.

(1/78)


وأمثلة هذا النوع كثيرةٌ منها ما في الجمهرة لابن دُرَيد:
قال: زَعموا أن الشَّطْشاط: طائر وليس بثبت.
وفيها: في بعض اللغات: ثَبَطَت شفةُ الإنسان ثَبْطَاً إذا ورِمت وليس بثَبْت.
وفيها: استعمل ضبج ضبجا إذا ألقى بالأرض من كلال أو ضرب وليس بثبت.
وفيها: الجَبْجَاب: الماء الكثير وكذلك ماءٌ جُبَاجب وليس بثبت.
وفيها: الرُفَف: الرقَّة في الثوب وغيره وليس بثبت.
وفيها: بتأ َيَبْتَأُ بَتأً: إذا أقام بالمكان وليس بثبت.
وفيها: هَتأَ الشيء يهتؤه إذا كسره وطأ برجله زعموا وليس بثبت.
وفيها: أرض حثواء: كثيرة التراب زعموا ليس بثبت.
وفيها: الخَثْوَاء: المسترخيةُ أسفل البطن من النساء امرأة خثواء ورجل أخثى وليس بثبت.
وفيها: ناقة رَجَّاء ممدود زعموا إذا كانت مرتجة السنام ولا أدري ما صحته.
وفيها: الدَّنْحَبَة: الخِيانة وليس بثبت.

(1/79)


وفيها: ذكر بعضُ أهل اللغة أن الكَسْحَبَة: مَشْيُ الخائف المُخْفِي نفسه وليس بثبت.
وفيها: الحَبْشَقة والحُبْشُوقة: دُويّبة وليس بثبت.
وفيها: كَنْحَب قالوا نبت وليس بثبت.
وفيها: يقال: زَلْدَبْتُ اللُّقمة إذا ابتلعتُها وليس بثبت.
وفيها: يقال: رجل بُرْزُل: إذا كان ضخما وليس بثبت.
وفيها: القَهْبَسَة: الأتانُ الغليظةُ وليس بثبت.
وفيها: القُشْلُب والقِشْلِب قالوا: نبت وليس بثبت.
وفيها العَضْبَل: الصُّلب وليس بثبت.
وفيها: الهَنْقب: القصير وليس بثبت.
وفيها حَثْرَفْتُ الشيء: زعزعته وليس بثبت.
الثُّخْروط: نبت زعموا وليس بثبت.
وفيها: الثَّطْعَمةَ زعموا يقال: تَثَطْعَمَ الرجلُ على أصحابه إذا علاهم في كلام وليس بثبت.
وفيها: العَنْطث زعموا: نبت وليس بثبت.

(1/80)


وفيها: القَنطَثَة زعموا العَدْوُ بفَزَع وليس بثبت.
وفيها: السَّحْجَلَةُ زعموا صَقْلُك الشيء. وليس بثبت.
وفيها: سَبّود ذكر بعض أهل اللغة أنه الشَّعر وليس بثبت.
وفيها: جَزالاء بمعنى الجزل وليس بثبت.
قال: وجاء أيضا مِمّا لا يُعْرَف قِصَاصَاء بمعنى القِصاص وزعموا أن أعرابيا وقف على بعض الأمراءِ بالعراق فقال: القِصَاصاء أصلحك اللهأي خذ لي بالقِصَاص.
وفيها: في بعض اللغات حُسُن الشيء وحَسَن وصَلَح وصُلح وليس بثبت.
وفيها: زعم قومٌ من أهل اللغة أن القِشْبَة: ولدُ القِرْد ولا أدري ما صِحَّته.
وفيها: العلب زعموا الذي لأُمه زوج ولا أعرف ما صحة ذلك.
وفيها: الهَبَق نبت زعموا ولا أدري ما صحته.
وفيها: اللَّقْعُ: الضربُ وليس بثبت.
وفيها: القَلْس: حبل من ليفٍ أو خُوص ولا أدري ما صحَّتُه.
وفيها: ما ذكر أبو مالك أنه سمع من العرب حِمْلاق وحُمْلاق وليس الضم بثبتَ.
وفيها: يقال تَفَكَّن القوم إذا تندموا وتفكهنُوا وليس بثبت فأما تفكهوا

(1/81)


تعجَّبوا فصحيح وكذلك فسِّر في التنزيل قوله تعالى {فَظلْتُم تَفَكَّهُونَ} .
أي تَعْجَبون.
وتميم تقول: وتَفَكَّنُونَ: تندمون.
وفيها: يقال إن الكُلاَم بضم الكاف: أرضٌ غليظة وما أدري ما صحَّته.
وفيها: الهَرْوُ لا أصل له في العربية إلا أن أبا مالك جاء بحرفٍ أنْكَرَه أهلُ اللغة قال: هَرَوْتُ اللحم أنضجته وإنما هو هَرَأْتُه.
وفيها: خَذَعْرَب: اسمٌ جاء به أبو مالك ولا أدري ما صحَّته.
وفيها: عذَج الماء يعذِجه عذْجاً جرَعه ولا أَدري ما صِحَّتها.
وفيها: البَيْظُ: زعموا مستعمل وهو ماء الفَحْل ولا أدري ما صِحَّته.
وفيها: زعموا أن المِنْطَبَة: مِصْفَاة يصفَّى بها الخمر ولا أدري ما صحَّته.
وفيها: قال قوم: الوَقْواق: طائرٌ بَعيْنه وليس بثَبْت.
وفيها: كرى: نجم زَعموا من الأنواء وقالوا: هو النسر الواقع لغة يمانية وليس بثبت.
وفيها يقال: طِفْل بيِّن الطُّفولة وقال قوم: الطَّفَالة وليس بثبت وصارم بيِّن الصَّرامة وحازم بيِّن الحزَامة وقال قوم: الصُّرومة والحُزُومة وليس بثبت.

(1/82)


وفيها: اللَّغْلَغُ: طائر ولا أحسبه صحيحا.
وفيها: الطائر الذي يسمى اللَّقْلق ما أدري ما صِحَّته.
وفيها: الغُنْبُول والغُنْبُول: طائر وليس بثبت.
وفيها: البَغْز أَصْلُ بنْيَة البَاغِز وهو المُقْدِم على الفجور زعموا ولا أُحقِّه. .
وفيها: البَاغِز: موضع تُنْسَب إليه الأكسِية والثياب ولا أعرف صحَّته ما هو.
وفيها: قد اختُلف في المثل الذي يقال: (الكِرابَ على البقر) .
فقالوا: إنما هو الكلابُ على البقر ولا أدري ما صحَّته.
وفيها زعم قوم أنَّ بعض العرب يقولون في الأخِ والأُخت أخٌّْ وأخَة ذكره ابنُ الكلبي ولا أدري ما صحَّةُ ذلك.
وفيها: الخَلاة: الأرض الكثيرة الشجر بغير هَمْزٍ وليس بثبت.
وفيها: الخِضَاء: تفتُّت الشيء الرَّطْب وانْشِدَاخُه خاصة وليس بثبت.
وفيها: العَشْجَب: الرجل المسترخي وقالوا: المخبول من جُنون أو نحوه وليس بثبت.

(1/83)


وفيها: الفَظِيظُ: زعم قوم انه ماء الفَحْل أو ماء المرأة وليس بثبت.
وفيها: الخُعْخُع: ضربٌ من النبت وليس بثبت.
وقال: زعم قومٌ من أهل اللغة أن الحرَّ - يعني خلاف البَرْد - يُجْمَعُ أَحَارِر ولا أعْرَف ما صحته.
وقال: المُحَاح في بعض اللغات: الجوع ولا أدري ما صحته.
وقال: بعض أهل اللغة: العَلُّ مثل الزِّير: الذي يُحِبُّ حديث النساء ولا أدري ما صحته.
وقال: ذكر قوم أن الوَحْوح ضربٌ من الطير زعموا ولا أدري ما صحَّته.
وقال: الزُّغْزُغ: ضربٌ من الطير ولا أدري ما صحَّته.
وقال ابن دريد قال أبو حاتم: الأَتانُ: مَقَامُ المُسْتَقِي على فَمِ الرَّكِيَّة فسألت عبد الرحمن فقال: الإتان بكسر الألف.
قال ابنُ دُرَيد: والكفُّ عنها أحبُّ إلي لاختلافهما.
وقال: سمعت عبد الرحمن ابن اخي الأصمعي يقول: أرض جِلْحِظاء - الظاء معجمة والحاء غير معجمة - وهي الصُّلْبَة التي لا شَجَرَ بها وخالفه أصحابُنا فقالوا: الجِلْخِطَاء بالخاء معجمة فسألته فقال: هذا رأيتُه في كتاب عمِّي.
قال ابنُ دريد: وأنا أَوْجَل من هذا الحَرْف وأخافُ ألا يكون سَمِعه.
وقال سيبويه: جلخظاء بالجيم والخاء والطاء فلا أدري ما أقولُ فيه.

(1/84)


وقال: زعم قوم من أهل اللغة أن الضُّؤْضُؤ هذا الطائر الذي يسمى الأَخْيَل ولا أدري ما صحَّته.
وقال: الجُمُّ زعموا: صَدف من صدَف البحر ولا أعرفُ حقيقته.
وقال: المُجُّ والبُجُّ: فرخ الحمام ولا اعرف ما صحَّته.
وقال: الحَوْبَجَة زعموا: وَرَمٌ يصيب الإنسان في جَسده لغة يمانية لا أدري ما صِحَّته.
وقال: يقال للقناة التي يجري فيها الماءُ في باطن الأرض إرْدبّ ولا أدري ما صحَّته.
وقال: البَيْقَرَان: نَبْتٌ ذكره أبو مالك ولا أدري ما صحَّته.
وقال ابنُ دُريد قال بعض أهل اللغة: تُسمى الفَأْرة غُفَّة لأنها قُوتُ السنَّوْر وأنشد هذا البيت عن يونس لا أدري ما صحته: // من المتقارب //
(يديرُ النَّهَار بحَشْر له ... كما عَالَج الغُفَّة الخَيْطَل)
النهار: وَلَدُ الحُبَارى والخَيْطل: السِّنَّوْر والحَشْر: سهم صغير.
وقال أبو عبيد في الغريب المصنف: قال الأموي: المني والمذي والودي مشددات الياء والصواب عندنا قول غيره أن المنيَّ وحده بالتشديد والآخران مخففان.
وفي الصحاح: البُصْع الجمع سمعتُه من بعض النَّحويين ولا أدري ما

(1/85)


صحَّتُه.
والنحيجة: زبد رقيق ويقال: النَّجيحة بتقديم الجيم ولا أدري ما صحته.
وفي الصحاح يقول: في فلان تَيْسِيَّةٌ وناس يقولون تَيْسُوسِيَّة وكَيفُوفِيّة ولا أدري ما صحتهما.
وفي التهذيب للأزهري: قال الليث: أَسَد قَصْقَاص نعْتٌ له في صوته وحيَّة قَصْقاص نعتٌْ لها في خُبْثِها.
قال الأزهري: وهذا الذي في نَعْت الأسد والحيَّة لا أعرِفه وأنا بريء من عُهْدته.
وفي الصحاح: يقال وَرضَت الدَّجاجة إذا كانت مرخمة على البيض ثم قامت فذرقت بمَرَّةٍ واحدة ذرقا كثيرا قال الأزهري في التهذيب بعد أن حكَى هذه المقالة عن الليث وزاد (وكذلك التَّوْريض في كلِّ شيء) : هذا الحرفُ عندي مريب والذي يصحُّ فيه التَّوْريص بالصاد.
أخبرني المنذري عن ثعلب عن سلمة عن الفراء ورَّص الشيخ بالصاد إذا استرخى حِتَار خَوْرَانِه فأبدى.
وحُكي عن ابن الأعرابي نحوه قال: أَوْرَص ووَرَّص إذا رمى بغطائه.
قال الأزهري: فهذا هو الصحيح ولا أعرف الحرف بالضاد.
وفي الصحاح: الضِّفة بالكسر: جانب النهر ونقله الأزهري في التهذيب عن اللَّيث ثم قال: لم أَسْمع (ضِفَّة) لغير الليث والمعروف الضفة والضيف لجانب النهر.
وفي الصحاح: زَبَق شعره يزِبقُهُ زبقا: نتفه.
قال أبو زكريا التَّبريزي قال أبو سهل: هكذا رواه أبو عبيد في الغريب المصنَّف عن أبي زيد بالباء.
وأخبرنا أبو أُسامة عن أبي منصور الأزهري عن أبي بكر الإيادي عن ابن حمدويه قال: الصواب زَنقه بالنون يزنقه ومنه زنق ما تحت إبطِه من الشَّعر إذا نَتَفَه.
قال وأما زبقه

(1/86)


بالباء فمعناه حبَسه.
والزابوقاء: الحبس.
وقال أبو أُسامة يصحِّح قولَ ابن حمدويه أن الأصمعي قال: زَلَقَ رأسه إذا حلقه باللام والنون تُبْدَلُ من اللام في مواضع كثيرة فكأن زنقه بالنون بمعنى زَلَقه باللام.
وفي المُحْكَم لابن سيده: التتنيح: المقام ولستُ من الحرف على ثقة.
وفي العين: احْوَنْصَل الطائر إذا ثَنَى عُنقُه.
وأخرج حَوْصَلَته.
قال الزَّبيدي في كتاب الاستدراك: احْوَنْصَلَ مُنْكَرَةٌ ولا أعلم شيئا على مثال افونعل من الأفعال.
وفي العَين: التُّحْفة مُبَدلة من الواو وفلان يتوحَّف.
قال الزَّبيدي: ليست التاء في التحفة مبدلة من الواو لوجودها في التصاريف.
وقوله: يتوحَّف منكَر عندي.
وقال ابن القوطية: في كتاب الأفعال: أَنْهَبْتُ الشيءَ: جعلته نهبا يغار عليه ونَهَبْتُه لغة ذكرها قُطْرب وهو غير ثقة.
انتهى.
وفي المجمل لا بن فارس: الحَتْرُ: ذكر الثعالب وفيه نظر.
وقال: العِلَّوش: الذئب وفيه نظر لأن الشين لا تكون بعد اللام.
وقال: الوَلاَّس: الذئب فيما يقال وفيه نظر.
وقال: يقولون: القَلْخ: الحمار والقلخ: الفَحْل إذا هاج وفيهما نظر.
وقال: يقال: نَأَتَ الرجل: إذا اجتهد وفيه نظر.
وقال: رجل أَنْبَس: كريه الوجهِ وفيهِ نظر.
وقال: يقال النَّسْك المكان الذي تألفهُ وفيه نظر
وقال يقال شيء وافلٌ أي وافر وفيه نظر.

(1/87)


وقال يقال: المَعْفِس: المَفْصِل من المفاصل وفي هذه الكلمة نظر.
وقال: يقال العُمْشُوش: العنقود إذا أُخِذ ما عليه وفيه نظر.
وقال: يقال إن غنجة بلا ألف ولام: القنفذ وفيه نظر.
وقال: عَمَشْتُ الرجل بالعصا: ضربتُه وفيه نظر.
وقال: العتار قرحة لا تجف وفي ذلك نظر.
وقال يقال: إن العَاذِرَة المرأة المستحاضة.
وقال: حَكى بعض مَنْ في قوله نظَر أن الاعْتِذَال: الاعتزام على الشيء يقال: اعتذل على الأمر إذا اعتزم عليه.
وقال يقال: عَرَّز عني أَمْرَه: أي أخفاه واعترز: أي انقبض وفيه نظر.
وقال: قال ابن دريد: القَزَب: الصَّلاَبة والشدة قَزِبَ الشيء: صلب لغة يمانية.
قال: ولولا حُسْنُ الظن بأهل العلم لتُرك كثير مما حكاه ابنُ دريد.
النوع الثالث

معرفة المتواتر والآحاد

قال الكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنْبَاري في كتابه (لمع الأدلة في أصول النحو) :
اعلم أن النَّقْل ينقسم إلى قسمين: تواتر وآحاد.
فأما التواترُ فلغةُ القرآن وما تواترَ من السنة وكلام العرب وهذا القسم دليل قطعي من أدلة النَّحْو يفيدُ العلم.
واختلفَ العلماء في ذلك العلم فذهب الأَكْثرون إلى أنه ضروري واستدلوا على ذلك بأن العلم الضروريَّ هو الذي بينه وبين مَدْلولِه

(1/88)


ارتباطٌ معقول كالعلم الحاصل من الحواسِّ الخمسِ: السمع والبَصر والشم والذَّوْق واللَّمْس وهذا موجود في خَبر التواتر فكان ضروريّاً.
وذهب آخرون إلى أنه نظري واستدلُّوا على ذلك بأن بينَه وبين النَّظَر ارتباطا لأنه يُشْتَرط في حصوله نقلُ جماعةٍ يستحيلُ عليهم الاتفاقُ على الكَذِب دونَ غيرهم فلما اتَّفَقوا عُلِمَ أنه صِدْق.
وزعمت طائفةٌ قليلة أنه لا يُفْضِي إلى عِلْمٍ البتَّة وتمسكت بشُبْهَة ضعيفةٍ وهي أن العلمَ لا يَحْصُلُ بنَقْلِ كلِّ واحد منهم فكذلك بنَقْلِ جماعتهم وهذه شُبْهَةٌ ظاهرةُ الفسادِ فإنه يَثْبُت للجماعة ما لا يثبُت للواحد فإن الواحدَ لو رَامَ حَمْل حِمْلٍ ثقيل لم يُمْكِنْه ذلك ولو اجتَمَع على حَمْله جماعةُ لأمكن ذلك فكذلك هاهنا.
وأما الآحاد فما تَفَرَّد بنَقْلِه بعضُ أهل اللغة ولم يُوجَدْ فيه شرطُ التواتر وهو دليلٌ مأخوذٌ به واختَلفوا في إفادته:
فذهب الأكثرون إلى أنه يفيدُ الظنَّ وزعم بعضُهم أنه يفيدُ العلم وليس بصحيح لتَطَرُّق الاحتمال فيه.
وزعم بعضُهم أنه إن اتصلت به القرائنُ أَفاد العلمَ ضرورة كخبر التَّواتر لوجودِ القرائن.
ثم قال: واعلم أن أكثرَ العلماء ذهبوا إلى أن شَرْط التواتر أن يبلغَ عددُ النَّقَلَة إلى حدٍّ لا يجوزُ على مثلهم الاتفاقُ على الكذب كَنَقلة لغةِ القرآن وما تواترَ من السُّنة وكلامِ العرب فإنهم انْتَهَوْا إلى حدٍّ يستحيل على مثلِهم الاتفاقُ على الكذب.
وذهب قومٌ إلى أن شَرْطَهُ أن يبلغوا سبعين.
وذهب آخرون إلى أن شَرْطَه أن يبلغوا أربعين.
وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا اثنى عشر.
وذهب آخرون إلى أن شَرْطه أن يبلغوا خمسة.
والصحيح هو الأول.
وأما تعيينُ تلك الأعداد فإنما اعتمدُوا فيها على قِصَص ليس بينها وبين حصول العلم بأخبار التواتر مُناسبةٌ وإنما اتَّفَق وجودها مع هذه الأعداد فلا يكون فيها حجة.
انتهى ما ذكره ابن الأنباري.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب المحصول.
الطريقُ إلى معرفة اللغة النقلُ المحض وهو إما تواتر أو آحاد وعلى كل منهما إشكالات:

(1/89)


أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه:
أحدُها - أنَّا نجدُ الناسَ مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثرُ الألفاظِ تداوُلاً ودَوَرَاناً على ألْسِنَة المسلمين اختلافا شديدا لا يمكنُ فيه القَطْعُ بما هو الحقُّ كلَفْظة (الله) فإن بعضَهم زعم أنها عِبْرية وقال قومٌ: سُرْيانية والذين جعلوها عربية اختلفوا: هل هي مشتَقَّة أو لا والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا ومن تأمَّل أدلَّتهم في ذلك علم أنها مُتعَارِضة وأنَّ شيئا منها لا يُفيد الظنَّ الغالب فَضْلاً عن اليقين.
وكذلك اختلفوا في لَفْظ الإيمان والكُفْر والصَّلاة والزكاة فإذا كان هذا الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهرُ الألفاظ والحاجةُ إليها ماسَّة جدا فما ظنك بسائر الألفاظ وإذا كان كذلك ظهر أن دَعْوَى التواتر في اللُّغة والنَّحْو متعذّرٌ.
وأُجيب عنه بأنه وإن لم يُمْكِن دَعْوى التواتر في معانيها على سبيل التَّفصيل فإنَّا نعلمُ معانَيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظة الله على الإله المعبود بحق وإن كنا لا نعلمُ مُسَمَّى هذا اللفظ أَذَاته أم كونه معبودا أم كونه قادرا على الاختراع أم كونه مَلْجَأ للخَلْق أم كونه بحيث تتحيَّر العقول في إدْراكه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وكذا القولُ في سائر الألفاظ.
الإشكال الثاني - أن من شَرْط التواتر استواءَ الطَّرَفين والواسطة فهَبْ أنَّا علمنا حصول شرط التواتر في حفاظ اللغة والنَّحْو والتصريف في زماننا فكيف نعلمُ حصولها في سائر الأزمنة وإذا جهلنا شَرْط التواتر جهلنا التواتر ضرورة لأن الجهلَ بالشرط يوجب الجهلَ بالمشروط.
فإن قيل: الطريق إليه أَمْران:
أحدهما - أن الذين شاهَدْناهم أخبرونا أن الذين أخبرُوهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفاتِ المُعتَبَرَةِ في التواتر وأن الذين أخبروا مَنْ أَخْبَروهم كانوا كذلك إلى أن يتَّصل النَّقْل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم.
والآخرُ - أن هذه لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضَعَها واضعٌ لهذه المعاني لاشتهَر ذلك وعُرِف فإن ذلك مما تَتَوَفَّر الدَّواعي على نَقْلِه.
قلنا: أما الأول فغيرُ صحيح لأنَّ كلَّ واحد منَّا حين سمع لغة مخصوصة من إنسانٍ فإنه لم يسمع منه أنه سَمِعه من أهل التواتر وهكذا بل تحرير هذه الدعوى

(1/90)


على هذا الوجه مما لا يَفْهمه كثيرٌ من الأدباء فكيف يُدَّعى عليهم أنهم علموه بالضرورة بل الغايةُ القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح أو إلى أُسْتاذٍ مُتْقن ومعلومٌ أن ذلك لا يفيدُ اليقين.
وأما الثاني فضعيفٌ أيضا لأن ذلك الاشتهارَ إنما يَجبُ في الأمور المهمَّة وتغييرُ اللفظةِ الواحدة ليس من المهمات العظيمة حتى يُشْتهر ويُنْقل وأيضا فهو منقوض بالكلمات الفاسدة والإعرابات المعوجَّة الجارية في زماننا مع أن تَغيَّرها ومُغَيُّرها غير معلوم.
الثالث - إنه قد اشتهر بل بلغ مَبْلغَ التواتر أن هذه اللغاتِ إنما أُخِذَت عن جمع مخصوص كالخليل وأبي عمرو والأصمعي وأَقْرَانهم ولا شكَّ أنَّ هؤلاء ما كانوا مَعْصومين ولا بالِغين حدَّ التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القَطْع واليقينُ بقولهم.
أَقْصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا أن هذه اللغاتِ بأسْرها غيرُ منقولة على سبيل الكذب ويقطع بأن فيها ما هو صدقٌ قطعا لكن كل لفظة عيَّناها فإنا لا يمكننا القطعُ بأنها من قبيل ما نُقل صِدْقاً وحينئذ لا يبقى القَطْع في لفظِ معيَّن أصلا وهذا هو الإشكال على مَن ادعى التواتر في نقل اللغات.
وأما الآحاد فالإشكالُ عليه من جهةِ أن الرُّواة له مَجْروحون ليسوا سالمين عن القَدْح بيانُه أن أصلَ الكتب المصنفة في النحو واللغة كتابُ سيبويه وكتابُ العَيْن أما كتابُ سيبويه فَقَدْحُ الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهرُ من الشمس وأيضا فالمبرد كان من أجلِّ البصْريين وهو أَفْرَد كتابا في القَدْح فيه.
وأما كتابُ العين فقد أطبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه.
وأيضا فإن ابنَ جنِّي أورد بابا في كتاب الخصائص في قَدْح أكابر الأدباءِ بعضهم في بعض وتكذيبِ بعضهم بعضا وأورد بابا آخر في أن لغة أهل الوَبر أصحُّ من لغة أهل المَدر وغرضُه من ذلك القَدْحُ في الكوفيين.
وأورد بابا آخر في كلماتٍ من الغريب لا يُعلم أحدٌ أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي.
وروى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يَسْمَعاها ولا سُبِقا إليها وعلى ذلك قال المازني: ما قِيس على كلام العرب فهو من كلامهم.
وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخَلاعة ومشهورا بأنه كان يَزِيد في اللغة ما لم يكن منها.

(1/91)


والعَجَبُ من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خَبَر الواحد أنه حجّةٌ في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى وكان من الواجب عليهم أن يَبْحَثوا عن أحوال اللغات والنحو وأن يفحصوا عن جَرْحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رُواة الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدةِ الحاجةِ إليه فإن اللغة والنحو يجريان مَجْرَى الأصل للاستدلال بالنصوص.
ثم قال الإمام: والجواب عن الإشكالات كلها أن اللغةَ والنحو والتصريف تنقسم إلى قسمين:
قسم منه متواتر والعلمُ الضروري حاصلٌ بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعا لهذه المعاني فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مُسْتعَملَتين في زَمَنه صلى الله عليه وسلم في معناهما المعروف وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها وكذلك لم يَزَل الفاعلُ مرفوعا والمفعولُ منصوبا والمضافُ إليه مجرورا.
وقسم منه مَظنون وهو الألفاظ الغريبة والطريق إلى معرفتها الآحادُ.
وأكثرُ ألفاظِ القرآن ونحوه وتصريفِه من القسم الأول والثاني فيه قليلٌ جدا فلا يُتَمَسَّك به في القَطْعيات ويُتَمَسَّك به في الظنيات.
هذا كله كلام الإمام فخر الدين وقد تابعهُ عليه صاحبُ الحاصل فأوردَه برُمَّته ولم يتعقب منهُ حرفا.
وتعقَّب الأصبهاني في شرح المحصول بعضَه فقال: أما قوله: وأورد ابنُ جني بابا في كلمات من الغريب لم يأتِ بها إلا الباهلي.
فاعلمْ أن هذا القدرَ وهو انفرادُ شخصٍ بنَقْل شيَء من اللغة العربية لا يقدَح في عدالته ولا يلزمُ من نَقْل الغريب أن يكون كاذبا في نَقْله ولا قصدَ ابنُ جنّي ذلك. وأما قول المازني: ما قِيس ... إلى آخره.
فإنه ليس بكذبٍ ولا تجويز لِلْكذِب لجوازِ أن يرى القياس في اللغات أو يُحْمَل كلامه على هذه القاعدة وأمثالها وهي أن الفاعل في كلام العرب مرفوعٌ فكلُّ ما كان في معنى الفاعل فهو مرفوع.

(1/92)


وأما قوله: إن الأصوليين لم يقيموا ... إلى آخره.
فضعيف جدا وذلك أن الدليلَ الدالَّ على أن خبرَ الواحد حجةٌ في الشرع يمكن التمسك به في نَقْل اللغة آحادا إذا وُجدت الشرائط المعتبرة في خبر الواحد فلعلهم أهملوا ذلك اكْتِفاءً منهم بالأدلة الدَّالة على أنه حجةٌ في الشرع.
وأما قوله: كان الواجب أن يبحثوا عن حال الرُّواة ... إلى آخره.
فهذا حق فقد كان الواجب أن يُفْعَل ذلك ولا وجْه لإهماله مع احتمال كذب من لم تُعْلَم عدالتُه.
وقال القَرَافي: في شرح المحصول في هذا الأخير: إنما أهملوا ذلك لأن الدواعيَ متوفِّرة على الكذب في الحديث لأسْبابِه المعروفةِ الحاملةِ للواضعين على الوَضْعِ وأما اللغةُ فالدَّواعي إلى الكذب عليها في غاية الضّعْف وكذلك كتبُ الفقهِ لا تكادُ تجد فروعا موضوعة على الشافعي أو مالك أو غيرهما وكذلك جَمَع الناس من السنة موضوعاتْ كثيرة وجَدُوها ولم يجدوا من اللغة وفروع الفقهِ مثل ذلك ولا قريبا منه.
ولما كان الكذبُ والخطأُ في اللغة وغيرها في غاية الندرة اكْتَفَى العلماءُ فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المُتَدَاولَة فَإنَّ شُهْرَتها وتداولها يَمْنَعُ من ذلك مع ضعف الداعية له فهذا هو الفرق.
انتهى.
وأقول: بل الجوابُ الحقُّ عن هذا: أن أهلَ اللغة والأخبار لم يُهْمِلُوا البحثَ عن أحوال اللغات وَرُوَاتها جَرْحاً وتعديلا بل فحصوا عن ذلك وبيَّنوه كما بينوا ذلك في رُواة الأخبار ومَنْ طالَعَ الكتبَ المؤلفة في طبقات اللغويين والنُّحاة وأخبارِهم وجدَ ذلك.
وقد ألَّف أبو الطيب اللَّغوي كتابَ (مراتب النحويين) بيَّن فيه ذلك وميَّزَ أهلَ الصدق من أهل الكذب والوَضْع وسيمرُّ بك في هذا الكتاب كثيرٌ من ذلك في نَوْع الموضوع ونَوْع معرفة الطبقات والثِّقات والضعفاءِ وغيرها من الأنواع.
وأما قول الإمام في القَدْح في كتاب العَيْن فقد قدَّمتُ الجوابَ عنه في أواخر النوع الأول.
وفي الملخص في أُصول الفقه للقاضي عبد الوهاب المالكي: في ثبوت اللغة بأخبار الآحاد طريقان لأصحابنا: أحدُهما - أن اللغة تَثْبُتُ به لأنَّ الدليل إذا دلَّ على وجوب العمل به في الشرع كان في ثبوت اللُّغة واجبا لأن إثْبَاتهَا إنما يُراد للعمل في الشرع.
والثاني - لا تثبت لغةٌ بإخبار الآحاد.
وهذه أمثلةٌ من المتواتر مما تواتَر على أَلْسِنَةِ الناس من زمن العرب إلى اليوم وليس هو في القرآن من ذلك: أسماء الأيام والشهور والربيع والخريف والقَمْح

(1/93)


والشعير والأرز والحَِمِّص والسِّمْسِم والسُّمَّاق والقَرْع والبِطِّيخ والمِشْمِش والتفاح والكُمَّثْرَي والعُنَّاب والنَّبقْ والخَوْخ والبَلَح والبُسْر والخِيار والخَسُّ والنَّعْنَع قال ابن دريد: الظاهر أنه عربي.
والكُرَّاث والخَشْخَاش قال الخليل: هو عربي صحيح والخِرْبِز.
قال فيِ القاموس: (الخربز بالكسر: البطيخ) عربي صحيح وقيل: أصلُه فارسي.
والزبد والسمن والعَسَل والدِّبْس والخَلّ والخُبْز والجُبْن والدَّقيق والنُّخَالة والدَّجاج والإوَزّ والنَّعام والحَمام والقُمْرِي والعَنْدَليب والكَرَوان والوَرَشان والوَطْوَاط والخُطَّاف والعُصْفُور والحِدَأَة وابن عِرْس والفَأْرَة والهِرَّة والعَقْرَب والخُنْفَسَاءُ والوَزغ والسَّرَطَان والضّفْدع والضَّبُعْ والفَهدْ والنَّمِر والثَّعْلَب والأرْنب والغَزَال والظّبْي والدُّب.
قال ابن دريد: عربي صحيح.
والزَّرَافة والسِّدْر والحِنَّاء والفَاغِية والزَّعْفَرَان.
قال: ابن دريد عربي صحيح والزَّرَافة والسِّدْر والحِنَّاء والفَاغِية والزَّعْفَرَان قال ابن دريد عربي معروف.
قال: والعُصْفُر عربي معروف تكلَّمت به العرب قديما.
والزَّهرة وعُطَارد قال: ابن دريد: عربي فصيح.
والشَّمَع والعَرُوس والقَمِيص والكُمّ والعِمامة والفَرْوَة والكَتَّان والمِنديل وفَصّ الخاتم والإزَار والمِئْزر والنَّعْل والقَوْس والنُّشَّاب والرُّمح والسَّيف والدِّرع والبَيْضَة والكلاب والخيزران

(1/94)


وَالقِنَّب ورَزَّة الباب والمَكْسُ والوَخشُ بمعنى الرُّذَال والرَّديء والصُّدَاع والإسهال والرَّمد واليَرَقان والاستسقاء والحُمَّى والوَبَاء والطَّاعون والجُدَري والحَصْبَة والجَرَب والجَذَام والدرَّة والرَّصَاص قال ابن دريد: عربي صحيح والبَلاط والمِدْمَاك ورَفّ البيت والدَّرْب وَالبِرْدَعَة والفأس والدَّلْو والقِدْر والرَّحى والعُكَّة والكُرّ والإرْدَبُّ.
قال الأَخطل: // من البسيط //
(وَالخُبْزُ كالعَنْبَرِ الهِنْدِيّ عِنْدَهُم ... والقَمْحُ سَبْعُونَ إرْدَبّاً بِدينَارِ)
والزَّبَرْجَد قال في الجمهرة: عربيٌّ معروف فكلُّ هذه الألفاظ عربيةٌ صحيحة متواتِرةٌ على أَلْسنَةِ الخلق من زَمن العرب إلى وقتنا هذا.
(ألفاظ مستعملة أصلها أعجمي)

وثَمَّ ألفاظ شائعة على الألْسنة لكنها أعجمية الأصل تأتي في نوع المُعَرَّب.
وقال الثعالبي في فقه اللغة فصل في سياقه أسماء فارسيَّتُها مَنْسِيَّة وعربيَّتها مَحْكِيَّة مُسْتعمَلة:
الكَفُّ السَّاق الفَرّاشُ البزَّازُ الوزَّان الكَيَّال المسَّاحُ البَيَّاع الدَّلاَّل الصَّرَّاف البَقَّال (الجمَّال) الحمَّال القَصَّاب (الفَصَّاد) البَيْطَار الرَّائِض الطَّرَّاز الخَرَّاطُ الخيَّاط القَزَّاز الأَمِير الخليفَةُ الوزيرالحاجب القاضي صاحبُ البريد صاحبُ الخبَر الوَكيل السَّقَّاء السَّاقي الشَّرَاب الدَّخْل الخَرْج الحَلال الحَرَام البَرَكة (البِرْكة) العِدَّة الصَّوابُ الخَطَأُ الغَلَط الوَسْوَسَةُ الحَسَدُ الكَسَادُ العَارِيَّةُ النَّصِيحة (الفَضِيحة) الصُّورة الطَّبيعة (الند) العادة الَبَخور الغَالية الخَلوق الحِنَّاء (اللَّخْلَخة) الجُبَّةُ (الجثَّة) المِقنَعَة الدُّرَّاعة الإزَار

(1/95)


المُضَرَّبةُ اللِّحاف المِخَدّة (النَّعْل) الفَاخِتة القُمْرِي (اللَّقلق) الخطُّ القَلَم المِدَاد الحِبْر الكِتاب الصُّندوق الحُقَّة الرَّبْعَة (المُقَدّمة) السَّفَطُ الخُرْجُ السُّفْرَةُ اللَّهْوُ القِمَار الجَفَاء الوَفَاء الكُرْسيُّ القَنَص المِشْجَبُ الدَّوَاةُ المِرْفع القِنِّينَة الفَتيلة الكَلْبَتَانِ القُفْل الحَلْقة المِنْقلَة المِجْمَرَة المِزْرَاق الحَرْبَة الدَّبُّوس (المِنْجَنِيق العَرَادة) الرِّكاب العَلَم الطَّبْلُ اللِّوَاءُ الغَاشِيَة (النصْلُ القُطري) الجُلُّ البُرْقُع الشِّكالُ العِنَان الجَنِيبَة الغِذَاء الحَلْوَاء القَطَائف القَلِيَّةُ الهَرِيسَةُ العَصِيدَةُ المُزَوَّرَةُ الفَتِيتُ (النُّقْل) النِّطع (العِلْم الطِّرَاز) الرِّدَاء الفَلك المَشْرِق المَغْرِب الطَّالِع الشَّمَالُ الجَنُوب الصَّبَا الدُّبُور الأَبْلَه الأحْمَقُ النَّبيل اللَّطيف الظَّرِيف الجَلاَّد السَّيَّاف العَاشِق (الجَلاَّب) .
هذا كلُّه كلام الثعالبي.
قد توقَّف ابنُ دريد في النَّدِّ فقال في الجمهرة: المستعمل من هذا الطِّيب لا أحسبه عربيا صحيحا وتوقَّف صاحب الصحاح في الدَّبُّوس فقال: بعد أن أنشد قول لقيط بن زرارة: // من السريع //
(لو سمعوا وقع الدبابيس)
واحدها دبوس أراه مُعَرّباً.
النوع الرابع

معرفة المرسل والمنقطع

قال الكمال بن الأنباري في لمع الأدلة: المُرْسل هو الذي انقطع سنَدُه نحو أن يَرْويَ ابنُ دريد عن أبي زيد وهو غيرُ مقبول لأن العَدالة شرطٌ في قبول النَّقْل

(1/96)


وانقطاعُ سَنَد النَّقْل يوجب الجَهْل بالعَدَالة فإن من لم يُذْكَر لا يُعرف عدالته.
وذهب بعضُهم إلى قَبُول المُرَسل لإن الإرسال صدَر ممن لو أُسند لقُبِل ولم يُتّهم في إسناده فكذلك في إرساله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى إرساله لتطَرَّقت إلى إسناده وإذا لم يتهم في إسناده فكذلك في إرساله.
قلنا: هذا اعتبار فاسد لأن المسند قد صُرِّح فيه باسم الناقل فأمكن الوقوف على حقيقة حاله بخلاف المرسل فبانَ بهذا أنه لا يلزم من قبول المُسْند قبولُ المرسل.
انتهى ما ذكره ابن الأنباري.
ومن أمثلة ذلك ما في الجمهرة لابن دُريد: يقال فَسَأْتُ الثوبَ أفسؤه فسْأً إذا مَدَدتُه حتى يتفزَّر.
وأخبر الأصمعي عن يونس قال: رآني أعرابيٌّ محتبيا بطيلسان فقال: علام تفسؤه - ابن دريد لم يُدْرِك الأصمعي.
وقال ابنُ دريد في أماليه: أخبرنا الأشْنانْدَاني عن التَّوزي عن أبي عُبيدة قال: اجتمع عند يزيد بن معاوية أبو زُبَيد الطائي وجَميل بن مَعْمر العذري والأخطل التغلبي فقال: أيكم يصف الأسد في غير شِعْر فقال أبو زُبَيد: أنا يا أمير المؤمنين لونه وَرْد وزئير رَعْد وقال مرة أخرى زَغْد ووثْبُه شَدّ وأَخْذه جِدّ وهَوْلُه شَدِيد وشرُّه عَتِيد ونَابُه حَدِيد وأنفُه أَخْثَم وخده أَدْرم ومِشْفَرُه أَدْلَم وكفَّاه عراضتان ووجنتاه ناتئتان وعيناه وقادتان كأنهما لَمْحٌ بارق أو نجمٌ طارق إذا استقبلتَه قلتَ أَفْدَع وإذا استعرضتَه قلت أَكْوَع وإذا

(1/97)


استدبرتَه قلت أَصْمَع بَصِير إذا استغْضَى هَمُوس إذا مَشَى إذا قَفَّى كَمَشَ وإذا جَرى طَمَش بَرَاثِينُه شَثنَة ومَفَاصِله مُتْرَصَة مُصْعِقٌ لقَلْبِ الجَبَان مُرَوِّع لماضي الجَنَان إذا قاسَمَ ظَلَم وإن كابَر دَهَمَ وإن نازل غَشَم ثم أنشأ يقول: // من الرجز //
(خُبَعْثِنٌ أَشْوَسُ ذو تَهَكُّمِ ... مُشْتَبِك الأنياب ذو تَبَرْطُمِ)
(وذُو أَهَاويلَ وذو تَجَهُّم ... ساطٍ على اللَّيث الهِزَبْر الضَّيْغَم)
(وعَيْنُهُ مثل الشِّهاب المُضْرَم ... وهامُهُ كالحَجرِ المُلَمْلَم)
فقال: حسبك يا أبا زُبيد
ثم قال: قُلْ يا جميل.
فقال: يا أميرَ المؤمنين: وجهُه فَدْغم وشَدْقُه شَدْقَم ولُغْدُه مُعْرَنْزِم مُقَدَّمَه كثيف ومُؤَخَّرُه لطيف ووثْبُه خفيف وأخْذه عنيف عَبْل الذراع شديد النُّخَاع مُرْدٍ للسباع مُصْعِق الزَّئير شديد المَرِير أَهْرَت الشِّدْقين مُتْرَص الحَصِيرين يركب الأهوال ويَهتِصر الأبطال

(1/98)


ويمنع الأشبال ما إن يزال جاثما في خِيس أو رابضا على فَرِيس أو ذَا ولغ ونهيس ثم قال: // من الرجز //
(ليْثُ عَرِينٍ صَيْغَمٌ غَضَنْفَرُ ... مُداخَلٌ في خَلْقِه مُضَبَّر)
(يُخَافُ من أنْيابه ويُذْعَرُ ... ما إن يزالُ قائما يُزَمْجِر)
(له على كلِّ السباع مفخر ... قضاقض شثن البنان قسور)
فقال: حسبك يابن مَعْمر.
ثم قال: قلْ يا أخطل.
فقال: ضَيْغَمٌ ضِرغام غَشَمْشَم هَمْهَام على الأهوَال مِقْدَام وللأقران هَضَّام رِئْبال عَنْبس جَريء دلَهْمَس ذو صَدْر مُفَرْدَس ظلوم أَهْوَس لَيْث كَرَوَّس ثم قال: // من الرجز //
(شرنبث الكَفَّيْن حامي أشْبُل ... إذا لَقَاه بَطَلٌ لم يَنْكَل)
(قُضَاقِضٌ جَهْمٌ شديد المَفْصِلَ ... مُضَبَّر الساعد ذو تَعَثْكُلِ)
(مُلَمْلَم الهامةِ كَمْشُ الأرجُل ... ذو لِبَدٍ يَغْتَالُ في تمهّلِ)

(1/99)


(أنيابُه في فِيه مثلُ الأَنْصُل ... وَعَيْنُهُ مثل الشِّهابِ المُشْعَل)
فقال له: حسبُك.
وأَمَرَ لهم بجوائز.
هذا منقطع أبو عبيدة لم يدرك يزيد.
النوع الخامس

معرفة الأفراد

وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة ولم ينقله أحدٌ غيره وحكْمُه القبول إن كان المتفرد به من أهل الضبط والإتقان كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم وشرْطُه ألاَّ يخالفه فيه مَنْ هو أكثر عددا منه وهذه نبذةٌ من أمثلته:
فمن أفراد أبي زيد الأوسي الأنصاري - قال في الجمهرة: المَنْشَبة: المال هكذا قال أبو زيد ولم يقله غيرُه.
وفيها: رجل ثَطّ ولا يقال أَثَطّ قال أبو حاتم: قال أبو زيد مرة أَثَطّ.
فقلت له: أتقول: أثط فقال: سمعتها.
والثَّطَط: خفَّة اللِّحية من العارضين.
وفي الصحاح: البِدَاوة: الإقامةُ في البادية يُفْتَح ويكسر قال ثعلب: لا أعرف البَداوة بالفتح إلا عن أبي زيد وحْدَه.
ومن أفراد الخليل - قال في الجمهرة: الرت والجمع رتوت وهي الخنازير الذكور ولم يجىء به غيرُ الخليل.
وقال: الحُضَض والحُضُض: دواءٌ معروف وذكروا أن الخليل كان يقول الحُضُظ بالضاد والظاءِ ولم يعْرِفه أصحابُنا.
وقال: يوم بُعَاث سمعناه من علمائنا بالعين وضم الباء وذُكِرَ عن الخليل بغَين معجمة ولم يُسْمَع من غيره.
ومن أفراد يونس بن حبيب الضبي - قال في الجمهرة: الصِّنْتِيت بمعنى الصِّنْدِيد هكذا يقول يونس ولم يقله غيره. .

(1/100)


ومن أفراد أبي الحسن الكسائي - قال ثعلب في أماليه: قال الكسائي: سمعت لجَبَة ولَجَبَات وَلجِبَة ولَجبَات فجاءَ بها على القياس ولم يحكها غيره.
وقال القالي في كتاب المقصور والممدود: السَّبَأُ على وزن جبل مقصور مهموز: الحمْرُ عن الكسائي ولم يَرْوِ هذا غيرُه.
ومن أفراد أبي صاعد - قال ابن السكِّيت في إصلاح المنطق والخطيب التبريزي في تهذيبه: يقال لم يعطهم بَازِلة أي لم يعطهم شيئا.
وعن ابن الأنباري وحده بَارِلة بالراء والصواب بالزاي وقال الأصمعي: لم يجىء ببارلة غير أبي صاعد الكلابي ولم يَدْر ما هي حتى قلت له: أهي من بُرَائل الديك فقال: أَخْلق بها.
ومن أفراد أبي الخطاب الأخفش الكبير - في الجمهرة: الجُثّ ما ارتَفع من الأرض حتى يكون له شخص مثل الأُكَيْمَة الصغيرة ونحوها قال الشاعر: // من الطويل //
(وأَوْفَى على جُثٍّ ولِلَّيْلِ طُرَّةٌ ... على الأُفْق لم يَهْتِكْ جوانبَها الفَجْرُ) قال: وأحسب أن جثة الإنسان من هذا اشتقاقها وقال قوم من أهل اللغة: لا تسمى جُثَّة إلا أن يكون قاعدا أو نائما فأما القائم فلا يقال جثته إنما يقال قِمته وزعموا أن أبا الخطاب الأخفش كان يقول: لا أقول جثة الرجل إلا لشخصه على سَرْج أو رَحْل ويكون معتما ولم يُسْمَع من غيره.
وفيها: ذُكِر عن أبي الخطاب الأخفش أنه قال: الخَفْخُوف: طائر.
وما أدري ما صحَّته ولم يذكره أحدٌ من أصحابنا غيره.
ومن أفراد جمال الدين أبي مالك - في الجمهرة قال أبو مالك: الجَمْش: الصوت لم يجىء به غيره.

(1/101)


وفيها: قال أبو مالك جارية لَعَّة: خفيفة مليحة لم يجئ بها غيره والمعروف أن لَعَّ أُمِيت وأُلحق بالرباعي.
وفيها: حكى أبو مالك: الحُضْحُض: ضَرْب من النبت ولم يجئ به غيره.
وفيها: حكي عن أبي مالك أنه قال: الرَّطْرَاط: الماءُ الذي أَسْأَرَتْه الإبل في الحياض ولم يعرفه أصحابنا.
وفيها: أحسب أن أبا مالك قال: واحد الجناجين جُنْجُون وهذا شيء لا يُعْرَف والمعروف جِنْجِن وهي عِظام الصدر.
وفيها: ذكر أبو مالك: أنه سمع طعام بَرِيك في معنى مبارك فيه.
وفيها: قال أبو مالك: الشِّنْقَاب: طائر ولم يجئ به غيره فإن كان هذا صحيحا فإن اشتقاقه من الشَّقْب وهو صَدْعٌ ضَيِّق في الجبل والألف والنون زائدتان.
وفيها: قال أبو مالك: البُصْم: للْفَوْت بين الخِنْصر والبِنْصر ولم يجئ به غيره.
ومن أفراد أبي عبيدة - قال ابن دُريد: قال أبو عبيدة: الدَّأْدَاء: ما استوى من الأرض ولم يجئ به غيره.
وقال: يوم الأرْبِعاء بكسر الباء وزعم قوم أنهم سمعوا الأربَعَاء بفتح الباء وأخبرنا أبو عثمان الأشْنَانْدَاني عن التَّوّزيّ عن أبي عبيدة الأربعاء بالضم وزعم أنها فصيحة.
ومن أفراد أبي زكريا الفراء - قال أبو عبيد في الغريب المصنف قال الفراء:

(1/102)


الثَّأْدَاء والدَّأْثاء: الأَمَة.
والسَّحَنَاء: الهيئة على فَعلاء بفتح العين ولم أسمع أحدا يقول ذلك غيرُه والمعروف عندنا بجزم العين.
وفي الصحاح المَوْضَع بفتح الضاد لغة في الموضِع سمعها الفراء.
وفي شرح المقصورة لابن خالويه: الجَهَام: السَّحاب الذي قد هَرَاق ماءه ومثله الهِفّ والجُِلْب والسَّيّق والصُّرَّاد والنَّجْو والنِّجَاء والجَفْل والزِّعْبَج ذكره الفراء قال أبو عبيد: وأنا أنكر أن يكون الزعبج من كلام العرب والفراء عندي ثقة.
انتهى.
ومن افراد الأصمعي - قال فِي الجمهرة قال الأصمعي: سمعتُ العرب تقول: هم يَحْلُبون ويَحلِبون ولم يقل هذا غيرُ الأصمعي.
وقال: أرض قِرْواح وقِرْياح وقِرْحِيَاء ممدودة: قفراء ملساء قِرْحِياء لم يجئ به غيره.
وفي كتاب (ليس) لابن خالويه: لم يقل أحد من أصحاب اللغة قرياح وقِرْحِياء إلاَّ الأصمعي.
قال في الجمهرة: ويقال: هسَّ الشيء إذا فتَّه وكسره.
والهسيس مثل الفَتُوت كذا قال الأصمعي وحدَه.
وفي الصحاح - قال الأصمعي: ما سَمِعْنا العام قابة: أي صوت رَعْد.
قال ابن السكِّيت: ولم يَرْو هذا الحرفَ أحدٌ غيره والناسُ على خلافه إنما يُقال: ما أصابتنا العام قابة أي قَطْرة.
ومن أفراد أبي حاتم - في الجمهرة: كان أبو حاتم يقول: سمعتُ بعضَ مَنْ أثقُ به يقول: الكَيْكَة: البَيْضَة ولم يسمع من غيره.
ومن أفراد أبي عثمان الأشْنانداني: ذبيت شُفَتُه كما يقال ذَبّت بمعنى ذبلت من العَطَش ولم أسمعها من غيره.
فإذا كان هذا صحيحا فمنه اشتقاق ذُبيَان.

(1/103)


وفيها: يقال مُدْعَنْكر إذا تدرأ بالسُّوء والفُحْش قال الشاعر: // من الطويل //
(قد ادْعَنْكَرت بالسُّوء والفُحْشِ والأَذى ... أُسَيْمَاء كادْعِنْكار سَيْلٍ على عَمْرِو)
قال ابن دُريد: هذا البيتُ لم يعرفْه البَصريون وزعم أبو عثمان أنه سمعه ببغداد ولا أدري ما صحَّته.
أفراد جماعة - قال أبو علي القالي في أماليه قال أبو المياس: الفِجْرِم: الجَوْز.
قال: ولم أجد هذه الكلمة في كتب اللغويين ولا سمعتها من أحد من أشياخنا غيره.
قال: وقال أبو نصر: الكَتيفة: بيضة الحديد ولا أعرف هذه الكلمة عن غيره.
قال: قول ذي الرمة: // من البسيط //
(ما بالُ عَيْنِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ... كأنه من كلى مفرية تسرب)
قال الأُمَوي: السَّرَب: الخُرَز وهو شاذ لم يَقُلْه أحدٌ غيرُه.
وقال أبو بكر بن الأنباري: الطَّخاء: الغيم الكثيف ولم أسمع ذلك إلا منه والذي عليه عامة اللغويين أن الطَّخاء: الغيم الذي ليس بكثيف.
وفي أمالي ثعلب قال أبو الحسن الطوسي: إن المشايخ كانوا يقولون كل ما رأيتَه بعينك فهو عَوَج بالفتح وما لم تر بعينك يقال فيه عِوَج بالكسر وحكي عن أبي عمرو أنه قال في مصدر عَوِج عَوجاً بالفتح ويقال في الدِّين عِوَج وفي العصا والحائط عوج إلا أن تقول عوج عوجا فحينئذ نفتح ولم يقل هذا غيرُ أبي عمرو من علمائنا وهو الثِّقة.
وفيها: يقال: ثوب شَبَارِق ومُشَبْرَق أي خَلَق وحكى أبو صفوان ثوب شَمَارق بالميم ومُشَمْرق ولم يعرفه أصحابُنا.

(1/104)


وفي شرح المقامات لأبي جعفر النحاس: حكى الأَخفش سعيد بن مسعدة: ناقةٌ بِلِزٌ للضخمة ولم يَحْكِه غيره.
وفي تهذيب التبريزي يقال: ما أصابتنا العام قطرة وقَابَّة بمعنى واحدة.
وقال الأصمعي: ما سمعنا لها العام رعدة وقَابَّة يُذْهب به إلى القَبِيب أي الصوت ولم يَرْوِ أحدٌ هذا الحرفَ غيره والناسُ على خلافه.
وفي المحكم: حكى القشيري عن أبي زيد جَنَقُونا بالمَنْجَنيق أي رَمَوْنا به لم أرها لغيره.
وفي كتاب العين التَّاسوعاء: اليوم التاسع من المحرم.
وفقال أبو بكر الزبيدي في كتاب (الاستدراك) على العَين: لم أسمع بالتَّاسوعاء وأهلُ العلم مختلفون في عاشوراء فمنهم من قال: إنه اليوم العاشر من المحرم ومنهم من قال: إنه اليوم التاسع.
وقال القالي في كتاب (المقصور والممدود) قال اللحياني: يقال قعد فلان الأُرْبُعاء والأُبُعَاوى أي مُتَرَبِّعاً وهو نادر لم يأت به أحدٌ غيره.
فائدة - قد يُتَابَع المنفرد على روايته فيقوَى.
قال في الجمهرة: فلان مُزَخْلِبٌ إذا كان يَهْزَأُ بالناس هذا عن أبي مالك وذكر أيضا عن مَكْوَزة الأعرابي.
وقال ابنُ فارس في المُجْمَل: مَقَوْتُ السيفَ: جَلَوْته وكذلك المرآة جاء بهما يونس وأبو الخطاب.
فائدة - قال الجوهري في الصحاح: سائرُ الناس جميعُهم.
قال ابن الصلاح في مشكلات الوسيط قال الأزهري في تهذيبه: أهلُ اللغة

(1/105)


اتَّفقوا على أن معنى (سائر) الباقي ولا الْتِفات إلى قول الجوهري فإنه ممَّن لا يُقْبَل ما يَنْفَرِد به.
انتهى.
وقد انتصر للجوهري بأنه لم ينفرد به فقد قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب: إن (سائر الناس) بمعنى الجميع.
وقال ابنُ دُريد: (سائر الناس) يقع على مُعْظَمِه وجُلِّه.
وقال ابن بري: يدلُّ على صِحَّة قول الجوهري قول مضرس: // من الطويل //
(فما حسنٌ أن يعذرَ المرءُ نفسَه ... وليس له من سائرِ الناسِ عاذرُ)
في شواهد أُخَر.
فائدة - قال الجوهريُّ أيضا: تقولُ كان ذلك عامَ كذا وهلمَّ جرّاً إلى اليوم.
وذكر مثلَه الصَّغاني في عُبَابه وكذر ابن الأنباري (هلمَّ جرا) في كتاب الزاهر وبَسط القولَ فيه.
قال الشيخ جمال الدين بن هشام في تأليف له عندي توقف في كون هذا التركيب عرَبيّاً محضا لأنَّ أئمةَ اللغةِ المعتمَد عليهم لم يتعرَّضوا له حتى صاحب المُحْكم مع كَثرة استيعابه وتتبعه وإنما ذكره صاحب الصحاح.
وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح في شرح مشكلات الوسيط: إنه لا يقبل ما تفرَّد به وكان علَّة ذلك ما ذكره في أول كتابه من أنه يَنْقُل من العرب الذين سمع منهم فإنَّ زمانَه كانت اللغة فيه قد فسدت.
وأما صاحب العُباب فإنه قلَّد صاحب الصحاح فنسَخ كلامه.
وأما ابنُ الأنباريِّ فليس كتابُه موضوعا لتفسير الألفاظ المسموعة من العرب بل وضْعه أن يتكلم على ما يجري في محاورات الناس ولم يصرح بأنه عربي هو ولا غيره من النُّحاة.
انتهى.
وفي المحكم في مُصَنَّفِ ابن أبي شيبة عن جابر بن سَمُرة أنه صلى الله عليه وسلم في جِنَازة ابن الدَّحْدَاح ركب فرسا وهو يَتَقَوْقَس به.
فسَّرَه أصحابُ الحديث أنه ضَرْبٌ من عَدْوِ الخيل.
وبه سمي المُقَوْقِس صاحبُ مصر.
قال: ولم يذكر أحدٌ من أهل اللغة هذه الكلمة فيما انتهى إلينا.

(1/106)


النوع السادس

معرفة من تُقْبَل روايته ومَن تُرَد

فيه مسائل:
الأولى - قال ابن فارس في فقه اللغة: تؤخذ اللغة سَمَاعاً من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة ويتقى المظنون فحدَّثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني عن أبيه عن معروف بن حسان عن الليث عن الخليل قال: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادةَ اللَّبْسِ والتَّعْنيت.
قال ابن فارس: فَلْيَتَحَرَّ آخذُ اللغةِ أهل الأمانة والصِّدْق والثِّقة والعَدالة فقد بلغنا من أمر بعض مَشْيَخة بَغْداد ما بَلَغَنا.
وقال الكمال بن الأنباري في لُمَع الأدلة في أُصول النَّحْو: يُشْتَرط أن يكونَ ناقلُ اللغةِ عَدْلاً رَجلاً كان أو امرأة حرا كان أو عبدا كما يُشْترط في نقل الحديث لأن بها معرفةَ تفسيره وتأويله فاشْتُرِطَ في نقلها ما اشتُرِط في نقله وإن لم تكن في الفضيلة من شكله فإن كان ناقُل اللغة فاسقا لم يقَبل نقله.
الثانية - قال ابنُ الأنباري: يُقْبل نقْل العَدْل الواحد ولا يُشْترط أن يُوافِقَه غيرُه في النَّقل لأن الموافقة لا يخلو إما أن تُشْترط لحصول العلم أو لغَلبة الظَّن.
بطل أن يُقال لِحُصُول العلم لأنه لا يحصلُ العلمُ بنَقْل اثنين فوجب أن يكونَ لغَلَبة الظن وإذا كان لغَلَبة الظنَّ فقد حصلَ غلبةُ الظن بخبَرِ الواحد من غير مُوافقة.
وزعم بعضُهم أنه لا بد من نَقْل اثنين كالشهادة وهذا ليس بصحيح لأن النَّقْل مَبْنَاه على المُسَاهلة بخلاف الشهادة ولهذا يُسْمع من النساءِ على الانفراد مطلقا ومن العبيد ويُقبل فيه العَنْعَنَة ولا يشترط فيه الدعوى وكلُّ ذلك معدوم في الشهادة فلا يُقاسُ أحدُهما بالآخر.
انتهى

(1/107)


ومن أمثلة ما رُويَ في هذا الفن عن النساء والعبيد قال أبو زيد في نَوَادره: قلت لأعرابية بالعُيون ابنة مائة سنة: مالك لا تأتين أهل الرققة فقالت إني أَخْزى أن أمشي في الزقاق: أي أستحي.
وقال أبو زيد: زعموا أن امرأة قالت لابنتها: احفظي بيتك ممن لا تنشرين أي لا تعرفين.
وفي الجمهرة: قال عبد الرحمن عن عمه قال: سمعتُ أعرابية تقول لابنتها: همِّمي أصابعك في رأسي أي حرِّكي أصابعك فيه.
وفي الجمهرة: المنيئة: الدِّباغ يُدْبغ به الأديم والنَّفْس: كفٌّ من الدباغ: قال الأصمعي: جاءت جاريةٌ من العرب إلى قوم منهم فقالت: تقول لكم مولاتي: أعطوني نَفْساً أو نَفْسَين أمْعَس به مَنيئتي فإني أَفِدَة أي مُسْتَعجلة.
وفيها: قال أبو حاتم: قلتُ لأم الهيثم: ما الوَغْد فقالت: الضعيف.
فقلت: إنك قلت مرة الوغد: العبدفقالت: ومن أَوْغد منه.
وفي الغريب المصنف: قال الأصمعي أخبرني أبو عمرو بن العََلاَء قال: قال لي ذو الرمة: ما رأيت أفصح من أمة بني فلانقلت لها: كيف كان مطركم فقالت غِثْنا ما شِئْنا.
الثالثة - قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه: اعْتُمِد في العربية على أشعار العرب وهم كُفّار لبُعْدِ التَّدليس فيها كما اعتُمِد في الطب وهو في الأصل مأخوذ عن قوم كفار لذلك.
انتهى.
ويُؤخذ من هذا أن العربيَّ الذي يُحْتَجُّ بقوله لا يشترط فيه العَدَالة بخلافِ رَاوي الأشعار واللغات.
وكذلك لم يشترطوا في العربي الذي يُحتجّ بقوله البلوغ فأخذوا عن الصبيان.

(1/108)


وقال ابنُ دُريد في أماليه: أخبرنا عبدُ الرحمن عن عمه الأصمعي قال: سمعتُ صِبْية بحمى ضرية يتراجزون فوقفت وصدومي عن حاجتي وأقبلتُ أكتب ما أسمعُ إذ أقبل شيخٌ فقال: أتكتبُ كلامَ هؤلاء الأقزام الأدناع
وكذلك لم أرَهم توقَّوا أشعار المجانين من العرب بل رَوَوْها واحتجُّوا بها وكُتبُ أئمة اللغة مشحونة بالاستشهاد بأشعار قيس بن ذريح مجنون ليلى لكن قال أبو محمد بن المعلى الأزدي في كتاب (الترقيص) : أخبرنا أبو حفص قال أخبرنا أبو بكر الثعلبي عن أبي حاتم قال: قال أبو العلاء العماني الحارثي: لرجل يرقص ابنته: // من الرجز //
(محكوكة العَيْنَيْن مِعْطَاءُ القَفَا ... كأنما قدت على متن الصفا)
(تمشي على متن شِراك أعْجَفَا ... كأنما تَنشر فيه مُصحفا)
فقلت لأبي العلاء: ما معنى قول هذا الرجل قال: لا أدريقلت إن لنا علماء بالعربية لا يَخْفَى عليهم ذلك.
قال فأْتهم.
فأتيتُ أبا عُبيدة فسألته عن ذلك فقال: ما أَطْلَعَني الله على علم الغيبفلقيت الأصمعي فسألتُه عن ذلك.
فقال: أنا أحسب أن شاعرها لو سُئل عنه لم يَدْرِ ما هو.
فلقيتُ أبا زيد فسألتهُ عنه فقال هذا المرقص اسمه المجنون بن جندب وكان مجنونا ولا يَعْرِف كلامَ المجانين إلا مجنونٌ أسألتَ عنه أحدا قلت: نعم فلم يعرفه أحدٌ منهم.
الرابعة - قال ابنُ الأنباري: نَقْل أهلِ الأهواء مقبول في اللغة وغيرها إلاَّ أن يكونوا ممن يتدينَّون بالكَذِب كالخَطَّابيّة من الرَّافِضَة وذلك لأن المُبْتدع إذا لم تكن بدعتُه حاملة له على الكَذب فالظاهرُ صِدْقه.
الخامسة - قال الكمال بن الأنباري: المجهولُ الذي لم يُعْرف ناقله نحوُ أن يقول أبو بكر بن الأنباري: حدثني رجلٌ عن ابنِ الأعرابي غيرُ مقبول لأن الجهلَ بالناقل يُوجب الجهلَ بالعَدالة.
وذهب بعضُهم إلى قبوله وهو القائل بقبول المُرسَل.
قال: لأنه نَقْلٌ صدَر ممن لا يُتَّهم في نَقْله لأن التهمة لو تطرَّقت إلى نَقْله عن المجهول لتطرقت إلى نَقْله عن المعروف.
وهذا ليس بصحيح لأن النقل عن

(1/109)


المجهول لم يصرَّح فيه باسم الناقل فلم يمكن الوقوفُ على حقيقة حَاله بخلاف ما إذا صُرّح باسم الناقل.
فَبان بهذا أنه لا يلزم من قبول المعروف قبولُ المجهول.
هذا كلامُ ابن الأنباري في اللُّمع.
وذكر في الإنصاف أنه لا يحتج بشعر لا يُعرَف قائلُه يعني خوفا من أن يكون لمولد فإنه أورد احتجاج الكوفيين على ذلك.
وذكر ابنُ هشام في تعليقه على الألفية مثلَه فإنه أورد الشعر الذي استدل به الكوفيون على جَواز مدّ المقصور للضرورة وهو قوله: // من الرجز //
(قد علمت أخت بني السِّعْلاء ... وعلمت ذاك مع الجزاء)
(أن نعم مأكول على الخَوَاءِ ... يا لَك من تَمْرٍ ومن شِيشَاءِ)
(يَنْشَبُ في المَسْعَل واللَّهَاءِ)
وقال: الجواب عندنا أنه لا يُعلَم قائله فلا حجة فيه لكن ذكر في شرح الشواهد ما يُخَالفه فإنه قال: طعن عبد الواحد الطراح صاحب كتاب بغية الآمل في الاستشهاد بقوله: // من الرجز //
(لا تكثرن إني عسِيتُ صائما)
وقال: هو بيتٌ مجهول لم يَنسبْه الشرَّاح إلى أحد فسقط الاحتجاج به.

(1/110)


قال ابنُ هشام: ولو صحَّ ما قاله لسقَطَ الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه فإن فيه ألفَ بيت قد عُرِف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين.
ومن أمثلة المجهولِ ناقلٌ قال أبو علي القالي في أماليه: أخبرَنا بعض أصحابنا عن أحمد بن يحيى أنه قال: حكي لنا عن الأصمعي أنه قيل له: إن أبا عبيدة يحكي وَقَع في رُوعي ووقع في جَخِيفي فقال: أما الرُّوع فنعم وأما الجَخيف فلا.
السادسة - التعديلُ على الإبهام: نحو أخبرني الثقةُ هل يُقبل فيه خلاف بين العلماء وقد استعمل ذلك سيبويه كثيرا في كتابه يَعني به الخليل وغيره وذكر المرْزُباني عن أبي زيد قال: كلُّ ما قال سيبويه في كتابه أخبرني الثقة فأنا أخبرته.
وذكر أبو الطيب اللغوي في كتاب (مراتب النحويين) : قال أبو حاتم عن أبي زيد: كان سيبويه يأتي مجلسي وله ذُؤَابتان فإذا سمعته يقول: وحدثني مَن أثقُ بعربيَّته فإنما يريدُني.
وقال ثعلب في أماليه: كان يونس يقول: حدَّثني الثقة عن العرب فقيل له: مَن الثقة قال: أبو زيد.
قيل له: فلِمَ لا تسميه قال: هو حي بعدُ فأنا لا أسميه.
السابعة - إذا قال أخبرني فلان وفلان وهما عَدْلان احتج به فإن جهل عدالة أحدهما أو قال فلان أو غيره لم يحتج.
مثال ذلك قال في الجمهرة: قال الأصمعي قال ابنُ دريد أحسبه يرويه عن يونس قال: سألتُ بعضَ العرب عن السَّبَخَة النَّشَّاشة فوصفَها لي ثم ظنَّ أني لم أفهم فقال: التي لا يجف ثراها ولا يَنْبُتُ مَرْعاها.
وقال في موضع آخرَ: أحسبه عن أبي مَهْدِيّة أو عن يونس وقال أنشد الأصمعي عن أبي عمرو أو عن يونس: // من الوافر //

(1/111)


(عَدَانِي أن أزورَكِ أمَّ بَكْر ... دَيَاوِينٌ تَشَقَّقُ بالمِدَاد)
يريد تشقيق الكلام والدياوين جمع ديوان في لغة وجمعوا على هذه اللغة ديباجا على ديابيج.
وقال أبو علي القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا أبو حاتم أو عبد الرحمن عن الأصمعي - الشك من أبي علي: // من الكامل //
(اقْرَأ على الوَشَل السَّلامَ وقُل له: ... كلُّ المَشَاربِ مُذْ هَجِرتَ ذَمِيمُ)
(سَقْياً لِظلِّك بالعَشِيّ وبالضُّحَى ... ولِبَرْدِ مائكَ والمِيَاهُ حَمِيم)
فرع - إذا سُئل العربيِّ أو الشيخ عن معنى لفظٍ فأجاب بالفعل لا بالقول يكفي.
قال في الجمهرة: ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: سألتُ ذا الرمة عن النَّضْنَاض فلم يزدني على أن حرك لسانه في فيه.
انتهى.
قال ابنُ دريد يقال: نَضنَضَ الحيةُ لسانه في فيه إذا حرَّكه وبه سمى الحية نَضْنَاضاً.
وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: سُئل رُؤْبَة عن الشَّنَبِ فأراهم حبَّة رُمّان.
وقال القالي في أماليه: سُئل الأصمعي عن العارِضَين من اللحية فوضَع يدَه على ما فوق العوارضِ من الأسنان.

(1/112)


النوع السابع

معرفة طرق الأخذ والتحمل

هي ستة:
1 - أحدها - السماعُ من لفظ الشيخ أو العَرَبيّ قال ابنُ فارس: تُؤْخَذ اللغة اعتيادا كالصبي العربي يَسْمَعُ أبَوَيه وغيرَهما فهو يأخذُ اللغة عنهم على ممر الأوقات وتؤخذ تلقنا من ملقن وتؤخذ سماعا من الرواة الثقات وللمتحمل بهذه الطرق عند الأداء والرواية صِيَغ: أَعْلاها أن يقولَ أَمْلَى علي فلانٌ أو أَمَلّ على فلان.
قال أبو علي القالي في أماليه: أَمْلى علينا أبو بكر بن دُريد قال أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة لِخِرْنق بنت هَفَّان تَرْثي زوجَها عمرو بن مرثد وابنها علقمة بن عمر وأخويه حسانا وشرحبيل: // من الكامل //
(لا يَبْعَدَنْ قومي الذين همُ ... سمُّ العُداة وآفَةُ الجُزر)
(النازلون بكل مُعْتَرَك ... والطيِّبون مَعَاقِد الأُزر)
قال: وأمْلى علينا أبو العهد صاحب الزجاج قال: أنشدنا أبو خليفة الفضل بن الحُباب الجُمَحي قال: أنشدنا أبو عثمان المازني للفرزدق: // من البسيط //
(لا خيرَ في حُبّ من تُرْجَى نَوَافِلُه ... فاسْتَمْطِرُوا من قريش كلَّ مُنْخَدِع)
(تَخَال فيه إذا ما جئته بَلَهاً ... في ماله وهْو وَافي العَقْلِ والوَرَع)
قال القالي: أولُ كلمة سمعتها من أبي بكر بن دريد دخلتُ عليه وهو يُملي

(1/113)


على الناس: العربُ تقول هذا أَعْلَق من هذا أي أمر منه وأنشدنا: // من الطويل //
(نَهارُ شَراحيلَ بن طَوْدٍ يَرِيبني ... ولَيْلُ أبي لَيْلَى أَمَرُّ وأَعْلَقُ)
أي أشدُّ مرارة.
- ويلي ذلك سمعت:
قال ثعلب في أماليه: حدثنا مَسلمة قال سمعت الفرَّاء يحكي عن الكِسَائي أنه سمع اسْقِني شَرْبَة ما يا هذا يريد شربة ماء فقصر وأخْرجه على لفظ من التي للاستفهام وهذا إذا مضى فإذا وقف قال: شربة ماء.
وقال أبو حاتم سمع أبا زيد مائة مرة أو أكثر يقول: بَصَّصَ الجِرْ وبالياء إذا فتح عَيْنَيْه كذا في نوادر أبي زيد.
قال القالي حدثني أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت أم الهيثم تقول: شيرة وأنشدت: // من الطويل //
(إذا لم يكن فيكُنَّ ظِلٌّ ولا جَنًى ... فأبْعَدَكُنَّ الله من شِيرَاتِ)
فقلتُ: يا أمَّ الهيثم صغِّريها.
فقالت: شُيَيْرة.
وقال القالي حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: سمعتُ أعرابيا يدعو لرجل فقال جنَّبك الله الأمَرَّين وكفاك شرَّ الأجوفين وأذاقك البردين.
قال القالي: الأمَرَّان: الفَقْر والعُري والأجوفان: البَطْن والفرج والبردان: برد الغنى وبرد العافية.
وقال القالي: حدثنا أبو بكر قال حدَّثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال:

(1/114)


سمعتُ أعرابيا من غَنِّيٍ يذكر مطرا صاب بلادَهم في غِبِّ جَدْب فقال:
تَدَارَكَ رَبُّكَ خَلْقَه وقد كَلِبت الأَمْحَال وَتَقَاصَرَت الآمال وَعَكَفَ اليَاس وكُظِمَت الأَنفاس وأصبحَ الماشي مُصْرِماً والمُتْرب مُعْدِماً وجُفِيت الحَلاَئِل وامْتُهنَت العقَائل فأَنْشَأَ سحابا رُكاماً كَنْهوراً سَجَّاماً بُرُوقُه متألِّقَةٌ ورُعُوده مُتَقَعْقِعَة فَسَحَّ سَاجياً راكِداً ثلاثا غير ذي فُواق ثم أمَرَ ربُّكَ الشَّمَالَ فَطَحَرَت رُكامه وفَرَّقَتْ جَهَامه فَانْقَشَع محمودا وقد أَحْيَا وأَغْنى وجادَ فأَرْوى فالحمدُ لله الذي لا تُكَتُّ نِعَمه ولا تنفد قِسَمُه ولا يَخِيبُ سَائِلُه ولا يَنْزُر نَائِله.
صاب: جاد.
كَلِبت: اشتدَّت.
كُظِمَتْ: رُدَّتْ إلى الأجواف.
الماشي: صاحبُ الماشية.
مُصْرماً: مُقِلاًّ.
المُتْربُ: الغَنيُّ الذي له مالٌ مثل التراب.
امْتُهِنَتْ: استُخْدِمت.
العقَائل: الكرائم.
الكَنَهْوَر: القِطَع كأنها الجبال واحدتها كَنَهْوَرة.
سجَّام: صبَّاب.
متألقة: لامِعَة.
سحَّ: صبَّ.
ساجيا: ساكنا.
طَحَرَت: اذْهَبَتْ.
الرُّكام: ما تَرَاكم منه.
الجَهَام: السحاب الذي هَرَاق ماءَه.
تكت: تحصى.
ينزز: يَقلُّ.
- ويَلِي ذلك أن يقول: حدَّثني فلان وحدَّثنا فلان ويستحسن حدَّثني إذا حدث وهو وحدَه وحدَّثنا إذا حدث وهو مع غيره.
وقال ثعلب في أماليه: حدَّثنا ابنُ الأعرابي قال حدِّثني شيخٌ عن محمد بن سعيد الأموي عن عبد الملك بن عمير قال: كنتُ عند الحجاج بن يوسف فقال لرجل من أهل الشأم: هل أصابك مطرٌ قال نعم أصابني مطر أسَال الآكام وأدْحض التلاع وخرق الرَّجْع فجئتك في مثل مَجَرِّ الضَّبع.
ثم سأل رجلا من أهل الحجاز: هل أصابك مطر قال: نعم سقتني

(1/115)


الأَسْمِية فغيبت الشِّفَار وأُطْفئت النار وتَشَكَّت النساء وتظالمت المِعْزى واحتلبت الدَّرَّة بالجرة.
ثم سأل رجلا من أهل فارس فقال: نعم ولا أحسِنُ كما قال هؤلاء إلا أني لم أزل في ماءٍ وطين حتى وصلت إليك.
وقال حدثني أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس عن ابن الأعرابي قال: يقال: لَحَن الرجل يَلْحَن لَحْناً فهو لاحِن: إذا أَخْطَأَ.
ولَحِنَ يَلْحَن لَحَناً فهو لَحِن: أصاب وفطن.
وقال ثعلب في أماليه: حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب حدثنا أبو العالية قال: قلت للغنوي: ما كان لك بنَجْد قال: ساحات فِيح وعين هُزَاهِز واسعة مُرْتَكَض المحبر.
قلت: فما أَخْرَجَك عنها قال إن بني عامر جعلوني على جنديرة أعينهم يريدون أن يحفظوا دَمِيَّةْ) .
أي يقتلوني سرا.
وقال حدثنا عمر بن شيبة حدثنا إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت حدثنا محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أول مَن قال: (أما بعد) كعب بن لؤي وهو أول مَن سمَّى يوم الجُمُعة الجمعة وكان يقال له العَرُوبة.
وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثنا الحسن بن عُلَيل العَنزي قال حدثني مسعود بن بِشْر عن وهب بن جرير عن الوليد بن يسارٍ

(1/116)


4 - الخزاعي قال: قال عمرو بن معد يكرِب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أأَبْرَامٌ بنو مَخْزُوم قال: وما ذاك قال: تضيَّفْتُ خالد بن الوليد فأتى بقَوْسِ وثَوْرٍ وكَعْبٍ.
قال: إن في ذلك لَشَبْعَة.
قلت: لِيَ أو لَكَ قال: لي ولك.
قال: حِلاًّ يا أمير المؤمنين فيما تَقُول وإني لآكُلُ الجَذَع عن الإبل أَنْتَقِيه عَظْماً عظما وأشرب التِّبْن من اللبن رثيئة وصَريفاً.
قال القالي: القَوْس: البقيَّة من التمر تبقى في الجُلَّة والثَّوْر: القطعة من الأقِط. والكَعْب: القطعة من السمن.
والعرب تقول: حلا في الأمر تَكْرَهُه بمعنى كَلاَّ.
والتِّبْن: أعظمُ الأقداح.
وقال القالي حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال حدثني أبي عن أحمد بن عبيد أنه قال: أحجم المرء عن الأمر إذا كَعَّ وأَحْجَم إذا أقدم.
وقال القالي: حدَّثني أبو عمر الزاهد حدثنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي: قال: العرب تقول ماء قَرَاح وخبَز قَفَار لا أدم معه وسويق جاف وهو الذي لم يلَتّ بسمن ولا زيت وحنظل مُبَسَّل وهو أن يُؤكَل وحدَه.
وقال: حدَّثني غيرُ واحدٍ عن أصحاب أبي العباس ثعلب عنه أنه قال: كلُّ شيء يعزُّ حين ينزر إلا العلم فإنه يعزُّ حين يغزر.
وقال القالي: حدثنا أبو بكر بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن راوية كثير قال: كنت مع جرير وهو يريد الشأم فقال: أنشدني لأخي مُلَيح - يعني كثيرا - فأنشدتُه حتى انتهيت إلى قوله: // من الطويل //
(وأَدْنَيْتِني حتى إذا ما اسْتَبَيْتني ... بقولٍ يُحِلُّ العُصْمَ سَهْلَ الأَباطحِ)

(1/117)


(تولَّيْتِ عني حين لاَ لِيَ مَذْهَبٌ ... وغادرتِ ما غادَرْتِ بين الجوانِح)
فقال: لولا أنه لا يَحْسن لشيخ مثلي النَّخِير لَنَخَرْتُ حتى يَسْمَع هشامٌ على سريره.
- ويلي ذلك أخبرني فلان واخبرنا فلان ويُسْتَحْسَن الإفراد حالَة الأفرد والجمع حالة الجمع كما تقدم.
قال ثعلب في أماليه أخبرنا أبو المنهال قال أخبرنا أبو زيد قال: السانح الذي يليك مَيَامِنه إذا مرَّ من طير أو ظبيٍ أو غيره والبَارِح الذي يليك مَيَاسِره إذا مرَّ بك وإن استقبلك فهو ناطِح وإن استدبرك استدبارا فهو قعيد وإن مر معترضا قريبا فهو الذابح وأنشد للخطيم: // من الطويل //
(بَرِيحاً وشرُّ الطيْر ما كان بارحا ... بشَؤمِي يديه والشَّواحج بالفجر)
يريد وشرها الشواحج بالفجر يريد الغِرْبان وقال في مصارد هذه الجواري وهي تمر به فيزجرها وكلها عندهم طائر في موضع الزجر وإن كان ظبيا أو غيره: سَنَح يسْنَح سُنوحاً وسَنْحاً وبَرَح يبرُح بروحا وبرحا ونطح ينطح نَطْحاً وقَعِد الطائر مكسورة العين يقعد قعْداً وذبح يذبح ذبحا قال أبو زيد: وإنما قال الحظيم: بَرِيحاً على لَفْظِ سنيح وذبيح وقَعِيد.
- ويلي ذلك أن يقول: قال لي فلان قال ثعلب في أماليه: قال لي يعقوب: قال لي ابنُ الكلبي: بيوتُ العرب ستةٌ: قُبَّة من أَدَمَ ومِظلَّة من شعر وخباءٌ من صوف وبجَادَ من وَبَر وخَيْمَة من شَجَر وأُقْنة من حجر.
ويلي ذلك أن يقول: قال فلان بدون لي قال ثعلب في أماليه: قال أبو المنهال قال أبو زيد: لستُ أقولُ: قالت العربُ إلا إذا سمعتُه من هؤلاء: بكر بن هوازن وبني كلاب وبني هلال أو من عالية السافلة أو سافلة العالية وإلا لم أقلْ: (قالت العرب) .
قال: وعرضتُ قوله على الأخفش صاحب الخليل وسيبويه في النحو فجعل

(1/118)


يقول: قال يونس: حدثني الثّقَةُ عن العرب قلت له: مَنِ الثقة قال أبو زيد: فقلتُ له: فما لك لا تسميه قال: هو حيٌّ بعدُ فأنا لا أسميه.
وقال ثعلب: قال أبو نصر: قال الأصمعي: أشدُّ الناس الأعجف الضَّخم وأخبثُ الأفاعي أفاعي الجَدْب وأخبث الحيات حيات الرمت وأشد المواطىء الحصى على الصَّفا وأخبث الذئاب ذِئاب الغَضَى.
وقال القالي: حدثنا أبو محمد قال: قرأت على علي بن المهدي عن الزجاج عن الليث قال: قال الخليل: الجعسوس: القبيح اللئيم الخُلُق والخَلْق.
ونحو ذلك أو مثله أن يقول زعم فلان:
قال القالي في أماليه: قرأت على أبي عمر المطرز حدثنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: زعم الثقفي عثمان بن حَفْص أن خَلَفاً الأحمرَ أخبره عن مروان ابن أبي حفصة أن هذا الشعر لابن الدمينة الثقفي: // من الطويل //
(ما بَالُ من أَسْعَى لأجْبُرَ عَظْمَه ... حِفَاظاً ويَنْوي من سَفَاهَتِه كَسْرى)
... الأبيات.
وقال ثعلب في أماليه: حدثنا عمر بن شيبة حدثني محمد بن سلاَّم قال زعم يونس بن حبيب النحوي قال: صنع رجلٌ لأعرابي ثَرِيدة ثم قال له: لا تسقعها ولا تشرمها ولاتقعرها.
قال: فمن أين آكل لا أبالكقال ثعلب: تصقعها: تأكلُ من أعلاها. وتَشْرمها: تخرقها وتَقْعرها.
تأكلُ من أسفلها.
قال ثعلب: وفي غير هذا الحديث: فمن أين آكل قال: كلْ من جَوانبها.
قال القالي: أخبرنا الغالبي عن أبي الحسن بن كيسان عن أبي العباس أحمد

(1/119)


ابن يحيى قال: زعم الأصمعي أن الغَرْز لغة أهل البحرين وأن الغَرَز بالفتح اللغة العليا.
ويلي ذلك أن يقول عن فلان.
قال ثعلب في أماليه: قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قاتل الله أَمَّة بني فلان سألتها عن المطر فقالت: غِثْنا ما شئنا.
وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيتُ أعرابيا بمكة فقلت: مِمَّنْ أنت قال: أسدي.
قالت: ومِن أيهم قال نمري.
قلت من أيِّ البلاد قال: مِن عمان.
قلت: فأَنَّى لك هذه الفَصاحة قال: إنَّا سكَنَّا أرضا لا نَسْمَعُ فيها ناجخة التَّيار.
قلت: صِفْ لي أرضَك.
قال: سِيفٌ أفيح وفضاء ضَحْضَحْ وجَبل صَرْدَح ورمل أَصْبَح قلت: فما مالُك قال: النخل.
قلت: فأين أنت عن الإبل قال: إن النَّخل حِمْلُها غذاء وسَعفها ضياء.
وجِذْعها بناء وكَرَبها صلاء وليفها رِشاء وخوصها وِعاء وقَرْوُها إناء.
قال القالي: الناجخة: الصوت.
والتيار الموج.
والسيف: شاطىء البحر.
وأفيح: واسع والفضاء الواسع من الأرض.
والضَّحْضَح: الصحراء.
والصَّرْدح: الصلب.
والأصبح: الذي يعلو بياضه حُمرة.
والرشاء: الحبل.
والقَرْو: وعاء من جذع النخل ينبذ فيه.
- ومثل (عن) إن فلانا قال.
قال القالي في أماليه: حدثني أبو عمر (الزاهد) عن أبي العباس - (يعني ثعلبا) - عن ابن الأعرابي أن غُلَيِّماً من بني دبير أنشده: // من الرجز //
(يابن الكِرام حَسَباً ونَائلاَ ... حَقّاً ولا أقولُ ذاك باطلا)
(إليك أشكو الدَّهْرَ والزَّلازلا ... وكلَّ عامٍ نقح الحمائلا)

(1/120)


قال القالي: التنقيح: القَشر.
قال: قشروا حمائلَ السيوف فباعوها لشدَّة زمانهم.
وقال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري أن أبا عثمان أنشدهم عن التَّوَّزيَّ عن أبي عبيدة لأِعرابيٍّ طلَّق امرأته ثم ندم فقال: // من الطويل //
(نَدِمْتُ وما تُغْنِي الندامةُ بَعْدَما ... خرجنَ ثلاثٌ ما لهن رجوع)
(ثلاث يحرمن الحلال على الفتى ... ويصدعن شَمْلَ الدار وهو جَمِيعُ)
ومن غريب الرواية ما ذكره أبو العباس ثعلب في اماليه قال الذي أحقه عن عبد الله بن شبيب أكثر وهمي قال أخبرنا الزبير بن بكار عن يعقوب بن محمد عن إسحاق بن عبد الله قال: بينما امرأةٌ تَرْمي حَصَى الجِمار إذ جاءت حصاة فصكَّت يدها فَوَلْوَلَتْ وأَلْقَت: الحصى فقال لها عمر بن أبي ربيعة تَعُودين صاغرة فتأخذين الحصى فقالت أنا والله يا عمر: // من الطويل //
(من اللاءِ لم يحججنَ يبْغِين حِسْبة ... ولكن ليقتبن البريءَ المغَفَّلاَ)
فقال: صانَ الله هذا الوجه عن النار.
ويقال في الشعر أنشدنا وأنشدني على ما تقدم.
قال القالي في أماليه: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري رحمه الله قال: أنشدنا أبو العباس بن مروان الخطيب لخالد الكاتب قال: وسمعت شعر خالد من خالد: // من البسيط //
(رَاعَى النجومَ فقد كادت تُكَلِّمُه ... وانْهَلَّ بَعْدَ دُموعٍ يَالَهَا دَمُهُ)
(أَشْفَى عَلَى سَقَمٍ يُشْفَي الرَّقيبُ به ... لو كان أَسْقَمَه مَنْ كان يَرْحَمُهُ)
يَا مَنْ تَجَاهَلَ عَمَّا كَانَ يَعْلَمُهُ ... عَمْداً وباحَ بِسِرٍّ كان يَكْتُمُهُ)
(هذا خَلِيلُك نِضْواً لا حراكَ بهِ ... لم يَبْقَ من جسمه إلا تَوَهُّمُه)

(1/121)


قال القالي: أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدني عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال أنشدتني عشرقة المحاربية - وهي عجوز حيزبون زولة: // من الطويل //
(فما لَبسَ العُشَّاق من حُلَل الهَوَى ... ولا خَلَعُوا إلاَّ الثِّيَابَ التي أُبْلي)
(ولا شربوا كأْساً من الحبِّ مُرَّةً ... ولا حُلْوَةً إلا شَرَابُهُم فَضْلِي)
(جَرَيْتُ مع العُشَّاقِ في حَلْبَةِ الهَوَى ... فَفُقْتُهُمُ سَبْقاً وجئتُ على رِسْلِي)
وقال القالي وأنشدني أبو عمرو عن أبي العباس عن ابن الأعرابي: // من الطويل //
(لقد عَلِمَتْ سَمْراءُ أنَّ حديثَهَا ... نَجِيعٌ كما ماءُ السماءِ نَجِيعُ)
(إذا أمَرَتْني العَاذِلات بَصَرْمها ... أَبَتْ كَبِدٌ عما يَقُلْنَ صَدِيع)
(وكيف أُطِيعُ العاذِلاتِ وحُبُّها ... يُؤرِّقني والعاذِلاتُ هُجوع)
قال القالي: أنشد ابنُ الأعرابي البيتين الأولين وأنشدنا أبو بكر بالإسناد الذي تقدم عن الأصمعي عن عشرقة البيت الثاني والثالث.
وقال ثعلب في أماليه أنشدنا عبد الله بن شبيب قال: أنشدني ابن عائشة لأبي عبيد الله بن زياد الحارثي: // من البسيط //
(لا يَبْلُغُ المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموا ... حتى يَذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوام)
(ويُشْتَمُوا فَترَى الألْوَانَ مُسْفِرَةً ... لا عَفْوَ ذلٍّ ولكن عَفْوَ أَحْلامَ)
وقال الزجاجي في شرح أدب الكاتب أنشدنا أبو بكر بن دريد قال أنشدنا

(1/122)


عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال أنشدني أعرابي من بني تميم ثم من بني حنظلة لنفسه: // من مجزء الرمل //
(مَنْ تصدَّى لأخيه ... بالغِنى فهو أخُوه)
(فهو إنْ يَنْظُر إليه ... رأى ما لا يَسوه)
(يكرم المرء وإن أملق ... أقْصَاه بَنُوه)
(لو رأى الناسُ نبيا ... سائلا ما وصَلُوه)
(وهم لو طمعوا في ... زَادِ كَلْب أكلوه)
(لا تراني آخرَ الدَّهْرِ ... بتسآل أفُوه)
(إن من يَسأل سوى الرحمن ... يكْثر حارموه)
(والذي قام بأرزاق ... الورى طرا سلُوه)
(وعن الناس بفضل الله ... فاغنوا واحْمَدوه)
(تلْبَسوا أثوابَ عز ... فاسْمَعُوا قولي وعوه)
(أنت ما استغنيت عن صاحبك ... الدَّهْرَ أخوه)
(فإذا احتجتَ إليه ... ساعة مجَّك فُوه)
(أهْنأ المعروف ما لم ... تُبْتَذَلْ فيه الوجوه)
(إنما يصطنع المعروف ... في الناس ذَوُوه) وقد يُستعمل في الشعر حدثنا وسمعت ونحوهما
قال القالي حدثنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد الأزدي المعروف بنفْطَويه قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن ابن

(1/123)


مِقَمَّة عن أمه قالت: سمعتُ مَعْبداً بالأخْشَبَيْن وهو يغني: // من الخفيف //
(ليس بين الحياةِ والموتِ إلا ... أن يَرُدُّوا جِمَالَهُمْ فَتُزَمّا)
(ولقد قلتُ مُخْفِياً لِغَرِيضٍ: ... هَلْ ترى ذلك الغَزالَ الأجَمَّا)
(هل تَرى فوقَه من الناس شَخْصاً ... أحسنَ اليومَ صورة وأتَمّا)
(إن تنيلي أعش بخير وإن لم ... تبدلي الود مت بالهم غما)
(القراءة على الشيخ)

ثانيها - القراءة على الشيخ ويقول عند الرواية: قرأت على فلان.
قال القالي في أماليه قرأت على أبي بكر محمد بن أبي الأزهر قال حدثني حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني أبي قال: قيل لعَقِيل بن عُلّفة وأراد سفرا أين غَيْرتك على مَنْ تُخَلِّف مِنْ أهلك قال: أُخَلِّف معهم الحافِظِين: الجوعَ والعُرْيَ أُجيعُهنَّ فلا يَمْرَحْن وأُعْرِيهن فلا يبْرَحن.
وقال قرأت على أبي بكر محمد بن أبي الأزهر وقال حدثنا الشونيزي قال: حدثنا محمد بن الحسن المخزومي عن رجل من الأنصار نسي اسمَه قال: جاء حسان بن ثابت إلى النابغة فوجدَ الخنساء حين قامت من عنده فأنشده قوله: // من الكامل //
(أولاد جَفْنَةَ حَوْلَ قبرِ أبيهم ... قبر ابن مَارية الكَرِيمِ المُفْضِل)
(يَسْقُونَ مَنْ ورَدَ البَريصَ عليهم ... بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ)
(يُغْشَوْن حتى لا تَهِرُّ كِلابهم ... لا يسألون عن السَّواد المُقْبلِ)
... الأبيات فقال: إنك لشاعر وإن أُختَ بني سليم لَبَكَّاءَةٌ.
وقال القالي قرأت على أبي عمر الزاهد قال: حدثنا أبو العباس ثعلب عن ابن

(1/124)


الأعرابي قال: الطاية والتاية والغاية والرََّاية والآية فالطايةُ: السَّطْحُ الذي ينام عليه.
والتَّاية: أن تَجْمَعَ بين رؤوس ثلاث شجرات أو شجرتين فَتُلْقى عليها ثوبا فيستظلُّ به.
والغاية: أقصى الشيء وتكون من الطير التي تُغَيي على رأسك أي ترفرف.
والآية: العلامة.
وقال القالي: قرأت على أبي عمر الزاهد قال حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال يقال: علَّ في المرض يَعِلُّ أي اعتلَّ وعلَّ في الشراب يَعِلُّ وَيعُلّ عَلاًّ.
وقال القالي قرأت على ابي بكر بن دريد قال: قرأت على أبي حاتم والرياشي عن أبي زيد قال راجز من قيس: // من الرجز //
(بئس الغِدَاءُ للغلام الشاحبِ ... كَبْدَاء حُطَّتْ من صَفاَ الكَواكبِ)
(أدارها النَّقَّاش كلَّ جانبِ ... حتى اسْتَوَتْ مُشْرِقة المَناكب)
يعني رحى.
قال: وقرأت على أبي عمر عن أبي العباس عن ابن الأعرابي في صفة البعوض: // من الرجز //
(مِثْلُ السَّفاةِ دائمٌ طَنِينها ... رُكِّبَ في خُرْطُومها سِكِّينها)
ويستعمل في ذلك أخبرنا.
رأيت القالي في أماليه يذكر في الرواية عن ابن دريد حدثنا لأنه أخذ عنه إملاء ويذكر عن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش تارة أمْلى عليَّ فيما سمعه إملاء عليه وتارة أخبرنا فيما قرأه عليه وتارة قرىء عليه وأنا أسمع وقد يستعمل فيه حدثنا.
قال الترميسي في نكت الحماسة: حدثنا أبو العباس محمد بن العباس بن

(1/125)


أحمد بن الفرات قراءة عليه قال قرأت على أبي الخطاب العباس بن أحمد حدثنا أبو أحمد محمد بن موسى بن حماد اليزيدي أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة أنبأنا عمر بن محمد بن عبد الرزاق بن الأقيصر قال: كان هريم بن مِرْداس أخو عباس بن مِرْداس يجاور إلى خراعة فذكر قصة وشعرا.
فرع - ويجوز في القراءة والتَّحْديث تقديمُ المَتْن أو بعضِه على السَّند.
قال القالي في أماليه: قرأت على أبي عبد الله نِفْطَوَيه قال عثمان بن إبراهيم الخاطبي - فقال لي بعد أن قرأتُ قطعة من الخبر فتبينه: حدثنا بهذا الخبر أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي قال: أتيت عمر بن أبي ربيعة فذَكر قِصَّةً طويلة وشعرا واْشعاراً وقد كانت الأئمةُ قديما يتصدَّوْن لقراءة أشعار العربِ عليهم وروايتها.
أخرج الخطيب البغدادي عن ابن عبد الحكم قال: كان أصحابُ الأدَب يأتون الشافعي فيقرؤون عليه الشعرَ فيفسره وكان يحفظُ عشرةَ آلاف بيت من شعرِ هُذَيل بإعرابها وغَرِيبها ومَعَانيها.
وقال السَّاجي: سمعتُ جعفر بن محمد الخوارزمي يحدِّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأتُ شعرَ الشَّنفَرى عن الشافعي بمكة.
وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: قلت لعمِّي: عَلَى مَنْ قرأتَ شِعْرَ هُذَيل قال: على رَجُلٍ من آلِ المطلب يقال له ابنُ إدْريس.
وقال ابن دريد في أماليه: أخبرنا أبو حاتم قال: جئت أبا عُبَيدة يوما ومعي شعرُ عُرْوة بن الوَرْد فقال لي: ما مَعَك فقلت: شعر عروة.
فقال: فارغٌ حَملَ شِعْر فقير ليقرأه على فَقِير.
وقال القالي: حدَّثنا أبو بكر بن دريد قال: جلس كاملٌ الموصلي في المسجد الجامع يقرىء الشعر فصعد مخلد الموصلي المنارة وصاح: // من السريع //
(تأهبوا للحَدَثِ النَّازلِ ... قد قُرِئ الشِّعْرُ على كامل)

(1/126)


.. في أبيات أخر.
(السماع على الشيخ)

ثالثها - السماع على الشيخ بقراءةِ غيره ويقول عند الرواية قرىء على فلان وأنا أسمَع.
قال القالي: (قرأتُ على أبي بكر بن الأنباري في كتابه وقرىء عليه في المعاني الكبير ليعقوب بن السكيت وأنا أسمع فذكر أبياتا) وقال أنشدني أبو بكر بن الأنباري قال: قرىء على أبي العباس (أحمد بن يحيى) لأبي حية النميري وأنا أسمع: // من الطويل //
(وخَبَّرَكِ الوَاشُون أن لَنْ أُحبَّكم ... بَلَى وسُتُورِ الله ذات المحارم)
... الأبيات.
وقال القالي: قرىء علي أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش وأنا أسمع وذكر أنه قرأ جميعَ ما جاء عن أبي مُحَلِّم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين فذكر أبو جعفر أنه سَمِع ذلك مع أبيه من أبي محلم قال أنشدني أبو محلم لخِنَّوْص أحد بني سعد: // من الطويل //
(ألا عائذٌ بالله من سَرَفِ الغِنَى ... ومن رَغبْة يوما إلى غير مَرْغَب)
... الأبيات

(1/127)


وبهذا الإسناد عن أبي محلم قال: أنشدني مَكْوَزَة وأبو مَحْضَة وجماعة من ربيعة لسَيَّار بن هُبَيرة (يُعَاتب خالدا أو زيادا أخويه ويمدح أخاه منخلا) : // من الطويل //
(تناس هَوى أسماء إما نَأيْتَها ... وكيف تَناسِيك الذي لَسْت نَاسِيا)
... القصيدة بطولها.
ويستعمل في ذلك أيضا أخبرنا قراءة عليه وأنا أسمع وأخبرني فيما قرىء عليه وأنا أسمع وقد يسْتعمل في ذلك حدثنا.
رأيت الترميسي في شرح نكت الحماسة يقول: حدثنا فلان فيما قرىء عليه وأنا أسمع والترميسي هذا متقدمٌ أخذَ عن أبي سعيد السِّيرافي وأبي أحمد العسكري وظبقتهما.
(الإجازة)

رابعا - الإجازة وذلك في رواية الكتب والأشعار المدوَّنة.
قال ابن الأنباري: الصحيحُ جوازُها لأن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كتب كُتُباً إلى الملوك وأخبرت بها رسله ونُزِّل ذلك مَنْزلة قوله وخِطابه وكتب صحيفة الزكاة والدِّيات ثم صار الناسُ يُخْبرون بها عنه ولم يكن هذا إلا بطريق المناولة والإجازة فدلَّ على جوازها وذهب قومٌ إلى أنها غيرُ جائزة لأنه يقول: أخبرني ولم يوجد ذلك.
وهذا ليس بصحيح فإنه يجوزُ لمَنْ كتب إليه إنسان كتابا وذكر له فيه أشياء أن يقول أخبرني فلان في كتابه بكذا وكذا ولا يكون كاذبا فكذلك المرء ههنا.
انتهى.
وقال ثعلب في أماليه: قال زبير: ارْوِ عنِّي ما أخذته من حديثي فهذه إجازة.
وقال أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني: أخبرني محمد بن خلف بن

(1/128)


المرزبان قال أخبرنا الزبير بن بكار إجازة عن هارون بن عبد الله الزبيري عن شيخ من (الخُضْر بالسُّغْد) قال: جاءنا نُصَيب إلى مسجدنا فاستنشدناه فأنشدنا: // من الطويل //
(ألا يا عُقاَب الوَكْرِ وَكْرِ ضَرِيَّةٍ ... سُقيت الغَوَادي من عُقاَبٍ ومن وَكْرِ)
... القصيدة بتمامها.
وقال ابنُ دريد في أماليه: أجاز لي عمي في سنة ستين ومائتين قال حدَّثني أبي عن هشام بن محمد بن السائب قال حدَّثني ثابت بن الوليد الزهري عن أبيه عن ثابت بن عبد الله بن سباع قال حدثني قيس بن مخرمة قال: أوصى قصي بن كلاب بنيه وهم يومئذ جماعة فقال: يا بني إنكم أصبحتم من قومكم موضع الخَرَزَةِ من القِلادة يا بني فأكرموا أنفسكم تُكْرمكم قومُكم ولا تَبْغُوا عليهم فتبوروا وإيَّاكم والغَدْر فإنه حُوَب عند الله عظيم وعارٌ في الدنيا لازمٌ مقيم وإياكم وشُرْبَ الخمر فإنها إن أصلَحَتْ بدَناً أفسدَتْ ذِهْناً. وذكر الوصية بطولها.
قال ابن دريد وأجاز لي عمي عن أبيه عن ابن الكَلْبي قال أخبرني الشرفي وأبو يزيد الأودي قالا: أوْصى الأفْوَه بن مالك الأودي فقال: يا معشر مَذْحج عليكم بتقْوَى الله وصلةِ أرحامكم وحُسْنِ التعزِّي عن الدنيا بالصّبْر تَعِزُّوا والنظر في ما حوْلكم تُفلحوا ثم قال: // من البسيط //
(إنا مَعَاشِرُ لم يَبْنُوا لقومِهمُ ... وإنْ بَني قومُهم ما أفْسدوا عادُوا)
... القصيدة بطولها.
ومن جملتها:
(لا يَصْلحُ الناسُ فَوْضَى لا سَرَاةَ لهم ... ولا سَرَاةً إذا جُهَّالُهمْ سادُوا)

(1/129)


وقال ابن دُرَيد: أجاز لي عمي عن أبيه عن ابن الكَلْبي عن أبيه قال: حدَّثني عبادة بن حصين الهمداني قال: كانت مُرَاد تعبدُ نَسْراً يأتيها في كل عام فيضربون له خِباءً ويُقْرِعون بين فَتياتهم فأيتُهنّ أصابَتْها القرعةُ أخرجوها إلى النسر فأدخلوها الخِباء معه فيمزِّقُها ويأكلُها ويُؤْتَى بخمر فَيَشْرَبه ثم يخبرهم بما يصنعون في عامهم ويطير ثم يأتيهم في عام قاَبل فيصنعون به مثلَ ذلك وإن النسر أتاهم لعادته فأقْرعوا بين فَتياتهم فأصابت القُرعْة فتاة من مُراد وكانت فيهم امرأةٌ من همدان قد وَلَدت لرجل منهم جارية جميلة ومات المُرَاديّ وتيتَّمت الجارية فقال بعض المراديين لبعض: لو فديتم هذه الفتاة بابنةِ الهمدانية.
فأجْمَع رأيُهم على ذلك. وعَلِمت الفتاةُ ما يُرَاد بها ووافَقَ ذلك قدومُ خالها عمرو بن خالد بن الحصين أو عمرو بن الحصين بن خالد فلما قدم على أخته رأى انكسارَ ابنتها فسألها عن ذلك فَكَتَمتْه ودخلت الفتاة بعضَ بيوت أهلِها فجعلتْ تبكي على نفسها بهذه الأبيات لكي يسمع خالها: // من الطويل //
(أتثني مراد عامها عن فتاتها ... وتُهْدي إلى نَسْرٍ كريمة حَاشِد)
(تُزَفُّ إليه كالعَرُوس وخالها ... فتى حي همدان عمير بن خالد)
(فإن تنم الخَوْدُ التي فُدِيت بنا ... فما ليلُ مَنْ تُهْدَى لَنسْر بَرَاقِد)
(مع أني قد أرجو من الله قَتْله ... بكفِّ فَتًى حامِي الحقيقة حارد)
ففطن الهمداني فقال لأخته: مابال ابنتك فقصَّت عليه القصَّة.
فلما أمسى الهمداني أخذ قَوْسَه وهيَّأ أسْهُمَه فلما اسوَدَّ الليلُ دخل الخِباء فكَمن في ناحِية وقال لأخته: إذا جاؤوك فادْفَعي ابنتَك إليهم.
فأقبلتْ مُراد إلى الهمدانية فدفعت ابنَتها إليهم.
فأقبلوا بالفتاة حتى أدخلوها الخِباء ثم انصرفوا.
فحجَل النَّسْر نحوها فرماه الهمداني فانتظَم قلبه ثم أخذ ابنةَ أخته وترك النَّسْر قتيلا وأخذ أختَه وارْتَحل في ليلته وذلك بوادي حُراض ثم سرَى ليلته حتى قطع بلاد مراد وأشرف على بلاد همدان فأغذَّت مراد السير فلم تُدركْه فعظُمت

(1/130)


المصيبة عليها بقَتْل النسر فكان هذا أولَ ما هاج الحرب بين همدان ومراد حتى حجر الإسلام بينهم فقال الهمداني: // من الطويل //
(وما كان من نَسْرٍ هِجَفّ قتلته ... بوادي حُراض ما تغذ مراد)
(أرَحْتُهم منه وأطفأت سُنَّة ... فإنْ باعَدُونا فالقلوب بعاد)
(له كل عام من نِساء مخاير ... فتاة أناس كالبنية زاد)
(تزف إليه كالعروس وما له ... إليها سوى أكل الفتاة معاد)
(فلما شكته حرة حاشدية ... أبوها أبى والأم - بَعْدَ سُهاد)
(سددت له قَوْسِي وفي الكف أسهم ... مَرَاعِيس حرات النِّصال حِداد)
(فأرميه متن تحت الدُّجَى فاختللته ... ودوني عن وجه الصباح سواد)
وأنشأت الفتاة تقول: // من المتقارب //
(جزى الله خالي خير الجزا ... بمتركه النَّسر زهفا صَرِيعا)
(زُفِفْتُ إليه زفاف العروس ... وكان بمثلي قديما بلوعا)
(فيرميه خالي عن رقبة ... بسهم فأنفذ منه الدَّسِيعا)
(وأضْحت مراد لها مأتم ... على النَّسْرِ تَذْرى عليه الدُّمُوعا)
وقال الترميسي في نكت الحماسة: أجاز لي أبو المنيب محمد بن أحمد الطبري قال أنشدنا اليزيدي لابن مخزوم: // من البسيط //
(إنا لَنُرْخِص يَوْم الرَّوْع أنفُسَنا ... ولو نُسَامُ بها في الأمن أغلينا)
خامسها - المكاتبة قال ثعلب في أماليه: بعث بهذه الأبيات إلي المازني وقال أنشدنا الأصمعي: // من الطويل //
(وقائلة ما بالُ دَوْسَر بعدنا ... صحا قلبه عن آل لَيْلَى وعن هِنْد)
... الأبيات.

(1/131)


وقال الترميسي في نكت الحماسة: أخبرنا أبو أحمد الحسن بن سعيد العسكري فيما كتب به إلي وحدثنا المرزباني فيما قرىء عليه وأنا حاضر أسمع قالا: أخبرنا محمد بن يحيى قال حدثنا الغلابي قال: حدثنا إبراهيم بن عمر قال: سأل الرشيدُ أهلَ مجلسه عن صدر هذا البيت: // من الطويل //
(ومن يسألُ الصَّعْلوك أين مذاهبُه)
فلم يعرفه أحد فقال إسحاق المَوْصلي: الأصمعي مريض وأنا أمضي إليه فأسأله عنه فقال الرشيد: احملوا إليه ألفَ دينار لنفقته واكتبُوا في هذا إليه. قال: فجاء جواب الأصمعي: أنشدنا خلف لأبي النَّشْناش والنهشلي:
(وسائلةٍ اينَ الرَّحيل وسائِل ومَن يسألُ الصعلوكَ أين مذاهبُه)
(ودَاوِيَّة تَيْهاء يُخْشى بها الرَّدى ... سَرت بأبي النَّشْناش فيها رَكائبُه)
(لِيُدرك ثارا أو ليكسب مَغْنَماً ... جزيلا وهذا الدَّهرُ جَمٌّ عَجائبه)
قال: وذكر القصيدة كلها.
سادسها - الوجادة.
قال القالي في أماليه قال أبو بكر بن أبي الأزهر: وجَدْت في كتاب أبي حدَّثنا الزبير بن عباد ولا أدري عمَّن هو قال: حدَّثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن المغيرة بن عبد الرحمن قال: خرجتُ في سفر فصَحِبني رجلٌ فلما أصبحْنا نزَلنا منزلا فقال ألا أنشدك أبياتا قلت: أنشدني فأنشدني:
// من الكامل //
(إنَّ المُؤَمِّل هاجَه أحزانه ... لما تَحَمَّل غُدوةً جِيرانهُ)
(بانوا فَمُلْتَمِسٌ سوى أوْطانه ... وطَناً وآخرُ همُّه أوطانهُ)
(قد زادني كلَفاً إلى ما كان بي ... رِئْمٌ عصى فأذابني عِصْيانُه)
(إنْ كان شيءٌ كان منه ببابل ... فَلِسَانهُ قد كان أو إنسانه)

(1/132)


(قال) قلت: إنك لأنت المؤمل (قال: أن المؤمل) بن طالوت.
وقال أبو عبيدة في كتاب أيام العرب: وجدتُ في كتابٍ لبعِض ولد أبي عمرو بن العلاء: أخذ عن سليط بن سعد اليربوعي أن الحَوْفزان أغار على بني يَرْبوع فنَذِروا به فذكر قصة.
وقال القالي في أماليه قال أبو بكر بن الأنباري: وجدتُ في كتاب أبي عن أحمد بن عبيد عن أبي نصر: كان الأصمعي يقول: الجَلَل: الصغير اليسير ولا يقول: الجلَل: العظيم.
وقال الترميسي في نكت الحماسة: وجدت بخط أبي رياش قال أخبرنا ابن مقسم عن ثَعْلب إجازة بقصيدة أبي كبِير الهُذَلي وهي من مشهور الشعر ومذكوره: // من الكامل //
(أزهير هَلْ عن شيبة من معدل)
قال: وقرأتها من طريق آخر على الشيخ أبي الحسن علي بن عيسى النحوي وكان يرويها عن ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي.
وقال ابنُ ولاد في المقصور والممدود: عُشُورا بضم العين والشين زعم سيبويه أنه لم يعلم في الكلام شيءٌ على وزنه ولم يذكر تفسيره.
وقرأت بخط أهل العلم أنه اسم موضع ولم أسمع تفسيره من أحد.
قلت: ذكر القالي في كتاب المقصور والممدود أن العشورا: العاشوراء. قال: وهي معروفة.
وفي الصحاح: أحْقَد القومُ: إذا طَلَبوا من المَعْدِن شيئا فلم يجدوا.
هذا الحرف نقلتُه من كتابٍ ولم أسمْعه.

(1/133)


وفيه حكى السجستاني: ماءٌ رَمِدٌ إذا كان آجنا.
نقلتُه من كتاب.
وفيه: لَجِذ الكلب الإناء بالكسر لَجْذا ولَجَذا أي لحسَه حكاه أبو حاتم نقلتُه من كتاب الأبواب من غير سماع.
وفيه: الكُظْر في سِيَة القوس وهو الفَرْض الذي فيه الوتر.
والكُظْر أيضا: ما بين الترقوتين وهذا الحرفُ نقلته من كتابٍ من غير سماع.
وفيه: هَرْهَرْتُ الشيء لغة في فَرْفَرْته إذا حركته وهذا الحرفُ نقلتُه من كتاب الاعتقاب لأبي تراب من غير سماع.
وقال أبو زيد في نوادره: سمِعتُ أعرابيَّاً من بني تميم يقول: فلان كِبْرَة ولد أبيه أي أكبرهم.
وقال أبو حاتم: وقع في كتابي إكْبِرَّة ولد أبيه أي أكبرهم فلا أدري أغلط هو أم صواب.
وفي الصحاح: تقول العرب: فلان ساقطُ بنُ ماقِط بن لاقطِ تَتسابُّ بذلك فالساقط: عبد الماقط والماقط: عبد اللاقط واللاقط: عبد معتق نقلته من كتابٍ من غير سماع.
وفيه: قول الراجز: // من الرجز //
(تُبْدِي نَقِيّاً زانَهاَ خِمارُها ... وقُسْطَة ما شانَها غُفَارُها)
يقال: القُسْطَة: هي السَّاق نقلته من كتاب.
وفيه: الطَّقْطَقَة: صوتُ حوافر الدواب مثل الدَّقْدَقَة وربما قالوا: حَبَطِقْطِقْ

(1/134)


كأنهم حكَوا به صوت الجرى وأنشد المازني: // من مجزوء الرمل //
(جَرت الخَيْلُ فَقالتْ ... حَبَطِقْطِقْ حَبَطِقْطِق)
ولم أرَ هذا الحرف إلا في كتابه.
وفي المجمل لابن فارس: (وجدت بخط سلمة) : أُمَّات البهائم وأُمَّهات الناس.
وفيه: ذكر بعضهم أن النَّشحة: القليل من اللبن.
يقال: ما بقي في الإناء نشحة ولم أسمعها وفيها نظر.
وفيه: إذا ضَرب الفحلُ الناقة ولم يكن أعدَّ لها قيل لذلك الولد: الحلس.
كذا وجدته ولم أسمعه سماعا.
النوع الثامن

معرفة المصنوع

قال ابنُ فارس: حدثنا علي بن إبراهيم عن المَعْدَاني عن أبيه عن معروف بن حسان عن الليث عن الخليل قال: إن النحارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة اللَّبس والتَّعنيت.
وقال محمد بن سَلاّم الجَمحي في أول طبقات الشعراء: في الشعر مصنوعٌ مُفْتَعل موضوعٌ كثيرٌ لا خيرَ فيه ولا حجةَ في عربيته ولا غريب يستفاد ولا مَثل يُضرب ولا مَدْح رائع ولا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مُسْتَطرف وقد تداولَه قوم من كتابٍ إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يَعْرِضوه على

(1/135)


العلماء وليس لأحدٍ إذا أجمع أهلُ العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يَرْوي عن صحفي.
وقد اختلفت العلماء يعد في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحدٍ أن يخرجَ منه وللشِّعر صناعة وثقافة يعرفُها أهلُ العلم كسائر أصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان.
من ذلك: اللولؤ والياقوت لا يُعْرَف بصفةٍ ولا وزْن دون المُعاينة ممن يُبْصره ومن ذلك الجهبذة فالدِّينار والدرهم لا يعرف جودتُهما بلونٍ ولا مس ولا طراق ولا جَسّ ولا صفة ويعرفُه الناقد عند المُعاينة فيعرف بَهْرَجها وزائفها ومنه البصر بغريب النّخْل والبصر بأنواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده وتَشَابه لونه (ومسه وذرعه) حتى يضافَ كلُّ صنف منها إلى بلده الذي حرج منه وكذلك بصر الرقيق والدابة وحسن الصوت يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له بلا صفة ينتهي إليها ولا علمٍ يُوقَف عليه وإن كثرة المداومة لتعين العلم به فكذلك الشِّعْر يعرفُه أهلُ العلم به.
قال خلاد بن يزيد الباهلي لخلف بن حيان أبي مُحْرِز - وكان خلاد حسنَ العلم بالشعر يرويه ويقوله - بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروي قال له: هل تعلم أنت منها ما إنه مصنوعٌ لا خيرَ فيه قال نعم قال أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر قال: نعم.
قال: فلا تُنْكر أن يعْلموا من ذلك ما لا تَعْلَمُه أنت.
وقال قائل لخلف: إذا سمعتُ أنا بالشعر واستحسنتُه فلا أبالي ما قلتَه أنتَ فيه وأصحابك.
قال له: إذا أخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصَّرَّاف: إنه رديء هل ينفعُك استحسانك له
وكان ممن هَجّن الشعر وحمل كل غثاء محمد بن إسحاق بن مولى آل مَخْرَمة بن المطلب بن عبد مناف وكان من علماء الناس بالسير قبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول: لا عِلْمَ لي بالشعر إنما أُوتَى به فأحْمِله ولم يكن له ذلك عذرا فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين

(1/136)


لم يقولوا شعرا قط وأشعار النساء ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود أفلاَ يَرْجعُ إلى نفسه فيقول: مَن حَمَل هذا الشعر وَمن أدَّاه منذُ ألوف من السنين. والله تعالى يقول: {فَقُطِع دَابِرُ القوْمِ الذين ظلموا} .
أي لا بقية لهم.
وقال أيضا: {وأنه أهْلِكَ عادا الأُولى وثمودَ فما أبْقى} .
وقال في عاد: {فهلْ تَرَى لهم منْ باقية} .
وقال: {وقُرُونا بين ذلك كثيرا}
وقال يونس بن حبيب: أولُ من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام.
وقال أبو عمرو بن العلاء: العربُ كلها ولدُ إسماعيل إلا حِمْير وبقايا جُرهم ونحن لا نجد لأوَّليّة العرب المعروفين شعرا فكيف بعادٍ وثمود ولم يروِ عربيٌّ قط ولا رَاويةٌ للشعر بيتا منها مع ضعْفِ أمره وقلَّةِ طلاوته.
قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسانُ حِمْير وأقاصي اليمن لساننا ولا عربيتهم عربيتنا فكيف بها على عَهْدِ عاد وثمود مع تَدَاعيه ووَهْنِه فلو كان الشعر مثلَ ما وُضع لابن إسحاق ومثل ما يَرْوى الصَّحَفِيون ما كانت إليه حاجة ولا كان فيه دليل على علم.
هذا كله كلامُ ابن سلام.
ثم قال بعد ذلك: لما راجعت العرب روايةَ الشعر بعد أن اشتغلت عنه بالجهاد والغَزْو واستقل بعضُ العشائر شعرَ شعرائهم وما ذهب من ذِكْرِ وقائعهم وكان قومٌ قَلَّتْ وقائعهُم وأشعارُهم فأرادوا أن يلحقوا بمنْ له الوقائع والأشعار فقالوا على ألْسُن شعرائهم.
ثم كانت الرواية بعد فزادوا في الأشعار وليس يُشْكِل على أهل العلم زيادةُ ذلك ولا ما وضعوا ولا ما وضَع المولدون وإنما عَضَل بهم أن يقول الرجل من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيُشْكِل ذلك بعض الأشكال.

(1/137)


أخبرني أبو عبيدة: أن ابن دؤاد بن متمم بن نويرة قدم البَصْرة في بعض ما يقدم له البَدَوِيّ من الجَلب والمِيرة فأتيتُه أنا وابن نوح فسألناه عن شِعْرِ أبيه متمم وقمْنا له بحاجته فلما فقد شعرَ أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعُها لنا وإذا كلامٌ دون كلامِ متمم وإذا هو يَحْتَذي على كلامه فيذكر المواضعَ التي ذكرها متمم والوقائعَ التي شهدها فلما توالى ذلك علمنا أنه يفَتْعَله.
وقال أبو علي القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر محمد بن أبي الأزهر حدثنا الزبير (بن بكار) حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال: حدثني يحيى بن سعيد القطان قال: رُواةُ الشِّعْرِ أعقلُ من رُواة الحديث لأن رُواةَ الحديث يرْوُون مصنوعا كثيرا ورُواة الشعر ساعةَ يُنْشِدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع. وقال محمد بن سلام الجمحي: كان أولُ مَن جَمَع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية وكان غيرَ موثوق به وكان يَنْحَل شعرَ الرجل غيره ويزيد في الأشعار.
أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حمادٌ البَصْرة على بلال بن أبي بردة فقال: ما أطرفتني شيئا فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى فقال: ويحكيمدح الحطيئة أبا موسى لا أعلمُ به وأنا أرْوي من شعر الحطيئة ولكن دعْها تذهب في الناس.
وأخبرني أبو عبيدة عن عمرو بن سعيد بن وهب الثقفي قال: كان حماد الراوية لي صديقا مُلْطِفاً فقلت له يوما: أمْل علي قصيدة لأخوالي بني سعد بن مالك فأمْلَى علي لطرفة: // من الكامل //
(إن الخليطَ أجد منتقَله ... ولذاك زمت غُدوة إبله)

(1/138)


(عهدي بهم في العقْب قد سَنَدوا ... تهدي صعاب مطيهم ذلله)
وهي لأعشى همدان.
وسمعت يونس يقول: العجبُ لمن يأخذ عن حماد وكان يَلْحن ويكذِب ويكسر.
وفي طبقات النحويين لأبي بكر الزَّبيدي: قال أبو علي القالي: كان خلف الأحمر يقول القصائد الغر ويدخلها في دواوين الشعراء فيقال إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها: // من الطويل //
(أقيموا بَني أُمِّي صدورَ مَطِيِّكُم ... فإني إلى أهْل سِواكم لأمْيَلُ)
هي له.
وقال أبو حاتم: كان خلف الأحمر شاعرا وكان وضع على عبد القيس شِعراً مصنوعا عبثا منه ثم تَقَرَّأ فرجع عن ذلك وبينه.
وقال أبو حاتم: سمعتُ الأصمعي يقول: سمعتُ خَلفاً الأحمر يقول: أنا وضعتُ على النابغة هذه القصيدة التي فيها: // من البسيط //
(خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غير صائمة ... تحتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجما)
وقال أبو الطيب في مراتب النحويين: أخبرنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد بن يزيد قال: كان خلف الأحمر يضرب به المثل في عمل الشعر وكان يعمل

(1/139)


على ألسنة الناس فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة فلما نَسك خرج إلى أهل الكوفة فعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم.
ذكر أمثلة من الأبيات المستشهد بها التي قيل إنها مصنوعة:
في نوادر أبي أوس الأنصاري: أنشدني الأخفش بيتا مصنوعا لطرفة: // من المنسرح //
(اضْرِبَ عنك الهمومَ طارقَها ... ضَرْبَك بالسَّوْط قَوْنَس الفَرَس)
وقال ابنُ برِّي أيضا: هذا البيتُ مصنوعٌ على طَرفة بن العبد.
وقال أبو علي القالي في أماليه: قرأتُ على أبي بكر قصيدة كعب الغَنوى والمرثي بها يُكْنَى أبا المغوار واسمه هرم وبعضهم يقول: اسمه شبيب ويحتج ببيت روي فيها: // من الطويل //
(أقام وخلى الظاعنين شبيب)
وهذا البيت مصنوع والأوَّل كأنه أصح لأنه رواه ثقة.

(1/140)


في أمالي ثَعْلب أنشد في وصف فرس: // من الكامل //
(ونَجا ابنُ خَضْراء العِجَانِ حُوَيْرِثٌ ... غَلَيانُ أُمِّ دِمَاغِه كالزِّبْرِجِ)
وقال لنا أبو الحسن المعيدي: هذا البيت مصنوع وقد وقفتُ عليه وفتَّشْتُ شِعْرَه كله فلم أجدْه فيه.
وفي شرح التسهيل لأبي حيان: أنشد خلف الأحمر: // من مجزوء الرمل //
(قل لعمرو: يابن هند ... لو رأيت القومَ شَنّا)
(لرأتْ عيناك منهم ... كلَّ ما كنتَ تَمَنّى)
(إذْ أتتنا فيلق شهباء ... من هنا وهنا)
(وأتت دوسر الملحاء ... سيرا مطمئنا)
(ومضى القوم إلى القوم ... أحاد واثنا)
(وثلاثا ورباعا ... وخماسا فأطَعْنا)
(وسُداساً
وسُباعاً ... وثمانا فاجْتَلَدْنا)
(وتُسَاعاً وعُشَاراً ... فأُصِبْنا وأصَبْناْ)
(لا ترى إلاَّ كَمِيّاً ... قاتِلاً مِنْهُم ومنا)
قال: وذكر غيره أن هذه الأبيات مصنوعة لا يقوم بها حجة.
وقال محمد بن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب التي فيها: // من الطويل //
(وأبْيَض يُسْتَسْقى الغمامُ بوَجْهِه)
وطُوِّلت (رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة

(1/141)


سنة: وقد علمت أن قد زاد الناس فيها) بحيث لا يدري أين منتهاها.
وقد سألني الأصمعي عنها فقلت: صحيحة.
فقال: أتَدْري أين منتهاها قلت: لا.
وقال المرزوقي في شرح الفصيح: حكى الأصمعي قال: سألت أبا عمرو عن قول الشاعر // من الرجز //
(أُمَّهتي خِنْدِف والياس أبي)
فقال: هذا مصنوع وليس بحجة.
وأنشد أبو عبيدة في كتاب أيام العرب لهند ابنة النعمان: // من الوافر //
(ألا مَنْ مُبْلغ بكرا رسولا ... فقد جد النَّفِيرُ بعنَقْفَير)
(فليتَ الجيشَ كلهم فِدَاكم ... ونفسي والسرير وذو السرير)
(فإن تكُ نعمةٌ وظهور قومي ... فيا نعم البَشارَة للبَشِير)
ثم قال أبو عبيدة: وهي مصنوعةٌ لم يعرفها أبو بُرْدة ولا أبو الزعراء ولا أبو فِراس ولا أبو سُرَيرة ولا الأغطش وسألتهم عنها قبل مخرج إبراهيم بن عبد الله بسنتين فلم يعرفوا منها شيئا وهي مع نقيضة لها أخذت عن حماد الراوية أنشد أبو عبيدة أيضا لجرير: // من الوافر //
(وخُور مُجاشِع تَرَكوا لَقِيطاً ... وقالوا: حِنْوَ عَيْنِكَ والغُراباَ)
ثم قال وهذا البيتُ مصنوع ليس لجرير
وقال أبو العباس أحمد بن عبد الجليل التذميري في شرح شواهد الجمل: أخبرنا غيرُ واحدٍ من اصحابنا عن أبي محمد بن السيد البطليوسي عن أخيه أبي عبد الله الحجازي عن أبي عمرو الطلمنكي عن أبي بكر الأدفوي عن أبي جعفر النَّحاس عن علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرد عن أبي عثمان المازني قال: سمعتُ اللاحقي يقول: سألني سيبويه: هل تحفظُ للعربِ شاهدا على

(1/142)


أعمال فَعِل قال: فوضعتُ له هذا البيت: // من الكامل //
(حذر أمورا لا تضير وآمن ... ماليس مُنْجيه من الأقْدَار)
وقال المبرد في الكامل: (كان عموم) سعيد بن العاص بن أمية يذكرون أنه كان إذا اعتمَّ لم يعتم قرشي إعظاما له وينشدون: // من البسيط //
(أبُو أُحَيْحَة مَنْ يَعْتَمّ عِمَّتَهُ ... يُضْرَبْ وَإنْ كانَ ذَا مَالٍ وَذا عَدَدِ)
قال: ويذكر الزُّبَيْرِيُّونَ أن هذا البيتَ باطلٌ موضوع.
وفي الجمهرة: يقال دَسَّى فلان فلانا إذا أغْواه ومنه قوله تعالى: {وقد خاب من دساها} وقد أنشدوا في هذا بيتا زعم أبو حاتم أنه مصنوع: // من الطويل //
(وأنت الذي دَسَّيْتَ عمرا فأصبحتْ ... حَلائله عَنْه أرامِلَ ضيعا)
وفيها: الزِّنقِير: القطْعَة من قُلامة الظُّفْر.
قال الشاعر: // من الهزج //
(فما جادتْ لَنا سَلْمَى ... بِزنْقِيرٍ ولا فُوفَهْ)
قال أبو حاتم: أحسب هذا البيت مصنوعا.
وأنشد المبرد في الكامل: // من الرجز //
(أقْبلَ سَيْلٌ جاء من أمْرِ الله ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ)

(1/143)


وقال أبو إسحاق البطليوسي في شرحه يقال: إن هذا الرجز لحنظلة بن مطيح ويقال: إنه مصنوع صنعه قطرب بن المُسْتَنِير.
ذكر أمثلة من الألفاظ المصنوعة:
قال ابن دريد في الجمهرة قال الخليل: أما ضَهِيد وهو الرجل الصُّلب فمصنوع لم يأت في الكلام الفصيح.
وفيها: عَفشَج: ثقيل وخم زعموا وذكر الخليل أنه مصنوع.
وفيها: زعم قوم أن اشتقاق شَراحيل من شرحل وليس بثبت وليس للشرحلة أصل.
وفيها: قد جاء في باب فيعلول كلمتان مصنوعتان في هذا الوزن قالوا: عيدشون: دويبة وليس بثبت.
وصَيْخَدُون - قالوا الصَّلابة ولا أعرفها.
وفيها: البُدُّ: الصَّنَم الذي لا يُعْبَد ولا أصل له في اللغة.
وفيها: مادة (بَ شْ بَ شْ) أهملت إلا ما جاء من البَشْبشة وليس له أصل في كلامهم.
وفيها: البتش ليس في كلام العرب الصحيح.
وفيها: ثخطع: اسم وأحسبه مصنوعا.
وفي المجمل لابن فارس: الألط: نبت أظنُّ أنه مصنوع.
فصل - قال محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء: سألت يونس عن بيت روَوْه للزبرقان بن بدر وهو: // من البسيط //
(تَعْدو الذئاب على مَنْ لا كِلاب له ... وتتقي مربض المستثفر الحامي)

(1/144)


فقال: هو للنابعة أظن الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه لا مُجتْلِباً له.
وقد تفعل ذلك العرب لا يُريدون به السَّرقِة.
قال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي: // من البسيط //
(تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماءٍ فعادَا بعدُ أبوالا)
وقال النابغة الجعدي في كلمة فخر فيها: // من البسيط //
(فإن يكن حاجِب ممن فخرت به ... فلم يَكُنْ حاجب عَمّاً ولا خالا)
(هلا َّفخرت بيومي رَحْرَحان وقد ... ظَنَّتْ هوازن أن العِزَّ قد زالا)
(تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبن ... شيبا بماء فعادا بَعْدُ أبوالا)
ترويه بنو عامر للنابغة.
والرواة مُجمعون ان أبا الصلت قاله.
وقال غير واحد من الرجاز: // من الرجز //
(عند الصَّبَاح يحمد القوم السرى)
إذا جاء موضعه جعلوه مكملا.
وقال امرؤ القيس: // من الطويل //
وقوفا بها صحبي عليَّ مَطِيهم ... يقولون: لا تهلك أسى وتجمل)
وقال طرفه بن العبد: // من الطويل //
وقوفا بها صحبي عليَّ مَطِيهم ... يقولون لا تَهْلِك أسى وتَجَلَّد)

(1/145)


النوع التاسع

معرفة الفصيح

الكلام عليه في فصلين: أحدُهما بالنسبة إلى اللفظ والثاني بالنسبة إلى المتكلِّم به والأول أخصُّ من الثاني لأن العربي الفصيح قد يتكلم بلفظةٍ لا تعدُّ فصيحة:
الفصل الأول في معرفة الفصيح من الألفاظ المفردة

قال الراغب في مفرداته: الفَصْحُ: خلوصُ الشيء مما يشوبهُ وأصله في اللَّبن يقال: فَصَّح اللبنُ وأفْصَحَ فهو فِصِّيح ومُفْصِح إذا تعرَّى من الرَّغوة قال الشاعر: // من الوافر //
(وتَحْتَ الرَّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ)
ومنه اسُتعير فصحُ الرجل: جادَتْ لغته وأفْصح تكلم بالعربية وقيل بالعكس والأولُ أصح انتهى.
وفي طبقات النحويين لأبي بكر الزُّبيديّ: قال ابنُ نوفل: سمعتُ أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميت عربية أيدخلُ فيه كلامُ العرب كلُّه فقال: لا.
فقلت كيف تصنع فيما خالفتْك فيه العرب وهم حجة فقال: أحملُ على الأكثر وأُسَمِّي ما خَالَفني لغات.
والمفهومُ من كلام ثعلب أن مَدار الفصاحةِ في الكلمة على كَثْرَة استعمالِ

(1/146)


العرب لها فإنه قال في أول فصيحة: هذا كتاب اختيار الفصيح مما يجري في كلام الناس وكتبهم فمنه ما فيه لغةٌ واحدة والناس على خلافها فأخبرْنا بصواب ذلك ومنه ما فيه لغتان وثلاث وأكثر من ذلك فاخترنا أفصحهن ومنه ما فيه لغتان كثُرنا واستُعْمِلتا فلم تكن إحداهما أكثر من الأخرى فأخبرنا بهما.
انتهى.
ولا شك في أن ذلك هو مَدَارُ الفصاحة
ورأى المتأخرون من أرباب علوم البلاغة أن كل أحدٍ لا يمكُنه الاطلاع على ذلك لتَقَادُم العهد بزمان العرب فحرَّرُوا لذلك ضابطا يُعْرَفُ به ما أكثرت العربُ من استعماله من غيره فقالوا: الفصاحةُ في المفرد: خلوصه من تَنَافُرِ الحروف ومن الغَرَابة ومن مخالفة القياس اللغوي.
(التنافر)

فالتنافر منه ما تكونُ الكلمةُ بسببه مُتناهيةً في الثِّقَل على اللسان وعُسْر النُّطْق بها كما رُوي أن أعرابيا سُئل عن ناقته فقال تركتها تَرْعى الهُعْخُع.
ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرىء القيس // من الطويل //:
(غَدَائرُه مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العُلاَ)
وذلك لتوسُّط الشين وهي مَهْموسة رخوة بين التاء وهي مهموسة شديدة والزاي وهي مجهورة.
(الغرابة)

- والغرابةُ أن تكون الكلمة وحْشِيَّة لا يظهر معناها فيحتاج في معرفتها إلى أن يُنَقّر عنها في كتب اللغة المبسوطة كما رُوي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنَّة اِفْرَنْقِعوا عَنِّي أي اجْتَمَعْتم تنحوا.

(1/147)


أو يخرج لها وجه بعيد كما في قول العجاج: // من الزجر //
(وفَاحِماً ومَرْسِنَا مُسَرَّجا)
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل: هو من قولهم للسُّيوف سُرَيْجِيَّة منسوبة إلى قَيْن يقال له سُرَيج يريد أنه في الاستواء والدِّقة كالسيف السُّرَيْجَي وقيل من السراج يريد أنه في البريق كالسراج.
(مخالفة القياس)

- ومخالفة القياس كما في قول الشاعر: // من الرجز //
(الحمدُ لله العَلِيّ الأَجْلَل)
فإن القياس الأجَلّ بالإدغام.
وزاد بعضُهم في شروط الفصاحة: خلوصُه من الكراهة في السَّمْع بأن يمجَّ الكلمةَ وينبو عن سماعها كما ينبو عن سماع الأصوات المُنْكَرة فإن اللَّفظ من قبيل الأصوات منها ما تستلذ النفسُ بسماعه ومنها ما تكره سماعَه كلفظ الجِرِشَّي في قول أبي الطيب: // من المتقارب //
(كريمُ الجِرِشَّي شريفُ النَّسَبْ)

(1/148)


أي كريم النفس وهو مردود لأن الكراهَة لِكَوْنِ اللفظ حُوشِيّاً فهو داخلٌ في الغرابة.
هذا كله كلام القَزْويني في الإيضاح.
ثم قال عَقِبه: ثم علامةُ كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمالُ العربِ الموثوقِ بعربيتهم لها كثيرا أو أكثرَ من استعمالهم ما بمَعْنَاها وهذا ما قدَّمتُ تقريره في أول الكلام فالمرادُ بالفصيح ما كَثُر استعمالهُ في أَلْسِنَة العرب.
وقال الجاربردي في شرح الشَّافية: فإن قلتَ: ما يُقْصَدُ بالفصيح وبأيِّ شيءٍ يُعْلَم أنه غيرُ فصيح وغيره فصيح قلت أن يكونَ اللفظُ على أَلْسِنَة الفصحاءِ الموثوقِ بعربيتهم أدْور واستعمالهم لها أكْثر.
فوائد - بعضها تقريرٌ لما سبق وبعضها تعقب له وبعضها زيادة عليه:
الأولى - قال الشيخ بهاءُ الدين السبكي في عروس الأفراح: ينبغي أن يُحمَل قوله: (والغرابة) على الغَرَابةِ بالنسبة إلى العرب العَرْباء لا بالنسبة إلى استعمال الناس وإلا لكان جميعُ ما في كُتُب الغريب غيرَ فصيح والقَطعُ بخلافه.
قال: والذي يقتضيه كلامُ المفتاح وغيرِه أن الغَرَابة قِلَّةُ الاستعمال والمرادُ قلّةُ استعمالها لذلك المعنى لا لِغَيره.
الثانية - قال الشيخ بهاءُ الدين: قد يَرِد على قوله: (ومخالفة القياس) ما خالَف القياسَ وكَثُر استعماله فورد في القرآن فإنه فصيح مثل اسْتَحْوذ.
وقال الخطيبي في شرح التلخيص: أما إذا كانت مخالفةُ القياس لِدَليل فلا يخرج عن كونه فصيحا كما في سُرر فإن قياس سرير أن يجمع على أفعلة ولإفعلان مثل أرغفة ورُغْفان.
وقال الشيخ بهاءُ الدين: إن عَنَى بالدليل ورودَ السَّماع فذلك شرطٌ لجواز الاستعمال اللُّغوي لا الفَصَاحة: وإن عَنَى دليلا يصيِّره فصيحا وإن كان مخالفا للقياس فلا دليلَ في سُرر على الفَصَاحة إلا وروده في القرآن فينبغي حينئذ أن يُقال: إن مخالفَة القياس إنما تُخِلُّ بالفصاحة حيث لم يقع في القرآن الكريم.

(1/149)


قال: ولقائل أن يقولَ حينئذ: لا نُسَلِّم أن مخالفةَ القياس تُخِلُّ بالفصاحة ويُسْنَد هذا المنع بكَثْرةِ ما وَرَدَ منه في القرآن بل مخالفةُ القياس مع قلَّةِ الاستعمال مجموعُهما هو المخل.
قلت: والتَّحقيقُ أن المُخِلّ هو قلةُ الاستعمال وحدَها فرجعت الغَرَابةُ ومخالفةُ القياس إلى اعتبارِ قلة الاستعمال والتنافر كذلك وهذا كلَّه تقريرٌ لكَوْن مدَار الفصاحة على كثرة الاستعمال وعدمها على قلَّته.
الثالثة - قال الشيخ بهاء الدين: مُقْتَضى ذلك أيضا أن كلَّ ضرورة ارتكبها شاعر فقد أخرجت الكلمةَ عن الفَصَاحة.
وقد قال حازم القرطاجني في مِنْهاج البُلَغَاء: الضَرائر الشائعة منها المُسْتَقْبَحُ وغيره وهو ما لا تستوحش منه النَّفس كصَرْف ما لا ينصرف وقد تستوحش منه في البعض كالأَسْماء المَعْدُولة وأشد ما تَسْتَوْحِشُه تنوينُ أفعل منه ومما لا يُسْتَقْبَح قصرُ الجمع الممدود ومَدّ الجمع المقصور وأقبحُ الضرائر الزيادةُ المؤدّيةُ لما ليس أصلا في كلامهم.
كقوله // من البسيط //:
(أدْنو فأنظُور) أي أنظر.
والزيادة المؤدّيةُ لما يقل في الكلام كقوله // من الطويل //: فأطأت شيمالي

(1/150)


أي شمالي.
وكذلك النقص المجحف كقوله: // من الكامل //
(دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا)
أي المنازل.
وكذلك العدول عن صيغة إلى أخرى كقوله: // من البسيط //
(جَدْلاَءُ محْكَمةٍ من نَسْج سَلاَّم)
أي سليمان.
انتهى.
وأطلق الخفاجي في سرِّ الفصاحة إن صرفَ غير المنصرف وعكْسَه في الضرورة مخلٌّ بالفصاحة.
الرابعة - قال الشيخ بهاءُ الدين: عدَّ بعضُهم من شروط الفصاحة ألاَّ تكونَ الكلمةُ مُبتَذلة: إما لتغيير العامَّة لها إلى غير أصل الوضع كالصروم للقطع جعلته العامة للمحلِّ المخصوص وإما لسخافتها في أصل الوضع كاللَّقَالق ولهذا عدَل في التنزيل إلى قوله: {فأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ على الطِّين} لسخافة لفظ الطوب وما رَادَفه كما قال الطيبي.
ولاستثقال جَمع الأرض لم تُجْمَع في القرآن وجُمِعت السماء حيثُ أُريدَ جمعها قال تعالى: {ومن الأرض مثْلهنّ} ولاسْتثقال اللُّب لم يقع في القرآن ووقع فيه جمعُه وهو الألباب لخِفَّتِه.
وقد قسَّم حازم في المنهاج الابتذال والغَرَابة فقال: الكلمة على أقسام:

(1/151)


- الأول ما استعملَتْهُ العربُ دون المحدثين وكان استعمال العربِ له كثيرا في الأشعار وغيرها فهذا حسنٌ فصيح.
- الثاني: ما استعملَتْه العربُ قليلا ولم يحسن تأليفُه ولا صيغتُه فهذا لا يَحْسُن إيراده.
- الثالث: ما استعملَتْهُ العربُ وخاصَّةُ المحدثين دون عامتهم فهذا حسنٌ جدا لأنه خلص من حُوشيَّة العربِ وابتذالِ العامة.
- الرابع: ما كثُر في كلام العرب وخاصَّة المحدَثين وعامتهم ولم يكثر في أَلْسِنة العامة فلا بأس به.
- الخامس: ما كان كذلك ولكنه كثُرَ في ألْسِنة العامة وكان لذلك المعنى اسمٌ استغنتْ به الخاصَّةُ عن هذا فهذا يَقْبَحُ استعماله لابتذاله.
- السادس: أن يكون ذلك الاسم كثيرا عند الخاصة والعامة وليس له اسمٌ آخر وليست العامة أحوج إلى ذِكْره من الخاصِة ولم يكن من الأشياء التي هي أنسب بأهل المِهَن فهذا لا يَقْبُح ولا يُعَدُّ مُبْتَذَلاً مثل لفظ الرأس والعين.
- السابع: أن يكون كما ذكرناه إلا أن حاجةَ العامة له أكثر فهو كثير الدَّوَرَان بينهم كالصنائع فهذا مُبتذل.
- الثامن: أن تكون الكلمةُ كثيرةَ الاستعمال عند العرب والمحدَثين لمَعْنًى وقد استعملها بعضُ العرب نادرا لمعنى آخر فيجب أن يُجْتَنَبْ هذا أيضا.
- التاسع: أن تكون العربُ والعامةُ استعملوها دون الخاصة وكان استعمالُ العامَّة لها من غير تغيير فاستعمالها على ما نطقت به العربُ ليس مبتذلا وعلى التغيير قبيحٌ مُبْتَذَل.
ثم اعلم أن الابتذالَ في الألفاظِ وما تدل عليه ليس وصفا ذاتيا ولا عَرَضاً لازما بل لاحِقاً من اللَّواحق المتعلِّقةِ بالاستعمال في زمان دون زمان وصُقْع دون صُقع.
انتهى.
الخامسة - قال ابنُ دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروفَ إذا تقاربت

(1/152)


مخارجُها كانت أثقَل على اللِّسان منها إذا تباعدت لأنك إذا استعملتَ اللسانَ في حروف الحَلْق دون حروف الفم ودون حروف الذَّلاقة كلَّفته جَرْساً واحدا وحركاتٍ مختلفة ألا ترى أنك لو أَلَّفْتَ بين الهمزة والهاء والحاء فأمكن لوجدتَ الهمزةَ تتحوَّل هاء في بعض اللغات لقربها منها نحو قولهم في: هم والله وكما قالوا في أراق هَرَاق ولوجَدْتَ الحاء في بعض الألسنة تتحول هاء.
وإذا تباعدت مخارج الحروف حسن التأليف.
قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثةُ أحرف من جنسٍ واحد في كلمةٍ واحدة لصعوبة ذلك على ألسنتهم وأَصْعَبُها حروف الحَلْق فأما حرفان فقد اجتمعا مثل أخ أحد وأهل وعَهد ونَخْعٍ غيرَ أنَّ من شأنهم إذا أرادوا هذا أن يبدؤوا بالأقوى من الحرفين ويُؤَخّروا الألْين كما قالوا: ورل ووتد فبدؤوا بالتاء مع الدَّال وبالراء مع اللام فذُق التاء والدال فإنك تجد التَّاء تنقطع بجَرْسٍ قوي وكذلك اللام تنقطع بغتة ويدلك على ذلك أيضا أن اعْتِياص اللام على الألسن أقلُّ من اعتياص الراء وذلك للين اللام فافهم.
قال الخليل: لولا بُحَّة في الحاء لأَشْبَهَت العينَ فلذلك لم يأتلفا في كلمة واحد وكذلك الهاء ولكنهما يجتمعان في كلمتين لكلِّ واحدة منهما معنى على حِدَة نحو قولهم: حيَّهَل وقول الآخر: حيهاوه وحَيّهلاً. فحي كلمة معناها: هَلُمَّ وهَلاً: حثيثا (وفي الحديث: فحي هَلا بعُمَر) وقال الخليل: سمعنا كلمة شَنْعَاء (الهعخع) فأنكرنا تأليفها.
سئل أعرابي عن نَاقَتَه فقال: تركتُها تَرْعَى

(1/153)


الهُعْخع فسألنا الثِّقات من علمائهم فأنكروا ذلك وقالوا: نعرف الخُعْخُع فهذا أقرب إلى التأليف.
انتهى.
كلام الجمهرة.
وقال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح: قالوا التنافر يكون إما لِتَبَاعُد الحروف جدا أو لتقاربها فإنها كالطَّفْرَة والمَشْي في القَيْد نقله الخفاجي في (سر الفصاحة) عن الخليل بن أحمد وتعقبه بأن لنا ألفاظا حروفُها متقاربة ولا تنافرَ فيها كلَفْظ الشَّجَر والجيش والفم.
وقد يوجد البُعْدُ ولا تنافر كلفظ العلم والبعد ثم رأى الخفاجي أنه لا تنافر في البُعْدِ وإن أفرط بل زاد فجعل تَبَاعد مخارج الحروف شَرْطاً للفصاحة.
قال الشيخ بهاء الدين: ويُشبه استواءَ تقاربِ الحروف وتباعدها في تحصيل التنافر اسْتواءُ المِثْلَين اللَّذَين هما في غاية الوِفاق والضِّدَّين اللذين هما في غاية الخلافِ في كَون كلٍّ من الضِّدَّين والمِثلين لا يجتمع مع الآخر فلا يجتمع المثلان لشدَّة تقاربهما ولا الضِّدَّين لشدة تباعدهما وحيث دار الحالُ بين الحروف المتباعدة والمتقاربة فالمتباعدةُ أخف.
وقال ابنُ جني في سرِّ الصناعة: التأليفُ ثلاثة أضرب:
أحدُها: تأليفُ الحروفِ المتباعدة وهو أَحْسَنُه وهو أغلب في كلام العرب.
والثاني: الحروفُ المتقاربة لضَعْفِ الحرْفِ نفسه وهو يلي الأول في الحسْن.
والثالث: الحروفُ المتقاربة فإما رُفض وإما قَلَّ استعماله وإنما كان أقلَّ من المتماثلين وإن كان فيهما ما في المتقاربين وزيادة لأن المتماثلَين يخفَّان بالإدغام ولذلك لما أرادت بنو تميم إسكان عَيْن (مَعْهم) كرهوا ذلك فأبدلوا الحرفين حائين وقالوا: _ مححم) فرأوا ذلك أسهلَ من الحرفين المتقاربين.
السادسة - قال ابنُ دريد: اعلم أن أحسن الأبنيةِ أن يبنوا باْمتِزَاج الحروف المتباعدة ألا ترى أنك لا تجدُ بناء رباعيا مُصْمَت الحروف لا مِزاج له من حروف الذلاقة إلا بناء يجيئُك بالسين وهو قليلٌ جدا مثل عَسْجد وذلك أن السينَ ليّنةٌ وجَرْسها من جوهر الغتة فلذلك جاءت في هذا البناء.

(1/154)


فأما الخماسي مثل فَرَزْدَق وسَفَرْجَل وشَمَرْدل فإنك لست واجدَه إلا بحرف أو حرفين من حروف الذَّلاقة من مَخْرج الشفتين أو أَسَلة اللسان فإذا جاءك بناءٌ يُخَالف ما رسمْتُه لك مثل: دعشق وضغنج وحضافَج وضقعهج أو مثل عقجش فإنه ليس من كلام العرب فارْدُدْه فإن قوما يَفْتَعلون هذه الأسماءَ بالحروف المُصْمتة ولا يمزجونها بحروف الذَّلاقة فلا نقبلْ ذلك كما لا نقبل من الشِّعْر المستقيمِ الأَجْزاء إلا ما وافق ما بنته العرب فأما الثُّلاثي من الأسماء والثنائي فقد يَجوز بالحروف المُصْمَتة بلا مِزاج من حروف الذَّلاقة مثل خُدَع وهو حَسَن لفَصْلِ ما بين الخاء والعين بالدال فإن قَلَبْتَ الحروف قَبح فعلى هذا القياس فألِّف ما جاءَك منه وتدبَّره فإنه أكثرُ من أن يُحْصَى.
قال: واعلم أن أكثر الحروف استعمالا عند العرب الواوُ والياءُ والهمزة وأقل ما يستعملون على ألسنتهم لِثقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم العين ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم فأخفُّ هذه الحروف كلِّها ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد لاخْتلاف المعنى.
قال: ومما يَدلّك على أنهم لا يؤلفون الحروفَ المُتَقَاربةَ المَخَارج أنه ربما لَزِمَهم ذلك من كلمتين أو من حَرْفٍ زائد فيحوِّلون أحدَ الحرفين حتى يصيِّروا الأقوى منهما مبتدأ على الكره منهم وربما فعلوا ذلك في البناء الأصلي فأما ما فعلوه من بناءين فمثلُ قوله تعالى: {بَلْ رَانَ} لا يُبيّنون اللام ويُبْدِلونها راء لأنه ليس في كلامهم (لر) فلما كان كذلك أَبْدَلوا اللام فصارت مثل الراء.
ومثله (الرَّحمن الرَّحيم) لا تَسْتَبِين اللامُ عند الراء وكذلك فعلُهم فيما أُدْخل عليه حرفٌ

(1/155)


زائد وأُبْدِل فتاءُ الافتعال عند الطاء والظاء والضاد والزاي وأخواتها تحوَّلُ إلى الحرْفِ الذي يَليه حتى يبدؤوا بالأقوى فيصيرا في لَفْظٍ واحد وقُوَّة واحدة وأما ما فعلوه في بناءٍ واحد فمثلُ السين عند القاف والطاء يُبْدلونها صادا لأن السين من وسط الفم مطمئنَّة على ظَهْر اللسان والقافَ والظاءَ شاخصتان إلى الغار الأعلى فاستثقلوا أن يَقَع اللِّسانُ عليها ثم يرتفع إلى الطاءِ والقاف فأبْدَلوا السين صادا لأنها أقربُ الحروف إليها لقُرْب المخرج ووجدوا الصاد أشدَّ ارتفاعا وأقربَ إلى القاف والطاء وكان استعمالُهم اللسانَ في الصاد مع القاف أيسرَ من استعماله مع السين فمِن ثَمَّ قالوا: صَقر والسين الأَصل وقالوا: قَصَطَ وإنما هو قَسَط وكذلك إذا دخَل بين السين والطاء والقاف حرفٌ حاجز أو حرفان لم يَكْتَرثوا وتوهموا المجاورةَ في اللفظ فأَبْدلوا ألاَ تراهم قالوا: صَبْط وقالوا في السَّبْق صَبْق وفي السَّويق صَويق وكذلك إذا جاورت الصادُ الدال والصادُ متقدمة فإذا سكنتِ الصّادُ ضَعُفَت فيحوِّلونها في بعض اللغات زايا فإذا تحركت ردوها إلى لفظها مثل قولهم: فلان يَزْدُق في كلامه فإذا قالوا صدَق قالوها بالصاد لتحركها وقد قرىء حتى يَزْدُر الرِّعاء بالزاي.
فما جاءك من الحروف في البناءِ مُغَيراً عن لَفظِه فلا يخلو من أن تكون عِلَّتُه داخلة في بعض ما فسرتُ لك من عِلل تقارُب المَخْرج.
السابعة - قال في عروس الأفراح: رُتَبُ الفَصَاحة مُتَفَاوتة فإن الكلمةُ تخفُّ وتَثْقُل بحَسَب الانتقال من حَرفٍ إلى حرف لاَ يُلاَئمه قُرْباً أو بُعداً فإن كانت الكلمةُ ثلاثية فتركيبها اثنا عشر:
الأول - الانحدارُ من المخرج الأعلى إلى الأوْسط إلى الأدنى نحو (ع د ب) .
الثاني - الانتقالُ من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوْسط نحو (ع ر د) .
الثالث - من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو (ع م هـ) .
الرابع - من الأعلى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو (ع ل ن) .

(1/156)


الخامس - من الأدنى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو (ب د ع) .
السادس - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو (ب ع د) .
السابع - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو (ف ع م) .
الثامن - من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو (ف د م) .
التاسع - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو (د ع م) .
العاشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو (د م ع) .
الحادي عشر - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو (ن ع ل) .
الثاني عشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو (ن م ل) . إذا تقرر هذا فاعلم أن أحسنَ هذه التراكيب وأكثرَها استعمالا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى ثم من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط.
وأما ما انتقل فيه من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى وما انْتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى فهما سِيَّان في الاستعمال وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجَحَهما ما انتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى.
وأقل الجميع استعمالا ما انتُقل فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط.
هذا إذا لم ترجع إلى ما انتقلتَ عنه فإن رجعت فإن كان الانتقالُ من الحرف الأول إلى الثاني في انحدارٍ من غير طَفْرة - والطَّفْرة الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه - كان التركيبُ أخفَّ وأكثر وإن فُقِد بأن يكون النقل من الأول في ارتفاع من طفرة كان أثقلَ وأقلَّ استعمالا.
وأحسنُ التراكيب ما تقدمت فيه نُقْلَة الانحدار من غير طَفْرة بأن ينتقل من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى أو من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط ودون هذين ما تقدمتْ فيه نقلةُ الارتفاع من غير طَفْرةٍ. وأما الرباعي والخماسي فعلى نحو ما سبق في الثلاثي ويخص ما فوق الثلاثي كثرةُ اشتماله على حروف الذلاَّقة لتَجْبُر خفَّتُها ما فيه من الثِّقل وأكثرُ ما تقع الحروف الثقيلة فيما فوقَ الثلاثي مفصولا بينها بحرفٍ خفيف وأكثرُ ما تقع أولا وآخرا وربما قُصِد بها تشنيع الكلمة لذمٍّ أو غيره.
انتهى.
الثامنة - قال في عروس الأفراح: الحروف كلُّها ليس فيها تنافر حروف وكلُّها فصيحة.

(1/157)


التاسعة - قال ابن النفيس في كتاب الطريق إلى الفصاحة: قد تُنْقلُ الكلمةُ من صيغَةٍ لأُخرى أو من وزْنٍ إلى آخر أو من مُضِيّ إلى استقبال وبالعكس فَتَحْسُن بعد أن كانت قبيحة وبالعكس فمِن ذلك خَوَّد بمعنى أَسْرع قبيحة فإذا جُعلَتْ اسما (خَوْداً) وهي المرأةُ الناعمةُ قلَّ قُبْحُها وكذلك دَعْ تقبُح بصيغة الماضي لأنه لا يُسْتَعْمل وَدَع إلاَّ قليلا ويَحْسن فعلَ أمرٍ أو فعلا مُضَارعاً.
ولفظُ اللُّب بمعنى العقل يقبح مُفرداً ولا يقبح مجموعا كقوله تعالى {لأُولي الألباب} .
قال: ولم يرد لفظُ اللب مفردا إلا مُضافاً كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيتُ من ناقِصاتِ عقلٍ ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحْداكُنَّ) .
أو مضافا إليه كقول جرير: // من البسيط //
(يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به)
وكذلك الأرْجاء تحسن مجموعة كقوله تعالى: {والمَلَكُ عَلَى أَرْجائها} .
ولا تحسنُ مفردة إلا مضافة نحو رَجَا البئر وكذلك الأصواف تحسن مجموعة كقوله تعالى: {ومِنْ أَصْوَافِها} .
ولا تحسن مفردة كقول أبي تمام: // من الكامل //
(فكأنما لَبِسَ الزمانُ الصوفا)
ومما يحسن مفردا ويقبح مجموعا المصادرُ كلُّها وكذلك بُقْعَة وبقاع وإنما يحسن جمعها مضافا مثل بِقَاع الأرض.
انتهى.

(1/158)


العاشرة - قال في عروس الأفراح: الثلاثيُّ أحسنُ من الثُّنَائي والأحادي ومن الرباعي والخماسي فذكر حازم وغيرُه من شروطِ الفصاحة: أن تكونَ الكلمةُ متوسطة بين قلَّةِ الحروف وكثرتها والمتوسطةُ ثلاثة أحرف فإن كانت الكلمةُ على حرف واحد مثل (قِ) فعل أمْر في الوصل قَبُحَتْ وإن كانت على حرفين لم تقبح إلا أن يليَها مثلُها.
وقال حازم أيضا: المُفْرِط في القِصَر ما كان على مقطع مقصور والذي لم يُفْرِط ما كان على سبب والمتوسط ما كان على وتد أو على سبب ومقطع مقصور أو على سببين والذي لم يُفْرط في الطول ما كان على وتد وسبب والمُفْرط في الطول ما كان على وتدين أو على وتد وسببين.
قال: ثم الطولُ تارة يكون بأصل الوَضْع وتارة تكونُ الكلمةُ متوسطة فتطيلها الصلة وغيرها كقول أبي الطيب: // من الكامل //
(خَلَت البلاد من الغَزَالةِ ليلَها ... فأعاضَهَاكُ اللهُ كي لا تحزنا)
وقول أبي تمام: // من الكامل //
(ورفعت للمستنشدين لوائي)
قال في عروس الأفراح: فإن قلْتَ: زيادةُ الحروف لزيادة المعنى كما في اخْشَوْشَنَ ومقتدر وكَبْكَبُوا فكيفَ جعلتم كثرةَ الحروف مُخِلاًّ بالفصاحةِ مع كثرةِ المعنى فيه قلت: لا مانع من أن تكون إحدى الكلمتين أقلَّ معنى من الأخرى وهي أفصحُ منها إذ الأمور الثلاثة التي يشترط الخلوص عنها لا تعلق لها بالمعنى.
الحادية عشرة - قال في عروس الأفراح: ليس لكل معنى كلمتان: فصيحة

(1/159)


وغيرُها بل منه ما هو كذلك وربما لا يكون للمعنى إلا كلمةٌ واحدةٌ فصيحةٌ أو غير فصيحة فيضطر إلى استعمالها وحيثُ كان للمعنى الواحد كلمتان ثلاثية ورباعية ولا مُرَجِّح لإحداهما على الأخرى كان العدول إلى الرباعية عدولاً عن الأفصح ولم يوجد هذا القرآن الكريم.
انتهى
الثانية عشرة - قال الإمام أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضَّل: المشهور بالراغب وهو من أئمة السُّنة والبلاغة في خُطبة كتابه المفردات: فألفاظ القرآن: هي لبُّ كلام العرب وزُبْدَتُه وواسطته وكرائمه وعليها اعتمادُ الفقهاءِ والحكماءِ في أحكامهم وحِكَمِهم وإليها مَفْزَعٌ حُذّاَق الشعراء والبُلَغاء في نَظْمهم ونَثْرهم وما عداها وما عدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتَقاتِ منها.
هو بالإضافة إليها كالقشُور والنَّوَى بالإضافة إلى أطايب الثمرة وكالحُثالة والتِّبْن بالنسبة إلى لُبُوبِ الحِنْطة.
انتهى.
الثالثة عشرة - ألَّف ثعلب كتابه الفصيح المشهور التزَم فيه الفصيحَ والأفصحَ مما يجري في كلام الناس وكُتُبهم وفيه يقول بعضهم: // من المتقارب //
(كتاب الفصيح كتاب مفيد ... يقال لقاريه ما أَبْلَغَه)
(بُنيّ عليك به إنه ... لُبَابُ اللبيب وضنو اللُّغة) وقد عكفَ الناسُ عليه قديما وحديثا واعْتَنَوْا به فشرحه ابن دَرَسْتَويه وابن خالويه والمرزوقي وأبو بكر بن حيَّان وأبو محمد بن السيد البطليوسي وأبو عبد الله بن هشام اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الفهري وذيَّل عليه الموفق عبد اللطيف البغدادي بذيل يُقَاربُه في الحَجْم ونَظمه ومع ذلك ففيه مواضعُ تعقَّبها الحُذَّاق عليه.
قال أبو حفص الضرير: سمعت أبا الفتح ابن المراغي يقول: سمعت إبراهيم

(1/160)


ابن السري الزجاج يقول: دخلت على ثعلب في أيام المبرد وقد أملى شيئا من المُقْتَضَب فسلّمتُ عليه وعنده أبو موسى الحامِض وكان يَحْسُدني كثيرا ويُجَاهِرُني بالعدَاوة وكنتُ أَلِينُ له وأحْتَمِلُه لموضع الشَّيْخُوخَة.
فقال ثعلب: قد حَمل إليَّ بعضَ ما أَمْلاَهُ هذا الخلدي فرأيتُه لا يَطُوعُ لسانُه بعبارة فقلت له / إنه لا يَشُكُّ في حُسْن عِبارته اثنان ولكنَّ سوءَ رأيك فيه يَعيبُه عندك فقال ما رأيته إلا أَلْكَن متفلقا فقال أبو موسى: والله إن صاحبَكم ألكَنَُ.
يعني سيبويه فأحْفَظني ذلك.
ثم قال: بلغني عن الفرَّاء أنه قال: دخلت البَصْرة فلقيتُ يونس وأصحابه يذكرونه بالحِفْظِ والدراية وحُسنِ الفِطْنة وأتيتُه فإذا هو لا يفصح. وسمعته يقول كجارته: هاتي ذِيكِ الماءَ من ذلكِ الجرَّة فخرجتُ عنه ولم أَعُد إليه. فقلت له: هذا لا يصحُّ عن الفراء وأنتَ غيرُ مأمون في هذه الحكاية ولا يعرفُ أصحاب سيبويه من هذا شيئا. وكيف يقول هذا مَنْ يقول في أول كتابه: هذا بابُ علم ما الكَلِم من العربية وهذا يعجِز عن إدراك فهمه كثيرة من الفُصَحاءِ فضلا عن النُّطق به.
فقال ثعلب: قد وجدتُ في كتابه نحو هذا.
قلت: ما هو قال: يقول في كتابه في غير نُسْخَة: حاشا حرفٌ يخفِضُ ما بعدَه كما تَخْفِضُ حتى وفيها مَعْنى الاستثناء.
فقلتُ له: هذا هكذا وهو صحيح ذهب في التذكير إلى الحرْف وفي التأنيث إلى الكلمة.
قال: والأجود أن يُجْعلَ الكلام على وجْهٍ واحد.
قلت: كلٌّ جيد.
قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ ورسولهِ ويَعْمَل صالحا وقرىء {وتعمل صالحا} . وقال تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ} ذهب إلى المعنى ثم قال: (ومِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ) ذهب إلى اللفظ.
وليس لقائل أن يقول: لو حُمِل

(1/161)


الكلامُ على وجْهٍ واحد في الآيتين كان أجوَدَ لأن كلا جيد.
وأما نحن فلا نذكرُ حدودَ الفراء لأن خَطَأَه فيها أكثرُ من صوابه هذا أنت عملت كتاب الفصيح للمتعلم المبتدىء وهو عشرون ورقة أخطأتَ في عشرة مواضع منه فقال اذكرها.
قلت: نعم قلتَ: (وهو عِرْق النَّسا) ولا يقال إلا النَّسا كما لا يقال عِرْق الأكْحَل ولا عرق الأبهر قال امرؤ القيس: (من المتقارب)
(فأَنْشَب أَظْفَاره في النَّسا ... فقلت: هُبِلْتَ ألا تنتصر) وقلت: حلمت أحلُم حُلماً وحُلُم ليس بمَصْدَر إنما هو اسم قال الله تعالى: {والذين لم يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ} وإذا كان للشيء مصدر واسمٌ لم يوضع الاسمُ مَوضعَ المصدر ألا ترى أنك تقول: حَسِبْتُ الشيءَ أحسِبه حَسْباً وحُسْبَاناً والحَسْبُ المصدر والحِساب الاسم فلو قلت ما بلغَ الحَسْب إلي أو رفعتُ الحَسْبَ إليك لم يجز.
وأنت تريد: رفعت الحَسْاَب إليك.
وقلتَ: رجلٌ عَزَب وامرأة عزبة وهذا خطأٌ وإنما يقال رجل عزب وامرأة عزب لأنه مصدر وُصِف به ولا يثنى ولا يجمع ولا يُؤنَّث كما تقول: رجل خَصْم ولا يقال امرأة خصمة.
وقد أثبتَّ من هذا النوع في الكتاب وأفردتَ هذا منه قال الشاعر: (من الرجز)
(يا مَنْ يَدُلُّ عَزَباً عَلَى عَزَبْ) وقلتُ: كِسْرى بكسر الكاف وهذا خطأٌ إنما هو كَسْرى بفتحها والدليل أنا وإياكم لا نختلفُ في أن النسَب إلى كسرى كَسْرَويّ بفتح الكاف وهذا ليس مما تُغَيِّرُه ياءُ الإضافة لبُعْدِه منها ألا ترى أنك لو نسبتَ إلى مِعْزَى ودِرْهم لقلت مِعزي ودِرهمي ولم تقل مَعزى ولا دَرهمى.

(1/162)


وقلت: وعدتُ الرجلَ خيرا وشرا فإذا لم تذكر الشر قلت: أوعدتُه بكذا وقولك كذا كنايةٌ عن الشر.
والصوابُ أن يقال: وإذا لم تذكر الشر قلت أَوْعَدْته.
وقلتَ: هم المُطَوَّعة وإنما هو المُطَّوِّعة بتشديد الطاء كما قال تعالى: {الذين يَلْمِزُون المُطَّوِّعين من المؤمنين} .
فقال: ما قلت إلا المطوعة.
فقلت: هكذا قرأته عليك وقرأَه غيري وأنا حاضرٌ أسمعُ مِراراً.
وقلتَ: هو لِرشْدَةٍ وزِنْيَة كما قلت: هو لغية والباب فيهما واحد إنما يريدُ المرَّة الواحدة ومَصادِر الثلاثي إذا أردت المرّةَ الواحدة لم تختلفْ تقول: ضربتُه ضَربة وجلستُ جَلْسَة وركبتُ رَكْبة لاَ اخْتلاف في ذلك بين أحدٍ من النحويين وإنما كُسِر ما كان هيئةَ حال فتصفها بالحسن والقُبْح وغيرهما فتقول هو حَسنُ الجِلسة والسِّيرة والرِّكبة وليس هذا من ذاك.
وقلتَ: هي أَسْنُمَة فِي البَلَد ورواه الأصمعي أسْنُمة بضم الهمزة فقال: ما رَوَى ابنُ الأعرابي وأصحابه إلا أسنمة بفتحها.
فقلت: قد علمتَ أن الأصمعي أضبط لما يحكيه وأوثَق فيما يُرويه.
وقلت: إذا عزَّ أخوك فهُن والكلام فهِن وهو من هان يَهين. ومنه قيل هَيِّنٌ لَيّنٌ لأن هُن من هان يهون من الهوان والعربُ لا تأمرُ بذلك ولا معنى هذا فصيح لو قلته ومعنى عزَّ ليس من العِزَّة التي هي مَنَعَةٌ وقُدْرة وإنما هي من قولك عزَّ الشيءَ إذا اشتدَّ ومعنى الكلام إذا صعب أخوك واشتدَّ فَذِلّ له من الذل ولا معنى للذل هاهنا.
كما تقول: إذا صعُب أخوك فهِن له.
قال أبو إسحاق: فما قرىء عليه كتابُ الفصيح بعد ذلك عِلْمِي ثم سئم بعدُ فأنكر كتابه الفصيح.
انتهى.

(1/163)


وذكر طائفة أن الفصيحَ ليس تأليف ثعلب وإنما هو تأليف الحسن بن داود الرقي وقيل تأليف يعقوب بن السكيت.
الرابعة عشرة - قال ابن دَرَسْتَويه في شرح الفصيح: كلُّ ما كان ماضيه على فعَلت بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه من حُروف اللِّين ولا الحَلْق فإنه يجوزُ في مُستَقْبله يفعُل بضم العين ويفعِل بكسرها كضرب يضرِب وشكر يشكرُ وليس أحدُهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسانُ والاستخفاف فمما جاء واسْتُعْمِلَ فيه الوجهان قولهم: نفر ينفِر وينفُر وشتم يشتِمُ ويشتُم فهذا يدلُّ على جواز الوجهين فيهما وأنهما شيء واحد لأنَّ الضمة أختُ الكسرة في الثِّقل كما أن الواو نظيرةُ الياء في الثقل والإعلال ولأن هذا الحَرْفَ لا يتغيّرُ لفظة ولا خطُّه بتغيير حركته.
فأما اختيارُ مؤلِّف كتاب الفصيح في ينفِر ويشتِم فلا عِلَّة له ولا قياس بل هو نقضٌ لمذهب العرب والنَّحْويين في هذا الباب.
فقد أخبرنا محمد بن يزيد عن المازني والزيادي والرياشي عن أبي زيد الأنصاري وأخبرنا به أيضا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عنهم وعن أبي حاتم وأخبرنا به الكسروي عن ابن مهدي عن أبي حاتم عن أبي زيد أنه قال: طُفْتُ في عُلْيا قيس وتميم مدة طويلة أسألُ عن هذا الباب صغيرَهم وكبيرَهم لأعرف ما كان منه بالضم أولى وما كان منه بالكسر أولى فلم أجدْ لذلك قياسا وإنما يتكلم به كلُّ امرىء منهم على ما يَسْتَحْسِن ويستخفُّ لا على غير ذلك.
ونظنُّ المختارُ لِلْكَسْرِ هُنَا وَجَدَ الكَسر أَكثرَ استعمالا عند بعضهم فجعلَه أفصحَ مِنَ الذي قلَّ استعمالهُ عندهم وليست الفصاحة في كثرةِ الاستعمال ولا قِلَّته وإنما هاتان لغتان مُستَويتان في القياس والعلة وإن كان ما كَثر استعماله أعرف وآنس لطول العادة له.
وقد يلتزمون أحدَ الوجهين للفَرْق بين المعاني في بعض ما يجوز فيه الوجهان كقولهم: ينفرُ بالضم من النِّفار والاشمئزاز وينفِر بالكسر من نَفْر الحُجاج من عرَفَات فهذا الضربُ من القياس يُبْطِل اختيارَ مؤلف الفصيح الكسر في ينفِر على كل حال.

(1/164)


ومعرفةُ مثل هذا أنْفع من حِفْظ الألفاظ المجردة وتقليدِ اللغة مَنْ لم يكن فقيها فيها.
وقد يلهج العربُ الفصحاء بالكلمة الشاذة عن القياس البعيدة من الصواب حتى لا يتكلموا بغيرها ويدعوا المُنْقاس المطَّرِد المختار ثم لا يَجِبُ لذلك أن يُقالَ: هذا أفصحُ من المتروك.
من ذلك قول عامة العرب: إيش صنعت يريدون أي شيء ولا بشانيك يعنون لا أب لشانيك.
وقولهم: لا تبل أي لا تبالي.
ومثل تركهم استعمال الماضي واسم الفاعل: من: يَذَر ويَدَع واقتصارهم على: تَرَك وتارك وليس ذلك لأن (تَرك) أفصحُ من وَدع ووذر وإنما الفصيح ما أَفْصَحَ عن المعنى واستقام لفظهُ على القياس لا ما كثُر استعمالهُ.
انتهى.
ثم قال ابن دَرَسْتَويه: وليس كُلُّ ما ترك الفصحاءُ استعمالَه بخطأ فقد يتركون استعمال الفصيح لاستغنائهم بفصيحٍ آخر أو لعلَّة غير ذلك.
انتهى.
الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب

أفصحُ الخَلْق على الإطلاق سيدُنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب رب العالمين جلَّ وعلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح العرب) وأصحاب الغريب ورَوَوْه أيضا بلفظ: (أنا أفصَحُ من نَطق بالضاد بَيْدَ أني من قريش) وتقدم حديث: (أن عمر قال: يا رسول الله مَا لَكَ أفصحنا ولم تَخرج من بين أظْهُرِنا. .) الحديث.
وروى البَيْهَقي في شعب الإيمان عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: (أن رجلا قال: يا رسول الله ما أفصحكفما رأينا الذي هو أعرب منك.
قال: حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين) وقال الخطابي: اعلم أن اللهَ لما وضعَ رسوله صلى الله عليه وسلم موضع البلاغ من وَحْيه ونَصَبه مَنْصِب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربَها ومن الألْسُن أفصحَها وأبينَها ثم أمدَّه بجوامع الكَلم.
قال: ومِنْ فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقْتَضَبَها لم تُسْمَع من العرب قبله ولم توجد في مُتقدّم كلامها كقوله: (مات حَتْف أَنْفه) (وحَمِيَ الوطيس) (ولا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرَّتين)

(1/165)


في ألفاظ عديدة تَجْري مَجْرى الأمثال.
وقد يدخل في هذا إحْدَاثُه الأسماء الشرعية.
انتهى.
وأفصح العرب قريش قال ابنُ فارس في فقه اللغة: باب القول في أفصح العرب.
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد مولى بني هاشم بقَزْوين قال حدثنا أبو الحسن محمد بن عباس الحشكي حدثنا إسماعيل بن أبي عبيد الله قال: أَجْمَع علماؤنا بكلام العرب والرُّواة لأشعارهم والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومحالِّهم أن قُرَيْشاً أفصحُ العربِ أَلْسِنَةً وأَصْفَاهُمْ لَغةً وذلك أن الله تعالى اختارَهم من جميع العرب واختارَ منهم محمدا صلى الله عليه وسلم فجعلَ قريشا قُطَّانَ حَرَمه ووُلاَةَ بَيْته فكانت وفودُ العرب من حجَّاجها وغيرهم يَفِدُونَ إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش وكانت قريشٌ مع فصاحتها وحسْن لُغاتها ورِقَّة أَلْسِنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخَيَّرُوا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لُغَاتهم وأصْفَى كلامهم فاجتمعَ ما تخَيَّرواْ من تلك اللغات إلى سلائقِهم التي طُبعوا عليها فصاروا بذلك أفصحَ العرب.
ألا ترى أنك لا تجدُ في كلامهم عَنْعَنة تميم ولا عَجْرفية قَيْس ولا كشْكَشَة أسد ولا كَسْكَسَة ربيعة ولا كَسْر أسد وقيس.
وروى أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزل القرآن على سبع لغات منها خمسٌ بلغة العَجُز من هوازن وهم الذين يقال لهم عُلْيا هوازن وهم خمس قبائل أو أربع منها سعد بن بكر وجُشَم بن بكر ونَصْر بن معاوية وثقيف.
قال أبو عبيد: وأحسب أفصحَ هؤلاء بني سعد بن بكر وذلك لقول رسول

(1/166)


الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش وأني نشأْتُ في بني سعد بن بكر) وكان مُسْتَرْضعاً فيهم وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصحُ العرب عُلْيا هَوازن وسُفْلَى تميم.
وعن ابن مسعود: إنه كان يُسْتَحَبُّ أن يكون الذين يكتبون المصاحفَ من مُضَر.
وقال عمر: لأايملين في مصاحفنا إلا غِلْمان قريش وثقيف.
وقال عثمان: اجعلوا المُمْلِي من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف.
قال أبو عبيدة: فهذا ما جاء في لغات مضر.
وقد جاءت لغاتٌ لأهلِ اليمن في القرآن معروفةٌ ويروى مرفوعا: نزل القرآن على لغة الكَعْبَيْن كعب بن لُؤَيّ وكعب بن عمرو وهو أبو خزاعة.
وقال ثعلب في أماليه: ارتفعت قريشٌ في الفصاحة عن عَنْعَنَةِ تميم وتَلْتَلةِ بَهْرَاء وكَسْكَسَة ربيعة وكشكشة هوازن وتضجع قريش وعجرفية ضبة وفسر تَلْتَلَة بَهْرَاء بكسر أوائل الأفعال المُضَارعة.
وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى (بالألفاظ والحروف) : كانت قريشٌ أجودَ العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النُّطْق وأحسنها مسموعا وأبينها إبانَة عما في النفس والذين عنهم نُقِلت اللغة العربية وبهم اقْتُدِي وعنهم أُخِذَ اللسانُ العربيٌّ من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثرُ ما أُخِذ ومعظمه وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتَّصْريف ثم هذيل وبعض كِنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضَريٍّ قط ولا عن سكَّان البَرَاري ممن كان يسكنُ أطرافَ بلادِهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم فإنه لم يؤخذ لا مِنْ لَخْم ولا من جذَام لِمُجاوَرتهم أهل مصر والقِبْط ولا من قُضاعة وغَسَّان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس ولا

(1/167)


من عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحرين مُخالطين للهِند والفُرس ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغةَ العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت أَلسِنتهم والذي نقل اللغةَ واللسانَ العربيَّ عن هؤلاء وأَثْبَتها في كتاب فصيَّرها عِلْماً وصناعة هم أهلُ البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب.
انتهى.
فرع - رَُتَبُ الفصيح متفاوتةٌ ففيها فصيحٌ وأفصح ونظيرُ ذلك في علوم الحديث تفاوت رُتَبِ الصحيح ففيها صحيحٌ وأَصَحّ.
ومن أمثلة ذلك: قال في الجمهرة: البُرُّ أفصحُ من قولهم القَمْح والحنْطة.
وأنصَبَه المرضُ أعْلى من نَصَبَه.
وغلب غَلَباً أفصح من غلبا. والمغوت أفصحُ من اللَّغْب.
وفي الغريب المصنف: قَرَرت بالمكان أجود من قَرِرت.
وفي ديوان الأدب: الحبر: العالم وهو بالكسر أصح لأنه يجمع على أفْعال والفَعل يجمع على فُعُول.
ويقال: هذا مَلْك يميني وهو أفصحُ من الكسر.
وفي أمالي القالي: الأَنملة والأُنملة لغتان: طرف الأصبع وأَنملة أفصح.
وفي الصحاح: ضَرْبة لازب أفصحُ من لازم وبُهِت أفصحُ من بَهُتَ وبَهِت.
وقال ابنُ خالويه في شرح الفصيح: قد أجمع الناس جميعا أن اللغة إذا وَرَدت في القرآن فهي
أفصح مما في غير القرآن لا خلافَ في ذلك.
فائدة - قال ابنُ خالويه في شرح الدريدية: فإن سأل سائل فقال: أوفى

(1/168)


بعهده.
أفصحُ اللغات وأكثرها فلِمَ زعمت ذلك وإنما النَّحْوي الذي ينقِّر عن كلام العربِ ويحتج عنها ويَبِين عما أَوْدَع الله تعالى من هذه اللغة الشريفة هذا القبيل من الناس وهم قريش فقل: لمَّا كان وفَى بعهده يجذبه أصلان: مِنْ وفَى الشيء إذا كَثُرَ ووفَى بعَهْدِهِ اختاروا أَوْفَى إذا كان لا يشكل ولا يكونُ إلا للعَهْدِ.
النوع العاشر

معرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات

الضعيفُ: ما انحطَّ عن دَرجة الفصيح والمُنْكَر أَضعفُ منه وأقلُّ استعمالا بحيثُ أنكرَه بعضُ أَئمة اللغة ولم يعرفه.
والمتروك: ماكان قديما من اللغات ثم تُرِك واسْتُعْمِل غيرُه وأمثلةُ ذلك كثيرة في كتب اللغة.
منها في ديوان الأدب للفارابي: اللَّهَجَة لغة في اللَّهْجة وهي ضعيفة.
وأَنْبَذ نبيذا لغة ضعيفة في نَبَذَ.
وانْتُقِعَ لونه لغة ضعيفة في امْتُقِع.
وتَمَنْدَلَ بالمنديل لغة ضعيفة في تَنَدَّلَ.
وواخاه لغة في آخاه وهي ضعيفة.
والامْتِحَاء لغة ضعيفة في الإمْحاء.
وفيه: الجَلَد أن يسلخ الحُوار فيُلْبَس جلده حُواراً آخر
وقال ابن الأعرابي الجِلْد والجَلَد واحد وهذا لا يعرف.
وفيه الخَرِيع من النساء: التي تَتَثَنَّى من اللين والخَرِيع: الفاجِرَة وأنكرها الأصمعي.
وفي نوادر أبي زيد: كان الأصمعي ينكر (هي زوجتي) وقرىء عليه هذا الشعر لعبدة بن الطبيب فلم ينكره: // من الكامل //
(فبكى بناتي شجوهنَّ وزوجتي)

(1/169)


وقال القالي: قال الأصمعي: لا تكادُ العربُ تقول زوجته.
وقال يعقوب: يقال زوجته وهي قليلة قال الفرزدق: // من الطويل //
(وإنَّ الذي يَسْعَى ليُفْسِد زوجتي)
وفي نوادر أبي زيد: شَغِب عليه لغة في شَغَب.
وهي لغةٌ ضعيفة.
وفيها: يقال: رَعِف الرجل لغة في رَعَف وهي ضعيفة.
وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذَأَى البقْل يَذْأَى وأهل نجد يقولون: ذَوَى يَذْوي وحكى أهل الكوفة ذَوِي أيضا وليست بالفصيحة.
وفي الصحاح: المِرْزاب لغة من الميزاب وليست بالفَصيحة.
ولغِب بالكسر يَلْغَب لغة ضعيفة في لَغَب يَلْغُب.
والإعراس لغة قليلة في التَّعْريس وهو نزولُ القوم في السَّفر من آخر الليل.
وفي شرح الفصيح لابن درستويه: جمع الأم أُمّات لغة ضعيفة غيرُ فصيحة والفصيحة أمَّهات.
وفي نوادر أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي: تقول العرب عامة: عَطَس يعطِس يكسرون الطاء من يعطِس إلا قليلا منهم يقولون يَعْطُس.
ويقول أهل الحجاز: قتَر يَقْتِر ولغة فيها أخرى يقتُر بضم التاء وهي أقلُّ اللغات. وقال البطليوسي في شرح الفصيح: المشهور في كلام العرب ماءٌ مِلْح ولكن قول العامة مَالِح لا يعدُّ خطأ وإنما هو لغة قليلة.
وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: قول العامة حَرِصت بالكسر أَحرص لغة

(1/170)


معروفة صحيحة إلا أنها في كلام العرب الفصحاء قليلة والفصحاء يقولون بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل.
وقال أيضا: العامة تقول: اعْنَ بحَاجتي على لغة من يقول عَنِيت بالحاجة وهي لغةٌ ضعيفة.
وفي الجمهرة الدُّجا مقصور: الظلمة في بعض اللغات يقال: ليلةٌ دجياء - زعموا.
وفيها: الخَوَى: الجوع مقصور قد مده قوم وليس بالعالي.
وفيها: خندع يقول إنه الضفدع في بعض اللغات.
وفيها: الخُنْعَبَة: المتدَّلية في وسط الشفة العليا في بعض اللغات.
وفيها: البُرْصوم: عِفَاص القارورة ونحوها في بعض اللغات.
وفيها: البُعْقُوط والبُلْقُوط: القصير زعموا في بعض اللغات.
وفيها: العُرَيْنَة في بعض اللغات: طَرَفُ الأنف.
وفيها: تَحَثْرف الشيء من يدي إذا بَدَّدْتُه في بعض اللغات.
وفيها: الحِثْرمة: الناتئة في وسط الشَّفة العليا في بعض اللغات.
وفيها: الطَّيْثَار: البعوض في بعض اللغات.

(1/171)


وفيها: الزُّلْقوم في بعض اللغات: الحلقوم.
وفيها: العين في بعض اللغات تسمى البصاضة.
وفيها: شقى في لغة طيىء في معنى شَقِي ومثله بَقَي في معنى بَقِي وبَلَى في معنى بَلِي ورَضَي في معنى رَضِيَ.
وفيها: هَبَّت الريح هُبوباً. وقالوا: هَبّاً وليس في اللغة العالية.
وفيها: تَمَتَّى: في معنى تمطَّى في بعض اللغات.
وفيها: القُرَّة: الضِّفْدَع في بعض اللغات.
وفيها: الغُزَّان: الشّدْقان في بعض اللغات الواحد غُزّ.
وفيها: الكُشَّة: الناصية في بعض اللغات.
وفيها: اللِّصت في بعض اللغات: اللِّصُّ.
وفيها: المُصِنّ: المتكبِّر في بعض اللغات.
وفيها: الضفْدعة في بعض اللغات: النقَّاقة.
وفيها: المَنَا: الذي يُوزَن به ناقِص وذكروا أن قوما من العرب يقولون: مَنّ وَمَنَّان وأَمْنَان وليس بالمأخوذ به.
وفيها: النَّملة الصغيرة في بعض اللغات تسمى النِّمَّة.
وفيها: الصُّفْصُف: العصفور في بعض اللغات.
وفيها: ذَأَى العود ليس باللغة العالية والفصيح ذَوَى.
وفيها: الصُّوَّة في بعض اللغات: الأرض ذات الحجارة.
وفيها: صَحَبْتُ المَذْبُوح: إذا سَلَخْته في بعض اللغات.
وفيها: الخَزَب: الخَزَف المعروف في بعض اللغات.

(1/172)


وفيها: البَخْو: الرِّخْو في بعض اللغات.
وفيها: ربما سُمِّي النهرُ الصغير رَبيعاً في بعض اللغات ومنها قيل الرَّبيع في معنى الرُّبع.
والثَّمين في معنى الثُّمن ولم تجاوز العربُ في هذا المعنى الثَّمين.
وقال بعضهم بل يقال: التسيع والعَشِير والأول أعلى.
وفيها: الهُبْر: مُشَاقَةُ الكَتَّان في بعض اللغات.
وفيها: أبغضته بَغَاضةً لغة يمانية ليست بالعالية.
ومن أمثلة المنكر ما في الجمهرة: قال قومُ: بَلق الدابة وهذا لا يعرف في أصل اللغة.
وفيها: قال قوم: نَبْلة واحدة النَّبْل وليس بالمعروف.
وفي الصحاح: جَرَعْتُ الماءَ بالفتح لغة أنكرها الأصمعي والمعروف جَرِعت بالكسر.
وفي المقصور للقالي: يقال سقط على حَلاَوى القَفَا وحَلاَوَة القفا وحُلاوى القفا.
وقال أبو عبيدة: يجوز أيضا على حَلاَوةِ القفا وليست بالمعروفة.
ومن أمثلة المتروك قال في الجمهرة: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: (مَضَّنِي) كلام قديم قد تُرك قال ابنُ دريد: وكأنه أراد أن أمَضَّني هو المستعمل.
قال في الجمهرة: خوان يومٌ من أيام الأسبوع من اللغة الأولى وخَوَّان وخُوَّان شهر من شهور السنة العربية الأولى.

(1/173)


وفي الصحاح للجوهري: جَفَأْتُ القدر: كَفَأْتُها وصبَبْتُ ما فيها ولا تقل أَجْفَأْتها وأما الحديث الذي فيه فَأجفؤوا قُدُورهم بما فيها.
فهي لغةٌ مجهولة فهذا يُحتمل أن يكون من أمثلة المتروك ويحتمل أن يكون من أمثلةِ المُنْكَر.
وفي شرح المعلقات لأبي جعفر النحاس: قال الكسائي: مَحْبوب مِن حَبَبْتُ وكأنها لغةٌ قد ماتت كما قيل: دمت أدوم ومت أموت وكان الأصل أن يقال: أمات وأدام في المستقبل إلا أنها قد تركت.
أسماء الأيام في الجاهلية

قال في الجمهرة: أسماء الأيام في الجاهلية: السبت: شِيَار.
والأحد: أَوّلُ والاثنين: أَهْونَ وأوْهَد.
والثلاثاء: جُبَار.
والأربعاء: دِبُار.
والخميس: مُؤْنِس.
والجمعة: عروبة.
(أسماء الشهور)

وأسماء الشهور في الجاهلية: المُؤْتَمِر وهو المحرم.
وصفر وهو ناجِر.
وشهر ربيع الأول وهو خَوَّان وقالوا: خُوَّان.
وربيع الآخر وهو وَبْصَان.
وجمادى الأولى: الحَنِين.
وجمادى الآخرة: ربَّى.
ورجب: الأَصَمّ.
وشعبان: عادل.
ورمضان: ناتِق.
وشوَّالَ: وَعِلْ.
وذو القعدة: ورنة.
وذ الحجة: بُرَك.
وقال الفراء في كتاب الأيام والليالي: خُوَّانَ من العرب من يخفِّفه ومنهم من يشدده (والتثنية خوانان والجمع أخونه) .
وربصان منهم مَنْ يقُول: بوصان على

(1/174)


القَلْب ومنهم مَنْ يُسقط الواو ويقول: بُصَان مَضموم مخفف.
والحَنِينَ منهم مَنْ.
يفتح حاءه ومنهم مَنْ يَضمّه.
قال: وجمادى الآخرة يسمى وَرْنَةَ ساكن الراء ومنهم مَنْ يقول: رِنة كزِنة.
قال: وذو القعدة يسمى هُوَاعاً.
وقال ابن خالَويه: اختلف في جمادى الآخرة فقال قُطْرب وابن الأنباري وابن دريد: هو رُبَّى بالباء وقال أبو عمر الزاهد: هذا تصحيف إنما هو رنى وقال أبو موسى الحامض: رِنَة.
وقال القالي: في المقصور والَممدود: قال ابنُ الكلبي: كانت عاد تسمي جمادى الأولى ربى وجمادى الآخرة حَنِيناً.
وفي الصحاح: يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سمَّوْها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق شهرُ رمضان أيامَ رَمَضَ الحر فسُمِّي بذلك.
تنبيه - الفرقُ بين هذا النوع وبين النوع الثاني أن ذاك فيما هو ضعيف من جهة النَّقل وعدم الثبوت وهذا فيما هو ضعيف من جهة عدم الفصاحة مع ثبوته في النقل فذاك راجعٌ إلى الإسناد وهذا راجعٌ إلى اللفظ.
النوع الحادي عشر

معرفة الردىء المذموم من اللغات

هو أقبحُ اللغات وأنزلُها درجة قال الفراء: كانت العربُ تحضر المَوسِم في كل عام وتحجُّ البيتَ في الجاهلية وقريشٌ يسمعون لغاتِ العرب فما اسْتحسنوه من لغاتهم تكلموا به فصاروا أفصحَ العرب وخلَتْ لغتُهم من مُستبْشع اللغات ومُستقبَح الألفاظ من ذلك: الكَشْكَشة وهي في ربيعة ومضر يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شِيناً فيقولون: رَأَيْتُكش وبكَش وعَليْكَش فمنهم من يُثبتُها

(1/175)


حالةَ الوقف فقط وهو الأشْهر ومنهم من يُثبتها في الوصل أيضا ومنهم من يَجعلها مكانَ الكاف ويكسرها في الوصل ويُسكنِّها في الوقف فيقول: مِنْش وَعَليْش.
ومن ذلك: الكَسْكَسة وهي في ربيعة ومُضر يجعلون بعد الكافِ أو مكانها في المذكر سينا على ما تقدم وقصدوا بذلك الفَرْقَ بينهما.
ومن ذلك: العَنْعََنة وهي في كثير من العرب في لغة قيس وتميم تجعل الهمزة المبدوء بها عينا فيقولون في أنك عنك وفي أسْلم عَسْلم وفي أذُن عُذُن.
ومن ذلك الفَحفَحة في لغة هُذَيل يجعلون الحاء عَيْناً.
ومن ذلك: الوكْم في لغة ربيعة وهم قوم من كَلْب يقولون: عليكِم وبكِم حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة.
ومن ذلك الوهْم في لغة كلْب يقولون: منهِمْ وعنهِم وبينهِمْ وإن لم يكن قبل الهاء ياءٌ ولا كسرة.
ومن ذلك العَجْعَجَة في لغة قضاعة يجعلون الياء المشدَّدة جيما يقولون في تميمي تميمِجّ.
ومن ذلك: الاستنطاء في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والأنصار تجعل العين الساكنة نونا إذا جاورت الطاء كأنْطي في أعْطِي.
ومن ذلك: الوتم في لغة اليمن تجعلُ السِّين تاء كالنات في الناس.
ومن ذلك: الشَّنشنة في لغة اليمن تجعل الكاف شينا مطلقا كلبَّيْش اللهم لبَّيْش أي لبيك.
ومن العرب من يجعل الكاف جيما كالجعْبة يريد الكعبة.
وقال ابن فارس في فقه اللغة: باب اللغات المذمومة - فذكر منها العَنْعَنَة والكشكشة والكَسكَسة والحرف الذي بين القاف والكاف في لغة تميم والذي

(1/176)


بين الجيم والكاف في لغة اليمن وإبدال الياء جيما في الإضافة نحو غُلامج وفي النسب نحو بَصرجّ وكُوفِجّ.
ومن ذلك الخَرْم وهو زيادةُ حرف الكلام لا الذي في العروض كقوله: // من الوافر //
(ولا للما بهم أبدا دواء)
وقوله: // من الرجز //
(وصاليات كَكَما يُؤَثْفَيْنْ)
قال: وهذا قبيحٌ لا يزيد الكلام قُوَّة بل يُقَبِّحه.
وذكر الثعالبي في فقه اللغة من ذلك: اللَّخْلَخَانيَّة تَعْرِض فِي لغة أعراب الشِّحْر وعُمان كقولهم: مَشَا الله كان يريدون ما شاء الله كان.
والطُّمْطُمانيَّة تَعْرِض في لغة حِمْيَر كقولهم: طاب أمْهَوَاء: أي طاب الهواءُ وهذه أمثلة من الألفاظ المفردة.

(1/177)


في الجمهرة: الطَّعْسَفَة لغةٌ مرغوب عنها يقال: مرة يُطَعْسِفُ في الأرض إذا مرَّ يَخْبِطُهَا.
وفي الغريب المصنف: يقال حفرت البئر حتى أَمَهْتُ وأَمْوَهْت وإن شئتَ أَمْهَيْتُ وهي أبعد اللغات فيها والمعنى انتهيت إلى الماء.
وفي الجمهرة: تَدَخْدَخ الرجل إذا انقبض لغةٌ مرغوب عنها.
ورضَبَت الشاة لغةٌ مرغوب عنها والفصيح رَبَضَتْ.
وفي أمالي القالي: يقال: بغداد وبفدان ومغدان وبَغْدَاذ وهي أقلها وأردَؤها.
وفي أدب الكاتب لابن قُتَيبة: يقال في أسنانه حَفَر وهو فسادٌ في أصول الأسنان وحَفْر رديئة.
ويقال: فلان أحْوَل من فلان من الحِيلة لأن أصل الياءِ فيها واو من الحَول ويقال: أحْيل وهي رديئة.
وفي ديوان الأدب للفارابي: الفِصّ بالكسر لغة في الفَصّ وهي أردأ اللغتين.
وأَشْغَلَه لغة في شَغله وهي رديئةٌ.
وانْدَخَل أي دخل وليس بجيد.
والدِّجاج بالكسر لغة في الدجاج وهي لغة رديئة.
والوحْل بالسكون لغةٌ في الوحَل وهي أردأُ اللغتين والوَتَد بفتح التاء لغة في الوَتِد وهي أردَأ اللغتين. واليِسار بالكسر لغة في اليسار وهي أرْدؤُهما.
ويقال: هو أَخْيَرُ منه في لغة رديئة والشائعُ خيرٌ منه بلا هَمْز.
وفي الصحاح قال الخليل: أفَلَطني لغةٌ تميمية قبيحة في أفلتني.
وفي نوادر اليزيدي يقال: أَلَقْتُ الدواة إلاَقة ولُقْتُها ليقا رديئة.
وتقول: أَقَلْتَه البيع إقالة وقِلْتُهُ قيلا رديئة.
وأنتن اللحم فهو مُنْتِن وقد يقال له: مِنتِن بالكسر وهي رديئة خبيثة.
وتقول في كل لغة: هذا مَلاك الأمر وفِكاك الرقاب وقد جاء عن بعض العرب أنه فتح هذين الحرفين وهي رديئة.
وتقول: رابني الرجل وأما أرابني فإنها لغة رديئة.

(1/178)


وفي شرح الفصيح للبطليوسي: الزنز: لغة في الأرز وهي رديئة.
وقال ابنُ السكيت في الإصلاح: يقال في الإشارة: تَلك بفتح التاء لغةٌ رديئة.
قال ابنُ دَرَسْتَويه في شرح الفصيح: قول العامة نحوي لغوي على وزن جهل يجهل خطأ أو لغة رديئة.
وقوله: دَمِعَتْ عيني بكسر الميم لغة رديئة.
وقال ابن خالويه في شرح الفصيح: قال أبو عمرو: أكثر العرب تقول: تلك وتيك لغةٌ لا خيرَ فيها.
ويقال: حَدَر القراءة يحْدُرُها ويحْدِرها ولا خيرَ فيها وسُؤْت به ظنا وأسأت به ظنا ولا خيرَ فيها. والطِّرياق لغة في التِّرياق ولا خير فيها.
وحَوْصَلة الطائر مخففة ولا خير في التَّثْقيل وبعضُ العرب يسمِّ الصَّفا والعصا لغة سوء.
ويقال: تَطَالَلْت بمعنى تطاولت لغة سوء.
وتميم تقول: الحمدِ لله بكسر الدال ولا خير فيها.
انتهى.
وفي الصحاح: أَوقفت الدابة لغة رديئة.
وفيه: أَعَقَّت الفرس أي حملت فهي عَقُوق ولا يقال مُعِق إلا في لغة رديئة وهو من النوادر.
وفيه غَلَقْتُ البابَ غَلْقَاً لغة رديئة متروكة.
وفيه: يقال محَقَه الله وأَمْحقَه لغةٌ فيه رديئة.
وفيه: لا يقال ماء مالح إلا في لغة رديئة.
ولا يقال: أشَرُّ الناس إلا في لغة رديئة.
وفي تهذيب التبريزي: الحُوار بالضم: ولد الناقة و (الحوار بالكسر لغة رديئة) .
وفي المقصود والممدود للقالي: في نفساء ثلاث لغات: نُفَساء وهي الفصيحةُ الجيدة ونَفْساء ونَفَساء وهي أقلها وأردؤها.

(1/179)


وفي المجمل: قال ابن دريد: الثَّحْج لغة مرغوب عنها لمهْرَة بن حَيْدَانَ يقولون: ثَحَجه برجْله إذا ضربه بها.
وفي الأفعال لابن القوطية: حَدَرت السفينة والقِراءة والرباعي لغة رديئة.
النوع الثاني عشر

معرفة المطرد والشاذ

قال ابن جني في الخصائص:
أصل مواضع (ط ر د) في كلامهم التتابع والاستمرار من ذلك طَرَدت الطَّرِيدة إذا اتبعتَها واستمرت بين يديك ومنه مطارَدَة الفُرْسان بعضهم بعضا (ألا ترى أن هناك كرا وفرا فكل يطرد صاحبه) و (منه) المِطْرَد: رمحٌ قصيرٌ يطرد به الوحش. واطَّرد الجدول إذا تتابع ماؤُه بالريح ومنه بيت الأنصاري: // من الطويل //
(أتَعْرِفُ رَسْمَاً كاطِّرادِ المَذَاهِبِ)
أي كتتابع المذاهب (وهي جمع مُذْهَب)
وأما مواضع (ش ذ ذ) في كلامهم فهو التفرق والتفرد من ذلك قوله: // من الرجز //
(يَتركْن شَذَّان الحَصَى جَوافِلاَ)

(1/180)


أي ما تطاير وتهافتَ منه.
وشذَّ الشيء يشذ شذُوذَاً وشذا وأشْذَذْتُهُ وشَذَذْتُهُ أيضا أَشُذّه بالضم لا غير.
وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذا أي متفرقا وجمع شاذ شُذَّاذ قال: // من الرجز //
(كبعضِ من مَرَّ من الشُّذَّاذ)
هذا أصل هذين الأصلين في اللغة ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سَمْته وطريقه في غيرهما فجعل أهلُ عِلم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مُطَّرداً وجعلوا ما فارق عليه بِقيّةُ بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذا حَمْلاً لهذين الموضعين على أحكام غيرهما.
قال: ثم اعلم أن الكلام في الاطراد والشذوذُ على أربعة أضرب:
مُطَّرِد في القياس والاستعمال جميعا وهذا هو الغاية المطلوبة نحو قام زيد وضربتُ عمرا ومررت بسعيدٍ.
ومُطَّرِد في القياس شاذٌّ في الاستعمال وذلك نحو الماضي من يَذَر ويدَع وكذلك قولهم: مكان مُبْقِل هذا هو القياس والأكثر في السَّماع باقل والأول مسموع أيضا حكاه أبو زيد في كتاب (حيلة ومحالة) وأنشد: // من الرجز //
(أعَاشَني بَعْدَك وادٍ مُبْقِلُ)
ومما يَقْوى في القياس ويضعُف في الاستعمال استعمال مفعول عسى اسما صريحا نحو قولك: عسى زيد قائما أو قياما هذا هو القياس غير أن السماع ورَد بحَظْرِه والاقتصار على ترك استعمال الاسم هاهنا وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم (و {عسى الله أن يأتي بالفتح} ) وقد جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي: // من الرجز //
(أكثرت في العذل ملحا دائما ... لاتعذلن إني عَسِيتُ صائما)

(1/181)


ومنه المثل السائر: عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً والثالث المُطَّرِد في الاستعمال الشَّاذ في القياس نحو قولهم: أَخْوَصَ الرِّمْث واسْتَصْوبت الأمر أخبرنا أبو بكر أحمد بن يحيى قال: يقال: اسْتَصْوبْت الشيء ولا يقال استَصَبْتُ.
ومنه استَحْوذَ وأغْيلت المرأة واستنوق الجملُ واسْتَتْيَسَت الشاة واسْتَفْيَل الجمل.
(قال أبو النجم: // من الرجز //
(يدير عَيْنَيْ مُصْعَب مُسْتَفْيل)
والرابع - الشاذ في القياس والاستعمال جميعا وهو كتتميم مفعول مما عينه واو (أو ياء) نحو ثوب مَصْوُون ومسك مَدْووف وحكى البغداديون: فرس مَقْوُود ورجل معْوود من مَرَضه وكلُّ ذلك شاذٌّ في القياس والاستعمال فلا يسوغ القياس عليه ولا ردُّ غيره إليه.
قال: واعلم أن الشيء إذا اطَّرد في الاستعمال وشذ عن القياس فلا بدَّ من اتِّباع السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يُتَّخذ أصلا يقاسُ عليه غيرُه ألا ترَى أنك إذا سمعت (استحوذ) و (استصوب) أدَّيتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به السمعُ فيهما إلى غيرهما فلا تقول في استقام استقوم ولا في استباع استبْيَع ولا في أعاد أعوَد لو (لم تسمع شيئا من ذلك) قياسا على قولهم: أَخْوَصَ الرِّمث

(1/182)


فإن كان الشيء شاذا في السماع مطردا في القياس تحاميتَ ما تحامت العربُ من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله.
من ذلك امتناعك من وذر وودَع لأنهم لم يقولوهما ولا غَرو عليك أن تستعمل نظيرهما نحو وَزن ووعد لو لم تسمعهما.
ومن ذلك استعمال (أن) بعد كاد نحو قولك: كاد زيد أن يقوم وهو قليلٌ شاذ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحا ولا مَأْبيّاً في القياس.
ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان هكذا كلامهم.
قال أبو عثمان: والقياس مُوجب أن تقول أقائم أخوَاك أم قاعدٌ هُما إلا أن العرب لا تقوله إلا قاعدان فتضل الضمير والقياسُ يوجبُ فَصْلِهِ ليُعادِل الجملة الأولى.
ذكر نبذ من الأمثلة الشاذة في القياس المطردة في الاستعمال
قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال أحْزَنه يَحْزُنُه قال تعالى: {ولا يَحْزُنْك} وهذا شاذٌّ وكان القياس يُحزِنه ولم يُسْمَع.
ويقال: أحَمَّه الله من الحمَّى فهو محموم وهو من الشَّواذ والقياسُ مُحَمّ.
وأجنَّه الله من الجنون فهو مُجَنّ وهو من الشواذ.
قال: ومن الشواذ باب فَعِل يفعِل بكسر العين فيهما وكورث وورِع ووبِق ووثِق ووفِق وومِقَ ووِرم وورِي الزَّند وَوَلي وِلاية وَيَبِس يَيَبس لغة في يبس لغة يبس يَيْبِس ويقال: أورس الشجر إذا اصفرَّ ورقه فهو وارس ولا يقال مُورس وهو من الشواذ. ومن الشواذ أيضا قولهم: القَوْد والعَوَر والخَوَل والخور وقولهم: أحوجني الأمر وأرْوَح اللحم وأسْود الرجل من سواد لونِ الولد وأحوز الإبل أي

(1/183)


سار بها وأعور الفارس إذا بدا فيه موضعُ خَلل للضَّرب.
وأَحْوشَ عليه الصيد إذا أنفره ليصيده.
وأحوصت النخلة من الخوض وأعْوص بالخَصْمِ إذا لوى عليه أمره.
وأفوق بالسهم لغة في أفاق.
وأشْوكت النخلة من الشَّوْك وأنْوكْت الرجل إذا وجدته أنوك.
وأحَوْلَ الغلام إذا أتى عليه حَوْل.
وأطولت في معنى أطلت.
وأعْول أي بكى ورفع صوته.
وأقْوَلْتَني ما لم أقُل وأعْوَه القوم لغة في أعاه أي أصاب ما شيتهم عاهَة وأَخْيَلت السماء وأغْيَمَت لغة في أغامت وأغْيل فلان ولده لغة في أغال.
وفي أمالي ثعلب: قال أبو عثمان المازني قالت العرب: زُهي الرجل وما أزْهاه وشُغِل وما أشْغله وجُنَّ وما أَجَنَّه.
هذا الضَّرْب شاذ وإنما يُحْفظ حِفْظاً.
وفي الصحاح للجوهري: تقول جئت مجيئا حسنا وهو شاذ لأن المصدر من فَعَل بفِعل مَفعَل بفتح العين وقد شذت منه حروف فجاءت على مفعل كالمجيء والمحيض والمَكيل والمَصِير.
وفيه: شَنآن بالتحريك والتسكين وقُرِئ بهما وهما شاذان فالتحريك شاذ في المعنى لأن فَعَلان إنما هو من بناء ما كان معناه الحركة والاضطراب كالضرَبان والخَفَقان والتسكين شاذٌّ في اللفظ لأنه لم يجئ شيءٌ من المصادر عليه.
وقال ابن السراج في الأصول: اعلم أنه ربما شذَّ من بابه فينبغي أن تعلم أن القياس إذا اطَّرَد في جميع الباب لم يكن بالحرف الذي يشذ منه.
وهذا مستعمل في جميع العلوم ولو اعتُرض بالشاذ على القياس المطرد لبطل أكثرُ الصناعات والعلوم فمتى سمعت حَرْفاً مخالفا لا شكَّ في خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شذ فإن كان سُمع ممن تُرْضَى عربيته فلا بد من أن يكون قد حاول به مذهبا أو نحا نحْواً من الوجوه أو استهواه أمرٌ غلطه.
قال: وليس البيتُ الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المُجْمَع عليه في كلامٍ ولا نحو ولا فِقه وإنما يَرْكَن إلى هذا ضَعفة أهل النحو ومَنْ لا حجةَ معه.
وتأويل هذا ما أشبهه في الإعراب كتأويل ضَعَفة أصحاب الحديث

(1/184)


وأتْباع القصَّاص في الفقه.
وفيه: لا يقال هذا أبيض من هذا.
وأجازه أهلُ الكوفة واحتجوا بقول الراجز: // من الرجز //
(جارِية في دِرْعِها الفَضْفَاض ... أبيضُ من أُخت بَنِي أُبَاضِ)
قال المبرد: البيتُ الشاذُّ ليس بحجة على الأصل المُجْمَع عليه.
فائدة - قال ابن خالويه في شرح الفصيح: قال أبو حاتم: كان الأصمعي يقولُ أفصحُ اللغات ويُلغي ما سواها وأبو زيد بجعلُ الشاذ والفصيح واحدا فيجيز كلَّ شيء قيل.
قال: ومثال ذلك أن الأصمعي يقول: حزَنني الأمر يحزُنني ولا يقول أحزنني.
قال أبو حاتم: وهما حائزان لأن القراء قرؤوا لا يَحزُنهما الفَزَعُ الأَكْبَرُ ولا يُحْزِنهم جميعا بفتح الياء وضمها.
النوع الثالث عشر

معرفة الحوشي والغرائب والشواذ والنوادر
هذه الألفاظ مُتَقاربة وكلها خلافُ الفصيح.
قال في الصحاح: حُوشيُّ الكلام وَحْشِيّه وغَرِيبه.
وقال ابن رشيق في العمدة: الوَحْشِيُّ من الكلام ما نَفر عن السمع.
ويقال له

(1/185)


أيضا حُوشِي كأنه منسوب إلى الحُوشِ وهي بقايا إبل وبار بأرض قد غَلَبَتْ عليها الجن فعمرتها ونفَتْ عنها الإنس لا يطؤها إنسي إلا خبلوه قال رؤبة: // من الرجز //
(جرَت رجالا من بِلاَد الحُوشِ)
قال: وإذا كانت اللفظةُ حسنة مُسْتَغربة لا يعلمُها إلا العالم المبرز والأعرابي القح فتلك وَحشيّة.
قال إبراهيم بن المهدي لكاتبه عبد الله بن صاعد: إياك وتتبُّع وحشيَّ الكلام طمعا في نَيْل البَلاغة فإن ذلك هو العي الأكبر وعليك بما سَهُل مع تجنُّبك ألفاظ السفل.
وقال أبو تمام يمدح الحَسنَ بن وَهْبَ بالبلاغة: // من الكامل // (لم يتبع شَنَع اللُّغات ولا مشى ... رَسْفَ المقيد في طَرِيق المنطقِ)
والغَرائب جمع غريبة وهي بمعنى الحوشي والشوارد جمع شاردة وهي أيضا بمعناها وقد قابل صاحب القاموس بها الفصيح حيث قال: مشتملا على الفُصُح والشوارد.
وأصلُ التشريد التَّفْريق فهو من أصل باب الشذوذ.
والنوادر جمع نادرة.
وقال في الصحاح: نَدَر الشيء يندر نُدُوراً سقَط وشذَّ ومنه النوادر وقد أَلَّفَ الأقدمون كتبا في النوادر كنوادر أبي زيد ونوادر ابن الأعرابي ونوادر أبي عمرو الشيباني وغيرهم وفي آخر الجمهرة أبوابٌ معقودةٌ للنوادر وفي الغريب المصنف لأبي عبيد بابٌ لنوادر الأسماء وبابٌ لنوادر الأفعال وألف الصغاني كتابا لطيفا في شوارد اللغة ومن عبارات العلماء المستعملة في ذلك النادرة وهي بمعنى الشوارد.
فائدتان:
الأولى - قال ابنُ هشام: اعلم أنهم يستعملون غالبا وكثيرا ونادرا وقليلا ومطَّرداً فالمطَّرد لا يتخلَّف والغالبُ أكثر الأشياء ولكنه يتخلَّف والكثير دونه

(1/186)


والقليل دون الكثير والنادر أقل من القليل فالعشرون بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالبُها والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب والثلاثة قليل والواحد نادر فعلم بهذا مراتبُ ما يُقالُ فيه ذلك.
الثانية - قال ابنُ فارس في فقه اللغة: باب مراتب الكلام في وُضوحه وأشكاله.
أما واضحُ الكلام فالذي يفهمه كل سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب وأما المُشْكِل فالذي يأتيه الإشكالُ من وجوه: منها غرابة لفظه كقول القائل: يَمْلَخُ في الباطل مَلْخَاً.
يَنْفضُ مِذْرَوَيْه.
وكما جاء أنه قيل (أيُدَالِكَ الرجلُ امْرَأتَهُ قال: نعم إذا كان مُلْفَجَاً.
ومنه في كتاب الله تعالى: {فلا تَعْضِلُوهُنَّ} .
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} .
{سَيِّداً وَحَصُوراً} .
{وتُبْرئُ الأَكْمَهَ}
وغيرُه مما صنَّف فيه عُلَمَاؤُنا كتبَ غريب القرآن.
ومنه في الحديث: (على التِّيعَة شاةٌ (والتِّيمَةُ لصاحبها) وفي

(1/187)


السُّيُوب الخُمْس لا خِلاَط ولا وِراط ولا شِنَاق ولا شِغَار.
ومَنْ أَجْبى فَقَد أرْبَى) وهذا كتابهُ إلى الأقْيَال العَبَاهِلة.
ومنه في شعر العرب: // من الرجز //
(وقاتم الأعْماق خاوي المخترق ... شأز بمن عَوّه جدب المنطلق)
(مَضْبُورَةٌ قَرْوَاءُ هِرْجاب فُنُقْ)

(1/188)


وفي أمثال العرب: باقِعةٌ وشرّابٌ بأنْقُعٍ ومُخْرَنَبق لِيَنْبَاعَ
ذكر أمثلة من النوادر

قال أبو عبيد في الغريب المصنف:
نوادر الأسماء البرْت: الرجلُ الدليل.
والحَرْش: الأثَر.
والعَيْقَة: ساحلُ البحر.
ويقال: شَيْن عَبَاقِيَة للذي له أثرٌ باق.
(وث ي ج) الوَثيجُ من كل شيء: الكثيف.
واللَّويَّة: ما خَبَأَتْه من غيرك.
التَّلَهْوق مثل التَّمَلُّق.
والوَبيل: الحُزْمة من الحطب.
تزوج فلان لُمَّته من النساء أي مثله.
العَرين: اللحم.
الصُّمَادح: الخالص من كل شيء.
النسع: العرق.
الشُّوَاية: الشيء الصغير من الكبير كالقطعة من الشاة.
وشواية الخبز: القرص.
تلان في معنى الآن أنشدنا الأحمر: // من الخفيف //
(نَوِّلِي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا ... وصِليهِ كما زعمت تلانا)
الغبة من الشيء: البلغة.
وهو على شصاصاء أمْرٍ أي على عجلةٍ وعلى حدِّ أمر.
النَّاصاة: النَّاصيَة في لغة طيء.

(1/189)


ومن نوادر الفعل: مَتَعْتُ بالشيء: ذهبت.
تَشَاوَل القوم: تناول بعضهم بعضا عند القتال.
خرج يَسْتَمِي الوَحْشَ: يَطْلُبُهَا.
هَلْهَلْتَ أُدْركه: أي كِدْت.
آزيت على صَنِيع بني فلان أي أضْعَفْت عليه.
آض يئيض أيضا: صار وردت على القوْم التِقَاطَاً إذا لم تَشْعُرْ بهم حتى تَرِد عليهم وردت الماء نِقاباً مثل الالتقاط.
أزْلَجتُ الباب إزلاجا: أغلقته.
جاء فلان توا إذا جاء قاصدا لا يُعَرِّجُه شيء.
فإن أقام ببعض الطريق فليس بتو.
اسْتادَ القومُ بني فلان استِياداً إذا قتلوا سيدهم أو خَطَبوا إليه.
اسْتَأْتَنْتُ أتانا: اتَّخَذت أتانا.
كَمَيْت الشهادة أكميها: كتمتُها.
ذرَّحْت الزعفران وغيره في الماء إذا جعلت فيه منه شيئا يسيرا.
يَقِنْت الأمر يقَناً من اليقين.
ما أبْرح هذا الأمر أي ما أعجبه.
ونوادرُ الأسماء والأفعال كثيرة لا يمكنُ اسْتِقْصَاؤُهَا.
قال في الجمهرة: ومن نوادر قولهم أن يقولوا: أفعلت أنا وفعلت بغيري.
فمن ذلك: أكببت على الشيء تَجَانأْتُ عليه وكببت الشيء أكبه إذا قلبته.
وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: يقال أكب لوجهه أي سقط وكبه الله وهذا حرف نادر جاء خلاف العربية لأن الواجب أن يقول: فعل الشيء وأفعله غيره.
وفي الصحاح: حكى يونس لَبُبْتَ يا رجل بالضم: أي صرت ذا لُبّ وهو نادر ولا نظير له في المضاعف.
وفي شرح الدريدية لا بن خالويه: يقال طاف الخيال يطوف.
وأخبرنا ابن مجاهد عن السمري عن الفراء قال: سمعت شيخا من النحويين - وكان ثقة - يقال له الأحمر يقال: طِفت بالكَسر وهو نادر.
وفي شرح الفصيح له: يقال ما احسن شِبْره أي طُوله وما أحسنَ عماه مثله وهما حرفان نادران.
ومن الشوارد: الأجيار جمع جيران حكاه ابنُ الأعرابي: وأجبته جِيبى على وزن فعلى حكاه اللحياني.
ومن الغرائب: قال ياقوت في بعض نسخ الصحاح: الخازباز: السِّنَّوْر عن ابن

(1/190)


الأعرابي قال: وهو من أغْرَب الأشياء والمشهور أنه اسمٌ للذباب ولِدَاء يأخذ الإبل في حُلُوقها ولِنَبْت.
وفي شرح المقامات لسلامة الأنباري: الوَطْبُ: وِعاء اللبن مشهور وكذا المِحْقَن وهو غريب.
وقال ابن خالويه في شرح الدريدية في قول الشاعر: // من البسيط //
(بِسَرْوِ حِمْيرَ أَبوالُ البِغَالِ بهِ ... أَنَّى تَسَدَّيتِ وَهْنَاً ذلكِ البِينَا)
أبوال البغال في هذا البيت: السراب قال: وهذا حرف غريب حدثناه أبو عمر الزاهد.
وفي المجمل لابن فارس: الإبرة معروفة وأَبْرَتْه العقرب: ضربته بإبْرَتها وإبْرَة الذراع مستدقها والإبَار: تلقيح النخل ونخلة مَأْبورة ومُؤَبَّرة وتأبَّر النخل قَبِل الإبار وذلك مشهور.
ومما يستغرب قليلا: المآبر وهي النَّمائم الواحد مِئْبَرَة.
وفيه: الجُود: الجوع سمعت القطان يقول: سمعت عليا يقول: هذا أغربُ حَرْفٍ فيه يريد في باب الجوع.
النوع الرابع عشر

معرفة المستعمل والمهمل

تقدم في النوع الأول عدَّة الأبنية المستعملة والمهمَلة وكان هذا محله قال ابن فارس:
المهمل على ضربين: ضربٌ لا يجوز ائتلاف حروفه في كلام العرب البتة

(1/191)


وذلك كجيم تؤلف مع كاف أو كاف تقدم على جيم وكعين مع غين أو حاء مع هاء أو غين فهذا وما أشبَهه لا يأْتَلِف.
والضَّرْبُ الآخر: ما يجوزُ تألف حروفه لكنَّ العرب لم تقل عليه وذلك كإرادة مُرِيد أن يقول (عضخ) فهذا يجوز تألفه وليس بالنافر ألا تراهم قد قالوا في الأحرف الثلاثة: خضع لكن العرب لم تقل عضخ فهذان ضربان للمهمل.
وله ضربٌ ثالث وهو أن يريد مريدٌ أن يتكلم بكلمةٍ على خمسة أحرف ليس فيها من حروف الذُّلْق أو الإطباق حرف وأي هذه الثلاثة كان فإنه لا يجوز أن يسمى كلاما.
وأهل اللغة لم يذكروا المهمَل في أقسام الكلام وإنما ذكروه في الأبنية المهمَلة التي لم تقل عليها العرب.
وقال ابن جني في الخصائص: أما إهمالُ ما أُهْمِل مما تحتمله قسمةُ التركيب في بعض الأصول المتصورة أو المستعملة فأكثرهُ متروكٌ للاستثقال وبقيتُه ملحقةٌ به ومقَفَّاة على إثْره.
فمن ذلك ما رُفِض استعماله لتَقَارُب حروفه نحو سص وصص وطت وتط وضش (وشض وهذا حديث واضح) لنُفور الحسِّ عنه والمشقَّة على النفس لتكلفه وكذلك (نحو) قج وجق وكق وقك وكج وجك وكذلك حروف أعني حروف الحَلق هي من الائتلاف أبْعَدُ لتَقَارُب مَخارجها عن مُعظَم الحروف أعني حروف الفم وإن جُمع بين اثنين منها يقدَّم الأقوى على الأضعف نحو: أهل وأحَدٍ وأخٍ وعَهد (وعَهْر) وكذلك متى تقاربَ الحرفان لم يُجْمَع بينهما إلا بتقديم الأقوى منهما نحو أُرُل وَوَتِد وَوطْد يدل على أن الراء أقْوَى من اللام أن القَطع عليها أقوى من القَطع على اللام وكأنَّ ضَعْف اللام إنما أتاها لما تُشْرَبه من الغُنَّة عند الوقوف عليها ولذلك لا تكاد تَعْتاص اللام.
وقد ترى إلى كثرة اللَّثْغَة في الكلام بالراء.
وكذلك الطاء والتاء هما أقوى من الدال (وذاك) لأن جَرْس الصوت بالتاء والطاء عند الوقوف عليهما أقْوَى منه وأظهر عند الوقوف على الدال.
وأما ما رُفِض أن يُسْتَعْمل وليس فيه إلا ما استُعمِل من أصله فالجوابُ عنه تابع

(1/192)


لما قبله وكالمحمُول على حُكمه وذلك أن الأصولَ ثلاثة: ثلاثي ورباعي خماسيِ فأكثرُها استعمالا وأَعْدَلُهَا تركيبا الثلاثي وذلك لأنه حرفٌ يُبْتدأ به وحَرْفٌ يُحْشَى به وحرف يُوقَف عليه وليس اعتدالُ الثلاثي لقلَّةِ حروفه فحسب.
ولو كان كذلك لكان الثنائي أكثرَ منه (اعتدالا) لأنه أقلُّ حروفا وليس (الأمر) كذلك.
ألا ترى أن ما جاء من ذوات الحرفين جزءٌ لا قَدْر له فيما جاء من ذوات الثلاثة وأقلُّ منه ما جاء على حرفٍ واحد فتمكُّن الثلاثي (إذن) إنما هو لقلَّة حروفه ولشيء آخر وهو حَجْز الحَشْو الذي هو عينُه بين فائه ولامه وذلك لتباينهما وتعادي حاليهما ألا ترى أن المُبْتدأ (به) لا يكون إلا متحرِّكاً وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنا فلما تنافرت حالاهما وسَّطوا العين حاجزا بينهما لئلاَّ يفجؤوا الحس بضدِّ ما كان آخذا فيه ومُنصبّاً إليه فقد وضح بذلك خفَّة الثلاثي.
وإذا كان كذلك فذوات الأربعة مستثقلةٌ غيرُ متمكنة تمكَّن الثلاثي لأنه إذا كان الثلاثي أخف وأمْكَنَ من الثنائي على قلَّة حروفه فلا محالة أنه أخفُّ وأمكن من الرباعي لكَثْرة حروفه ثم لا شك فيما بعد في ثِقَل الخماسي وقوة الكلْفة به فإذا كان كذلك ثقُل عليهم مع تناهيه وطوله أن يَسْتَعملوا في الأصل الواحد جميعَ ما تنقسم إليه به جهات تركيبه وذلك أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول.
نحو جَعْلَ جَلْع علج ولجع ولعج عِجْل.
والرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلا وذلك أنك تضرب الأربعة في التراكيب التي خرجت عن الثلاثي وهي ستة فيكون ذلك أربعة وعشرين تركيبا المستعملُ منها قليلٌ وهي: عَقْرب وبُرْقع وعَرْقَب وعَبْقَر ولو جاء منه غيرُ هذه الأحرف فعسى أن يكونَ ذلك والباقي مهملٌ كله وإذا كان الرباعي مع قُرْبه من الثلاثي إنما استُعْمل منه الأقل النَّزْر فما ظنك بالخماسي على طوله وتقاصر الفِعل الذي هو مِئَنّة من التصرف والثقل عنه فلذلك قلَّ الخماسي أصلا.
ثم لا تجد أصلا مما رُكِّب منه قد تُصُرّف فيه بتغيير نَظْمه ونَضَده كما تُصُرف في باب عَقْرب (بَعَبْقر وعرقب) وبُرْقع ألا ترى أنك لا تجد شيئا من نحو سَفَرْجل قالوا فيه: سَرَفجل ولا نحو ذلك مع أن تقليبه يبلغ مائة وعشرين أصلا.
ثم لم يُسْتعمل من ذلك إلا (سفرجل) وحده.

(1/193)


(فأما قول بعضهم: زبردج فَقَلْبٌ لَحِق الكلمة ضرورة في بعض الشعر ولا يقاس) فدلَّ ذلك على استكراههم ذوات الخمس لإفراط طولها فأوجبت الحالُ الإقلالَ منها وقَبْضَ اللسان عن النُّطْق بها إلا فيما قلَّ ونَزُر ولما كانت ذوات الأربعة تليها وتتجاوز أعدل الأصول - وهو الثلاثي - إليها مسَّها بقُرْبها منه قلةُ التصرف فيها غيرَ أنها في ذلك أحسنُ حالا من ذواتِ الخمسة لأنها أدنى إلى الثلاثة منها.
وكان التصرُّفُ فيها دون تصرف الثلاثي وفوقَ تصرف الخماسي ثم إنهم لما أمسُّوا الرباعي طرفا صالحا من إهمال أصوله (وإعدام حال التمكن في تصرفه) تخطَّوا بذلك إلى إهمال بعض الثلاثي لا من أجل جفاء تراكيبه لتقارُبه (نحو سص وصس) لكن من قِبل أنهم حَذَوه على الرُّباعي كما حَذوا الرباعي على الخماسي ألأ ترى أن (لجع) لم يُهْمل لثِقله فإن اللام أخت الراء والنون وقد قالوا: نجع (فيه) ورجع (عنه واللام أخت الحرفين وقد أُهملت في باب اللجع) فدلَّ على أن إهمالَ (لجع) ليس للاستثقال بل لإخلالهم ببعض أصول الثلاثي لئلا يخلو هذا الأصلُ من ضَرْبٍ من الإهمال مع شِياعه (واطراده) في الأصلين اللذين فوقه كما أنهم لم يُخْلوا الخماسي من بعض تصرف بالتحقير والتكسير والترخيم فعُرِف أن ما أُهْمِل من الثلاثي لغير قُبْحِ التأليف نحو: (ضث) و (ثض) و (ثذ) و (ذث) إنما هو لأن محله من الرباعي محلُّ الرباعي من الخماسي فأتاه ذلك القَدْر من الجمود من حيث ذلك كما أتى الخماسي ما فيه من التصرف (في التكسير والتحقير والترخيم) من حيث كان محله من الرباعي محلَّ الرباعي من الثلاثي وهذه عادةٌ للعرب مألوفة وسنّةٌ مسلوكة إذا أعطوا شيئا من شيء حُكْماً ما قابلوا ذلك بأن يُعْطُوا المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه أمارة بينهما وتتميما للشَّبَه الجامع لهما (ألا تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفوه كذلك شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه) .
وإذ قد ثبت أن الثلاثي في الإهمال محمولٌ على حكم الرباعي فيه لقُربه من الخماسي (بقي علينا أن نورد العلة) التي لها استعمل بعض الأصول من الثلاثي والرباعي والخماسي دون بعض.
وقد كانت الحالُ في الجميع متساوية.
فنقول: اعلم أن واضعَ اللغة لما أراد صَوْغَها وترتيبَ أحوالها هجَم بِفِكره على جميعها ورأى بعين تَصَوِّره وجوه جُمَلها وتفاصيلها فعلِم أنه لا بد من رفْض ما

(1/194)


شَنُع تأليفه منها نحو: هع وقخ وكق فنَفَاه عن نفسه ولم يَمْزجه بشيء من لفظه وعَلِم أيضا أن ما طال وأملَّ بكثرة حروفه لا يمكنُ فيه من التصَرُّف ما أمكن في أعدَل الأصول وأخفها وهو الثلاثي وذلك أن التصرف في الأصل وإن دعا إليه قياسٌ - وهو الاتساع به في الأسماء والأفعال والحروف - فإن هناك من وجْهٍ آخر ناهيا عنه ومُوحِشاً منه وهو أنَّ في نَقل الأصل إلى أصلٍ آخر - نحو صبر وبصر وضرب وربض - صورة الإعلال (نحو قولهم: ما أطيبه وأيْطَبَه واضمحل وامضحل وقِسِيّ وأَينق وهذا كله إعلالٌ لهذه الكلِم وما جرى مجراها فلما كان انتقالهم من أصل إلى أصل نحو صبر وبصر) مشابها للإعلال (من حيث ذكرنا) كان عذرا لهم في الامتناع من استيفاء جميع ما تحتمِله قسمةُ التركيب (في الأصول) فلما كان (الأمر) كذلك واقتضت الضرورةُ رفْضَ البعض واستعمال البعض جرت موادُّ الكلم عندهم مَجْرى مالٍ مُلقًى بين يَدَيْ صاحبه وقد عزم على إنفاق بعضه دون بعض فميَّزَ رديئه وزائفه فنفاه البتة كما نَفَوّْا عنهم تركيب ما قَبُح تأليفه ثم ضرب بيده إلى ما لطُف له من جيده فتناوله للحاجة إليه وترك البعض الآخر لأنه لم يُرِد استيعاب جميعَ ما بين يديه منه لما قدمنا ذِكْره وهو يرى أنه لو أخذ ما ترك مكان (أخْذ) ما أَخذ لأغْنى عن صاحبه وأدَّى في الحاجة إليه تأديته ألا ترَى أنهم لو استعملوا (لجع) مكان (نجع) لقام مقامه (وأغنى مَغْناه) .
ثم قد يكون في بعض ذلك أعراض لهم لأجلها عدَلوا إليه على ما تقدَّمت الإشارةُ إليه في مناسبةِ الألفاظ للمعاني.
وكذلك امتناعُهم في الأصل الواحد من بعض مُثُله واستعمال بعضها كرَفْضِهم في الرباعي مثل فَعْلُل وفَعلِل (وفُعْلَل) لما ذكرناه فكما توقَّفوا عن استيفاء جميع تراكيب الأصول كذلك توقفوا عن استيفاء جميع أمثلة الأصل الواحد من حيثُ كان الانتقال في الأصل الواحد من مثالٍ إلى مثال في النّقْص والاختلال كالانتقال في المادة الواحدة من تركيبٍ إلى تركيب لكنَّ الثلاثي جارٍ فيه لخِفَّته جميع ما تحتملُه القِسمةُ وهي الاثنا عشر مثالا إلا مثالا واحدا وهو فِعُل فإنه رُفِض للاستثقال لما فيه من الخروج من كَسْرٍ إلَى ضم.
انتهى كلام ابن جني.

(1/195)


النوع الخامس عشر

(معرفة المفاريد)
قال ابنُ جني في الخصائص:
المسموعُ الْفَرْد هل يقبل ويحتجُّ به له أحوال:
أحدها - أن يكون فردا بمعنى أنه لا نظير له في الألفاظ المسموعة مع إطباق العرب على النُّطق به فهذا يُقْبَل ويحتجُّ به ويُقاس عليه إجماعا كما قِيس على قولهم في شَنُوءة شَنَئِيّ مع أنه لم يُسْمع غيرُه لأنه لم يُسْمع ما يخالفه وقد أطبقوا على النُّطق به. الحال الثاني - أن يكون فردا بمعنى أن المتكلِّم به من العرب واحد ويخالف ما عليه الجمهور فينظر في حال هذا المنفرد به فإن كان فصيحا في جميع ما عدا ذلك القَدْر الذي انفرد به وكان ما أورده مما يقبلُه القياسُ إلا أنه لم يَرِد به استعمالٌ إلا من جهة ذلك الإنسان فإن الأَوْلى في ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده.
فإن: قيل: فمن أين ذلك وليس يجوز أن يَرْتجل لغة لنفسه
قيل: يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغةٍ قديمة طال عهدُها وعَفا رسمُها فقد أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحبَاب قال: قال لي ابن عَوْن عن ابن سيرين قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (كان الشعر علم قوم ولم يكن لهم علمٌ أصحَّ منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العربُ بالجهاد وغزْوِ فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفتُوحُ واطمأنت العرب في الأمصار راجعُوا رِواية الشعر فلم يَؤُولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفِظوا قُلّ ذلك وذهب عنهم كُثْره.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العربُ إلا قُلُّه ولو جاءكم وافرا لجاءكم علمٌ وشعر كثير.

(1/196)


وعن حمَّاد الرَّاوية قال: أمر النعمانُ بن المُنذر فنُسِخت له أشعارُ العرب في الطُّنُوج وهي الكراريس ثم دفَنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عُبيد الثقفي قيل له: إن تحت القَصْر كنزا فاحتَفَره فأخرج تلك الأشعار فمن ثمَّ أهل الكوفة أعلمُ بالشعر من أهل البصرة.
قال ابن جني: فإذا كان كذلك لم نقطع على الفصيح يُسْمَع منه ما يخالِفُ الجمهور بالخطأ ما دام القياسُ يَعْضُده فإن لم يَعْضُده كرَفْع المفعول والمضاف إليه وجرِّ الفاعل أو نصبه فينبغي أن يرد لأنه جاء مُخالفاً للقياس والسماع جميعا وكذا إذا كان الرجلُ الذي سُمِعت منه تلك اللغة المخالفة مضعوفا في قوله مألوفا منه اللَّحن وفساد الكلام فإنه يرد عليه ولا يُقبل منه وإن احتمُل أن يكون مصيبا في ذلك لغة قديمة فالصواب رده وعدمُ الاحتفال بهذا الاحتمال.
الحال الثالث - أن ينفرد به المتكلِّم ولا يُسْمع من غيره لا ما يوافقه ولا ما يخالفه.
قال ابن جني: والقولُ فيه أنه يجب قبولُه إذا ثبتت فصاحته لأنه إما أن يكون شيئا أخذه عمن نطق به بلغةٍ قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حدِّ ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح أو شيئا ارتجله فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمَتْ طبيعته تصرف وارتجل ما لم يُسْبق إليه فقد حكي عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا إليها.
أما لو جاء عن متهم أو من تَرْقَ به فصاحته ولا سبَقت إلى الأنفس ثِقته فإنه يرد ولا يُقبل فإن ورد عن بعضهم شيءٌ يدفعه كلام العرب ويأباه القياسُ على كلامهما فإنه لا يُقنع في قبوله أن يُسْمَع من الواحد ولا من العدَّة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم فإن كَثُر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوَجه في القياس فمجازُه وجهان:
أحدهما أن يكون مَنْ نطق به لم يحكم قياسه.
والآخر أن تكون أنت قصَّرْت عن استدراك وجه صحته.
ويحتمل أن يكون

(1/197)


سمَعه من غيره ممن ليس فصيحا وكثُرَ استماعه له فسرَى في كلامه إلا أن ذلك قلما يقع فإن الأعرابي الفصيح إذا عُدِل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافَها ولم يَعْبَأ بها فالأقوى أن يُقْبل ممن شهرت فصاحته ما يُورده ويُحْمَل أمرُه على ما عُرِف من حاله لا على ما عسى ان يحتمل كما أن على القاضي قبولَ شهادة من ظهرت عدالته.
وإن كان يجوز كذِبه في الباطن إذ لو لم يُؤْخذ بها لأدى إلى ترك الفصيح بالشك وسقوط كل اللغات.
تنبيه - الفرق بين هذا النوع وبين النوع الخامس أن ذاك فيما تفرَّد بنقله عن العرب واحدٌ من أئمة اللغة وهذا فيما تفرَّد بالنطق به واحدٌ من العرب فذاك في الناقل وهذا في القائل.
وهذه أمثلةٌْ من هذا النوع في الجمهرة: قال الأصمعي: لم تأت الخَيْطة في شِعْرٍ ولا نَثْرٍ غير بيت واحد وهو قول أبي ذؤيب في رجل يشتار عسلا: // من الطويل //
(تَدَلَّى عليها بَينَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ... شديدُ الوَصَاة نَابلٌ وابنُ نابلِ)
السِّب بلغة هذيل: الحَبْل.
وفي الغريب المصنف: الرُّحُم: الرَّحْمَة.

(1/198)


قال الأصمعي: كان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير: // من البسيط //
(ومن ضَرِيبتُه التَّقْوَى وَيَعْصِمُهُ ... من سَيِّئ العَثَراتِ اللَّهُ بالرُّحُمِ)
قال ثم قال: لم أسْمَع هذا الحرفَ إلاَّ في هذا البيت.
قال: وكان يقرأ {وأقرب رُحماً} .
وفي الجمهرة يقال: هو ابن أَجْلَى في معنى (ابنِ جَلاَ) قال العجاج: // من الرجز //
(لاَقَوْا به الحجَّاج والإصْحارا ... به ابن أَجْلَى وافَقَ الإسْفارا)
قال الأصمعي: ولم أسمع بابنِ أَجْلَى إلاَّ في هذا البيت.
وفيها: أخبرنا أبو حاتم قال: سألت أمَّ الهيثم عن الحَبِّ الذي يسمى (أسفيوش) ما اسمه بالعربية فقالت: أرني منه حبَّات فأريتُها فأَفْكَرت ساعة ثم قالت: هذه البُحْدُق ولم أسمَعْ ذلك من غيرها.
وفيها الحَوْصَلاء: الحَوْصَلة.
قال أبو النجم: // من الرجز //
(هادٍ ولو جارَ لحَوْصَلائه)
وذكر الأصمعي أنه لم يَسْمَعه إلاَّ في هذا البيت
وفي أمالي القالي: الكِتَرْ: السَّنام قال عَلْقَمة بن عبدة: // من البسيط //
(كِتْرٌ كَحَافةِ كِير القَيْنِ مَلْمُومُ)

(1/199)


قال الأصمعي: ولم أسمع بالكَتْر إلا في هذا البيت.
وفي الصحاح: التَّوْأَبَانِيَّانِ: قَادمتا الضرع قال ابن مقبل: // من الطويل //
(لها تَوْأََبَانِيَّان لم يَتَفَلْفَلاَ)
أي لم تسود حلمتاهما.
قال أبو عبيدة: سمى ابنُ مُقْبل خِلْفَي الناقة تَوْأَبَانِيَّيْن ولم يأت به عربي.
وفيه: الشَّمَل لغة في الشّمْل أنشد أبو زيد في نوادره للبعيث: // من الطويل //
(وقد يَنْعَشُ اللَّهُ الفَتَى بعد عَثْرةٍ ... وقد يَجْمعُ اللَّهُ الشَّتِيتَ من الشَّمَلْ)
قال أبو عَمْرو الجَرْمي: ما سَمِعتُه بالتحريك إلا في هذا البيت.
وفي الغريب المصنف قال الكسائي: نَمَى الشيء يَنْمِي بالياء لا غير.
قال: ولم أسمعه يَنْمو إلا من أخوين من بني سليم ثم سألتُ عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو.
وفي الكامل للمبرد: زعم الأصمعي أن الكِرَاض حَلَقُ الرَّحِم قال: ولم أسمعه إلا في هذا الشعر وهو قول الطرماح: // من الخفيف //
(سوف تدنيك من لميس سبنداة ... أمارَتْ بالبَوْلِ ماءَ الكِرَاض)
وفي شرح المعلقات للنحاس الفَرَد لغة في الفَرْد قال النابغة: // من البسيط //
(طاوي المَصير كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرَد)

(1/200)


قال: وقال بعض أهل اللغة: لم يسمع بفرَد إلا في هذا البيت.
وفي كتاب ليس لابن خالَوَيْه لم تأت الأجِنَّة لجمع الجنَّة بمعنى البُسْتان إلاَّ في بيت واحد وهو: // من الكامل //
(وترى الحمام مُعانقاً شُرُفاته ... يَهْدِلْنَ بين أَجِنَّةٍ وحَصَاد)
قالوا: ويجوز أن تكون الأجنَّة الفراخ فيكون جمع جَنين.
وقال أيضا: لم يأت فم بالتشديد إلا في قول جرير: // من الرجز //
(إن الأمامَ بعدهُ ابنُ أُمِّه ... ثم ابنه والي عَهْدِ عَمِّه)
(قَدْ رضِيَ الناسُ به فسَمه ... يا ليتَها قد خَرَجَتْ من فُمِّه)
وقال ابن خالويه في شرح الدريدية: الرشاء بالمد: اسمُ موضع وهو حرف نادر ما قرأته إلا في قول عوف بن عطية: // من المتقارب //
(يَقودُ الجِياد بأرسانها ... يضعن ببطن الرشاء المِهارا)
وقال ابن السكيت في إصْلاح المنطق: لم يجئ مالح في شيء من الشِّعر إلا في بيت لعذافر: // من الرجز //
(بِصْرِيَّةٍ تزوجت بَِصْرياً ... يُطْعِمُها المالِحَ والطَّرِيَّا)
وقال: يقال فلان ذو دَغَوَات ودَغَيات أي أخلاق رديئة ولم يُسْمع دَغَيات ولا دَغْيَة إلا في بيت لرُؤْبة فأنهم زعموا أنه قال: نحن نقول دَغْية وغيرنا يقول دَغْوَة وأنشد: // من الرجز //
(ذَا دَغَيَاتٍ قُلَّبَ الأَخْلاَقِ)
وقال القالي في المقصور والمدود: قال صاحبُ كتاب العين: قال أبو الدقيش: كلمة لم أسمعها من أحد (نهاء النهار) أي ارتفاعُه.

(1/201)


وذكر ابن دُريد أنه قد جاء الفعالاء القُصاصاء في معنى القِصاص.
وقال: زعموا أن أعرابيَّاً وقف على بعض أُمراءِ العراق فقال: القُصَاصاء أَصْلَحَك اللَّه أي خُذْ لي بالقصاص وهو نادر شاذ.
وقد قال سيبويه: إنه ليس في كلامهم فُعالاء والكلمة إذا حكاها أعرابيٌّ واحد لم يَجُزْ أن يُجْعَل أصلا لأنه يجوز أن يكون كذِباً ويجوزُ أن يكون غَلَطاً ولذلك لم يودِع في أبواب الكتاب إلا المشهور الذي لا يُشَكّ في صحَّته.
وقال أيضا: ذكر أبو زيد أنه سمع أعرابيا يقول: نَسيماء بالمد.
قال: والواحد إذا أتى بشاذٍّ نادر لم يكن قولُه حجة مع مخالفة الجميع.
النوع السادس عشر

معرفة مختلف اللغة

قال ابن فارس في فقه اللغة: اختلافُ لغات العرب من وجوه:
أحدُها - الاختلافُ في الحركات نحو نَستعين ونِستعين بفتح النون وكسرها قال الفراء: هي مفتوحةٌ في لغة قريش وأسد وغيرهم يكسرها.
والوجه الآخر - الاختلافُ في الحركة والسكون نحو مَعَكم ومَعْكم.
ووجهٌ آخر - وهو الاختلاف في إبْدال الحروف نحو: أولئك وأُولاَلِك.
ومنها قولهم: أن زيدا وعن زيدا.
ومن ذلك: الاختلافُ في الهَمز والتَّلْيين نحو مُسْتهزئون ومُسْتهزُوْن.
ومنه الاختلافُ في التقديم والتأخير نحو صاعِقة وصاقِعةٌ
ومنها: الاختلاف في الحَذْفِ والأثبات نحو اسْتَحْيَيْتُ واستَحْيتُ وصَدَدْتُ وأصْدَدْتُ
ومنها الاختلاف في الحرف الصحيح يُبْدَلُ حَرْفاً مُعْتلاً نحو أمَّا زيد وأَيْما زيد.

(1/202)


ومنها: الاختلافُ في الإمَالَةِ والتفخيم مثل قَضَى ورمى فبعضهم يفخم وبعضهم يميل.
ومنها: الاختلافُ في الحَرْفِ الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم نحو اشْتَرَوا الضلالة.
ومنها: الاختلافُ في التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول: هذه البقَر وهذه النخل ومنهم من يقول: هذا البقر وهذا النخل.
ومنها: الاختلافُ في الإدغام نحو مهتدون ومُهَدّون
ومنها الاختلافُ في الاعراب: نحو ما زيدٌ قائما وما زيدٌ قائم وإن هَذين وإنَّ هَذان.
ومنها: الاختلاف في صورة الجمع نحو: أسْرى وأُسارى.
ومنها: الاختلافُ في التحقيق والاختلاس نحو: يأمرُكم ويأمرْكم وعُفِيَ له وعُفْي له.
ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أُمَّهْ وهذه أمّتْ.
ومنها: الاختلافُ في الزيادة نحو: أَنْظُرُ وأنْظُورُ.
وكلُّ هذه اللغات مسماةٌ منسوبةٌ إلى أصحابها وهي وإن كانت لقومٍ دون قومٍ فإنها لما انتشرت تَعَاوَرَها كلٌّ.
ومن الاختلاف اختلافُ التضاد وذلك كقول حِمْيَر للقائم: ثب أي اقْعُد وفي الحديث: (إن عامر بن الطفيل قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوثَّبَه وساده) أي أفرشه إياها والوِثاب: الفراش بلغة حِمْير.
وروى أن زيد بن عبد اللَّه بن دارم وفدَ على بعض ملوك حِمْير فألفاه في مُتَصَيَّدٍ له على جبل مُشْرف فسلَّم عليه وانتسب له فقال له الملك: ثِبْ أي اجلس وظنَّ الرجلُ أنه أمرَ بالوُثوبِ من الجبل فقال: ستجدني أيها الملك مطواعاثم وثب من الجبل فهلك.
فقال الملك: ما شأنه فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة.
فقال: أما أنه ليست عندنا عَرِبيَّتْ من دخل ظَفَارِ حَمَّر.
أي فليتعلم الحميرية.

(1/203)


فوائد:

الأولى - قال ابنُ جني في الخصائص: اللغاتُ على اختلافها كلُّها حجة ألا ترى أن لغةَ الحجاز في إعمال ما ولغةَ تميم في تَرْكِه كلٌّ منهما يَقْبلهُ القياس فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحقَّ بذلك من الأخرى لكن غايةُ مَا لَك في ذلك أن تتخيَّر إحداهما فتقوِّيها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبلُ لها وأشدُّ نسبا بها فأما رد إحداهما بالأخرى. فلا
ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم (نزل القرآنُ بسبع لغاتٍ كلُّها شافٍ كافٍ) هذا إذا كانت اللغتان في القياس سواء أو متقاربتين فإن قلت إحداهما جدا وكثرت الأخرى جدا أخذتَ بأوسعها رواية وأقواهما قياسا. ألا ترى أنك لا تقول: المال لِك ولا مررت بَك قياسا على قول قُضاعة المال لِه (ومررت بَه) ولا أكرَمْتُكِش قياسا على قول من قال: مررت بكِش فالواجبُ في مثل ذلك استعمالُ ما هو أقوى وأشيع ومع ذلك لو استعمله إنسان لم يكن مُخْطِئاً لكلام العرب فإن الناطق على قياس لغةٍ من لغات العرب مصيب غير مخطئ لكنه مخطئ لأجود اللغتين فإن احتاج لذلك في شعر أو سجع فإنه غير ملوم ولا منكَر عليه.
انتهى.
وقال ابو حيان في شرح التسهيل: كلُّ ما كان لغة لقبيلة قِيسَ عليه.
وقال أيضا: إنما يسوغ التأويل إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأوَّل أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم يتكلَّم إلا بها فلا تأويل.
ومن ثم رُدَّ تأويل أبي على قولهم: ليس الطيبُ إلا المسكُ على أن فيها ضمير الشأن لأن أبا عمرو نقل أن ذلك لغة بني تميم.
وقال ابن فارس: لغةُ العرب يُحْتَجَّ بها فيما اختُلِف فيه إذا كان التنازع في اسم أو صفة أو شيء مما تستعملُه العرب من سُنَنها في حقيقةٍ أو مجاز أو ما أشبه

(1/204)


ذلك فأما الذي سبيلُه سبيلُ الاستنباط وما فيه لِدلائل العقل مَجال أو من التوحيد وأصول الفقه وفروعه فلا يحتجُّ فيه بشيءٍ من اللغة لأن موضوع ذلك على غير اللغات فأما الذي يختلف فيه الفقهاء من قوله تعالى: {أوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} وقوله: {وَالمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بأنْفُسِهِنَّ ثَلاََثةَ قُرُوء} وقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعَمِ} .
وقوله تعالى: {ثمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا} فمنه ما يصلُح الاحتجاجُ فيه بلغة العرب ومنه ما يُوكَل إلى غير ذلك.
الفائدة الثانية - في العربي الفصيح ينتقل لسانه:
قال ابن جني: العمل في ذلك أن تنظر حالَ ما انتقل إليه (لسانه) فإن كان فصيحا مثل لغته أُخِذَ بها كما يؤخذ بما انتقل منها أو فاسدا فلا ويؤخد بالأولى.
فإن قيل: فما يُؤْمنك أن يكون كما وجدتَ في لغته فسادا بعد أن لم يكن فيها (فيما علمت) أن يكون فيها فسادٌ آخر (فيما) لم تعلمه
قيل: لو أخذ بهذا لأدَّى إلى ألا تطيب نفسٌ بلغة وأن تتوقَّف عن الأخذ عن كل أحدٍ مخافةَ أن يكون في لغته زَيْغ (حادث) لا نعلمه الآن ويجوزُ أن يعلَم بعد زمان وفي هذا من الخَطَل ما لا يخفي فالصوابُ الأخذُ بما عُرف صحته ولم يظهر فساده ولا يلتفت إلى احتمال الخلَل فيه ما لم يبين.
الفائدة الثالثة - قال ابن فارس في فقه اللغة: باب انتهاءِ الخلاف في اللغات.
يقع في الكلمة الواحدة لغتان كقولهم: الصِّرَام والصَّرام والحِصاد والحَصاد.
ويقع في الكلمات ثلاثُ لغات نحو الزُّجاج والزَّجاج والزِّجاج.
ووَشْكانَ ذَا ووُشْكانَ ذا ووِشْكانَ ذا.

(1/205)


ويقعُ في الكلمة أربعُ لغات نحو الصِّداق والصَّداق والصَّدَقة والصُّدُقة.
ويكون فيها خمسُ لغات نحو: الشَّمال والشَّمْل والشَّمْأل والشَّيمْلَ والشَّمَل.
ويكون فيها ستُّ لغات نحو: قُسْطاس وقِسْطاس وقِصْطَاس وقُسْتَاط وقِسَّاط وقُسَّاط.
ولا يكون أكثر من هذا.
والكلام بعد ذلك أربعة أبواب:
الباب الأول - المجمع عليه الذي لا علةَ فيه وهو الأكثر والأعم مثل: الحمد والشكر لا اختلافَ فيه في بناء ولا حركة.
والباب الثاني - ما فيه لغتان وأكثرُ إلا أن إحدى اللُّغاتِ أفصح.
نحو بَغْذَاذ وبَغْدَاد وبَغْدان هي كلها صحيحة إلا أن بعضها في كلام العرب أصح وأفصح.
والباب الثالث - ما فيه لغتان أو ثلاثٌ أو أكثر وهي متساوية كالحَصاد والحِصاد والصَّداق والصِّداق فأيا ما قال القائل فصيح.
والباب الرابع - ما فيه لغة واحدة إلا أن المُولَّدين غيَّروا فصارتْ ألسنتهُم فيه بالخَطأ جارية نحو قولهم: أَصْرَف اللَّه عنك كذا.
وانْجَاص.
وامرأة مُطاوعة وعِرْق النِّسا بكسر النون.
وما أشبه ذا.
وعلى هذه الأبواب الثلاثة بنى أبو العباس ثعلب كتابه المُسمَّى (فصيح الكلام) أخبرنا به أبو الحسن القطان عنه - انتهى كلامُ ابن فارس.
الرابعة - قال ابنُ هشام في شرح الشواهد: كانت العربُ ينشد بعضهم شعرَ بعض وكلٌّ يتكلم على مقتضى سجيته التي فُطِر عليها ومن هاهنا كثرت الرواياتُ في بعض الأبيات.
انتهى.

(1/206)


النوع السابع عشر

معرفة تداخل اللغات

قال ابن جني في الخصائص: إذا اجتمع في الكلام الفصيح لغتان فصاعدا كقوله: // من البسيط //
(وأَشْرَبُ الماء ما بي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأن عُيونُهْ سال واديها)
فقال: نحوه بالإشباع وعيونه بالإسكان فينبغي أن يُتَأَمَّل حال كلامه فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال وكثرتهما واحدةٌ فأخْلَق الأمر به أن تكونَ قبيلتُه تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللَّفظين لأن العرب قد تفعلُ ذلك للحاجة إليه في أوزان أشعارها وسَعة تصرف أقوالها.
ويجوز أن تكون لغتُه في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلةٍ أخرى وطال بها عهدُه وكثر استعماله لها فلحقت - لطول المدة واتساع الاستعمال - بلغته الأولى وإن كانت إحدى اللفظتين أكثرَ في كلامه من الأخرى فأخْلَق الأمر به أن تكون القليلةُ الاستعمال هي الطارئة عليه والكثيرةُ هي الأولى الأصلية.
ويجوز أن تكونا مخالفتين له ولقبيلته وإِنما قلَّت إحداهما في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه.
وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظٌ مختلفة فسُمِعت في لغة إنسان فعلى ما ذكرناه كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك.
وكما تنْحَرف الصيغةُ واللفظ واحد كقولهم: رَغْوة اللبن ورُغْوته ورِغاوته كذلك مثلثا.
وكقولهم: جئت من عَلِ ومن عَلُ ومن عَلاَ ومن عُلْو ومن عِلْو ومن عَلْوُ ومن عالٍ ومن مُعالٍ فكلُ ذلك لغات لجماعات وقد تجتمع لإنسان واحد.
قال الأصمعي: اختلف رجلان في الصقر فقال أحدُهما: بالصاد وقال الأخر: بالسين فتراضَيا بأوَّل واردٍ عليهما فحكيا له ما هما فيه فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزّقْر وعلى هذا يتخرَّج جميعُ ما ورد من التَّدَاخل.

(1/207)


نحو قَلاَ يَقْلَى وسَلَى يَسْلَى وطهُر فهو طاهر وشَعُر فهو شاعر فكلُّ ذلك إنما هو لغاتٌ تداخلتْ فتركبت بأن أُخِذ الماضي من لغةٍ والمضارعُ أو الوصفُ من أُخرى لا تَنْطقُ بالماضي كذلك فحصل التداخل والجمع بين اللغتين فإن من يقول قَلَى يقول في المضارع يَقْلِي والذي يقول يَقْلَى يقول في الماضي قَلَِي وكذا من يقول سَلا يقول في المضارع يَسْلو من يقول فيه يَسْلَى يقول في الماضي سَلِي فتلاقَى أصحابُ اللغتين فسَمِع هذا لغةَ هذا وهذا لغة هذا فأخذَ كلُّ واحد من صاحبه ماضيَه إلى لغته فتركَّبَت هناك لغةٌ ثالثة وكذا شاعر وطاهر إنما هو من شَعَر وطهَر بالفتح وإما بالضم فوصفُه على فعيل فالجمعُ بينهما من التداخل.
انتهى كلامُ ابن جني.
وقال ابنُ دريد في الجمهرة: البُكا يمد ويُقْصر فمن مده أخرجه مخرج الضُّغاء والرُّغاء ومن قَصره أخرجه مخرج الآفة وما أشبهها مثل الضَّنى ونحوه.
وقال قومٌ من أهل اللغة: بل هما ما لغتان صحيحتان وأنشدوا بيت حسان: // من الوافر //
(بكَتْ عيني وحق لها بُكاها ... وما يُغْني البكاءُ ولا العَويلُ)
وكان بعضُ مَن يُوثق به يَدفع هذا ويقول: لا يجمع عربيٌّ لفظين أحدهما ليس من لغته في بيت واحد.
وقد جاء هذا في الشعر الفصيح كثيرا.
انتهى.
وقال ثعلب في أماليه: يقال: فَضَل يفْضُل وفَضِل يَفْضَل وربما قالوا فَضِل يَفْضُل.
قال الفراء وغيرُه من أهل العربية: فَعِل يفعُل لا يجيء في الكلام إلا في

(1/208)


هذين الحرفين: مِتّ تَمُوت في المعتل ودِمتَ تَدُوم وفي السالم فَضِل يَفْضُل أخذوا (مِتّ) من لغةِ مَنْ قال يفضَل وأخذوا يموت مِن لغةِ مَنْ قال يفضُل ولا يُنكر أن يؤخذ بعض اللغات من بعض.
وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: يقال: حَسِبَ يَحْسَب نظير علم يعلم لأنه من بابه وهو ضده فخرج على مِثاله وأما يحسِب بالكسر في المستقبل فلغةٌ مثل وَرِم يَرِم وَوَلِي يَلي.
وقال بعضهم: يقال حَسَب يَحْسِب على مثال ضرب يضرب مخالفة للغة الأخرى فمن كسر الماضي والمستقبل فإنما أخذ الماضي من تلك اللغة والمستقبل من هذه فانكسر الماضي والمستقبل لذلك.
وقال في موضع آخر شملهم الأمر يشملهم لغات فمن العرب قوم يقولون: شَمَل بفتح الميم من الماضي وضمها في المستقبل ومنهم من يقول شَمِل بالكسر يَشْمَل بالفتح ومنهم من يأخذ الماضي من هذا الباب والمستقبل من الأول فيقول: شَمِل بالكسر يشمُل بالضم وليس ذلك بقياس واللغتان الأوليان أجود.
النوع الثامن عشر

معرفة توافق اللغات

قال الجمهور: ليس في كتاب اللَّه - سبحانه - شيءٌ بغير لغةِ العرب لقوله تعالى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيّاً} .
وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبين} وادَّعى ناسٌ أن في القرآن ما ليس بلغةِ العرب حتى ذكروا لغةَ الروم والقِبط والنَّبط.
قال أبو عبيدة: ومَن زعم ذلك فقد أكْبَرَ القول.
قال: وقد يُوافق اللفظُ اللفظَ ويقاربه ومعناهما واحدٌ وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها.
قال: فمن ذلك الإسْتَبْرَق وهو الغليظُ من الدِّيباج وهو استبره بالفارسية أو غيرها.
قال: وأهلُ مكة يسمُّون المِسْح الذي يَجعَل فيه أصحاب الطعام البر البِلاَس وهو بالفارسية

(1/209)


بلاس فأمالوها وأعربوها فقاربت الفارسيةَ العربية في اللفْظ.
ثم ذكر أبو عبيدة البالِغاء وهي الأكارع وذكر القَمَنْجَر الذي يُصلح القسي وذكر الدَّسْت والدَّشْت والخِيم والسَّخت.
ثم قال: وذلك كلُّه من لغات العرب وإن وافَقه في لفظه ومعناه شيء من غير لغاتهم.
قال ابن فارس في فقه اللغة: وهذا كما قاله أبو عبيدة.
وقال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه: ما وقع في القرآن من نحو المشكاة والقسطاس والإستبرق والسجيل ولا نُسَلِّم أنها غيرُ عربية بل غايتُه أن وَضْع العرب فيها وافق لغة أخرى كالصابون والتنور فإن اللغات فيها متفقة.
قلت: والفرق بين هذا النوع وبين المعَرَّب أن المعرَّب له اسم في لغة العرب غير اللفظ الأعجمي الذي استعملوه بخلاف هذا.
وفي الصحاح الدشت: الصحراء قال الشاعر: // من الرجز //
(سُودِ نِعَاجٍ كَنِعَاجِ الدَّشْتِ)
وهو فارسيٌ أو اتفاقٌ وقعَ بين اللغتين.
وقال ابنُ جني في الخصائص يقال: إن التنُّور لفظةٌ اشترَك فيها جميع

(1/210)


اللغات من العرب وغيرهم وإن كان كذلك فهو ظريف وعلى كل حال فهو فَعوّل أو فعنول لأنه جنسٌ ولو كان أعجميا لا غير جاز تمثيلُه لِكَوْنه جنسا ولاَحقاً بالمعرب فكيف وهو أيضا عربي لكونه في لغة العرب غير منقول إليها وإنما هو وِفاق وقع ولو كان منقولا إلى اللغة العربية من غيرها لوَجب أن يكون أيضا وِفاقاً بين جميع اللغات غيرها ومعلومٌ سعة اللغات غير العربية فإن جاز أن يكون مشتركا في جميع ما عدا العربية جاز أيضا أن يكون وِفاقاً فيها.
قال: ويَبْعُدُ في نفسي أن يكون الأصلُ للغة واحدة ثم نُقِل إلى جميع اللغات لأنَّا لا نعرفُ له في ذلك نظيرا وقد يجوزُ أيضا أن يكون وِفاقاً وقع بين لغتين أو ثلاث أو نحو ذلك ثم انْتَشر بالنَّقل في جميعها.
قال: وما أقرب هذا في نفسي لأنا لا نعرفُ شيئا من الكلام وقَع الاتفاقُ عليه في كل لغةٍ وعند كل أمة هذا كلُّه إذا كان في جميع اللغات هكذا وإن لم يكن كذلك كان الخَطْبُ فيه أيسر.
انتهى.
وقال الثعالبي في فقه اللغة: فصل في أسماء قائمة في لغتي العرب والفُرس على لفظٍ واحد: التنور الخمير الزمان الدِّين الكنز الدينار الدرهم.
النوع التاسع عشر

معرفة المعرَّب

هو ما استعملته العرب من الألفاظِ الموضوعةِ لمعانٍ في غير لغتها.
قال الجوهري في الصحاح: تعريبُ الاسم الأعجمي أن تتفوَّه به العرب على مِنْهاجها تقول: عرَّبَتْه العرب وأَعَرَبته أيضا.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: أما لغاتُ العَجَم في القرآن فإنَّ الناسَ اختلفوا فيها فرُوي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء وغيرهم من أهل العلم أنهم قالوا في أحْرُفٍ كثيرة إنها بلغات العَجَم منها قوله: طَه واليم

(1/211)


والطور والرَّبانيُّون فيقال: إنها بالسُّرْيانية.
والصِّراط والقِسْطاس والفِرْدَوْس يقال: إنها بالرُّومية.
ومِشْكاة وكِفْلَيْنِ يقال: إنها بالحبشية.
وهَيْتَ لك يقال: إنها بالحورانية قال: فهذا قولُ أهل العلم من الفقهاء.
قال: وزعم أهلُ العربية أن القرآنَ ليس فيه من كلام العجم شيءٌ لقوله تعالى {قُرْآنا ًعَرَبيّاً} وقوله {بِلسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِين} .
قال أبو عبيدة والصواب عندي مذهبٌ فيه تصديقُ القَوْلين جميعا وذلك أنَّ هذه الحروف أصولُها عجمية كما قال الفقهاء إلا أنها سقطت إلى العرب فأعْرَبتها بألْسِنتها وحوَّلتْها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فهو صادق.
انتهى.
وذكر الجواليقي في المعرَّب مثله وقال فهي عجمية باعتبار الأصل عربيةٌ باعتبار الحال ويطلق على المعرَّب دخيل وكثيرا ما يقعُ ذلك في كتاب العَيْن والجمهرة وغيرهما.
فصل - قد ألَّف في هذا النوع الإمامُ أبو منصور الجواليقي كتابَه (المعرب) في مجلد وهو حسنٌ ومفيد ورأيت عليه تعقبا لبعضهم في عِدَّة كراريس.
وقال أبو حيَّان في الارتشاف: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسمٌ غيَّرَتْه العربُ وألحَقْته بكلامها فحُكْمُ أبْنيَته في اعتبار الأصلي والزائد والوَزْن حُكْمُ أبنية الأسماء العربيةِ الوَضْع نحو درهم وبَهْرَج.
وقسمٌ غَيَّرته ولم تُلْحِقْه بأبنيةِ كلامِها فلا يُعْتَبَر فيه ما يُعْتَبَر في القسم الذي قبلَه نحو آجر وسِفْسِير.
وقسمٌ تركوه غيرَ مغيَّر فما لم يُلحِقوه بأبنية كلامهم لم يُعَدّ منها وما ألحقوه بها عُدّ منها

(1/212)


مثال الأول: خُرَاسان لا يثبت به فُعالان.
ومثال الثاني: خزم ألحق بسُلّم وكُركُم ألحق بقُمقُم.
فصل - قال أئمة العربية: تُعْرف عُجْمَة الاسم بوجوه:
أحدها - النَّقْل بأن ينقُل ذلك أحد أئمة العربية.
الثاني - خروجُه عن أوزان الأسماء العربية نحو إبْرَيْسَم فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي.
الثالث: أن يكون أوَّله نون ثم راء نحو نرْجس فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية.
الرابع - أن يكونَ آخرُه زاي بعد دال نحو مهندز فإن ذلك لا يكونُ في كلمة عربية.
الخامس - أن يجتمع فيها الصاد والجيم نحو الصَّوْلجان والجص.
السادس - أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو المنجنيق.
السابع - أن يكون خُماسياً ورُباعياً عاريا عن حروف الذلاقة وهي الباء والراء والفاء واللام والميم والنون فإنه متى كان عربيا فلا بدَّ أن يكونَ فيه شيء منها نحو سَفَرْجَل وقُذَعْمِل وقِرْطَعْب وجَحْمَرش فهذا ما جمعه أبو حيان في شرح التسهيل.
وقال الفارابي في ديوان الأدب: القافُ والجيم لا يجتمعان في كلمةٍ واحدة في كلام العرب والجيم والتاء لا تجتمعُ في كلمة من غير حرف ذَوْلَقِيّ ولهذا ليس

(1/213)