65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الخميس، 18 مايو 2023

ج5وج6. تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني - علاء الدين علي بن محمد

 

ج5. تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل- علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن

صفحة رقم 198
يعني بدعواكم ما تدعون من علم يعني من حجة وكتاب يوجب اليقين من العلم ) فتخرجوه لنا ( يعني فتظهروا ذلك العلم لنا وتبينوه كما بينّا لكم خطأ قولكم وفعلكم وتناقض ذلك واستحالته في العقول ) إن تتبعون إلا الظن ( يعني فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله عليكم وتحسبون أنكم على حق وإنما هو باطل ) وإن أنتم إلا تخرصون ( يعني وما أنتم في ذلك كله إلا تكذبون وتقولون على الله الباطل.
)
الأنعام : ( 149 - 151 ) قل فلله الحجة...
" قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون " ( قوله تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة ( يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين حين عجزوا عن إظهار علم الله أو حجة لهم فللّه الحجة البالغة يعني التامة على خلقه بإنزال الكتاب وإرسال الرسل.
قال الربيع بن أنس : لا حجة لأحد عصى الله أو أشرك به على الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده ) فلو شاء لهداكم أجمعين ( يعني فلو شاء الله لوفقكم أجمعين للهداية ولكنه لم يشأ ذلك وفيه دليل على أنه تعالى لم يشأ إيمان الكافر ولو شاء لهداه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) قل هلم شهداءكم الذين يشهدون ( يعني هاتوا وادعوا شهداءكم.
وهلم كلمة دعوة إلى الشيء يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى وفيها لغة أخرى يقال للواحد هلم وللاثنين هلما وللجمع هلموا للأنثى هلمي واللغة الأولى أفصح ) إن الله حرم هذا ( وهذا تنبيه من الله باستدعاء الشهود من الكافرين على تحريم ما حرموه على أنفسهم وقالوا إن الله أمرنا به ليظهر أن لا شاهد لهم على ذلك وإنما اختلقوه من عند أنفسهم ) فإن شهدوا فلا تشهد معهم ( وهذا تنبيه أيضاً على كونهم كاذبين في شهادتهم فلا تشهد أنت يا محمد معهم لأنهم في شهادتهم كاذبون ) ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ( يعني إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت يا محمد أهواءهم ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتابي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) والذين لا يؤمنون بالآخرة ( أي ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة ) وهم بربهم يعدلون ( يعني يشركون.
قوله عز وجل : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( لما بين الله تعالى فساد مقالة الكفار فيما زعموا أن الله أمرهم بتحريم ما حرموه على أنفسهم فكأنهم سألوا وقالوا : أي شيء حرم الله فأمر الله عز وجل نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم تعالوا تعال من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمَّ.
وقيل أصله أن تدعو الإنسان إلى مكان مرتفع وهو من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاه إلى ما فيه رفعة وشرف ثم كثر في الاستعمال , والمعنى : تعالوا وهلموا أيها القوم أتل عليكم يعني أقرأ ما حرم ربكم عليكم يعني الذي حرم ربكم عليكم حقاً يقيناً لا شك فيه ولا ظناً ولا كذباً كما تزعمون أنتم بل هو وحي أوحاه الله إليّ ) ألا تشركوا به شيئاً (.
فإن قلت : ترك الإشراك واجب فما معنى قوله أن لا تشركوا به شيئاً لأنه كالتفصيل لما أجمله فيقوله حرم ربكم عليكم وذلك لا يجوز.
قلت الجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن يكون موضع أن رفع معناه هو أن لا تشركوا له.
الوجه الثاني : أن يكون محل النصب , واختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه حرم عليكم أن تشركوا وتكون لا صلة.
وقيل : إن حرف لا على أصلها ويكون المعنى : أتل عليكم تحريم الشرك أي لا تشركوا

صفحة رقم 199
ويكون المعنى أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله وبالوالدين إحساناً محمول على : أوصيكم بالوالدين إحساناً.
الوجه الثالث : أن يكون الكلام قد تم عند قوله حرم ربكم , ثم قال : عليكم أن لا تشركوا على الإغرار أو بمعنى فرض عليكم أن لا تشركوا به شيئاً ومعنى هذا الإشراك الذي حرمه الله ونهى عنه هو أن يجعل الله شريكه من خلقه أو يطيع مخلوقاً في معصية الخالق أو يريد بعبادته رياء وسمعة ومنه قوله : ( ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ( " وقوله عز وجل : ( وبالوالدين إحساناً ( أي : وفرض عليكم ووصاكم بالوالدين إحساناً وإنما ثنى بالوصية بالإحسان إلى الوالدين لأن اعظم النعم على الإنسان نعمة الله لأنه هو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود وخلقه وأوجده بعد أن لم يكن شيئاً ثم بعد نعمة الله الوالدين لأنهما السبب في وجود الإنسان ولما لهما عليه من حق التربية والشفقة والحفظ من المهالك في حال صغره ) ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ( يعني من خوف الفقر , والإملاق : الإقتار.
والمراد بالقتل , وأد البنات وهن أحياء فكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك وحرمه عليهم ) نحن نرزقكم وإياهم ( يعني لا تئدوا بناتكم خوف العيلة والفقر فإني رازقكم وإياهم لأن الله تعالى إذا تكفل برزق الوالد والولد وجب على الوالد القيام بحق الولد وتربيته والاتكال في أمر الرزق على الله عز وجل : ( ولا تقربوا الفواحش ( يعني الزنا ) ما ظهر منها وما بطن ( يعني علانيته وسره وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السر فحرم الله تعالى الزنا في السر والعلانية وقيل إن الأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع الفواحش المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره لأن المعنى الموجب لهذا النهي هو كونه فاحشة فحمل اللفظ على العموم أولى من تخصيصه بنوع من الفواحش , وأيضاً فإن السبب إذا كان خاصاً لا يمنع من حمل اللفظ على العموم وفي قوله ما ظهر منها وما بطن دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعاصي في الظاهر ولم يحترز منها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته فيما أمرها به أو نهى عنه ولكن لأجل الخوف من رؤية الناس ومذمتهم ومن كان كذلك استحق العقاب ومن ترك المعصية ظاهراً وباطناً لأجل خوف الله وتعظيماً لأمره استوجب رضوان الله وثوابه ) ولا تقتلوا النفس الي حرم الله إلا بالحق ( حرم الله تعالى قتل النفس إلا بالحق وقتها من جملة الفواحش المتقدم ذكرها في قوله تعالى : ( ولا تقربوا الفواحش ( وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيماً لأمر القتل وإنه من أعظم الفواحش والكبائر , وقيل : إنما أفرده بالذكر لأنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يمكن ذلك الاستثناء من جملة الفواحش إلا بالإفراد فلذلك فقال : ( لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق ( وهي التي أبيح قتلها من ردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم.

( ق ) عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) )
الأنعام : ( 152 ) ولا تقربوا مال...
" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " ( ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ( يعني ولا تقربوا مال اليتيم إلا بما فيه صلاحه وتثميره وتحصيل الربح له.
قال مجاهد : هو التجارة فيه

صفحة رقم 200
وقال الضحاك : هو أن يسعى له فيه.
ولا يأخذ من ربحه شيئاً هذا إذا كان القيم بالمال غنياً غير محتاج فلو كان الوصي فقيراً فله أن يأكل بالمعروف ) حتى يبلغ أشده ( يعني احفظوا مال اليتيم إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله.
فأما الأشد فهو استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشاب إلى حد الرجال.
قال الشعبي ومالك : لأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات.
وقال أبو العالية : حتى يعقل وتجتمع قوته.
وقال الكلبي : الأشد هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة وقيل إلى أربعين إلى ستين سنة وقال الضحاك : الأشد عشرون سنة , وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة وقال مجاهد : الأشد ثلاث وثلاثون سنة وهذه الأقوال التي نقلت عن المفسرين في هذه الآية إنما هي نهاية الأشد لا ابتداؤه.
والمراد بالأشد في هذه الآية.
هو ابتداء بلوغ الحلم مع إيناس الرشد وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية.
وقوله تعالى : ( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ( يعني بالعدل من غير زيادة ولا نقصان ) لا نكلف نفساً إلا وسعها ( يعني طاقتها وما يسعها في إيفاء الكيل والميزان وإتمامه.
لم يكلف المعطي أن يعطي أكثر مما وجب عليه ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عنه , بل أمر كل واحد بما يسعه مما لا حرج عليه فيه ) وإذا قلتم فاعدلوا ( يعني في الحكم والشهادة ) ولو كان ذا قربى ( يعني المحكوم عليه وكذا المشهود عليه , وقيل : إن الأمر بالعدل في القول هو أعم من الحكم والشهادة , بل يدخل فيه كل قول حتى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زيادة فيه ولا نقصان وأداء الأمانة وغير ذلك من جميع الأقوال التي يعتمد فيها العدل والصدق ) وبعهد الله أوفوا ( يعني ما عهد إلى عباده ووصاهم به وأوجبه عليهم أو ما أوجبه الإنسان على نفسه كنذر ونحوه فيجب الوفاء به ) ذلكم ( يعني الذي ذكر فيه هذه الآية ) وصاكم به ( يعني بالعمل به ) لعلكم تذكرون ( يعني لعلكم تتعظون وتتذكرون فتأخذون ما أمرتكم به.
)
الأنعام : ( 153 - 154 ) وأن هذا صراطي...
" وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون " ( قوله عز وجل ) وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ( يعني وأن هذا الذي وصيتكم به وأمرتكم به في هاتين الآيتين هو صراطي وديني الذي ارتضيته لعبادي مستقيماً يعني قويماً لا اعوجاج فيه فاتبعوه ويعني فاعملوا به.
وقيل : إن الله تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به مفصلاً أجمله في هذه الآية إجمالاً يقتضي دخول جميع ما تقدم ذكره فيه ويدخل فيه أيضاً جميع أحكام الشريعة وكل ما بينه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من دين الإسلام هو المنهج القويم والصراط المستقيم والدين الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين وأمرهم باتباع جملته وتفصيله ) ولا تتبعوا السبل ( يعني الطرق

صفحة رقم 201
المختلفة والأهواء المضلة والبدع الرديئة وقيل السبل المختلفة مثل : اليهود والنصرانية وسائر الملل والأديان المخالفة لدين الإسلام ) فتفرق بكم عن سبيله ( يعني فتميل بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه وطريقه الذي ارتضاه لعباده , روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطاً ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل الآية ) ذلكم وصاكم به ( يعني باتباع دينه وصراطه الذي لا اعوجاج فيه ) لعلكم تتقون ( يعني الطرق المختلفة والسبل المضلة.
قال ابن عباس : هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن من محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار.
وعن ابن مسعود قال : من سرَّه أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فليقرأ هؤلاء الآيات ) قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( " الآيات - إلى قوله - ) لعلكم تتقون ( " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
قوله تعالى : ( ثم آتينا موسى الكتاب ( يعني التوراة.
فإن قلت إتيان موسى الكتاب كان قبل نزول القرآن وحرف ثم للتعقيب فما معنى ذلك ؟ قلت دخلت ثم لتأخير الخير لا لتأخير النزول والمعنى ) قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( " وهو كذا وكذا إلى قوله تعالى لعلكم تتقون ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب وقيل إن المحرمات المذكورة في قوله تعالى : ( قل تعالوا اتلُ ما حرم ربكم عليكم ( " محرمات على جميع الأمم وجميع الشرائع فتقدير الكلام : ذلك وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب يعني بعد إيجاب هذه المحرمات وقيل معناه ) قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ( " ثم قال بعد ذلك يا محمد إنا آتينا موسى الكتاب فحذف لفظة قل لدلالة الكلام عليها.
وقوله تعالى : ( تماماً على الذي أحسن ( اختلف أهل التفسير فيه فقيل معناه تماماً على المحسنين من قومه فيكون الذي بمعنى أي تماماً على من أحسن من قومه لأنه كان منهم محسن ومسيء وعلى قراءة ابن مسعود تماماً على الذين أحسنوا , وقيل : معناه تماماً على كل من أحسن أي أتممنا فضيلة موسى على المحسنين وهم الأنبياء والمؤمنون أي أتممنا فضله عليهم بالكتاب , وقيل : الذي أحسن هو موسى فيكون الذي بمعنى ما أي على ما أحسن وتقديره وآتينا موسى الكتاب إتماماً للنعمة عليه لإحسانه في الطاعة والعبادة وتبليغ الرسالة وأداء الأمر.
وقيل الإحسان بمعنى العلم وتقديره آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة زيادة له على ذلك وقيل معناه تماماً مني على إحساني إلى موسى ) وتفصيلاً لكل شيء ( يعني : وفيه بيان لكل شيء يحتاج إليه من شرائع الدين وأحكامه ) وهدى ( يعني : وفيه هدى من الضلالة ) ورحمة ( يعني : إنزاله عليهم رحمة مني عليهم ) لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ( قل ابن عباس : لكي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
)
الأنعام : ( 155 - 157 ) وهذا كتاب أنزلناه...
" وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون " ( قوله عز وجل : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ( يعني : القرآن لأنه كثير الخير والنفع والبركة ولا يتطرق إليه نسخ ) فاتبعوه (

صفحة رقم 202
يعني : فاعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام ) واتقوا ( يعني مخالفته ) لعلكم ترحمون ( يعني : ليكن الغرض بالتقوى رحمة الله وقيل معناه لكي ترحموا على جزاء التقوى ) أن تقولوا ( يعني لئلا تقولوا وقيل معناه كراهية أن تقولوا يعني أنزلنا إليكم الكتاب كراهية أن تقولوا ) إنما أنزل الكتاب ( وقيل : يجوز أن تكون أن متعلقة بما قبلها فيكون المعنى واتقوا أن تقولوا وهذا خطاب لأهل مكة والمعنى واتقوا يا أهل مكة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب والكتاب اسم جنس لأن المراد به التوراة والإنجيل ) على طائفتين من قبلنا ( يعني اليهود والنصارى ) وإن كنا ( أي : وقد كنا وقيل وإنه كنا ) عن دراستهم ( يعني قراءتهم ) لغافلين ( يعني : لا علم لنا بما فيها لأنها ليست بلغتنا.
والمراد بهذه الآية إثبات الحجة على أهل مكة وقطع عذرهم بإنزال القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بلغتهم والمعنى : وأنزلنا القرآن بلغتهم لئلا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيهما فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ( وذلك أن جماعة من الكفار قالوا لو أنزل علينا ما أنزله على اليهود والنصارى لكنّا خيراً منهم وأهدى وإنما قالوا ذلك لاعتمادهم على صحة عقولهم وجودة فطنهم وذهنهم قال الله عز وجل : ( فقد جاءكم بينة من ربكم ( وهو رحمة ونعمة أنعم الله بها عليكم ) فمن أظلم ( أي لا أحد أظلم أو أكفر ) ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ( يعني وأعرض عنها ) سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب ( يعني أسوأ العذاب وأشده ) بما كانوا يصدفون ( أي ذلك العذاب جزاؤهم بسبب إعراضهم وتكذيبهم بآيات الله.
)
الأنعام : ( 158 ) هل ينظرون إلا...
" هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون " ( قوله تعالى : ( هل ينظرون ( يعني : هل ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله وهو استفهام معناه النفي وتقديره الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءتهم إحدى هذه الأمور الثلاث فإذا جاءتهم إحداها آمنوا وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم ) إلا أن تأتيهم الملائكة ( يعني : لقبض أرواحهم وقيل أن تأتيهم بالعذاب ) أو يأتي ربك ( يعني : للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيمة وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله ) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ( " بما فيه كفاية وإن المجيء والذهاب على الله لمحال فيجب إمرارها بلا تكييف ) أو يأتي بعض آيات ربك ( قال جمهور المفسرين : هو طلوع الشمس من مغربها , ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ) أخرجه مسلم.
عن أبي سعيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ( أو يأتي بعض آيات ربك ) قال : ( طلوع الشمس من مغربها ) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب ( م ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) عن صفوان بن عسال المراد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( باب من قبل المغرب مسيرة عرضه أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه ) أخرجه الترمذي وقال حديث

صفحة رقم 203
حسن صحيح.
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها ) وفي رواية ( فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) ( م ) عن حذيفة بن أسد الغفاري قال اطلع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قلنا الساعة فقال ( إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر : الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم ) ( م ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( بادروا بالأعمال قبل ست : طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخويصة أحدكم وأمر العامة ) ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : حفظت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً ) وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود في تفسير هذه الآية قال : ( تصبحون والشمس والقمر من ها هنا من قبل المغرب كالبعيرين القرينين ) زاد في رواية عنه ( فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) وبسنده عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً ( أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إنها تذهب إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي من حيث جئتِ فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي فارجعي من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها لا تنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي فتخر ساجدة في مسقترها تحت العرش فيقال لها اطلعي من مغربك فتصبح طالعة من مغربها ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتدرون أي يوم ذلك أقالوا : الله ورسوله أعلم.
قال ذلك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) وبسنده عن أبي ذر قال : كنت رديف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم حمار ( فنظر إلى الشمس حين غربت فقال ( إنها تغرب في عين حمئة تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش حتى يأذن لها فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول لها اطلعي من حيث غربت فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) وروي بسنده عن ابن عباس قال : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية من العشيات فقال لهم ( عباد الله توبوا إلى الله قبل أن يأتيكم بعذاب لإنكم توشكون أن تروا الشمس من قبل المغرب فإذا فعلت حبست التوبة وطوي إلى العمل ) فقال الناس : هل لذلك من آية يا رسول الله ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن آية تلك الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون له ثم يقضون صلاتهم والليل لم ينقص ثم يأتون مضاجعهم فينامون حتى إذا استيقظوا والليل مكانه فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون ذلك بين يدي أمر عظيم فإذا أصبحوا فطال عليهم رأت أعينهم طلوع الشمس فبينما هم ينظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) قال ابن عباس : لا ينفع مشركاً إيمانه عند الآيات وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيراً قبل ذلك.

صفحة رقم 204
وقال ابن الجوزي قيل إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها أن الملحدة المنجمين زعموا أن ذلك لا يكون فيريهم الله قدرته فيطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق فيتحقق عجزهم وقيل بل ذلك بعض الآيات الثلاثة : الدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها.
يروى عن ابن مسعود أنه قال : التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها ما لم تخرج إحدى ثلاث : الدابة وطلوع الشمس من مغربها أو يأجوج ومأجوج.
ويروى عن عائشة قالت : إذا خرج أول الآيات طرحت التوبة وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال.
ويروى عن أبي هريرة في قوله تعالى أو يأتي بعض الآيات ربك قال هي مجموع الآيات الثلاث : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض ورواه مرفوعاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً طلوع الشمس من مغربها والدخال ودابة الأرض ) وأصح الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة وثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه طلوع الشمس من مغربها وقوله تعالى : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ( يعني لا ينفع من كان مشركاً إيمانه ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة ) أو كسبت في إيمانها خيراً ( يعني أو عملت قبل ظهور هذه الآية خيراً من عمل صالح وتصديق.
قال الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبِل ظهور هذه الآية خيراً من عمل صالح وتصديق.
قال الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبِل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية كما قبل منه قبل ذلك فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه لأنها حالة اضطرار كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا فإنها لا ينفعهم إيمانهم ذلك لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة وقوله ) قل انتظروا ( يعني ما وعدتم به من مجيء الآية ففيه وعيد وتهديد ) إنا منتظرون ( يعني ما وعدكم ربكم من العذاب يوم القيامة أو قبله في الدنيا.
قال بعض المفسرين : وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين والمكذبين لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ذلك الوقت والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبداً.
وقيل إن قوله ) قل انتظروا إنا منتظرون ( المراد به الكف عن قتال الكفار

صفحة رقم 205
فتكون الآية منسوخة بآية القتال وعلى القول الأول تكون الآية محكمة.
)
الأنعام : ( 159 ) إن الذين فرقوا...
" إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون " ( قوله عز وجل : ( إن الذين فرقوا ( وقرئ فارقوا ) دينهم وكانوا شيعاً ( عين أحزاباً متفرقة في الصلاة ومعنى فرقوا دينهم أنهم لم يجتمعوا عليه وكانوا مختلفين فيه فمن قرأ وفرقوا دينهم يعني جعلوا دينهم وهو دين إبراهيم الحنيفية السهلة أدياناً مختلفة كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام ونحو ذلك من الأديان المختلفة , ومن قرأ فارقوا دينهم قال : معناه باينوه وتركوه من المفارقة للشيء.
وقيل : إن معنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد في الحقيقة وهو أن من فرق دينه فأمر ببعض وأنكر بعضاً فارق دينه في الحقيقة ثم اختلفوا في المعنى بهذه الآية , فقال الحسن : هم جميع المشركين لأن بعضهم عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم عبدوا الملائكة وقالوا إنهم بنات الله وبعضهم عبدوا الكواكب فكان هذا تفريق دينهم.
وقال مجاهد : هم اليهود.
وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك : هم اليهود والنصارى لأنهم فرقوا فكانوا فرقاً مختلفة.
وقال أبو هريرة في هذه الآية هم أهل الضلالة من هذه الأمة وروى ذلك مراوعاً قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة ) أسنده الطبري , فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة.
وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعائشة : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة ) ذكره البغوي بغير سند عن العرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم ثم أقبل بوجهه علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد حبشي فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) أخرجه أبو داود والترمذي عن معاوية قال : قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ) وهي الجماعة ( زاد في رواية ) وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ( أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي ( أخرجه الترمذي.
قال الخطابي في هذا الحديث دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته.
وقوله تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلم بصاحبه , التجاري تفاعل من الجري وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة والبدع المضلة تشبيهاً بجري الفرس والكلب.
قال ابن مسعود ) إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشر الأمور محدثاتها ( ورواه جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرفوعاً.

صفحة رقم 206
وقوله تعالى : ( لست منهم في شيء ( يعني : في قتال الكفار فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال وهذا على قول من يقول إن المراد من الآية اليهود والنصارى والكفار , ومن قال : المراد من الآية أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة قال : معناه لست منهم في شيء أي أنت منهم برئ وهم منك برآء.
تقول العرب إن فعلت كذا فلست منك ولست مني أي كل واحد منا برئ من صاحبه ) إنما أمرهم إلى الله ( يعني في الجزاء والمكافأة ) ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( يعني إذا وردوا القيامة
)
الأنعام : ( 160 - 163 ) من جاء بالحسنة...
" من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " ( قوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ( يعني مثلها في مقابلتها واختلفوا في هذه الحسنة والسيئة على قولين.
أحدهما : أن الحسنة قول لا إله لا الله والسيئة هي الشرك بالله , وأورد على هذا القول : إن كلمة التوحيد لا مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها وأجيب عنه بأن جزاء الحسنة قدر معلوم عند الله فهل يجازى على قدر إيمان المؤمن بما يشاء من الجزاء وإنما قال عشر أمثالها للترغيب في الإيمان لا للتحديد وكذلك جزاء السيئة بمثلها من جنسها.
والقول الثاني : إن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة , وهذا أولى.
لأن حمل اللفظ على العموم أولى قال بعضهم : التقدير بالعشرة ليس التحديد لأن الله يضاعف لمن يشاء في حسناته إلى سبعمائة ويعطي من يشاء بغير حساب وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه وتعالى وهو قوله تعالى : ( وهم لا يظلمون ( يعني لا ينقص من ثواب الطائع ولا يزاد على عذاب العاصي
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله تعالى ) ( م ) عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة )
( ق ) عن أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تبارك وتعالى وإذا أراد عبدي أن يعمل سيئة

صفحة رقم 207
فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن ترك من أجلي فاكتبوها له حسنة وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ) لفظ البخاري وفي لفظ مسلم عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( قال الله تبارك وتعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من أجلي ) زاد الترمذي : من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها.
قوله عز وجل : ( قل ( يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ) إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ( يعني : قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين ) ديناً قيماً ( يعني هداني صراطاً مستقيماً ديناً قيماً , وقيل : يحتمل أن يكون محمولاً على المعنى تقديره : وعرفني ديناً قيماً يعني ديناً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ , وقيل : قيماً ثابتاً مقوماً لأمور معاشي ومعادي , وقيل : هو من قام وهو أبلغ من القائم ) ملة إبراهيم ( والمِلة بالكسر الدين والشريعة.
يعني هداني وعرفني دين إبراهيم وشريعته ) حنيفاً ( الأصل في الحنيف الميل وهو ميل عن الضلالة إلى الاستقامة والعرب تسمي كل من اختتن أو حج حنيفاً تنبيهاً على أنه دين إبراهيم عليه السلام ) وما كان من المشركين ( يعني إبراهيم عليه السلام وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر الله تعالى أن إبراهيم لم يكن من المشركين وممن يعبد الأصنام ) قل إن صلاتي ( أي : قل يا محمد إن صلاتي ) ونسكي ( قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والسدي : أراد بالنسك في هذا الموضع الذبيحة في الحج والعمرة , وقيل : النسك العبادة والناسك العابد.
وقيل : المناسك أعمال الحج.
وقيل : النسك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة وحج وذبح وعبادة.
ونقل الواحدي عن أبي الأعرابي قال : النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث.
وفي قوله إن صلاتي ونسكي دليل على أن جميع العبادات يؤديها العبد على الإخلاص لله ويؤكد هذا قوله لله رب العالمين لا شريك له وفيه دليل على أن جميع العبادات لا تؤدى إلا على وجه التمام والكمال لأن ما كان لله لا ينبغي أن يكون إلا كاملاً تاماً مع إخلاص العبادة له فما بهذه الصفة من العبادات كان مقبولاً ) ومحياي ومماتي ( أي حياتي وموتي بخلق الله وقضائه وقدره أي هو يحييني ويميتني وقيل معناه إن محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله , وقيل : معناه إن طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله وحاصل هذا الكلام له أن الله أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبين أن صلاته ونسكه وسائر عباداته وحياته وموته كلها واقعة بخلق الله وقضائه وقدره وهو المراد بقوله ) لله رب العالمين لا شريك له ( يعني في العبادة والخلق والقضاء والقدر وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه ) وبذلك أمرت ( يعني : قل يا محمد وبهذا التوحيد أمرت ) وأنا أول المسلمين ( قال قتادة : يعني من هذه الأمة وقيل معناه وأنا أول المستسلمين لقضائه وقدره.
)
الأنعام : ( 164 - 165 ) قل أغير الله...
" قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم " ( قوله عز وجل : ( قل أغير الله أبغي رباً ( أي : قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك أغير الله أطلب سيداً أو إلهاً ) وهو رب كل شيء ( يعني وهو سيد كل شيء ومالكه لا يشاركه فيه أحد وذلك أن الكفار قالوا

صفحة رقم 208
للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ارجع إلى ديننا.
قال ابن عباس : كان الوليد بن الميغرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم فقال الله عز وجل رداً عليه ) ولا تكسب كل نفس إلا عليها ( يعني أن إثم الجاني عليه لا على غيره ) ولا تزر وازرة وزر أخرى ( يعني لا تؤاخَذ نفس آثمة بإثم أخرى ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر ) ثم إلى ربكم مرجعكم ( يعني يوم القيامة ) فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( يعني في الدنيا من الأديان والملل.
قوله تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ( يعني : والله الذي جعلكم يا أمة محمد خلائف في الأرض فإن الله أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم وذلك لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الانبياء وهو آخرهم وأمته آخر الآمم ) ورفع بعضكم فوق بعض درجات ( يعني أنه تعالى خالف بين أحوال عباده فجعل بعضهم فوق بعض في الخلق والرزق والشرف والعقل والقوة والفضل فجعل منهم الحسن والقبيح والغني والفقير والشريف والوضيع والعالم والجاهل والقوي والضعيف وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو البخل فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفاته النقص وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو قوله تعالى : ( ليبلوكم في ما آتاكم ( يعني يعاملكم معاملة المبتلي والمختبر وهو أعلم بأحوال عباده.
والمعنى : يبتلي الغني بغناه والفقير بفقره والشريف بشرفه والوضيع بدناءته والعبد والحر وغيرهم من جميع أصناف خلقه ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب , لأن العبد إما أن يكون مقصراً فيما كلف به وإما أن يكون موفياً ما أمره به فإن كان مقصراً كان نصيبه التخويف والترغيب وهو قوله تعالى : ( إن ربك سريع العقاب ( يعني لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت فهو قريب إن كان العبد موفياً حقوق الله تعالى فيما أمره به أو نهاه عنه كان نصيبه الترغيب والتشريف والتكريم وهو قوله تعالى : ( وإنه لغفور ( يعني لذنوب أوليائه وأهل طاعته ) رحيم ( يعني بجميع خلقه والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تفسير سورة الأعراف
نزلت بمكة روى ذلك عن ابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقتادة وروى عن ابن عباس أيضاً أنها مكية إلا خمس آيات أولها واسألهم عن القرية التي كانت وبه قال قتادة وقال مقاتل ثمان آيات في سورة الأعراف مدنية أولها واسألهم عن القرية إلى قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم وهي مائتان وست آيات وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمس وعشرون كلمة وأربعة عشرة ألف حرف عشرة أحرف.
بسم الله الرحمن الرحيم )
الأعراف : ( 1 ) المص
" المص " ( بسِمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ
قوله عز وجل ) المص ( قال ابن عباس : معناه أنا الله أفصل وعنه أنا الله أعلم وأفصل وعنه أن المص قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله تعالى , وقال قتادة : المص اسم من أسماء القرآن , وقال الحسن : هو اسم للسورة , وقال السدي : هو بعض اسمه تعالى المصور , وقال أبو العالية : الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مقتاح صادق وصبور.

صفحة رقم 209
وقيل : هي حروف مقطعة استأثر الله تعالى بعلمها وهي سره في كتابه العزيز , وقيل : هي حروف اسمه الأعظم وقيل هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده وقد تقدم بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة.
)
الأعراف : ( 2 - 6 ) كتاب أنزل إليك...
" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " ( وقوله تعالى ) كتاب أنزل إليك ( يعني هذا كتاب أنزله الله إليك يا محمد وهو القرآن ) فلا يكن في صدرك حرج منه ( يعني : فلا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به إلى الناس ) لتنذر به ( يعني : أنزلت إليك الكتاب يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره ) وذكرى للمؤمنين ( يعني : ولتذكر وتعظ به المؤمنين وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم , تقديره : كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكر للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه.
قال ابن عباس : فلا تكن في شك منه لأن الشك لا يكون إلا من ضيق الصدر وقلة الاتساع لتوجيه ما حصل له.
قوله تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( أي : قل يا محمد لقومك اتبعوا أيها الناس ما أنزل إليكم من ربكم يعني من القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان.
قال الحسن : يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها , وبنحو هذا قال الزجاج : أي اتبعوا القرآن وما أتى به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه مما أنزل لقوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ( " ومعنى الآية أن الله تعالى لما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالإنذار في قوله لتنذر به كان معنى الكلام أنذر القوم ) وقل لهم اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( " واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك , وقيل : معناه لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم ) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ( " , وقيل : هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عيله من الكفر والشرك ويدل عليه قوله تعالى : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء ( يعني ولا تتخذوا الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك فتتبعوهم.
والمعنى : ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن فيأمروكم بعبادة الأصنام واتباع البدع والأهواء الفاسدة ) قليلاً ما تذكرون ( يعني ما تتعظون إلا قليلاً.
قوله تعالى : ( وكم من قرية أهلكناها ( لما أمر الله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالإنذار والإبلاغ , وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى : ( وكم من قرية أهلكناها ( , قيل : فيه حذف تقديره وكم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية , وقيل : ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها ) فجاءها بأسنا ( يعني عذابنا.
فإن قلت مجيء البأس وهو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا ؟
قلت : معناه وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا.
وقال الفراء : الهلاك والبأس قد يقعان معاً كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده وإنما وقعا معاً.
وقال غيره : لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلاً من الآخر ) بياتاً ( يعني فجاءها عذابنا ليلاً قبل أن يصبحوا ) أو هم قائلون ( من القيلولة وهي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم والمعنى فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة وكل ذلك وقت الغفلة.
ومقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم منغير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم

صفحة رقم 210
لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة ) فما كان دعواهم ( يعني فما كان دعاء أهل القرية التي جاءها بأسنا والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء , قال سيبويه : تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله تعالى : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ( ) أذ جاءهم بأسنا ( يعني عذابنا ) إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ( يعني أنهم لم يقدروا على رد العذاب عنهم وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية وذلك حين لا ينفع الاعتراف ) فلنسألن الذين أرسل إليهم ( يعني : نسأل الأمم الذين أرسلنا إليهم الرسل ماذا عملتم فيما جاءتكم به الرسل ) ولنسألن المرسلين ( يعني ولنسألن الرسل الذي أرسلناهم إلى الأمم هل بلغتم رسالاتنا وأديتم إلى الأمم ما أُمرتم بتأديته إليهم أم قصرتم في ذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية : يسأل الله تعالى الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا وعنه أنه قال يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
وقال السدي : يسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل ويسأل الرسل هل بلَّغوا ما أرسلوا به.
فإن قلت : قد أخبر عنهم في الآية الأولى بأنهم اعترفوا على أنفسهم بالظلم في قوله إنا كنا ظالمين فيما فائدة هذا السؤال مع اعترافهم على أنفسهم بذلك ؟
قلت : لما اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم والتقصير والمقصود من هذا التقريع والتوبيخ للكفار.
فإن قلت : فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلنا إليهم من الأمم ؟
قلت : إذا كان يوم القيامة أنكر الكفار تبليغ الرسالة من الرسل فقالوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فكان مسألة الرسل على وجه الاستشهاد بهم على من أرسلوا إليهم من الأمم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليه من الأمم فتكون هذه المسألة كالتقريع والتوبيخ للكفار أيضاً لأنهم أنكروا تبليغ الرسل فيزداد بذلك خزيهم وهوانهم وعذابهم.
)
الأعراف : ( 7 - 9 ) فلنقصن عليهم بعلم...
" فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون " ( وقوله تعالى : ( فلنقصن عليهم بعلم ( يعني : فلنخبرن الرسل ومن أرسلوا إليهم بعلم ويقين بما عملوا في الدنيا ) وما كنا غائبين ( يعني عنهم وعن أفعالهم وعن الرسل فيما بلغوا وعن الأمم فيما أجابوا.
فإن قلت كيف الجمع بين قوله تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ( " وبين قوله ) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ( وإذا كان عالماً فما فائدة هذا السؤال ؟
قلت : فائدة سؤال الأمم والرسل مع علمه سبحانه وتعالى بجميع المعلومات , التقريع , والتوبيخ للكفار لأأنهم إذ أقروا على أنفسهم كان أبلغ في المقصود , فأما سؤال الاسترشاد والاستثبات , فهو منفي عن الله عز وجل , لأنه عالم بجميع الأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها , فهو العالم بالكليات , والجزئيات , وعلمه بظاهر الأشياء كعلمه بباطنها.
قوله تعالى : ( والوزن يومئذ الحق ( يعني والوزن يوم سؤال الأمم والرسل وهو يوم القيامة العدل , وقال مجاهد : المراد بالوزن هنا القضاء , ومعنى الحق العدل.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالوزن وزن الأعمال بالميزان وذلك أن الله

صفحة رقم 211
عز وجل ينصب ميزاناً له لسان وكفتان كل كفة ما بين المشرق والمغرب , قال ابن الجوزي : جاء في الحديث ( أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه الميزان فأراه إياه فقال إليه من يقدر أن يملأ كفتيه حسنات فقال يا داود إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة ) وقال حذيفة : جبريل صاحب الميزان يوم القيامة فيقول له ربه عز وجل بينهم ورد من بعضهم على بعض وليس ثم ذهب ولا فضة فيرد على المظلوم من الظلم ما وجد له من حسنة لإن لم يكن له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على سيئات الظالم فيرجع الرجل وعليه مثل الجبل.
فإن قلت : أليس الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد فما الحكمة في وزنها ؟
قلت : فيه حكم منها إظهار العدل , وأن الله عز وجل لا يظلم عباده , ومنها امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى ومنها تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة ومنها إظهار علامة السعادة والشقاوة ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى , ثم اختلف العلماء في كيفية الوزن فقال بعضهم : توزن صحائف الأعمال المكتوبة فيها الحسنات والسيئات ويدل على ذلك حديث البطاقة وهو ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله عز وجل سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول له أتنكر من هذا شيئاً أظلمتك كتبتي الحافظون فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر فيقول لا يا رب فيقول الله تبارك وتعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال فإنه لا ظلم عليك اليوم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يقل مع اسم الله شيء ) أخرجه الترمذي وأحمد بن حنبل.
وقال ابن عباس : يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان فعلى قول ابن عباس : أن الأعمال تتصور صوراً وتوضع تلك الصور في المزان ويخلق الله في تلك الصور ثقلاً وخفة.
ونقل البغوي عن بعضهم أنها توزن الأشخاص واستدل لذلك بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ) أخرجاه في الصحيحين وهذا الحديث ليس فيه دليل على ما ذكر من وزن الأشخاص في المزان لأن المراد بقوله لا يزن عند الله جناح بعوضة مقداره وحرمته لا وزن جسده ولحمه والصحيح قول من قال إن صحائف الأعمال توزن أو نفس الأعمال تتجسد وتوزن والله أعلم بحقيقة ذلك.
وقوله تعالى : ( فمن ثقلت موازينه ( جمع ميزان , وأورد على هذا أنه ميزان واحد فما وجه الجمع وأجيب عنه بأن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد , وقيل : إنه ينصب لكل عبد ميزان , وقيل : إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله وقيل هو جمع موزون يعني من رجحت أعماله بالحسنة الموزونة التي لها وزن وقدر ) فأولئك هم المفلحون ( يعني : هم الناجون غداً والفائزون بثواب الله وجزائه ) ومن خفَّت موازينه ( يعني موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله تعالى : ( فأولئك الذين خسروا أنفسهم ( يعني غبنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته ) بما كانوا بآياتنا يظلمون ( يعني سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون

صفحة رقم 212
ولا يقرّون بها.
روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه حين حضره الموت قال في وصيته لعمر بن الخطاب : إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً , وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً.
)
الأعراف : ( 10 - 12 ) ولقد مكناكم في...
" ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " ( قوله عز وجل : ( ولقد مكناكم في الأرض ( يعني ولقد مكناكم أيها الناس في الأرض , والمراد من التمكين التمليك وقيل : معناه جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو قدرناكم على التصرف فيها ) وجعلنا لكم فيها معايش ( جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق وتعيشون بها أيام حياتكم وهي على قسمين :
أحدهما : ما أنعم الله تعالى به على عباده من الزرع والثمار وأنواع المآكل والمشارب.
والثاني : ما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع وكلا مقسمين في الحقيقة إنما يحصل بفضل الله وإنعامه وإقداره وتمكينه لعباده من ذلك فثبت بذلك أن جميع معايش العالم إنعام من الله تعالى على عباده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال على عباده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال تعالى : ( قليلاً ما تشكرون ( يعني : على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم , وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأن الإنسان قد يذكر نعم الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر , تصور النعمة وإظهار ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
قوله تعالى : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ( يعني : ولقد خلقناكم أيها الناس المخاطبون بهذا الخطاب وقت نزوله في ظهر أبيكم آدم ثم صورناكم في أرحام النساء صوراً مخلوقة.
فإن قلت على هذا التفسير يكون قوله ) ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( يقتضي الأمر بالسجود كان وقع بعد خلق المخاطبين بهذا الخطاب وتصويرهم لأن كلمة ثم للتراخي ومعلوم أن الأمر ليس كذلك بل كان السجود لآدم عليه الصلاة والسلام قبل خلق ذريته ؟
قلت : يحتمل أن يكون المعنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم أيها المخاطبون ثم أخبرناكم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فتكون كلمة ثم تفيد ترتيب خبر على خبر ولا تفيد ترتيب المخبر به على الخبر.
وقيل في معنى الآية : ولقد خلقناكم يعني آدم , ثم صورناكم يعني ذريته , وهذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم يعني في ظهره وعلى هذين القولين إنما ذكر آدم بلفظ الجمع على التعظيم أو لأنه أبو البشر فكانه في خلقه خلق من خرج من صلبه ؛ وقيل : إن الخلق والتصوير يرجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وحده.
والمعنى : ولقد خلقناكم يعني آدم حكمنا بخلقه ثم صورناكم يعني آدم صورة من طين ) ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( يعني بعد إكمال خلقه وقد تقدم في سورة البقرة الكلام في معنى هذا السجود وأنه كان على سبيل التحية والتعظيم لآدم لا حقيقة السجود , وقيل : بل كان حقيقة السجود وأن المسجود له هو الله تعالى وإنما كان آدم كالقبلة للساجدين , وقيل : بل كان المسجود له وكان ذلك بأمر الله تعالى وهل كان هذا الأمر بالسجود لجميع الملائكة أو لبعضهم فيه خلاف تقدم ذكره في سورة البقرة.
وقوله تعالى :

صفحة رقم 213
) فسجدوا ( يعني الملائكة ) إلا إبليس ( يعني : فسجد الملائكة لآدم إلا إبليس ) لم يكن من الساجدين ( يعني له وظاهر الآية يدل على أن إبليس كان من الملائكة لأن الله تعالى استثناه منهم وكان الحسن يقول : إن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور وإنما استثناه من الملائكة لأنه كان مأموراً بالسجود لآدم مع الملائكة فلما لم يسجد أخبر الله تعالى عنه أنه لم يكن من الساجدين لآدم فلهذا استثناه منهم.
قوله تعالى : ( قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ( يعني : قال الله عز وجل لإبليس أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك به فعلى هذا التأويل تكون كلمة لا في قوله أن لا تسجد صلة زائدة وإنما دخلت للتوكيد والتقدير ما منعك أن تسجد فهو كقوله : ( لا أقسم ( " وقوله ) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ( " أي يرجعون وقوله ) لئلا يعلم أهل الكتاب ( " أي يعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين.
وقيل : إن كلمة لا هنا على أصلها مفيدة وليست بزائدة لأنه لا يجوز أن يقال إن كلمة من كتاب الله زائدة أو لا معنى لها , وعلى هذا القول حكى الواحدي عن أحمد بن يحيى : أن لا في هذه الآية ليست زائدة ولا توكيداً لأن معنى قوله ) ما منعك أن لا تسجد ( من قال لك لا تسجد فحمل نظم الكلام على معناه وهذا القول حكاه أبو بكر عن الفراء.
وقال الطبري والصواب في ذلك أن يقال إن في الكلام محذوفاً تقديره ما منعك من السجود فأحوجك إن لا تسجد فترك ذكر ذلك أحوجك استغناء عنه بمعرفة السامعين به ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القاضي قال : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة الله تعالى عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها.
فإن قلت : لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به ؟
قلت : إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يت الله عليه ) قال ( يعني قال إبليس مجيباً لله تعالى عما سأله عنه ) أنا خير منه (.
فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى : ( ما منعك أن لا تسجد ( فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه.
قلت : استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله ) خلقتني من نار وخلقته من طين ( والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلاً وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب , وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة , ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان : أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضاً : ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

صفحة رقم 214
ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلاً وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر , فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك ما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنةَ والطردَ للشقاوة التي سبقت له في القدم.
)
الأعراف : ( 13 - 17 ) قال فاهبط منها...
" قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " ( وقوله تعالى : ( قال فاهبط منها ( يعني قال الله تعالى لإبليس لعنه الله اهبط من الجنة.
وقيل : من السماء إلى الأرض.
والهبوط الإنزال والانحدار من فوق على سيل القهر والهوان والاستخفاف ) فما يكون لك أن تتكبر فيها ( يعني فليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو في السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل فأما غير الجنة والسماء فقد يسكنها المستكبر عن طاعة الله تعالى وهم الكفار الساكنون في الأرض ) فاخرج إنك من الصاغرين ( يعني : إنك من الأذلاء المهانين والصّغار الذل والمهانة.
قال الزجاج : استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة.
وقيل : كان له ملك الأرض فأخرجه الله تعالى منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفاً كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروع فيها حتى يخرج منها ) قال ( يعني : قال إبليس عند ذلك ) أنظرني ( يعني أخِّرني وأمهلني فلا تمتني ) إلى يوم يبعثون ( يعني من قبورهم وهي النفخة الآخرة عند قيام الساعة وهذا من جهالة الخبيث إبليس لعنه الله لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله تعالى إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يكون ذائقاً للموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل به ) قال ( الله تعالى ) إنك من المنظرين ( يعني من المؤخرين الممهلين وقد بين الله تعالى مدة النظرة والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى : ( فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ( " وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم.
فإن قلت : فما وجه قولك إنك من المنظرين وليس أحد ينظر سواه ؟
قلت : معناه إن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم فهو منهم ) قال ( يعني إبليس ) فبما أغويتني ( يعني فبأي شيء أضللتني فعلى هذا تكون ما استفهامية وتم الكلام عند قوله أغويتني ثم ابتدأ فقال ) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( وقيل : هي باء القسم تقديره فبإغوائك إياي وقيل معناه فيما أوقعت في قلبي الغي الذي كان سبب هبوطي إلى الأرض من السماء وأضللتني عن الهدى لأقعدن لهم صراطك المستقيم يعني لأجلسن على طريقك القويم وهو طريق الإسلام.
وقيل المراد بالصراط المستقيم الطريق الذي يسلكونه إلى الجنة وذلك بأن أوسوس إليهم وأزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم.
وقيل : المراد بالصراط المستقيم هنا طريق مكة يعني يمنعهم من الهجرة.
وقيل : المراد به الحج.
والقول الأول أولى لأنه يعم الجميع ومعنى لأردنَّ بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنَّهُم كما أضللتني.
عن سبرة بن أبي الفاكه قال : سمعت رسول الله عليه وسلم يقول : ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة قعد له في طريق الإسلام فقال تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم , وقعد له

صفحة رقم 215
بطريق الهجرة فقال تهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول فعصاة فهاجر وقعد له بطريق الجهاد فقال تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد قال فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقاً على الهل أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ) أخرجه النسائي , وقوله تعالى إخباراً عن إبليس ) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ( قال ابن عباس : من بين أيديهم يعني من قبل الآخرة فأشككهم فيهم , ومن خلفهم يعني من قبل الدنيا فأرغبهم فيها , وعن أيمانهم يشبه عليهم أمر دينهم , وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي.
وإنما جعل الآخرة من بين أيديهم في هذا القول لأنهم منقلبون إليها وصائرون إليها فعلى هذا الاعتبار فالدنيا خلفهم لأنها وراء ظهورهم.
وقال ابن عباس في رواية عنه : من بين أيديهم يعني من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم , ومن خلفهم من قبل الآخرة , فأقول لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار , وعن أيمانهم من قبل حسناتهم , وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم وإنما جعل الدنيا من بين أيديهم في هذا القول لأن الإنسان يعسى فيها ويشاهدها فهي حاضرة بين يديه والآخرة غائبة عنه فهي خلفه.
وقال الحكم بن عتبة : من بين أيديهم يعني من قبل الدنيا فأزينها لهم ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها وعن أيمانهم يعني من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن إيمانهم من قبل حسناتهم فبطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها.
أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك فلم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى.
وقال مجاهد يأيتهم من بين أيديهم وعن أيمانهم حيث يبصرون , ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون.
ومعنى هذا من حيث يخطئون ويعلمون أنهم يخطئون ومن حيث لا يبصرون أنهم يخطئون ولا يعلمون أنهم يخطئون , وقيل : من بين أيديهم يعني فيما بقي من أعمالهم فلا يقدمون فيه طاعة ومن خلفهم يعني ما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عما أسلفوا فيه من معصية عن أيمانهم يعني من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشركون ومن خلفهم يعني من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه.
وقال شقيق البلخي : ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يديّ ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما بين يدي فيقول : لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى , وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها , وأما من قبل يميني فيأتيني من الثناء فأقرأ والعاقبة للمتقين , وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
وقيل إن ذكر هذه الجهات الرضع إنما أريد بها التأكيد والمبالغة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك , ومعنى الآية على هذا القول : ثم لآتينهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات وقوله ) ولا تجد أكثرهم شاكرين ( يعني ولا تجد يا رب أكثرهم بني آدم شاكرين على نعمك التي أنعمت بها عليهم.
وقال ابن عباس : معناه ولا تجد أكثرهم موحدين.
فإن قلت : كيف علم الخبيث إبليس حتى قال ولا تجد أكثرهم شاكرين ؟

صفحة رقم 216
قلت : قاله ظناً فأصاب منه قوله تعالى , ولقد صدق عليهم إبليس ظنه وقيل إنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين القبائح وعلم ميل بني آدم إلى ذلك فقال هذه المقالة وقيل إنه رآه مكتوباً في اللوح المحفوظ فقال هذه المقالة على سبيل اليقين والقطع والله أعلم بمراده.
)
الأعراف : ( 18 - 20 ) قال اخرج منها...
" قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " ( قوله عز وجل : ( قال اخرج منها ( أي : قال الله تعالى لإبليس حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه وذلك بسبب مخالفته وعصيانه اخرج منها يعني من الجنة فإنه لا ينبغي أن يسكن فيها العصاة ) مذؤوماً ( يعني معيباً والذأم أشد العيب ) مدحوراً ( يعني مطروداً مبعداً.
وقال ابن عباس : صغيراً ممقوتاً.
وقال قتادة : لعيناً مقيتاً وقال الكلبي : ملوماً مقصياً من الجنة ومن كل خير ) لمن تبعك منهم ( يعني من بني آدم ) لأملان جهنم منكم أجمعين ( اللام لام القسم أقسم الله تعالى أن من اتبع إبليس من بني آدم وأطاعه منهم.
وقوله تعالى : ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( أي وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه وطرده من الجنة ) فكُلا من حيث شئتما ( يعني فكُلا من ثمار الجنة من أي مكان شئتما.
فإن قلت : قال في سورة البقرة وكلا بالواو وقال هنا فكلا بالفاء فما الفرق ؟
قلت : قال الإمام فخر الدين الرازي إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع ) ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( تقدم في سورة البقرة الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى.
قوله تعالى : ( فوسوس لهما الشيطان ( يعني فوسوس إليهما والوسوسة حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان , يقال : وسوس إذا تكلم كلاماً خفيفاً مكرراً وأصله من صوت الحلي ومعنى وسوس لهما فعلَ الوسوسة وألقاها إليهما.
فإن قلت : كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة وإبليس قد أُخرج منها ؟
قلت : ذكر الإمام فخر الدين الرازي في الجواب عن السؤال عن الحسن أنه قال : كان يوسوس في الأرض إلى السماء إلى الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له.
قوله وقال أبو مسلم الأصبهاني : بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية فدخلت به الحية إلى الجنة فقصه مشهورة ركيكة , وقال آخرون : إن آدم وحواء ربما قربا من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فقرب أحدهما من الآخر فحصلت الوسوسة هناك.
فإن قلت : إن آدم عليه الصلاة والسلام قد عرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله ؟
قلت : يحتمل أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل هذه الشجرة بطرق كثيرة منها رجاء نيل الخلد ومنها قوله وقاسمهما ) إني لكما من الناصحين ( " فلأجل هذه المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلام إبليس في آدم حتى أكل من الشجرة ) ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما ( يعني ليظهر لهم ما غطى وستر عوراتهما وقوله ما ووري مأخوذ من المواراة وهي الستر يقال واريته بمعنى سترته والسوأة فرج الرجل والمرأة سمي بذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات واللام في قوله ليبدي هلما لام العاقبة وذلك لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عوراتهما وإنما كان حملهما على المعصية فقط فكان عاقبة أمرهما أن بدت عوراتهما

صفحة رقم 217
) وقال ( يعني وقال إبليس لآدم وحواء ) ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ( يعني عن الأكل من هذه الشجرة ) إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ( يعني إنما نهاكما عن هذه الشجرة لكي لا تكونا ملكين من الملائكة تعلمان الخير والشر أو تكونا من الباقين الذين لا يموتون وإنما أطمع إبليس آدم بهذه الآية لأنه علم أن الملائكة لهم المنزلة والقرب من العرش فاستشرف لذلك آدم وأحب أن يعيش مع الملائكة لطول أعمارهم أو يكون من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.
فإن قلت : ظاهر الآية يدل على أن الملَك أفضل من الأنبياء لأن آدم عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون من الملائكة وهذا يدل على فضلهم عليه.
قلت : ليس في ظاهر الآية ما يدل على ذلك لأن آدم عليه الصلاة والسلام لما طلب أن يكون من الملائكة كان ذلك الطلب قبل أن يتشرف بالنبوة وكانت هذه الواقعة قبل نبوة آدم عليه الصلاة والسلام فطلب أن يكون من الملائكة أو من الخالدين وعلى تقديره أن تكون هذه الواقعة في زمان النبوة بعد أن شرف بها آدم إنما طلب أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل لأنه طلب إما أن يكون من الملائكة لطول أعمارهم أو من الخالدين الذين لا يموتون أبداً.
)
الأعراف : ( 21 - 22 ) وقاسمهما إني لكما...
" وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين " ( وقوله تعالى : ( وقاسمهما ( أي وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد ) إني لكما لَمن الناصحين ( قال قتادة : حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما وقد يُخدع المؤمن بالله فقال إني خُلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وقال بعض العلماء : من خادعنا بالله خدعنا له ) فدلاهما بغرور ( يعني فخدعهما بغرور يقال من زال فلان يدلي فلاناً بغرور يعني ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف من القول الباطل.
قال الأزهري وأصله ان الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه والغرور إظهار النصح مع إبطان الغش وهو أن إبليس حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية لأن التدلي لا يكون إلا من علو إلى أسفل.
ومعنى الآية أن إبليس لعنه الله تعالى غر آدم باليمين الكاذبة وكان آدم عليه الصلاة والسلام يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وإبليس أول من حلف بالله كاذباً فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به ) فلما ذاقا الشجرة ( يعني : طعما من ثمرة الشجرة وفيها دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصد إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير ) بدت لهما سوءاتهما ( يعني : ظهرت لهما عوراتهما قال ابن عباس رضي الله عنهما : قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة والعقوبة أن ظهرت وبدت لهما سوآتهما وتهافت عنهما لبسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك.
وقال وهب : كان لباسهما من النور لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوآتهما وقال قتادة : كان لباس آدم في الجنة ظفراً كله فلما وقع في الذنب قشط عنه وبدت سوأته ) وطفقا ( يعني وأقبلا وجعلا ) يخصفان عليهما من ورق الجنة ( يعني أنهما لما بدت لهما

صفحة رقم 218
سوآتهما جعلا يرقعان ويلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب.
وقال الزجاج : جعلا ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبيح كشفها.
روى أبيّ بن كعب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( كان آدم ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً طويلاً كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت ل سوأته وكان لا يراها في الجنة فانطلق فارّاً فعرضت له شجرة من شجرة الجنة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني قالت لست بمرسلتك فناداه ربه يا آدم أمنّي تفر قال لا يا رب ولكني استحييتك ) ذكره البغوي بغير سند وأسنده الطبري من طريقين موقوفاً ومرفوعاً.
قوله تعالى : ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ( يعني أن الله تعالى نادى آدم وحواء وخاطبهما فقال : ألم أنهكما عن أكل ثمرة هذه الشجرة ) وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ( يعني أعلمكما أن الشيطان قد بانت عداوته لكما بترك السجود حسداً وبغياً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : حواء أمرتني.
قال فأني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً قال فرنت حواء عند ذلك رنة فقيل لها الرنة عليك وعلى بناتك وقال محمد بن قيس : ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال أطعمتني حواء فقال لحواء لم أطعمتيه قالت أمرتني الحية فقال للحية لم أمرتها قالت أمرني إبليس قال الله تعالى : أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر وأما أنت يا حية فأنطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور يعني عن الرحمة.
وقيل ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك جنتي في جواري.
)
الأعراف : ( 23 - 26 ) قالا ربنا ظلمنا...
" قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " ( قوله عز وجل : ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ( وهذا خبر من الله عز وجل عن آدم عليه الصلاة والسلام وحواء عليها السلام واعترافهما على أنفسهما بالذنب والندم على ذلك والمعنى : قالا يا ربنا إنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك ما لم يكن لنا أن نطيعه فيه من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها ) وإن لم تغفر لنا ( يعني وأنت يا ربنا إن لم تستر علينا ذنبنا ) وترحمنا ( يعني وتتفضل علينا برحمتك ) لنكونن من الخاسرين ( يعني من الهالكين.
قال قتادة : قال آدم يا رب أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك , قال : إذاً أدخلك الجنة.
وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله أن ينظره فأعطى كل واحد مهما ما سأل وقال الضحاك في قوله ) ربنا ظلمنا أنفسنا ( قال : هي الكلمات التي تلقّاها آدم عليه الصلاة والسلام من ربه عز وجل.
( فصل )
وقد استدل من يرى صدور الذنب من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية وأجيب عنه بأن درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الرقعة والعلو والمعرفة بالله عز وجل مما حملهم على الخوف منه والإشفاق من المؤاخذة بما لم يؤاخَذ به غيرهم وأنهم ربما عوتبوا بأمور صدرت منهم على سبيل التأويل والسهو فهم بسبب ذلك خائفون وجِلون وهي ذنوب بالإضافة إلى علو منصبهم وسيئات بالنسبة إلى كمال طاعتهم لا أنها ذنوب كذنوب غيرهم ومعاص كمعاصي غيرهم فكان ما صدر منهم , مع طهارتهم ونزاهتهم وعمارة بواطنهم بالوحي السماوي والذكر القدسي

صفحة رقم 219
وعمارة ظواهرهم بالعمل الصالح والخشية لله عز وجل , ذنوباً وهي حسنات بالنسبة إلى غيرهم كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
يعني أنهم يرونها بالنسبة إلى أحوالهم كالسيئات وهي حسنات لغيرهم.
وقد تقدم في سورة البقرة أن أكل آدم من الشجرة هل كان قبل النبوة أو بعدها ؟ والخلاف فيه فأغنى عنه الإعادة والله أعلم.
قوله تعالى : ( قال اهبطوا ( قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : إن الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس فقوله اهبطوا يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة.
وقال الطبري : قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس والحية اهبطوا يعني من السماء إلى الأرض قال السدي رحمه الله : قوله تعالى : ( اهبطوا ( يعني إلى الأرض آدم وحواء وإبليس والحية ) بعضكم لبعض عدو ( يعني أن العداوة ثابتة بين آدم وإبليس والحية وذرية كل واحد من آدم وإبليس ) ولكم في الأرض مستقر ( يعني موضع قرار تستقرون فيه , وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى : ( ولكم في الأرض مستقر ( يعني القبور ) ومتاع إلى حين ( يعني ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا أو إلى انقضاء آجلكم ومعنى الآية أن الله عز وجل أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض فإن بعضهم لبعض عدو وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى : ( ومتاع إلى حين ( يعني إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا ) قال فيها تحيون ( يعني : قال الله عز وجل لآدم وذريته وإبليس وأولاده فيها تحيون يعني في الأرض تعيشون أيام حياتكم ) وفيها تموتون ( يعني : وفي الأرض تكون وفاتكم وموضع قبوركم ) ومنها تخرجون ( يعني : ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم للحساب يوم القيامة.
قوله عز وجل : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ( اعلم أن الله عز وجل لما أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعلها مستقراً لهم أنزل عليهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدين والدنيا فكان مما أنزل عليهم اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا فأما منفعته في الدين فإنه يستر العورة وسترها شرط في صحة الصلاة وأما منفعته في الدنيا فإنه يمنع الحر والبرد فامتنّ الله على عباده بأن أنزل عليهم لباساً يواري سوءاتهم فقال تعالى : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم ( يعني لباساً تسترون به عوراتكم.
فإن قلت ما معنى قوله قد أنزلنا عليكم لباساً.
قلت ذكر العلماء فيه وجوهاً أحدهما : أنه بمعنى خلق أي خلقنا لكم لباساً أو بمعنى رزقناكم لباساً.
الوجه الثاني : أن الله تعالى أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم.
الوجه الثالث : أن جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى : وأنزلنا الحديد ) وريشاً ( الريش للطائر معروف وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان فاستعير للإنسان لأنه لباسه وزينته والمعنى وأنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوءاتكم ولباساً لزينتكم لأن التزيين غرض صحيح كما قال تعالى ) لتركبوها وزينة ( " وقال ) ولكم فيها جمال ( " وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله جميل يحب الجمال ) واختلفوا في معنى الريش المذكور في الآية فقال ابن عباس رضي الله عنهما وريشاً يعني مالاً , وهو قول مجاهد والضحاك والسدي لأن المال مما يتزين به , ويقال : تريش الرجل إذا تمّول.
وقال ابن زيد : الريش

صفحة رقم 220
الجمال وهو يرجع إلى الزينة أيضاً , وقيل : إن الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب والمتاع مما يبلس أو يفرش والريش أيضاً المتاع والأموال عندهم وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال يقال إنه لحسن الريش أو لحسن الثياب وقيل الريش والرياش يستعمل أيضاً في الخصب ورفاهية العيش ) ولباس التقوى ( اختلف العلماء في معناه فمنهم من حمله على نفس الملبوس وحقيقته , ومنهم من حمله على المجاز أما من حمله على نفس الملبوس فاختلفوا أيضاً في معناه , فقال ابن الأنباري : لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخباراً أنّ ستر العورة من التقوى وذلك خير.
وقيل : إنما أعاده لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن العرب في الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواب بالبيت فأخبر أن ستر العورة في الطواف هو لباس التقوى وذلك خير.
وقال زيد بن علي رحمه الله تعالى : لباس التقوى آلآت الحرب التي يتقى بها في الحروب كالدروع والمغفر ونحو ذلك.
وقيل لباس التقوى هو الصوف والخشن من الثياب التي يبلسها أهل الزهد والورع.
وقيل : هو ستر العورة في الصلاة وأما من حمل لباس التقوى على المجاز فاختلفوا في معناه.
فقال قتادة والسدي : لباس التقوى هو الإيمان لأن صاحبه يتقي به من النار , وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لباس التقوى هو العمل الصالح , وقال الحسن رضي الله عنه : هو الحياء لأنه يحث على التقوى.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : لباس التقوى هو السمت الحسن , وقال عروة بن الزبير رضي الله عنه : لباس التقوى خشية الله , وقال الكلبي : هو العفاف فعلى هذه الأقوال : إن بلاس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق الله له من لباس التجمل وزينة الدنيا وهو قوله تعالى : ( ذلك خير ( يعني لباس التقوى خير من لباس الجمال والزينة وأنشدوا في المعنى :
إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى
عريت وإن وارى القميصَ قميصُ
وقوله تعالى : ( ذلك من آيات الله ( يعني أنزل اللباس عليكم يا بني آدم من آيات الله الدالة على معرفته وتوحيده ) لعلهم يذكرون ( يعني لعلهم يذكرون نعمته عليهم فيشكرونها.
)
الأعراف : ( 27 - 28 ) يا بني آدم...
" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون " ( قوله تعالى : ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ( قيل : هذا خطاب للذين كانوا يطوفون بالبيت عراة والمعنى : لا يخدعنكم بغروره ولا يضلنكم فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف وإنما ذكر قصة آدم هنا وشدة عداوة إبليس له ليحذر بذلك أولاد آدم فقال تعالى : ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ( يعني آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام والمعنى أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته وشدة عداوته فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى فحذر الله عز وجل بني آدم وأمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان وغروره وتزيينه القبائح وتحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم فهذه فتنته التي نهى الله تعالى عباده عنها وحذرهم منها.
قوله تعالى : ( ينزع عنهما لباسهما ( إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما , فقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع , وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى : كان لباس آدم وحواء نوراً , وقال مجاهد : كان لباسهما التقى.
وفي رواية عنه التقوى وقيل إن لباسهما

صفحة رقم 221
من ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس ) ليريهما سواءتهما ( يعني : ليرى آدم عورة حواء وترى عورة آدم وكان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض ) إنه يراكم هو وقبيله ( يعني أن إبيلس يراكم يا بني آدم هو وقبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضاً , وقال الليث : كل جيل من جن أو إنس قبيل ومعنى يراكم هو وقبيله أي من هو من نسله , وحكى أبو عبيدة عن أبي يزيد القبيل : ثلاثة فصاعداً من قوم شتى والجمع قبل والقبيلة بنو أب واحد.
وقال الطبري : قبيله يعني صنفه وجيله الذي هو منهم وهو واحد يجمع على قبل وهم الجن.
وقال مجاهد : الجن والشياطين وقال ابن يزيد : قبيله نسله.
وقال ابن عباس رضي عنهما : هو ولده وقوله ) من حيث لا ترونهم ( يعني أنتم يا بني آدم , قال العلماء رحمهم الله : إن الله تعالى خلق في عيون الجن إدراكاً يرون بذلك الإدراك الإنس ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن.
وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن ورقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضاً أن الله تعالى قوى شعاع أبصار الجن وزاد فيها حتى يرى بعضهم بعضاً ولو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم ولكن لم يجعلها.
وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى ) كما قال تعالى : ( الذي يوسوس في صدور الناس ( " فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم , وقال مجاهد : قال إبليس جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى.
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى : إن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى ) إنا جعلنا الشياطين أولياء ( يعني أعواناً وقرباء ) للذين لا يؤمنون ( قال الزجاج يعني سلَّطانهم عليهم يزيدون في غيهم.
قوله عز وجل : ( وإذا فعلوا فاحشة ( قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : هي طوافهم بالبيت عراة الرجال والنساء.
وقال عطاء : هي الشرك والفاحشة اسم لكل قبيح فيدخل فيه جميع المعاصي والكبائر فيمكن حملها على الإطلاق وإن كان السبب مخصوصاً بما ورد من طوافهم عراة ولما كانت هذه الأفعال التي كانت أهل الجاهلية يفعلونها ويعتقدون أنها طاعات وهي في نفسها فواحش ذمهم الله تعالى عليها ونهاهم عنها فاحتجوا عن هذه الأفعال بما أخبر الله عنهم وهو قوله تعالى : ( قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ( فذكروا لأنفسهم عذرين أحدهما محض التقليد وهو قولهم وجدنا على هذا الفعل آباءنا وهذا التقليد باطل لأنه لا أصل له , والعذر الثاني قولهم والله أمرنا بها وهذا العذر أيضاً باطل وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله ) قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ( والمعنى أن هذه الأفعال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها هي في أنفسها قبيحة منكرة فكيف يأمر الله تعالى بها والله لا يأمر بالفحشاء بل يأمر بما فيه مصالح العباد ثم قال تعالى رداً عليهم ) أتقولون على الله ما لا تعلمون ( يعني انكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة ولا أخذتموه عن الأنبياء الذين هم وسائط بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ أوامره ونواهيه وأحكامه لأنكم تنكرون نبوّة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون.
)
الأعراف : ( 29 - 30 ) قل أمر ربي...
" قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " ( قوله تعالى : ( قل أمر ربي بالقسط ( أي : قل يا محمد لهؤلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون أمر ربي بالقسط يعني بالعدل ,

صفحة رقم 222
وهذا قول مجاهد والسدي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بلا إله إلا الله فالأمر بالقسط في هذه الآية يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله وأنه واحد لا شريك له ) وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( فإن قلت قل أمر ربي بالقسط خبر وقوله وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز فما معناه.
قلت : فيه إضمار وحذف تقديره قل أمر ربي بالقسط وقال ) وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ( فحذف فقال لدلالة الكلام عليه ومعنى الآية قول مجاهد والسدي : وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة , وقال الضحاك : معناه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي أو في مسجد قومي.
وقيل معناه اجعلوا سجودكم لله خالصاً ) وادعوه مخلصين له الدين ( أي واعبدوه مخلصين العبادة والطاعة والدعاء لله عز وجل لا لغيره ) كما بدأكم تعودون ( قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله عز وجل بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال تعالى : ( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( " ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً وحجة هذا القول قوله في سياق الآية ) فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة ( فإنه كالتفسير له ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يُبعث كل عبد على ما مات عليه ) أخرجه مسلم زاد البغوي في روايته : المؤمن على إيمانه والكافر على كفره.
وقال محمد بن كعب : من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة.
ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة كما أن السحرة كان يعملون بعمل أهل الشقاوة ثم صاروا إلى السعادة ويصح هذا القول ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة ) أخرجه مسلم وقال الحسن ومجاهد في معنى الآية كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة ويشهد لمصلحة هذا القول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بموعظة فقال ( أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا

صفحة رقم 223
أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ) أخرجه البخاري ومسلم وقوله تعالى : ( فريقاً هدى ( يعني هداهم إلى الإيمان به ومعرفته ووفقهم لطاعته وعبادته ) وفريقاً حق عليهم الضلالة ( يعني وخذل فريقاً حتى وجبت عليهم الضلالة للسابقة التي سبقت لهم في الأزل بأنهم أشقياء وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله عز وجل , ولما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص روى الله عنهما قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل ) أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ( يعني أن الفريق الذي حق عليهم الضلالة اتخذوا الشياطين نصراء وأعواناً أطاعوهم فيما أمروهم به من الكفر والمعاصي والمعنى أن الداعي الذي دعاهم إلى الكفر والمعاصي هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله لأن الشياطين لا يقدرون على إضلال أحد.
وقوله ) ويحسبون أنهم مهتدون ( يعني أنهم مع ضلالتهم يظنون ويحسبون أنهم على هداية وحق وفيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند في الكفر سواء.
)
الأعراف : ( 31 - 33 ) يا بني آدم...
" يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " ( قوله عز وجل : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ( عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال ( كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية ) خذوا زينتكم عند كل مسجد ( أخرجه مسلم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل ( وذكر الحديث زاد في رواية أخرى عنه فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا.
وقال مجاهد : كان حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجاً أو معتمراً يقول لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول من يعيرني مئزراً فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون خذوا زينتكم عند كل مسجد.
وقال الزهري : إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس وهم قريش وأحلافهم فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عرياناً وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها أي جعلها حراماً عليه فلذلك قال الله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد , والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة.
قال مجاهد : ما يواري عوراتكم ولو عباءة.
وقال الكلبي : الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة وقوله تعالى : خذوا زينتكم , أمر وظاهره الوجوب وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة والطاواف وفي كل حال.
وقوله تعالى : ( وكلوا واشربوا ( قال الكلبي كانت بنوا عامر لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل وكلوا واشربوا يعني الدسم واللحم ) ولا تسرفوا ( يعني بتحريم ما لم يحرمه الله من أكل اللحم والدسم , قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كل ما شئت واشر ب ما شئت والبس ما شئت ما أخطأ بك خصلتان سرف ومخيلة ) وقال علي بن الحسين بن واقد : قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال : ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ( وفي الآية دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع دليل في التحريم لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا ما حظره الشارع وثبت تحريمه بدليل منفصل ) إنه لا يحب المسرفين ( يعني أن الله تعالى لا يحب من

صفحة رقم 224
إسراف المأكول والمشروب والملبوس وفي هذه الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله تعالى عبارة عن رضاه عن العبد وأيضاً.
وإيصال الثواب إليه وإلا لم يحبه علم أنه تعالى ليس هو راض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف قوله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ( يعني قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة من حرم عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتلبسوها في الطواف وغيره ثم في تفسير الزينة قولان :
أحدهما : وهو قول جمهور المفسرين أن المراد من الزينة هنا اللباس الذي يستر العورة.
والقول الثاني : ذكر الإمام فخر الدين الرازي أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلي , ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم ولكن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال دون النساء ) والطيبات من الرزق ( يعني ومن حرم الطيبات من الرزق التي أخرجها الله لعباده وخلقها لهم ثم ذكروا في معنى الطيبات في هذه الآية أقوالاً : أحدها أن المراد بالطيبات اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم فرد الله تعالى بقوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق (.
القول الثاني : وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة : أن المراد بذلك ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله تعالى من الرزق وغيرها وهو قول الله تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً وهو هذا وأنزل الله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.
والقول الثالث : إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهى من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد نص بتحريمه ) قل هي للذين آمنوا ( يعني قل يا محمد إن الطيبات التي أخرج من رزقه للذين آمنوا ) في الحياة الدنيا ( غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون ) خالصة ( لهم ) يوم القيامة ( يعني لا يشركهم فيها أحد لأنه لا حظ للمشركين يوم القيامة في الطيبات من الرزق , وقيل : خالصة لهم يوم القيامة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم في الحياة الدنيا في تناول الطيبات من الرزق كدر وتنغيص فأعلمهم أنها خالصة لهم في الآخرة من ذلك كله ) كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ( يعني كذلك نبين الحلال مما أحللت والحرام مما حرمت لقوم علموا إني أنا الله وحدي لا شريك في فأحلّوا حلالي وحرّموا حرامي.
قوله عز وجل : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ( جمع فاحشة وهي ما قبح وفحش من قول أو فعل , والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من الثياب ويطوفون بالبيت عراة ويحرمون أكل الطيبات مما أحل الله لهم إن الله لم يحرم ما تحرمونه أنتم بل أحله الله لعباده وطيبه لهم وإنما حرم ربي الفواحش من الأفعال والأقوال ) ما ظهر منها وما بطن ( يعني علانتيه وسره
( ق ) .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا أحد أغير من الله ) من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه.
أصل الغيرة ثوران القلب وهيجان الحفيظة بسبب المشاركة فيما يختص به الإنسان ومنه غيرة أحد الزوجين على الآخر لاختصاص كل واحد منهما بصاحبه ولا يرضى أن يشاركه أحد فيه فلذلك يذب

صفحة رقم 225
عنه ويمنعه من غيره وأما الغيرة في وصف الله تعالى فهو منعه من ذلك وتحريمه له ويدل على ذلك قوله : ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وقد يحتمل أن تكون غيرته تغيير حال فاعل ذلك بعقاب والله أعلم.
وقوله تعالى : ( والإثم ( يعني وحرم الإثم واختلفوا في الفرق بين الفاحشة والإثم فقيل الفواحش الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها وتزايدَ والإثم عبارة عن الصغائر من الذنوب فعلى هذا يكون معنى الآية : قل إنما حرم ربي الكبائر والصغائر.
وقيل الفاحشة اسم لما يجب فيه الحد من الذنوب والإثم اسم لما لا يجب فيه الحد , وهذا القول قريب من الأول واعترض على هذين القولين بأن الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر , وقيل : إن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً والفائدة فيه أن يقال لما حرم الله الكبيرة بقوله : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ( أردفه بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم متوهم أن التحريم مقصور على الكبائر فقط وقيل أن الفاحشة وإن كانت بحسب اللغة اسماً لكل ما تفاحش من قول أو فعل لكنه قد صار في العرف مخصوصاً بالزنا لأنه إذا أطلق لفظ الفاحشة لم يفهم منه إلا ذاك نوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا وأما الإثم فقد قيل إنه اسم من أسماء الخمر وهو قول الحسن وعطاء.
قال الجوهري وقد تسمى الخمر إثماً واستدل عليه بقول الشاعر :
شربتُ الإثم حتى ضل عقلي
كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقال ابن سيده صاحب المحكم : وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال لإن العرب ما سمته إثماً قط في جاهلية ولا في إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلاً تحت الإثم لقوله : قل فيهما إثم كبير.
وقوله تعالى : ( والبغي ( أي وحرم البغي ) بغير الحق ( والبغي هو الظلم والكبر والاستطالة على الناس ومجاوزة الحد في ذلك كله ومعنى البغي بغير الحق هو أن يطلب ما ليس له بحق فإذا طلب ما له بحق خرج من أن يكون بغياً ) وأن تشركوا ( أي وحرم أن تشركوا ) بالله ما لم ينزل به سلطاناً ( هذا فيه تهكم بالمشركين والكفار لأنه لا يجوز أن ينزل حجة وبرهاناً بأن يشرك به غيره لأن الإقرار بشيء ليس على ثبوته حجة ولا برهاناً ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والبينة على صحة القول بالشرك وجب أن يكون باطلاً على الإطلاق فإن قلت البغي والإشراك داخلان تحت الفاحشة والإثم لأن الشرك من أعظم الفواحش وأعظم الإثم وكذا البغي أيضاً من الفواحش والإثم.
قلت : إنما أفردهما بالذكر للتنبيه على عظم قبحهما أنه قال من الفواحش المحرمة البغي والشرك فكأنه بين جملته ثم تفصيله وقوله ) وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( تقدم تفسيره.
)
الأعراف : ( 34 - 37 ) ولكل أمة أجل...
" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " ( قوله تعالى : ( ولكل أمة أجل ( الأجل : الوقت المؤقت لانقضاء وقت المهلة ثم في هذا الأجل المذكور في الآية قولان : أحدهما أنه أجل العذاب والمعنى أن لكل أمة كذبت رسله وقتاً معيناً وأجلاً مسمى أمهلهم الله إلى ذلك الوقت ) فإذا جاء أجلهم ( يعنيك إذا حلَّ وقت عذابهم ) لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( يعني فلا يؤخرون ولا يمهلون قدر ساعة ولا أقل من ساعة وإنما ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الوقت في العرف وهذا حين سألوا نزول العذاب فأخبرهم الله تعالى أن لهم وقتاً إذا جاء ذلك الوقت هو وقت إهلاكهم واستئصالهم فلا يؤخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
والقول الثاني : إن المراد بهذا الأجل هو أجل

صفحة رقم 226
الحياة والعمر , فإذا انقضى ذلك الأجل وحضر الموت فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ساعة وعلى هذا القول يلزم أن يكون لكل واحد أجل لا يقع فيه تقديم ولا تأخير وإنما قال تعالى : لكل أمة تقارب أعمار أهل كل عصر فكأنهم كالواحد في مقدار العمر : وعلى هذا القول أيضاً يكون المقتول ميتاً بأجله خلافاً لمن يقول القاتل قطع عليه أجله.
قوله عز وجل : ( يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم ( هي إن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء , وهو قوله فمن اتقى وأصلح يعني منكم وإنما قال رسل بلفظ الجمع وإن كان المراد به واحد وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه خاتم الأنبياء وهو مرسل إلى كافة الخلق فذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فعلى هذا يكون الخطاب في قوله يا بني آجم لأهل مكة ومن يلحق بهم.
وقيل : أراد جميع الرسل وعلى هذا فالخطاب في قوله يا بني آدم عام في كل بني آدم وإنما قال منكم يعني من جنسكم ومثلكم من بني آدم لأن الرسول إذا كان من جنسهم كان أقطع لعذرهم وأثبت للحجة عليهم لأنهم يعرفونه ويعرفون أحواله فإذا أتاهم بما لا يليق بقدرته أو بقدرة أمثاله علم أن ذلك الذي أتى به معجزة له وحجة على من خالفه ) يقصون عليكم آياتي ( يعني يقرؤون عليكم كتابي وأدلة أحكامي وشرائعي التي شرعت لعبادي ) فمن اتقى ( يعني فمن اتقى الشرك ومخالفة رسلي ) وأصلح ( يعني العمل الذي أمرته به رسلي فعمل بطاعتي وتجنب معصيتي وما نهيته عنه ) فلا خوف عليهم ( يعني حين يخاف غيرهم يوم القيامة من العذاب ) ولا هم يحزنون ( يعني على ما فاتهم من دنياهم التي تركوها ) والذين كذبوا بآياتنا ( يعني ومن جحدوا آياتنا وكذبوا رسلنا ) واستكبروا عنها ( يعني واستكبروا عن الإيمان بها وما جاءت به رسلنا ) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( يعني لا يخرجون منها أبداً.
قوله تعالى : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( يعني فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكاً من خلقه وهو منزه عن الشريك والولد ) أو كذب بآياته ( يعني أو كذب بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ( يعني ينالهم حظهم مما قدر لهم وكتب في اللوح المحفوظ واختلفوا في ذلك النصيب على قولين أحدهما : أن المراد به هو العذاب المعين لهم في الكتاب ثم اختلفوا فيه , فقال الحسن والسدي : ما كتب لهم من العذاب وقضي عليهم من سواد الوجوه ورزقه العيون , وقال ابن عباس : في رواية عنه كتب لمن يفتري على الله كذباً أن وجهه أسود , وقال الزجاج : هو المذكور في قوله فأنذرتكم ناراً تلظى وفي قوله إذ الأغلال في أعناقهم فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم.
والقول الثاني : إن المراد بالنصيب المذكور في الكتاب هو شيء سوى العذاب ثم اختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى عنه وعن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية , في قوله : ينالهم نصيبهم من الكتاب , قالوا : هو السعادة والشقاوة , وقال ابن عباس : ما كتب عليهم من الأعمال , وقال في رواية أخرى عنه : من عمل خيراً جوزي به ومن عمل شراً جوزي به.
وقال قتادة : جزاء أعمالهم التي عملوها.
وقيل معنى ذلك ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر قاله مجاهد والضحاك , وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً , وقال الربيع بن أنس : ينالهم ما كتب لهم في الكتاب من الرزق , وقال محمد بن كعب القرظي : عمله ورزقه وعمره.
وقال ابن زيد : ينالهم نصيبهم من الكتاب من الأعمال والأرزاق والأعمار فإذا

صفحة رقم 227
فرغ هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم , وصحح الطبري هذا القول الآخر وقال : لأن الله تعالى أتبع ذلك بقوله حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم فأبان أن الذي ينالهم هو ما قدر لهم في الدنيا فإذا فرغ توفتهم رسل ربهم.
قال الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى : إنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه.
وقال بعض المحققين : حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بيَّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم فإنه ليس بمانع أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله سبحانه وتعالى لكي يصلحوا ويتوبوا.
قوله تعالى : ( حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ( يعني حتى إذا جاءت هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب رسلنا يعني ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم عند استكمال أعمارهم وأرزاقهم لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى ) قالوا ( يعني : قال الرسل وهم الملائكة للكفار ) أين ما كنتم تدعون من دون الله ( وهذا سؤال توبيخ وتقريع وتبكيت لا سؤال استعلام والمعنى أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله ادعوهم ليدفعوا عنكم ما نزل بكم.
وقيل إن هذا يكون في الآخرة والمعنى حتى إذا جاءتهم رسلنا يعني ملائكة العذاب يتوفونهم يعني يستوفون عددهم عند حشرهم إلى النار قالوا أينما كنتم تدعون يعني شركاء وأولياء تعبدونهم من دون الله فادعوهم ليدفعوا عنكم ما جاءكم من أمر الله ) قالوا ( يعني الكفار مجيبين للرسل ) ضلوا عنا ( يعني بطلوا وذهبوا عنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا ) وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ( يقول الله تعالى وشهد هؤلاء الكفار عند معاينة العذاب أنهم كانوا جاحدين وحدانية الله واعترفوا على أنفسهم بذلك.
)
الأعراف : ( 38 - 39 ) قال ادخلوا في...
" قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " ( قوله عز وجل : ( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس ( يقول الله عز وجل يوم القيامة لمن افترى عليه الكذب وجعل له شريكاً من خلقه : ادخلوا في أمم يعني في جملة أمم قد خلت يعني قد مضت وسلفت وإنما قال قد خلت ولم يقل قد خلوا لأنه أطلق الضمير على الجماعة يعني في جملة جماعة قد خلت من قبلكم يعني من الجن والإنس ) في النار ( أي ادخلوا جميعاً في النار التي هي مستقركم ومأواكم وإنما عنى بالأمم والجماعات والأحزاب وأهل الملل الكافرة من الجن والإنس ) كلما دخلت أمة ( يعني كلما دخلت جماعة النار ) لعنت أختها ( يعني كلما دخلت أمة النار لعنت أختها من أهل ملتها في الدين لا في النسب.
قال السدي : دخلت أهل ملة النار لعنوا أصحابهم على ذلك الدين فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود والنصارى النصارى والصابئون الصابئين والمجوس المجوس تلعن الآخرة الأولى ) حتى إذا اداركوا ( يعني تداركوا وتلاحقوا ) فيها جميعاً ( يعني تلاحقوا واجتمعوا في النار جميعاً وأدرك بعضهم بعضاً واستقروا في النار ) قالت أخراهم لأولاهم ( قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني قال آخر كل أمة لأولها , وقال السدي : قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين , وقال مقاتل : يعني قال أخراهم دخولاً النار وهم الأتباع لأولاهم دخولاً وهم القادة لأن القادة يدخلون النار أولاً ) ربنا هؤلاء أضلونا ( يعني : تقول الأتباع ربنا هؤلاء القادة والرؤساء أضلونا عن الهدى وزينوا لنا طاعة الشيطان , وقيل : إنما قال المتأخرون ذلك لأنهم كانوا يعتقدون تعظيم المتقدمين من

صفحة رقم 228
أسلافهم فسلكوا سبيلهم في الضلالة واتبعوا طريقهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلالة فلما كان يوم القيامة وتبين لهم فساد ما كانوا عليه قالوا ربنا هؤلاء أضلونا لأنا اتبعنا سبيلهم ) فآتهم عذاباً ضعفاً من النار ( أي أضعف عليهم العذاب , قال أبو عبيدة : الضعف هو مثل الشيء مرة واحدة , قال الأزهري والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاز كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضع كلام العرب والضعف في كلامهم ما زاد وليس بمقصور على مثلين وجائز في كلام العرب هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله فأقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور وقال الزجاج في تفسير هذه الآية : فآتهم عذاباً ضعفاُ أي مضاعفاً لأن الضعف في كلام العرب على ضربين أحدهما المثل والآخر أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته ) قال ( يعني قال الله تعالى : ( لكل ضعف ( يعني لأولاكم ضعف ولآخراكم ضعف وقيل معناه للتابع ضعف وللمتبوع ضعف لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعاً ) ولكن لا تعلمون ( يعني ما أعد الله لك فريق من العذاب وقرئ بالياء ومعناه ولكن لا يعلم كل فريق ما أعد الله تعالى من العذاب للفريق الآخر ) وقالت أولاهم ( يعني في الكفر وهم القادة ) لأخراهم ( يعني الأتباع ) فما كان لكم علينا من فضل ( يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم ) فذوقوا العذاب ( وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب ) بما كنتم تكسبون ( يعني بسب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة.
)
الأعراف : ( 40 - 43 ) إن الذين كذبوا...
" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " ( قوله عز وجل : ( إن الذين كذبوا بآياتنا ( يعني كذبوا بدلائل التوحيد فلم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا ) واستكبروا عنها ( أي وتكبروا عن الإيمان بها والتصديق لها وأنفوا عن اتباعها والانقياد لها والعمل بمقتضاها تكبراً ) لا تفتح لهم أبواب السماء ( يعني لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة وإنما يصعد إلى الله تعالى الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه , قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار وتفتح لأرواح المؤمنين.
وفي رواية عن ابن عباس أيضاً قال : لا يصعد لهم قول ولا عمل , وقال ابن جريج : لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم.
وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء قال فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى به في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) وقيل في معنى الآية : لا تنزل عليهم البركة والخير لأن ذلك لا ينزل إلا من السماء فإذا لم تفتح لهم أبواب السماء فلا ينزل عليهم من البركة والخير والرحمة شيء.
وقوله تعالى :

صفحة رقم 229
) ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ( والولوج الدخول والجمل معروف وهو الذكر من الإبل وسم الخياط ثقب الإبرة قال الفراء : الخياط والمخيط ما يخاط به والمراد به الإبرة في هذه الآية وإنما خص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر :
89 ( جسم الجِمال وأحلام العصافير ) 75
وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل فجسم الجمل من أعظم الأجسام وثقب الإبرة من أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالاً فكذلك دخول الكفار الجنة محال ولما وصف الله دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان وقوع الشرط محالاً ثبت أن الموقوف على المحال محال فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعاً.
وقال بعض أهل المعاني : لما علق الله تعالى دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفياً لدخولهم الجنة على التأبيد وذلك لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز وهذا كقولك : لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
قوله تعالى : ( وكذلك نجزي المجرمين ( أي ومثل الذي وصفنا نجزي المجرمين يعني : الكافرين لأنه تقدم من صفتهم أنهم كذبوا بآيات الله واستكبرواعنها وهذه صفة الكفار فوجب حمل لفظ المجرمين على أنهم الكفار ولما بين الله عز وجل أن الكفار لا يدخلون الجنة أبداً بين أنهم من أهل النار ووصف ما أعد لهم فيها فقال تعالى : ( لهم من جهنم مهاد ( يعني لهم من نار جهنم فراش وأصل المهاد التمهيد الذي يقعد عليه ويضطجع عليه كالفراش والبساط ) ومن فوقهم غواش ( جمع غاشية وهي الغطاء كاللحاف ونحوه ومعنى الآية أن الناس محيطة بهم من تحتهم ومن فوقهم , قال محمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي : المهاد الفراش والغواشي اللحف ) وكذلك نجزي الظالمين ( يعني وكذلك نكافئ ونجازي المشركين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
قوله عز وجل : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها ( لما ذكر الله تعالى وعيد الكافرين وما أعد لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعد لهم في الآخرة فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات يعني والذين والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من وحي الله إليه وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني لا نكلف نفساً إلا ما يسعها من الأعمال وما يسهل عليها ويدخل في طوقها وقدرتها وما لا حرج فيه عليها ولا ضيق.
قال الزجاج : الوسع ما يُقدر عليه , وقال مجاهد : معناه إلا ما افترض عليها يعني الذي افترض عليها من وسعها الذي تقدر عليه ولا تعجز عنه وقد غلط من قال إن الوسع بذل المجهود قال أكثر أصحاب المعاني إن قوله تعالى لا نكلف نفساً إلا وسعها اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( لا نكلف نفساً إلا وسعها وإنما يحسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه جنس هذا الكلام لأنه تعالى لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل من وسعهم وطاقتهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم قدرها ومحلها يُتَوصل إليها بالعمل الصالح السهل من غير تحمل كلفة ولا مشقة صعبة.
وقال قوم من أصحاب المعاني هو من تمام الخبر موضعه رفع والعائد محذوف كأنه قال لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها فحذف العائد للعلم به.
قوله تعالى : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ( يعني

صفحة رقم 230
وقلعنا وأخرجنا ما في صدور المؤمنين من غش وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا ومعنى الآية أزلنا تلك الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء خص الله به بعضهم دون بعض ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ودفعها عن أن ترد على القلب روي عن علي رضي الله عنه قال : فينا والله أهل بدر نزلت ) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين ( " وروي عنه أيضاً أنه قال إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : ( ونزعنا ما في صدورهم من غل ( وقيل إن الحسد والغل يزول بدخولهم الجنة
( خ ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يخلص المؤمنون من النار يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن الله لهم في دخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا ) وقال السدي في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحدهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبداً.
وقيل إن درجات أهل الجنة متفاوتة في العلو والكمال فبعض أهل الجنة أعلى من بعض وأخرج الله عز وجل الغل والحسد من صدورهم وأزاله عنهم ونزعه من قلوبهم فلا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب العالية , وأورد على هذا القول كيف يعقل أن الإنسان يرى الدرجات العالية والنعم العظيمة وهو محبوس عنها لا يصل إليها ولا يميل بطبعه إليها ولا يغتم بسبب حرمانه منها وإن كان في لذة ونعيم وأجيب عن هذا بأن الله تعالى قد وعد بإزالة الحقد والحسد من قلوب أهل الجنة حتى تكمل لهم اللذة والسرور حتى إن أحدهم لا يرى نفسه إلا في كمال وزيادة في النعيم الذي هو فيه فيرضى بما هو فيه ولا يحسد أحداً أبداً وبهذا تم نعيمه ولذته وكمل سروره وبهجته.
وقوله تعالى : ( تجري من تحتهم الأنهار ( لما أخر الله تعالى بما أنعم به على أهل الجنة من إزالة الغل والحسد والحقد من صدورم أخبرنا بما أنعم به عليهم من اللذات والخيرات والمسرات ) وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ( يعني أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة قالوا الحمد لله الذي وفقنا وأرشدنا للعمل الذي هذا ثوابه وتفضل علينا رحمة منه وإحساناً وصرف عنا عذاب جهنم بفضله وكرمه فله الحمد على ذلك ) وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ( يعني وما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أنه أرشدنا الله إليه ووفقنا بفضله ومنه وكرمه وفي الآية دليل على أن المهتدي من هداه الله ومن لم يهده الله فليس بمهتد ) لقد جاءت رسل ربنا بالحق ( يعني أن أهل النعيم إذا دخلوها ورأوا ما أعد الله لهم فيها من النعيم قالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق يعني أنهم رأوا

صفحة رقم 231
ما وعدهم به الرسل عياناً ) ونودوا أن تلكم الجنة ( يعني : ونادى منادي أهل الجنة إن هذه الجنة التي كانت الرسل وعدتكم بها في الدنيا واختلفوا في المنادى فقيل هو الله عز وجل وقيل الملائكة ينادون بأمر الله عز وجل وقيل هذا النداء يكون في الجنة ( م ).
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) وقوله تعالى : ( أورثتموها بما كنتم تعلمون ( روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة ) زاد في رواية فذلك قوله تعالى : ( أورثتموها بما كنتم تعملون ( قال بعضهم لما سمى الله الكافر ميتاً بقوله أموات غير أحياء وسمى المؤمن حياً بقوله : لينذر من كان حياً وفي الشرع أن الأحياء يرثون الأموات فقال أورثتموها يعني أن المؤمن حي وهو يرث الكافر منزله من الجنة لأنه في حكم الميت.
وقيل معناه أن أمرهم يؤول إلى الجنة كما أن الميراث يؤول إلى الوارث , وقيل : أورثتموها عن الأعمال الصالحة التي عملتموها لأن الجنة جعلت لهم جزاء وثواباً على الأعمال ويعارض هذا القول ما ورد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله ) فإن دخول الجنة برحمة الله وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال.
وقيل إن العمل الصالح لن يناله المؤمن ولن يبلغه إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وإذا كان العمل الصالح بسبب الرحمة كان دخول الجنة في الحقيقة برحمة الله تعالى وجعلها الله ثواباً وجزاء لهم على تلك الأعمال الصالحة التي عملوها في دار الدنيا والله أعلم.
)
الأعراف : ( 44 ) ونادى أصحاب الجنة...
" ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " ( قوله تعالى : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ( يعني ونادى أهل الجنة أهل النار وهذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار تقول أهل الجنة يا أهل النار ) أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ( يعني ما وعدنا في الدنيا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وطاعته حقاً ) فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ( يعني من العذاب على الكفر ) قالوا نعم ( يعني قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة نعم وجدنا ذلك حقاً.
فإن قلت : هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض ؟
قلت : ظاهر قوله ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار يفيد العموم والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا.
فإن قلت : إذا كانت الجنة في السماء والنار في الأرض فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء أو كيف يصح أن يقع.
قلت : إن الله تعالى قادر على أن يقوي الأصوات والأسماء فيصير البعيد كالقريب.
وقوله تعالى : ( فأذن مؤذن بينهم ( يعني نادى مناد وأعلم لأن أصل الأذان في اللغة الإعلام.
والمعنى نادى مناد أسمع الفريقين وهذا المنادي من الملائكة وقيل إنه إسرافيل صاحب الصور ذكره للواحدي ) أن لعنة الله على الظالمين ( يعني يقول المؤذن إن

صفحة رقم 232
لعنة الله على الظالمين ثم فسر الظالمين من هم.
)
الأعراف : ( 45 - 46 ) الذين يصدون عن...
" الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون " ( قوله تعالى : ( الذين يصدون عن سبيل الله ( يعني الذين يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام ) ويبغونها عوجاً ( يعني ويحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها , وقيل معناه أنهم يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله وذلك أنهم طلبوا سبيل الله بالصلاة لغير الله وتعظيم ما لم يعظمه الله فأخطؤوا الطريق وضلوا عن السبيل ) وهم بالآخرة كافرون ( يعني وهم بكون الآخرة واقعة جاحدون منكرون لها.
قوله عز وجل : ( وبينهما حجاب ( يعني بين الجنة والنار وقيل بين أهل الجنة وأهل النار حجاب وهو المذكور في قوله تعالى : ( فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ( " قال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار.
وقال السدي وبينها حجاب هو السور وهو الأعراف وقوله : ( وعلى الأعراف رجال ( الأعراف : جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض ومنه قيل عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض , وقال السدي : إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الأعراف الشيء المشرف وعنه قال الأعراف سور كعرف الديك وعنه أن الأعراف جبل بين الجنة والنار.
يحبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار واختلف العلماء في صلة الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك فروي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتخلفت بهم حسناتهم عن النار فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله تعالى فيهم , قال بعضهم : إنما جعلوا على الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار فهم لا من أهل الجنة ولا من أهل النار لكن الله تعالى يدخلهم الجنة بفضله ورحمته لأنه ليس في الآخرة دار إلا الجنة أو النار.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر بواحدة دخل الجنة من كانت سيئاته أكثر بواحدة دخل النار وإن الميزان يخف ويثقل بمثال حبة من خردل ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الأعراف فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم

صفحة رقم 233
وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فهنالك يقول الله تعالى : ( لم يدخلوها وهم يطمعون ( فكان الطمع دخولاً قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : إذا عمل العبد حسنة كتب له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب له إلا واحدة ثم قال هلك من غلب آحاده عشراته , وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف هم قوم استوت حسناتهم وسيئآتهم فهم بذلك المكان حتى إذا أراد الله تعالى أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمونون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفاً فيدخلون الجنة ذكره ابن جرير في تفسيره.
وقال شرحبيل بن سعد : أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو من غير إذن آبائهم.
ورواه الطبري بسنده إلى يحيى بن غيل مولى لبني هاشم عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أصحاب الأعراف فقال ( هم قوم قتلوا عصاة لآبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلو الجنة ) زاد في رواية ( فهُم آخر من يدخل الجنة ) وذكر ابن الجوزي : إنهم قوم رضي آباؤهم دون أمهاتهم وأمهاتهم دون آبائهم.
ورواه عن إبراهيم وذكر عن أبي صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنهم أولاد الزنا , وقيل : إنهم الذين ماتوا في الفترة وفيه بعد لأن آخر أمر أصحاب الأعراف إلى الجنة وهؤلاء الذين ماتوا في الفترة والله أعلم بحالهم وهو يتولى أمرهم وقيل إنهم أولاد المشركين الذين ماتوا أطفالاً وهذا القول يرجع معناه إلى القول الذي قبله لأنه داخل في حكمه فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى.
وقال مجاهد : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء فعلى هذا القول إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة أو ليرى غيرهم شرفهم وفضلهم وقيل إنهم أنبياء حكاه ابن الأنباري وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزاً لهم على سائر أهل القيامة وإظهاراً لفضلهم وعلو مرتبتهم وليكونوا مشرفين على أهل الجنة والنار ومطلعين على أحوالهم ومقادير ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار.
وقال أبو مجلز : أصحاب الأعراف ملائكة يعرفون الفريقين بسيماهم يعني يعرفون أهل الجنة وأهل النار , فقيل لأبي مجلز : إن الله تعالى يقول وعلى الأعراف رجال وأنت تقول إنهم ملائكة فقال إن الملائكة ذكور ليسوا بإناث وضعَّف الطبري قول أبي مجلز قال : لأن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على الذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق وحاصل هذه الأقوال أن أصحاب الأعراف أفضل من أهل الجنة لأنهم أعلى منهم منزلة وأفضل.
وقيل : إنما أجلسهم الله في ذلك المكان العالي ليميزوا بين أهل الجنة وبين أهل النار والله أعلم بمراده وأسراره كتابه.
قوله عز وجل : ( يعرفون كلاًّ بسيماهم ( يعني : أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة بسيماهم وذلك ببياض وجوههم ونضرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسيماهم وذلك بسواد وجوههم وزرقة عيونهم والسيما العلامة الدالة على الشيء وأصله من السمة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوا ببياض الوجوه وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه.
فإن قلنا إن أصحاب الأعراف من

صفحة رقم 234
استوت حسناتهم وسيئاتهم وهم دون أهل الجنة في الدرجة كان وقوفهم على الأعراف ليكونوا درجة متوسطة بين الجنة والنار فإذا رأوا أهل الجنة وعرفوهم ببياض وجوههم ونادوهم أن سلام عليكم وهو قوله تعالى ) ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ( يعني : نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة أن سلام عليكم يعني سلمتم من الآفات وحصل لكم الأمن والسلامة وإذا رأوا أهل النار يعرفونهم بسواد وجوههم ) قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( " وإن قلنا : إن أصحاب الأعراف هم الأشراف والأفاضل من أهل الجنة كان جلوسهم على الأعراف ليطلعوا على أهل الجنة وأهل النار ثم لينقلهم الله عز وجل إلى الدرجات العلية في الجنة.
وقوله تعالى : ( لم يدخلوها وهم يطمعون ( يعني في دخول الجنة.
قال الحسن : ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم.
)
الأعراف : ( 47 - 49 ) وإذا صرفت أبصارهم...
" وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " ( قوله تعالى : ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ( يعني وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار يعني وجاههم وحيالهم فنظروا إليهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب ) قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( يعني الذين ظلموا أنفسهم بالشرك , وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أصحاب الأعراف إذا نظروا لأهل النار وعرفوهم قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين والمعنى أن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وما هم فيه من العذاب تضرعوا إلى الله تعالى وسألوه أن لا يجعلهم منهم.
قوله تعالى : ( ونادى أصحاب الأعراف رجالاً ( يعني ونادى أصحاب الأعراف رجالاً كانوا عظماء في الدنيا وهم من أهل النار ) يعرفونهم بسيماهم ( يعني سيما أهل النار ) قالوا ( يعني أصحاب الأعراف لهؤلاء الذين عرفوهم في النار ) ما أغنى عنكم جمعكم ( يعني ما كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا ) وما كنتم تستكبرون ( يعني وما أغنى عنكم تكبركم عن الإيمان شيئاً.
قال الكلبي : ينادونهم وهم على السور يا وليد بن المغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ويا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزئون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار ) أهؤلاء ( لفظ استفهام يعني أهؤلاء الضعفاء ) الذين أقسمتم ( بالله ) لا ينالهم الله برحمة ( يعني أنكم حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة وقد دخلوا الجنة ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف ) ادخلوا الجنة ( بفضلي ورحمتي ) لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ( وقيل إن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأصحاب النار ما أخبر الله عنهم قال لهم أهل النار إن أولئك دخلوا الجنة وأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك ويقسمون إنهم لا يدخلون الجنة ولا ينالهم الله برحمة فتقول الملائكة لأهل النار أهؤلاء يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف : ادخلوا الجنة برحمة الله لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
)
الأعراف : ( 50 - 53 ) ونادى أصحاب النار...
" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " ( ) ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا (

صفحة رقم 235
قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج فقالوا : يا ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم وينظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادون أي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول قد احترقت أفضْ عليّ من الماء فيقال لهم : أجيبوهم فيقولون إن الله حرمهما على الكافرين.
ومعنى الآية أن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة إذا استقروا فيها وذلك عند نزول البلاء بأهل النار وما يلقون من شدة العطش والجوع عقوبة لهم من الله على ما سلف منهم في الدنيا من الكفر والمعاصي.
يقول أهل النار لأهل الجنة يا أهل الجنة أفيضوا علينا من الماء يعني صبوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله يعني أو أطعمونا مما رزقكم الله ووسعوا علينا من طعام الجنة فيجيبهم أهل الجنة بقولهم ) إن الله حرمهما على الكافرين ( وهذا الجواب يفيد الحرمان , وقال بعضهم : لما كانت شهواتهم في الدنيا في لذة الأكل والشرب عذبهم الله في الآخرة بشدة الجوع والعطش فسألوا ما كانوا يعتادونه في الدنيا في طلب الأكل والشرب فأجيبوا بأن الله حرمهما على الكافرين يعني طعام الجنة وشرابها ثم وصف الكافرين فقال تعالى : ( الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً ( يعني أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم ولهوا عنه.
وأصل اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه.
ويقال لهوت بكذا ولهيبت عن كذا أي اشتغلت عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم المستهزؤون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعام إليه وهزؤوا به استهزاء بالله عز وجل , وقيل : هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية : وقيل : معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهواً ولعباً لا يذكرون الله فيه ) وغرتهم الحياة الدنيا ( يعني وخدعهم عاجل ما هم فيه من خصب العيش ولذته وشغلهم ما هم فيه من ذلك عن الإيمان بالله ورسوله وعن الأخذ بنصيبهم من الآخرة حتى أتتهم المنية على ذلك.
والغرة غفلة في اليقظة وهو طمع الإنسان في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال والجاه ونيل الشهوات فإذا حصل ذلك صار محجوباً عن الدين وطلبِ الخلاص لأنه غريق في الدنيا بلذاته وما هو فيه من ذلك ولما وصفهم الله تعالى بهذه الصفات الذميمة قال ) فاليوم ( يوم القيامة ) ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ( يعني فاليوم نتركهم في العذاب المهين جياعاً عطاشاً كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا.
وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر.
وقيل معناه نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار كما تركوا العمل وأعرضوا عن الإيمان إعراض الناسي.
سمى الله تعالى جزاء نسيانهم بالنسيان على المجاز لأن الله تعالى لا ينسى شيئاً فهو كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فيكون المراد من هذا النسيان أن الله تعالى لا يجيب دعاءهم ولا رحم ضعفهم وزلتهم بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل ) وما كانوا بآياتنا يجحدون ( يعني ونتركهم في النار كما كانوا بدلائل وحدانيتنا يكذبون.
قوله تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب ( يعني ولقد جئنا هؤلاء الكفار بالقرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد ) فصلناه على علم ( أي بيناه على علم منا بما نفصله ونبينه ) هدى ورحمة لقوم يؤمنون ( أي جعلنا القرآن هادياً وذا رحمة لقوم يؤمنون ) هل ينظرون ( يعني ينتظر هؤلاء الكفار الذين كذبوا

صفحة رقم 236
بآياتنا وجحدوها ولم يؤمنوا بها ) إلا تأويله ( يعني هل ينظرون ويتوقعون إلا ما وعدوا به على ألسنة الرسل من العذاب وأن مصيرهم إلى النار والتأويل ما يؤول إليه الشيء ) يوم يأتي تأويله ( يعني يوم القيامة لأنه يوم الجزاء وما تؤول إليه أمورهم ) يقول الذين نسوه من قبل ( يعني : يقول الذين تركوا العمل بالقرآن ولم يؤمنوا به يوم القيامة عند معاينة العذاب ) قد جاءت رسل ربنا بالحق ( أقروا على أنفسهم واعترفوا حين لا ينفعهم ذلك الاعتراف والإقرار.
والمعنى أن الكفَّار أقرو بأن الذي جاءت به الرسل من الإيمان والتصديق والحشر والنشر والبعث يوم القيامة والثواب والعقاب حق وصدق وإنما أقروا بهذه الأشياء لأنهم شاهدوها معاينة وذلك حين لا ينفعهم ولما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا ) فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ( يعني أنه ليس لنا طريق إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب إلا أن يشفع لنا شفيع عند ربنا فيقبل شفاعته فينا فيخلصنا من هذا العذاب أو نرد إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل فيها فنبدل الكفر بالتوحيد والإيمان والمعاصي بالطاعة والإنابة ) قد خسروا أنفسهم ( يعني أن الذي طلبوه لا يحصل لهم فتبين خسرانهم وإهلاكهم أنفسهم لأنهم كانوا في الدنيا أول مرة فلم يعملوا بطاعة الله ولو رُدوا إلى الدنيا لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعصيان لسابق علم الله تعالى فيهم ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ( يعني وبطل وذهب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعملوا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
)
الأعراف : ( 54 ) إن ربكم الله...
" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " ( قوله عز وجل : ( إن ربكم الله ( يعني إن سيدكم ومالككم ومصلح أموركم وموصل الخيرات إليكم والذي يدفع عنكم المكاره وهو الله ) الذي خلق السموات والأرض ( أصل الخلق في اللغة التقدير ويستعمل في إيداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم.
فقوله : خلق السموات والأرض يعني أبدعهما وأنشأ خلقهما على غير مثال سبق وقدر أحوالهما ) في ستة أيام ( فإن قلت : اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وذلك المقدار هو من طلوع الشمس إلى غروبها فكيف قال في ستة أيام ولم يكن شمس ولا سماء قلت معناه في مقدار ستة أيام فهو كقوله ) ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ( " يعني على مقادير البكر والعشي في الدنيا لأن الجنة لا ليل فيها ولا نهار.
واختلف العلماء في اليوم الذي ابتدأ الله عز وجل بخلق الأشياء فيه فقيل في يوم السبت وهو قول محمد بن إسحاق وغيره , ويدل على صحة هذا القول ما روى مسلم في إفراده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ( أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيدي فقال ) خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق الجبال يوم الأحد وخلق الشجرة يوم الأثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ( وهذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم ففيه مقال وقد أنكره بعض العلماء لما فيه من المخالفة للآية الكريمة لأن الله تعالى يقول : خلق السموات والأرض في ستة أيام.
وقال في آخر آية أخرى : ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام فدل بهذين النصين على أن جميع الخلق تم وعمل في ستة أيام والذي في الحديث أن بعض الخلق وقع في سبعة أيام وذلك مجموع أيام الأسبوع فلهذا السبب أنكره وأنكره من العلماء وقد ذكر الأزهري في كتابه تهذيب اللغة ما يقوي الحديث فقال : وقال ابن الأنباري السبت القطع وسمي يوم السبت

صفحة رقم 237
لأن الله تعالى ابتدأ الخلق يوم السبت وقطع فيه بعض خلق السموات والأرض وقيل : إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد وهو قول عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير الطبري , قال الطبري : خلق الله السموات والأرض في ستة أيام وذلك يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة , وروي بسنده عن مجاهد قال : بدأ خلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وبدأ الخلق يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وجمع الخلق في يوم الجمعة وتهودت اليهود في يوم السبت ويوم الستة الأيام كالألف سنة مما تعدون تعدون ويعضد هذا القول ما حكاه صاحب المحكم ابن سيده قال : وسمي سابع الأسبوع سبتاً لأن ابتداء الخلق كان من يوم الأحد إلى يوم الجمعة ولم يكن في السبت خلق.
قال أصحاب الأخبار والسير والتواريخ : إن الله تعالى خلق التربة التي هي الأرض بلا دحو ولا بسط في يوم الأحد والاثنين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات في يومين وهما الثلاثاء والأربعاء ثم دحا الأرض وبسطها وطحاها وأخرج ماءها ومرعاها وخلق دوابها ووحشها وجميع ما فيها في يومين وهما الخميس والجمعة وخلق آدم في يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة وقبل خلق الله عز وجل التربة يوم الأحد ثم استوى إلى السماء فخلقها وجميع ما فيها يوم الاثنين والثلاثاء ثم مد الأرض ودحاها يوم الأربعاء والخميس وخلق آدم يوم الجمعة وأسكنه الجنة هو وزوجته حواء ثم أهبطهما إلى الأرض في آخر ساعة من يوم الجمعة.
وقيل : أول ما خلق الله القلم ثم اللوح فكتب فيه ما كان وما سيكون وما خلق وما هو خالق إلى يوم القيامة ثم خلق الظلمة والنور ثم خلق العرش ثم خلق السماء من درة بيضاء ثم خلق التربة ثم خلق السموات وما فيها من نجوم وشمس وقمر ثم مد الأرض وبسطها من التربة التي خلقها أولاً ثم خلق جميع ما فيها من جبال وشجر ودواب وغير ذلك ثم خلق آدم آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة وفيه أهبط إلى الأرض فتكامل جميع الخلق في ستة أيام كل يوم مقداره ألف سنة وهذا قول جمهور العلماء وقيل في ستة أيام من أيام الدنيا.
فإن قلت إن الله عز وجل قادر على أن يخلق جميع الخلق في لحظة واحدة ومنه قوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر ( " فما الفائدة في خلق السموات والأرض في ستة أيام وما الحكمة في ذلك ؟
قلت : إن الله سبحانه وتعالى , وإن كان قادراً على خلق جميع الأشياء في لحظة واحدة , إلا أنه تعالى جعل لكل شيء حداً محدوداً ووقتاً معلوماً يدخل في الوجود إلا في ذلك الوقت والمقصود من ذلك تعليم عباده التثبت والتأني في الأمور.
وقال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادراً على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة فخلقهن في ستة أيام تعليماً لخلقه التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث ( التأني من الله والعجلة من الشيطان ) وقيل إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة فلعله أن يخطر ببال بعضهم أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الأتفاق فإذا أحدث شيئاً بعد شيء على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة.
وقيل : إن الله تعالى أراد أن يوقع في كل يوم أمراً من أمره حتى تستعظمه الملائكة وغيرهم ممن شاهده.
وقيل إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة والتثبت أبلغ في الحكة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن فيكون.
وقوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ( العرش في اللغة : السرير , وقيل : هو ما علا فأظل وسمي مجلس السلطان عرشاَ اعتباراً

صفحة رقم 238
بعلوه.
ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز.
يقال فلان فل عرشه بمعنى ذهب عزه وملكه وسلطانه.
قال الراغب في كتابه مفردات القرآن : وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب.
وأما استوى بمعنى استقر فقد رواه البيهقي في كتابه الأسماء والصفات برواية كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها , وقال : أما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه كنحو مذهبهم في أمثال ذلك , وروى بسنده عن عبد الله بن وهب أنه قال : كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه ؟ قال : فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه فأخرج الرجل.
وفي رواية يحيى بن يحيى قال : كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه ؟ فأطرق مالك برأسه حتى علته الرحضاء ثم قال الاستهواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعاً أفمر به أن يخرج.
روى البيهقي بسنده عن ابن عيينة قال : ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكون عنه.
قال البيهقي : والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي.
قال البغوي أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل وذكر حديث مالك بن أنس مع الرجل الذي سأله عن الاستواء وقد تقدم.
وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة اقرؤوها كما جاءت بلا كيف.
وقال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله بعد ذكره الدلائل العقلية والسمعية : أنه لا يمكن حمل قوله تعالى ثم استوى على العرش على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول القطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى هو الذي قررنا في تفسير قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } " وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه والمذهب الثاني : أنا نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان : الأول , ما ذكره القفال فقال العرش في كلامهم هر السرير الذي يجلس عليه الملك ثم جعل ثل العرش كناية عن نقض الملك يقال ثل عرشه انتقض ملكه وإذا استقام له ملكه واطرد أمره ونفذ حكمه قالوا استوى على عرشه واستوى على سرير ملكه هذا ما قاله القفال والذي قاله القفال حق وصواب ثم قال الله تعالى دل على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم واستقر في قلوبهم تنبيهاً على عظمة الله جل جلاله وكمال قدرته وذلك مشروط بنفي التشبيه والمراد منه نفاذ القدرة وجريان المشيئة.
قال ويدل على صحة هذا قوله في سورة يونس ) ثم استوى على العرش يدبر } " فقوله يدبر الأمر جرى مجرى التفسير لقوله ثم استوى على

صفحة رقم 239
العرش وأورد على هذا القول أن الله تعالى لم يكن مستوياً على الملك قبل خلق السموات والأرض والله تعالى منزه عن ذلك وأجيب عنه بأن الله تعالى كان قبل خلق السموات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال شبع زيد إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض والقول الثاني : أن يكون استوى بمعنى استولى وهذا مذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله الشاعر :
قد استوى بشر على العراقِ
من غير سيف ودم مهراقِ
وعلى هذا القول إنما خص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات ورد هذا القول بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل ملكاً للأشياء كلها ومستولياً عليها , فأي تخصيص للعرش هنا دون غيره من المخلوقات.
ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلاً سماه استواء كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقاً ونعمة وغيرهما من أفعاله ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله تعالى : ثم استوى على العرش.
وثم للتراخي والتراخي إنما يكون في الأفعال وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة وحكى الاستاذ أبو بكر بن فورك عن بعض أصحابنا أنه قال : استوى بمعنى علا من العلو قال ولا يريد بذلك علواً بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكناً فيه ولكن يريد معنى نفي التحيز عنه وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ووصف الله تعالى بذلك طريقة الخبر.
ولا يتعدى ما ورد به الخبر قال البيهقي رحمه الله تعالى وهو على هذه الطريقة من صفات الذات وكلمة ثم تعلقت بالمستوي عليه لا بالاستواء.
قال وقد أشار أبو الحسن الأشعري إلى هذه الطريقة حكاية فقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات قال وجوابي هو الأول وهو أن الله تعالى مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أن لا تحله ولا يحلها ولا يماسها ولا يشبهها وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علواً كبيراً وقد قال بعض أصحابنا : إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه.
وروي أن ابن الأعرابي جاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن ما معنى قوله تعالى الرحمن على العرش استوى ؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر فقال الرجل : إنما معنى قوله استوى أي استولى.
فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك أن العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيل لمن غلب قد استولى عليه والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر لا كما تظنه البشر والله أعلم.
وقوله تعالى : ( يغشى الليل النهار ( يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار لدلالة الكلام عليه ) يطلبه حثيثاً ( يعني سريعاً , وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهما الآخر ويخلفه فكأنه يطلبه , حكى الإمام فخر الدين الرازي عن القفال أنه قال : إن الله تعالى لما أخبر عباده باستوائه على العرش أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه منها لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات.
قال الإمام.
واعلم أنه سبحانه وتعالى وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها بتحرك الفلك الأعظم ثلاث آلاف ميل وهي ألف فرسخ فلهذا قال تعالى يطلبه حثيثاً لسرعة حركته ) والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ( معنى

صفحة رقم 240
التسخير التذليل وقال الزجاج وخلق هذه الأشياء جارية في مجاريها بأمره وقال المفسرون : يعني بتسخيرهن تذليلهن لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هي قادرات بأنفسهن وإنما هن يتصرفن في متصرفاتهن على إرادة المدبر لهن الحكيم في تدبيرهن وتصريفهن على ما أراد منهن والمراد بالأمر في قوله بأمره نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمة قدرته ومنهم من حمل الأمر على الأمر الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا وخراب هذا العالم.
فإن قلت : إن الشمس والقمر من النجوم فلم أفردهما بالذكر ثم عطف عليهما ذكر النجوم ؟
قلت : إنما أفردهما بالذكر لبيان شرفهما على سائر الكواكب لما فيهما من الإشراق والنور وسيرهما في المنازل لتعرف الأوقات فهو كقوله : من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فعطف جبريل وميكال على ذكر الملائكة وإن كانا من الملائكة لبيان شرفهما وفضلهما على غيرهما من الملائكة وقوله تعالى : ( ألا له الخلق والأمر ( يعني : له الخلق لأنه خلقهم وله أن يأمر فيهم بما أراد وله أن يحكم فيهم بما شاء وعلى هذا المعنى الأمر هنا الذي هو نقيض النهي , واستخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق فقال : إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله.
وقيل : معناه أن جميع ما في العالم لله عز وجل والخلق له لأنه خلقهم وجميع الأمور تجري بقضائه وقدره فهو مجريها ومنشئها فلا يبقى بعد هذا لأحد شيء , وقيل : المراد بالأمر هنا الإرادة لأن الغرض من الآية تعظيم القدرة وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب وله الأمر المطلق وليس لأحد أمر غيره فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأجد من خلقه عليه ) تبارك الله ( يعني تمجد وتعظم وارتفع , وقال الزجاج : تبارك تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خير وقيل معناه تعالى وتعظم الله ) رب العالمين ( يعني أنه هو الذي يستحق التعظيم وذلك أن الله تعالىلما افتتح هذه الآية بقوله : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ( " وذكر أشياء من عظيم خلقه وأن له الخلق والأمر والنهي والقدرة عليهم ختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق والثناء والتعظيم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما.
معناه جاء بكل بركة.
وقيل : تبارك معناه تقدس والتقديس الطهارة.
وقيل معناه باسمه يتبرك في كل شيء وقال المحققون : معنى هذه الصفة ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال , وأصل البركة الثبوت ويقال تبارك الله ولا يقال متبارك ولا مبارك لأنه لم يرد به التوقيف.
)
الأعراف : ( 55 - 56 ) ادعوا ربكم تضرعا...
" ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين " ( قوله عز وجل : ( ادعوا ربكم ( قيل معناه اعبدوا ربكم لأن معنى الدعاء طلب الخير من الله تعالى وهذه الصفة العبادة ولأنه تعالى عطف عليه قوله وادعوه خوفاً وطمعاً والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه.
وقيل : المراد به حقيقة الدعاء هو الصحيح لأن الدعاء هو السؤال والطلب وهو نوع من أنواع العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب وهو عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم حاجته , وهو قادر على إيصالها إلى الداعي فعند ذلك يعرف العبد نفسه بالعجز والنقص ويعرف ربه بالقدرة والكمال وهو المراد من قوله تعالى : ( تضرعاً ( يعني ادعوا ربكم تذللاً واستكانة , وهو إظهار الذل في النفس

صفحة رقم 241
والخشوع.
يقال : ضرع فلان لفلان إذا أذل له وخشع.
وقال الزجاج : تضرعاً يعني تملقاً وحقيقته أن ندعوه خاضعين خاشعين متعبدين بالدعاء له تعالى ) وخفية ( يعني سراً في أنفسكم وهو ضد العلانية والأدب في الدعاء أن يكون خفياً لهذه الآية قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وأن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال تعالى : ( إذ نادى ربه نداء خفياً ( ) ق ) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً , إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) قال أبو موسى رضي الله عنه وأنا خلقه أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في نفسي فقال : ( يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ) قلت بلى يا رسول الله قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أربعوا على أنفسكم ) يعني ارفقوا بها وأقصروا عن الصياح في الدعاء.
وقوله تعالى : ( إنه لا يحب المعتدين ( يعني في الدعاء , وقال أبو مجلز : هم الذين يسألون منازل الأنبياء.
عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها قال أي بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء ) أخرجه أبو داود.
وقال ابن جريج : الاعتداء رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء.
وقيل : الاعتداء مجاوزة الحد في كل شيء فكل من خالف أمر الله ونهيه فقد اعتدى ودخل تحت قوله تعالى : ( إنه لا يحب المعتدين ( وفرع بعض أرباب الطريقة على قوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ( هل الأفضل إظهار العبادات أم لا فذهب بعضهم إلى أن إخفاء الطاعات والعبادات أفضل من إظهارها لهذه الآية ولكونها أبعد عن الرياء وذهب بعضهم إلى إن إظهارها أفضل ليقتدي به الغير فيعمل مثل عمله وتوسط الشيخ محمد بن عبد الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء , فالأولى إخفاء العبادات صوناً لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى التمكين بحيث صار مبايناً شائبة الرياء كأن الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به ؛ وذهب بعضهم إلى أن إظهار العبادات المفروضات أفضل من إخفائها فالصلاة المكتوبة في المسجد أفضل من صلاته في بيته وصلاة النفل في البيت أفضل من صلاته في المسجد وكذا إظهار الزكاة أفضل من إخفائها وإخفاء صدقة التطوع أفضل من أظهارها ويقاس على هذا سائر العبادات قوله تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ( يعني ولا تفسدوا أيها الناس في الأرض بالمعاصي والكفر والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل وبيان الشرائع والدعاء إلى طاعة الله تعالى , وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي.
قال ابن عطية : لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بسبب معاصيكم فعلى هذا يكون معنى قوله بعد إصلاحها يعني بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
وقيل معنى الآية : ولا تفسدوا في الأرض شيئاً بعد أن أصلحه الله تعالى فيدخل فيه المنع من إتلاف النفس بالقتل أو إفسادها بقطع بعض الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة وأخذه من الغير بوجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر واعتقاد البدع والأهواء المضلة

صفحة رقم 242
وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى وإفساد العقول بسبب شرب المسكر وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة فمنع الله من إدخال الفساد في ماهيتها.
وقوله تعالى : ( وادعوه خوفاً وطمعاً ( أصل الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وقيل هو توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له والمعنى وادعوه خوفاً منه ومن عقابه وطمعاً فيما عنده من جزيل ثوابه.
وقال ابن جريج : العدل معناه خوف والطمع الفضل.
وقيل معناه ادعوه خوفاً من الرياء في الذكر والدعاء طمعاً في الإجابة.
فإن قلت قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعاً وخفية وقال هنا وادعوه وهذا هو عطف الشيء على نفسه فما فائدة ذلك ؟ قلت : الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم أي ليكن الدعاء مقروناً بالتضرع والإخبات وقوله وادعوه خوفاً وطمعاً أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء وقيل معناه كونوا جامعين في أنفسكم من بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما ) إن رحمت الله ( أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن القرة وإذا وصف بها الباري جل وعز فليس يراب بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والأنعام على عباده وإيصال الخير إليهم.
وقيل : هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات ) قريب من المحسنين ( قال سعيد بن جبير : الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ.
وقيل إن تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة وكون الرحمة قريبة من المحسنين لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
)
الأعراف : ( 57 - 58 ) وهو الذي يرسل...
" وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " ( قوله عز وجل : ( وهو الذي يرسل الرياح ( هذا عطف على ما قبله.
والمعنى أن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح ) بشراً ( قرئ نشراً بالنون أراد جمع نشور وهي الريح الطيبة الهبوب التي تهب من كل ناحية , وقيل : هو جمع ناشر يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها.
وقال الفراء : النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب.
وقال ابن الأنباري : النشر المنتشرة الواسعة الهبوب.
وقيل : النشر خلاف الطيّ فيحتمل أنها كانت بانقطاعها كالمطوية فانتشرت بمعنى أرسلت.
وقرئ بشراً بالباء جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة والرياح أربعة الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والشمال وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي والجنوب وهي القبلية.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ) بين يدي رحمته ( يعني أمام

صفحة رقم 243
المطر الذي هو رحمته وإنما سماه رحمة لأنه سبب لحياة الأرض الميتة.
قال أبو بكر بن الأنباري رحمه الله تعالى : اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة تقول هذه تكون في الفتن بين يدي الساعة يريدون قبل أن تقوم الساعة تشبيهاً وتمثيلاً بما إذا كانت يد الإنسان تتقدمانه كذلك الرياح تتقدم المطر وتؤذن به.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئاً وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها ) رواه الشافعي رضي الله عنه بطوله وأخرجه أبو داود في المسند عنه.
وقال كعب الأحبار : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وقوله تعالى : ( حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً ( يقال أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحاباً لانسحابه في الهواء.
والمعنى : حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيه من الماء قال السدي : إن الله تبارك وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلقيان فتخرجه من ثم , ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك.
وقيل إن الله تعالى دبر بحكمته أن الرياح تتحرك تحريكاً شديداً فتثير السحاب ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد ويحمل الماء ثم تسوقه إلى حيث يشاء الله عز وجل وهو قوله تعالى : ( سقناه لبلد ميت ( يعني إلى بلد فتكون اللام بمعنى إلى.
وقيل : معناه لأجل حياة بلد ميت وإنما قال سقنا , لأن لفظ السحاب مذكر وإن كان جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً نظراً إلى اللفظ , قال الأزهري رحمه الله تعالى : قال الليث البلد كل موضع من الأرض عامراً أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد.
زاد غيره والمفازة تسمى بلدة , لكونها مسكن الوحش والجن.
قال الأعشى :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
ومعنى الآية : إنا سقنا السحاب إلى بلد ميت محتاج لإنزال الماء لم ينزل فيه غيث ولم تنبت فيه خضرة ) فأنزلنا به الماء ( اختلفوا في الضمير في قوله تعالى به إلى ماذا يعود ؟ فقال الزجاج رحمه الله وابن الأنباري جائز أن يكون المعنى فأنزلنا بالبلد الميت الماء وجائز أن يكون المعنى وأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لنزول الماء ) فأخرجنا به ( يعني بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات , وقيل : يحتمل أن يكون المعنى فأخرجنا بذلك الماء ) من كل الثمرات ( يعني وأخرجنا بذلك البلد بعد موته وجد به من أصناف الثمار والزورع ) كذلك نخرج الموتى ( يعني كما أحيينا البلد الميت كذلك نخرج الموتى أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودروس آثارهم واختلفوا في وجه التشبيه , فقيل : إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال امطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضاً.
قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما : إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر الله تعالى عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحيوان أربعين سنة

صفحة رقم 244
فينبتون كما ينبت الزرع من الماء.
وفي رواية : أربعين يوماً فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون : قال مجاهد : إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تنشق الأرض ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض به وقيل إنما وقع التشبيه بأصل الأحياء والمعنى أنه تعالى كما أحياء هذا البلد الميت بعد خرابه وموته فأنبت فيه الزرع والشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيى الموتى ويخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتاً ورمماً بالية لأن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على أن يحييهم ويخرجهم من قبورهم إلى حشرهم ونشرهم ) لعلكم تذكرون ( الخطاب لمنكري البعث , يقول : إنكم شاهدتم الأشجار وفي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأزهار والأوراق والثمار ثم إن الله تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها.
والمعنى : إنما وصفت ما وصفت من التشبيه والتمثيل لكي تعتبروا وتتذكروا وتعلموا أن من فعل ذلك كان هو الذي يعيد ويحيي.
قوله تعالى : ( والبلد الطيب ( يعني والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة ) يخرج نباته بإذن ربه ( يعني إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن الله عز وجل : ( والذي خبث لا يخرج ( يعني والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة لا يخرج يعني لا يخرج نباته ) إلا نكداً ( يعني عسراً بمشقة وكلفة قال الشاعر في المعنى يذم إنساناً :
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن
أعطيت أعطيت تافهاً نكدا
يعني بالتافه القليل بالنكد العسير ومعناه : إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة.
قال المفسرون : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والثمار وكذلك المؤمن إذ سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهرت منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدقه ولا يزيده إلا عتو وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن يقول هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمره طيب ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة فالكافر خبيث وعمله خبيث.
وقال مجاهد : هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم خبيث وطيب ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله

صفحة رقم 245
تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى لله تعالى الذي أرسلت به ) أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى : ( كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ( يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن
)
الأعراف : ( 59 - 62 ) لقد أرسلنا نوحا...
" لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " ( قوله عز وجل : ( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ( اعلم أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لم يكن إعراض قومه فقط في قبول الحق بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية والقرون الماضية وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا وفي الآخرة إلى العذاب العظيم فمن كذب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) من قومه كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من الأمم المكذبة وفي ذكر هذه القصص دليل على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان أميّاً لا يقرأ ولا يكتب ولم يلق أحداً من علماء زمانه فلما أتى بمثل هذه القصص والأخبار عن القرون الماضية والأمم الخالية مما لم ينكره عليه أحد علم بذلك أنه إنما أتى به من عند الله عز وجل وإنه أوحى إليه ذلك فكان دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على صحة نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله تعالى : ( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ( لقد أرسلنا نوحاً جواب قسم محذوف تقديره والله لقد أرسلنا نوحاً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويعني أرسلنا بعثنا وهو أول نبي بعثه الله تعالى بعد إدريس وكان نوح عليه الصلاة والسلام نجاراً.
وقيل : معنى الإرسال أن الله تعالى حمله رسالة ليؤديها إلى قومه فعلى هذا التقدير فالرسالة تكون متضمنة للبعث أيضاً ويكون البعث كالتابع لا أنه أصل , قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعثه الله وهو ابن أربعين سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة وقيل هو ابن مائة سنة , وقال ابن عباس رضي الله عنهما : سمي نوحاً لكثرة نوحه على نفسه واختلفوا في سبب نوحه فقيل : لدعوته على قومه بالهلاك وقيل : لمراجعته ربه في شأن ابنه كنان وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب ؟ ) فقال ( يعني نوحاً لقومه ) يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( يعني اعبدوا الله تعالى فإنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره فإنه ليس لكم إله معبود سواه فإنه هو الذي يستوجب أن يعبد ) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( يعني إن لم تقبلوا ما آمركم به من عبادة الله تعالى واتباع أمره وطاعته واليوم الذي خافه عليهم وهو إما يوم الطوفان

صفحة رقم 246
وإهلاكهم فيه أو يوم القيامة وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعلم وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة ) قال الملأ ( وهم الجماعة الأشراف ) من قومه إنا لنراك ( يعني يا نوح ) في ضلال مبين ( يعني في خطأ وزوال عن الحق بين ) قال ( يعني نوحاً ) يا قوم ليس بي ضلالة ( يعني ما بي ما تظنون من الضلال ) ولكني رسول من رب العالمين ( يعني : هو أرسلني إليكم لأنذركم وأخوفكم إن لم تؤمنوا به وهو قوله ) أبلغكم رسالات ربي ( يعني بتحذيري إياكم عقوبة على كفركم إن لم تؤمنوا به ) وأنصح لكم ( يقال نصحته ونصحت له كما يقال شكرته وشكرت له والنصح إرادة الخير لغيره كما يريده لنفسه وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير وقيل حقيقة النصح تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أنه قال أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم وأدعوكم إلى ما دعاني إليه وأحب لكم ما أحب لنفسي قال بعضهم والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله تعالى ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها الله تعالى عليهم.
وأما النصيحة فهو أن يرغّبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات ويحذرهم عقابه إن عصوه ) وأعلم من الله ما لا تعلمون ( يعني أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان والغرق في الدنيا ويعذبكم في الآخرة عذاباً عظيماً وقيل أعلم أن مغفرة الله تعالى لمن تاب وعقوبته لمن أصر على الكفر وقيل : لعل الله أطلعه على سر من أسراره فقال وأعلم من الله ما لا تعلمون.
)
الأعراف : ( 63 - 67 ) أوعجبتم أن جاءكم...
" أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين " ( ) أوعجبتم ( الألف ألف استفهام والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف وهذا الاستفهام استفهام إنكار معناه أكذبتم وعجبتم ) أن جاءكم ذكر من ربكم ( يعني وحياً من ربكم ) على رجل منكم ( تعرفونه وتعرفون نسبه وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب , وقيل : المراد بالذكر الكتاب الذي أنزل الله تعالى على نوح عليه الصلاة والسلام سماه ذكراً كما سمي القرآن ذكراً.
وقيل : المراد بالذكر المعجزة التي جاء بها نوح عليه السلام فعلى هذا تكون على بمعنى مع أي مع رجل منكم.
قال الفراء على هنا بمعنى مع ) لينذركم ( يعني جاءكم لأجل أن ينذركم ) ولتتقوا ( أي ولأجل أن تتقوا ) ولعلكم ترحمون ( لأن المقصود من إرسال الرسل الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود بالتقوى الفوز بالرحمة في الدار الآخرة ) فكذبوه ( يعني فكذبوا نوحاً ) فأنجيناه ( يعني من الطوفان والغرق ) والذين معه ( يعني من آمن من قومه معه ) في الفلك ( يعني في السفينة ) وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين ( قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى , قال الزجاج : عموا عن الحق والإيمان.
يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر وأنشدوا قول زهير :
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غدٍ عم
قال مقاتل : عموا عن نزول العذاب بهم وهو الفرق.
قوله تعالى : ( وإلى عاد أخاهم هوداً ( أي

صفحة رقم 247
وأرسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح وهي عاد الأولى أخاهم هوداً يعني أخاهم في النسب لا في الدين وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.
وقال ابن إسحاق : هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح واتفقوا على أن هوداً عليه الصلاة والسلام لم يكن أخاهم في الدين ثم اختلفوا في سبب الأخوّة من أين حصلت فقيل إنه كان واحداً من القبيلة فيتوجه قوله أخاهم لأنه واحد منهم وقيل إنه لم يكن من القبيلة ثم ذكروا في تفسير هذه الإخوة وجهين :
الأول : قال الزجاج : إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من الملائكة ويكفي هذا القدر في تسمية الأخوة.
والمعنى إنّا أرسلنا إلى عاد واحداً من جنسهم من البشر ليكون الفهم والأنس بكلامه أتم وأكمل ولم نبعث إليهم من غير جنسهم مثل الملك أو الجن.
والثاني : إنه أخاهم يعني صاحبهم والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت ) قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( أي اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه إلهاً آخر فإنه ليس لكم إله غيره والفرق بين قوله في قصة نوح وهنا قال إن نوحاً كان مواظباً على دعوة قومه غير متوان فيه لأن الفاء تدل على التعقيب.
وأما هود فلم يكن كذلك بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء فأخبر الله تعالى عند بقوله ) قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( ) أفلا تتقون ( يعني أفلا تخافون عقابه بعبادتكم غيره ولما كانت هذه القصة منسوقة على قصة قوم نوح وقد علموا ما حل بهم من الفرق حسن قوله هنا.
أفلا تتقون يعني أفلا تخافون ما نزل بهم العذاب ولم يكن قبل واقعة قوم نوح شيء حسن تخويفهم من العذاب فقال هناك إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة ( يعني إنا لنراك يا هود في حمق وجهالة وضلالة عن الحق.
والصواب : أخبر الله تعالى عن قومه نوح أنهم قالوا له إنا لنراك في ضلال مبين وأخبر عن قوم هود أنهم قالوا إنا لنراك في سفاهة والفرق بينهما أن نوحاً لما خوف قومه بالطوفان وطفق في عمل السفينة قال له قومه عند ذلك إنا لنراك في ضلال مبين حيث تتعب في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء وأما هود عليه السلام فإنه لما زيف عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل قابلوه بمثله فقالوا إنا لنراك في سفاهة ) وإنا لنظنك من الكاذبين ( يعني في ادعائك أنك رسول من عند الله ) قال ( يعني قال هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه ) يا قوم ليس بي سفاهة ( يعني ليس الأمر كما تدعون أن بي سفاهة ) ولكني رسول من رب العالمين ( يعني إليكم.
)
الأعراف : ( 68 - 72 ) أبلغكم رسالات ربي...
" أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين " ( ) أبلغكم رسالات ربي ( يعني أودي إليكم ما أرسلني به من أوامره ونواهيه وشرائعه وتكاليفه ) وأنا لكم ناصح ( يعني فيما آمركم به من عبادة الله عز وجل وترك عبادة ما سواه ) أمين ( يعني على تبليغ الرسالة وأداء النصح والأمين الثقة على ما ائتمن عليه.
حكى الله عن نوح عليه الصلاة والسلام , أنه قال وأنصح لكم وحكى عن هود عليه الصلاة والسلام أنه قال : وأنا لكم ناصح فالأول بصيغة الفعل والثاني بصيغة اسم الفاعل والفرق بينهما أن صيغة الفعل تدل على تجدد النصح ساعة بعد ساعة فكان نوح يدعو قومه ليلاً ونهاراً كما أخبر الله عنه بقوله قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلما كان ذلك من عادته ذكره بصيغة الفعل فقال : وأنصح لكم وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت فلهذا قال : وأنا لكم ناصح أمين والمدح للنفس بأعظم صفات

صفحة رقم 248
المدح غير لائق بالعقلاء وإنما فعل هود ذلك وقال هذا القول لأنه كان يجب عليه إعلام قومه بذلك ومقصوده الرد عليهم في قولهم وأنا لنظنك من الكاذبين فوصف نفسه بالأمانة وأنه أمين في تبليغ ما أرسل به من عند الله ففيه تقرير للرسالة والنبوة وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها ) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ( يعني أعجبتم أن أنزل الله وحيه على رجل تعرفونه لينذركم بأس ربكم ويخوفكم عقابه ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء بعد قوم نوح ( يعني واذكروا نعمة الله عليكم إذا أهلك قوم نوح وجعلكم تخلفونهم في الأرض ) وزادكم في الخلق بسطة ( يعني طولاً وقوة.
قال الكلبي والسدي : كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً وقيل سبعين ذراعاً.
عن ابن عباس رضي الله عنهما ثمانين ذراعاً وقال مقاتل : اثني عشر ذراعاً وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة ) فاذكروا آلاء الله ( يعني نِعَم الله وفيه إضمار تقديره فاذكروا نعمة الله عليكم واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام وهو أن تؤمنوا به وتتركوا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام ) لعلكم تفلحون ( يعني لكي تفوزوا بالفلاح وهو البقاء في الآخر ) قالوا ( يعني قال قوم هود مجيبين له ) أجئتنا ( يا هود ) لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ( يعني من الأصنام ) فأتنا بما تعدنا ( يعني من العذاب ) إن كنت من الصادقين ( يعني في قولك إنك رسول الله ) قال ( يعني قال هود مجيباً لهم ) قد وقع ( يعني نزل ووجب ) عليكم من ربكم رجس وغضب ( أي عذاب وسخط ) أتجادلونني ( يعني أتخاصمونني ) في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ( يعني وضعتم لها أسماء من عند أنفسكم والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار عليهم لأنهم سموا الأصنام بالآلهة وذلك معدوم فيها ) ما نزل الله بها من سلطان ( يعني من حجة وبرهان على هذه التسمية وإنما سميتموها أنتم من عند أنفسكم بغير دليل ) فانتظروا ( يعني العذاب ) إني معكم من المنتظرين ( يعني نزول العذاب بكم ) فأنجيناه ( يعني فأنجينا هوداً عند نزول العذاب بقومه ) والذين معه برحمة منا ( يعني وأنجينا أتباعه الذين آمنوا به وصدقوه لأنهم كانوا مستحقين للرحمة ) وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ( يعني وأهلكنا الذين كذبوا هوداً من قومه وأراد بالآيات معجزات هود عليه الصلاة والسلام الدالة على صدقه وهذا هلاك استئصال فهلكوا جميعاً ولم يبق منهم واحد ) وما كانوا مؤمنين ( يعني لأنهم لم يكونوا مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه الصلاة والسلام :
( ذكر قصة عاد على ما ذكره محمد بن إسحاق وأصحاب السير والأخبار )
قالوا جميعاً : كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله تعالى فيهم هوداً عليه الصلاة والسلام الأحقاف والأحقاف الرمل فيما بين عمان وحضرموت من أرض اليمن وكانوا قد فسقوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي جعلها الله فيهم وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله عز وجل صنم يقال له صداء , وصنم يقال له صمود وصنم يقال له الهباء فبعث الله عز وجل

صفحة رقم 249
فيهم هودا عليه الصلاة والسلام وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلهاً غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فيما ذكر فأبوا عليه وكذبوه وقالوا من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس فأمنوا به وهم يسير يكتمون إيمانهم وكان ممن صدقه وآمن به رجل يقال له مرثد بن سعد بن عفير وكان يكتم إيمانه فلما عتوا على الله وكذَّبوا نبيهم وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية واتخذوا المصانع لعلهم يخلدون فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وجهد يطلبون الفرج من الله عز وجل وذلك عند بيته الحرام بمكة مؤمنهم ومشركهم وكان يجتمع بمكة ناس كثير مختلفة أديانهم وكل معظم مكة معترف بحرمتها ومكانها من الله عز وجل وكان البيت معروفاً مكانه من الحرم وكان سكان مكة يومئذ العماليق وإنما سموا العماليق لأن أباهم كان عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيد العماليق يومئذ رجلاً يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري وهو رجل من عاد وكانت عاد أخوال معاوية سيد العماليق فلما قحطت عاد وقلَّ عنهم المطر قالوا : جهزوا منكم وفداً إلى مكة ليستسقوا لكم فإنكم هلكتم فبعثوا قيل بن عنز ونعيم بن هزال من هزيل وعقيل بن صنديد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر سيد العماليق ولقمان بن عاد فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه جماعة من قومه فبلغ عدد وفد عاد سبعين رجلاً فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان لمعاوية بن بكر فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم عنده وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي نازلون عليّ والله ما أدري كيف أصنع فإني أستحي أن آمرهم بالخروج لما بعثوا إليه فيظنوا أنه ضيق مني بمكانهم عندي وقد هلك مَن وراءهم من قومهم جهداً وعطشا قال

صفحة رقم 250
وشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك لأن يحركهم فقال معاوية.
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عاداً
قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس
نرجو به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهمو بخير
فقد أمست نساؤهم أيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا
ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
نهاركمو وليلكمو تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما
فلما قال معاوية هذا الشعر وغنتهم به الجرادتان وعرف القوم ما غنتا به قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومك ليتغوثوا بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليه فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد بن عفير : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه عند ذلك وقال في ذلك :
عصت عاد رسولهم فأمسوا عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وأن إله هود هو إلهي على الله التوكل والرجاء
زاد في الرواية :
لقد حكم الإله وليس جوراً
وحكم الله إن غلب الهواء
على عاد وعاد شر قوم
فقد هلكوا وليس لهم بقاء
وإني لن أفارق دين هود
طول الدهر أو يأتي الفناء
فقال جلهمة بن الخيبري مجيباً لمرثد بن سعد حين فرغ من مقالته وعرف أنه اتبع دين هود وآمن به :

صفحة رقم 251
ألا يا سعد إنك من قبيل
ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لا نطيعك ما بقينا
ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين وفد
ورمل والصداء مع الصمود
ونترك دين آباء كرام
ذوي رأي ونتبع دين هود
" ثم قال جلهمة لمعاوية بن بكر وأبيه بكر احبسا عنا مرثداً فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد تبع دين هود وترك ديننا ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بمكة قبل أن يدعو الله بشيء مما خرجوا إليه فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وبها وفد عاد يدعونه فقال مرثد : اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني فيما يدعوك به وفد عاد , وقام قيل بن عنز رأس وفد عاد يدعو فقال : اللهم أعط قيلاً ما سألك.
وقال الوفد معه : واجعل سؤلنا مع سؤله.
وكان قد تخلف عن وفد عاد لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعواتهم قال لقمان فقال : اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعا يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنا قد هلكنا فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لقومك ولنفسك من هذه السحاب فقال قيل : قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثرب السحاب ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمدداً لا يبقى من آل عاد أحداً وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث لما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل : ( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء (
أي كل شيء مرت به بأمر ربها وكان أول من أبصر ما فيه وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد فلما عرفت ما فيه من العذاب صاحت ثم صعقت لما أن أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قال رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع من آل عاد أحداً إلا أهلكه واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ به الأنفس وإنها في وقتها لتمر بالظعن من عاد فتحملها بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل إليه رجل على ناقة في ليلة مقمرة وذلك مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر فقالوا له : أين فارقت هوداً وأصحابه ؟ :

صفحة رقم 252
فقال : فارقتهم بساحل البحر وكأنهم شكوا فيما حدثهم به فقالت هذيلة بنت بكر : صدق رب الكعبة.
وقال السدي بعث الله عز وجل على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها وأغلقوا الأبواب , فجاءت الريح فقلعت أبوابهم ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها ثم أخرجتهم من البيوت فلما أهلكتهم أرسل الله تعالى عليهم طيراً أسود فنقلهم إلى البحر فألقاهم فيه , وقيل : إن الله تعالى أمر الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام يسمع لهم أنين تحت الرمل ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل ثم احتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها وفي الحديث ( إنما خرجت على مثل خرق الخاتم ) وقيل : إن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل ابن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم أعطيتم مُناكم فاختاروا لأنفسكم غير أنه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد : اللهم أعطني براً وصدقاً فأعطي ذلك , وقال لقمان : اللهم أعطني عمراً فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنر فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة وكان يأخذ الذكر لقوته فيربيه حتى يموت فإذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان السابع من النسور اسمه لبد فلما مات لبد مات لقمان معه.
وأما قيل فإنه اختار لنفسه ما يصيب قومه فقيل له إنه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعد قومي فأصابه الذي أصاب عاداً فهلك ومَن معه من الوفد الذين خرجوا يستسقون لعاد فأتت الريح لما خرجوا من الحرم فأهلكتهم جميعاً فلما أهلك الله عاداً ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بعد هلاك قومه إلى موضع يقال له الشجر من أرض اليمن فنزل هناك ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضرموت.
يروى عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أن قبر هود عليه الصلاة والسلام بحضرموت في كثيب أحمر وقال عبد الرحمن بن شبابة : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعين نبياً وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام في تلك البقعة ويروى أن كل نبي من الأنبياء كان إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله تعالى حتى يموتوا بها.
)
الأعراف : ( 73 ) وإلى ثمود أخاهم...
" وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم " ( قوله عز وجل : ( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ( يعني أرسلنا إلى ثمود وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عابر وكانت مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ومعنى الكلام وإلى بني ثمود أخاهم صالحاً لأن ثمود قبيلة.
قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها والثمد الماء القليل وقيل سموا ثمود باسم أبيهم الذي ينسبون إليه أخاهم صالحاً يعني في النسب لا في الدين وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود ) قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( يعني قال لهم صالح حين أرسله الله تعالى إليهم يا قوم وحدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئاً فما لكم من إله يستحق أن يُعبد سواه ) قد جاءتكم بينة من ربكم ( يعني جاءتكم حجة من ربكم وبرهان على صدق ما أقول وأدعو إليه من عبادة الله تعالى ولا تشركوا به شيئاً وعلى تصديق بأني رسول الله إليكم ثم فسر تلك البينة فقال ) هذه ناقة الله لكم آية ( يعني علامة على صدقي قال

صفحة رقم 253
العلماء رحمهم الله تعالى : ووجه كون هذه الناقة آية على صدق صالح ومعجزة له خارقة للعادة أنها خرجت من صخرة في الجبل وكونها لا من ذكر ولا من أنثى وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج لأنها خلقت في ساعة وخرجت من الصخرة وقيل لأنه كان لها شرب يوم ولجميع قبيلة ثمود شرب يوم وهذا من المعجزة أيضاً لأن ناقة تشرب ما تشربه قبيلة معجزة وكانوا يلحبونها في يوم شربها قدر ما يكفيهم جميعهم ويقوم لهم مقام الماء وهذا أيضاً معجزة وقيل إن سائر الوحوش والحيوانات كانت تمتنع من شرب الماء في يوم شرب الناقة وتشرب الحيوانات الماء في غير يوم الناقة وهذا أيضاً معجزة وإنما أضافها إلى الله تعالى في قوله هذه ناقة الله على سبيل التفضيل والتشريف كما يقال بيت الله وقيل لأن الله تعالى خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى وقل لأنه لم يملكها أحد إلا الله تعالى وقيل لأنها كانت حجة الله على قوم صالح ) فذروها تأكل في أرض الله ( يعني فذروا الناقة تأكل العشب من أرض الله فإن الأرض لله والناقة أيضاً لله وليس لكم في أرض الله شيء لأنه هو الذي أنبت العشب فيها ) ولا تمسوها بسوء ( يعني ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من أنواع الأذى ولا تعقروها ) فيأخذكم عذاب أليم ( يعني بسبب عقرها وأذاها.
)
الأعراف : ( 74 - 77 ) واذكروا إذ جعلكم...
" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " ( ) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ( يعني أن الله أهلك عاداً وجعلكم تخلفونهم في الأرض وتعمرونها ) وبوأكم ( يعني وأسكنكم وأنزلكم ) في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً ( يعني تبنون القصور من سهولة الأرض لأن القصود إنما تبنى من اللِّبن والآخر المتخذ من الطين السهل اللين ) وتنحتون الجبال بيوتاً ( يعني وتشقون بيوتاً من الجبال وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متمتعين مترهفين ) فاذكروا آلاء الله ( أي فاذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( قال قتادة : معناه ولا تسيروا في الأرض مفسدين فيها والعثو أشد الفساد وقيل أراد به عقر الناقة وقيل هو على ظاهره فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( يعني قال الأشراف الذي تعظموا عن الإيمان بصالح ) للذين استضعفوا ( يعني الماسكين ) لمن آمن منهم ( يعني قال الأشراف المتعظمون في أنفسهم لأتباعهم الذين آمنوا بصالح وهم الضعفاء من قومه ) أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ( يعني أن الله أرسله إلينا وإليكم ) قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ( يعني قال الضعفاء إنا بما أرسل الله به صالحاً من الدين والهدى مصدقون ) قال الذين استكبروا ( يعني عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح ) إنا بالذي آمنتم به كافرون ( أي جاحدون منكرون ) فعقروا الناقة ( يعني فعقرت ثمود الناقة والعقر قطع عرقوب البعير ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره ) وعتوا عن أمر ربهم ( أي تكبروا عن أمر ربهم وعصوه والعتو والغلوّ في الباطل والتكبر عن الحق والمعنى أنهم عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم صالحاً عليه الصلاة والسلام ) وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ( يعني من العذاب ) إن كنت من المرسلين ( يعني : إن كنت كما تزعم أنك رسول الله فإن الله تعالى ينصر رسله على أعدائه وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين في كل ما أخبرهم به من العذاب فعجل الله لهم ذلك.
)
الأعراف : ( 78 - 79 ) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا...
" فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين " ( فقال تعالى : ( فأخذتهم الرجفة ( قال الفراء والزجاج : الرجفة

صفحة رقم 254
الزلزلة الشديدة العظيمة , وقال مجاهد والسدي : هي الصيحة فيحتمل أنهم أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا وهو قوله تعالى ) فأصبحوا في دارهم جاثمين ( يعني فأصبحوا في أرضهم وبلدهم جاثمين ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب أي بلد الحرب ودار بني فلان بمعنى موضعهم ومجمعهم وجمع في آية أخرى , فقال في ديارهم لأنه أراد ما لكل واحد منهم من الديار والمساكن وقوله جاثمين يعني باركين على الركب والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير وجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين على وجوههم موتى لا يتحركون ) فتولى عنهم ( يعني فأعرض عنهم صالح وفي وقت هذا التولي قولان :
أحدهما : أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدل عليه قوله ) فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم ( والفاء للتعقيب فدل على أنه جعل هذا التولي بعد جثومهم وهو موتهم.
والقول الثاني : أنه تولى عنهم وهم أحياء قبل موتهم وهلاكهم ويدل عليه أنه خاطبهم ) وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ( وهذا الخطاب لا يليق إلا بالأحياء فعلى هذا القول يحتمل أن يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تبحون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا أنه خاطبهم بعد هلاكهم وموتهم توبيخاً وتقريعاً كما خاطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الكفار في قتلى بدر حين ألقوا في القليب فجعل يناديهم بأسمائهم الحديث في الصحيح وفيه فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أقواماً قد جيفوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون.
وقيل إنما خاطبهم صالح بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها.
( ذكر قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وغيرهما من أصحاب السير والأخبار )
قالوا جميعاً إن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا حتى إن أحدهم ليبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً وكانوا في سعة من العيش والرخاء فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله تعالى إليهم صالحاً نبياً وكانوا قوماً عرباً وكان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم بيتاً وحسباً فبعثه الله تعالى إليهم وهو غلام فلم يزل يدعوهم إلى الله تعالى وإلى عبادته حتى شمط وكبر فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً على ما يقول فقال صالح أي آية تريدون ؟ فقالوا : تخرج معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه أصنامهم , وذلك في يوم معلوم من السنة وقالوا تدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم

صفحة رقم 255
وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة , لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة , ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت بالبخت من الإبل فإن فعلت آمنا بك وصدقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا نعم قال فصلى صالح عليه الصلاة والسلام ركعتين ودعا ربه عز وجل فتمخضت الصخرة كما تمخص النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما سألوا ووصفوا غير أنه لا يعلم ما بين جنبها إلا الله عز وجل عظماً وهم ينظرون إليها ثم نتجت سقباً مثلها في العظم فأمن به جندع بن عمرو ورهط معه من قومه وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب وكانا صاحبا أوثانهم ورباب بن ضمير وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة من الصخرة قال لهم صالح : هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غباً فإذا كان يوم ورودها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها فلا تدع قطرة ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا منها من لبن فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها ثم تصدر الناقة من غير الفج الذي ورجت منه ولا تقدر أن تصدر من حيث وردت حتى إذا كان من الغد كان يوم ثمود فيشربوا ما شاء الله من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة فيهم على ذلك في سعة ودعة وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم الإبل والبقر والغنم فتهبط إلى بطن الوادي فتكون

صفحة رقم 256
في حره وجدبه وإذا كان الشتاء فتشتو الناقة في بطن الوادي فتهرب المواشي إلى ظهره فتكون في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله بهم والبلاء والاختبار , فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لأحداهما عنيزة بنت غنم بن مخلد وتكنى بأم غنم وكانت عجوزاً مسنة وهي امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم.
والمرأة الأخرى يقال لها صدقة بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح عليه الصلاة والسلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بمواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدقة رجلاً من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال لها مصدع بن مهزج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهم مالاً فأجابها إلى إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً ويزعمون أنه كان ابن زانية ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه فقالت عنيزة لقدار أي بناتي شئت أعطيتك على أن تعقر الناقة وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه
( ق ) .
عن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة ) قوله انبعث أي قام بسرعة والعارم الخبيث الشرير والعرامة الشدة والقوة والشراسة والمنيع الممتنع ممن أراده.
قال أصحاب الأخبار : فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهزج , فاستنفروا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم في عضلة ساقها فخرجت أم غنيم عنيزة وأمرت ابنتها فسفرت عن وجهها وكانت من أحسن الناس وجهاً ليراها قدار ثم حثته على عقرها وأغرته فشد قدار على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فتحذر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلد فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هارباً حتى أتى جبلاً منيعاً يقال له صور وقيل قارة وأتى صالح عليه الصلاة والسلام فقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فأقبل نحوها وخرج أهل البلد يتلقونه ويعتذرون إليه ويقولون يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل فذهبوا ليأخذوه فأوحى الله تعالى إلى الجبل أنْ تطاولْ فتطاول حتى ما تناله الطير وجاء صالح عليه السلام فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغا ثلاثاً ثم انفجرت الصخرة فدخلها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب وقال ابن إسحاق تبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم

صفحة رقم 257
مصدع بن مهزج وأخوه ذؤاب فرماه مصدع بسهم فأصاب قلبه ثم جذبه فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح عليه السلام : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يهزؤون به : ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام في ذلك الوقت الأحد أول والأثنين أهون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة العروبة والسبت شبار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح عليه الصلاة والسلام حين قالوا ذلك : تصبحون غداً يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة , ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمّرة , ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلموا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلاً ليقتلوه أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح عليه الصلاة والسلام فوجدوهم وقد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه وقالوا لا تقتلوه أبداً فإنه قد وعدكم العذاب أنه نازل بكم بعد ثلاث فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم إلا غضباً عليكم وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون فانصرفوا عنه تلك الليلة فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فيما قال فطلبوه ليقتلوه فهرب منهم ولحق بحي من بطون ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب وهو مشرك فمنع صالحاً فلم يقدروا عليه وكانوا عمدوا إلى أصحاب صالح ليدلوهم عليه فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي الله إنهم يعذبونا لندلهم عليك أفندلهم عليك ؟ قال : نعم.
فدلوهم عليه فأتوا أبو هدب فكلموه في أمر صالح فقال هو عندي وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم ما نزل بهم من العذاب فجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل فلما أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدم فصاحوا وضجوا وبكوا وأيقنوا أنه العذاب فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فلما كانت ليلة الأحد خرج صالح عليه الصلاة والسلام ومن أسلم معه من أظهرهم إلى

صفحة رقم 258
الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبحوا في اليوم الرابع تكفنوا وتحنطوا وألقوا بأنفسهم إلى الأرض يقلِّبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة عظيمة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وهلكوا جميعاً إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه الصلاة والسلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد ما عاينت العذاب وما أصاب ثمود فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم بما عاينت من العذاب الذي بثمود ثم استقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت في الحال.
وذكر السدي في عقر الناقة فقال : أوحى الله عز وجل إلى صالح عليه والسلام إن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك صالح فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا في هذا الشهر ولد إلا قتلناه قال فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر أولاد فذبحوهم ثم ولد للعاشر ولد فأبى أن يذبحه لأنه كان لم يولد له قبل ذلك ولد وكان الولد الذي ولد له أحمر أزرق فنبت نباتاً سريعاً فكان إذا مر بالتسعة فرأوه , قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا الغلام فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله يعني فتحالفوا بالله لنبيتنه وأهله وقالوا نخرج فنرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثم نرجع إلى الغار فنكون فيه حتى ننصرف إلى رحلنا فنقول ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقوننا فيظنون أنا قد خرجنا إلى سفر وكان صالح لا ينام معهم في القرية بل كان يبيت في مسجد له خارج القرية فإذا أصبح أتاهم فيعظهم ويذكرهم فإذا أمسى خرج إلى مسجده فيتعبد فيه قال فانطلق التسعة إلى الغار فدخلوا فسقط عليهم فقتلوا فانلطق رجال ممن كان قد اطلع على أمرهم لينظروا ما فعل أولئك النفر فرأوهم وهم رضخ فرجعوا إلى القرية يصيحون ما رضي صالح بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
وقال ابن إسحاق : كان التسعة قد تقاسموا على تبييت صالح بعد عقر الناقة , وقال السدي وغيره : لما ولد للعاشر ولد سماه بقدار فكان يشب سريعاً فلما كبر جلس مع أناس يشربون الخمر فأرادوا ماء ليمزجوا به

صفحة رقم 259
شرابهم وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نصنع نحن بلبن هذه الناقة ولو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه لأنعامنا وزروعنا كان خيراً لنا , وقال ابن العاشر : هل لكم أن أعقرها لكم قالوا نعم فعقرها
( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالحجر قال : ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي ) وفي رواية لمسلم : ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ) ثم ذكر مثله ولهما عنه أن الناس نزلوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يهرقوا ما استقوه ويعلفوا الإبل العجيبن وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة ( وللبخاري ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارهم ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يطرحوا ذلك العجيبن ويهريقوا ذلك الماء.
وفي بعض الأحاديث قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآيات فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها وأراهم مرتقى الفصيل من القارة فعتوا عن امر ربهم وعقروها فأهلك الله من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً واحداً يقال له أبو وغال وهو أبو ثقيف , كان في حرم الله فمنعه حرم الله تعالى من عذاب الله لما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب وأراهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبر أبي رغال فنزل القوم وابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغضن ) وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح

صفحة رقم 260
فسمي حضرموت ثم بنوا أربعة آلاف مدينة وسموها حضوراء وقال قوم من أهل العلم : توفي صالح عيله الصلاة والسلام بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
)
الأعراف : ( 80 - 81 ) ولوطا إذ قال...
" ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون " ( ) ولوطاً ( يعني وأرسلنا لوطاً وقيل : معناه واذكر يا محمد لوطاً وهو لوط بن هاران بن تارخ وهو ابن أخي إبراهيم وإبراهيم عمه ) إذ قال لقومه ( يعني أهل سدوم وإليهم كان قد أرسل وذلك أن لوطاً عليه الصلاة والسلام لما هاجر مع عمه إبراهيم عليهم الصلاة والسلام إلى الشام فنزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أرض فلسطين ونزل لوط الأردن أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم يدعوهم إلى الله تعالى وينهاهم عن فعلهم القبيح وهو قوله تعالى : ( أتأتون الفاحشة ( يعني أتفعلون الفعلة الخسيسة التي هي غاية في القبح وكانت فاحشتهم إتيان الذكران في أدبارهم ) ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض , والمعنى : ما سبقكم أيها القوم بهذه الفعلة الفاشحة أحد من العالمين قبلكم وفي هذا الكلام توبيخ لهم وتقريع على فعلهم تلك الفاحشة.
قال عمرو بن دينار : ما نزل ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط ) أئنكم لتأتون الرجال ( يعني في أدبارهم ) شهوة من دون النساء ( يعني في أدبار الرجال اشهى عندكم من فروج النساء ) بل أنتم ( يعني أيها القوم ) قوم مسرفون ( أي مجاوزون الحلال إلى الحرام وإنما ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل الخبيث لأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا وجعل النساء محلاً للشهوة وموضع النسل فإذا تركهن الإنسان وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال فكأنما قد أسرف وجاوز واعتدى لانه وضع الشيء في غير محله وموضعه الذي خلق له لأن أبدار الرجال ليست محلاً للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان وكانت قصة قوم لوط , على ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار والسير أنه كانت قرى قوم لوط مخصبة ذات زروع وثمار لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم وضيقوا عليهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم فأبوا فلما أحل الناس عليهم قصدوهم فأصابوا غلماناً حساناً صباحاً فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم.
قال الحسن : كانوا لا ينكحون إلا الغرباء , وقيل : استحكم ذلك الفعل فيهم حتى نكح بعضهم بعضاً.
وقال الكلبي : إن أول من عمل به عمل قوم لوط إبليس وذلك لأن بلادهم أخصبت فقصدها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس في صورة شاب أمرد فدعا إلى نفسه فكان أول من نكح في دبره فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم والأرض أن تخسف بهم.
)
الأعراف : ( 82 - 85 ) وما كان جواب...
" وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين " ( قوله عز وجل : ( وما كان جواب قومه ( يعني وما كان جواب قوم لوط للوط إذ وبخهم على فعلهم القبيح وركوبهم ما حرم الله

صفحة رقم 261
تعالى عليهم من العمل الخبيث ) إلا أن قالوا ( يعني قال بعضهم لبعض ) أخرجوهم من قريتكم ( يعني أخرجوا لوطاً وأتباعه وأهل دينه من بلدكم ) إنهم أناس يتطهرون ( يعني أنهم أناس يتنزهون عن فعلكم وعن أدبار الرجال لأنها موضع النجاسة ومن تركها فقد تطهر , وقيل : إن البعد عن المعاصي والآثام يسمى طهارة فمن تباعد عنهما فقد تطهر فلهذا قال إنهم أناس يتطهرون أي من فعل المعاصي والآثام ) فأنجيناه وأهله ( يعني فأنجينا لوطاً ومن آمن به واتبعه على دينه , وقيل : المراد بأهله المتصلون به بسبب النسل أو المراد بأهله ابنتاه ) إلا امرأته ( يعني زوجته ) كانت من الغابرين ( يعني كانت من الباقين في العذاب لأنها كانت كافرة , وقيل : معناه كانت من الباقين المعمرين قد أتى عليها دهر طويل ثم هلكت مع من هلك من قوم لوط وإنما قال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال فغلب الرجال فقال من الغابرين ) وأمطرنا عليهم مطراً ( يعني حجارة من سجّيل قد عجنت بالكبريت والنار يقال مطرت السماء وأمطرت.
وقال أبو عبيدة : يقال في العذاب أمطرت وفي الرحمة مطرت ) فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ( يعني انظر يا محمد كيف كان عاقبة هؤلاء الذين كذبوا بالله ورسوله وعملوا الفواحش كيف أهلكناهم.
قال مجاهد : نزل جبريل عليه السلام فأدخل جناحيه تحت مدائن قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم اتبعوا بالحجارة.
وقوله فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وإن كان هذا الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لكن المراد به غيره من أمته ليعتبروا بما جرى على اولئك فينزجروا بذلك الاعتبار عن الأفعال القبيحة والفواحش الخبيثة.
قوله عز وجل : ( وإلى مدين أخاهم شعيباً ( يعني : وأرسلنا إلى مدين أكثر المفسرين على أن مدين اسم رجل وهو مدين بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فعلى هذا يكون المعنى وأرسلنا إلى ولد مدين ومدين اسم للقبيلة كما يقال بنو تميم بو عدي وبنو أسد.
وقيل : مدين اسم للماء الذي كانوا عيله وقيل هو اسم للمدينة وعلى هذين القولين يكون المعنى : وأرسلنا إلى أهل مدين والصحيح هو الأول لقوله أخاهم شعيباً يعني في النسب لا في الدين وشعيب هو ابن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قاله عطاء وقال محمد بن إسحاق وهو شعيب بن مكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأم ميكيل بنت لوط عليه السلام.
وقيل : هو شعيب بن يثرون بن ثويب بن مدين بن إبراهيم عليه السلام وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان ) قال ( يعني شعيباً ) يا قوم اعبدوا لله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ( يعني : قد جاءتكم حجة وبرهان من ربكم بحقية ما أقول وصدق ما أدعي من النبوة والرسالة إليكم لأنه لا بد لكل نبي من معجزة تدل على صدق ما جاء به من عند الله غير أن تلك المعجزة التي كانت لشعيب لم تذكر في القرآن وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن , وقيل : أراد بالبينة مجيء شعيب بالرسالة إليهم وقيل أراد بالبينة الموعظة وهي قوله : ( فأوفوا الكيل والميزان ( يعني فأتموا الكيل

صفحة رقم 262
والميزان وأعطوا الناس حقوقهم وهو قوله ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ( يعني لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياهم فتطففوا الكيل والوزن.
يقال : بخس فلان في الكيل والوزن إذا نقصه وطففه ) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ( يعني بعد أن أصلحها الله تعالى ببعثة الرسل وإقامة العدل وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم ) ذلكم ( يعني الذي ذكرت لكم وأمرتكم به من الإيمان بالله ووفاء الكيل والميزان وترك الظلم والبخس ) خير لكم ( يعني مما أنتم عليه من الكفر وظلم الناس ) إن كنتم مؤمنين ( يعني إن كنتم مصدّقين بما أقول.
)
الأعراف : ( 86 - 89 ) ولا تقعدوا بكل...
" ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " ( ) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ( يعني أن شعيباً قال لقومه الكفار ولا تقعدوا على كل طريق من الدين والحق تمنعون الناس من الدخول فيه وتهددونهم على ذلك ذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرقات ويخوفون من يريد الإيمان بالله وبرسوله شعيب وهو قوله تعالى : ( وتصدون عن سبيل الله من آمن به ( يعني وتمنعون من يريد الإيمان بالله وتقولون إن شعيباً كذاب وتخوفونه بالقتل.
قال ابن عباس : كانوا يجلسون على الطريق فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً الذي تريدونه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم ) وتبغونها عوجاً ( يعني : وتريدون اعوجاج الطريق عن الحق وعدولها عن القصد.
وقيل معناه تلتمسون لها الزيغ والضلالة ولا تستقيمون على طريق الهدى والرشاد ) واذكروا إذا كنتم قليلاً فكثركم ( يعني : أن شعيباً عليه الصلاة والسلام ذكرهم نعمة الله عيلهم.
قال الزجاج : يحتمل ذلك ثلاثة أوجه كثر عددكم وكثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقوة بعد الضعف ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء ضعفاء فهم بمنزلة القليل والمعنى إنه كثركم بعد القلة وأعزكم بعد الذلة فاشكروا نعمة الله تعالى عليكم وآمنوا به ) وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ( يعني وانظروا نظر اعتبار ما نزل بمن كان قبلكم من الأمم السالفة والقرون الخالية حين عتوا على ربهم وعصوا رسله من العذاب والهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسله ) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ( يعني وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بهي وصدق برسالتي وفرقة كذبن وجحدت رسالتي ) فاصبروا ( فيه وعيد وتهديد ) حتى يحكم الله بيننا ( يعني حتى يقضي الله ويفصل بيننا فيعجز المؤمنين المصدقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم ) وهو خير الحاكمين ( يعني أنه حاكم عادل منزه عن الجور والميل والحيف في حكمه وإنما قال خير الحاكمين لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكماً على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة فلهذا قال وهو خير الحاكمين ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( يعني قال الجماعة من أشراف قومه الذين تكبروا عن الإيمان بالله وبرسوله وتعظموا عن اتباع شعيب ) لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا ( عين أن قوم شعيب أجابوه بأن قالوا لا بد من أحد أمرين إما إخراجك ومن تبعك على دينك من بلدنا أو لترجعن إلى ديننا وملتنا وما نحن عليه وهذا فيه إشكال وهو أن شعيباً عليه الصلاة والسلام لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه فما معنى قوله أو لتعودن في ملتنا وأجيب عن هذا الإشكال بأن اتباع شعيب كانوا قبل الإيمان به على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيبا وأتباعه جميعاً فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم

صفحة رقم 263
قط.
وقيل : معناه لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود على معنى الابتداء كما تقول قد عاد عليّ من فلان مكروه بمعنى قد لحقني منه ذلك وإن لم يكن قد سبق منه مكروه فهو كما قال الشاعر :
فإن تكن الأيام أحسن مدة
إلي فقد عادت لهن ذنوب
" أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان.
وقوله تعالى : ( قال أولو كنا كارهين ( أي لا نعود في ملتكم وإن أكرهتمونا وأجبرتمونا على الدخول فيها فلا نقبل ولا ندخل ) قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ( يعني أن شعيباً أجاب قومه إذ دعوه ومن آمن به إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها فقال قد افترينا يعني قد اختلقنا على الله كذباً وتخرصنا عليه من القول باطلاً إن نحن رجعنا إلى ملتكم وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين وقد أنقذنا الله وخلصنا منها وبصرنا خطأها وهذا أيضاً فيه من الاشكال مثل ما في الأول وهو أن شعيباً عليه الصلاة والسلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها والجواب عنه مثل ما أجيب عن الإشكال الأول وهو أن نقول إن الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة , إلا أن شعيباً نظم نفسه في جملتهم وإن كانا بريئاً ما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب.
وقيل : معنى نجانا الله منها علمنا قبح ملتكم وفسادها فكأنه خلصنا منها وقوله تعالى إخباراً عنه ) وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ( يعني وما يكون لنا أن نرجع إلى ملتكم ونترك الحق الذي نحن عليه إلا أن يشاء الله ربنا يعني إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله أن نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله وقدره فينا وينفذ سابق مشيئته علينا وقال الواحدي : ومعنى العود هنا الابتداء والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية أن شعيباً وأصحابه قالوا ما كنا لنرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنها ضلالة تكسب دخول النار إلا أن يريد الله إهلاكنا فأمورنا راجعة إلى الله غير خارجة عن قبضته يسعد من يشاء بالطاعة ويشقي من يشاء بالمعصية وهذا شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه الصلاة والسلام ) واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ( وكان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كثيراً ما يقول ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) قال الزجاج رحمه الله تعالى المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها وتصديق ذلك قوله ) وسع ربنا كل شيء علماً ( يعني أنه تعالى يعلم ما يكون قبل أن يكون وما سيكون وأنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء فالسعيد من سعد في علم الله تعالى والشقي من شقي في علم الله تعالى ) على الله توكلنا ( على الله نعتمد وإليه نستند في أمورنا كلها فإنه الكافي لمن توكل عليه والمعنى : على الله توكلنا لا على غيره فكأنه ترك الأسباب ونظر إلى مسبب الأسباب ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ( لما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال ربنا افتح أي اقض وافصل واحكم بيننا وبين قومنا بالحق يعني بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف ) وأنت خير الفاتحين ( يعني خير الحاكمين قال الفراء إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد وأنشد لبعضهم في ذلك :
ألا أبلغ بني عصم رسولاً
فإني عن فتى حكم غني

صفحة رقم 264
أراد أنه غني عن حاكمهم وقاضيهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما معنى قوله ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول تعال أفاتحك يعني أقاضيك.
وهذا قول قتادة والسدي وابن جريج وجمهور المفسرين أن الفاتح هو القاضي والحاكم سمي بذلك لأنه يفتح أغلاق الإشكال بين الخصوم ويفصلها.
وقال الزجاج : وجائز أن يكون معناه ربنا أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه فالفتح يراد به الكشف والتمييز.
)
الأعراف : ( 90 - 92 ) وقال الملأ الذين...
" وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " ( ) وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيباً ( يعني وقال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم لئن اتبعتم شعيبا على دينه وتركتم دينكم وملتكم وما أنتم عليه ) إنكم إذاً لخاسرون ( يعني إنكم لمغبونون في فعلكم ) فأخذتهم الرجفة ( يعني الزلزلة الشديدة ) فأصبحوا في دارهم جاثمين ( قال ابن عباس وغيره : فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عيلهم حراً شديداً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة فيها ريح طيبة باردة فأظلتهم وهي الظلة فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض من تحتهم فاحترقوا كاحتراق الجراد في المقلاة وصاروا رماداً , وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا بها.
وقال قتادة : بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة هلكوا جميعاً.
قال أبو عبد الله البجلي : كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظلة اسمه كلمن فلما هلك قالت ابنته شعراً تبكيه وترثيه به :
كلمن هدم ركني
هلكه وسط المحلهْ
سيد القوم أتاه
هلك نار تحت ظلهْ
جعلت ناراً عليهم
دارهم كالمضمحلهْ
وقوله تعالى : ( الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ( يعني كأن لم يقيموا فيها ولم ينزلوها يوماً من الدهر يقال : غنيت بالمكان أي أقمت به.
والمغاني : المنازل التي بها أهلها واحدها مغنى قال الشاعر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها وقيل في معنى الآية كأن لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين يقال : غني الرجل

صفحة رقم 265
إذا انغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر ) الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ( يعني خسروا أنفسهم بهلاكهم.
)
الأعراف : ( 93 - 97 ) فتولى عنهم وقال...
" فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون " ( ) فتولى عنهم ( يعني فأعرض عنهم شعيب شاخصاً من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب ) وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ( يعني أنه قال لهم ذلك لما تيقن نزول العذاب بقومه واختلفوا هل كان ذلك القول قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه الصلاة والسلام وقوله ) فكيف آسى ( يعني أحزن ) على قوم كافرين ( والأسى أشد الحزن وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة والإيمان فلما نزل بهم ما نزل من العذاب عزى نفسه فقال كيف أحزن على قوم كافرين لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر.
وقيل في معنى الآية إن شعيباً قال لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم يعني إنكم لستم مستحقِّين لأن يحزن عليكم.
فعلى القول الأول : إنه حصل لشعيب حزن على قومه.
وعلى القول الثاني : لم يحزن عليه والله أعلم.
وقوله تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نبي ( فيه إضمار وحذف تقديره فكذبوه ) إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ( قال ابن مسعود : البأساء الفقر والضراء المرضى وهو معنى قول الزجاج : فإنه قال البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض.
وقيل : البأساء الشدة وضيق العيش والضراء الضر وسوء الحال ) لعلهم يضرعون ( يعني إنما فعلنا بهم ذلك لكي يتضرعون ويتوبوا والتضرع الخضوع والانقياد لأمر الله عز وجل والمراد من هذه الآية أن الله عز وجل لما عرف نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أحوال الأنبياء مع أممهم المكذبة وقص عليه من أخبارهم وعرفه سنته في الأمم الذين خلقوا من قبله وما صاروا إليه من الهلاك والعذاب عرفه في هذه الآية انه قد أرسل رسلاً إلى أمم أخر فكذبوا رسلهم فأخذهم بالبأساء والضراء كما فعل بمن كذب برسله وفيه تخويف وتحذير الكفار قريش وغيرهم من لكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب ثم بين تعالى أنه لا يجري تدبيره في أهل القرى على نمط واحد وسنة واحدة إنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب وهو قوله تعالى : ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ( لأن ورود النعمة على البدن والمال بعد الشدة والضيق يستدعي الانقياد للطاعة والاشتغال بالشكر.
قال أهل اللغة : السيئة كل ما يسوء صاحبه والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل فالسيئة والحسنة هنا الشدة والرخاء.
والمعنى أنه تعالى بدل مكان البأساء والضراء النعمة والسعة والخصب والصحة في الأبدان فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يأخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج وهو قوله ) حتى عفوا ( يعني أنه فعل ذلك بهم حتى كثروا وكثرت أموالهم.
يقال : عفا الشعر إذا كثر وطال.
قال مجاهد : حتى كثرت أموالهم وأولادهم ) وقالوا ( يعني من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء والسعة ) قد مس آباءنا الضراء والسراء ( يعني أنهم قالوا هكذا عادة الدهر قديماً وحديثاً لنا ولآبائنا ولم يكن ما مسنا من الشدة والضراء عقوبة لنا من الله تعالى على ما نحن عليه فكونواعلى ما أنتم عليه كما كان آباؤكم من قبل فإنهم لم يتركوا دينهم مما أصابهم من الضراء والسراء قال الله تعالى : ( فأخذناهم بغتة ( يعني أخذناهم فجأة آمن ما كانوا ليكون ذلك أعظم لحسرتهم ) وهم لا يشعرون ( يعني بنزول العذاب بهم والمراد بذكر

صفحة رقم 266
هذه القصة اعتبار من سمعها لينزجر عما هو عليه من الذنوب.
قوله عز وجل : ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا ( لما بين الله تعالى في هذه الآية الأولى ) إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم بعذابه ( " بين في هذه الآية أنهم لو آمنوا يعني بالله ورسوله وأطاعوه فيما أمرهم به واتقوا يعني ما نهى الله تعالى عنه وحرمه عليهم ) لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ( وبركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والثمار وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وكل ذلك من فضل الله تعالى وإحسانه على عباده.
وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه وكذا ثبوت البركة في نابت الأرض لأنه نشأ عن بركات السماء وهي المطر.
وقال البغوي : أصل البركة المواظبة على الشي.
أي تابعنا عليهم بالمطر من السماء والنبات من الأض ورفعنا عنهم القحط والجدب ) ولكن كذبوا ( يعني فعلنا بهم ذلك ليؤمنوا فما آمنوا ولكن كذبوا يعني الرسل ) فأخذناهم ( يعني بأنواع العذاب ) بما كانوا يكسبون ( يعني أخذناهم بسبب كسبهم الأعمال الخبيثة.
قوله تعالى : ( أفأمن أهل القرى ( هو استفهام بمعنى الإنكار وفيه وعيد وتهديد وزجر , والمراد بالقرى مكة وما حولها , وقيل : هو عام في كل أهل القرى الذين كفروا وكذبوا ) أن يأتيهم بأسنا ( يعني عذابنا ) بياتاً ( يعني ليلاً ) وهم نائمون (.
)
الأعراف : ( 98 - 101 ) أو أمن أهل...
" أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " ( ) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى ( يعني نهاراً لأن الضحى صدر النهار ) وهم يلعبون ( يعني : وهم ساهون لاهون غافلون عما يراد بهم.
والمقصود من الآية أن الله خوفهم بنزول العذاب وهم في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على الإنسان التشاغل فيه بأمور الدنيا , وأمور الدنيا كلها لعب ويحتمل أن يكون المراد خوضهم في كفرهم وذلك لعب أيضاً لأنه يضر ولا ينفع ) أفأمنوا مكر الله ( يعني استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا وقيل : المراد به أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون , وعلى هذا الوجه فيكون بمعنى التحذير وسمي هذا العذاب مكراً لنزوله وهم في غفلة عنه لا يشعرون به ) فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ( يعني أنه لا يأمن أن يكون ما أعطاهم من النعمة مع كفرهم استدراجاً إلا من خسر في أخراه وهلك مع الهالكين ) أو لم يهد ( أو لم يبين ) للذين يرثون الأرض من بعد ( هلاك ) أهلها ( الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم ) أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ( يعني لو نشاء أخذناهم وعاقبناهم بسبب كفرهم ) ونطبع ( أي نختم ) على قلوبهم فهم لا يسمعون ( يعني لا يسمعون موعظة ولا يقبلون الإيمان ونطبع منقطع عما قبله والمعنى قبله والمعنى ونحن نطبع على قلوبهم ويجوز أن يكون معطوفاً على الماضي ولفظه لفظ المستقبل والمعنى لو شئنا طبعنا على قلوبهم ) تلك القرى ( يعني هذه القرى التي ذكرنا لك يا محمد أمرها وأمر أهلها وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب ) نقصّ عليك من أنبائها ( يعني نخبرك عنها وعن أخبار أهلها وما كان من أمرهم وأمر رسلهم الذين أرسلوا إليهم لتعلم يا محمد إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا معهم على أعدائنا وأعدائهم من أهل الكفر والعناد وكيف أهلكناهم بكفرهم وبمخالفتهم رسلهم ففيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتحذير لكفار قريش أن يصيبهم

صفحة رقم 267
مثل ما أصابهم ) ولقد جاءتهم ( يعني لأهل تلك القرى ) رسلهم بالبينات ( يعني جاءتهم رسلهم المعجزات الباهرات والبراهين الدالة على صدقهم ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ( اختلف أهل التفسير في معنى ذلك فقيل : معناه فما كانوا هؤلاء المشركين الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم رسلهم بما كذبوا من قبل ذلك وهو يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب وهذا معنى قول ابن عباس والسدي.
قال السدي : آمنوا كرهاً يوم أخذ الميثاق , وقال مجاهد : ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ومعاينتهم العذاب ليؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم وقيل معناه فما كانوا يؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق لهم في علم الله أنهم يكذبون به حين أخرجهم من صلب آدم عليه الصلاة والسلام.
قال أبيّ بن كعب : كان سبق لهم في علمه يوم أقروا له بالميثاق أنهم لا يؤمنون به وقال الربيع بن أنس يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم وأن لا يتأولوا علم ما أخفى الله تعالى عنهم فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون وفي ذلك قال تعالى : ( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ( قال : نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في صلب آدم عليه الصلاة والسلام.
قال الطبري : وأولى الأقوال بالصواب قول أبيّ بن كعب والربيع بن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبداً وقد كان سبق في علم الله لمن هلك من الأمم الذين قص خبرهم في هذه السورة أنهم لا يؤمنون أبداً فأخبر عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم مكذبون به في سابق علمه قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم ) كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ( يعني كما طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية وأهلكهم كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أنهم لا يؤمنون من قومك.
)
الأعراف : ( 102 - 107 ) وما وجدنا لأكثرهم...
" وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " ( ) وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( يعني وما وجدنا لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية الذين قصصنا خبرهم عليك يا محمد من وفاء بالعهد الذي عهدناه إليهم وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به ) وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ( أي ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا وأمرنا قوله عز وجل : ( ثم بعثنا من بعدهم ( يعني ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام ) موسى بآياتنا ( يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك من الآيات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام ) إلى فرعون وملئه ( قيل إن كل من ملك مصر كان يسمى فرعون في ذلك الزمان مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى وملك الروم قيصر وملك الحبشة النجاشي وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه الصلاة والسلام الوليد بن مصعب بن الريان وكان ملك القبط والملأ إشراف قومه وإنما خصوا بالذكر لأنه إذا آمن الأشراف آمن الأتباع ) فظلموا بها ( يعني : فجحدوا بها لأن الظلم وضع الشيء

صفحة رقم 268
في غير موضعه وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة فكفروا بها ووضعوا الكفر موضع الإيمان ) فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( أي : انظر يا محمد بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم ) وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ( يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما دخل على فرعون دعاه إلى الله تعالى وإلى الإيمان به وقال له إني رسول الله أي مرسل إليك وإلى قومك من رب العالمين يعني أن الله الذي خلق السموات والأرض وخلق الخلق وهو سيدهم ومالكهم هو الذي أرسلني إليك ) حقيق ( أي واجب ) على أن لا أقول على الله إلا الحق ( يعني إني رسول والرسول لا يقول على الله إلا الحق في وصفه وتنزيهه وتوحيده وأنه لا إله غيره ) قد جئتكم ببينة من ربكم ( يعني ببرهان على صدقي فيما أدعي من الرسالة والمراد ببينته معجزته وهي العصا واليد البيضاء ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تبليغ رسالته رتب على ذلك الحكم فقال موسى ) فأرسل معي بني إسرائيل ( يعني خلِّ عنهم وأطلقه من أسرك وكان فرعون قد استعبد بني إسرائيل واستعملهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة ) قال إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من الصادقين ( يعني أن فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام بعد تبليغ الرسالة : إن كنت جئت من عند من أرسلك ببينة تدل على صدقك فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك فيما قلت ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ( أي بيِّن , ولاثعبان الذكر من الحيات وصفه هنا بأنه ثعبان والثعبان من الحيات العظيم الضخم ووصفه في آية أخرى بأنه جان والجان الحية الصغيرة والجامع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان.
قال ابن عباس والسدي : إن موسى لما ألقي العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعاً وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة ليحها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون فتأخذه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث وقيل إنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة , وقيل : إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا وقتل بعضهم بعضاً فمات منهم في ذلك اليوم خمسة وعشرون ألفاً ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فعادت في يده عصا كما كانت وفي كون الثعبان مبيناً وجوه :
الأول : أنه تميز وتبين ذلك عما عملته السحرة من التمويه والتلبيس وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تمويه السحرة وتخليهم.
الوجه الثاني : أنهم شاهدوا العصا انقلبت حية ولم يشتبه ذلك عليهم فذلك قال ثعبان مبين أي بيِّن.
الوجه الثالث : إن ذلك الثعبان لما كان معجزة لموسى عليه الصلاة والسلام كان من أعظم الآيات التي أبانت صدق قول موسى عليه الصلاة والسلام

صفحة رقم 269
في أنه رسول من رب العالمين.
)
الأعراف : ( 108 - 112 ) ونزع يده فإذا...
" ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم " ( وقوله تعالى : ( ونزع يده ( النزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه والمعنى أنه أخرج يده من جيبه أو من تحت جناحه ) فإذا هي بيضاء للناظرين ( قال ابن عباس وغيره : أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص , وقيل : إن موسى عليه الصلاة والسلام أدخل يده تحت جيبه ثم نزعها منه وقيل أخرج يده من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس وكان موسى عليه الصلاة والسلام آدم اللون ثم ردها إلى جيبه فأخرجها فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيباً في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى ) بيضاء من غير سوء ( " يعني من غير برص والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يُتعجب منه.
( فصل في بيان المعجزة وكونها دليلاً على صدق الرسل )
اعلم ان الله تبارك وتعالى كان قادراً على خلق المعرفة والإيمان في قلوب عباده ابتداء من غير واسطة ولكن أرسل إليهم رسلاً تعرفهم معالم دينه وجميع تكليفاته وذلك الرسول واسطة بين الله عز وجل وبين عباده يبلغهم كلامه ويعرفهم أحكامه وجائز أن تكون تلك الواسطة من غير البشر كالملائكة من الأنبياء وجائز إلى أن تكون الواسطة من جنس البشر كالأنبياء مع أممهم ولا مانع لهذا من جهة العقل وإذا جاز هذا في دليل العقل وقد جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بمعجزات دلت على صدقهم فوجب تصديقهم في جميع ما أتوا به لأن المعجز مع التهدي من النبي قائم مقام قول الله عز وجل صدق عبدي فأطيعوه واتبعوه ولأن معجزة النبي شاهد على صدقه فيما يقوله وسميت المعجزة معجزة لأن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها وهي على ضربين : فضرب منها هو على نوع قدرة البشر ولكن عجزوا عنه فعجزهم عنه دلَّ على أنه من فعل الله ودل على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتمنّي الموت في قوله ) فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( " فلما صرفوا عن تمنيه مع قدرتهم عليه علم أنه من عند الله ودل على صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الضرب الثاني ما هو خارج عن قدرة البشر كإحياء الموتى وقلب العصا حية وإخراج ناقة من صخرة وكلام الشجر والجماد الحيوان ونبع الماء من بين الأصابع وغير ذلك من المعجزات التي عجز البشر عن مثلها فإذا أتى النبي بشيء من تلك المعجزات الخارقة للعادات علم أن ذلك من عند الله وأن الله عز وجل هو الذي أظهر ذلك المعجز على يد نبيه ليكون حجة له على صدقه فيما يخبر به عن الله عز وجل وقد ثبت بدليل العقل والبرهان القاطع أن الله تعالى قادر على خلق الأشياء وإبداعها من غير أصل سبق لها وإخراجها من العدم إلى الوجود وأنه قادر على قلب الأعيان وخوارق العادات والله تعالى أعلم.
قوله عز وجل : ( قال الملأ من قوم فرعون إن هذا ( يعني موسى ) لَساحر عليم ( يعني أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون , وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان فلما أتى بما يعجز عنه غيره قالوا إن هذا لساحر عليم.
فإن قلت : قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قوم الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم فكيف الجمع بينهما.
قلت : لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولاً ثم إنهم قالوه بعد

صفحة رقم 270
فأخبر الله تعالى عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء , وقيل : يحتمل أن فرعون قال هذا القول , ثم إن الملأ من قومه وم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامة فأخبر الله عز وجل هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون.
وقوله : ( يريد أن يخرجكم من أرضكم ( يعني يريد موسى أن يخرجكم أيها القبط من أرض مصر ) فماذا تأمرون ( يعني : فأي شيء تشيرون أن نفعل به وقيل إن قوله فماذا تأمرون من قول الملأ لأن كلام فرعون تم عند قوله يريد أن يخرجكم من أرضكم فقال الملأ مجيبين لفرعون فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم والمعنى فما ترون أن نفعل به والقول الأول أصح لسياق الآية التي بعدها وهو قوله تعالى : ( قالوا أرجه وأخاه ( يعني أخرِّ أمرهما ولا تعجل فيه فتصير عجلتك عليك لا لك والإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس ولأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعد أن رأى من أمر العصا ما رأى ) وأرسل في المدائن ( جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر ) حاشرين ( يعني رجالاً يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد والمعنى أنهم قالوا لفرعون أرسل إلى هذه المدائن رجالاً من أعوانك وهو الشرَط يحشرون إليك من فيها من السحرة وكان الرؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدقناه واتبعناه وإن غلبوه أنه ساحر فذلك قوله ) يأتوك ( يعني الشرط ) بكل ساحر ( وقرئ سحار والفرق بين الساحر والسحار أن الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر فيتعلم ولا يعلم والسحار هو الماهر الذي يتعلم منه السحر وقيل الساحر من يكون سحره وقتاً دون وقت والسحار الذي يدوم سحره ويعمل في كل وقت ) عليم ( يعني ماهر بصناعة السحر وقال ابن عباس رضي الله عنهما وابن إسحاق والسدي : إن فرعون لما رأى من سلطان الله وقدرته في العصا قال إنا لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحراً فاتخذ غلماناً من بني إسرائيل وبعث بهم إلى مدينة يقال لها الغوصاء يعلمونهم السحر فعلموهم سحراً كبيراً وواعد فرعون موسى موعداً ثم بعث إلى السحرة فجاؤوا ومعهم معلمهم فقال فرعون للمعلم ماذا صنعت قال قد علمتهم سحراً لا يطيقه سحر أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك ساحراً إلا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون فقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل وقال الكلبي : كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفاً , ومحمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفاً , وقال عكرمة : كانوا سبعين ألفاً وقال محمد بن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً وقال السدي : كانوا بضعاً وثمانين ألفاً ,

صفحة رقم 271
ويقال : رئيس القوم شمعون , وقيل : يوحنا.
)
الأعراف : ( 113 - 117 ) وجاء السحرة فرعون...
" وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون " ( قوله تعالى : ( وجاء السحرة فرعون ( يعني لما اجتمعوا وجاؤوا إلى فرعون ) قالوا إن لنا لأجراً ( يعني جعلاً وعطاء تكرمنا به ) إن كنا نحن الغالبين ( يعني لموسى قال الإمام فخر الدين الرازي : ولقائل أن يقول كان حق الكلام أن يقول وجاء السحرة فرعون فقالوا بالفاء وجوابه هو على تقدير سائل سأل ما قالوا إذا جاؤوا فأجيب بقوله قالوا أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين يعني لموسى ) قال نعم ( يعني : قال لهم فرعون لكم الأجر والعطاء ) وإنكم لمن المقربين ( يعني ولكم المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر والمعنى أن فرعون قال للسحرة إني لا أقتصر معكم على الأجر بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي , قال الكلبي : تكونوا أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج من عندي ) قالوا ( يعني السحرة ) يا موسى إما أن تلقي ( يعني عصاك ) وإما أن نكون نحن الملقين ( يعني عصيّنا وحبالنا في هذه الآية دقيقة لطيفة وهي أن السحرة راعوا مع موسى عليه الصلاة والسلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء لا جرم أن الله عز وجل عوضهم حيث تأدبوا مع نبيه موسى ( صلى الله عليه وسلم ) أن منَّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم في ذلك ) قال ( يعني قال لهم موسى ) ألقوا ( يعني أنتم فقدمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قلت كيف جاز لموسى أن يأمر بالإلقاء وقد علم انه سحر وفعل السحر غير جائز ؟
قلت : ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أجوبة أحدها أن معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا.
الجواب الثاني : إنما أمرهم بالإلقاء لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا حبالهم وعصيهم لم تظهر معجزة موسى في عصاه.
الجواب الثالث : أن موسى علم أنهم لا بد أن يلقوا تلك الحبال والعصي وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فأذن لهم في التقديم لتظهر معجزته أيضاً بغلبهم لأنه لو ألقى أولاً لم يكن له غلب وظهور عليهم فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً ) فلما ألقوا ( يعني حبالهم وعصيهم ) سحروا أعين الناس ( يعني صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوا من التمويه والتخييل وهذا هو السحر وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي هي فعل الله وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك ذلك الشيء والمعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى عليه الصلاة والسلام حية تسعى ) واسترهبوهم ( يعني أرهبوهم وأفزعوهم بما فعلوه من السحر وهذا قوله تعالى : ( وجاؤوا ( يعني السحرة ) بسحر عظيم ( وذلك انهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً , ويقال : إنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فغذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً , ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصي زئبقاً أيضاً وألقوها على الأرض فلما أثر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات.
ويقال : إن الأرض كانت سعتها ميلاً فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليه الصلاة والسلام لأجل سحرهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان على يقين وثقة الله تعالى أنهم لن يغلبوه وهو غالبهم وكان عالماً بأن كل ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخييل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى من ذلك بل كان خوفه عليه الصلاة والسلام لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوا من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليه الصلاة والسلام

صفحة رقم 272
أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسه خيفة موسى.
قوله تعالى : ( وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك ( يعني فألقاها ) فإذا هي تلقف ( يعني تبتلع ) ما يأفكون ( يعني ما يكذب فيه السحرة لأن أصل الإفك قلب الشيء عن غير وجهه ومنه قيل للكذاب أفّاك لأنه يقلب الكلام عن وجه الصحيح إلى الباطل.
قال المفسرون : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن لا تخف وألق عصاك فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق.
قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً فإذا هي تلقف يعني تبتلع كل شيء أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً واحداً حتى ابتلعت الكل وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام بينهم فمات من ذلك الزحام خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فصارت في يده عصا كما كانت أول مرة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس بسحر وعرفوا أن ذلك ليس من قدرة البشر وقوتهم فعند ذلك خروا سجَّداً وقالوا : آمنا برب العالمين.
)
الأعراف : ( 118 - 125 ) فوقع الحق وبطل...
" فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون " ( قوله تعالى : ( فوقع الحق ( يعني فظهر الحق الذي جاء به موسى ) وبطل ما كانوا يعملون ( يعني من السحر وذلك أن السحرة قالوا لو كان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا فلما نفدت وتلاشت في عصا موسى علموا أن ذلك من أمر الله وقدرته ) فغلبوا هنالك ( يعني فعند ذلك غلب فرعون وسحرته وجموعه ) وانقلبوا صاغرين ( يعني ورجعوا ذليلين مقهورين ) وألقى السحرة ساجدين ( يعني أن السحرة لما عاينوا من عظيم قدرة الله تعالى ما ليس في قدرتهم مقابلته وعلموا أنه ليس بسحر خروا لله ساجدين وذلك أن الله عز وجل ألهمهم معرفته والإيمان به ) قالوا آمنا برب العالمين ( فقال فرعون إياي تعنون فقالوا بل ) رب موسى وهارون ( قال مقاتل : قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتينّ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك , وقيل : إن الحبال والعاصي التي كانت مع السحرة كانت حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها قال بعضهم لبعض هذا أمر خارج عن حد السحر وما هو إلا من أمر السماء فآمنوا به وصدقوه.
فإن قلت كان يجب أن يأتوا بالإيمان قبل السجود فما فائدة تقديم السجود على الإيمان.
قلت : لما قذف الله عز وجل في قلوبهم الإيمان والمعرفة خروا سجداً لله تعالى شكراً على هدايتهم إليه وعلى ما ألهمهم الله من الإيمان بالله وتصديق رسوله ثم أظهروا بعد ذلك إيمانهم.
وقيل : لما رأوا عظيم قدرة الله تعالى وسلطانه في أمر العصا وأنه ليس يقدر على ذلك أحد من البشر وزالت كل شبهة كانت في قلوبهم بادروا إلى السجود لله تعظيماً لشأنه لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان باللسان.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخّروا سجّداً وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون.
قوله عز وجل : ( قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ( يعني فرعون للسحرة آمنتم بموسى وصدقتموه قبل أن آمركم به وآذن لكم فيه

صفحة رقم 273
) إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة ( يعني إن هذا الصنع الذي صنعتموه أنتم وموسى في مدينة مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع وذلك أن فرعون رأى موسى يحدث كبير السحرة فظن فرعون أن موسى وكبير السحرة قد تواطآ عليه وعلى أهل مصر وهو قوله ) لتخرجوا منها أهلها ( وتستولوا عليها أنتم ) فسوف تعلمون ( فيه وعيد وتهديد يعني : فسوف تعلمون ما أفعل بكم ثم فسر ذلك الوعيد فقال ) لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ( وهو أن تقطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين فيخالف بينهما في القطع ) ثم لأصلبنكم أجمعين ( يعني على شاطئ نيل مصر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل فرعون ) قالوا ( يعني مجيبين لفرعون حين وعدهم بالقتل ) إنا إلى ربنا منقلبون ( إنا إلى ربنا راجعون وإليه صائرون في الآخرة.
)
الأعراف : ( 126 - 128 ) وما تنقم منا...
" وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " ( ) وما تنقم منا ( وما تكره منا وما تطعن علينا وقال عطاء : معناه وما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه ) إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ( ثم فزعوا إلى الله تعالى وسألوه الصبر على تعذيب فرعون إياهم فقالوا ) ربنا أفرغ علينا صبراً ( أي اصبب علينا صبراً كاملاً تاماً ولهذا أتى بلفظ التنكير يعني صبراً وأي صبر عظيم ) وتوفنا مسلمين ( يعني واقبضنا على دين الإسلام وهو دين خليلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام , قال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء.
قال الكلبي : إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم غير أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : ( لا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( " قوله تعالى : ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى ( يعني وقال جماعة من أشراف قوم فرعون لفرعون أتدع موسى ) وقومه ( من بني إسرائيل ) ليفسدوا في الأرض ( يعني أرض مصر وأراد بالإفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قوله ) ويذرك وآلهتك ( يعني وتذره ليذرك ويذر آلهتك فلا يعبدك ولا يعبدها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان لفرعون بقرة كان يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلاً.
وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناماً وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله أنا ربكم الأعلى والأولى أن يقال إن فرعون كان دهرياً منكر الوجود الصانع فكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هي الكواكب فاتخذ أصناماً على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك وإلهتك بكسر الألف ومعناه ويذرك وعبادتك فلا يعبدك لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد وقيل أراد بالآلهة الشمس والكواكب لأنه كان يعبدها قال الشاعر :
تروحنا من اللعباء قصراً
وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا

صفحة رقم 274
أراد بالإلاهة الشمس ) قال ( يعني فرعون مجيباً لقومه حين قالوا له أتذر موسى وقومه ) سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم ( يعني نتركهن أحياء.
وذلك أن قوم فرعون لما أرادوا إغراء فرعون على قتل موسى وقومه أوجس موسى إنزال العذاب بقومه ولم يقدر فرعون أن يفعل بموسى عليه الصلاة والسلام شيئاً مما أرادوا به لقوة موسى عليه السلام بما معه من المعجزات فعدل إلى قومه فقال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان قد ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاءهم موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان قال فرعون : أعيدوا عليهم القتل فأعادوا القتل على بني إسرائيل , والمعنى أن فرعون قال إنما يتقوى موسى بقومه فنحن نسعى في تقليل عدد قومه بالقتل لتقلَّ شوكته , ثم بين فرعون أنه قادر على ذلك بقوله ) وإنا فوقهم قاهرون ( يعني بالغلبة والقدرة عليهم ولما نزل ببني إسرائيل ما نزل شكوا إلى موسى ما نزل بهم ) قال موسى لقومه ( يعني لما شكوا إليه ) استعينوا بالله واصبروا ( يعني استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم ) إن الأرض لله ( يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله تعالى ) يورثها من يشاء من عباده ( وهذا إطماع من موسى عليه الصلاة والسلام لبني إسرائيل أن يهلِك فرعون وقومه ويملك بني إسرائيل أرضهم وبلادهم بعد إهلاكهم وهو قوله تعالى : ( والعاقبة للمتقين ( يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم , وقيل أراد الجنة يعني إن عاقبة المتقين الصابرين الجنة.
)
الأعراف : ( 129 - 131 ) قالوا أوذينا من...
" قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون " ( ) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ( قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما آمنت السحرة تبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل والمعنى أن بني إسرائيل لام سمعوا ما قاله فرعون ووعدهم به من القتل مرة ثانية قالوا لموسى قد أوذينا من قبل أن تأتينا يعني بالرسالة وذلك أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى نصف النهار فلما جاء موسى بالرسالة وجرى ما جرى شدد فرعون في استعمالهم فكان يستعملهم جميع النهار وأعاد القتل عليهم فقالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يعني بالرسالة وظاهر هذا الكلام يوهم أن بني إسرائيل كرهوا مجيء موسى بالرسالة وذلك كفر.
والجواب عن هذا الإيهام أن موسى عليه الصلاة والسلام كان قد وعدهم بزوال ما كانوا فيه من الشدة والمشقة فظنوا أن ذلك يكون على الفور فلما رأوا أنه قد زادت الشدة عليهم قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا فمتى يكون ما وعدتنا به من زوال ما نحن فيه ) قال ( موسى مجيباً لهم ) عسى ربكم أن يهلك عدوكم ( يعني فرعون وقومه ) ويستخلفكم في الأرض ( يعني ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم ) فينظر كيف تعملون ( يعني فيرى ربكم كيف تعملون من بعدهم.
قال الزجاج : فيرى وقوع ذلك منهم لأن الله تعالى لا يجازيهم بما يعلمه منهم وإنما يجازيهم على ما يقع منهم.
قوله عز وجل : ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ( يعني بالقحط والجدب.
تقول العرب : مستهم السنة بمعنى أخذهم الجدب في السنة ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر :
89 ( ورجال مكة مسنتون عجاف ) 89
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم )

صفحة رقم 275
( اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف ) ومعنى الآية : ولقد أخذنا آل فرعون بالجدب والقحط والجوع سنة بعد سنة ) ونقص من الثمرات ( يعني وإتلاف الغلات بالآفات.
قال قتادة أما السنون فلأهل البوادي وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار ) لعلهم يذكرون ( يعين لعلهم يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله عز وجل من الخير , ثم بين الله تعالى أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً فقال تعالى : ( فإذا جاءتهم الحسنة ( يعني الغيث والخصب والسعة والعافية والسلامة من الآفات ) قالوا لنا هذه ( أي نحن مستحقون لها ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه ) وإن تصبهم سيئة ( يعني القحط والجدب والمرض والبلاء ورأوا ما يكرهون في أنفسهم ) يطيروا ( يعني يتشاءموا وأصله يتطيروا والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين ) بموسى ومن معه ( يعني أنهم قالوا ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم وما ذلك إلا بشؤم موسى وقومه.
قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر : كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين وسنة لم يروا مكروهاً قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط ) ألا إنما طائرهم عند الله ( يعني أن نصيبهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله قال ابن عباس رضي الله عنهما طائرهم ما قضي لهم وقدر عليهم من عند الله وفي رواية عنه شؤمهم عند الله تعالى ومعناه أنه إنما جاءهم بكفرهم بالله وقيل الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( يعني أن ما أصابهم من الله تعالى وإنما قال تعالى وإنما قال أكثرهم لا يعلمون لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب ولا يضيفونها إلى القضاء والقدر.
)
الأعراف : ( 132 - 133 ) وقالوا مهما تأتنا...
" وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " ( قوله تعالى : ( وقالوا ( يعني قوم فرعون وهم القبط لموسى عليه السلام ) مهما تأتنا به من آية ( يعني من عند ربك فهي عندنا سحر وهو قولهم ) لتسحرنا بها ( يعني لتصرفنا عما نحن عليه من الدين ) فما نحن لك بمؤمنين ( يعني بمصدّقين وكان موسى عليه الصلاة والسلام رجلاً حديداً مستجاب الدعوة فدعا عليهم فاستجاب الله عز وجل دعاءه فقال تعالى ) فأرسلنا عليهم الطوفان ( قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق : دخل كلام بعضهم في بعض قالوا لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عز وجل عليهم الآيات فأخذهم أولاً بالسنين وهو بالقحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا

صفحة رقم 276
عليهم موسى وقال : يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله عليهم المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مختلفة مشتبكة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت إسرائيل شيء وركد الماء على أرضهم فلم يقدروا على التحرك ولم يعلموا شيئاً ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت.
وقال مجاهد وعطاء : الطوفان الموت.
وقال وهب : الطوفان الطاعون بلغة أهل اليمن.
وقال أبو قلابة : الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به ثم بقي في الأرض.
وقال مقاتل : الطوفان الماء طفا فوق حروثهم.
وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن الطوفان أمر من الله عز وجل طاف بهم فعند ذلك قالوا يا موسى ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا المطر ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسىعليه الصلاة والسلام ربه فرفع عنهم الطوفان وأنبت الله لهم تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا وأقاموا شهراً في عافية فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زرعهم وثمارهم وورق الشجرة وأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة وأكل مسامير الحديد التي في الأبواب وغيرها وابتلي الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا وقالوا يا موسىا ادع لنا ربك لئن كشفت عنا هذا الرجز لنؤمنن لك وأعطوه عهد الله وميثاقه بذلك فدعاء موسى ربه عز وجل فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت وفي الخبر ( مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم ) ويقال إن موسى عليه السلام خرج إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق فرجع الجراد من حيث جاء وكان قد بقي من زروعهم وثمارهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يؤمنوا ولم يفوا بما عاهدوا عليه وعادوا إلى أعمالهم الخبيثة أقاموا شهراً في عافية ثم بعث الله عز وجل عليهم القمل واختلفوا فيه فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القمل هو السوس الذي يخرج من الحنطة.
وقال مجاهد وقتادة والسدي والكلبي : القمل الدبي وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له.
وقال الحسن : يقرأ بفتح القاف وسكون الميم.
قال أصحاب الأخبار أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يمشي إلى كثيب رملي أعفر بقرية من قرى مصر تسمى عين شمس

صفحة رقم 277
فمشى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاه فانهال عليهم القمل فتتبع ما بقي من حروثهم وزروعهم وثمارهم فأكلها كلها ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه فإذا أكل أحدهم طعاماً امتلأ قملاً.
قال سعيد بن المسيب : القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وأخذت أشعارهم وأبصارهم وحواجبهم وأشفار عيونهم ولزم فدعا موسى فرفع الله عنهم القمل بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فمكثوا بعد ذلك ورجعوا إلى أخبث ما كانوا عليه من الأعمال الخبيثة وقالوا ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر من اليوم يجعل الرمل دواباً فدعا موسى عليهم ما أقاموا شهراً في عافية فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد إناء ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع وكان الرجل منهم يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يثب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تثب في قدورهم فتفسد طعامهم عليهم وتطفئ نيرانهم وكان أحدهم إذا اضطجع ركبته الضفادع حتى تكون عليه ركاماً فلا يستطيع أن ينقلب إلى شقه الآخر وإذا أراد أن يأكل سبقه الضفدع إلى فيه ولا يعجن أحدهم عجيناً إلا امتلأ ضفادع فلقوا من ذلك بلاء شديداً.
وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله عز وجل على آل فرعون وسمعت وأطاعت وجعلت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي على النار وفي التنانير وهي تفور أثابها الله عز وجل بحسن طاعتها برد الماء فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام ما يلقونه من الضفادع وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود فأخذ موسى عليه السلام عليهم العهود والمواثيق ثم دعا الله عز وجل فكشف عنهم الضفدع بعد ما أقامت عليهم سبعاً من السبت إلى السبت فأقاموا شهراً في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى عليه الصلاة ولسلام فأرسل الله عز وجل الدم فسال النيل عليهم دماً عبيطاً وصارت مياههم كلها دماً وكل ما يستقون من الآبار والأنهار يجدونها دماً عبيطاً فشكوا ذلك إلى فرعون وقالوا : ليس لنا شراب إلا الدم , فقال : سحركم.
فقالوا : من أين يسحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا دماً عبيطاً.
فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً ويفرغان الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى أن المرأة من آل فرعون

صفحة رقم 278
تأتي إلى المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول لها اسقني من مائك فتصب لها في قربتها فيصير في الإناء ماء حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي فتفعل ذلك فيصير دماً ثم إن فرعون اعتراه العطش حتى أنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها دماً فمكثوا على ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم.
وقال زيد بن أسلم : إن الدم الذي سلط الله عز وجل عليهم كان الرعاف فأتوا موسى ( صلى الله عليه وسلم ) وشكوا إليه ما يلقوه وقالوا ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه فكشف عنهم ذلك فلم يؤمنوا فذلك قوله تعالى : ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ( يعني يتبع بعضها بعضاً وتفصيلها أن كل عذاب كان يقوم عليهم أسبوعاً وبين كل عذابين مدة شهر ) فاستكبروا ( يعني عن الإيمان فلم يؤمنوا ) وكانوا قوماً مجرمين ( يعني آل فرعون.
)
الأعراف : ( 134 - 136 ) ولما وقع عليهم...
" ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " ( قوله تعالى : ( ولما وقع عليهم الرجز ( يعني لما نزل بهم العذاب الذي ذكره في الآية المتقدمة هو الطوفان وما بعده وقال سعيد بن جبير الرجز الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت فنزل بهم الطاعون حتى مات منهم في يوم واحد سبعون ألفاً فأمسوا وهم لا يتدافنون
( ق ) .
عن أبي أسامة بن زيد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الطاعون رجز أرسل على طائفة من بين إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ) وقوله تعالى : ( قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ( يعني بما أوصاك وقيل بما عهد عندك من إجابة دعوتك ) لئن كشفت عنا الرجز ( يعني العذاب الذي وقع بنا ) لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (

صفحة رقم 279
حتى يذهبوا حيث شاؤوا ) فلما كشفنا عنهم الرجز ( يعني بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام ) إلى أجل هم بالغوه ( يعني إلى الوقت الذي أجل لهم وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم ) إذا هم ينكثون ( يعني إذا هم ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به.
واعلم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات هي معجزات في الحقيقة دالة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام ووجه ذلك أن العذاب كان مختصاً بآل فرعون دون بني إسرائيل فاختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز وكون بني إسرائيل في أمان منه وعافية وقوم فرعون في شدة وعذاب وبلاء مع اتحاد المساكن معجز أيضاً.
فإن اعترض معترض وقال إن الله تعالى علم من حال آل فرعون أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها.
فالجواب على مذهب أهل السنة إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يُسأل عما يفعل وأما على قول المعتزلة في رعاية المصلحة فلعله تعالى علم من قوم فرعون أن بعضهم كان يؤمن بتوالي تلك المعجزات وظهورها فلهذا السبب والاها عليهم والله أعلم بمراده.
قوله عز وجل : ( فانتقمنا منهم ( يعني كافأناهم عقوبة لهم سوء صنيعهم.
وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب ) فأغرقناهم في اليم ( والمعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم فلما بلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق فذلك قوله فأغرقناهم في اليم يعني البحر واليم الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة جر البحر ومعظم مائه.
قال الزهري : اليم معروف لفظه سريانية عربتها العرب ويقع اسم على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى : ( فاقذفيه في اليم ( " والمراد به نيل مصر وهو عذب ) بأنهم كذبوا بآياتنا ( يعني أهلكناهم وأغرقناهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق نبينا ) وكانوا عنها ( يعني عن آياتنا ) غافلين ( يعني معرضين وقيل كانوا على حلول النقمة بهم غافلين.
ولما كان الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها كالغفلة عنها سموا غافلين تجوزاً لأن الغفلة ليست من فعل الإنسان.
)
الأعراف : ( 137 - 140 ) وأورثنا القوم الذين...
" وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين " ( قوله عز وجل : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ( يعني ومكنّا القوم الذين كانوا يقهرون ويغلبون على أنفسهم وهو أن فرعون وقومه كانوا قد تسلطوا على بني إسرائيل فقتلوا أبناءهم واستخدموهم فصيروهم مستضعفين تحت أيديهم ) مشارق الأرض ومغاربها ( يعني أرض الشام ومصر وأراد بمشارقها ومغاربها جميع جهاتها ونواحيها.
وقيل : أراد بمشارق الأرض ومغاربها الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب.
وقيل : أراد جميع جهات الأرض وهو اختيار الزجاج قال : لأن داود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض.
وقوله عز وجل : ( التي باركنا فيها ( يدل على أنها الأرض المقدسة يعني باركنا فيها بالثمار والأشجار والزروع والخصب والسعة ) وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل ( يعني وتمت كلمة الله وهي وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم وقيل كلمة الله هي قوله ) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ( الآية والحسنى صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن وتمامها إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم ) بما صبروا ( يعني إنما حصل لهم ذلك التمام وهو ما أنعم الله تعالى بهم عليهم من إنجاز وعده لهم بسبب صبرهم على دينه وأذى فرعون لهم ) ودمرنا ( يعني وأهلكنا والدمار الهلاك باستئصال ) ما كان يصنع فرعون وقومه ( في أرض مصر من العمارات والبينان ) وما كانوا يعرشون ( يعني يسقفون من

صفحة رقم 280
ذلك البنيان وقال مجاهد : ما كانوا يبنون من البيوت والقصور.
وقال الحسن : وما كانوا يعرشون من الثمار والأعناب.
قوله عز وجل : ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ( يعني وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد إهلاك فرعون وقومه وإغراقهم فيه يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره.
وقال الكلبي عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله تعالى : ( فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ( يعني فمر بنو إسرائيل بعد مجاوزة البحر على قوم يعكفون أي يقيمون ويواظبون على أصنام لهم يعني تماثيل لهم كانوا يعبدونها من دون الله.
قال ابن جريج : كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول شان العجل.
وقال قتادة : كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالرقة يعني بالرقة ساحل البحر وقيل كان أولئك الأقوام من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقتالهم ) قالوا ( يعني قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا ذلك التمثال ) يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ( يعني كما لهم أصنام يعبدونها ويعظمونها فاجعل لنا أنت إلهاً نعبده ونعظمه.
قال البغوي رحمه الله : ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى وإنما معناه اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم وقال غيره هذا يدل على غاية جهل بني إسرائيل وذلك أنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى بعد ما رأوا الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وهي الآيات التي توالت على قوم فرعون حتى أغرقهم الله تعالى في البحر بكفرهم وعبادتهم غير الله تعالى فحملهم جهلهم على أن قالوا لنبيهم موسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فرد عليهم موسى عليه الصلاة والسلام بقوله ) قال إنكم قوم تجهلون ( يعني تجهلون عظمة الله تعالى وأنه لا يستحق أن يعبد سواه لأنه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه.
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن مَن كان قبلكم ) أخرجه الترمذي.
وقوله تعالى : ( إن هؤلاء متبرٍ ما هم فيه ( أي مهلك والتتبير الإهلاك ) وباطل ما كانوا يعلمون ( البطلان عبارة عن عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائده ونفعه والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا يدفع عنهم ضراً لأنه عمل لغير الله تعالى فكان باطلاً لا نفع فيه ) قال أغير الله أبغيكم إلهاً ( لما قال بنو إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام اجعل لنا إلهاً لنا إلهاً كما لهم آلهة حكم عليهم بالجهالة وقال مجيباً لهم على سبيل العجب والإنكار عليهم أغير الله أبغيكم إلهاً يعني أطلب لكم وأبغي لكم إلهاً ) وهو فضّلكم على العالمين ( والمعنى أن الإله ليس هو شيئاً يطلب ويلتمس ويتخير بل الإله هو الذي فضلكم على العالمين لأنه القادر على الإنعام والإفضال فهو هذا الذي يستحق أن يعبد ويطاع لا عبادة غيره ومعنى قوله فضلكم على العالمين يعني على عالمي زمانكم وقيل فضلهم بما خصهم به من الآيات الباهرة التي لم تحصل لغيرهم

صفحة رقم 281
وإن كان غيرهم أفضل منهم.
)
الأعراف : ( 141 - 143 ) وإذ أنجيناكم من...
" وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين " ( قوله عز وجل : ( وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم ( هذه الآية تقدم تفسيرها في سورة البقرة , والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذن أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
قوله عز وجل : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ( يعني وواعدنا موسى عليه الصلاة والسلام لمناجاتنا ثلاثين ليلة وهي ذو القعدة ) وأتممناها بعشر ( يعني عشر ذي الحجة وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
قال المفسرون إن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأيتهم بكتاب من عند الله عز وجل فيه بيان ما يأتون وما يذرون فما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه عز وجل أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصامها فلما تمت أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب وقيل بل أكل من ورق الشجر فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام وقيل إن الله تعالى أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يصوم ثلاثين يوماً ويعمل فيها ما يتقرب به إلى الله ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال : وتممناها بعشر وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى : ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ( " فذكره هناك على الإجمال وذكره هنا على التفصيل.
وقوله تعالى : ( فتم ميقات ربه أربعين ليلة ( يعني فتم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى عليه الصلاة والسلام وعبادته أربعين ليلة لأن الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال ولهذا قيل مواقيت الحج ) وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ( يعني كن أنت خليفتي فيهم من بعدي حتى أرجع إليك ) وأصلح ( يعني وأصلح أمور بني إسرائيل واحملهم على عبادة الله تعالى.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الرفق بهم والإحسان إليهم ) ولا تتبع سبيل المفسدين ( يعني ولا تسلك طريق المفسدين في الأرض ولا تطعهم والمقصود من هذا الأمر التأكيد لأن هارون عليه الصلاة والسلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين فهو كقوله ولكن ليطمئن قلبي وكقولك للقاعد اقعد بمعنى دُم على ما أنت عليه من القعود.
قوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا ( يعني للوقت الذي وقتنا له أن يأتي فيه لمناجاتنا وهو قوله ) وكلمه ربه ( وفي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام واختلف الناس في كلام الله تعالى فقال الزمخشري كلمه ربه عز وجل من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام

صفحة رقم 282
كما خلقه مخطوطاً في الألواح هذا كلامه وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأن الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ( " فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهبت الحنابلة ومن وافقهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قد تم وذهب جمهور المتكلمين إلى أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول قالوا إن موسى عليه الصلاة والسلام سمع تلك الصفة الأزلية الحقيقية وقالوا كما أنه لا يبعد رؤية ذاته وليس جمساً ولا عرضاً كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه ليس بصوت ولا حرف ومذهب أهل السنة وجمهور العلماء من السلف والخلف إن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله وحقيقته.
قال أهل التفسير والأخبار : لما جاء موسى عليه الصلاة والسلام لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام ثم أتى طور سيناء وفي القصة أن الله تعالى أنزل ظلة تغشت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية وطرد عنه الشطيان وهو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فرأى الملائكة قياماً في الهواء ورأى العرش بارزاً وأدنى ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح وكلمه الله تبارك وتعالى وناجاه وأسمعه وكلامه وكان جبريل عليه السلام معه فلم يسمع ما كلم الله تعالى به موسى فاستحلى كلام ربه عز وجل واشتاق إلى رؤيته ) قال رب أرني أنظر إليك ( قال الزجاج : فيه اختصار تقديره أرني نفسك أنظر إليك وقال ابن عباس معناه أعطني أنظر إليك إنما سأل موسى عليه الصلاة والسلام الرؤية مع علمه بأن الله تعالى لا يرى في الدنيا لما هاج به من الشوق وفاض عليه من أنواع الجلال حتى استغرق في بحر المحبة فعند ذلك سأل الرؤية وقيل إنما سأل الرؤية ظناً منه بأنه تعالى يرى في الدنيا فتعالى الله عن ذلك ) قال لن تراني ( يعني ليس لبشر أن يراني في الدنيا ولا يطيق النظر اليّ في الدنيا من نظر إليّ في الدنيا مات فقال موسى عليه الصلاة والسلام : إلهي سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك.
وقال السدي : لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام غاص عدو لله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى فوسوس إليه أن مكلمك شيطان عند ذلك سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية فقال ) ربي أرني أنظر إليك ( قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ) لن تراني (.
( فصل )
وقد تمسك من نفي الرؤية من أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وهو قوله تعالى : ( لن تراني ( قالوا لن تكون للتأبيد والدوام ولا حجة لهم في ذلك ولا دليل ولا يشهد لهم في ذلك كتاب ولا سنة وما قالوه في أن لن تكون للتأبيد خطأ بين ودعوى على أهل اللغة

صفحة رقم 283
إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل أهل اللغة والعربية ولم يقل به أحد منهم ويدل على صحة ذلك قوله تعالى في صفة اليهود ) ولن يتمنوه أبداً ( " مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة يدل عليه قوله تعالى : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ( " وقوله ) يا ليتها كانت القاضية ( " فإن قالوا إن لن معناها تأكيد النفي كلا التي تنفي المستقبل قلنا إن صح هذا التأويل فيكون معنى لن تراني محمولاً على الدنيا أي لن تراني في الدنيا جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيمة في الدار الآخرة وأيضاً فإن موسى عليه الصلاة والسلام كان عارفاً بالله تعالى وبما يجب ويجوز ويمتنع على الله عز وجل وفي الآية دليل على أنه سأل الرؤية فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام فحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى وأيضاً فإن الله عز وجل علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم من ذلك كون الرؤية في نفسها جائزة وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل وهو قوله تعالى : ( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( وهو أمر جائز الوجود في نفسه وإذا كان كذلك ثبت أن رؤيته جائزة الوجود لأن استقرار الجبل غير مستحيل عند التجلي إذا جعل الله تعالى له قوة على ذلك والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً والله أعلم بمراده.
قال وهب ومحمد بن إسحاق : لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل الرؤية أرسل الله الضباب والرياح والصواعق والرعد والبرق والظلمة حتى أحاطت بالجبل الذي عليه موسى عليه الصلاة والسلام أربع فراسخ من كل جانب وأمر الله تعالى أهل السموات أن يعترضوا على موسى عليه الصلاة والسلام فمرت به ملائكة السماء الدنيا كثيران البقرة تنبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد فقال موسى : رب إني كنت عن هذا غنياً ثم أمر الله تعالى ملائكة السماء الثانية أن أهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه مثل الأسود لهم لجب بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف موسى بن عمران مما رأى وسمع واقشعرت كل شعرة في رأسه وبدنه ثم قال : لقد ندمت على مسألتي فهل ينجيني مما أنا فيه شيء فقال له خير الملائكة ورئيسهم : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الثالثة أن أهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تنبع بالتسبيح والتقديس لهم جلب كجلب الجيش العظيم أوالنهم كلهب النار ففزع موسى واشتد فزعه وأيس من الحياة فقال له خير الملائكة ورئيسهم : مكانك يا ابن عمران حتى ترى ما لا صبر لك عليه ثم أمر الله ملائكة السماء الرابعة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لا يشبههم شيء من الذين مروا

صفحة رقم 284
قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت ركبتاه وأرعد قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم : يا ابن عمران اصبر لما سألت فقيل من كثير ما رأيت ثم أمر الله ملائكة السماء الخامسة اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى أن يتبعهم بصره ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملائكة ورئيسهم : يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصير عليه ثم أمر الله ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهطبوا عليه وفي يد كل واحد منهم مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاوبهم من كان قبلهم من الملائكة كلهم يقولون بشدة أصواتهم سبوح قدوس رب العزة أبداً لا يموت في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه فلما رآهم موسى عليه الصلاة والسلام رفع صوته يسبح معهم وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنس عبدك فلا أدري أأنفلت مما أنا فيه أم لا إن خرجت احترقت وإن أقمت مت فقال له كبير الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت يا ابن عمران أن يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي سألت ثم أمر الله تعالى أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة فلما بدأ العرش انصدع الجبل من عظمة الرب سبحانه وتعالى ورفعت الملائكة أصواتهم جميعاً يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة أبداً لا يموت فارتج الجبل لشدة أصواتهم واندك واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقاً على وجهه ليس معه روحه فأرسل الله تعالى برحمته الروح فتغشته وقلب عليه الحجر الذي كان جلس عليه موسى فصار عيله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى عليه الصلاة والسلام وأقامت الروح عليه مثل اللامة فلما أفاق موسى قام يسبح ويقول آمنت بك وصدقت أنه لا يراك أحد فيحيا ومن نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وملك الملوك والإله العظيم لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك وما أجلّك يا رب العالمين فذلك قوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ( قال ابن عباس : ظهر نور ربه للجبل فصار تراباً واسم الجبل زبير.
وقال الضحاك أظهر الله

صفحة رقم 285
عز وجل من نور الحجب مثل منخر الثور.
وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ما تجلى للجبل من الله تعالى إلا مثل سم الخياط حتى صار دكاً.
وقال السدي ما تجلى إلا قدر الخنصر يدل عليه ما روى ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على الفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل ذكره البغوي هكذا بغير سند وأخرجه الترمذي أيضاً عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية ) فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ( قال حماد هكذا وأمسك بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى فساخ الجبل وخرّ موسى عليه السلام صعقاً.
وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ويروى عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نوراً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً يعني مستوياً بالأرض وقال ابن عباس : جعله تراباً وقال سفيان ساخ الجبل حتى وقع في البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفي صار رملاً هائلاً وقال الكلبي جعله دكاً يعني كسراً جبالاً صغاراً وقيل إنه صار لعظمة الله تعالى ستة أجبل فوقع ثلاثة بالمدينة وهي : أحد وورقان ورضى ووقع ثلاثة بمكة وهي : ثور وثبر وحراء وقوله تعالى : ( وخر موسى صعقاً ( قال ابن عباس والحسن يعني مغشياً عليه.
وقال قتادة يعني ميتاً والأول أصح لقوله ) فلما أفاق ( والميت لا إفاقة له إنما يقال أفاق من غشيته قال الكلبي صعق موسى عليه الصلاة والسلام يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطي التوراة يوم الجمعة يوم النحر.
وقال الواقدي : لما خر موسى صعقاً قالت ملائكة السموات : ما لا بن عمران وسؤال الرؤية وفي بعض الكتب أن ملائكة السموات أتوا موسى وهو في غشيته فجعلوا يركلونه ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة فلما أفاق يعني من غشيته ورجع علقه إليه وعرف أنه سأل أمراً عظيماً لا ينبغي له ) قال سبحانك ( يعني تنزيهاً لك من النقائص كلها ) تبت إليك ( يعني من مسألتي الرؤية بغير إذنك وقيل من سؤال الرؤية في الدنيا وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمنعها قال سبحانك تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي وقيل لما سأل الرؤية ومنعها قال تبت إليك يعني من هذا السؤال وحسنات الأبرار سيئآت المقربين ) وأنا أول المؤمنين ( يعني بأنك لا ترى في الدنيا وقيل أنا أول المؤمنين يعني من بني إسرائيل بقي في الآية سؤالات : الأول أن الرؤية عين النظر فكيف قال أرني أنظر إليك وعلى هذا يكون التقدير أرني حتى أراك ؟ والجواب عنه : أن معنى قوله أرني اجعلني متمكن من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك.
السؤال الثاني كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ حتى يكون مطابقاً لقوله ) أنظر إليك ( ؟ والجواب : أن النظر لما كان مقدما الرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه.
السؤال الثالث : كيف استدرك وكيف اتصل الاستدراك من قوله : ( ولكن انظر إلى الجبل ( بما قبله ؟ والجواب أن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحداً

صفحة رقم 286
لا يقوى على رؤيته تعالى إلا من قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أصل التجلي للجبل اندك وتقطع فهذا هو المراد من هذا الاستدراك لأنه يدل على تعظيم أمر الرؤية والله أعلم بمراده.
)
الأعراف : ( 144 ) قال يا موسى...
" قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " ( قوله عز وجل : ( قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ( يعني قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام يا موسى إني اخترتك واتخذتك صفوة.
الاصطفاء الاستخلاص من الصفوة والاجتباء والمعنى إني فضلتك واجتبيتك على الناس وفي هذا تسلية لموسى عليه الصلاة والسلام عن منع الرؤية حين طلبها لأن الله تعالى عدد عليه نعمه التي أنعم بها عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت منعت من الرؤية التي طلبت فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيقن صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها ويه الاصطفاء على الناس برسالاتي وبكلامي يعني من غير واسطة لأن غيره من الرسل منع كلام الله تعالى إلا بواسطة الملك.
فإن قلت كيف قال اصطفيتك على الناس برسالاتي مع أن كثيراً من الأنبياء قد ساواه في الرسالة قلت ذكر العلماء عن هذا السؤال جوابين.
أحدهما : ذكره البغوي فقال لما لم تكون الرسالة عن العموم في حق الناس كافة استقام قوله ) اصطفيتك على الناس ( وإن شاركه فيها غيره كما يقول الرجل للرجل خصصتك بمشورتي وإن كان قد شاور غيره إذا لم تكن المشورة على العموم فيكون مستقيماً وفي هذا الجواب نظر لأن من جملة من اصطفاه الله برسالته محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أفضل من موصى عليه الصلاة والسلام فلا يستقيم هذا الجواب الجواب الثاني ذكره الإمام فخر الدين الرازي فقال : إن الله تعالى بين أنه خصه بمجموع أمرين وهما الرسالة مع الكلام بغير واسطة وهذا المجموع ما حصل لغيره فثبت أنه إنما حصل التخصيص هاهنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة وإنما كان الجواب بغير واسطة سبباً لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر لأن من سمع كلام الملك العظيم من فيه كان أعلى وأشرف ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب وهذا الجواب فيه نظر أيضاً لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) اصطفاه برسالته وكلمه ليلة المعراج بغير واسطة وفرض عليه وعلى أمته الصلوات وخاطبه بيا محمد يدل عليه قوله ) فأوحى إلى عبده ما أوحى ( " ورفعه إلى حيث سمع صريف الأقلام وهذا كله يدل على مزيد الفضل والشرف على موسى عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء فلا يستقيم هذا الجواب أيضاً والذي يعتمد في هذا الجواب عن هذا السؤال أن الله اصطفى موسى عليه الصلاة والسلام برسالته وبكلامه على الناس الذين كانوا في زمانه وذلك أنه لم يكن في ذلك الوقت أعلى منصباً ولا أشرف ولا أفضل منه وهو صاحب الشريعة الظاهرة وعليه نزلت التوراة فدل ذلك عليه أنه اصطفاه على ناس زمكانه كما اصطفى قومه على عالمي زمانهم وهو قوله تعالى : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ( " قال المفسرون : يعني على عالمي زمانهم.
وقوله تعالى : ( فخذ ما آتيتك ( يعني ما فضلتك وأكرمتك به ) وكن من الشاكرين ( يعني على إنعامي عليك وفي القصة أن موسى عليه الصلاة والسلام

صفحة رقم 287
كان بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له زوجته أنا لم أرك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فأخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت ساجدة وقالت ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة قال ذلك لك إن لم تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها.
)
الأعراف : ( 145 ) وكتبنا له في...
" وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين " ( قوله تعالى : ( وكتبنا في الألواح ( قال ابن عباس : يريد ألواح التوراة والمعنى وكتبنا لموسى في ألواح التوراة قال البغوي وفي الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح إثنا عشر ذراعاً وجاء في الحديث خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده.
وقال الحسن : كانت الألواح من خشب.
وقال الكبي من زبرجدة خضراء.
وقال سعيد بن جبير من ياقوته حمراء.
وقال ابن جريج من زمرد أمر الله تعالى جبريل عليه السلام حتى جاء بها من جنة عدن وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور.
وقال الربيع بن أنس : كانت الألواح من زبرجد وقال وهب : أمره الله بقطع ألواح من سخرة صماء لينها له فقطها بيده ثم شقها بأصبعه وسمع موسى عليه الصلاة والسلام صرير الأقلام بالكلمات العشر وكان ذلك في أول يوم من ذي الحجة كان طول الألواح عشرة أذرع على طول موسى وقيل إن موسى خر صعقاً يوم عرفه فأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر وهذا أقرب إلى الصحيح عنه أنها لوحان واختاره الفراء قال وإنما جمعت على عدة العرب في إطلاق الجمع على الإثنين وقال وهب كانت عشرة ألواح.
وقال مقاتل : كانت تسعة.
وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيراً يقرأ لجزء منها في سنة ولم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع بن نون وعزيز وعيسى عليهم الصلاة والسلام والمراد بقوله لم يقرأها يعني لم يحفظها ويقرأها عن ظهر قلبه إلا هؤلاء الأربعة.
وقال الحسن :

صفحة رقم 288
هذه الآية في التوراة بألف آية يعني قوله وكتبنا له في الألواح ) من كل شيء ( يعني يحتاج إليه من أمر ونهي ) موعظة ( يعني نهياً عن الجهل وحقيقة الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته ) وتفصيلاً لكل شيء ( يعني وتبييناً لكل شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام مما يحتاج إليه في أمور الدين وروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه قال : كتب له يعني في التوراة لا تشرك بي شيئاً من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإن كل ذلك خلقي ولا تحلف باسمي كاذباً فإن من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه ووقر والديك.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن كعب الأحبار أن موسى عليه الصلاة والسيلام نظر في التوراة فقال : إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال هي أمة محمد يا موسى فقال رب إني لأجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال : رب إني أجد في التوراة أمة يأكلون كفارتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال : يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله وإذا هبط وادياً حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال : يا رب إني أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعلمها كتب له حسنة بمثلها وإن عملها كتبت بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال : يا رب إني أجد مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحداً منهم إلا مرحوماً فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد قال : رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم أبداً إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء من البحر فاجعلهم أمتي قال هي أمة محمد فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله عز وجل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته قال يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن ) يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ( " - إلى قوله - ) سأريكم دار الفاسقين ( ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( " قال فرضي موسى كل الرضا.
وقوله تعالى : ( فخذها بقوة ( يعني وقلنا لموسى عليه الصلاة والسلام إذا كتبنا له في الألواح من كل شيء خذها بجد واجتهاد.
وقيل معناه فخذها بقوة قلب وصحة عزيمة ونية صادقة لأن من أخذ شيئاً بضعف نية أداه إلى الفتور ) وأمر قومك يأخذون بأحسنها ( قال ابن عباس : يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويعلموا بمحكمها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه الصلاة والسلام أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به وقيل ظاهر قوله ) وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ( يدل على أن بين التكليفين فرقا ليكون في هذا الفصل فائدة وهي أن التكليف كان على موسى أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره من قومه.
فإن قلت ظاهر قوله تعالى : ( يأخذوا بأحسنها ( يدل على أن فيها ما ليس بحسن وذلك لم يقل به أحد فما معنى قوله ) يأخذوا بأحسنها ( ؟ قلت إن التكليف كله حسن وبعضه

صفحة رقم 289
أحسن كالقصاص حسن ولكن العفو أحسن وكالانتصار حسن والصبر أحسن منه فأمروا أن يأخذوا بالشد على أنفسهم ليكون ذلك أعظم من الثواب فهو كقوله ) اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ( " وكقوله ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ( " وقيل إن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح والأحسن الأخذ بالأشد والأشق على النفس وقيل معناه بأحسنها بحسنها وكلها حسن.
قوله تعالى : ( سأريكم دار الفاسقين ( قال مجاهد : يعني مصيركم في الآخرة وقال الحسن وعطاء يريد جهنم يحذركم أن تكونوا مثلهم.
وقال قتادة : سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية الذين خالفوا الله تعالى لتعتبروا بها.
وقال عطية العوفي يعني دار فرعون وقومه وهي مصر.
وقال السدي : يعني منازل الكفار وقال الكلبي هي منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا فكانوا يمرون عليها إذا سافروا.
)
الأعراف : ( 146 ) سأصرف عن آياتي...
" سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " ( قوله عز وجل : ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ( قال ابن عباس يريد الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها حتى لا يؤمنوا بي عقوبة بحرمان الهداية لعنادهم الحق.
وقال سفيان بن عيينة : سأمنعهم فهم القرآن وقيل معناه سأصرفهم عن التفكير في خلق السموات والأرض وما فيهما من الآيات والعبر وقيل حكم الآية لأهل مصر خاصة وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام والأكثرون على أن الآية فيه دليل لمذهب أهل السنة على أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويصرف عن آياته ويقبل الحق من يشاء ويوفق بالتفكر في آياته وقبول الحق من يشاء لأنه القادر على ما يشاء ) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ( " ومعنى الذين يتكبرون الذين يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم والتكبر على هذه الصفة لا يكون إلا لله عز وجل لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد سواه فالتكبر في حق الله عز وجل صفة مدح وفي حق المخلوقين صفة ذم لأنه تكبر بما ليس له ولا يستحقه وقيل التكبر إظهار كبر النفس على غيرها فهو صفة ذم في حق جميع العباد وقوله يتكبرون من الكبر لا من التكبر أن يفتعلون التكبر ويرون أنهم أفضل من غيرهم فلذلك قال يتكبرون في الأرض بغير الحق بل بالباطل ) وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد ( يعني طريق الحق والهدى والسداد والصواب ) لا يتخذوه سبيلاً ( يعني لا يختاروه لأنفسهم طريقاً يسلكونه إلى الهداية ) وإن يروا سبيل الغي ( يعني طريق الضلال ) يتخذوه سبيلاً ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا ( يعني ذلك اختاروه لأنفسهم من ترك الرشد واتباع الغي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله الدالة على توحيده ) وكانوا عنها غافلين ( يعني عن التفكر فيها والاتعاظ بها.
)
الأعراف : ( 147 - 150 ) والذين كذبوا بآياتنا...
" والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " ( ) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ( يعني ولقاء الدار الآخرة

صفحة رقم 290
التي فيها الثواب والعقاب ) حبطت أعمالهم ( يعني بطلت فصارت كأن لم تكن والمعنى أنه قد يكون في الذين يكذبون بآيات الله من يعمل البر والإحسان والخير فبين الله تعالى بهذه الآية أن ذلك ليس ينفعهم من كفرهم وتكذيبهم بآيات الله وإنكارهم الدار الآخرة والبعث ) هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ( يعني هل يجزون في العقبى إلا جزاء العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا.
قوله تعالى : ( واتخذ قوم موسى من بعده ( يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل لمناجاة ربه عز وجل : ( من حليهم ( يعني التي استعاروها من قوم فرعون وذلك أن بني إسرائيل كان لهم عيد فاستعاروا من القبط الحلي ليتزينوا به في عيدهم فبقي عندهم إلى أن أهلك الله فرعون وقومه فبقي الحلي لبني إسرائيل ملكاً لهم فلذلك قال الله تعالى من حليهم فلما أبطأ موسى عليهم جمع السامري ذلك الحلي وكان رجلاً مطاعاً في بني إسرائيل فذلك قال تعالى : واتخذ قوم موسى.
والمتخذ هو واحد فنسب الفعل إلى الكل لأنه كان برضاهم فكأنهم أجمعوا عليه وكان السامري رجلاً صائغاً فصاغ لهم ) عجلاً جسداً ( يعني من ذلك الحلي وهو الذهب والفضة وألقى في ذلك العجل من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فتحول عجلاً جسداً لحماً ودماً ) له خوار ( هو صوت البقر وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور أهل التفسير وقيل كان جسداً لا روح فيه وكان يسمع منه صوت وقيل إن ذلك الصوت كان خفيق الريح وذلك أنه جعله مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على وضع مخصوص فإذا هبت الريح دخلت في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت كصوت البقر.
والقول الأول : أصح لأنه كان يخور وقيل إنه خار مرة واحدة وقيل إنه كان يخور كثيراً وكلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم.
قال وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك.
وقال السدي : كان يخور ويمشي ) ألم يروا ( يعني الذين عبدوا العجل وقيل إن بني إسرائيل كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه الصلاة والسلام بدليل قوله تعالى : ( واتخذ قوم موسى من بعده ( وهذا يفيد العموم وقيل إن بعضهم عبد العجل وهو الصحيح وأجيب عن قوله واتخذ قوم موسى أنه خرج على الأغلب وكذا قوله ) ألم يروا ( ) أنه ( يعني العجل الذي عبدوه ) لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ( يعني أن هذا العجل لا يمكنه أن يتكلم بصواب ولا يهدي إلى رشد ولا يقدر على ذلك ومن كان كذلك كان جماداً أو حيواناً ناقصاً عاجزاً وعلى كلا التقديرين لا يصلح لأن يعبد ) اتخذوه وكانوا ظالمين ( يعني لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى الذي يضر وينفع واشتغلوا بعبادة العجل الذي لا يضر ولا ينفع ولا يتكلم ولا يهديهم إلى رشد وصواب.
قوله عز وجل : ( ولما سقط في أيديهم ( يعني ولما ندموا على عبادة العجل.
تقول العرب لكل نادم على أمر : سقط في يده وذلك لأن من شأن من اشتد ندمه على أمر أن يعض يده ثم يضرب على فخذه فتصير يده ساقطة لأن السقوط عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل ) ورأوا أنهم قد ضلوا ( يعني وتيقنوا أنهم على الضلالة في عبادتهم العجل ) قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا ( يعني يتب علينا ويتجاوز عنا ) لنكونن من الخاسرين ( يعني الذين خسروا أنفسهم بوضعهم العبادة في غير موضعها وهذا كلام من اعتراف بعظيم ما أقدر عليه من الذنب وندم على ما صدره منه

صفحة رقم 291
ورغب إلى الله تعالى في إقالة عثرته واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويرحمهم كلام التائب النادم على ما فرط منه وإنما قالوا ذلك لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم وهو قوله تعالى : ( ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً ( يعني لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام من مناجاة ربه إلى قومه بني إسرائيل رجع غضبان أسفاً لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأن السامري قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفاً.
قال أبو الدرداء : الأسف أشد الغضب.
وقال ابن عباس والسدي : الأسف الحزن والأسيف الحزين.
قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضب وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً فعلى هذا كان موسى عليه الصلاة والسلام غضبان من قومه لأجل عبادتهم العجل آسفاً حزيناً لأن الله تعالى فتنهم وأن الله تعالى كان قد أعلمه بذلك فحزن لأجل ذلك ) قال ( يعني موسى عليه الصلاة والسلام لقومه ) بئسما خلفتموني من بعدي ( أي بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم هذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامي وأتباعه أو لهارون من بني إسرائيل فعلى الاحتمال الأول في أنه خطاب لعبدة العجل يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله وعلى الاحتمال الثاني وهو أن يكون الخطاب لهارون ومن معه من المؤمنين يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى وقد رأيتم مني الأمر بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له ونفي الشركاء عنه وحمل بني إسرائيل على ذلك ومن حق الخلفاء أن يسروا لسيرة مستخلفهم وقوله ) أعجلتم أمر ربكم ( معنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة لم يقل موسى عليه الصلاة والسلام ) عجلت إليك رب لترضى ( " ومعنى الآية أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له.
وقال الحسن : أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنه لم يأت على رأس الثلاثين فقد مات وقيل معناه أعجلتم سخط ربكم بعبادة العجل.
وقال الكلبي : معناه أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام رجع إلى قومه غضبان أسفاً ذكر بعده ما أوجبه الغضب فقال تعالى : ( وألقى الألواح ( يعني التي فيها لاتوراة وكان حاملاً لها فألقاها من شدة الغضب قالت الرواة وأصحاب الأخبار : كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباع وبقي سبع واحد رفع منها ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام , وروى أن الله تعالى أخبر موسى عليه الصلاة والسلام بفتنة قومه وعرف موسى عليه الصلاة والسلام أن ما أخبره الله سبحانه وتعالى به حق وصدق ومع ذلك لم يلق التوراة من يده فلما رجع إلى قومه وعاين ذلك وشاهده ألقى التوراة وهذا كما قيل ليس الخبر كالمعاينة ) وأخذ برأس أخيه يجره إليه ( قيل إنه أخذ بشعر رأسه ولحيته من شدة غضبه وقال ابن الأنباري لما رجع موسى عليه الصلاة والسلام ووجد قومه مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه فأقبل على أخيه هارون يلومه ومد يده إلى رأسه لشدة موجدته عليه إذا لم يلحق به فيعرفه خبر بني إسرائيل فيرجع ويتلافاهم فأعلمه هارون عليه السلام أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفاً على نفسه من القتل وهو قوله تعالى ) قال ( يعني هارون ) ابن أم ( إذ قال هارون لموسى ابن أم وإن كانا لأب وأم ليرققه ويستعطفه عليه

صفحة رقم 292
) إن القوم ( يعني الذين عبدوا العجر ) استضعفوني ( أي استذلوني وقهروني ) وكادوا يقتلونني ( أي وقاربوا أهمّوا أن يقتلوني ) فلا تشمت بي الأعداء ( أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به والمعنى لا تسر الأعداء بما تنال مني من مكروه ) ولا تجعلني مع القوم الظالمين ( يعني الذين عبدوا العجل.
)
الأعراف : ( 151 - 153 ) قال رب اغفر...
" قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " ( ) قال رب اغفر لي ( يعني أن موسى عليه الصلاة والسلام لما تبين له عذر أخيه هارون قال رب اغفر لي ما صنعت إلى أخي هارون يريد ما أظهر من الموجدة عليه في وقت الغضب ) ولأخي ( يعني واغفر لأخي هارون إن كان وقع منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل ) وأدخلنا ( يعني جميعاً ) في رحمتك ( يعني في سعة رحمتك ) وأنت أرحم الراحمين ( وهذا فيه دليل على الترغيب في الدعاء لأن من هو أرحم الراحمين تؤمل منه الرحمة وفيه تقوية لطمع الداعي في نجاح طلبته ) إن الذين اتخذوا العجل ( يعني إلهاً عبدوه من دون الله ) سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ( يعني سينالهم عقوبة من ربهم وهوان بسبب كفرهم وعبادتهم العجل وذلك في عاجل الحياة الدنيا في للمفسرين في هذه الآية قولان :
أحدهما : أن المراد بالذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم كما أمرهم الله فتاب عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة ؟ والجواب : إن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو في نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو إسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ.
فإن قلت السين في قول سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي ؟
قلت : هذا الكلام إنما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه الصلاة والسلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة فكان هذا الكلام سابقاً لوقوعه وهو التل الذي أمرهم الله به بعد ذلك وقال ابن جريج في هذه الآية إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل وهو الذي قاله ابن جرير وإن كان له وجه لكن لجميع المفسرين على الخلافة.
القول الثاني : أن المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال ابن عباس : هم الذين أدركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآباؤهم هم الذين عبدوا العجل وأراد بالغضب عذاب الآخرة وبالذلة في الدنيا الجزية.
وقال عطية العوفي : سينال أولاد الذين عبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأراد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وبني قريظة من القتل والجلاء وعلى هذا القول في تقرير الآية وجهان :
الأول : أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل لك في المناقب فتقول للأبناء كذا وفعلتم كذا وإما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذلك هاهنا وصف اليهود الذين كانوا على زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأنهم اتخذوا العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم على اليهود الذين كانوا في زمنه بأنهم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا.
الوجه الثاني : أن تكون الآية من باب حذف المضاف والمعنى أن الذين اتخذوا العجل وباشروا عبادته سينال أولادهم , الخ ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
وقوله تعالى : ( وكذلك نجزي المفترين ( يعني : وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلهاً نجزي كل من افترى

صفحة رقم 293
على الله كذباً أو عبد غيره وقال أبو قلابة : هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة أن يذله الله , وقال سفيان بن عيينة : هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة وقال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلا وهو يجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال والمبتدع مفتر في دين الله ) والذين عملوا السيئات ( يعني عملوا الأعمال السيئة ويدخل في ذلك كل ذنب صغير وكبير حتى الكفر فما دونه ) ثم تابوا من بعدها ( يعني ثم رجعوا إلى الله من بعد أعمالهم السيئة ) وآمنوا ( يعني وصدقوا بالله تعالى وأنه يقبل توبة التائب ويغفر الذنوب ) إن ربك ( يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب ) من بعدها ( يعني من بعد توبتهم ) لغفور رحيم ( يعني أنه تعالى يغفر الذنوب ويرحم التائبين وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته وتقدير الآية أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله وأخلص التوبة فإن الله يغفرها له ويقبل توبته وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين.
)
الأعراف : ( 154 - 155 ) ولما سكت عن...
" ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " ( قوله تعالى : ( ولما سكت عن موسى الغضب ( يعني : سكن لأن السكوت أصله الإمساك عن الشيء ولما كان السكوت بمعنى السكون استعير في سكون الغضب لأن الغضب لا يتكلم لكنه لما كان بفورته دالاًّ على ما في نفس المغضب كان بمنزلة الناطق فإذا سكنت تلك الفورة كان بمنزلة السكوت عما كان متكلماً به وقيل معناه ولما سكت موسى عن الغضب فهو من المقلوب كما تقول أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة والقول الأول أصح لأنه قول أهل اللغة والتفسر ) أخذ الألواح ( يعني التي ألقاها قال الإمام فخر الدين : وظاهر يدل على أن الألواح لم تتكسر ولم يرفع من التوراة شيء ) وفي نسختها ( النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتاباً من كتاب حرفاً بحرف قد نقلت ما في الأصل إلى الفرع فعلى هذا قيل أراد بها الألواح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ , وقيل : أراد بها النسخة المكتببة من الألواح التي أخذها موسى بعدما تكسرت.
وقال ابن عباس وعمرو بن دينار : لما ألقى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوماً فردت عليه في لوحين وفيهما ما في الأولى بعينها فيكون نسخها نقلها وعلى قول من قال إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بعينها بعد ما ألقاها يكون معنى وفي نسختها المكتوب فيها ) هدى ورحمة ( قال ابن عباس : يعني هدى من الضلالة ورحمة من العذاب ) للذين هم لربهم يرهبون ( يعني للخائفين من ربهم.
قوله عز وجل : ( واختار قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ( الاختيار افتعال من لفظ الخيار يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره.
والمعنى اختار موسى من قومه فحذف كلمة من ذلك سائغ في العربية لدلالة الكلام عليه.
قال أصحاب الأخبار : إن موسى عليه الصلاة والسلام اختار من كل سبط من قومه ستة نفر فكانوا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم فتشاحوا فقال لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد يوشع بن نون وكالب بن يقونا وقيل إنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه إن يختار من الشباب عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه واختلف أهل التفسير في ذلك الميقات فقيل إنه الميقات الذي كلمه فيه ربه وسأل فيه الرؤية وذلك أنه لما خرج إلى طور سيناء أخذ معه هؤلاء السبعين فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودخل موسى فيه وقال لقومه ادنوا فدنوا حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجداً وسمعوا الله تعالى وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل كذا لا تفعل كذا فلما انكشف الغمام أقبلوا على موسى وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله

صفحة رقم 294
جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية.
وقال السدي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً ثم ذهب بهم إلى ميقات ربه ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا ) لن نؤمن لك ( " يا موسى ) حتى نرى الله جهرة ( " فإنك قد كلمته فأرِناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا , فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم رب لو شئت أهلكنهم من قبل وإياي.
وقال محمد بن إسحاق اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال السبعون فيما ذكر لي حين فعلوا ما أمرهم به وخرجوا مع موسى لميقات ربه اطلب لنا نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عموم الغمام حتى غشي الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم ادنوا فكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام ووقعوا سجوداً فسمعوا الله وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فلما فرغ من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا ) لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ( " وهي مرجفة فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه يقول رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي , وقال ابن عباس : كان الله أمر موسى أن يختار من قومه سبعين رجلاً فبرز بهم ليدعو ربهم فكان فيما دعوا الله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي , وقيل : إنما أخذتهم الرجفة من أجل أنهم ادعوا على موسى أنه قتل هارون.
قال علي بن أبي طالب : انطلق موسى وهارون إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفاه الله فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه , وكان هارون حسن الخلق محبباً في بني إسرائيل فقال لهم موسى اختاروا من شئتم فاختاروا سبعين رجلاً فلما انتهوا إليه قالوا يا هارون من قتلك قال ما قتلني أحد ولكن الله توفاني فأخذتهم الرجفة فجعل موسى يرجع يميناً وشمالاً ويقول ) رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ( الآية فأحياهم الله عز وجل وقيل إنما أخذتهم الرجفة لتركهم فراق عبدة العجل لا لأنهم كانوا من عبدته.
قال ابن عباس : إنما تناولتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا القوم حين نصبوا العجل وما كرهوا أن يجامعوهم عليه.
قال ابن جريج فلما خرجوا ودعوا الله أماتهم ثم أحياهم : وقال مجاهد : واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا الميقات الموعد فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم , وقال محمد بن كعب القرظي : لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف فأخذتهم الرجفة فماتوا ثم أحياهم الله وقوله تعالى : ( فلما أخذتهم الرجفة ( أصل الرجفة الاضطراب الشديد الذي يحصل معه التغيير والهلاك ولهذا اختلفوا في تلك الرجفة التي حصلت لهؤلاء هل كان معها موت أم لا فمعظم الروايات التي تقدمت أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة.
وقال وهب بن منبه : لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا

صفحة رقم 295
حتى كادت أن تبين مفاصلهم فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين , فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه فكشف الله عنهم تلك الرجفة فاطمأنوا وسمعوا كلام الله فذلك قوله تعالى : ( فلما أخذتهم الرجفة ( ) قال ( يعني موسى ) رب ( أي يا رب ) لو شئت أهلكتهم من قبل ( يعني من قبل عبادتهم العجل ) وإياي ( وذلك أنه خاف أن يتهمه بنو إسرائل على السبعين إذا رجع إليهم وما هم معه ولم يصدقوه بأنهم ماتوا فقال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل يعني قبل خروجهم إلى الميقات وإياي معهم فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني ) أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ( قال الفراء : ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحاب العجل العجل فقال أتلهكنا بما فعل السفهاء منا يعني عبدة العجل وإنما أهلكوا بسبب مسألتهم الرؤية وهي قولهم أرنا الله جهرة , وهذا قول الكلبي وجماعة , وقال جماعة من أهل العلم : لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم ولكن قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام بمعنى الجحد أي لست تفعل ذلك وهذا قول ابن الأنباري , وقال المبرد : هذا استفهام استعطاف أي لا تهلكنا ) إن هي إلا فتنتك ( قال الواحدي : الكناية في هذ تعود إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أي اختبارك وابتلاؤك وهذا تأكيد لقوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأن معناه لا تهلكنا بفعلهم فإن تلك الفتنة كانت اختباراً منك وابتلاء أضللت بها قوماً فافتتنوا وهديت قوماً فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك وهو المراد من قوله : ( تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ( قال الواحدي : وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر ) أنت وليّنا ( يعني أنت يا ربنا ناصرنا وحافظنا وهذا يفيد الحصر أي لا وليّ لنا ولا ناصر ولا حافظ إلا أنت ) فاغفر لنا ( سأل موسى عليه الصلاة والسلام لنفسه ولقومه الغفران أما لنفسه فلقوله إن هي إلا فتنتك وهذا فيه إقدام على الحضرة المقدسة وأما لقومه فلقولهم أرنا الله جهرة وفي هذا إقدام على الحضرة المقدسة فلهذا السبب سأل موسى عليه الصلاة والسلام الغفران له ولقومه ) وارحمنا ( أي اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء ) وأنت خير الغافرين ( يعني أن كل من سواك إنما يغفر الذنب طلباً للثناء الجميل أو لدفع ضرر وأما أنت يا رب فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم فأنت خير الغافرين.
)
الأعراف : ( 156 - 157 ) واكتب لنا في...
" واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " ( قوله تعالى : ( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ( يعني قال موسى في دعائه واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي واجعلنا ممن كتبت له حسنة وهي ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة أي واكتب لنا في الآخرة مغفرة لذنوبنا ) إنا هدنا إليك ( قال ابن عباس معناه إنّا تبنا إليك , وهذا قول جميع المفسرين وأصل الهود الرجوع برفق قال بعضهم وبه سميت اليهود وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم فلما نسخت شريعتهم صار اسم ذم وهو لازم لهم ) قال ( يعني قال الله عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام ) عذابي أصيب به من أشاء ( يعني من خلقي وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي وعبيدي ومن تصرف في خالص حقه فليس لأحد عليه اعتراض ) ورحمتي وسعت كل شيء ( يعني أن رحمته سبحانه وتعالى

صفحة رقم 296
عمَّت خلقه كلهم , وقال بعضهم : هذا من العام أريد به الخاص فرحمة الله عمت البر والفاجر في الدنيا وهي للمؤمنين لسعة في الآخرة وقيل هي للمؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة ولكن الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن لسعة رحمة الله له فإذا كان يوم القيامة وجبت للمؤمنين خاصة قال جماعة من المفسرين لما نزلت ورحمتي وسعت كل شيء تطاول إبليس إليها وقال أنا من ذلك الشيء فنزعها الله تعالى من إبليس فقال تعالى : ( فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( أيس إبليس منها , وقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله وأثبتها لهذه الأمة فقال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ( الآية وقال نوف الكبالي لما اختار موسى من قومه سبعين رجلاً قال الله تعالى لموسى اجعل لك الأرض مسجداً وطهوراً تصلون حيث أدركتكم الصلاة لا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم واجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم يقرؤها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال موسى ذلك لقومه فقالوا لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ولا نستطيع أن نقرأ التوراة على ظهر قلوبنا ولا نريد أن نقرأها إلا نظراً قال الله تعالى ) فسأكتبها للذين يتقون - إلى قوله - المفلحون ( فجعلها الله تعالى لهذه الأمة , فقال موسى : رب اجعلني نبيهم , قال : نبيهم منهم , قال : اجعلني منهم قال إنك لن تدركهم قال موسى : يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( " فرضي موسى , أما التفسير فقوله الذين يتقون يعني الشرك وسائر ما نهوا عنه لأن جميع التكاليف محصورة في نوعين :
الأول : التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها ولا يقربها وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( للذين يتقون ( والثاني الأفعال المأمور بها وتلك الأعمال بدنية وقلبية أما البدنية فإنها الإشارة بقوله ويؤتون الزكاة وهذه الآية وإن كانت في حق المال لكن يختص بالبدن بإخراجها والأعمال القلبية كالإيمان والمعرفة وإليها الإشارة بقوله تعالى : ( والذين هم بآياتنا يؤمنون (.
قوله عز وجل : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوارة والإنجيل ( ذكر الإمام فخر الدين الرازي في معنى هذه التبعية وجهين :
أحدهما : إن المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث غلى الخلق وفي قوله والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوباً في الإنجيل لأن من المحال أن يجده فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.
الوجه الثاني : إن المراد من لحق من بني

صفحة رقم 297
إسرائيل زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوه , قال : وهذا القول أقرب لأن اتباعه قبل أن يبعث لا يمكن فبين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بآيات الله في زمن موسى عليه الصلاة والسلام , ومن كانت هذه صفته في أيام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في شرائعه فعلى هذين الوجهين يكون المراد بقوله الذين يتبعون الرسول من بني إسرائيل خاصة.
وجمهور المفسرين على خلاف ذلك فإنهم قالوا : المراد بهم جميع أمته الذين آمنوا به واتبعوه سواء كانوا من بني إسرائيل أو غيرهم وأجمع المفسرون على أن المراد بالرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفه بكونه رسولاً لأنه الواسطة بين الله وبين خلقه المبلغ رسالته وأوامره ونواهيه وشرائعه إليهم ثم وصفه بكونه نبياً.
وهذا أيضاً من أعلى المراتب وأشرفها وذلك يدل على أنه رفيع الدرجات عند الله المخبر عنه ثم وصفه بالأمي.
قال ابن عباس : هو نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب قال الزجاج في معنى الأمي : هو الذي على صفة أمة العرب لأن العرب أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان كذلك فلهذا وصفه الله تعالى بكونه أمياً وصح في الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) قال أهل التحقيق : وكونه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أمياً من أكبر معجزاته وأعظمها , وبيانه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بهذا الكتاب العظيم الذي أعجزت الخلائق فصاحته وبلاغته وكان يقرؤه عليهم بالليل والنهار من غير زيادة فيه ولا نقصان منه ولا تغيير فدل ذلك على معجزته وهو قوله تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى ( " وقيل : إنه لو كان يحسن الكتابة ثم إنه أتى بهذا القرآن العظيم لكان متهماً فيه لاحتمال أنه كتبه ونقله عن غيره فلما كان أمياً وأتى بهذا القرآن العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين والمغيبات دل ذلك على كونه معجزة له ( صلى الله عليه وسلم ) .
وأيضاً فإن الكتابة تعين الإنسان على الاشتغال بالعلوم وتحصيلها ثم إنه أتى بهذه الشريعة الشريفة والآداب الحسنة مع علوم كثيرة وحقائق دقيقة من غير مطالعة كتب ولا اشتغال على أحد فدل ذلك على كونه معجزة له ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل في معنى الأمي : الذي هو منسوب إلى أمه كأنه لم يخرج بعد عما ولدته عليه وقيل سمي أمياً لأنه منسوب إلى أم القرى وهي مكة وقوله تعالى : ( الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ( يعني يجيدون صفته ونعته ونبوته مكتوباً عندهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ولكنهم كتموا ذلك وبدلوه وغيروه حسداً منهم له وخوفاً على زوال رياستهم وقد حصل لهم ما كانوا يخافونه فقد زالت رياستهم ووقعوا في الذل والهوان
( خ ) عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال : أجل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ) يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ( " وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظِّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا بدفع بالسيئة السيئة

صفحة رقم 298
ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
( شرح غريب ألفاظ الحديث )
الفظ : السيئ الخلق , والغليظ : الجافي القاسي , وقوله سخاب : بالسين والصاد وهو كثير الصياح في الأسواق , والأعوجاج : ضد الاستقامة وأراد بالملة العوجاء : الكفر والقلب الأغلف : الذي لا يصل إليه شيء ينفعه شبهة بالأغلف كأنه في غلاف.
وروى البغوي بسنده عن كعب الأحبار قال : إني أجد في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح , أمته الحامدون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد يأتزرون على أنصافهم ويغضون أطرافهم صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء مناديهم ينادي في جوف السماء لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام.
وقوله تعالى : ( يأمرهم بالمعروف ( يعني بالإيمان وتوحيد الله ) وينهاهم عن المنكر ( يعني عن الشرك بالله , وقيل : المعروف ما عرف في الشرعية والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف بخلع الأنداد وبمكارم الأخلاق وصلة الأرحام وينهاهم عن المنكر عن عبادة الأوثان وقطع الأرحام ) ويحل لهم الطيبات ( يعني بذلك ما كان محرماً عليهم في التوراة من الطيبات وهو لحوم الإبل وشحم الغنم والمعز والبقر , وقيل : هو ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي , وقيل : هي المستلذات التي تستطيبها الأنفس ) ويحرم عليهم الخبائث ( قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الميتة والدم ولحم الخنزير , وقيل : هو كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس , فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل ) ويضع عنهم إصرهم ( يعني ثقلهم وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحركة لثقله , والمراد بالإصر هنا العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام فكانت تلك الشدائد ) والإغلال التي كانت عليهم ( يعني ويضع الأثقال والشدائد التي كانت عليهم في الدين والشريعة وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثواب بالمقراض وتعيين القصاص في القاتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت وأن صلاتهم لا تجوز إلا في إلا في الكنائس وتتبع العروق في اللحم وغير ذلك من الشدائد التي كانت على بني إسرائيل شبهت بالأغلال مجازاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل , وقيل : شهبت بالأغلال التي تجمع اليد إلى النعق.
كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء محمد عليه الصلاة والسلام نسخ ذلك كله ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) فالذين آمنوا به ( يعني بمحمد عليه الصلاة والسلام ) وعزروه ( يعني وقّروه وعظموه , وأصل التعزير المنع والنصرة وتعزير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه وهو قوله ) ونصروه ( يعني على أعدائه ) واتبعوا النور الذي أنزل معه ( يعني القرآن سمي القرآن نوراً

صفحة رقم 299
لأن به بستنير قلب المؤمن فيخرج به من ظلمات الشك والجهالة إلى ضياء اليقين والعلم ) أولئك هم المفلحون ( يعني هم الناجون الفائزون بالهداية.
)
الأعراف : ( 158 - 159 ) قل يا أيها...
" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " ( قوله تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي قل يا محمد للناس إني رسول الله إليكم جميعاً لا إلى بعضكم دون بعض ففي الآية دليل على عموم رسالته إلى كافة الخلق , لأن قوله يا أيها الناس خطاب عام يدخل فيه جميع الناس ثم أمره الله عز وجل بأن يقول إني رسول الله إليكم جميعاً , وهذا يقتضي كونه مبعوثاً إلى جميع الناس
( ق ) عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة ) وفي رواية ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ) وقوله في الرواية الأولى وبعثت إلى كل أحمر وأسود قيل أراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب وقيل أراد بالأحمر الإنس وبالأسود الجن فعلى هذا تكون رسالته ( صلى الله عليه وسلم ) عامة إلى كافة الخلق من الإنس والجن.
( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( فضلت على الأنبياء بستة أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلخلق كافة وختم بي النبيون ) وقوله تعالى : ( الذي له ملك السموات والأرض ( لما أمر الله عز وجل رسوله محمداً بأن يقول ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) أردفه بما يدل على صحة دعواه : يعني أن الذي له ملك السموات والأرض وهو مدبرهما ومالك أمرهما هو الذي أرسلني إليكم وأمرني بأن أقول لكم إني رسول الله إليكم جميعاً ) لا إله إلا هو يحيي ويميت ( وصف الله نفسه بالإلهية وأنه لا شريك له فيها وأنه القادر على إحياء خلقه وإماتتهم ومن كان كذلك فهو القادر على إرسال الرسل إلى خلقه ) فآمنوا بالله ورسوله ( لما أمر الله رسوله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول للناس إني رسول الله إليكم جميعاً أمر الله جميع خلقه بالإيمان به ورسوله وذلك لأن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عنه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله فقال فآمنوا بالله ورسوله ثم وصفه الله تعالى فقال ) النبي الأمي ( تقدم معناهما ) الذي يؤمن بالله وكلماته ( قال قتادة : يعني آياته وهو القرآن , وقال مجاهد والسدي : أراد بكلماته عيسى ابن مريم لأنه خلق بقوله كن فكن , وقيل : هو على العموم يعني يؤمن بجميع كلمات الله تعالى : ( واتبعوه ( يعني واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه وقيل : المتابعة على قسمين : متابعة في الأقوال ومتابعة في الأفعال.
أما المتابعة في الأقوال فبأن يتمثل التابع جميع ما أمره به المتبوع على طريق الأمر والنهي والترغيب والترهيب , وأما المتابعة في الأفعال فبأن يقتدي به في جميع أفعاله وآدابه إلا ما خص به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , وثبت بالدليل أنه من خصائصه فلا متابعة فيه وقوله تعالى : ( لعلكم تهتدون ( يعني لكي تهتدوا وترشدوا وتصيبوا الحق والصواب في متابعتكم إياه.
قوله عز وجل : ( ومن قوم موسى ( يعني من بني إسرائيل ) أمة ( أي جماعة ) يهدون بالحق ( يعني يهتدون بالحق ويستقيمون عليه ويعملون به ويرشدون إليه ) وبه يعدلون (

صفحة رقم 300
يعني وبالحق يحكمون وبالعدل يأخذون ويعطون ويتصفون.
واختلفوا في هؤلاء من هم فقيل هم الذين أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام وأصحابه فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وآمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن واعترض على هذا بأنهم كانوا قليلين ولفظ الأمة يقتضي الكثرة.
وأجيب عنه بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله إن إبراهيم كان أمة وقيل هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام قبل التحريف والتبديل ودعوا الناس إليه.
وقال السدي وابن جريج وجماعة من المفسرين : إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وأن يبعدهم عنم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا.
قال ابن جريج قال ابن عباس : ساروا في السرب سنة ونصفاً رواه الطبري.
وحكى البغوي عن الكلبي والضحاك والربيع قالوا : هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصحون بالنهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق.
وذكر لنا أن جبريل ذهب بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الإسراء به فكلمهم فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا , قالوا هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسول الله إن موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ مني عليه السلام فرد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على قوم موسى وأقرأهم عشر سور من القرآن نزلت عليه بمكة وأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وهذه الحكاية ضعيفة من وجوه :
الأول : قولهم إن أحداً منا لا يصل إليهم وإذا كان كذلك فمن ذا الذي أوصل خبرهم إلينا.
الوجه الثاني : قولهم إن جبريل ذهب بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الإسراء به وهذا لم يرد به نقل صحيح ولا رواه أحد من أئمة الحديث ولا يلتفت إلى قول الإخباريين والقصاص في ذلك.
الوجه الثالث : قولهم إنهم بلغوا النبي صلى الله عليه والسلام موسى وقد صح في حديث المعراج أنه سلم عليه في السماء السادسة وأيضاً قولهم وأقرأهم عشر سور وقد نزل عليه بمكة أكثر من ذلك وكان فرض الزكاة بالمدينة فكيف يأمرهم بها قبل فرضيتها فإذا ثبت بما ذكرناه بطلان هذه الرواية فالمختار في تفسير هذه الآية أنها إما أن تكون نزلت في قوم كانوا متمسكين بدين موسى قبل التبديل والتغيير ثم ماتوا وهم على ذلك وإما أن تكون قد نزلت فيمن أسلم من اليهود على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كعبد الله بن سلام وأصحابه والله أعلم بمراده.
)
الأعراف : ( 160 - 162 ) وقطعناهم اثنتي عشرة...
" وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون " ( قوله تعالى : ( وقطعناهم ( يعني وفرقنا بني إسرائيل ) اثنتي عشرة أسباطاً ( يعني من أولاد يعقوب لأن يعقوب هو إسرائيل وأولاده الأسباط وكانوا اثني عشر ولداً ) أمماً ( يعني جماعات وقبائل ) وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ( يعني في التيه ) أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست ( يعني : فانفجرت : وقيل : عرقت وهو الانبجاس ) منه ( أي من الحجر ) اثنتا عشرة عيناً ( يعني : لكل سبط عين ) قد علم كل أناس مشربهم ( يعني لا يدخل سبط على سبط في مشربهم ) وظللنا عليهم الغمام ( يعني في التيه يقيهم حر الشمس ) وأنزلنا عليهم المن ( هو الترنجبين ) والسلوى ( جنس من الطير جعل الله ذلك طعاماً لهم في التيه ) كلوا من طيبات ما رزقناكم ( أي وقلنا كلوا ) وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( في الكلام

صفحة رقم 301
حذف ترك ذكره للاستغناء عنه ودلالة الكلام عليه تقديره كلوا من طيبات ما رزقناكم فأجمعوا ذلك وسئموه , وقالوا : لن نصبر على طعام واحد وسألوه غيره لأن المكلف إذا أمر بشيء فتركه وعدل عنه إلى غيره يكون عاصياً بفعله ذلك فلهذا قال : وما ظلمونا يعني وما أدخلوا علينا في ملكنا وسلطاننا نقصاً بمسألتهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون يعني بمخالفتهم ما أمروا به وقد تقدم بسط الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.
وقوله تعالى : ( وإذ قيل لهم ( يعني : واذكر يا محمد لقومك إذ قيل لهم يعني لبني إسرائيل ) اسكنوا هذه القرية ( يعني بيت المقدس , وقال في سورة البقرة : ادخلوا هذه القرية , ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه ) وكلوا منها حيث شئتم ( يعني وكلوا من ثمار القرية وزروعها وحبوبها وبقولها حيث شئتم وأين شئتم.
وقال في البقرة : فكلوا , بالفاء وهو بالواو والفرق بينهما أن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فيحسن دخول الفاء التي هي للتعقيب ولما كانت السكنى حالة استمرار حسن دخول الواو عقب السكنى فيكون الأكل حاصلاً متى شاؤوا وإنما قال في سورة البقرة : رغداً , ولم يقله هنا لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل فأما الأكل مع السكنى والاستمرار فليس كذلك فحسن دخول لفظة رغداً هناك بخلافه هنا ) وقولوا حطة ( أي حط عنا ذنوبنا ) وادخلوا الباب سجداً ( وقال في البقرة عكس هذا اللفظ ولا منافاة في ذلك لأن المقصود من ذلك تعظيم أمر الله وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بسبب التقديم والتأخير ) نغفر لكم خطيئاتكم ( يعني نغفر لكم ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها.
وإنما قال هنا خطيئاتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع ) سنزيد المحسنين ( وقال في سورة البقرة : وسنزيد , بالواو ومعناه أنه قد وعد المسيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بهذا المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له : سنزيد المحسنين ) فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم ( يعني فغير الذين ظلموا أنفسهم بمخالفة أمرنا من بني إسرائيل فقالوا قولاً غير الذي قيل لهم وأمروا به وذلك أنهم أمروا أن يقول حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم وتغييرهم ) فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء ( يعني بعثنا عليهم عذاباً نم السماء أهلكهم , ولا منافاة بين قوله تعالى هنا أرسلنا وبين قوله في سورة البقرة أنزلنا لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل , وقيل : بينهما فرق وهو أن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بذلك فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب قليلاً ثم أرسله عليهم كثيراً ) بما كانوا يظلمون ( يعني أن إرسال العذاب عليهم بسبب ظلمهم ومخالفتهم أمر الله.
وقال في البقرة : بما كانوا يفسقون , والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى وقد تقدمت هذه القصة أيضاً في تفسير سورة البقرة.
)
الأعراف : ( 163 - 164 ) واسألهم عن القرية...
" واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " ( قوله عز وجل : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي : سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك عن حال أهل القرية وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استفهام , لأنه عليه الصلاة والسلام كان قد علم حال أهل هذه القرية بوحي الله عز وجل إليه وإخباره إياهم بحالهم وإنما المقصود بهذا السؤال تقريع اليهود على إقدامهم على الكفر والمعاصي قديماً وأن إصرارهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنكار نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث منهم في زمانه بل إصرارهم على الكفر كان حاصلاً لأسلافهم في قديم الزمان.
وفي الإخبار بهذه القصة معجزة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان أمياً لا يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار

صفحة رقم 302
الأولين , ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم أمر الله عز وجل مسخوا قردة وخنازير واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس : هي قرية بين مصر والمدينة والمغرب.
وقيل بين مدين والطور على شاطئ البحر.
وقال الزهري : هي طبرية الشام.
وفي رواية عن ابن عباس قال : هي مدين وقال وهب : هي ما بين مدين وعيوني يعني القرية التي كانت على ساحل البحر وقريبة منه ) إذ يعدون في السبت ( يعني يتجاوزون حد الله فيه , وما أمرهم به من تعظيمه فخالفوا أمر الله وصادوا فيه السمك ) إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ( يعني ظاهرة على الماء كثيرة وقال الضحاك تأتيهم متتابعة يتبع بعضها بعضاً وقيل كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش البيض السمان ) ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ( يعني الحيتان ) كذلك نبلوهم ( يعني مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم ونحن أعلم بحالهم ) بما كانوا يفسقون ( يعني أن ذلك الابتداء والاختبار بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله وما أمروا به.
قال أهل التفسير : إن اليهود أمروا يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وهو أن الله أمرهم بتعظيمه ونهاهم عن العمل فيه وحرم عليه فيه الصيد , فلما أراد ان يبتليهم كانت الحيتان تظهر لهم في يوم السبت ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تُر إلى السبت المقبل فلما ابتلوا به وسوس إليهم الشيطان وقال إن الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل فاصطادوا وقيل إنه وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ فاتخذوا حياضاً على ساحل البحر وسوقوا إليها الحيتان يوم السبت فإذا كان يوم الأحد خذوها ففعلوا ذلك زمانا ثم إنهم تجرؤوا على السبت وقالوا : ما نرى السبت إلا قد حل لنا فاصطادوا فيه وأكلوا وباعوا وصار أهل القرية أحزاباً ثلاثة وكانوا من سبعين ألفاً فثلث نهوا عن الاصطياد وثلث سكتوا ولم ينهوا وقالوا للناهين لم تعظمون قوماً الله مهلكهم وثلث هم أصحاب الخطيئة الذين خالفوا أمر الله واصطادوا وأكلوا وباعوا فلما لم ينتهوا عما هم فيه من المعصية قال الناهون لا نساكنكم في قرية واحد فقسموا القرية بينهم بجدار للناهين باب يدخلون ويخرجون منه وللعاصين باب , ولعنهم داود عليه الصلاة والسلام وكانوا في زمنه فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا إن لهم لَشأناً لعل الخمر قد غلبتهم فعلوا على الجدار الذي بينهم فإذا هم قد مسخوا قردة ففتحوا عليهم الباب ودخلوا إليهم فصار القردة يعرفون أنسابهم من الناس ولم يعرف الناس أنسابهم من القردة فجعلت القردة تأتي أنسابها من الناس فتشم ثيابها فيقول لهم أهلوهم ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم فنجا الناهون وهلك سائرهم فذلك قوله تعالى : ( وإذ قالت أمة منها لم تعظون قوماً الله مهلكهم

صفحة رقم 303
أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ( واختلفوا في القائلين هذه المقالة فقال بعض المفسرين إن أهل القرية افترقوا ثلاث فرق اعتدت وأصابت الخطيئة وفرقة نهتهم عن ذلك الفعل وفرقة أمسكت عن الصيد وسكتت عن موعظة المعتدين.
وقالوا للناهين : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً , يعني أنهم لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير متعظين ولا منزجرين فقالت الفرقة الناهية للذين لاموهم.
معذرة إلى ربكم يعني أن موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا فموعظتنا لهؤلاء عذر لنا عند الله ) ولعلهم يتقون ( أي : وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا ما هم فيه من الصيد وقال بعضهم : إن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة نهت وزجرت عن السوء وفرقة عملت بالسوء فعلى هذا يكون الذين قالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم الفرقة المعتدية وذلك أن الفرقة الناهية قالوا للفرقة المعتدية انتهوا قبل أن ينزل بكم عذاب شديد إن لم تنتهوا عما أنتم فيه فقالت لهم الفرقة المعتدية : لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً ؟ والمعنى : لم تعظونا وقد علمتم أن الله مهلكنا أو منزل بنا عذابه , والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين لكان قولهم معذرة إلى ربكم خطاباً من الناهية للمعتدية.
)
الأعراف : ( 165 - 168 ) فلما نسوا ما...
" فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون " ( وقوله تعالى : ( فلما نسوا ما ذكروا به ( أي فلما تركوا ما وعظوا به ) أنجينا الذين ينهون عن السوء ( وهم الفرقة الناهية ) وأخذنا الذين ظلموا ( يعني الفرقة المعتدية العاصية ) بعذاب بئيس ( أي شديد وجميع من البأس وهو الشدة ) بما كانوا يفسقون ( يعني أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا.
روى عكرمة عن ابن عباس قال : أسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس فلا أدر ما فعلت الفرقة الساكتة وجعل يبكي قال عكرمة : فقلت جعلني الله فداك , ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه , وقالوا لم تعظون قوماً الله مهلكهم , وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم قال فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فكسانيهما وقال : نجت الساكتة وقال يمان بن رباب : نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون والذين قالوا معذرة وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن , وقال ابن زيد : نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر وقوله تعالى : ( فلما عتوا عن ما نهوا عنه ( قول ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان والمعنى فلما عتوا عما نهوا يعني عن ترك ما نهوا عنه وتمردوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله ) قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ( يعني صاغرين مبعدين من كل خير.
قال قتادة : لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعد ما كانوا رجالاً ونساء.
وقال ابن عباس : جعل الله منهم القردة

صفحة رقم 304
والخنازير فزعم أن شبان القوم صاروا قردة وأن المشيخة صاروا خنازير , قيل إنهم بقوا ثلاثة أيام ينظر الناس إليهم ثم هلكوا جميعاً.
قوله تعالى : ( وإذ تأذن ربك ( الخطاب فيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعنى تأذن أذن والأذن الإعلام يعني أعلم ربك وقيل معناه قال ربك , وقيل : حكم ربك وقيل آلى ربك بمعنى أقسم أجزما ربك ) ليبعثن عليهم ( اللام في قوله ليبعثن جواب القسم لأن قوله وإذ تأذن ربك جارٍ مجرى القسم لكونه وجواب القسم ليبعثن عليهم واختلفوا في الضمير في عليهم إلى من يرجع فقيل يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين لكن قدعلم أن الذين مسخوا لم يبق منهم أحد فيحتمل أن يكون المراد الذين بقوا منهم فألحق الذل بهم وقيل بأن المراد سائر اليهود من بعدهم لأن الذين بقوا من أهل القرية كانوا صالحين والذي بعثه الله على اليهود هو بختنصر وسخاريب وملوك الروم فساموهم سوء العذاب.
وقيل : المراد بقوله ليبعثن عليهم اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والذي بعثه الله عليهم وهو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته فألزم من لم يسلم منهم الصَّغار والذلة والهوان والجزية لازمة لليهود إلى يوم القيامة وأورد على هذا بأن في آخر الزمان يكون لهم عزة وذلك عند خروج الدجال لأن اليهود أتباعه وأشياعه وأجيب عنه بأن ذلك العز الذي يحصل لهم في نفسه غاية الذلة لأنهم يدعون إلهية الدجال فيزدادون كفراً على كفرهم فإذا هلك الدجال أهلكهم المسلمون وقتلوهم جميعاً فذلك هو الذلة والصغار المشار إليه بقوله تعالى ليبعثن عليهم ) إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( وهذا نص في أن العذاب إنما يحصل لهم في الدنيا مستمراً عليهم إلى يوم القيامة ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة ؛ كان عذابهم أشد وأعظم وهو قوله تعالى ) إن ربك لسريع العقاب ( يعني لمن أقام على الكفر ففيه دليل على أنه يجمع لهم مع ذلة الدنيا عذاب الآخرة فيكون العذاب مستمراً عليهم في الدنيا والآخرة , ثم ختم الآية بقوله تعالى : ( وإنه لغفور رحيم ( يعني لمن آمن منهم ورجع عن الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام.
قوله تعالى : ( وقطعناهم في الأرض أمماً ( يعني وفرقنا بني إسرائيل في الأرض جماعات متفرقة فلا تجد بلداً وفيه من اليهود طائفة وجماعة , قال ابن عباس : كل أرض يدخلها قوم من اليهود ) منهم الصالحون ( يعني من هؤلاء الذين وصفهم الله من بني إسرائيل صالحون وهم من آمن بالله ورسوله وثبت منهم على دينه قبل مبعث عيسى عليه الصلاة والسلام وإنما وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ذكره الطبري ولم يذكر غيره , وروى البغوي وغيره من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد : إن المراد بالصالحين الذين أدركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود وآمنوا به والصحيح ما ذكره الطبري يدل عليه قوله بعد فخلف من بعدهم خلف من بعدهم خلف والخلف إنما كان بعد هؤلاء الذين وصفهم بالصلاح من بني إسرائيل.
وقوله تعالى : ( ومنهم دون ذلك ( يعني الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا ) وبلوناهم ( يعني جميعاً الصالح وغيره وهي بلوى اختبار وامتحان ) بالحسنات ( يعني الخصب والعافية ) والسيئات ( يعني الجدب والشدة ) لعلهم يرجعون ( يعني لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا إليه.
قال أهل المعاني : كل واحدة من الحسنات والسيئات إذا فسرت بالنعم والشدة تدعو إلى طاعة الله تعالى أما النعمة فيزداد عليها شكراً فيرغب في الطاعة وأما الشدة فيخاف سوء عاقبتها فيرهب منها.
)
الأعراف : ( 169 ) فخلف من بعدهم...
" فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " ( قوله تعالى : ( فخلف من بعدهم ( يعني من بعد هؤلاء الذين وصفناهم قوله تعالى : ( خلف ( يعني خلف سوء يعني حدث من بعدهم وتبدل منهم بدل سوء يقال منه

صفحة رقم 305
هو خلّف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها فأكثر ما يقال في المدح بفتح اللام وفي الذم بسكونها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح قال حسان بن ثابت في المدح :
لنا القدم الأولى إليك وخلْفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
فسكن اللام في قوله وخلفنا وهو يريد المدح وقال لبيد في الذم :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خَلَف كجلد الأجرب
ففتح اللام وهو يريد الذم وأصله من الفساد.
يقال : خلف اللبن إذا فسد وتغير في السقاء ويقال للرديء من القول : خلف وخلف الشيء تغيره , ومنه خلوف فم الصائم والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله ) ورثوا الكتاب ( يعني انتقل إليهم الكتاب عن آبائهم والمراد بالكتاب التوراة ) يأخذون عرَض هذا الأدنى ( العرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر , والعرْض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير والمعنى أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام على تبديل الكلام وتغييره وذلك الذي يأخذونه من حطام الدنيا هو الشيء التافه الخسيس الحقير لأن الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنها حرام ثم إنهم مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم يصرون عليه ) ويقولون سيغفر لنا ( يعني ذنوبنا فيتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة عن شداد بن أوس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) أخرجه الترمذي وقال في قوله عليه الصلاة والسلام دان نفسه يعني حاسبها في الدنيا قبل أن يحاسَب يوم القيامة وموضع الاستشهاد من الحديث على الآية , قوله وتمنى على الله الأماني لأن اليهود كانوا يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا وهذا هو التمني بعينه قوله تعالى : ( وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ( وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب , والمعنى أنهم إذا أتاهم شيء من الدنيا أخذوه حلالاً كان أو حراماً ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه.
قال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم فيقال له ما بالك ترتشي فيقول : سيغفر لي فيطعن عليه الآخرون فإذا مات أو نزع من الحكم وجعل مكانه آخر فمن كان يطعن عليه ارتشى أيضاً يقول الله عز وجل وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه ) ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ( يعني ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم العهود والمواثيق في الكتاب وهو التوراة ) أن لا يقولوا على الله إلا الحق ( يعني إنّا أخذنا عليهم الميثاق على أن يقولوا الحق فقالوا الباطل وخالفوا أمر

صفحة رقم 306
الله وهو قولهم سيغفر لنا والمراد من هذا التوبيخ والتقريع لليهود في ادائهم على الله الباطل قال ابن عباس : هو ما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها ) ودرسوا ما فيه ( يعني ما في الكتاب والمعنى أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في الكتاب لأنهم دارسون له لم يتركوه ولكن درسوه وضيعوا العمل به ) والدار الآخرة ( يعني وما في الدار الآخرة مما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته العاملين بما أمرهم الله به من كتابه , ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم يرتشوا في الأحكام ) خير للذين يتقون ( يعني يتقون الله ويخافون عقابه ) أفلا يعقلون ( يعني أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أن ما في الآخرة خير وأبقى لأنها دار المتقين.
)
الأعراف : ( 170 - 172 ) والذين يمسكون بالكتاب...
" والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم

صفحة رقم 307
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ( ) والذين يمسكون بالكتاب ( يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وأمسكت به والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه.
نزلت هذه الآية في الذين أسلموا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم تمسكوا بالكتاب الأول ولم يحرفوه ولم يغيروه فأداهم ذلك المسك إلى الإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن ) وأقاموا الصلاة ( يعني وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهاً على عظم قدرها وأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله وبرسوله ) إنا لا نضيع أجر المصلحين ( قوله عز وجل : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ( يعني واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل كأنه ظلة يعني جعلناه فوقهم كالظلة والظلة كل ما علا الإنسان كالسقف ونحوه ) وظنوا ( أي علموا وأيقنوا ) أنه واقع بهم ( يعني الجبل ) خذوا ( يعني وقلنا لهم خذوا وإضمار القول كثير في القرآن وكلام العرب ) ما آتيناكم ( يعني التوراة ) بقوة ( يعني بجد واجتهاد ) واذكروا ما فيه ( يعني واعملوا بما فيه من الأحكام ) لعلكم تتقون ( قال أصحاب الأخبار : إن بني إسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر الله عز وجل جبريل فرفع جبلاً عظيماً حتى صار على رؤوسهم كالظلة فلما نظروا إلى الجبل فوق رؤوسهم خرّوا ساجدين فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً أن يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود إلا على وجوههم الأيسر قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ( الآية عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ( الآية قال سئل عنها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار ) أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي , وقال حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً.
قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنحوه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال يا رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره

صفحة رقم 308
قال ستين سنة قال يا رب زده من عمري أربعين سنة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال أو لم تعطيها ابنك داود ؟ فجحد آدم فجحد ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأما تفسير الآية فقوله سبحانه وتعالى : وإذ أخذ ربك , يعني واذكر يا محمد إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم يعني من ظهور بني آدم وإنما لم يذكر ظهر آدم وإن كان الله سبحانه وتعالى أخرج جميع الذرية من ظهره لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال سبحانه وتعالى من بني آدم من ظهورهم فاستغنى عن ذكر ظهر آدم عليه السلام لما علم أنهم كلهم بنو آدم وأخرجوا من ظهره فترك ذكر ظهر آدم استغناء.
ثم للعلماء في تفسير هذه الآية مذهبان : أحدهما وهو مذهب أهل التفسير والأثر وظاهر ما جاءت به الراوايات عن السلف فيما روي عن ابن عباس من طرق كثيرة وروايات مختلفة رواها عنه الطبري بأسانيد , فمنها عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلاً وقال ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) وعن ابن عباس في هذه الآية قال : مسح ربك ظهر آدم فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنعمان هذا الذي وراء عرفة وأخذ ميثاقهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا وعن ابن عباس أيضاً قال : إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( زاد في رواية عنه ) فجف القلم بما كان يوم القيامة ( وفي رواية عنه قال ) لما خلق الله آدم أخذ ميثاقه أنه ربه وكتب رزقه وأجله ومصائبه واستخرج ذريته كالذر وكتب أرزاقهم وآجالهم ومصائبهم ( وفي رواية عنه قال ) إن الله عز وجل مسح صلب آدم فاستخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وتكفّل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد كل من أعطي الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الأول ومن مات صغيراً ولم يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الاول على الفطرة ( وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس ( فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى ؟ قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة ) إنا كنا عن هذا غافلين ( وقال ابن عباس : أخرج ذرية آدم من ظهره فكلمهم الله وأنطقهم فقال ألست بربكم قالوا بلى ثم أعادها في صلبه فليس أحد من الخلق إلا وقد تكلم فقال ربي الله وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه , وقال السدي : أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه من السماء ثم إنه مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه كهيئة الذر بيضاء فقال ادخلوا الجنة برحمتي ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء فقال ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه

صفحة رقم 309
التبعية زاد في رواية وذلك حيث يقول ) وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً ( وقال محمد بن كعب القرظي : أقر له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل خلق أجسادها , وقال مقاتل : مسح صفحة ظهر آدم اليمنى , فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون فقال يا آدم هؤلاء ذريتك ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق جميعاً.
وروى أن الله سبحانه وتعالى قال لهم جميعاً.
اعلموا أنه لا إله لكم غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي وإني مرسل إليكم رسلاً يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتباً فتكلموا جميعاً وقالوا شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك فأخذ بذلك مواثيقهم ثم كتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب هلا سويت بينهم فقال إني أحب أن أشكر فلما قررهم بتوحديه وأشهد بعضهم على بعض أعاده إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق ) وقال الزجاج وجائز أن يكون الله سبحانه وتعالى جعل لأمثال الذر عقلاً وفهما تعقل به كما قال تبارك وتعالى في النملة ) قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ( " وكما قال ) وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ( " وقال ابن الأنباري مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولادهم وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعه فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولاً حتى خوطبوا بقوله ) يا جبال أوبي معه ( " وكم جعل للبعير عقلاً حتى سجد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت ومعنى قوله ) ألست بربكم ( على هذا التفسير قال الله تعالى للذرية ) ألست بربكم ( فهو إيجاب للربوبية عليهم قالوا بلى يعني قال الذرية بلى أنت ربنا فهو جواب منهم له وإقرار منهم له بالربوبية واعتراف على أنفسهم بالعبودية ) شهدنا ( فيه قولان :
أحدهما : أنهم لما أقروا له بالربوبية قال الله عز وجل للملائكة اشهدوا قالوا شهدنا على إقرارهم فعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله سبحانه وتعالى بلى لأن كلام الذرية تم وانقطع وقوله شهدنا كلام مستأنف.
والقول الثاني : إن قوله سبحانه وتعالى شهدنا من كلام الذرية والمعنى شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وعلى هذا لا يحسن الوقف على بلى لتعلقه بما بعده.
وقوله سبحانه وتعالى : ( أن تقولوا ( وقرئ بالتاء على خطاب الذرية ومعناه لئلا تقولوا أيها الذرية ) يوم القيامة إنا كنا عن هذا ( يعني الميثاق ) غافلين ( وقرئ أن يقولوا بالياء على الغيبة ومعناه لئلا يقولوا أي الذرية إنا كنا عن هذا غافلين , والمذهب الثاني في معنى هذه الآية وهو مذهب أهل الكلام والنظر أنه سبحانه وتعالى أخرج الذرية وأنشأهم بعد أن كانوا نطفاً في أصلاب الآباء وهم أولاد بني آدم فأخرج الذرية إلى الدنيا على ترتيبهم في الوجود وأشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقول وأراهم عجائب خلقه وغرائب صنعه ودلائل وحدانيته فبهذا الإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وذلك بما أظهر لهم من دلائل آياته وبراهينه التي تضطرهم إلى أن يعلموا أنه خالقهم

صفحة رقم 310
وبارئهم وربهم ونافذ الحكم فيهم فلما عرفوا ذلك دعاهم ذلك إلى التصديق بوحدانيته وربوبيته فقالوا بلى شهدنا على أنفسنا أنك أنت ربنا وخالقنا فعلى هذا القول يكون قولهم بلى شهدنا على أنفسنا على المجاز لا على الحقيقة وهذا النوع من المجاز الاستعارة مشهور في كلام العرب فكل من بلغ وعقل فقد أخذ عليه الميثاق بما جعل فيه من السبب الذي يؤخذ به الميثاق وهو العقل والتكليف فيكون معنى الآية وإذ يأخذ ربك من بني ويشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من العقل الذي يكون به الفهم والتكليف الذي به يترتب على صاحبه الثواب والعقاب يوم القيامة.
فإن قلت : فما المختار من هذين المذهبين في تفسير هذه الآية ؟
قلت : المذهب الأول هو المختار لأنه مذهب جمهور المفسرين من السلف وورد الحديث بذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
فإن قلت إذا كانت المختار في تفسير هذه الآية هو مذهب السلف في ذلك وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم كما ورد في الحديث أيضاً فكيف يحمل تفسير ألفاظ هذه الآية على هذا القول ؟
قلت : قد صحَّ الحديث بان الله مسح ظهر آدم فأخرج ذريته وأخذ عليهم الميثاق ولا منافاة بين الآية والحديث كما تقدم في تفسير ألفاظ الآية من أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره على سبيل التوالد بعضهم من بعض كما في الخارج وكلهم بأجمعهم من ظهر آدم الذي هو أصلهم فبهذا الطريق أمكن الجمع بين الآية والحديث , إذ ليس في معنى ألفاظ الآية مايدل على بطلان ذلك ونفيه وقد ورد الحديث بثوبت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جمعاً بين الآية والحديث وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال : ليس بين قوله إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله لأنه تعالى إذ أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته لأن ذرية آدم ذرية كذرية بعضهم من بعض قال وتحصل الفائدة بهذا الفصل بأنه تعالى أثبت الحجة على كل منفوس ممن بلغ ومن لم يبلغ بالميثاق الذي أخذه عليهم وزاد على من بلغ منهم بالحجة بالآيات والدلائل التي نصبها بالرسل المنفذة إليهم مبشرين ومنذرين وبالمواعظ وقال غيره : فائدة أخذ الميثاق عليها في القدم أن من مات منهم صغيراً أدخل الجنة بإقراره بالميثاق الأول وهذا على قول من يقول إن أطفال المشركين يدخلون الجنة إذا ماتوا صغاراً فأما من لا يحكم لهم بالجنة فإنه يقول من كان من أهل الشقاوة من الذرية السوداء وإنما أقروا بالمعرفة كرهاً فلم يغن عنهم ذلك شيئاً ومن بلغ وعقل لم يغن عنه إقراره بالميثاق الأول شيئاً حتى يؤمن ويصدق عند بلوغه وعقله بأن الله ربه وخالقه ويصدق رسله فيما جاؤوا به من عنده وإنما فعل ذلك لئلا يقول الكفار إنا كنا عن هذا الميثاق أو الإيمان بأن الله ربنا غافلين أو لئلا تقول أخلافهم إنما أشرك آباؤنا ونحن نسير على آثارهم ظناً منهم أن الحق ما كانوا عليه.
فإن قلت : إن ذلك الميثاق لا يذكره أحد اليوم فكيف يكون حجة عليهم اليوم أو فكيف يذكرونه يوم القيامة حتى يحتج عليهم به.
قلت : لما أخرج الذرية من صلب آدم ركب فيهم العقول وأخذ عليهم الميثاق فلما أعيدوا إلى صلب آدم بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق لاقتضاء الحكمة الإلهية نسيانهم له ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر , إذ الدار دار تكليف وامتحان ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والابتلاء , والتكليف , فقامت الحجة عليهم لإمدادهم بالرسل وإعلامهم بجريان أخذ الميثاق عليهم وبذلك قامت الحجة عليهم أيضاً يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا

صفحة رقم 311
فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمتهم الحجة ولم تسقط الحجة عنهم بنسيانهم وعدم حفظهم بعد أخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.
)
الأعراف : ( 173 - 175 ) أو تقولوا إنما...
" أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " ( وقوله تعالى : ( أو تقولوا ( يعني الذرية ) إنما أشرك آباؤنا من قبل ( يعني إنما أخذ المثاق عليهم لئلا يقول المشركون إنما أشرك آباؤنا من قبل ) وكنا ذرية من بعدهم ( يعني وكنا أتباعاً لهم فاقتدينا بهم في الشرك ) أفتهلكنا ( يعني أفتعذبنا ) بما فعل المبطلون ( قال المفسرون : هذا قطع لعذر الكفار فلا يستطيع أحد من الذرية أن يقول يوم القيامة إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد والميثاق وكنا نحن الذرية من بعدهم فقلدناهم واقتدينا بهم وكنا في غفلة عن هذا الميثاق فلا ذنب لنا فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك وقد أخذ عليهم جميعاً الميثاق وجاءتهم الرسل وذكروهم به وثبتت الحجة عليهم بذلك يوم القيامة , وأما الذين حملوا معنى الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل وهو مذهب أهل النظر قالوا معناه إن الله نصب هذه الدلائل وأظهرها للعقول لئلا يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لآبائنا لأن نصب أدلة التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على تقليد الآباء في الشرك.
وقوله تعالى : ( وكذلك نفصِّل الآيات ( يعني ليتدبرها العباد فيرجعون إلى الحق والإيمان ويعرضوا عن الباطل والكفر وهو المراد من قوله ) ولعلهم يرجعون ( يعني عن الشرك إلى التوحيد وقيل معناه ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه.
قوله عز وجل : ( واتل عليهم ( يعني واقرأ على قومك يا محمد ) نبأ ( يعني خبر ) الذي آتيناه آياتنا ( اختلفا فيه فقال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء , وقال مجاهد : بلعام بن باعر , وقال ابن مسعود : هو بلعم بن أبر , قال عطية قال ابن عباس : إنه كان من بني إسرائيل وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الكنعانيين من بلد الجبارين , وقال مقاتل : هو من مدينة البلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس ومحمد بن إسحاق والسدي وغيرهم من أصحاب الأخبار والسير قالوا : إن موسى عليه الصلاة والسلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله الأعظم , فقالوا : إن موسى رجل حديد وأن معه جنوداً كثيرة وأنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج وادع الله أن يردهم عنا.
فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ؟ فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي وكان لا يدعو حتى يؤامر ربه في المنام فأتى في المنام فقيل له لا تدع عليهم فقال لقومه : إني قد آمرت ربي فنهاني أن أدعو عليهم فأهدوا له هدية فقبلها وراجعوه فقال حتى أؤامر ربي فآمر فلم يوح إليه شيء فقال قد آمرت ربي فلم يوح إلي بشيء فقالوا له : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك أول مرة فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال لذلك الجبل جبل حسان فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت فنزل عنها وضربها فقامت وركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى قامت فركبها فم تسر به كثيراً حتى ربضت فضربها حتى أزلقها فأذن الله عز وجل لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعام أتدري أين تذهب أما ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي وهذا ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله

صفحة رقم 312
سبيل الأتان فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على جبل حسان ومعه قومه جعل يدعو فلم يدع بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه يا بلعام أتدري ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا فقال هذا ما لا أملكه هذا شي قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لقومه : قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق لي إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال , ثم قال : جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى عسكر بني إسرائيل ليبعنها عليهم ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنه إن زنى رجل منهم بواحدة منهن كُفيتموهم ففعلوا ذلك فلما دخل النساء على العسكر مرت امرأة من الكنعانين اسمها كستى بنت صور على رجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى عليه الصلاة والسلام وقال إني لأظنك أنك تقول هذه حرام عليك فقال أجل هي حرام عليك لا تقربها قال والله إني لا أطيعك في هذا ثم قام ودخل بها إلى قبته فوقع عليها فأرسل الله عزَّ وجلّ الطاعون على بني إسرائيل في ذلك الوقت.
وكان فنحاص بن العيزار بن هارون وكان صاحب أمر موسى وكان رجلاً فظاً قد أعطي بسطة من الخلق وقوة في البطش , وكان غائباً حين صنع زمري بن شلون ما صنع فجاء والطاعون يجوس في بني إٍرائيل فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فطعنهما بحربته فانتظمهما ثم خرج بهما وهو رافعهما إلى السماء وقد أخذ الحربة بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر بن العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن عصاك ورفع الطاعون من بني إسرائيل فحسب من مات منهم في ذلك الطاعون فيما بين أن أصاب ذلك الرجل المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك سبعون ألفاً في ساعة واحدة من النهار فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل لولد فنحاص من كل ذبيحة يذبحونها الفشة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياه بذراعه وإسناده إياها إلى لحيته ويعطوهم البكر من كل أموالهم لأنهم كان بكر العيزار وفي بلعام أنزل الله عز وجل ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ( الآية , وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال بلعام إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو على موسى فلما عاين عسكرهم وقفت به الأتان فضربها فقالت : لم تضربني وأنا مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع إلى الملك فأخبره بذلك فقال لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم ان لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى ومن معه من بني إسرائيل في التيه بدعاء بلعام عليه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعت في التيه قال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله سبحانه وتعالى منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله سبحانه وتعالى : ( آتيناه آياتنا فانسلخ منها (.
فإن قلت هذه القصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى عليه السلام دعا على بلعام بأن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان وكيف يجوز لموسى عليه السلام مع علو منصبه في النبوة أن يدعو على إنسان بالكفر بعد الإيمان أو يرضى له بذلك

صفحة رقم 313
قلت الجواب عنه من وجوه :
أحدها : منع صحة هذه القصة لأنها من الإسرائيليات ولا يلتفت إلى ما يسطره أهل الأخباره إذا خالف الأصول.
الوجه الثاني : أن سبب وقوع بني إسرائيل في التيه هو عبادتهم العجل أو قولهم لموسى عليه السلام اجعل لنا إلهاً فكان ذلك هو سبب وقوعهم في التيه لادعاء بلعام عليهم.
الوجه الثالث : على تقدير صحة هذه القصة وأن موسى عليه السلام دعا على بلعام أن موسى عليه السلام لم يدع عليه إلا بعد أن ثبت عنده أن بلعام كفر وارتد عن الإيمان بدعائه على موسى وإيثاره الحياة الدنيا فدعا عليه مقابلة لدعائه عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله والمقصود من ذلك تنزيه منصب النبوة عما ينقله أصحاب الأخبار في كتبهم من غير نظر فيه ولا بحث عن معناه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصته أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله سبحانه وتعالى مرسل رسولاً فرجا أن يكون هو ذلك الرسول فلما أرسل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وشرفه الله بالنبوة حسده وكذبه وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة فقصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل له : قتلهم محمد فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه فلما مات أمية أتت أخته فازعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وفاة أخيها : بينا هو راقد أتاه اثنان فكشفا سقف البيت ونزلا فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه فقال للذي عند رأسه : أوعى قال وعى قال أزكى قال أبى قالت فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي فصرف عني ثم غشي عليه فلما أفاق من غشيته قال شعراً :
كل عيش وإن تطاول دهراً
صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
في قلال الجبال أرعى الوعولا
إن يوم الحساب يوم عظيم
شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنشديني من شعر أخيك فأنشدته بعض قصائده فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آمن شعره وكفر قلبه ) فأنزل الله عز وجل : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ( الآية وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات وكانت له امرأة منها أولاد فقالت له اجعل لي منها دعوة فقال لك منها واحدة كما تريدين قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها فصارت أجمل النساء فلما علمت أنه ليس في نساء بني إسرائيل مثلها رغبت عنه فغضبت فدعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان فجاء بنوها إلى أبيهم وقالوا ليس لنا على هذا الأمر قرار صارت أمنا كلبا نباحة والناس تعيرنا بذلك فادع الله أن يردها إلى حالها الأول فدعا فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات جميعاً والقولان الأولان أشهر.
وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروه , وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله وقوله تعالى ) آتيناه آياتنا ( قال ابن عباس : كان يعلم اسم الله الأكبر وقال ابن زيد كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه , وقال السدي : كان يعلم اسم الله الأعظم.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس : أنه أوتي كتاباً وقيل آتاه الله حجة وأدلة وهي الآيات التي أوتيها ) فانسلخ منها ( يعني فخرج من الآيات

صفحة رقم 314
التي كان الله آتاه إياها كما تنسلخ الحية من جلدها , وقال ابن عباس : نزع منه العلم

صفحة رقم 315
) فأتبعه الشيطان ( يعني لحقه وأدركه وصيره الشيطان تابعاً لنفسه في معصية الله يخالف أمر ربه ويطيع الشيطان وهواه.
قوله تعالى : ( فكان من الغاوين ( يعني من الهالكين الضالين بما خالف ربه وأطاع هواه وشيطانه.
)
الأعراف : ( 176 ) ولو شئنا لرفعناه...
" ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " ( قوله تعالى : ( ولو شئنا لرفعناه بها ( يعني رفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات التي أوتيها.
وقال ابن عباس : لرفعناه , وقال ابن عباس : لرفعناه بعمله بها , وقال مجاهد وعطاء : معناه لو شئنا لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات ) ولكنه أخلد إلى الأرض ( يعنيك ولكنه سكن إلى الدنيا ومال إليها ورضي بها وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن الأرض عبارة عن المفاوز والقفار وفيها المدن والضياع والمعادن والنبات ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض ) واتبع هواه ( يعني أنه أعرض عن التمسك بما أتاه الله من الآيات واتبع الهوى فخسر دنياه واخرته ووقع في هاوية الردى والهلاك وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى وذلك لأن الله عز وجل خص هذا الرجل بآياته وحكمته وعلمه اسمه العظم وجعل دعاءه مستجاباً ثم إنه اتبع هواه وركن إلى الدنيا ورضي بها عوضاً عن الآخرة نزع منه ما كان أعطيه وانسلخ من الدين فخسر الدنيا والآخرة ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع وثبته بالعلم وبصُّره بعيوب نفسه.
عن كعب بن مالك الأنصاري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والسرف لدينه ) أخرجه الترمذي ثم ضرب الله عز وجل مثلاً لهذا الرجل الذي أتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال تعالى ) فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ( يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه من العطش وشدة

صفحة رقم 316
الحر وعند الإعياء والتعب وهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن أتاه آياته وحكمته فتركها وعدل عنها واتبع هواه وترك آخرته وآثر دنياه بأخس الحيوانات وهو الكلب في أخس أحواله وهو اللهث لأن الكلب في حال لهثه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها كذلك العالم الذي يتبع هواه لا يقدر على نفع نفسه ولا ضرها في الآخرة لأن التمثيل به على أن يلهث على كل حال إن حملته عليه أو تركته كان لاهثاً وذلك عادة منه وطبيعة وهي مواظبته على اللهث دائماً فكذلك من أتاه الله العلم والدين وأغناه عن التعرض لحطام الدنيا الخسيسة , ثم إنه مال إليها وطلبها كانت حالته كحال الكلب اللاهث وقيل : إن العالم إذا توصل بعلمه إلى طلب الدنيا فإنه يظهر علومه عند أهلها ويدعل لسانه في تقرير تلك العلوم وبيانها وذلك لأجل ما يحصل عنده من حرارة الحرص الشديد وشدة العطش إلى الفوز بمطلوبه من الدينا فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الذي أدعل لسانه من اللهث في غير حاجة ولا ضرورة.
ومعنى أن تحمل عليه يلهث , أو تتركه يلهث أي إن شددت عليه وأهجته لهث وإن تركته على حاله لهث لأن اللهث طبيعة أصلية فيه فكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضاً لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب ) ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ( يعني أن المثل الذي ضربناه للذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها مثل القوم ا لذين كذبوا بآياتنا فعم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا أيضاً بل هم ضلاّل في كل حال ثم قال سبحانه وتعالى ) فاقصص القصص ( وهذا خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعني فاقصص القصص يا محمد على قومك أي أخبار من كفر بآيات الله ) لعلهم يتفكرون ( يعني فيتعظون , وقيل : هذا المثل لكفار مكة وذلك أنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فلما جاءهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يدعوهم إلى الله وإلى طاعته وهم يعرفونه ويعرفون صدقه كذبوه ولم يقبلوا منه.
)
الأعراف : ( 177 - 178 ) ساء مثلا القوم...
" ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون " ( قال سبحانه وتعالى : ( ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا ( يعني بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ) وأنفسهم كانوا يظلمون ( يعني بتكذيبهم بآياتنا.
قوله عز وجل : ( من يهد الله فهو المهتدي ( يعني من يرشده الله إلى دينه فهو المهتدي , وقيل : معناه من يتول الله هدايته وإرشاده فهو المهتدي ) ومن يضلل ( يعني ومن يتول الضلالة ) فأولئك هم الخاسرون ( يعني في الآخرة وفي الآية دليل على أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي المضل.
)
الأعراف : ( 179 - 180 ) ولقد ذرأنا لجهنم...
" ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ولقد ذرأنا ( يعني خلقنا ) لجهنم كثيراً من الجن والإنس ( أخبر الله سبحانه وتعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ومن خلقه الله للنار فلا حيلة له في الخلاص منها.
واستدل البغوي على صحة هذا التأويل بما رواه عن عائشة قال : دعي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقالأو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهمأخرجه مسلم.
قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة

صفحة رقم 317
لأنه لي مكلفاً وتوقف فيهم بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا.
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله ( صلى الله عليه وسلم ) نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص لفظة ( إني لأراه مؤمناً فقال : ( أو مسلماً ( الحديث , ويحتمل أن ( صلى الله عليه وسلم ) قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم ذلك قال به , وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون : هم في النار تبعاً لآبائهم وتوقف طائفة فيهم والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها خبر إبراهيم الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) حين رآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجنة وحوله أولاد الناس فقالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : ( وأولاد المشركين ( رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله سبحانه وتعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ( " ولا يتوجه على المولود التكليف ولا يلزمه قبول قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والله أعلم.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها وأن الله سبحانه وتعالى بيّن بصريح اللفظ أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار ولا تزيد على بيان الله عز وجل لأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار فلما عمل بما يوجب دخول النار به علم أنه له من يضطره إلى ذلك العمل الواجب إلى دخول النار وهو الله عز وجل , وقيل : اللام في جهنم للعاقبة أي عاقبتهم جهنم , ثم وصفهم فقال تعالى : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ( يعني : لا يفهمون بها ولا يعقلون بها وأصل الفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء ثم صار علماً على اسم العلم في الدين لشرفه على غيره من العلوم يقال : فقه الرجل يفقه فهو فقيه إذا فهم ومعنى الآية لهم قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ولا يتدبرونها ولا يعلمون بها الخير والهدى لإعراضهم عن الحق وتركهم قبوله ) ولهم أعين لا يبصرون بها ( يعني لا يبصرون بها طريق الحق والهدى ولا ينظرون بها في آيات الله وأدلة توحيده ) ولهم آذان لا يسمعون بها ( يعني لا يسمعون آيات القرآن ومواعظه فيعتبرون بها , قال أهل المعاني : إن الكفار لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات وهذا لا يشك فيه.
ولما وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون مع وجود هذه الحواس الدراكة علم بذلك أن المراد بذلك يرجع إلى مصالح الدين وما فيه نفعهم في الآخرة وحاصل هذا الكلام أنهم مع وجود هذه الحواس لا ينتفعون بها فيما ينفعهم في أمور الدين والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ومنه قول الشاعر :
وعوراء الكلام صمت عنها
وإني إن أشاء بها سميع
فإنه أثبت له صمماً مع وجود السمع.
قال مجاهد : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة ولهم أعين لا يبصرون بها الهدى ولهم آذان لا يسمعون بها الحق.
ثم ضرب لهم مثلاً فقال سبحانه وتعالى : ( أولئك كالأنعام ( يعني أن الذين ذرأهم لجهنم وهم الذين حقَّت عليهم الكلمة الأزلية كالأنعام وهي البهائم التي لا تفهم ولا تعقل وذلك لأن الإنسان وسائر الحيوانات مشتركون في هذه الحواس الثلاثة التي هي القلب والبصر والسمع.
وإنما فضّل الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل والإدراك والفهم المؤدي إلى معرفة الحق من الباطل والخير والشر فإذا كان الكافر لا يعرف ذلك ولا يدركه فلا فرق بينه وبين الأنعام التي لا تدرك شيئاً

صفحة رقم 318
ثم قال تعالى : ( بل هم أضل ( يعني : بل إن الكفار أضلّ من الأنعام لأن الأنعام تعرق ما يضرها وما ينفعها والكافر لا يعرف ذلك فصار أضل من الأنعام ولأن الأنعام لم تعطَ القوة الفعلية والإنسان قد أعطيها فإذا لم يستعملها فيما ينفعه صار أحسن حالاً من الأنعام.
وقيل : إن الأنعام مطيعه لله عز وجل والكافر غير مطيع لله عز وجل , فصارت الأنعام أفضل منه ثم قال تعالى : ( أولئك هم الغافلون ( يعني عن ضرب هذه الأمثال لهم.
قوله سبحانه وتعالى : ( ولله الأسماء الحسنى ( قال مقاتل : إن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال بعض مشركي مكة قال ابن الجوزي : هو أبو جهل إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون رباً واحد فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية ) ولله الأسماء الحسنى ( والحسنى تأنيث الأحسن , ومعنى الآية أن أسماء الله سبحانه وتعالى المقدسة كلها حسنى وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن والمعنى أن الأسماء الحسنى ليس إلا لله لأن هذا اللفظ يفيد الحصر.
وقيل إن الأسماء ألفاظ دالة على معان فهي إنما تحسن بمعانيها ولا معنى للحسن في حق الله تبارك وتعالى إلا ذكره بصفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين :
أحدهما : عدم افتقاره إلى غيره.
الثاني : افتقار غيره إليه وإنه هو المسمى بالأسماء الحسنى
( ق ) .
عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة , والله وتر يحب الوتر ) وفي رواية ( من أحصاها ) وفي رواية أخرى ( لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة , والله وتر يحب الوتر ) وفي رواية ( من أحصاها ) وفي رواية أخرى ( لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر ) قال البخاري : احصاها حفظها.
وفي رواية عن الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله ( إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيّوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المعدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ) قال الترمذي : حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث قال وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء التي في هذا الحديث.
قال ابن الأثير : وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلا قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون فقال : ( إن لله تبارك وتعالى تسع وتسعين اسماً ) الحديث.
قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى : اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما المقصود من الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة فالمراد عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في الحديث الآخر ( أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) وقد ذكر الحافظ أبو بكر العربي المالكي عن بعضهم أن لله ألف اسم.
قال ابن العربي :

صفحة رقم 319
وهذا قليل.
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أحصاها دخل الجنة ) تقدم فيه قول البخاري أن معناه حفظها وهو قول أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة.
وقيل : المراد من الإحصاء العدد أي عدها في الدعاء بها.
وقيل معناه من أطاقها وأحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وعمل بمقتضاها دخل الجنة وقيل معنى أحصاها أحضر بباله عند ذكرها معناه وتفكر في مدلولها معتبراً متدبراً ذاكراً راغباً راهباً معظماً لها ولمسماها ومقدساً لذات الله سبحانه وتعالى وأن يخطر بباله عند ذكر كل اسم الوصف الدال عليه , وقوله والله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في وصف الله تعالى أنه الواحد الذي لا شريك له ولا نظير فيه تفضيل الوتر في الأعمال لأن أكثر الطاعات وتر وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة الأسماء إليه فيقال الرؤوف والكريم واللطيف من أسماء الله ولا يقال من أسماء الله الرؤوف والكريم واللطيف الله وقد قيل إن لفظة الله هو الاسم الأعظم.
قال أبو القاسم القشيري : فيه دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره وقد قال ) ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ( " وقال الإمام فخر الدين الرازي : دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لا تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء الجمع وهو يفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله سبحانه وتعالى : ولله الأسماء يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال.
وقال غيره : الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء المسمى به فهو غيره.
وقال أهل اللغة : إنما جعل الاسم تنويهاً على المعنى لأن المعنى تحت الاسم والتسمية غير الاسم لأن التسمية عبارة عن وضع اللفظ المعين لتعريف ذات الشيء والاسم عبارة عن تلك اللفظة المعينة والفرق ظاهر.
قال العلماء : وكما يجب تنزيه الله عن جميع النقائص فكذلك يجب تنزيه أسمائه أيضاً وقوله سبحانه وتعالى : ( فادعوه بها ( يعني ادعوا الله بأسمائه التي سمى بها نفسه أو سماه بها رسوله ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ويجوز أن يقال يا عالم ولا يجوز أن يقال يا عاقل ويجوز أن يقال يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا طبيب وللدعاء شرائط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها ويستحضر في قلبه عظمة المدعوّ سبحانه وتعالى ويخلص النية في دعائه مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة ويعترف الله سبحانه وتعالى بالربوبية وعلى نفسه بالعبودية فإذا فعل العبد ذلك عظم موضع الدعاء وكان له تأثير عظيم ) وذروا الذين يلحدون في أسمائه ( معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد والعدول عن الاستقامة.
وقال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق المدخل في ما ليس منه يقال ألحد في الدين إلحاداً إذا عدل عنه ومال إلى غيره.
قال المحققون : الإلحاد يقع في أسماء الله تعالى على وجوه :
أحدها : إطلاق أسماء الله عز وجل على غيره وذلك أن المشركين سموا أصنامهم بالآلهة واشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فسموا اللات والعزى ومناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد.
الوجه الثاني : وهو قول أهل المعاني أن الإلحاد في أسماء الله هو تسميته بما لم يسمّ به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة لأن أسماء الله سبحانه وتعالى كلها توقيفية كما تقدم فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل ندعو الله بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه

صفحة رقم 320
التعظيم.
الوجه الثالث : مراعاة حسن الأدب في الدعاء فلا يجوز أن يقال يا ضارّ يا مانع يا خالق القردة على انفراد بل يقال يا ضرا يا نافع يا خالق الخلق.
الوجه الرابع : أن لا يسمي الله العبد باسم لا يعرف معناه فإنه ربما سماه باسم لا يليق إطلاقه على جلال الله سبحانه وتعالى ولا يجوز أن يسمى به لما فيه من الغرابة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( سيجزون ما كانوا يعملون ( يعني في الآخرة ففيه وعيد وتهديد لمن ألحد في أسماء الله عز وجل.
)
الأعراف : ( 181 - 183 ) وممن خلقنا أمة...
" وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين " ( قوله عز وجل : ( ومما خلقنا أمة ( يعني جماعة وعصابة ) يهدون بالحق وبه يعدلون ( قال ابن عباس : يريد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان.
قال قتادة : بلغنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأ هذه الآية قال ( هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ) ق ( عن معاوية قال وهو يخطب سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه ) والذين كذبوا بآياتنا ( يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار.
وقيل : المراد بهم أهل مكة والأول أولى لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( قال الأزهري : سنأخذهم قليلاً من حيث لا يحتسبون وذلك أن الله سبحانه وتعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون وقيل معناه سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم لأنهم كانوا إذا أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا فيزدادون تمادياً في الغيّ والضلال ويندرجون في الذنوب والمعاصي فيأخذهم الله أخذه واحدة أغفل ما يكونون عليه.
وقال الضحاك : معناه كلما جددوا معصية جددنا نعمة.
وقال الكلبي : نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها , وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر.
روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى قال : اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون.
قال أهل المعاني : الاستدراج أن يندرج الشيء إلى الشيء في خفية قليلاً ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه في المشي ومنه درج الكتاب إذا أطواه شيئاً بعد شيء ) وأملي لهم ( يعني وأمهلهم وأطيل مدة أعمارهم.
والإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة والمعنى إني أطيل مدة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة ) إن كيدي متين ( يعني إن أخذي شديد والمتين من كل شيء

صفحة رقم 321
هو القوي الشديد.
وقال ابن عباس : معناه إن مكري شديد.
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم ثم قتلهم في ليلة واحدة وفي هذه الآية دليل على مسألة القضاء والقدر وأن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
)
الأعراف : ( 184 - 187 ) أولم يتفكروا ما...
" أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( أولم يتفكروا ما بصاحبهم ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) من جنة ( يعني من جنون قال قتادة ذكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام على الصفا ليلاً فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً ( يا بني فلان يا بني فلان إني لكم نذير مبين ) وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح فأنزل الله عز وجل : ( أولم يتفكروا ( والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في عاقبة الأمر والمعنى أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من جِنة والجنة.
حالة من الجنون وإدخال لفظة من في قوله من جنة يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنهم رأوا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله عز وجل وإنذارهم بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى الجنون فبرأه الله سبحانه وتعالى من الجنون فقال تعالى : ( إن هو ( يعني ما هو ) إلا نذير مبين ( ثم حثَّهم على النظر المؤدي إلى العلم بالوحدانية فقال سبحانه وتعالى : ( أولم ينظروا ( يعني نظر اعتبار واستدلال ) في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ( والمقصود التنبيه على أن الدلالة على الوحدانية ووجود الصانع القديم غير مقصورة على ملك السموات والأرض بل كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وبرأه فيه دليل على وحدانية الله سبحانه وتعالى وآثار قدرته كما قال الشاعر :
( وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
) ) وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ( والمعنى ولعل أجلهم يكون قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار وإذا كان الأمر كذلك وجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز بالنعيم المقيم ) فبأي حديث بعده ( يعني القرآن ) يؤمنون ( يعني يصدقون.
والمعنى فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يصدقون وليس بعد محمد نبي ولا بعد كتابه كتاب لأنه خاتم الأنبياء وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال سبحانه وتعالى : ( من يضلل الله فلا هادي له ( يعني أن إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم فلو هداهم لآمنوا ) ويذرهم في طغيانهم يعمهون ( يعني ويتركهم في ضلالتهم وتماديهم في الكفر يترددون متحيرين لا يهتدون سبيلاً.
قوله عز وجل : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ( قال قتادة : قالت قريش لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن عباس : قال جبل بن أبي قبشير وشمول بن زيد ,

صفحة رقم 322
وهما من اليهود , لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فإنا نعلم متى الساعة فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الساعة يعني عن خبر القيامة.
سميت ساعة لأنها تقوم في ساعة غفلة وبغتة أو لأن حساب الخلائق ينقضي فيها في ساعة واحدة أيان سؤال استفهام عن الوقت الذي تقوم فيه الساعة ومعناه متى مرساها.
قال ابن عباس : يعني منتهاها أي متى وقوعها.
قالوا والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق وأصل الإرساء الثبات يقول رسا يرسو إذا ثبت ) قل ( أي قل لهم يا محمد ) إنما علمها عند ربي ( أي لا يعلم الوقت الذي تقوم فيه إلا الله استأثر الله بعلمها فلم يطلع عليه أحد ومر حديث الإيمان والإسلام والإحسان وسؤال جبريل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.
قال المحققون : وسبب إخفاء علم الساعة ووقت قيامها عن العباد ليكونوا على خوف وحذر منها لأنهم إذا لم يعلموا متى يكون ذلك الوقت كانوا على وجل وخوف وإشفاق منها فيكون ذلك أدعى لهم إلى الطاعة والتوبة وأزجر لهم عن المعصية ) لا يجليها لوقتها إلا هو ( قال مجاهد لا يأتي بها إلا هو , وقال السدي : لا يرسلها لوقتها إلا هو والتجلية إظهار الشيء بعد خفائه , والمعنى : لا يظهرها لوقتها المعين إلا الله ولا يقدر على ذلك غيره ) ثقلت في السموات والأرض ( يعني ثقل أمرها وخفي علمها على أهل السموات والأرض فكل شيء خفي فهو ثقيل شديد.
وقال الحسن : إذا جاءت ثقلت وعظمت على أهل السموات والأرض وإنما ثقلت عليهم لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على القلوب ) لا تأتيكم إلا بغتة ( يعني فجأة على حين غفلة من الخلق
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ) اللَّقحة بفتح اللام وكسرها : الناقة القريبة العهد بالنتاج.
قوله : يليط حوضه ويروى يلوط حوضه يعني يطينه ويصلحه يقال لاط حوضه يليطه أو يلوطه إذا طينه وأصله من اللصوق.
الأُكلة : بضم الهمزة اللقمة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( يسألونك كأنك حفي عنها ( يعني يسألونك قومك عن الساعة كأنك حفي بها بمعنى بارّ بهم شفيق عليهم فعلى هذا القول فيه تقديم وتأخير تقديره يسألونك عنها كأنك حفي بهم.
قال ابن عباس : يقول كأن بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم.
قال ابن عباس لما سأل الناس محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حفي بهم فأوحى الله عز وجل إليه إنما علمها عند استأثر بعلمها فلم يطلع عليها ملكاً ولا رسولاً وقيل معناه يسألونك عنها كأنك حفي بها أي عالم بها من قولهم أحفيت في المسألة إذا بالغت في السؤال عنها حتى علمتها ) قل ( يعني يا محمد ) إنما علمها عند الله ( يعني استأثر الله بعلمها فلا يعلم متى الساعة إلا الله عز وجل.
فإن قلت : قوله سبحانه وتعالى يسألونك عن الساعة أيان مرساها وقوله سبحانه وتعالى ثانياً يسألونك كأنك حفي عنها فيه تكرار ؟
قلت : ليس في تكرار لأن السؤال الأول سؤال عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني سؤال عن أحوالها من ثقلها وشدائدها فلم يلزم التكرار.
فإن قلت : عبر عن الجواب في السؤال الأول بقوله تعالى : علمها عند ربي وعن الجواب في السؤال الثاني بقوله تعالى : علمها عند الله فهل من فرق بين الصورتين في الجوابين.
قلت : فيه

صفحة رقم 323
فرق لطيف وهو أنه لما كان السؤال الأول واقعاً عن قيام وقت الساعة عبر عن الجواب فيه بقوله تعالى علم وقت قيامها عند ربي.
ولما كان السؤال الثاني واقعاً عن أحوالها وشدائدها وثقلها عبر عن الجواب فيه بقوله سبحانه وتعالى عند الله لأنه أعظم الأسماء ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( يعني لا يعملون أن علمها عند الله وأنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وقيل : ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الي من أجله أخفى علم وقت قيامها المغيب عن الخلق.
)
الأعراف : ( 188 - 189 ) قل لا أملك...
" قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ( قال ابن عباس : إن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري به فتربح فيه عند الغلاء وبالأرض التي يريد أن تجدب فترحل عنها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله عز وجل : ( قل لا أملك ( أي قل يا محمد لا أملك ولا أقدر لنفسي نفعاً أي اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ولا ضراً يعني ولا أقدر أن أدفع عن نفسي ضراً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة وأترك الجدبة ) إلا ما شاء الله ( يعني أن أملكه وأقدر عليه ) ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ( يعني ولو كنت أعلم وقت الخصب والجدب لاستكثرتُ من المال ) وما مسني السوء ( يعني الضر والفقر والجوع.
وقال ابن جريج : معناه لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً من الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب يريدون وقت الموت لاستكثرت من الخير يعني من العمل الصالح.
وقيل إن أهل مكة لما سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الساعة أنزل الله تعالى الآية وهذه الآية ومعناه : أنا لا أدعي علم الغيب حتى أخبركم عن وقت قيام الساعة وذلك لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب فذكر أن قدرته قاصرة عن علم الغيب.
فإن قلت : قد أخبر ( صلى الله عليه وسلم ) عن المغيبات وقد جاءت أحاديث في الصحيح بذلك وهو من أعظم معجزاته ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف الجمع بينه وبين قوله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ؟
قلت : يحتمل أن يكون قاله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التواضع والأدب والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله عليه ويقدره لي.
ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله عز وجل على الغيب فلما أطلعه الله عز وجل أخبر به كما قال تعالى : ( فلا يظهر على غيبة أحداً إلا من ارتضى من رسول ( " أو يكون خرج هذا الكلام مخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله سبحانه وتعالى عن أشياء من المغيبات فأخبر عنها ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله وما مسنى السوء يعني الجنون وذلك أنهم نسبوه إلى الجنون وقيل معناه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير واحترزت عن الشر حتى أصير بحيث لا يمسني السوء ويل معناه ولو كنت أعلم الغيب لأعلمتكم بوقت قيام الساعة حتى تؤمنوا وما مسني السوء يعني قولكم لو كنت نبياً لعلمت متى تقوم الساعة ) إن أنا إلا نذير ( يعني ما أنا إلا رسول أرسلني الله إليكم أنذركم وأخوفكم عقابه إن لم تؤمنوا ) وبشير ( يعني وأبشر بثوابه ) لقوم يؤمنون ( يعني يصدقون.
قوله عز وجل : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( يعني آدم عليه السلام ) وجعل منها زوجها ( يعني وخلق منها

صفحة رقم 324
زوجها حواء قد تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم في أول سورة النساء ) ليسكن إليها ( يعني ليأنس بها ويأوي ) فلما تغشاها ( يعني واقعها وجامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها ) حملت حملاً خفيفاً ( يعني النطفة والمني لأن أول ما تحمل النطفة وهي خفيفة عليها ) فرمت به ( يعني أنها استمرت بذلك الحمل فقامت وقعدت وهو خفيف عليها ) فلما أثقلت ( أي صارت إلى حال الثقل وكبر ذلك الحمل ودنت مدة ولادتها ) دعوا الله ربهما ( يعني أن آدم وحواء دعوا الله ربهما ) لئن آتيتنا صالحاً ( يعني لئن أعطيتنا بشراً سوياً مثلنا ) لنكونن من الشاكرين ( يعني لك على إنعامك علينا.
قال المفسرون : لما هبط آدم وحواء إلى الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصاب حواء فحلمت من ساعتها فلما ثقل الحمل وكبر الولد أتاها إبليس فقال لها : ما الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري قال : إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلباً أو خنزيراً أترين في الأرض إلا بهيمة أو نحوها قالت : إني أخاف بعض ذلك قال وما يدريك من أين خرج أمن دبرك أم فن فيك أو يشق بطنك فيقتلك فخافت حواء من ذلك وذكرته لآدم فلم يزالا في غم من ذلك ثم عاد إليها إبليس فقال لها إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث فذكرت ذلك حواء لآدم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتى غرهما فلما ودلت سمياه عبد الحارث.
وقال ابن عباس : كانت حواء تلد لآدم فيسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال : إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش.
عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما حملت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فسمته فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة وقال وقد رواه بعضهم ولم يرفعه وقوله وذلك من وحي الشيطان يعني من وسوسته وحديثه كما جاء أنه خدعهما مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض.
قال ابن عباس : لما ولد له أول ولد آتاه إبليس فقال إني أنصح لك في شأن ولدك هذا تسميه عبد الحارث وكان اسمه في السماء الحارث فقال آدم : أعوذ بالله من طاعتك إني أطعتك في أكل الشجرة فأخرجتي من الجنة فلن أطيعك فمات ولده ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر فقال أطعني وإلا مات كما مات أول الأول فعصاه فمات ولده , فقال لا أزال أقتلهم حتى تسميه عبد الحارث فلم يزل به حتى سماه عبد الحارث فذلك

صفحة رقم 325
)
الأعراف : ( 190 ) فلما آتاهما صالحا...
" فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون " ( قوله تعالى : ( فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما ( قال ابن عباس : أشركاه في طاعته في غير عبادة ولم يشركا بالله ولكن أطاعاه.
وقال قتادة : أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة.
وقال عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء وكان لا يعيش لهما ولد فأتاهما الشيطان فقال إن سركما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث فهو قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما قرئ شركا بكسر الشين مع التنوين ومعناه شركة وقال أبو عبيدة معناه حظاً ونصيباً وقرئ شركاء بضم الشين مع المد جمع شريك يعني إبليس عبر عن الواحد بلفظ الجمع يعني جعلا له شريكاً إذ سميا ولدهما عبد الحارث.
قال العلماء : ولم يكن ذلك شركاً في العبادة ولا أن الحارث رب لهما لأن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبياً معصوماً من الشرك ولكن قصد بتسميتهما الولد بعبد الحارث ان الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامته وسلامة أمه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما قال الشاعر :
89 ( وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ) 89
" أخبر عن نفسه أنه عبد الضيف ما أقام عنده مع بقاء الحرية عليه وإنما أراد بالعبودية خدمة الضيف والقيام بواجب حقوقه كما يقوم العبد بواجب حقوق سيده.
وقد يطلب اسم الرب بغير الألف واللام على غير الله كقول يوسف عليه الصلاة والسلام لعزيز مصر ) إنه ربي أحسن مثواي ( " أراد به التربية ولم يرد به أنه ربه ومعبوده فكذلك هنا وإنما أخبر عن آدم عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ( لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فعاتبه الله على ذلك لأنه نظر إلى السبب ولم ينظر إلى المسبب والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
قال العلماء : وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله فيما آتاهما ثم ابتدأ في الخير عن الكفار بقوله تعالى : ( فتعالى الله عما يشركون ( نزه نفسه سبحانه وتعالى عن إشراك المشركين من أهل مكة وغيرهم وهذا على العموم , ولو أراد آدم وحواء لقال سبحانه وتعالى فتعالى الله عما يشركان على التثنية لا على الجمع وقال بعض أهل المعاني : ولو أراد به ما سبق في معنى الآية فمستقيم أيضاً من حيث إنه كان الأولى بهما أن لا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في التسمية فكان الأولى أن يسمياه عبد الله لا عبد الحارث وفي معنى الآية قول آخر وهو أنه راجع إلى جميع المشركين من ذرية آدم وهو قول الحسن وعكرمة ومعناه وجعل أولادهما له شركاء فحذف ذكر الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء بقوله : ( ثم اتخذتم العجل ( " ) وإذ قتلتم نفساً ( " فعير به الهيود الذين كانوا موجودين في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان ذلك من فعل آبائهم وقال عكرمة : خاطب كل واحد من الخلق بقوله : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( أي خلق كل واجد من أبيه وجعل منها زوجها أي وجعل من جنسها زوجها آدمية مثله وهذا قول حسن إلا أن القول وورد الحديث بذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهّودوهم ونصّروهم وقال ابن كيسان : هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار ونحو ذلك.

صفحة رقم 326
)
الأعراف : ( 191 - 194 ) أيشركون ما لا...
" أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( أيشركون ( قرئ بالتاء على خطاب الكفار , وقرئ بالياء على الغيبة ) ما لا يخلق شيئاً ( يعني إبليس والأصنام ) وهم يخلقون ( أي وهم مخلوقون.
فإن قلت : كيف وحد يخلق ثم جمع فقال وهم يخلقون ؟
قلت : إن لفظة ( ما ) تقع على الواحد والإثنين والجمع فهي من صيغ الواحدان بحسب ظاهر اللفظ ومحتملة بحسب المعنى فوحد قوله ما لا يخلق رعاية الحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وهم يخلقون رعاية لجانب المعنى.
فإن قلت : كيف جمع بالواو وبالنون لمن لا يعقل وهو جمع من يعقل من الناس ؟
قلت : لما اعتقد عابدو الأصنام أنها تعقل وتميز ورد هذا الجمع بناء على ما يعقدونه ويتصورنه.
وقوله تعالى : ( ولا يستطيعون لهم نصراً ( يعني أن الأصنام لا تقدر على نصر من أطاعها وعبدها ولا تضر من عصاها والنصر , المعونة على الأعداء.
والمعنى أن المعبود الذي تجب عبادته يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها ثم قال تعالى : ( ولا أنفسهم ينصرون ( يعني ولا يقدرون على أن يدفعوا عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرها قدر عليه وهي لا تقدر على دفعه عنها.
ثم خاطب المؤمنين فقال سبحانه وتعالى : ( وإن تدعوهم إلى الهدى ( يعني وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى ) لا يتبعوكم ( لأن الله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلون الهداية ) سواء عليكم أدعوتموهم ( إلى الدين والهداية ) أم أنتم صامتون ( أي ساكتون عن دعائهم فهم في كلا الحالين لا يؤمنون.
وقيل إن الله سبحانه وتعالى لما بيّن في الآية المقتدمة عجز الأصنام بيّن في هذه الآية أنه لا علم لها بشيء البتة ؛ والمعنى أن هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع لمن دعاها إلى خير وهدى ثم قوى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى : ( سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ( وذلك أن المشركين كانوا إذا وقعوا في شدة وبلاء تضرعوا لأصنامهم فإذا لم تكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا وصمتوا فقيل لهم لا فرق بين دعائكم للأصنام أو سكوتكم عنها فإنها عاجزة في كل حال.
قوله سبحانه وتعالى : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ( يعني أن الأصنام التي يعبدها هؤلاء المشركون إنما هي مملوكة لله أمثالهم وقيل إنها مسخرة مذللة مثل ما أنتم مسخرون مذللون قال مقاتل في قوله سبحانه وتعالى : ( عباد أمثالكم ( أنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الملائكة والقول الأول أصح وفيه سؤال وهو أنه وصفها بأنها عباد مع أنها جماد.
والجواب أن المشركين لما ادعوا أن الأصنام تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا كونها عاقلة فاهمة فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتاً لهم وتوبيخاً ولذلك قال عز وجل : ( فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ( في كونها آلهة وجواب آخر وهو أن هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين والمعنى أن قصارى هذه الأصنام التي تعبدونها أحياء عاقلة على معقتدكم فهم عباد الله أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلما عبدتموهم وجعلتموهم آلهة وجعلتم أنفسكم لهم عبيداً ثم وصفهم بالعجز.
)
الأعراف : ( 195 - 199 ) ألهم أرجل يمشون...
" ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ( قال تعالى : ( ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ( يعني أن قدرة الإنسان المخلوق إنما تكون بهذه الجوارح الأربعة فإنها

صفحة رقم 327
آلات يستعين بها الإنسان في جميع أموره والأصنام ليس لها من هذه الأعضاء والجوارح شيء فهم مفضلون عليها بهذه الأعضاء لأن الرجل الماشية أفضل من الرجل العاجزة عن المشي وكذلك اليد الباطشة أفضل من اليد العاجزة عن البطش والعين الباصرة أفضل من العين العاجزة عن الإدراك والأذن السامعة أفضل من الأذن العاجزة عن السمع فظهر بهذا البيان أن الإنسان أفضل من هذه الأصنام العاجزة بكثير بل لا فضل لها البتة لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإذا كان لا فضل له البتة ولا يضر ولا ينفع فامتنع بهذه الحجة كون الأصنام آلة ثم قال تعالى : ( قل ادعوا شركاءكم ( أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم هذه الأصنام التي تعبدونها حتى يتبين عجزها ) ثم كيدون ( يعني أنتم وشركاؤكم وهذا متصل بما قبله في استكمال الحجة عليهم لأنهم لما قرّعوا بعادة من لا يملك ضراً ولا نفعاً قيل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قل إن معبودي يملك الضر والنفع فلو اجتهدتم في كيدي لم تصلوا إلى ضري لأن الله يدفع عني , وقال الحسن كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال الله تعالى قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون ) فلا تنظرون ( أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم ) إن وليي الله ( يعني أن الذي يتولى حفظي وينصرني عليكم هو الله ) الذي نزل الكتاب ( يعني القرآن , المعنى كما أيدني بإنزال القرآن علي كذلك يتولى حفظي وينصرني ) وهو يتولى الصالحين ( يعني يتولاهم بنصره وحفظه فلا تضرهم عداوة من عاداهم من المشركين وغيرهم ممن أرادهم بسوء أو كادهم بشر.
قال ابن عباس : يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه وفي هذا مدح للصالحين لأن من تولاه الله يحفظه فلا يضره شيء.
قوله عز وجل : ( والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ( هذه الآية قد تقدم تفسيرها , والفائدة في تكريرها أن الآية الأولى مذكورة على جهة التقريع والتوبيخ وهذه الآية مذكورة على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وهو الله الذي يتولى الصالحين بنصره وحفظه وبين هذه الأصنام وهي ليست كذلك فلا تكون معبودة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( قال الحسن المراد بهذا المشركون ومعناه وإن تدعواإليها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم لأن آذانهم قد صمّت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون يعني ببصائر قلوبهم وذهب أكثر المفسرين إلى أن هذه الآية أيضاً واردة في صفات الأصنام لأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر.
قوله تعالى : ( خذ العفو ( العفو هنا الفضل وما جاء بلا كلفة والمعنى : اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقصِ عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منه العداوة والبغضاء.
وقال مجاهد : يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار منهم وترك البحث عن الأشياء والعفو التساهل في كل شيء
( خ ) عن عبد الله بن الزبير قال : ما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف إلا في أخلاق الناس وفي رواية قال أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأخذ العفو من أقوال الناس وكذا في جامع الأصول وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي قال أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأخذ العفو من أقوال الناس أو كما قال : وقال ابن عباس يعني خذ ما عفا لك من أموالهم فما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تتنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما

صفحة رقم 328
انتهت إليه وقال السدي خذ العفو أي الفضل من المال نسختها آية الزكاة , وقال الضحاك : خذ ما عفا من أموالهم وهذا قبل أن تفرض الصدقة المفروضة ) وأمر بالعرف ( يعني وأمر بكل ما أمرك الله به وهو ما عرفته بالوحي من الله عز وجل وكل ما يعرفه الشارع وقال عطاء وأمر بقوله لا إله إلا الله ) وأعرض عن الجاهلين ( أمر الله سبحانه وتعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يصفح عن الجاهلين وهذا قبل ان يؤمر بقتال الكفار فلما أمر بقتالهم صار الأمر بالإعراض عنهم منسوخاً بآية القتال : قال بعضهم : أول هذه الآية وآخرها منسوخ , ووسطها محكم يريد ينسخ أولها أخذ الفضل من الأموال فنسخ بفرض الزكاة والأمر بالمعروف محكم والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لجبريل : ( ما هذا ) ؟ قال لا أدري حتى أسأل.
ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعت وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ذكره البغوي بغير سند.
وقال جعفر الصادق : أمر الله عز وجل نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه.
عن عائشة قالت ( لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ) أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال ) )
الأعراف : ( 200 - 201 ) وإما ينزغنك من...
" وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " ( قوله عز وجل : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ( قال ابن زيد ( لما نزل قوله سبحانه وتعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فكيف بالغضب يا رب ( فأنزل الله عز وجل : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم.
ونزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب.
وقيل النزغ الانزعاج وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر والإفساد.
يقال : نزغت بين القوم إذا أفسدت بينهم.
وقال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة والمعنى وإما يصيبنك يا محمد ويعرض لك من الشيطان وسوسة أو نخسة ) فاستعذ بالله ( يعني فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك ) إنه سميع ( يعني لدعائك ) عليم ( بحالك وقيل إن الشيطان يجد مجالاً في حمل الإنسان على ما لا ينبغي في حالة الغضب والغيظ فأمر الله بالالتجاء إليه والتعوذ به في تلك الحالة فهي تجري مجرى العلاج لذلك المرض.

صفحة رقم 329
( فصل واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية )
فقالوا لو كان النبي معصوماً لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة والجواب عنه من وجوه , الأول : أن معنى الكلام إن حصل في قلبك نزغ من الشيطان فاستعذ بالله وإنه لم يحصل له ذلك البتة فهو كقوله لئن أشركت وهو برئ من الشرك البتة.
والوجه الثاني : على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله عز وجل عصم نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) عن قبولها وثبوتها في قلبه ( م ) عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ) قالوا وإياك يا رسول الله قال ( وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ) قال الشيخ محيي الدين النووي يروى فأسلم بفتح الميم وضمها فمن رفع قال معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال معناه أن القرين أسلم من الإسلام يعني صار مؤمناً لا يأمرني إلا بخير.
قال الخطابي : الصحيح المختار الرفع ورجح القاضي عياض الفتح قال الشيخ وهو المختار لقوله فلا يأمرني إلا بخير.
قال القاضي عياض : واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه أعلمنا أنه معنا لنحترز عنه بحسب الإمكان والله أعلم.
الوجه الثالث : يحتمل أن يكون الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره ومعناه وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله فهو كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله.
قوله سبحانه وتعالى : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف ( وقرئ طيف ) من الشيطان ( وهما لغتان ومعناه الشيء يلم بالإنسان وقيل بينهما فرق فالطائف ما يطوف حول الإنسان والطيف الوسوسة.
وقيل الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللمم والمس.
قال الأزهري : الطيف في كلام العرب الجنون وقيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون.
وقيل سمي الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمة من الشيطان تشبه لمة الخبال فذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف المذكور في هذه الآية لأن حالة الشيطان مع الأنبياء أضعف من حاله مع غيرهم ) تذكروا ( يعني عرفوا ما حصل لهم من سوسة الشيطان وكيده قال سعيد بن جبير هو الرجل يغضب الغضب فيذكر الله فيكظم غيظه.
وقال مجاهد : هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه ) فإذا هم مبصرون ( يعني أنهم يبصرون مواضع الخطأ بالتذكر والتفكر.
وقال السدي : إذا زلوا تابوا وقال مقاتل : هو الرجل إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر ونزع عنن مخالفة الله عز وجل.
)
الأعراف : ( 202 - 204 ) وإخوانهم يمدونهم في...
" وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " ( ) وإخوانهم ( يعني وإخوان الشياطين من المشركين ) يمدونهم ( أي يمدهم الشياطين ) في الغي ( قال الكلبي لكل كافر أخ من الشياطين يمدونهم أي يطيلون لهم في الإغواء حتى يستمروا عليه وقيل يزيدونهم في الضلالة ) ثم لا يقصرون ( يعني لا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها وهذا بخلاف حال المؤمنين المتقين لأن المؤمن إذا أصابه طيف من الشيطان تذكر وعرف ذلك فنزع عنه وتاب واستغفر والكافر مستمر في ضلالته لا يتذكر ولا يرعوي.
وقال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئآت ولا الشياطين يمسكون عنه فعلى هذا القول يحمل قوله لا يقصرون على

صفحة رقم 330
فعل الإنس والشياطين جميعاً.
قوله عز وجل : ( وإذا لم تأتهم بآية ( يعني وإذا لم تأت المشركين يا محمد بآية ومعجزة باهرة ) قالوا ( يعني قال المشركون ) لولا اجتبيتها ( يعني افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك تقول العرب اجتبت الكلام إذا اختلقته وافتعلته.
وقال الكلبي : كان أهل مكة يسألون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها يعني هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك ) قل ( أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوا الآيات ) إنما أتبع ما يوحي إلي من ربي ( يعني القرآن الذين أنزل عليّ وليس لي أن أقترح الآيات والمعجزات ) هذا بصائر من ربكم ( يعني هذا القرآن حجج وبرهان وأصل البصائر من الإبصار وهو ظهور الشيء حتى يبصره الإنسان ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب ) وهدى ( يعني وهو هدى ) ورحمة ( يعني وهو رحمة من الله ) لقوم يؤمنون ( وهنا لطيفة وهي الفرق بين هذه المراتب الثلاث وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد وهم أصحاب عين اليقين ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين ومنهم المسلم والمستسلم وهم عامة المؤمنين وهم أصحاب حق اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المستدلون هدى وفي حق القسم الثالث وهم عامة المؤمنين رحمة.
قوله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( لما ذكر الله سبحانه وتعالى عظم شأن القرآن بقوله هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أتبعه بما يجب من تعظيم شأنه عند قراءته فقال سبحانه وتعالى : وإذا قرئ عليكم أيها المؤمنون القرآن فاستمعوا له يعني أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه وتتدبروا مواعظه وأنصتوا يعني عند قراءته والإنصات السكوت للاستماع.
يقال : نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد.
واختلف العلماء في الحال التي أمر الله عز وجل بالاستماع لقارئ القرآن والإنصات له إذا قرأ لأن قوله فاستمعوا له وأنصتوا أمر.
وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبين وللعلماء في ذلك أقوال :
القول الأول : وهو قول الحسن وأهل الظاهر أن تجري هذه الآيات على العموم ففي أي وقت وأي موضع قرئ القرن يجب على كل أحد الاستماع له والسكوت.
والقول الثاني : إنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة روي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكون والاستماع لقراءة القرآن.
وقال عبد الله : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان قال فجاء القرآن وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا.
القول الثالث : إنها نزلت في ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام روى عن أبي هريرة قال نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعن ابن مسعود : أنه سمع ناساً يقرؤون مع الإمام فلما انصرف قال أما آن لكم أن تفقهوا وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله.
وقال الكلبي : كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار.
القول الرابع : أنها نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء قال مجاهد : الإنصات للإمام يوم الجمعة.
وقال عطاء وجب الصمت في اثنتين عند الرجل يقرأ القرآن وعند الإمام وهو يخطب.
وهذا القول قد اختاره جماعة وفيه بعد لأن الآية مكية والخطبة إنما وجبت بالمدينة واتفقوا على

صفحة رقم 331
أنه يجب الإنصات حال الخطبة بدليل السنة وهو ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت ) أخرجاه في الصحيحين واختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فذهب جماعة إلى إيجابها سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسرّ.
يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وهو قول الأوزاعي وإليه ذهب الشافعي وذهب قوم إلى أن يقرأ فيما أسرّ الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه , يروى ذلك عن ابن عمر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وذهب قوم إلى أنه لا يقرأ سواء أسرّ الإمام أو جهر.
يروى ذلك عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية وحجة من قال يقرأ في السرية دون الجهرية قال إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية جمعاً بين دلائل الكتاب والسنة وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال الآية وارة في غير الفاتحة لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية.
قالوا وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكاناته ولا ينازعه في القراءة ولا يجهر بالقراءة خلفه ويدل عليه ما روى عن عبادة بن الصامت قال : ( صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال ) أراكم تقرؤون وراء إمامكم قال ( قلنا : يا رسول الله أي والله قال ) لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ( أخرجه الترمذي بطوله وأخرجاه في الصحيحين أقصر منه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ( ( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثاً غير تمام فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الإمام قال اقرأ بها في نفسك ( وذكر الحديث وقوله سبحانه وتعالى : ( لعلكم ترحمون ( يعني لكي يرحمكم ربكم باتباعكم ما أمركم به من أوامره ونواهيه.

صفحة رقم 332
)
الأعراف : ( 205 - 206 ) واذكر ربك في...
" واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " ( قوله عز وجل : ( واذكر ربك في نفسك ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين.
قال ابن عباس : يعني بالذكر القرآن في الصلاة يريد اقرأ سراً في نفسك والفائدة فيه أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة لأن ذكر النفس أقرب إلى الإخلاص والبعد عن الرياء وقيل المراد بالذكر في النفس أن يستحضر في قلبه عظمة المذكور جل جلاله وإذا كان الذكر باللسان عارياً عن ذكر القلب كان عديم الفائدة لأن فائدة الذكر حضور القلب واستشعاره عظمة المذكور عز وجل ) تضرعاً ( يقال ضرع الرجل يضرع ضراعه إذا خضع وذل واستكان لغيره ) وخيفة ودون الجهر من القول ( يعني وخوفاً والمعنى تضرع إليّ وخاف عذابي.
وقال مجاهد وابن جريج : أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت في الدعاء وهاهنا لطيفة وهي أن قوله سبحانه وتعالى : ( واذكر ربك في نفسك ( فيه إشعار بقرب العبد من الله عز وجل وهو مقام الرجاء لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والرحمة والفضل والإحسان فإذا تذكر العبد إنعام الله عز وجل عليه وإحسانه إليه فعند ذلك يقوى مقام الرجاء ثم أتبعه بقوله تضرعاً وخيفة وهذا مقام الخوف فإذا حصل في قلب العبد داعية الخوف والرجاء قوي إيمانه والمستحب أن يكون الخوف أغلب على العبد في حال صحته وقوته فإذا قارب بالموت ودنا آخر أجله فيستحب أن يغلب رجاؤه على خوفه.
عن أنس بن مالك ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على شاب وهو في الموت فقال ) كيف تجدك ( ؟ قال أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو منه وآمنه مما يخاف ( أخرجه الترمذي.
وقوله سبحانه وتعالى : ( بالغدو ( جمع غدوة ) والآصال ( جمع أصيل وهي ما بين صلاة العصر إلى المغرب والمعنى اذكر ربك بالبكر والعشيات وإنما خص هذين الوقتين بالذكر لأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يستقبله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى ) ولا تكن من الغافلين ( يعني عما يقربك إلى الله عز وجل وقيل إن أعمال العبد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى المغرب فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه بالذكر وقيل : لما كانت الصلاة بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر مكروهة استحب للعبد أن يذكر الله في هذين الوقتين ليكون في جميع أوقاته مشتغلاً بما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة أو ذكر.
قوله عز وجل ) إن الذين عند ربك ( يعني الملائكة المقربين لما أمر الله عز وجل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين بالذكر في حالة التضرع والخوف أخبر أن الملائكة الذينم عنده مع علو مرتبتهم وشرفهم وعصمتهم ) لا يستكبرون عن عبادته ( وطاعته لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه عز وجل ) يسبحون ( يعني وينزهونه عن جميع النقائض ويقولون سبحان ربنا ) وله يسجدون ( لا لغيره.
فإن قلت التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى لا يستكبرون عن

صفحة رقم 333
عبادته لأنهما من جملة العبادة فكيف أفردهما بالذكر.
قلت أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنهم يسحبونه وله يسجدون ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين أعمال القلوب وأعمال الجوارح وأعمال القلوب هي تنزيه الله عن كل سوء وهو الإعتقاد القلبي عبر عنه بقوله ويسبحونه وعبر عن أعمال الجوارح بقوله وله يسجدون وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيستحب للقارئ والمستمع أن يسجد عند قوله وله يسجدون ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم
( ق ) عن عبد الله بن عمر ' أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلا ' ( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ' إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا وليتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ' ( م ) عن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ' عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة ' والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
تم الجزء الثاني من تفسير الخازن ويليه الجزء الثالث وأوله : تفسير سورة الأنفال.

صفحة رقم 2
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفال
تفسير سورة الأنفال.
مدنية كلها إلا سبع آيات منها نزلت بمكة وهي من قوله سبحانه وتعالى ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ( إلى آخر سبع آيات والأصح أنها نزلت بالمدينة وإن كانت الواقعة مكية وهي خمس وسبعون آية وألأف وخمس وسبعون كلمة وخمسة آلاف وثمانون حرفا.
بسم الله الرحمن الرحيم )
الأنفال : ( 1 ) يسألونك عن الأنفال...
" يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( يسألونك عن الأنفال (
( ق ) عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن سورة الأنفال.
قال : نزلت في بدر واختلف أهل التفسير في سبب نزولها فقال ابن عباس لما كان يوم بدر قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ومن أتى مكان كذا وكذا فله كذا وكذا ومن قتل قتيلاً فله كذا ) فتسارع الشباب وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما فتح الله عليهم جاؤوا يطلبون ما جعل لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , فقال لهم الأشياخ : لا تذهبوا به دوننا ولا تستأثروا به علينا فإنا كنا رداءاً لكم ولو انكشفتم إلينا فتنازعوا.
فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الأنفال.
الآية قال أهل التفسير : قام أبو اليسر بن عمرو الأنثاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله إنك وعدت ان من قتل قتيلاً فله كذا وكذا وإنا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين وقام سعد بن معاذ فقال : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ولكن كرهنا أن تعرى مصافك فتعطف عليك خيل من المشركين فيصبونك.
فأعرض عنهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سعد : يا رسول الله إن الناس كثير والغنيمة دون ذلك فإن تعط هؤلاء الذين ذكرت لا يبقى لأصحابك كبير شيء فنزلت هذه الآية : يسألونك عن الأنفال وقال محمد بن إسحاق : ( أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما في العسكر فجمع فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه هو لنا وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نفل كل امرئ ما أصاب وقال الذين كانوا يقاتلون العدو لولا نحن ما أصبتموه وقال الذين يحرسون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقد كنا نقدر أن نقاتل العدو ولكنا خفنا على رسول الله صلى لله عليه وسلم غرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق منا فنزلت هذه الآية ).
روى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال : ( سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله

صفحة رقم 3
( صلى الله عليه وسلم ) فقسمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيننا عن بواء ) يقول على سواء وكان فيه تقوى الله وطاعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإصلاح ذات البين وعن سعد بن أبي وقاص قال : ( لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين أو نحو هذا هب لي هذا السيف فقال : ( هذا ليس لي ولا لك ( فقلت : عسى أن يعطي هذا من لا يبلي بلائي فجاءني الرسول فقال ) إنك سألتني وليس لي وأنه قد صار لي وهو لك ( فنزلت يسألونك عن الأنفال , الآية أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح وأخرجه مسلم في جملة حديث طويل يتضمن فضائل سعد ولفظ مسلم فيه.
قال : ( أصاب رسول الله عليه وسلم غنيمة عظيمة وإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت نفلني هذا السيف فأنا قد علمت حاله فقال ( رده من حيث أخذته ) فانطلقت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت أعطنيه قال فشد على صوته ( رده من حيث أخذته ) فأنزل الله عز وجل ) يسألونك عن الأنفال ( وقال ابن عباس : كانت المغانم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكاً فهو غلول وأما التفسير فقوله سبحانه وتعالى ) يسألونك عن الأنفال ( استفتاء يعني يسألك أصحابك يا محمد عن حكم الأنفال وعلمها وهو سؤال استفتاء لا سؤال طلب.
وقال الضحاك وعكرمة : هو سؤال طلب وقوله عن الأنفال أي من الأنفال وعن بمعنى من.
وقيل : عن صلة أي يسألونك الأنفال والأنفال هي الغنائم في قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأصله الزيادة سميت الغنائم أنفالاً لأنها زيادة من الله عز وجل لهذه الأمة على الخصوص وأكثر المفسرين على أنها نزلت في غنائم بدر.
وقال عطاء : هي ما شذ عن المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو امرأة أو متاع فهو للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصنع فيه ما يشاء ) قل الأنفال لله والرسول (

صفحة رقم 4
أي : قل لهم يا محمد إن الإنفال حكمها لله ورسوله يقسمانها كيف شاؤوا واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال مجاهد وعكرمة والسدي هذه الآية منسوخة فنسخها الله سبحانه وتعالى بالخمس في قوله ) واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ( " الآية.
وقيل كانت الغنائم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسمها كيف شاء ولمن شاء ثم نسخها الله بالخمس.
وقال بعضهم : هذه الآية ناسخة من وجه منسوخة من وجه وذلك أن الغنائم كانت حراماً على الأمم الذين من قبلنا في شرائع أنبيائهم فأباحها الله لهذه الأمة بهذه الآية وجعلها ناسخة لشرع من قبلنا ثم نسخت بآياته الخمس وقال عبد الرحمن بن زيد إنها محكمة وهي إحدى الروايات عن ابن عباس ومعنى الآية على هذا القول قل الأنفال لله والرسول يضعها حيث أمره الله وقد بين الله مصارفها في قوله : ( واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ( " الآية.
وصح من حديث ابن عمر , قال : بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سرية فغنمنا إبلاً فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيراً ونفلنا بعيراً نعيراً أخرجاه في الصحيحين فعلى هذا تكون الآية محكمة وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس ) فاتقوا الله ( يعني اتقوا الله بطاعته واتقوا مخالفته واتركوا المنازعة والمخاصمة في الغنائم ) وأصلحوا ذات بينكم ( أي أصلحوا الحال فيما بينكم بترك المنازعة والمخالفة وبتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله ) وأطيعوا الله ورسوله ( فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه ) إن كنتم مؤمنين ( يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده.
)
الأنفال : ( 2 - 4 ) إنما المؤمنون الذين...
" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم " ( ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( لما أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته وطاعة رسوله في الآية المتقدمة ثم قال بعد ذلك إن كنتم مؤمنين لأن الإيمان يستلزم الطاعة , بيَّن في هذه الآية صفات المؤمنين وأحوالهم فقال سبحانه وتعالى ) إنما المؤمنون ( ولفظة إنما تفيد الحصر والمعنى ليس المؤمنون الذين يخالفون الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي خضعت وخافت ورقت قلوبهم وقيل إذا خوفوا بالله انقادوا خوفاً من عقابه.
وقال أهل الحقائق : الخوف على قسمين : خوف عقاب وهو خوف العصاة , وخوف الهيبة والعظمة وهو خوف الخواص , لأنهم يعلمون عظمة الله عز وجل فيخافونه أشد خوف , وأما العصاة فيخافون عقابه فالمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته في ذكر الله.
فإن قلت : إنه سبحانه وتعالى قال في هذه الآية وجلت قلوبهم بمعنى خافت وقال في آية أخرى تطمئن قلوبهم بذكر الله فكيف الجمع بينهما ؟ قلت لا منافاة بين هاتين الحالتين لأن الوجل هو خوف العقاب والاطمئنان إنما يكون من ثلج اليقين وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهذا مقام الخوف والرجاء وقد جمعا في آية واحدة وهي قوله سبحانه وتعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
والمعنى : تقشعر جلودهم من خوف عقاب الله ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر الله ورجاء ثوابه وهذا حاصل في قلب المؤمنين ثم قال تعالى : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ( يعني وإذا قرأت عليهم آيات القرآن زادتهم تصديقاً قاله ابن عباس.
والمعنى : أنه كلما جاءهم شيء من عند الله آمنوا به فيزدادون بذلك إيماناً وتصديقاً لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين الوجه الأول وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي أن كل من كانت

صفحة رقم 5
الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين فتكون معرفته بالله أقوى فيزداد إيمانه.
الوجه الثاني : هو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ولما كانت التكاليف متوالية في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكلما تجدد تكليف صدقوا به فيزدادون بذلك الإقرار تصديقاً وإيماناً ومن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان أكبر مما يصدقه في شيء واحد فقوله تعالى : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ( معناه أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد وتصديق جديد فكان ذلك زيادة في إيمانهم واختلف أناس في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم لا ؟ فالذين قالوا إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا لا يقبل الزيادة لإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب وذلك لا يقبل الزيادة ومن قال إن الإيمان عبارة عن مجموع أمور ثلاثة وهي التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان فقد استدل على ذلك بهذه الآية من وجهين أحدهما أن قوله زادتهم إيماناً صريح في أن الإيمان يقبل الزيادة ولو كان عبارة عن التصديق بالقلب فقط لما قبل الزيادة وإذا قيل لزيادة فقد قبل النقص.
الوجه الثاني : أنه ذكر في هذه الآية أوصافاً متعددة من أحوال المؤمنين ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك : أولئك هم المؤمنون حقاً.
وذلك يدل على أن تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان.
وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا لله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) أخرجاه في الصحيحين ففي هذا الحديث دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى وإذا كان كذلك كان قابلاً للزيادة والنقص.
قال عمير بن حبيب , وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصاناً.
قيل له : فما زيادته ؟ قال : إذا ذكرنا الله وحمدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي : أن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وعلى ربهم يتوكلون ( معناه يفوضون جميع أمورهم إليه ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه.
واعلم ان المؤمن إذا كان واثقاً بوعد الله ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره وهي درجة عالية ومرتبة شريفة لأن الإنسان يصير بحيث لا يبقى له اعتماد في شيء من أموره إلا على الله عز وجل واعلم أن هذه المراتب الثلاث أعني الوجل عند ذكر الله وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن والتوكل على الله من أعمال القلوب ولما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الصفات الثلاث أتبعها بصفتين من أعمال الجوارح فقال سبحانه وتعالى : ( الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( يعني يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها وينفقون أموالهم فيما أمرهم الله به من الإنفاق فيه ويدخل فيه النفقة في الزكاة والحج والجهاد وغير ذلك من الإنفاق في أنواع البر والقربات ثم قال تعالى : ( أولئك ( يعني من هذه صفتهم ) هم المؤمنون حقاً ( يعني يقيناً لا شك في إيمانهم قال ابن عباس برؤا من الكفر.
وقال قتادة : استحقوا الإيمان وأحقه الله لهم وفيه دليل على انه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمناً حقاً لأن الله سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي أن العلماء اتفقوا على أنه يجوز للرجل أن يقول

صفحة رقم 6
أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز له أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا ؟ فقال أصحاب الإمام أبي حنيفة : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله واستدلوا على صحة هذا القول بوجهين :
الأول : أن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله وكذا القول في القائم والقاعد , فكذلك هذه المسألة يجب فيها أن يكون المؤمن مؤمناً حقاً , ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
الوجه الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال ) أولئك هم المؤمنون حقاً ( فقد حكم الله لهم بكونهم مؤمنين حقاً وفي قوله أنا مؤمن إن شاء الله تشكيك فيما قطع الله لهم به وذلك لا يجوز وقال أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله واحتجوا لصحة هذا القول بوجوه : الأول أن الإيمان عندهم عبارة عن الإعتقاد والإقرار والعمل وكون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة المقبولة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في الماهية فيجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله وإن كان اعتقاده وإقراره صحيحاً وعند أصحاب أبي حنيفة أن الإيمان عبارة عن الإعتقاد فيخرج العمل من مسمى الإيمان فلم يلزم حصول الشك.
الوجه الثاني : أن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله ليس هو على سبيل الشك ولكن إذا قال الرجل أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب فإذا قال : إن شاء الله زال عنه ذلك العجب وحصل له الانكسار.
روي أن أبا حنيفة قال لقتادة : لم استثنيت في إيمانك ؟ فقال قتادة : اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( " فقال أبو حنيفة هلا اقتديت به في قوله أولم تؤمن ؟ قال : بلى فانقطع قتادة قال بعضهم كان لقتادة أن يقول إن إبراهيم قال بعد قوله بلى ولكن ليطمئن قلبي فطلب.
مزيد الطمأنينة.
الوجه الثالث : أن الله سبحانه وتعالى ذكر في أول الآية إنما المؤمنون ولفظة إنما تفيد الحصر يعني إنما المؤمنون الذين هم كذا وكذا وذكر بعد ذلك أوصافاً خمسة وهي الخوف من الله والإخلاص لله والتوكل على الله والإتيان بالصلاة كما أمر الله سبحانه وتعالى وإيتاء الزكاة كذلك ثم بعد ذلك قال : أولئك هم المؤمنون حقاً يعني أن من أتى بجميع هذه الأوصاف كان مؤمناً حقاً ولا يمكن لأحد أن يقطع بحصول هذه الصفات له فكان الأولى له أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت ؟ فقال الحسن : إن كنت سألتني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن وإن كنت سألتني عن قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية فلا أدري أنا منهم أم لا.
وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوم فقلنا من القوم ؟ فقالوا نحن المؤمنون حقاً فلم ندر ما نجيهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم شيئاً قال هلا قلتم لهم أمن أهل الجنة أنتم إن المؤمنين هم أهل الجنة ؟ وقال سفيان الثوري : من زعم أنه مؤمن حقاً عند الله ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف الآخر.
الوجه الرابع : إن قولنا أنا مؤمن إن شاء الله للتبرك لا للشك فهو كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) مع العلم القطعي أنه لاحق بأهل القبور.
الوجه الخامس : إن المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا ختم له بالإيمان ومات عليه وهذا لا يحصل إلا عند الموت , فلهذا السبب حسن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله.
فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة.
وأجاب أصحاب هذا القول , وهم أصحاب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم , عن استدلال أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم بقولهم : إن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء الله بأن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً أن الإيمان يتوقف حاله

صفحة رقم 7
على الخاتمة والحركة فعل يقيني فحصل الفرق بينهما والجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم إنه سبحانه وتعالى قال : ( أولئك هم المؤمنون حقاً ( فقد حكم لهم بكونهم مؤمنين حقاً أنه تعالى حكم للموصفين بتلك الصفات المذكورة في الآية بكونهم مؤمنين حقاً إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة ولا يقدر أحد أن يأتي بتلك الأوصاف على الحقيقة ونحن نقول أيضاً إن من أتى بتلك الأوصاف على الحقيقة كان مؤمناً حقاً ولكن لا يقدر على ذلك أحد والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وقوله تعالى : ( لهم درجات عند ربهم ( يعني لهم مراتب بعضها أعلى من بعض لأن المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ تلك الأوصاف المذكورة فلهذا تتفاوت مراتبهم في الجنة لأن درجات الجنة على قدر الأعمال.
قال عطاء : درجات الجنة يرتقون فيها بأعمالهم , وقال الربيع بن أنس : درجات الجنة سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام ) أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم ) ) ومغفرة ( يعني ولهم مغفرة لذنوبهم ) ورزق كريم ( يعني ما أعدَّ لهم في الجنة وصفه بكونه كريماً منافعه حاصلة لهم دائمة عليهم مقرونة بالإكرام والتعظيم.
)
الأنفال : ( 5 - 7 ) كما أخرجك ربك...
" كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ( اختلفوا في الجالب لهذه الكاف ما هو ؟ فقال المبرد : تقديره قل الأنفال لله والرسول إن كرهوا كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا.
وقيل : معناه امضِ لأمر ربك في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر ربك في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون.
وقيل : معناه فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم كما أن إخراج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من بيته بالحق هو خير لكم وإن كرهه فريق منكم.
وقيل : هو راجع لقوله سبحانه وتعالى : لهم درجات عند ربهم تقديره وعد الله المؤمنين بالدرجات حق حتى ينجزه الله تعالى كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأنجز الوعد بالنصر والظفر.
وقيل : هي متعلقة بما بعدها تقديره كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق منهم كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه.
وقيل : الكاف بمعنى على أي امض على الذي أخرجك ربك من بيتك بالحق فإنه حق.
وقيل : الكاف بمعنى القسم تقديره والذي أخرجك ربك من بيتك وجوابه يجادلونك في الحق.
وقيل : الكاف بمعنى إذ تقديره واذكر يا محمد إذا أخرجك ربك من بيتك بالحق.
قيل : المراد بهذا الإخراج إخراجه من مكة إلى المدينة للهجرة.
وقال جمهور المفسرين : المراد بهذا الإخراج هو خروجه من المدينة إلى بدر ومعناه كما أمرك ربك بالخروج من بيتك بالمدينة بالحق يعني بالوحي لطلب المشركين ) وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ( يعني للقتال وإنما كرهوه لقلة عددهم وقلة سلاحهم وكثرة عدوهم وسلاحهم ) يجادلونك في الحق ( وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك وقالوا لم تعلمنا أنَّا نلقى العدو فنستعد لقتالهم وإنما خرجنا

صفحة رقم 8
لطلب العير فذلك جدالهم ) بعد ما تبين ( يعني تبين لهم أنك لا تصنع شيئاً إلا بأمر ربك وتبين لهم صدقك في الوعد ) كأنما يساقون إلى الموت ( يعني لشدة كراهتهم القتال ) وهم ينظرون ( يعني إلى الموت شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموتِ وهو ينظر إليه ويعلم أنه آتيه.
قوله عز وجل : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ( يعني الفرقيتين فرقة أبي سفيان مع العير وفرقة أبي جهل مع النفير ) أنها لكم ( يعني إحدى الفرقتين لكم.
قال ابن عباس وعروة بن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدي : أقبل أبو سفيان بن حرب من الشام في عير قريش في أربعين راكباً من كفار قريش منهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري ومعهم تجارة كبيرة وهي اللطيمة.
يريد باللطيمة.
الجمال التي تحمل العطر والبز غير الميرة , حتى إذا كانوا قريباً من بدر , بلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خبرهم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو وقال : هذه هي عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك انهم لم يظنوا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يلقى حرباً فلما سمع أبو سفيان بمسير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يتي قريشاً يستنفرهم ويخبرهم أن محمداً في أصحابه قد عرض لعيرهم فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت رؤيا قبل قدوم ضمضم مكة بثلاثة أيام أفزعتها فبعثت إليها أخيها العباس بن عبد المطلب.
فقالت : يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فقال لها وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر إلى مصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخلها منها فلقة فقال العباس : والله إن هذه الرؤيا فظيعة فاكتميها ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة , وكان صديقاً للعباس , فذكر رؤيا عاتكة له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة , ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش بمكة.
قال العباس : فعمدت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في نفر من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة فغدوت أطوف فلما رأني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا.
قال العباس : فلما رغت من طوافي أقبلت إليهم حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت : وما ذاك ؟ قال : الرؤيا التي رأت عاتكة قلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم لقد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك ما قالت حقاً

صفحة رقم 9
فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتاباً بأنكم أكذب أهل بيت في العرب قال العباس فوالله ما كان مني إليه من كبير شيء إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئاً ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقلن أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت.
قال : قلت قد والله فعلت ما كان مني إليه من شيء وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنه , قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني شيء أحب أن أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمر نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به وكان أبو جهل رجلاً خفيفاً حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو بابا المسجد يشتد قال العباس : فقلت في نفسي ماله لعنه الله أكل هذا فرقاً مني أن أشاتمه قال فإذا هو قد سمع ما لم أسمع سمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة هذه أموالكم مع أبي سفيان وقد عرض لها محمد في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر قال : فتجهز الناس سراعاً ولم يتخلف من أشارف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة من الحرب فقالوا نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر فقال أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجت قريش سراعاً وخرج رسول الله في أصحابه لليال مضت من شهر رمضان حتى بلغ وادياً يقال له ذا قرد فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عن عيرهم فسار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى إذا كان بالروحاء أخذ عيناً للقوم فأخبره بخبرهم وبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبريل عليه السلام وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إنها لكم إما العير , وإما قريش , وكانت العير أحب إليهم فاستشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال وأحسن وقام عمر فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معكم والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له خيراً ودعا له بخير ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشيروا عليّ أيها الناس ) وإنما يريد الأنصار وذلك لأنهم عدد الناس وأنهم حين

صفحة رقم 10
بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا فنمنعك مما منع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسيروا معه إلى عدو من بلادهم فلما قال ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له سعد بن معاذ : والله لكانك تريدنا يا رسول الله.
قال : أجل.
قال : آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذ البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وعدوك إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله عز وجل أن يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى , فسرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقول سعد ونشطه ذلك فقال : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله عز وجل قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ( م ).
عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر قال : ( إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى قال عمر فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حدها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى انتهى إليهم فقال يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً فإني قد وجدت ما وعدني الله حقاً فقال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها فقال ) ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليه شيئاً ( فذلك قوله سبحانه وتعالى وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم يعني طائفة أبي سفيان مع العير وطائفة أبي جهل

صفحة رقم 11
مع النفير ) وتودون ( أي وتريدون وتتمنون ) أن غير ذات الشوكة تكون لكم ( والمعنى : وتتمنون أن العير التي ليس فيها قتال ولا شوكة تكون لكم والشوكة الشدة والقوة ويقال السلاح ) ويريد الله أن يحق الحق ( أي يظهر الحق ويعليه ) بكلماته ( يعني بأمره إياكم بالقتال وقيل بعداته الت سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه ) ويقطع دابر الكافرين ( أي ويستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد.
)
الأنفال : ( 8 - 9 ) ليحق الحق ويبطل...
" ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " ( ) ليحق الحق ( يعني ليثبت الإسلام ) ويبطل الباطل ( يعني وينفي الكفر ) ولو كره المجرمون ( يعني المشركين وفي الآية سؤالان : الأول : أن قوله ويريد الله أن يحق الحق ثم قال بعده ليحق الحق تكرير فما معناه ؟.
والجواب أنه ليس فيه تكرير لأن المراد بالأول تثبيت ما وعد في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء والمراد بالثاني : تقوية القرآن والدين وإظهار منار الشريعة لأن الذي وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم وقهر الكافرين مع كثرتهم كان سبباً لإعزاز الدين وقوته ولهذا السبب قرنه بقوله ويبطل الباطل يعني الذي هو الشرك.
السؤال الثاني : الحق حق لذاته والباطل باطل لذاته فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل.
والجواب : إن المراد من تحقيق الحق إظهار كون ذلك حقاً والمراد من إبطال ذلك الباطل إظهار كون ذلك الباطل باطلاً وذلك بإظهار دلائل الحق وتقويته.
وقمع رؤساء الباطل وقهرهم.
قوله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم ( أي واذكر يا محمد أذ تستجيرون بربكم من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر وفي المستغيثين قولان أحدهما أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون معه قاله الزهري والقول الثاني : أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم له ( م ) عن ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال : ( لما كان يوم بدر نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً فاستقبل نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه يقول : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك

صفحة رقم 12
هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ( فما زال يهتف بربه ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاء على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل إذ تستغيثون ربكم ) فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ( فأمده الله بالملائكة.
قال سماك : فحدثني ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه خر مستلقياً فنظر إليه فإذا قد حطم أنفه وشق وجه كضربة السيف فأحصى ذلك أجمع وجاء فحدث بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين وقوله سبحانه وتعالى فاستجاب لكم , يعني فأجاب دعاءكم أني ممدكم أصله بأني ممدكم أي مرسل إليكم مدداً ورداءً لكم بألف من الملائكة مردفين , يعني : يردف بعضهم بعضاً بمعنى يتبع بعضهم بعضاً.
روي أنه نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة وميكائيل عليه السلام في خمسمائة في صور الرجال على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوها بين أكتافهم.
وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ناشد ربه وقال أبو بكر إن الله سينجز لك ما وعدك خفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال : يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع
( خ ) .
عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم بدر : ( هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه آداة الحرب ) يعني آلة الحرب قال ابن عباس : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ويوم حنين عمائم خضر ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام وكانوا يكونون فيما سواه عدداً ومدداً.
وروي عن أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان قد شهد بدراً أنه قال بعد ما ذهب بصره لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت من الملائكة تقدم الكلام في سورة آل عمران هل قاتلت الملائكة أم لا والصحيح انهم قاتلوا يوم بدر لما تقدم من حديث ابن عباس في الذي ضربه بالسوط فحطم أنفه وشق وجهه وكانوا فيما سوى يوم بدر مدداً وعوناً قيل إنهم لم يقاتلوا وإنما نزلوا ليكثروا سواد المسلمين ويثبتوهم.
)
الأنفال : ( 10 - 12 ) وما جعله الله...
" وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان " ( ) وما جعله الله إلا بشرى ( يعني وما جعل الله الإرداف بالملائكة إلا بشرى ) ولتطمئن به قلوبكم ( وهذا يحقق أنهم إنما نزلوا لذلك لا للقتال والصحيح هو الأول وأنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا فيما سواه من الأيام.
وقوله تعالى : ( وما النصر إلا من عند الله ( يعني أن الله هو ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وشدة بأسكم وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد المسلم أن لا يتوكل إلا على الله في جميع أحواله ولا يثق بغيره فإن الله تعالى بيده النصر والإعانة ) إن الله عزيز ( يعني أنه تعالى قوي منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كل شيء ويغلبه ) حكيم ( يعني في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء

صفحة رقم 13
من عباده.
قوله سبحانه وتعالى : ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ( أي : واذكروا إذ يلقى عليكم النعاس وهو النوم الخفيف أمنة منه أي أمنا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم قال عبد الله بن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة من الشيطان والفائدة في كون النعاس أمنة في القتال أن الخائف على نفسه لا يأخذه النوم فصار حصول النوم وقت الخوف الشديد دليلاً على الأمن وإزالة الخوف.
وقيل إنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عدوهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم وعددهم وعطشوا عطشاً شديداً ألقى عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش وتمكنوا من قتال عدوهم وكان ذاك النوم نعمة في حقهم لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم وقيل في كون هذا النوم كان أمنة من الله أنه وقع عليهم النعاس دفعة واحدة فناموا كلهم مع كثرتهم وحصول النعاس لهذا الجمع العظيم مع وجود الخوف الشديد أمر خارج عن العادة فلهذا السبب قيل إن ذلك النعاس كان في حكم المعجزة لأنه أمر خارق للعادة وقوله سبحانه وتعالى : ( وينزل عليكم من السماء ماء ( يعني المطر ) ليطهركم به ( وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب رمل أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر فنزلواعليه وأصبح المسلمون على غير ماء وبعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم العطش فوسوس لهم الشيطان.
وقال : تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنتم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين فكيف ترجون أن تظهروا على عدوكم ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى مطراً سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوشؤوا وسقوا الركاب وملأوا الأسقية وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام وزالت عنهم وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم وعظمت النعمة من الله عليهم بذلك وكان دليلاً على حصول النصر والظفر , فذلك قوله سبحانه وتعالى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به يعني : من الإحداث والجنابة ) ويذهب عنكم رجز الشيطان ( يعني وسوسته التي ألقاها في قلوبكم ) وليربط على قلوبكم ( يعني بالنصر واليقين والربط في اللغة الشد وكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه عليه قال الواحدي ويشبه أن تكون لفظة على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالصبر وما أوقع فيها من اليقين وقيل : إن لفظة على ليست بصلة لأنها تفيد الاستعلاء فيكون المعنى : أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها ) ويثبت به الأقدام ( يعني أن ذاك المطر لبد الأرض وقوى الرمل حتى تثبتت عليه الأقدام وحوافر الدواب , وقل المراد به تثبت الأقدام بالصبر وقوة القلب لأن من يكون ضعيف القلب لا يثبت قدمه بل يفر ويهرب عن اللقاء.
وقوله سبحانه وتعالى : ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ( يعني أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الملائكة الذين أمد بهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه إني معكم بالنصر والمعونة ) فثبَّتوا الذين آمنوا ( أي : قووا قلوبهم واختلفوا في كيفية هذها لتقوية والتثبيت.
فقيل : كما أن للشيطان قوة في إلقاء الوسوسة

صفحة رقم 14
في قلب ابن آدم بالشر , فكذلك للملك قوة في إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير.
ويسمى ما يلقى الشيطان : وسوسة , وما يلقي الملك لمة وإلهاماً , فهذا هو التثبيت.
وقيل : إن ذلك التثبيت هو حضورهم معهم القتال ومعونتهم لهم أي : ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين , وقيل معناه بشرورهم بالنصر والظفر فكان الملك يمشي في صورة رجل أمام الصف ويقول أبشروا فإن الله ناصركم عليهم ) سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( يعني الخوف وكان ذلك نعمة من الله على المؤمنين حيث ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين ) فاضربوا فوق الأعناق ( قيل هو خطاب مع المؤمنين فيكون منقطعاً عما قبله.
وقيل : هو خطاب مع الملائكة فيكون متصلاً بما قبله.
.
قال ابن الأنباري : ما كانت الملائكة تعرف تقتل بني آدم فعلمهم الله ذلك بقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق.
قال عكرمة : يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق.
وقال الضحاك : معناه فاضربوا الأعناق وفوق صلة.
وقيل : معناه فاضربوا على الأعناق فتكون فوق بمعنى على ) واضربوا منهم كل بنان ( يعني كل مفصل.
وقال ابن عباس : يعني الأطراف وهي جمع بنانة وهي أطراف أصابع اليدين سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن الإنسان أن يبين ما يريد أن يعمله بيديه وإنما خصت بالذكر من دون سائر الأطراف لأجل أن الإنسان بها يقاتل وبها يمسك السلاح في الحرب.
وقيل : إنه سبحانه وتعالى أمرهم بضرب أعلى الجسد وهو الرأس وهو أشرف الأعضاء وبضرب البنان وهو أضعف الأعضاء فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.
وقيل : أمرهم بضرب الرأس وفيه هلاك الإنسان وبضرب البنان وفيه تعطيل حركة الإنسان عن الحرب لأن بالبنان يتمكن من مسك السلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل عن ذلك كله.
روي عن أبي داود المازني , وكان شهد بدراً , قال : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذا وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري.
وعن سهل بن حنيف قال : لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف , وروى عكرمة

صفحة رقم 15
عن أبي رافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان الإسلام قد دخل علينا أهل البيت فأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما جاء الخبر عن مقتل أصحاب بدر كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً , قال أبو رافع وكنت رجلاً ضعيفاً أعمل القداح وأنحتها في حجرة زمزم فوالله إني لجالس أنحت القداح وعندي أم الفضل جالسة إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب : إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر اليقين فجلس إليه والناس قيام عليه فقال أبو لهب : يا ابن أخي خبرني كيف كانت أحوال الناس ؟ قال : لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وايم الله ما لمت الناس لقينا رجالاً بيضاء على خيل بلق بين السماء والأرض والله لا يتلقاهم شيء ولا يقوم لهم شيء.
قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي وقلت تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فساورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك على صدري وكنت رجلاً ضعيفاً , فقامت إليه أم الفضل بعمود من عمد الحجرة فضربته به ضربه ففلقت رأسه شجة منكرة , وقالت : تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام مولياً ذليلاً فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله تعالى بالعدسة فقتلته.
وروى مقسم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان أبو اليسر رجلاً مجموعاً وكان العباس رجلاً جسيماً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي اليسر ( كيف أسرت العباس ) ؟ قال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد أعانك عليه ملك كريم ) وكانت وقعة بدر في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة النبوية.
)
الأنفال : ( 13 - 16 ) ذلك بأنهم شاقوا...
" ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( ذلك ( يعني الذي وقع من القتل والأسر يوم بدر ) بأنهم شاقوا الله ورسوله ( يعني بأنهم خالفوا الله ورسوله.
والمشاقة : المخالفة , وأصلها المجانبة , كأنهم صاروا في شق وجانب عن شق المؤمنين وجانبهم وهذا مجاز معناه أنهم شاقّوا أولياء الله وهم المؤمنون أو شاقوا دين الله ثم قال سبحانه وتعالى : ( ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ( يعني أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم من القتل والأسر شيء قليل فيما أعد الله لهم من العقاب يوم القيامة ثم قال تعالى : ( ذلكم ( إشارة إلى القتل والأسر الذي نزل بهم ) فذوقوه ( يعني عاجلاً في الدنيا لأن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل الذي أعده الله لهم في الآخرة من العذاب وهو قوله : ( وأن للكافرين عذاب النار ( يعني في الآخرة , عن ابن عباس قال : لما

صفحة رقم 16
فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من بدر قيل له عليك بالعير ليس من دونها شيء قال فناداه العباس من وثاقه لا يصلح لك لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك قال : صدقت , أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً ( يعني مجتمعين متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني في القتال وأصل الزحف مشي مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي وسمي مشي الطائفتين بعضهم إلى بعض في القتال زحفاً لأنها تمشي كل طائفة إلى صاحبتها مشياً رويداً وذلك قبل التداني للقتال , وقال ثعلب : الزحف المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء ) فلا تولوهم الأدبار ( يعني فلا تولوهم ظهوركم منهزمين منهم فإن المنهزم يولي ظهره ودبره ) ومن يولهم يومئذ دبره ( يعني ومن ينهزم ويول دبره يوم الحرب والقتال ) إلا متحرفاً لقتال ( يعني إلا منقطعاً إلى القتال يرى عدوه من نفسه الانهزام وقصده طلب الكرة على العدو والعود إليه وهذا هو أحد أبواب الحرب وخدعها ومكايدها.
وقوله تعالى : ( أو متحيزاً إلى فئة ( يعني أو منضماً وصائراً إلى جماعة من المؤمنين يريدون العود إلى القتال ) فقد باء بغضب من الله ( يعني من انهزم من المسلمين وقت الحرب إلا في هاتين الحالتين وهي التحرف للقتال والتحيز إلى فئة من المسلمين فقد رجع بغضب من الله ) ومأواه جهنم وبئس المصير (
( فصل في حكم هذه الآية )
اختلف العلماء في ذلك ، فقال أبو سعيد الخدري : هذا في أهل بدر خاصة لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان معهم ولم تكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين ولأنها أول غزاة غزاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه والمسلمون معه فشدد الله عليهم أمر الانهزام وحرمه عليهم يوم بدر فأما بعد ذلك اليوم فإن المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيزاً إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك قال يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله النار لمن فرّ يوم بدر فلما كان يوم أحد قال الله تعالى إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ثم كان يوم حنين بعده فقال سبحانه وتعالى : ( ثم وليتم مدبرين.
.
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ( " وقال عبد الله بن عمر : كنا في جيش بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحاص الناس حيصة فانهزمنا فقلنا يا رسول الله نحن الفرارون قال : لا بل أنتم الكرارون إنا فئة المسلمين.
قوله فحاص الناس حيصة , يعني جال الناس جولة يطلبون الفرار من العدو.

صفحة رقم 17
والمحيص : الهرب.
وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر بن الخطاب , فقال : لو انحاز إليّ كنت له فئة أنا فئة كل مسلم.
وقال بعضهم : حكم الآية عام في حق كل من ظهره منهزماً بدليل قوله ) يا أيها الذين آمنوا ( وهذا خطاب عام فيتناول جميع الصور وإن كانت الآية نزلت في غزاة بدر لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وجاء في الحديث ( من الكبائر الفرار من الزحف ) وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم ) فليس لقوم أن يفروا من مثلهم فنسخت بذلك إلا في هذه العدة وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا منهم ويولوهم ظهورهم وإن كان العدو أكثر من المثلين جاز لهم أن يفروا منهم قال ابن عباس من فرّ من ثلاثة لم يفر ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.
)
الأنفال : ( 17 ) فلم تقتلوهم ولكن...
" فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم " ( قوله تعالى : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ( قال مجاهد : سبب نزول هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن قتال اهل بدر كان الرجل يقول : أنا قتلت فلاناً , ويقول الآخر : أنا قتلت فلاناً فنزلت هذه الآية والمعنى فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم يعني بنصره إياكم وتقويتكم عليهم وقيل : معناه ولكن الله قتلهم بإمداده إياكم بالملائكة.
قال الزمخشري : الفاء في قوله فلم تقتلوهم جواب شرط محذوف تقديره وإن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم ) وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( قال أهل التفسير والمغازى لما ندب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه , انطلقوا حتى نزلوا بدراً ووردت عليهم روايا قريش وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد فأخذوهما وأتوا بهما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أين قريش ؟ قالا : هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : كم قومك ؟ قالا : كثير.
قال : ما عددهم ؟ قالا : لا ندري.
قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : القوم ما بين التسعمائة إلى ألف.
ثم قال لهما : من فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عامر وطعمة بن عدي والنضر بن الحارث وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تصوب من العقنقل , وهو الكثيب الرمل جاء إلى الوادي.
فقال : ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادَّك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني ) فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها , فلما التقى الجمعان تناول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفاً من الحصباء عليه تراب فرمى به وجوه القوم وقال : ( شاهت الوجوه ) يعني قبحت الوجوه فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينه وفمه ومنخريه من ذلك التراب شيء فانهموا وتبعهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وقال قتادة وابن زيد : ذكر لنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ يوم بدر ثلاثة حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم , وبحصاة في ميسرة القوم وبحصاة بين أظهرهم وقال : ( شاهت الوجوه ) فانهزموا فذلك قوله عز وجل : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفاً من الحصى في وجوه جيش فلا تبقى عين إلا وقد دخل فيها من ذلك شيء فصورة الرمي صدرت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتأثيرها صدر من الله عز وجل فلهذا المعنى صح النفي والإثبات , وقيل.
في معنى

صفحة رقم 18
الآية : وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ رميك , وقيل : ما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بحصياتك ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا ) وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً ( يعني ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب فقد أجمع المفسرون على أن البلاء هنا بمعنى النعمة ) إن الله سميع ( يعني لدعائكم ) عليم ( يعني بأحوالكم.
)
الأنفال : ( 18 - 19 ) ذلكم وأن الله...
" ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين " ( وقوله تعالى : ( ذلكم ( يعني الذين ذكرت من أمر القتل والرمي والبلاء الحسن من الظفر بهم والنصر عليهم فعلنا ذلك الذي فعلنا ) وأن الله ( يعني واعملوا أن الله مع ذلك ) موهن ( أي مضعف ) كيد الكافرين ( يعني مكرهم وكيدهم قوله عز وجل : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ( هذا خطاب مع المشركين الذين قاتلوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر , لما التقى الجمعان : اللهم أينا كان أفخر يعني نفسه ومحمداً ( صلى الله عليه وسلم ) قاطعاً للرحم فأحنه اليوم.
وقيل : إنه قال : اللهم أينا كان خيراً عندك فانصره.
وقيل : قال : اللهم انصر أهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين اللهم من كان أفخر وأقطع لرحمه فأحنه اليوم فأنزل الله عز وجل إن تستفتحوا ومعنى الآية إن تستحكموا الله على أقطع الفريقين للحرم وأظلم الفئتين فينصر المظلوم على الظالم والمحق على المبطل والمقطوع على القاطع
( ق ) .
عن عبد الرحمن بن عوف قال : إني لواقف في الصف يوم بدر.
فنظرت عن يميني وعن شمالي , فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال أي عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي.
قال : أخبرت أنه يسب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوالذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجب لذلك قال : وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت : ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبراه فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته.

صفحة رقم 19
فقال : هل مسحتما سيفكما ؟ فقالا : لا فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السيفين فقال كلاكما قتله وقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسلبه لهما والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء
( ق ) .
عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ) فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد قال فأخذ بلحيته فقال أنت أبو جهل وفي كتاب البخاري أنت أبو جهل هكذا قاله أنس فقال وهل فوق رجل قتلتموه أو قال قتله قومه وفي رواية فقال أبو جهل فلو غير أكار قتلني ( عن عبد الله بن مسعود قال : مررت فإذا أبو جهل صريع قد ضربت رجله فقلت يا عدو الله يا أبا جهل قد أخزى الله الآخر قال : ولا أهابه عند ذلك فقال أعمد من رجل قتله قومه فضربته بسيف غير طائل فلم يغن شيئاً حتى سقط سيفه من يده فضربته حتى برد أخرجه أبو داود وأخرجه البخاري مختصراً.
قال : إنه أتى أبا جهل يوم بدر وبه رمق فقال : هل أعمد من رجل قتلتموه.
وقال عكرمة : قال المشركون والله ما نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله عزوجل إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح يعني إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
وقال السدي والكلبي : كان المشركون لما خرجوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين واكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت : إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح.
يعني : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر.
وهو على ما سألوه فكان النصر لأهدى الفئتين وهم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر قال : قال معاذ بن عمرو بن الجموح : لما فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوة بدر أمر بأبي جهل بن هشام أن يلتمس في القتلى فقال : اللهم لا يعجزك , فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه فضربته ضربة طيرت قدمه بنصف ساقه قال : وضربني ابنة عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلده وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما آذتني جعلت عليها قدمي ثم تمطيت بها حتى طرحتها ثم مر

صفحة رقم 20
بأبي جهل وهو عفير معاذ بن عفراء فضربه حتى أتبته وتركه وبه رمق فمر به عبد الله بن مسعود قال عبد الله وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه فقلت هل أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدبرة قلت لله ولرسوله.
روي عن ابن مسعود أنه قال : قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعباً ثم احتززت رأسه ثم جئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل قال : آلله الذي لا إله غيره فقلت نعم والذي لا إله غيره ثم ألقيته بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحمد الله.
وقال أبي بن كعب : هذا خطاب لأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الله عز وجل للمسلمين إن تستفتحوا أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح أي النصر
( خ ) عن خباب بن الأرت قال : ( شكونا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) قلت : استدل البغوي بهذا الحديث على ما فسر به أبي بن كعب الآية وفيه نظر , لأن هذه الواقعة المذكورة في الحديث كانت بمكة والآية مدنية , فلا تعلق للحديث بتفسير الآية والله أعلم ولكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعا الله ببدر وسأله إنجاز ما وعده من إحدى الطائفتين وألح في الدعاء والمسألة حتى سقط رداؤه وقال الله سبحانه وتعالى مجيباً له إن تستفتحوا يعني تطلبوا النصر وإنجاز ما وعدكم الله به فقد جاءكم الفتح يعني فقد حصل لكم ما طلبتم فاشركوا الله على ما أنعم به عليكم من إجابة دعائكم وإنجاز ما وعدكم به وهذا القول أولى لأن قوله فقد جاءكم الفتح لا يليق إلا بالمؤمنين.
هذا إذا فسرنا الفتح بالنصر والظفر على الأعداء.
أما إذا فسرناه بالقضاء والحكم لم يمتنع أن يراد به الكفار.
أما قوله سبحانه وتعالى : ( وإن تنتهوا فهو خير لكم ( فهو خطاب للكفار يعني وإن تنتهوا عن قتال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن تكذيبه فهو خير لكم في الدين والدنيا أما في الدين بأن تؤمنوا به وتكفوا عنه فيجعل لكم بذلك الفوز بالثواب والخلاص من العقاب.
وأما في الدنيا فهو الخلاص من القتل والأسر ) وإن تعودوا نعد ( يعني وإن تعودوا لقتال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نعد بتسليطه عليكم ونصره عليكم ) ولن تغني عنكم فئتكم ( يعني جماعتكم ) شيئاً ( يعني لا تغني عنكم شيئاً ) ولو كثرت ( يعني جماعتكم ) وأن الله مع المؤمنين ( يعني بالنصر لهم عليكم يا معشر الكفار.
)
الأنفال : ( 20 - 24 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون " ( قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ( يعني في أمر الجهاد لأن فيه بذل المال والنفس ) ولا تولوا عنه ( يعني عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأن

صفحة رقم 21
التولي لا يصح إلا في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا في حق الله تعالى والمعنى لا تعرضوا عنه وعن معونته ونصرته في الجهاد ) وأنتم تسمعون ( يعني القرآن يتلى عليكم ) ولا تكونوا كالذين قالوا ( بألسنتهم ) سمعنا وهم لا يسمعون ( يعني وهم لا يتعظون ولا ينتفعون بما سمعوا من القرآن والمواعظ وهذه صفة المنافقين ) إن شر الدواب عند الله ( يعني إن شر من دب على وجه الأرض من خلق الله عند الله ) الصم ( عن سماع الحق ) البكم ( عن النطق به فلا يقولونه ) الذين لا يعقلون ( يعني لا يفهمون عن الله أمره ونهيه ولا يقبلونه وإنما سماهم دواب لقلة انتفاعهم بعقولهم.
قال ابن عباس : هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلوا جميعاً يوم أحد وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة ) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ( يعني سماع تفهم وانتفاع وقبول للحق ومعنى ولو علم الله.
قال الإمام فخر الدين : إن كان ما كان حاصلاً فيجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقديره الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهم ) ولو أسمعهم ( يعني بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بما يسمعون من المواعظ والدلائل لقوله تعالى : ( لتولوا وهم معرضون ( يعني لتولوا عن سماع الحق وهم معرضون عنه لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره وقيل : إنهم كانوا يقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أحي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن لك فقال الله سبحانه وتعالى : ولو أحيا لهم قصياً وسمعوا كلامه لتولوا عنه وهم معرضون.
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول ( يعني أجيبوهما بالطاعة والانقياد لأمرهما ) إذا دعاكم ( يعني الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
وإنما وجد الضمير في قوله تعالى إذا دعاكم لأن استجابة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) استجابة لله تعالى وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد واستدل أكثر الفقهاء بهذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن كل من أمره الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بفعل فقد دعاه إليه وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعا الله ورسوله إليه
( خ ) .
عن أبي سعيد بن المعلى قال : ( كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ألم يقل الله ) استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ( ثم ذكر الحديث عن أبي هريرة ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج على أبي بن كعب وهو يصلي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا أبيّ فالتفت أبيّ ولم يجبه وصلى أبي وخفف ثم انصرف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال : يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال ( صلى الله عليه وسلم ) أفلم تجد فيما أوحى الله إلي : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى ( وذكر الحديث أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
قيل هذه الإجابة مختصة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعلى هذا ليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر وقيل لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير فله أن يقطع صلاته.
وقوله تعالى : ( لما يحييكم ( يعني إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم.

صفحة رقم 22
قال السدي : هو الإيمان , لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان.
وقال قتادة : هو القرآن , لأنه حياة القلوب وفيه النجاة والعصمة في الدارين.
وقال مجاهد : هو الحق وقال محمد بن إسحاق : هو الجهاد لأن الله أعزه به بعد الذل.
وقيل : هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ( قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله.
وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ومجاهد.
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذنه وقد دلت البراهين العقلية على هذا القول لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي وتلك الاعتقادات والدواعي لا بد أن تتقدمها الإرادة وتلك الإرادة لا بد لها من فاعل مختار وهو الله سبحانه وتعالى فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله تعالى ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ) عن أنس بن مالك قال : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلنا يا رسول الله قد أمنّ بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال : نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء ) أخرجه الترمذي وهذا الحديث من أحاديث الصفات , فيجب على المرء المسلم أن يمره على ما جاء مع الإعتقاد الحازم بتنزيه الله تعالى عن الجارحة والجسم.
وقيل في معنى الآية : إن الله عز وجل يحول بين المرء وقلبه حتى لا يدري ما يصنع ولا يعقل شيئاً.
وقيل : إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم : قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمناً والجبن جراءة.
وقوله تعالى : ( وأنه إليه تحشرون ( يعني في الآخرة فيجزي كل عامل بعمله فيثيب المحسن ويعاقب العاصي.
)
الأنفال : ( 25 ) واتقوا فتنة لا...
" واتقوا فتنة لا تصيبن

صفحة رقم 23
الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب " ( قوله سبحانه وتعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( لما أخبر الله عز وجل أنه يحول بين المرء وقلبه حذر من وقوع المرء في الفتن والمعنى واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح وأراد بالفتنة الابتلاء والاختبار وقيل : تقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم جميعاً الظالم وغير الظالم.
قال الحسن : نزلت هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير.
قال الزبير : لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها يعني ما كان منهم في يوم الجمل.
وقال السدي ومجاهد والضحاك وقتادة : هذا في قوم مخصوصين من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أصابتهم الفتنة يوم الجمل.
وقال ابن عباس : أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب فيصيب الظالم وغير الظالم روى البغوي بسنده عن عدي بن عدي الكندي قال حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة ) والذي ذكره ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا علمت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) أخرجه أبو داود عن جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ) أخرجه أبو داود.
وقال ابن زيد : أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضاً
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذبه ) فإن قلت ظاهر قوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( يشمل الظالم وغير الظالم كما تقدم تفسير فكيف يليق برحمة الله وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من يذنب.
قلت : إنه تعالى مالك الملك وخالق الخلق وهم عبيده وفي ملكه يتصرف فيهم كيف شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فيحسن ذلك منه على سبيل المالكية أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على أنواع المصلحة والله أعلم بمراده.
وقوله سبحانه وتعالى : ( واعلموا أن الله شديد العقاب ( فيه تحذير ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره الله منها.
)
الأنفال : ( 26 - 27 ) واذكروا إذ أنتم...
" واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " ( وقوله عز وجل : ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ( لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بطاعة الله وطاعة رسوله وحذرهم من الفتنة ذكرهم نعمته عليهم.
فقال تعالى : واذكروا يا معشر المؤمنين المهاجرين إذ أنتم قليل يعني في العدد مستضعفون في الأرض يعني في أرض مكة في ابتداء الإسلام ) تخافون أن يتخطفكم الناس ( يعني كفار مكة قال عكرمة كفار العرب وقال وهب ابن منبه يعني فارس والروم ) فآواكم ( يعني إلى المدينة ) وأيدكم بنصره ( يعني وقواكم بالأنصار.
وقال الكلبي : وقواكم يوم بدر بالملائكة ) ورزقكم من الطيبات ( يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم

صفحة رقم 24
) لعلكم تشكرون ( يعني تشكرون الله على نعمه عليكم قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ( قال الزهري والكلبي : نزلت هذه الآية في أبي لبابة هارون بن عبدالمنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعيد بن معاذ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبدالمنذر وكان مناصحاً لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم فبعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتاهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه يعني إنه الذبح فلا تفعلوا.
قال أبو لبابة : والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد.
وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ فلما بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خبره , قال : أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرَّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يحلني فجاء فحله بيده ثم قال أبو لبابة إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يجزيك الثلث أن تصدق به ) فنزل فيه ) يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول (.
وقال السدي : كانوا يسمعون السر من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنزلت هذه الآية وقال جابر بن عبد الله : إن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لي إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه إن أبا سفيان في مضوع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا قال فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل لا تخونوا الله والرسول ) وتخونوا أماناتكم ( ومعنى الآية لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم ) وأنتم تعلمون ( يعني أنها أمانة

صفحة رقم 25
وقيل : معناه وأنتم تعلمون أن ما فعلتم من الإشارة إلى الخلق خيانة وأصل الخيانة من الخون وهو النقص لأن من خان شيئاً فقد نقصه والخيانة ضد الأمانة , وقيل في معنى الآية : لا تخونوا الله والرسول فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم.
وقال ابن عباس : معناه لا تخونوا الله بترك فرائضه ولا تخونوا الرسول بترك سنته ولا تخونوا أماناتكم قال ابن عباس هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله تعالى والأعمال التي ائتمن عليها العباد وقال قتادة : اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ومنه الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن غريب.
)
الأنفال : ( 28 - 30 ) واعلموا أنما أموالكم...
" واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ( وقوله عز وجل ) واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة (.
قيل : هذا مما نزل في أبي لبابة وذلك لأن أمواله وأولاده كانت في بني قريظة فلذلك قال ما قال خوفاً عليهم.
وقيل : إنه عام في جميع الناس وذلك أنه لما كان الإقدام على الخيانة في الأمانة هو حب المال والولد نبَّه الله سبحانه وتعالى بقوله : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة على أنه يجب على العاقل أن يحذر من المضار المتولدة من حب المال والولد , لأن ذلك يشغل القلب ويصيره محجوباً عن خدمة المولى وهذا من أعظم الفتن وروى البغوي بسنده عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتى بصبي فقبله وقال أما إنهم مبخلة مجبنة وإنهم لمن ريحان الله ) أخرج الترمذي عن عمر بن عبد العزيز قال زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم قال : ( خرج ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله ) قال الترمذي : لا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعاً عن خولة.
قوله , لمن ريحان الله : أي لمن رزق الله والريحان في اللغة الرزق.
وقوله تعالى : ( وأن الله عنده أجر عظيم ( يعني لمن أدى الأمانة ولم يخن وفيه تنبيه على أن سعادة الآخرة وهو ثواب الله أفضل من سعادة الدنيا وهو المال والولد.
وقوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله ( يعني بطاعته وترك معاصيه ) يجعل لكم فرقاناً ( يعني يجعل لكم نوراً وتوفيقاً في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل والفرقان أصله الفرق بين الشيئين لكنه أبلغ من أصله لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل والحجة والشبهة.
قال مجاهد : يجعل لكم مخرجاً في الدنيا والآخرة , وقال مقاتل : مخرجاً في الدين من الشبهات وقال عكرمة : نجاة أي يفرق بينكم وبين ما تخافون وقال محمد بن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفئ باطل من خالفكم وقيل يفرق بينكم وبين الكفار بأن يظهر دينكم ويعليه ويبطل الكفر ويوهنه ) ويكفر عنكم سيئاتكم ( يعني ويمح عنكم ما سلف من ذنوبكم ) ويغفر لكم ( يعني ويستر عليكم بأن لا يفضحكم في الدنيا ولا في الآخرة ) والله ذو الفضل العظيم ( لأنه هو الذي يفعل ذلك بكم فله الفضل العظيم وعلى غيركم من خلقه ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به قيل إنه يتفضل على الطائعين بقبول الطاعات ويتفضل على العاصين بغفران السيئات وقيل : معناه أن بيده الفضل العظيم فلا يطلب من عند غيره.
قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ( لما ذكر الله المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى : واذكروا

صفحة رقم 26
إذ أنتم قليل ذكر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) نعمه عليه فيما جرى عليه بمكة من قومه لأن هذه السورة مدنية وهذه الواقعة كانت بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة والمعنى واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير قالوا جميعاً إن قريشاً فرقوا لما أسلمت الأنصارأن يتفاقم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويظهر فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة ليتشاورا في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان رؤوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف , فاعترضهم إبليس في صورة شيخ , فلما رأوه قالوا له : من أنت ؟ قال : أنا شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً.
فقالوا : ادخل.
فدخل , فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت مقيداً وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون منها طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء فصرخ عدو الله إبليس وهو الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم لئن حبستموه ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك أن يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم فقالوا صدق الشيخ النجدي.
فقام هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي , فقال : أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه.
فقال إبليس اللعين : ما هذا لكم برأي تعتمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاقة لسانه وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه والله لئن فعلتم ذلك يذهب ويستميل قلوب قوم آخرين ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم فقالوا : صدق الشيخ النجدي.
فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً ثم نعطي كل فتى سيفاً صارماً ثم يضربوه جميعاً ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها وأنهم إذا أرادوا ذلك.
قالوا : العقل فتؤدي قريش ديته فقال إبليس اللعين : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً.
والقول ما قال لا أرى غيره فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجتمعون عليه فأتى جبريل عليه السلام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأذن الله عز وجل له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ( فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علي بن أبي طالب أن يبيت في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليكم منهم أمر تكرهه ) ثم خرج رسول الله صلى الله

صفحة رقم 27
عليه وسلم , فأخذ قبضه من تراب وأخذ الله عز وجل أبصارهم عنه فخرج وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( " إلى قوله , فهم لا يبصرون.
ومضى إلى الغار من ثور وهو أبو بكر وخلف علياً بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته.
قالوا : وبات المشركون يحرسون علياً وهو على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحسبون أنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أصبحوا , ساروا إليه ليقتلوه فرأوه علياً فقالوا له : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري.
فاقتفوا أثره وأرسلوا في طلبه , فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخله لم يكن لنسج العنكبوت على بابه أثر فمكث في الغار ثلاثاً ثم خرج إلى المدينة فذلك قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ( وأصل المكر احتيال في خفية ) ليثبتوك ( أي ليحبسوك ويوثقوك لأن كل من شد شيئاً وأوثقه فقد أثبته لأنه لا يقدر على الحركة ) أو يقتلوك ( يعني كما أشار عليهم أبو جهل ) أو يخرجوك ( يعني من مكة ) ويمكرون ( يعني ويحتالون ويدبرون في أمرك ) ويمكر الله ( يعني ويجازيهم الله جزاء مكرهم فسمى الجزاء مكر , لأنه في مقابلته.
وقيل : معناه ويعاملهم الله معاملة مكرهم.
والمكر : هو التدبير وهو من الله تعالى التدبير بالحق.
والمعنى : أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد صلى الله عيه وسلم والله سبحانه وتعالى أظهره وقواه ونصره فضاع فعلهم وتدبيرهم وظهر فعل الله وتدبيره ) والله خير الماكرين ( فإن قلت كيف قال الله سبحانه وتعالى والله خير الماكرين ولا خير في مكرهم.
قلت : يحتمل أن يكون المراد والله أقوى الماكرين فوضع خبر موضع أقوى وفيه تنبيه على أن كل مكر يبطل بفعل الله.
وقيل : يحتمل أن يكون المراد أن مكرهم فيه خير بزعمهم فقال سبحانه وتعالى في مقابلته : والله خير الماكرين.
وقيل : ليس المراد التفضيل بل إن فعل الله خير مطلقاً.
)
الأنفال : ( 31 - 33 ) وإذا تتلى عليهم...
" وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ( قوله عز وجل : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ( نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار وذلك أنه كان يختلف إلى أرض فارس والحيرة ويسمع أخبارهم عن رستم واسفنديار وأحاديث العجم وكان يمر بالعباد من اليهود والنصارى فيراهم يقرؤون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون ويبكون فلما جاء مكة وجد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد أوحي إليه وهو يقرأ ويصلي.
فقال النضر بن الحارث : قد سمعنا يعني مثل هذا الذي جاء به محمد لو نشاء لقلنا مثل هذا فذمهم الله بدفعهم الحق الذي لا شبهة فيه بادعائهم الباطل بقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا بعد التحدي وأبان عجزهم عن ذلك ولو قدروا ما تخلفوا عنه وهم أهل الفصاحة وفرسان البلاغة

صفحة رقم 28
فبان بذلك كذبهم في قولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا ) إن هذا إلا أساطير الأولين ( يعني أخبار الماضين.
قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( نزلت في النضر بن الحرث أيضاً.
قال ابن عباس : لما قص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شأن القرون الماضية , قال النضر بن الحرث : لو شئت لقلت مثل هذا فقال له عثمان بن مظعون : اتق الله فإن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الحق قال وأنا أقول الحق.
قال : فإن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لا إله إلا الله.
قال : وأنا أقول لا إله إلا الله.
ولكن هذه بنات الله , يعني الأصنام , ثم قال : اللهم إن كان هذا هو الحق يعني القرآن الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : يعني إن كان الذي يقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أمر التوحيد وادعاء النبوة وغير ذلك هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء يعني كما أمطرتها على قوم لوط أو ائتنا بعذاب أليم : يعني مثل ما عذبت به الأمم الماضية , في النضر بن الحرث نزل سأل سائل بعذاب واقع.
قال عطاء : لقد نزل في النضر بن الحرث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قال سعيد بن جبير : قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر ثلاثة من قريش صبرا طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحرث وروى أنس بن مالك أن الذي قال ذلك أبو جهل
( ق ) .
عن أنس قال : قال أبو جهل اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية فنزلت وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية فلما أخرجوه نزلت وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدونهم عن المسجد الحرام.
قوله عز وجل : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ( اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق : هذه الآية متصلة بما قبلها وهي حكاية عن المشركين وذلك أنهم قالوا إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيها معها فقال الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) يذكره جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( ثم قال تعالى رداً عليهم : وما لهم ألا يعذبهم الله وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وهم يصدون عن المسجد الحرام.
وقال آخرون :

صفحة رقم 29
هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخباراً عن نفسه تعالى وتقدس وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , واختلفوا في معناه فقال الضحاك وجماعة : تأويلها : وما كان الله ليعذبهم وأنت يا محمد مقيم فيهم بين أظهرهم.
قالوا : نزلت هذه الآية على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مقيم بمكة ثم لما خرج منها بقي بقية من المسلمين يستغفرون , فأنزل الله عز وجل وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ثم لما خرج أولئك المسلمون من بين أظهر الكافرين أذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم.
وقال ابن عباس : لم يعذب الله قرية حتى يخرج نبيها منها والذين آمنوا معه ويلحق بحيث أمر فقال الله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله لهم ومالهم ألا يعذبهم الله , وقال بعضهم : هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد فراغهم من الطواف غفرانك غفرانك.
وقال زيد بن رومان : قالت قريش اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال الله تعالى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
وقال قتادة والسدي : معناه وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون أي لو استغفروا ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقروا بالذنب واستغفروا الله لكانوا مؤمنين.
وقيل : هذا دعاء لهم إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة , كالرجل يقول لعبده لا أعاقبك.
وأنت تطيعني أي أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد وعكرمة : وهم يستغفرون أي يسلمون.
يعني : لو أسلموا لما عذبوا.
وقال ابن عباس : وفيهم من سبق له من الله العناية أنه يؤمن ويستغفر مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم.
وقال مجاهد : وهم يستغفرون , أي وفي أصلابهم من يستغفر وقيل في معنى الآية : إن الكفار لما بالغوا وقالوا إن كان محمد محقاً في قوله فأمطر علينا حجارة من السماء أخبر الله سبحانه وتعالى أن محمداً محق في قوله وأنه مع ذلك لا يمطر على أعدائه ومنكري نبوته حجارة من السماء ما دام بين أظهرهم وذلك تعظيماً له ( صلى الله عليه وسلم ) وأورد على هذا أنه إذا كانت إقامته مانعة من نزول العذاب بهم فكيف قال في غير هذه الآية قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فالجواب أن المراد من العذاب الأول هو عذاب الاستئصال والمراد من العذاب الثاني وهو قوله سبحانه وتعالى يعذبهم الله بأيديكم هو عذاب القتل والسبي والأسر وذلك دون عذاب الاستئصال.
قال أهل المعاني : دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان سلامة من العذاب عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله أنزل عليّ أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم

صفحة رقم 30
القيامة ) أخرجه الترمذي.
)
الأنفال : ( 34 ) وما لهم ألا...
" وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( وما لهم ألا يعذبهم الله ( يعني أي شيء يمنعهم من أن يعذبهم يعني بعد خروجك من بين أظهرهم , لأنه سبحانه وتعالى بيَّن في الآية الأولى أنه لا يعذبهم وهو مقيم فيهم بين أظهرهم وبيَّن في هذه الآية أنه معذبهم.
ثم اختلفوا في هذا العذاب فقيل : هو القتل والأسر يوم بدر.
وقيل : أراد به عذاب الآخرة.
وقيل : أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال وأراد بالعذاب الثاني : العذاب بالسيف.
وقيل : أراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وبهذا العذاب عذاب الآخرة.
وقال الحسن : الآية الأولى وهو قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم منسوخة بقوله وما لهم ألا يعذبهم الله وفيه بعد لأن الاخبار لا يدخلها النسخ ثم بين ما لأجله يعذبهم فقال تعالى : ( وهم يصدون عن المسجد الحرام ( يعني وهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالبيت وذلك حين صدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية ) وما كانوا أولياءه ( قال الحسن : كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله عليهم بقوله وما كانوا أولياءه يعني ليسوا أولياء المسجد الحرام ) إن أولياؤه إلا المتقون ( يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك ) ولكن أكثرهم ( يعني المشركين ) لا يعلمون (.
)
الأنفال : ( 35 - 36 ) وما كان صلاتهم...
" وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " ( قوله عز وجل : ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ( لما ذكر الله عز وجل أن الكفار ليسوا بأولياء البيت الحرام ذكر عقبة السبب في ذلك وهو أن صلاتهم عنده كانت مكاء وتصدية.
والمكاء في اللغة : الصفير.
يقال : مكا الطير يمكو إذا صفر والمكاء : اسم طير أبيض يكون بالحجاز له صفير.
وقيل : هو طائر يألف الريف سمي بذلك لكثرة مكائه يعني صفيره.
والتصدية : التصفيق وفي أصله واشتقاقه قولان أحدهما : أنه من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل كالمجيب للمتكلم ولا يرجع إلى شيء.
الثاني : قال أبو عبيدة أصله تصددة فأبدلت الياء من الدال.
قال الأزهري : والمكاء والتصدية , ليسا بصلاة , ولكن الله سبحانه وتعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية قال حسان بن ثابت :
صلاتهم التصدي والمكاء.
قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون.
وقال مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عيله وسلم في الطواف ويستهزؤون به ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون.
فالمكاء : جعل الأصابع في الشدق , والتصدية : الصفير.
وقال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله : إلا مكاء وتصدية , فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيراً.
وقال مقاتل : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل المسجد قام رجلان عن يمينه يصفران ورجلان عن يساره يصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه

صفحة رقم 31
وسلم صلاته وهم من بني عبد الدار.
فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم , وعلى قول غيره كان نوع أذى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) , وقول ابن عباس أصح , لأن الله سبحانه وتعالى سمى ذلك صلاة.
فإن قلت كيف سماها صلاة وليس ذلك من جنس الصلاة ؟
قلت : إنهم كانوا يعتقدون ذلك المكاء والتصدية صلاة فخرج ذلك على حسب معتقدهم وفيه وجه آخر وهو أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له فهو كقول العرب من كان السخاء عيبة فلا عيب له وقال سعيد بن جبير : التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وعن الدين والصلاة فعلى هذا التصدية من الصد وهو المنع وقوله سبحانه وتعالى : ( فذوقوا العذاب ( يعني عذاب القتل والأسر في الدنيا.
وقيل : يقال لهم في الآخرة فذوقوا العذاب ) بما كنتم تكفرون ( يعني بسبب كفرهم في الدنيا.
قوله سبحانه وتعالى : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ( لما ذكر الله سبحانه وتعالى عبادة الكفار البدنية وهي المكاء والتصدية , ذكر عقبها عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة.
وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلق وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب , وكلهم من قريش , فكان يطعم كل واحد منهم الجيش في كل يوم عشر جزر وأسلم من هؤلاء : العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحكيم بن حزام.
وقال الحكم بن عتبة : نزلت في أبي سفيان بن حرب حين أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية كل أوقية اثنان وأربعون مثقالاً.
وقال ابن أبزي : استأجر أبو سفيان يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سوى من استجاش من العرب.
وقيل : استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من كنانة فقاتل بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : لما أصيب من أصيب من قريش يوم بدر ورجع أبو سفيان بعيره إلى مكة مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش قد أصيب أباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة.
فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً.
بمن أصيب منافقيهم نزلت إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله أي ليصرفوا الناس عن الإيمان بالله ورسوله وقيل ينفقون أموالهم على أمثالهم من المشركين ليتقووا بهم على قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ) فسينفقونها ( يعني أموالهم في ذلك الوجه ) ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ( يعني ما أنفقوا من أموالهم يكون عليهم حسرة وندمة يوم القيامة لأن أموالهم تذهب ويغلبون ولا يظفرون بما يؤملون ) والذين كفروا ( يعني منهم لأن فيه من أسلم ولهذا قال والذين كفروا يعني من المنفقين أموالهم ) إلى جهنم يحشرون ( يعني يساقون إلى النار.
)
الأنفال : ( 37 - 40 ) ليميز الله الخبيث...
" ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير " ( ) ليميز الله الخبيث من الطيب ( يعني ليفرق الله بين فريق

صفحة رقم 32
الكفار وهم الفريق الخبيث وبين فريق المؤمنين وهم الفريق الطيب وهذا معنى قول ابن عباس فإنه قال : يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة وقال : ليميز العمل الخبيث من العمل الطيب فيجازي على العمل الخبيث النار وعلى العمل الطيب الجنة وقيل : المراد به إنفاق الكفار في سبيل الشيطان وإنفاق المؤمنين في سبيل الله ) ويجعل الخبيث بعضه على بعض ( يعني بعضه فوق بعض ) فيركمه جميعاً ( يعني فيجمعه جميعاً ويضم بعضه إلى بعض حتى يتراكم ) فيجعله في جهنم ( يعني الخبيث ) أولئك ( إشارة إلى المنفقين في سبيل الشيطان أو إلى الخبيث ) هم الخاسرون ( يعني أنهم خسروا الدنيا والآخرة لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة.
قوله سبحانه وتعالى : ( قل ( يعني قل يا محمد ) للذين كفروا إن ينتهوا ( يعني عن الشرك ) يغفر لهم ما قد سلف ( يعني ما قد مضى من كفرهم وذنوبهم قبل الإسلام ) وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ( يعني في إهلاك أعدائه ونصر أوليائه.
ومعنى الآية : إن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن الكفر ودخلوا في دين الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وشركهم وإن عادوا إلى الكفر وأصروا عليه فقد مضت سنة الأولين بإهلاك أعدائه ونصر أنبيائه وأوليائه وأجمع العلماء على أن الإسلام يجب ما قبله وإذا أسلم الكافر لم يلزمه شيء من قضاء العبادات البدنية والمالية.
وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه يعني بذلك أنه ليس عليه ذنب.
قال يحيى بن معاذ الرازي : التوحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر فأرجوا الله أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( قال ابن عباس : حتى لا يكون بلاء ) ويكون الدين كله لله ( يعني تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره , وقال قتادة : حتى يقال لا إله إلا الله عليها قاتل نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإليها عاد وقال محمد بن إسحاق في قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله يعني لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون التوحيد لله خالصاً ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد والشركاء ) فإن انتهوا ( يعني عن الشرك وإفتان المؤمنين وإيذائهم ) فإن الله بما يعملون بصير ( يعني فإن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ونياتهم حتى يوصل إليهم ثوابهم ) وإن تولوا ( يعني وإن أعرضوا عن الإيمان وأصروا على الكفر وعادوا إلى قتال المؤمنين وإيذائهم ) فاعلموا ( يعني أيها المؤمنون ) أن الله مولاكم ( يعني أن الله وليكم وناصركم عليها وحافظكم ) نعم المولى ونعم النصير ( يعني أن الله سبحانه وتعالى هو نعم المولى فمن كان في حفظه ونصره وكفايته وكلاءته فهو له نعم المولى ونعم النصير.
)
الأنفال : ( 41 ) واعلموا أنما غنمتم...
" واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير " ( قوله عز وجل : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ( الغنم الفوز بالشيء يقال يغنم غنماً فهو غانم واختلف العلماء هل الغنيمة والفيء اسمان لمسمى واحد أم يختلفان في التسمية فقال

صفحة رقم 33
عطاء بن السائب : الغنيمة ما ظهر المسلمون عليه من أموال المشركين فأخذوه عنوة وأما الأرض فهي فيء.
وقال سفيان الثوري : الغنيمة ما أصاب المسلمون من مال الكفار عنوة بقتال وفيه الخمس وأربعة أخماسه لمن شهد الوقعة.
والفيء : ما صولحوا عليه بغير قتال وليس فيه خمس فهو لمن سمى الله.
وقيل : الغنيمة ما أخذ من أموال الكفار عنوة عن قهر وغلبة , والفيء : ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب كالعشور والجزية وأموال الصلح والمهادنة.
وقيل : إن الفيء والغنيمة معناهما واحد وهما اسمان لشيء واحد , والصحيح أنهما يختلفان فالفيء ما أخذ من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب والغنيمة ما أخذ من أموالهم على سبيل القهر والغلبة بإيجاف خيل عليه وركاب فذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الغنيمة فقال تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء ( يعني من أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فإن لله خمسه وللرسول.
وقد ذكر أكثر المفسرين والفقهاء أن قوله لله افتتاح كلام على سبيل التبرك وإنما أضافه لنفسه تعالى لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء وليس المراد منه أن سهماً منه لله منفرداً لأن الدنيا والآخرة كلها لله وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي قالوا : سهم الله وسهم رسوله واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها وأحرزها والخمس الباقي لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقال أبو العالية : يقسم خمس الخمس على ستة أسهم سهم لله عز وجل فيصرف إلى الكعبة القول الأول أصح أي إن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان له في حياته واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام وهذا قول الشافعي وأحمد.
وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يجعلان سهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الكراع والسلاح.
وقال قتادة : هو للخليفة.
وقال أبو حنيفة : سهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد موته مردود في الخمس فيقسم الخمس على الأربعة الأصناف المذكورين في الآية وهم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ولذي القربى ( يعني أن سهماً من خمس الخمس لذوي القربى وهم أقارب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واختلفوا فيهم فقال قوم هم جميع قريش وقال قوم هم الذين لا تحل لهم الصدقة وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء وإن كانوا إخوة ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم ( قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ( وفي رواية : ( أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا ( وفي رواية قال جبير : ولم يقسم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئاً أخرجه البخاري وفي رواية أبي داود ) أن جبير بن مطعم جاء هو وعثمان بن عفان يكلمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يقسم من الخمس في بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً وقرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ( وفي رواية النسائي قاللما كان يوم خيبر رفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل

صفحة رقم 34
وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلنا : يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعهواختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم أم لا فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت فيعطي فقراؤهم وأغنياؤهم من خمس الخمس للذكر مثل حظ الأنثيين وهو قول مالك والشافعي وهذب أبو حنيفة وأصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت قالوا سهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسهم ذوي القربى مردود في الخمس فيقسم خمس الغنيمة على ثلاث أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل فيصرف إلى فقراء ذوي القربى مع هذه الأصناف دون أغنيائهم وحجة الجمهور أن الكتاب والسنة يدلان على ثبوت سهم ذوي القربى وكذا الخلفاء بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعطون ذوي القربى ولا يفضلون فقيراً على غني , لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله وكذا الخلفاء بعده كانوا يعطونه وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنهم يعطون القريب والبعيد قال ويفضل الذكر على الأنثى فيعطى الذكر سهمين والأنثى سهماً.
وقوله سبحانه وتعالى : ( واليتامى ( جمع يتيم يعني ويعطى من خمس الخمس لليتامى , واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم الذي لا أب له فيعطى مع الحاجة إليه ) والمساكين ( وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ) وابن السبيل ( وهو المسافر البعيد عن ماله فيعطى من خمس الخمس مع الحاجة فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماسها الباقية بين الغانمين الذين شهدوا الواقعة وحازوا الغنيمة فيعطى للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه , ويعطى الراجل سهماً واحداً لما روي عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهماً.
وفي رواية نحوه بإسقاط لفظ النفل أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية أبي داود , أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهماً له وسهمين لفرسه وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان وللراجل سهم ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ويقسم العقار الذي استولى عليه السملمون كالمنقول وعند أبي حنيفة يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقفاً على المصالح وظاهر الآية يدل على أنه لا فرق بين العقار والمنقول ومن قتل من المسلمين مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه ) أخرجه الترمذي وأخرجه البخاري ومسلم في حديث طويل والسلب كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح والفرس الذي كان راكبه ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب يخصهم به من بين سائر الجيش ثم يجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة
( ق ) عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش
عن حبيب بن سلمة الفهري , قال : شهدت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نفل الرابع في البدأة والثلث في الرجعة أخرجه أبو داود واختلف العلماء في أن

صفحة رقم 35
النفل من أين يعطى فقال قوم من خمس الخمس من سهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي.
وهذا معنى قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه عبادة بن الصامت قال : أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم خيبر وبرة من جنب بعير فقال : يا أيها الذين أنه لا يحلى لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم أخرجه النسائي.
وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إقرار الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق.
وذهب قوم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل التخميس كالسلب للقاتل وأما الفيء , وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب بأن صالحهم على ما يؤدونه , وكذلك الجزية وما أخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له فهذا كله فيء ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مدة حياته.
وقال عمر : إن الله سبحانه وتعالى خص نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الفيء بشيء لم يخص به أحداً غيره ثم قرأ عمر : وما أفاء الله على رسوله منهم الآية فكانت

صفحة رقم 36
هذه لرسول الله خالصة وكان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله في الكراع والسلاح واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قوم هو للأئمة بعده وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة الذين أثبتت أسماؤهم في ديوان الجهاد لأنهم هم القائمون مقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في إرهاب العدو.
والقول الثاني : إنه لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم فالأهم من المصالح واختلف أهل العلم في تخميس الفيء فذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى أنه يخمس وخمسه لأهل الخمس من الغنيمة على خمسة أسهم وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل يصرفه جميعه مصرفاً واحداً ولجميع المسلمين فيه حق.
عن مالك بن أنس قال : ذكر عمر يوماً الفيء منكم ما أنا أحق بهذا الفيء منكم وما أحد منا أحق به الآخر إلا أنا على منازلنا من كتاب الله وقسمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقدمه والرجل وعياله والرجل وحاجته أخرجه أبو داود وأخرج البغوي بسنده عنه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم وقوله سبحانه وتعالى : ( إن كنتم آمنتم بالله ( يعني واعملوا أيها المؤمنون أن خمس الغنيمة مصروف إلى ما ذكر في هذه الآية من الأصناف فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بأربعة أخماس الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله وصدقتم بوحدانيته ) وما أنزلنا على عبدنا ( يعني وآمنتم بالمنزل على عبدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا إضافة تشريف وتعظيم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والذي أنزله على عبده محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يسألونك عن الأنفال ) يوم الفرقان ( يعني يوم بدر.
قال ابن عباس : يوم الفرقان يوم بدر فرق الله عز وجل

صفحة رقم 37
بين الحق والباطل ) يوم التقى الجمعان ( يعني جميع المؤمنين وجميع الكافرين وهو يوم بدر وهو أول مشهد شهده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو لسبع عشرة من رمضان وأصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤمئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً والمشركون ما بين الألف والتسعمائة فهزم الله المشركين وقتل منهم زيادة على سبعين وأسر منهم مثل ذلك ) والله على كل شيء قدير ( يعني على نصركم أيها المؤمنون مع قلتكم وكثرة أعدائكم.
)
الأنفال : ( 42 - 44 ) إذ أنتم بالعدوة...
" إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور " ( قوله سبحانه وتعالى : ( إذ أنتم ( أي اذكروا نعمة الله عليكم يا معشر المسلمين إذ أنتم ) بالعدوة الدنيا ( يعني بشفيرالوادي الأدنى من المدينة والدنيا هنا تأنيث الأدنى ) وهم ( يعني المشركين ) بالعدوة القصوى ( يعني بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة والقصوى تأنيث الأقصى ) والركب أسفل منكم ( يعني أبا سفيان وأصحابه وهم غير قريش التي خرجوا لأجلها وكانوا في موضع أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر ) ولو تواعدتم ( يعني أنتم والمشركون ) لاختلفتم في الميعاد ( وذلك لأن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها من المسلمين فالتقوا على غير ميعاد والمعنى ولو تواعدتم أنتم والكفار على القتال لاختلفتم أنتم وهم لقلتكم وكثرة عدوكم ) ولكن ( يعني ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ) ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ( يعني من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وأعداء دينه ) ليهلك من هلك عن بينة ( يعني ليموت من مات عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليها ) ويحيى من حي عن بينة ( يعني ويعيش من عاش عن بينة رآها وعبرة شاهدها وحجة قامت عليه وقال محمد بن إسحاق : معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك لأن الهلاك هو الكفر الحياة هي الإيمان ونحوه قال قتادة ليضل من ضل على بينه ويهتدي من اهتدى على بينة ) وإن الله لسميع عليم ( يعني يسمع دعاءكم ويعلم نياتكم ولا تخفى عليه خافية.
قوله عز وجل : ( إذ يريكهم الله ( يعني : واذكر يا محمد نعمة الله عليك إذ يريك المشركين ) في منامك ( يعني في نومك ) قليلاً ( قال مجاهد : أراهم الله في منامه قليلاً فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه بذلك وكان ذلك تثبيتاً.
وقال محمد بن إسحاق : فكان ما أراه الله من ذلك نعمة من نعمه عليهم يشجعهم بها على عدوهم , فكف عنهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم.
وقيل : لما أرى الله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه قالوا : رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق فصار ذلك سبباً لجراءتهم على عدوهم وقوة لقلوبهم.
وقال الحسن : إن هذه الإراءة كانت في اليقظة.
والمراد من المنام , العين , لأنها موضع النوم ) ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ( يعني لجبنتم والفشل ضعف مع جبن والمعنى ولو أراكهم كثيراً فذكرت ذلك لأصحابك لفشلوا وجبنوا عنهم ) ولتنازعتم في الأمر ( يعني اختلفتم

صفحة رقم 38
في أمر الإقدام عليهم أو الإحجام عنهم وقيل معنى التنازع في الأمر الاختلاف الذي تكون معه مخاصمة ومجادلة ومجادلة كل واحد إلى واحد إلى ناحية والمعنى : لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم ) ولكن الله سلم ( يعني : ولكن الله سلمكم من التنازع والمخالفة فيما بينكم.
وقيل : معناه ولكن الله سلمكم من الهزيمة والفشل ) إنه عليم بذات الصدور ( يعني أنه تعالى يعلم ما يحصل في الصدور من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
وقال ابن عباس : أنه عليم بما في صدوركم من الحب لله عز وجل : ( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ( يعني أن الله سحبانه وتعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم بدر لما التقوا في القتال ليتأكد في اليفظة ما رآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في منامه وأخبر به أصحابه قال ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال : أراهم مائة فأسرنا رجلاً منهم فقلنا كم كنتم قال : كنا ألفاً.
ويقللكم في أعينهم يعني ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعين المشركين.
قال السدي : قال ناس من المشركين إن العير قد انصرف فارجعوا فقال أبو جهل الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتى نستأصلهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني لقلتهم في عينيه ثم قال : فلا تقتلوهم واربطوهم في الحبال يقوله من القدرة التي في نفسه والحكمة في تقليل المشركين في أعين المؤمنين تصديق رؤيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم عليهم ولا يجبنوا عند قتالهم والحكمة في تقليل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم فيكون ذلك سبباً لظهور المؤمنين عليهم.
فإن قلت : كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل ؟
قلت : ذلك ممكن في القدرة الإلهية فإن الله سبحانه وتعالى على ما يشاء قدير ويكون ذلك معجزة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمعجزة من خوارق العادات فلا ينكر ذلك ) ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ( يعني أمراً كان كائناً من إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله وإذلال كلمة الشرك وخذلان أهله فإن قلت : قد قال في الآية المتقدمة ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وقال في هذه الآية ليقضي الله أمراً كان مفعولاً فما معنى هذا التكرار ؟
قلت : المقصود من ذكره في الآية المتقدمة ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه القهر والغلبة ليكون ذلك معجزة دالة على صدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمقصود من ذكره في هذه الآية لأنه تعالى قلل عدد الفريقين في أعين بعضهم بعضاً للحكمة التي قضاها فلذلك قال ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ) وإلى الله ترجع الأمور ( يعني في الآخرة فيجازى كل عامل على قدر عمله فالمحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يغفر.
)
الأنفال : ( 45 - 46 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " ( قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة ( يعني جماعة كافرة ) فاثبتوا ( يعني لقتالهم وهو أن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله ولا يحدثوها بالتوالي ) واذكروا الله كثيراً ( يعني كونوا ذاكرين الله عند لقاء عدوكم ذكراً كثيراً بقلوبكم وألسنتكم أمر الله عباده المؤمنين وأولياءه الصالحين بأن يذكروه في أشد الأحوال وذلك عند لقاء العدو وقتاله , وفيه تنبيه على أن الإنسان لا يجوز أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله.
وقيل : المراد من هذا الذكر هو الدعاء بالنصر على العدو وذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يسألوه النصر على العدو عند اللقاء ثم قال

صفحة رقم 39
تعالى : ( لعلكم تفلحون ( يعني : وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفرة.
فإن قلت : ظاهر الآية يوجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز.
قلت المراد من الثبات هو الثبات عند المحاربة والمقاتلة في الجملة وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز ثم قال تعالى مؤكداً لذلك ) وأطيعوا الله ورسوله ( يعني في أمر الجهاد والثبات عند لقاء العدو ) ولا تنازعوا فتفشلوا ( يعني : ولا تختلفوا فإن التنازع والأختلاف يوجب الفشل والضعف والجبن.
وقوله تعالى : ( وتذهب ريحكم ( يعني قوتكم.
وقال مجاهد : نصرتكم.
قال : وذهبت ريح أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين نازعوه يوم أحد.
وقال السدي : جراءتكم وجدكم وقال مقاتل : حدتكم وقال الأخفش وأبو عبيدة : دولتكم.
والريح هنا كناية في نفاذ الأمر وجريانه على المراد.
تقول العرب : هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد وقال قتادة وابن زيد : هي ريح النصر ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو , ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
وعن النعمان بن مقرن قال : شهدت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان إذا لم يقاتل من أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر أخرجه أبو داود.
وقوله سبحانه وتعالى : ( واصبروا ( يعني عند لقاء عدوكم ولا تنهزموا عنهم ) إن الله مع الصابرين ( يعني بالنصر والمعونة
( ق ) .
عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وأسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف , ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم )
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا ).
)
الأنفال : ( 47 - 48 ) ولا تكونوا كالذين...
" ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب " ( قوله عز وجل : ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ( يعني فخراً وأشراً.
وقيل : البطر : الطغيان في النعمة وذلك أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن فذلك هو البطر في النعم وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها , وهذا معنى قول الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها ) ورئاء الناس ( الرياء إظهار الجميل ليراه الناس مع إبطال القبيح والفرق بين الرياء والنفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والرياء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية ) ويصدون عن سبيل الله ( يعني ويمنعون الناس عن الدخول في دين الله نزلت هذه الآية في كفار قريش حين خرجوا إلى بدر ولهم فخر وبغي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني به ).
قال ابن عباس : إن أبا سفيان لما رأى أنه قد أحرز عيرة أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم

صفحة رقم 40
فقد نجاها الله فارجعوا , فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدراً وكان في بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق في كل عام قال فنقيم عليها ثلاثاً وننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً فأمضوا.
زاد غيره قال : فلما وافوا بدراً سقوا كؤوس الحمام عوضاً عن الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم والمعنى لا يكونن أمركم أيها المؤمنون رياء وسمعة ولا لالتماس ما عند الله ولكن أخلصوا لله عز وجل النية وقاتلوا حسبة في نصر دينكم ومؤازرة نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تعملوا إلا لذلك ولا تطلبوا غيره.
وقوله تعالى : ( والله بما يعلمون محيط ( فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى عالم بجميع الأشياء لا يخفى عن علمه شيء لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين قوله سبحانه تعالى : ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ( يعني اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم إذا زين الشيطان يريد إبليس للمشركين أعمالهم الخبيثة ) وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ( قال بعضهم : كان تزيينه وسوسة ألقاها في قلوبهم من غير أن يتحول في صورة غير صورته.
وقال جمهور المفسرين : تصور إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان تزيينه أن قريشاً لما أجمعت على المسير إلى بدر ذكرت الذي بينها وبين بكر بن الحرث من الحروب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي , وكان من أشرف بين كنانة , فقال : أنا جار لكم من أن يأتيكم من كنانة شيء تكرهونه فخرجوا سراحاً.
وقال ابن عباس : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك بن جعشم فقال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس , لعنه الله فلما رآه وكانت يده في دي رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته , فقال الرجال يا سراقة أتزعم أنك جار لنا ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة.
وقوله : إني جار لكم , يعني مجير لكم من كنانة ) فلما تراءت الفئتان ( أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة قد نزلوا من السماء فعلم عدو الله إبليس أنه لا طاقة له بهم ) نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم ( يعني رجع القهقرى وولى مدبراً هارباً على قفاه , وقال الكلبي : لما التقى الجمعان كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو آخذ بيد الحرث بن هشام فنكص عدو الله إبليس على عقبيه فقال له الحرث :

صفحة رقم 41
أفراراً من غير قتال ؟ وجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق فانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة.
فبلغ ذلك سراقة فقال : بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم.
فقالوا : أما أتيتنا في يوم كذا وكذا فحلف لهم , فلما أسلموا علموا أن ذلك كان شيطاناً قال الحسن في قوله : ( إني أرى ما لا ترون ( قال : رأى إبليس جبريل عليه السلام معتجراً ببرد يمشي بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب.
وقال قتادة : قال إبليس إني أرى ما لا ترون وصدق وقال : إني أخاف الله وكذب ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منفعة فأوردهم وأسلمهم وتلك عادة عدو الله إبليس لمن أطاعه إذ التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقيل إنه خاف أن يهلك فيمن هلك وقيل خاف أن يأخذه جبريل فيعرف حاله فلا يطيعوه وقيل معناه ) إني أخاف الله ( أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمر ربه وقيل لما رأى الملائكة قد نزلت من السماء خاف أن تكون القيامة ) والله شديد العقاب ( قيل معناه إني أخاف الله لأنه شديد العقاب فعلى هذا يكون من تمام قول إبليس.
وقيل : تم كلامه عند قوله : إني أخاف الله.
وقوله تعالى : والله شديد العقاب ابتداء كلام.
يقول الله سبحانه وتعالى : والله شديد العقاب لمن خالف الله وكفر به.
عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة ) أخرجه مالك في الموطأ.
قوله : ولا أدحر هو بالدال والحاء المهملتين من الدحور , وهو الإبعاد والطرد مع الإهانة.
وقوله : يزع الملائكة , أي يكفهم ويحبسهم لئلا يتقدم بعضهم على بعض.
والوازع : هو الذي يتقدم ويتأخر في الصف ليصلحه.
فإن قلت : كيف يقدر إبليس على أن يتصور بصورة البشر وإذا تشكل بصورة البشر فكيف يسمى شيطاناً ؟
قلت : إن الله عز وجل أعطاه قوة وأقدره على ذلك كما أعطى الملائكة قوة أقدرهم على أن يتشكلوا بصورة البشر لكن النفس الباطنة لم تتغير فلم يلزم من تغير الصورة تغير الحقيقة.
)
الأنفال : ( 49 - 50 ) إذ يقول المنافقون...
" إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق " ( قوله عز وجل : ( إذ يقول المنافقون ( يعني من أهل المدينة ) والذين في قلوبهم مرض ( أي شك وارتياب وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقو الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن فلما خرج كفار قريش إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرجوا معهم إلى بدر فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا ) غر هؤلاء دينهم ( يعني أن هؤلاء نفر قليلون يقاتلون أضعافهم فقد غرهم دينهم الإسلام على ذلك وحملهم على قتل أنفسهم رجاء الثواب في الآخرة فقتلوا جميعاً يوم بدر.
وقال مجاهد : إن فئة من قريش وهم قيس بن الوليد بن المغيرة , وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن زمعة بن الأسود بن المطلب , وعلي بن أمية بن خلف , والعاص بن منبه بن الحجاج , خرجوا مع قريش من

صفحة رقم 42
مكة وهم على الارتياب , فحبسهم ارتيابهم فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) , قالوا : غر هؤلاء دينهم ثم قال تعالى : ( ومن يتوكل على الله ( يعني ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسانه ) فإن الله ( حافظه وناصره لأنه ) عزيز ( لا يغلبه شيء ) حكيم ( فيما قضى وحكم فيوصل الثواب إلى أوليائه والعقاب إلى أعدائه.
قوله عز وجل : ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ( يعني : ولو عاينت يا محمد وشهدت إذا تقبض الملائكة أرواح الذين كفروا عند الموت لرأيت أمراً عظيماً ومنظراً فظيعاً وعذاباً شديداً ينالهم في ذلك الوقت ) يضربون وجوههم وأدبارهم ( اختلفوا في وقت هذا الضرب , فقيل : هو عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط من نار.
وقيل : إن الذين قتلوا يوم بدر من المشركين كانت الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم.
وقال ابن عباس : كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف وإذا ولوا أدبارهم ضربت الملائكة أدبارهم.
وقال ابن جريج : يريد , ما أقبل من أجسادهم وأدبر يعني يضربون جميع أجسادهم ) وذوقوا عذاب الحريق ( يعني وتقول لهم الملائكة عند القتل : ذوقوا عذاب الحريق.
قيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد محمية بالنار يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم.
وقال ابن عباس : تقول لهم الملائكة ذلك بعد الموت.
وقال الحسن : هذا يوم القيامة تقول لهم الزبانية ذوقوا عذاب الحريق.
)
الأنفال : ( 51 - 54 ) ذلك بما قدمت...
" ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين " ( ) ذلك ( يعني الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق ) بما قدمت أيديكم ( يعني إنما حصل لكم ذلك بسبب ما كسبت أيديكم من الكفر والمعاصي.
فإن قلت : اليد ليست محلاً للكفر وإنما محله القلب لأن الكفر اعتقاد والاعتقاد محله القلب وظاهر الآية يقتضي أن فاعل هذا الكفر هي اليد وذلك ممتنع.
قلت : اليد هنا عبارة عن القدرة لأن اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل فاليد كناية عن القدرة.
قوله تعالى : ( وأن الله ليس بظلام للعبيد ( يعني أنه سبحانه وتعالى لا يعذر أحداً من خلقه إلا بجرم اجترمه لأنه لا يظلم أحداً من خلقه وإنما نفى الظلم عن نفسه مع أنه يعذب الكافر على كفره والعاصي على عصيانه لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء ومن كان كذلك استحال نسبة الظلم إليه فلا يتوهم متوهم أنه سبحانه وتعالى مع خلقه كفر الكافر وتعذيبه عليه ظالم فلهذا قال الله سبحانه وتعالى وأن الله ليس بظلام للعبيد لأنهم في ملكه وتحت قدرته فهو يتصرف فيهم كيف يشاء.
قوله تعالى : ( كدأب آل فرعون ( يعني أن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا وكذا يداوم عليه ويتعب نفسه فيه ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان يداوم على عادته ويواظب عليها.
قال ابن عباس : معناه أن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبي من الله تعالى فكذبوه فكذلك هؤلاء لما جاءهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالصدق كذبوه فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون ) والذين من قبلهم ( يعني من قبل آل

صفحة رقم 43
فرعون ) كفروا بآيات الله ( يعني أن عادة الأمم السالفة هو كفرهم بآيات الله ) فأخذهم الله بذنوبهم ( يعني بسبب كفرهم وذنوبهم ) إن الله قوي ( يعني في أخذه وانتقامه ممن كفر به وكذب رسله ) شديد العقاب ( يعني لمن كفر به وكذب رسله ) ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( يعني : أن الله سبحانه وتعالى أنعم على أهل مكة بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقابلوا هذه النعمة بأن تركوا شكرها وكذبوا رسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وغيَّروا ما بأنفسهم فسلبهم الله سبحانه وتعالى النعمة وأخذهم بالعقاب قال السدي : نعمة الله هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنعم به على قريش فكفروا به وكذبوه فنقله الله تعالى إلى الأنصار ) وأن الله سميع ( يعني لأقوال خلقه لا يخفى عليه شيء من كلامهم ) عليم ( يعني بما في صدورهم من خير وشر , فيجازي كل واحد على عمله ) كدأب آل فرعون ( يعني أن هؤلاء الكفار الذين قتلوا يوم بدر غيروا نعمة الله عليهم كصنيع آل فرعون ) والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ( يعني : أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ فكذلك أهكلنا كفار قريش بالسيف ) وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ( يعني الأولين والآخرين , فإن قلت ما الفائدة في تكرير هذه الآية مرة ثانية ؟.
قلت : فيها فوائد منها الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول لأن الآية الأولى فيها ذكر أخذهم , وفي الآية الثانية ذكر إغراقهم , فهذه تفسير للأولى.
الفائدة الثانية : أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الأولى إشارة إلى أنهم أنكروا آيات الله وجحدوها , وفي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها.
الفائدة الثالثة : أن تكرير هذه القصة للتأكيد وفي قوله ) كذبوا بآيات ربهم ( زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب.
)
الأنفال : ( 55 - 58 ) إن شر الدواب...
" إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين " ( وقوله تعالى : ( إن شر الدواب عند الله ( يعني في علمه وحكمه ) الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( والمعنى أن شر الدواب من الإنس الكفار المصرون على الكفر نزلت في يهود بني قريظة رهط كعب بن الأشرف ) الذين عاهدت منهم ( قيل : من صلة يعني الذين عاهدتهم وقيل : هي للتبعيض لأن المعاهدة مع بعض القوم وهم الرؤساء والأشراف ) ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ( قال المفسرون : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ثم قالوا نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضاً ومالؤوا الكفار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وهم لا يتقون ( يعني أنهم لا يخافون الله في نقض العهد لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقون بكلامه فبين الله عز وجل أن من جمع بين الكفر ونقض العهد فهو من شر الدواب ) فأما تثقفنهم في الحرب ( يعني فأما

صفحة رقم 44
تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وتظفرن بهم في الحرب ) فشرد بهم من خلفهم ( قال ابن عباس : معناه فنكل بهم من ورائهم.
وقال سعيد بن جبير : أنذر بهم من خلفهم وأصل التشريد في اللغة التفريق مع اضطراب ومعنى الآية إنك إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد فافعل بهم فعلاً من القتل والتنكيل تفرق به جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة واليمن ) لعلهم يذكرون ( يعني لعل ذلك النكار يمنعهم من نقض العهد ) وإما تخافن ( يعني وإما تعلمن يا محمد ) من قوم ( يعني معاهدين ) خيانة ( يعني نقضاً للعهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر كما ظهر من بني قريظة والنضير ) فانبذ ( أي فاطرح ) إليهم ( يعني عهدهم ورام به إليهم ) على سواء ( يعني على طريق ظاهر مستو يعني أعلمهم قبل حربك إياهم إنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم ينقض العهد سواء فلا يتوهمون أنك نقضت العهد أولاً بنصب الحرب معهم ) إن الله لا يحب الخائنين ( يعني في نقض العهد عن سليم بن عمر عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدراً فإذا هو عمرو بن عنبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء ) , فرجع معاوية أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي عن سليم بن عامر نفسه بلا زيادة رجل من حمير وعنده الله أكبر مرة واحدة وفيه جاء على دابة أو فرس وأما حكم الآية فقال أهل العلم إذا ظهرت آثار نقض الهد ممن هادهم الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض استغنى الإمام عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب وإن ظهرت الخيانة بأمارات تلوح وتنضح له من غير أمر مستفيض فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم بالحرب وذلك لأن قريظة كانوا قد عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحصل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خوف الغدر به وبأصحابه فهاهنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويعلمهم بالحرب وأما إذا ظهر نقض العهد ظهروا مقطوعاً به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد بل يفعل كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة.
)
الأنفال : ( 59 - 60 ) ولا يحسبن الذين...
" ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " ( وقوله تعالى : ( ولا يحسبن ( قرئ بالتاء على الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى ولا تحسبن يا محمد ) الذين كفروا سبقوا ( يعني فاتوا وانهزموا يوم بدر وقرئ بالياء على الغيبة ومعناه ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا

صفحة رقم 45
يعني خلصوا من القتل والأسر يوم بدر ) إنهم لا يعجزون ( يعني أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منهم فأعلمهم الله أنهم لا يعجزونه.
قوله عز وجل : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة إليه وفي المراد بالقوة أقوال أحدها : أنها جميع أنواع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوة في الحرب على قتال عدوكم , الثاني : أنها الحصون والمعاقل الثالث : الرمي وقد جاءت مفسرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه عقبة بن عامر قال ( سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على المنبر يقول : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ثلاثاً ) أخرجه مسلم
( خ ) عن أبي أسيد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يوم بدر حين صففنا لقريش إذا أكثبوكم ) يعني غشوكم وفي رواية أكثروكم فارموهم واستبقوا نبلكم وفي رواية ( إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل ) ( م ) عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه ) ( م ) عن فقيم اللخمي قال قلت لعقبة بن عامر تختلف بين هذين الغرضين وأنت شيخ كبير يشق عليك فقال عقبة لولا كلام سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم أغانه قال قلت وما ذاك ؟ قال سمعته يقول : ( من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى ) عن أبي نجيح السلمي قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من بلغ بسهم فهو له درجة في الجنة ) فبلغت يومئذ عشرة أسهم قال وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ) أخرجه النسائي والترمذي بمعناه وعنده قال عدل رقبة محررة وأخرجه أبو داود أيضاً عن عقبة بن عامر بمعناه قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن الله عز وجل ليدخلن بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة , صانعه يحتسب في عمله الخير والرامي به والممد به ) وفي رواية ( ومنبله فارموا واركبوا وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا كل لهو باطل ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه أي نبله إنهن من الحق ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها ) أخرجه أبو داود وأخرجه الترمذي مختصر إلى نبله
( خ ) .
عن سلمة بن الأكوع قال ( مر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً ارموا وأنا مع بني فلان ( فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما لكم لا ترمون ( ؟ فقالوا : كيف نرمي وأنت معهم ؟ فقال : ( ارموا وأنا معكم كلكم

صفحة رقم 46
( القول الرابع : أن المراد بالقوة جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو فكل ما هو آلة يستعان بها في الجهاد فهو من جملة القوة المأمور باستعدادها وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ألا أن القوة الرمي ( لا ينفي كون غير الرمي من القوة فهو كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) الحج عرفة ( وقوله : ( الندم توبة ( فهذا لا ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور من أفضل المقصود وأجله فكذا هاهنا يحمل معنى الآية على الاستعداد للقتال في الحرب وجهاد العدو بجميع ما يمكن من الآلات كالرمي بالنبل والنشاب والسيف والدرع وتعليم الفروسية كل ذلك مأمور به إلا أنه من فروض الكفايات وقوله تعالى : ( ومن رباط الخيل ( يعني اقتناءها وربطها للغزو في سبيل الله والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ وسمي المكان الذي يخص بإقامة حفظة فيه رباطاً والمرابطة إقامة المسلمين بالثغور للحراسة فيها وربط الخيل الجهاد من أعظم من يستعان به.
روي أن رجلاً قال لابن سيرين : إن فلاناً أوصى بثلث ماله للحصون فقال ابن سيرين : يشتري به الخيل ويربطها في سبيل الله.
وقال عكرمة : القوة الحصون ومن رباط الخيل يعني الإناث ووجه هذا أن العرب تربط الأناث من الخيل بالأفنية للنسل.
وروي أن خالد بن الوليد كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها.
وعن ابن محيريز قال : كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند الشنات والغارات.
وقيل : ربط الفحول أولى من الإناث لأنها أقوى على الكر والفر والعدو فكانت المحاربة عليها أولى من الإناث وقيل إن لفظ الخيل عام فيتناول الفحول والإناث فأي ذلك ربط بنية الغزاة كان في سبيل الله
( ق ) عن عروة بن الجعد البارقي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) الخيل معقود في نواصيها لخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة (
( ق ) .
عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )
( خ ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ) يعني حسنات
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر , فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله زاد في رواية لأهل الإسلام فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كان لها حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت له آثارها وأرواثها حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان

صفحة رقم 47
ذلك له حسنات فهي لذلك الرجل أجر ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك الرجل ستر ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر ) وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحمر فقال : ما أنزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره الطيل الحبل الذي يشد به الفرس وقت الرعي واستنان الجري والشرف الشوط الذي تجري فيه الفرس وقوله تغنياً يعني استغناء بها عن الطلب لما في أيدي الناس أما حق ظهورها فهو أن يحمل عليها منقطعاً إلى أهله وأما حق رقابها فقيل : أراد به الإحسان إليها.
وقيل : أراد به الحمل عليها فعبر بالرقبة عن الذات وقوله : نواء لأهل الإسلام النواء المعاداة يقال ناوأت الرجل مناوأة إذا عاديته.
وقوله تعالى : ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ( يعني : تخوفون بتلك القوة وبذلك الرباط عدو الله وعدوكم يعني الكفار من أهل مكة وغيره.
وقال ابن عباس : تحزنون به عدو الله وعدوكم وذلك لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات والحرب وإعداد الخيل مربوط للجهاد خافوهم فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سبباً لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين.
وقوله تعالى : ( وآخرين من دونهم ( يعني وترهبون آخرين من دونهم اختلف العلماء فيهم فقال مجاهد : هم بو قريظة , وقال السدي : هم فارس وقال ابن زيد هم المنافقون لقوله تعالى : ( لا تعلمونهم ( لأنهم معكم يقولون بألسنتهم لا إله إلا الله ) الله يعلمهم ( يعني أنهم منافقون وأورد على هذا القول أن المنافقين لا يقاتلون لإظهارهم كلمة الإسلام فكيف يخوفون بإعداد القوة ورباط الخيل.
وأجيب عن هذا الإيراد أن المنافقين إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويحزنهم فكان في ذلك إرهابهم وقال الحسن : هم كفار الجن وصحح هذا القول الطبري قال : لأن الله تعالى قال لا تعملونهم ولا شك بأن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لعلمهم بأنهم مشركون ولأنهم حرب للمؤمنين أما الجن فلا يعلمونهم الله يعلمهم يعني يعلم أحوالهم وأماكنهم دونكم ويعضد هذا القول ما روي ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال هم الجن وأن الشيطان لا يخيل أحداً في داره فرس عتيق ) ذكر هذا الحديث ابن الجوزي وغيره من المفسرين بغير إسناد وقال الحسن : صهيل الخيل يرهب الجن.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله ( قيل أراد به نفقة الجهاد والغزو وقيل هو أمر عام في كل وجوه الخير والطاعة فيدخل فيه نفقة الجهاد وغيره ) يوف إليكم ( يعني أجره في الآخرة ويعجل لكم عوضه في الدنيا ) وأنتم لا تظلمون ( يعني وأنتم لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً.
)
الأنفال : ( 61 - 65 ) وإن جنحوا للسلم...
" وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون " ( قوله تبارك وتعالى : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بإعداد القوة وما يرهب العدو أمرهم بعد ذلك أن يقبلوا منهم الصلح إن مالوا إليه وسألوه فقال تعالى : ( وإن جنحوا للسلم ( يعني مالوا إلى السلم يعني المصالحة فاقبلوا منهم الصلح وهو قوله تعالى فاجنح لها أي مل إليها يعني إلى المصالحة.
روي عن الحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف.
وقيل : إنها غير منسوخة لكنها تتضمن الأمر بالصلح إذا كان فيه مصلحة ظاهرة فإن رأى الإمام أن يصالح أعداءه من الكفار وفيه قوة فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن

صفحة رقم 48
كانت القوة للمشركين جاز أن يهادنهم عشر سنين ولا تجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه صالح أهل مكة مدة عشر سنين ثم إنهم نقضوا العهد قبل انقضاء المدة.
وقوله تعالى : ( وتوكل على الله ( يعني فوض أمرك إلى الله فيما عقدته معهم ليكون عوناً لك في جميع أحوالك ) إنه هو السميع ( يعني لأقوالهم ) العليم ( يعني بأحوالهم : قوله عز وجل : ( وإن يريدوا أن يخدعوك ( يعني يغدروا بك قال مجاهد : يعني بني قريظة والمعنى وإن أرادوا بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم ) فإن حسبك الله ( يعني فإن الله كافيك بنصره ومعوته ) هو الذي أيدك بنصره ( يعني هو الذين قواك وأعانك بنصره يوم بدر وفي سائر أيامك ) وبالمؤمنين ( يعني وأيدك بالمؤمنين يعني الأنصار.
فإن قلت : إذا كان الله قد أيده بنصره فأي حاجة إلى نصر المؤمنين حتى يقول وبالمؤمنين.
قلت : التأييد والنصر من الله عز وجل وحده لكنه يكون بأسباب باطنة غير معلومة وبأسباب ظاهرة معلومة فأما الذي يكون بالأسباب الباطنة فهو المراد بقوله ) هو الذي أيدك بنصره ( لأن أسبابه باطنة بغير وسائط معلومة وأما الذي يكون بالأسباب الظاهرة فهو المراد بقوله ) وبالمؤمنين ( لأن أسبابه ظاهرة بوسائط وهم المؤمنون والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو الذي أقامهم لنصره ثم بيَّن كيف أيده بالمؤمنين فقال تعالى : ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ( وذلك أن العرب كانت فيهم الحمية الشديد والأنفة العظيمة والأنفس القوية والعصبية والانطواء على الضغينة من أدنى شيء حتى لو أن رجلاً من قبيلة لطم لطمة واحدة قاتل عنه أهل قبيلته حتى يدركوا ثأرهم لا يكاد يأتلف منهم قلبان فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم وآمنوا به واتبعوه انقلبت تلك الحالة فائتلفت قلوبهم واستجمعت كلمتهم وزالت حمية الجاهلية من قلوبهم وأبدلت تلك الضغائن والتحاسد بالمودة والمحبة لله وفي الله واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعواناً يقاتلون عنه ويحمونه وهم الأوس والخزرج وكانت بينهم في الجاهلية حروب عظيمة ومعاداة شديدة ثم زالت تلك الحروب وحصلت المحبة والألفة وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وصار ذلك معجزة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ظاهرة باهرة دالة على صدقه ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي ) وفي الآية لدليل على أن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء وأرادوا ذلك لأن تلك الألفة والمحبة إنما حصلت بسبب الإيمان واتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه سبحانه وتعالى ختم هذه الآية بقوله ) إنه عزيز حكيم ( يعني أنه تعالى قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب فيقلبها من العداوة إلى المحبة ومن النفرة إلى الألفة وكل ذلك على وجه الحكمة والصواب.
قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في إسلام عمر بن الخطاب قال سعيد بن جبير ( أسلم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية ) فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال فعلى هذا القول أراد بقوله تعالى : ( ومن اتبعك من المؤمنين ( يعني إلى غزوة بدر وقيل أراد بقوله ومن اتبعك من المؤمنين الأنصار

صفحة رقم 49
وتكون الآية نزلت بالمدينة وقيل أراد جميع المهاجرين والأنصار , ومعنى الآية يا أيها النبي حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين وقيل معناه حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين.
قوله عز وجل : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ( يعني حثهم على قتال عدوهم.
والتحريض في اللغة : الحث على الشيء بكثرة التزين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو الهلاك ) إن يكن منكم عشرون ( يعني رجلاً ) صابرون ( يعني عند اللقاء محتسبين أنفسهم ) يغلبوا مائتين ( يعني من عدوهم وظاهر لفظ الآية خبر ومعناه الأمر فكأنه تعالى قال إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في قتال عدوهم حتى يغلبوا مائتين ويدل على أن المراد بهذا الخبر الأمر قوله ) الآن خفف الله عنكم ( " لأن النسخ لا يدخل على الإخبار إنما يدخل على الأمر فدل ذلك على أن الله سبحانه وتعالى أوجب أولاً على المؤمنين هذا الحكم وإنما حسن هذا التكليف لأن الله وعدهم بالنصر ومن تكفل الله له بالنصر سهل عليه الثبات مع الأعداء ) وإن يكن منكم مائة ( يعني صابرة ) يغلبوا ألفاً من الذين كفروا ( فحاصله وجوب ثبات الواحد من المؤمنين في مقابلة العشرة من الكفار , ذلك ) بأنهم قوم لا يفقهون ( يعني : أن المشركين لا يقاتلون لطلب ثواب وخوف عقاب إنما يقاتلون حمية فإذا صدقتموهم في القتال فإنهم لا يثبتون معكم.
)
الأنفال : ( 66 - 67 ) الآن خفف الله...
" الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم " ( ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله (
( خ ) .
عن ابن عباس : قال لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مائتين ثم نزلت الآن خفف الله عنكم الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين.
وفي رواية أخرى عنه قال : لما نزلت إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين شق ذلك على المسلمين فنزلت الآن خفف الله عنكم الآية فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم عن الصبر بقدر ما خفف عنهم فظاهر هذا أن قوله سبحانه وتعالى الآن خفف الله عنكم ناسخ لما تقدم من الآية الأولى وكان هذاالأمر يوم بدر فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقل ذلك على المؤمنين فنزلت الآن خفف الله عنكم أيها المؤمنون وعلم أن فيكم ضعفاً يعني في قتال الواحد للعشرة فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فرد من الشعرة إلى الأثنين فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا فأيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فرّ ) والله مع الصابرين ( يعني بالنصر والمعونة.
قال سفيان : قال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك.
قوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ( روي عن عبد الله

صفحة رقم 50
ابن مسعود قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما تقولن في هؤلاء فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار.
وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ومكن حمزة من العباس فيضرب عنقه , ومكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه , فإن هؤلاء أئمة الكفر وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم ناراً فقال له العباس : قطعت رحمك فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يجبهم ثم دخل فقال : ( ناس يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس يأخذ بقول ابن رواحة ) ثم خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : فمن تبعني فإنه مني , ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ومثلك يا عمر مثل نوح قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ومثلك يا عبد الله بن رواحة كمثل موسى قال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اليوم أنتم عالة فلن يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق ) قال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ) حتى قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إلا سهيل بن بيضاء.
قال ابن عباس قال عمر بن الخطاب : فهوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكتي وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فإنزل الله عز وجل عليه : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( الآية خرج هذا الحديث الترمذي مختصراً وقال : في الحديث قصة وهي هذه القصة التي ذكرها البغوي.
وأخرج مسلم في إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس : لما أسروا الأسارى قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأذخهم منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما ترى يا ابن الخطاب قال قلت : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه وتمكنني من

صفحة رقم 51
فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر يبكيان فقلت يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فأنزل الله عز وجل : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( إلى قوله ) فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ( فأحل الله الغنيمة لهم ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب من إفراد مسلم بزيادة فيه.
أما تفسير الآية , فقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى يعني ما كان ينبغي ولا يجب لنبي.
وقال أبو عبيدة : معناه لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك يا محمد والمعنى ما كان لنبي أن يحبس كافراً قدر عليه وصار في يده أسيراً للفداء والمن , والأسرى جمع أسير وأسارى جمع الجمع ) حتى يثخن في الأرض ( الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته.
يقال : أثخنه المرض إذ اشتدت قوته عليه والمعنى حتى يبالغ في قتال المشركين ويغلبهم ويقهرهم فإذا حصل ذلك فله أن يقدم على الأسر فيأسر الأسارى ) تريدون عرض الدنيا ( الخطاب لأصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعني تريدون أيها المؤمنون عرض الدنيا بأخذكم الفداء من المشركين وإنما سمى منافع الدنيا عرضا لأنه لا ثبات لها ولا دوام فكأنها تعرض ثم تزول بخلاف منافع الآخرة لإنها دائمة الانقطاع لها , وقوله سبحانه وتعالى : ( والله يريد الآخرة ( يعني انه سبحانه وتعالى يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصركم الدين لأنها دائمة بلا زوال ولا انقطاع ) والله عزيز ( لا يقهر ولا يغلب ) حكيم ( يعني في تدبير مصالح عباده.
قال ابن عباس : كان ذلك يوم بدر والمؤمنون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله سبحانه وتعالى في الأسارى فأما مناً بعد وإما فداء فجعل الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم وإن شاؤوا أعتقوهم.
قال الإمام فخر الدين : إن هذا الكلام يوهم أن قوله فأما مناً بعد وإما فداء يزيل حكم الآية التي نحن في تفسيرها وليس الامر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان وكلتاهما تدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء.
قال العلماء : كان الفداء لكل أسير أربعين أوقية والأوقية أربعون درهماً فيكون مجموع ذلك ألفاً وستمائة درهم.
وقال قتادة : كان الفداء يومئذ لكل أسير أربعة ألاف درهم.
فصل
قد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء.
وبيانه من وجوه :
الأول : أن قوله ما كان لنبي أن يكون له أسرى صريح في النهي عن أخذ الأسارى وقد وجد ذلك يوم بدر.
الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقومه بقتل المشركين يوم بدر فلما لم يقتلوهم بل أسروهم دل ذلك على صدور الذنب منهم.
الوجه الثالث : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم بأخذ الفداء وهو محرم وذلك ذنب.
الوجه الرابع : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر قعدا يبكيان لأجل أخذ الفداء وخوف العذاب وقرب نزوله.
والجواب عن الوجه الأول : أن قوله سبحانه وتعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض يدل على أنه كان الأسر مشروعاً ولكن بشرط الإثخان في الأرض وقد حصل لأن الصحابة

صفحة رقم 52
رضي الله تعالى عنهم قتلوا يوم بدر سبعين رجلاً من عظماء المشركين وصناديدهم وأسروا سبعين وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس فدلت الآية على جواز الأسر بعد الإثخان وقد حصل.
والجواب عن الوجه الثاني : أن الأمر بالقتل إنما كان مختصاً بالصحابة لإجماع المسلمين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يؤمر بمشارة قتال الكفار بنفسه وإذا ثبت أن الأمر بالقتل كان مختصاً بالصحابة كان الذنب صادراً منهم لا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
والجواب عن الوجه الثالث : وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم بأخذ الفداء وهو محرم فنقول لا نسلم أن أخذ الفداء كان محرماً وأما قوله سبحانه وتعالى تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ففيه عتاب لطيف على أخذ الفداء من الأسارى والمبادرة إليه ولا يدل على تحريم الفداء إذ لو كان حراماً في علم الله لمنعهم من أخذه مطلقاً.
والجواب عن الوجه الرابع : وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر قعدا يبكيان يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف الأمر بالقتل واستغل بالأسر استوجب بذلك الفعل العذاب فبكى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خوفاً وإشفاقاً من نزول العذاب عليهم بسبب ذلك الفعل وهو الأسر وأخذ الفداء والله أعلم.
)
الأنفال : ( 68 - 69 ) لولا كتاب من...
" لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم " ( قوله عز وجل : ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( قال ابن عباس : كانت الغنائم محرمة على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان فكانت النار تنزل من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في أخذ الغنائم والفداء فأنزل الله عز وجل : ( لولا كتاب من الله سبق ( يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم.
ثم لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال ابن جريج : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يأخذ قوماً فعلوا بجهالة لمسكم يعني لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عذاب عظيم قال محمد بن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدراً إلا وأحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان الإثخان في اقتل أحب إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ) وقوله تعالى : ( فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ( يعني قد أحلت لكم الغنائم وأخذ الفداء فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً.
روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وكانت قبل ذلك حراماً على جميع الأمم الماضية صح من حديث جابر بن عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي )
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ولم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم وذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا ).
وقوله سبحانه وتعالى : ( واتقوا الله إن الله غفور رحيم ( يعني وخافوا الله أن تعودوا وإن لم تفعلوا شيئاً من قبل أنفسكم قبل

صفحة رقم 53
أن تؤمروا به واعلموا أن الله قد غفر لكم ما أقدمتم عليه من هذا الذنب ورحمكم وقيل في قوله واتقوا الله إشارة إلى المستقبل وقوله إن الله غفور رحيم إشارة إلى الحالة الماضية.
)
الأنفال : ( 70 - 71 ) يا أيها النبي...
" يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم " ( قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم ( نزلن في العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة إلى بدر وكان قد خرج ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم بها إذ جاءت نوبته فكانت نوبته يوم الوقعة ببدر فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا فلم يطعم شيئاً وبقيت العشرون أوقية معه فلما أسر أخذت منه , فكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحسب العشرين أوقية من فدائه فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا أتركه لك ) وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال العباس : يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة ) وقلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل وقثم يعني بنيه.
فقال العباس : وما يدريك يا ابن أخي قال : ( أخبرني به ربي ) قال العباس : أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا لله وأنك عبده ورسوله لم يطلع عليه أحد إلا الله وأمر ابني أخيه عقيل ونوفل بن الحارث فأسلما فذلك قوله سبحانه وتعالى : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم ) من الأسرى ( يعني الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء ) إن يعلم الله في قلوبكم خير ( يعني إيماناً وتصديقاً ) يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ( يعني من الفداء ) ويغفر لكم ( يعني ما سلف منكم قبل الإيمان ) والله غفور ( يعني لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه ) رحيم ( يعني بأهل طاعته قال العباس : فأبدلني الله خيراً ما أخذ مني عشرين عبداً كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل.
وقوله تعالى : ( وإن يريدوا ( يعني الأسارى ) خيانتك ( يعني أن يكفروا بك ) فقد خانوا الله ( يعني فقد كفروا بالله ) من قبل ( وقيل معناه وإن نقضوا العهد ورجعوا إلى الكفر فقد خانوا الله بذلك ) فأمكن ( يعني فأمكن الله المؤمنين ) منهم ( ببدر حتى قتلوا منهم وأسروا منهم وهذا نهاية الإمكان وفيه بشارة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يتمكن من كل أحد يخونه أو ينقض عهده ) والله عليم ( يعني بما في بواطنهم وضمائرهم من إيمان وتصديق أو خيانة ونقض عهد ) حكيم ( يعني حكم

صفحة رقم 54
بأنه يجازي كلاً بعمله الخير بالثواب والشر بالعقاب.
)
الأنفال : ( 72 - 75 ) إن الذين آمنوا...
" إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم " ( قوله عز وجل : ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ( يعني إن الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بما جاءهم به وهاجروا يعني وهجروا ديارهم وقومهم في ذات الله عز وجل وابتغاء رضوان الله وهم المهاجرون الأولون وجاهدوا يعني وبذلوا أنفسهم في سبيل الله يعني في طاعة الله وابتغاء رضوانه ) والذين آووا ونصروا ( يعني آووا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن معه من أصحابه من المهاجرين وأسكنوهم منازلهم ونصروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم الأنصار ) أولئك ( يعني المهاجرين والأنصار ) بعضهم أولياء بعض ( يعني في العون والنصر دون أقربائهم من الكفار وقال ابن عباس : في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون أقربائهم وذوي أرحامهم وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيثما كانوا فصار ذلك منسوخاً بقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.
وقوله تعالى : ( والذين آمنوا ولم يهاجروا ( يعني آمنوا وأقاموا بمكة ) ما لكم من ولايتهم من شيء ( يعني من الميراث ) حتى يهاجروا ( يعني إلى المدينة ) وإن استنصروكم في الدين ( يعني استنصركم الذين آمنوا ولم يهاجروا ) فعليكم النصر ( يعني فعليكم نصرهم وإعانتهم ) إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ( أي عهد فلا تنصروهم عليهم ) والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ( يعني في النصر والمعونة وذلك أن كفار قريش كانوا معادين لليهود فلما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تعاونوا عليه جميعاً قال ابن عباس : يعني في الميراث وهو أن يرث الكفار بعضهم من بعض ) إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( قال ابن عباس : إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به , وقال ابن جريج إلا تتعاونوا وتتناصروا وقال ابن إسحاق : جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ثم قال سبحانه وتعالى إلا تفعلوه وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير فالفتنة في الأرض هي قوة الكفار والفساد الكبير هو ضعف المسلمين ) والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً ( يعني لا شك في إيمانهم ولا ريب لأنهم حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل النفس والمال في نصر الدين ) لهم مغفرة ( يعني لذنوبهم ) ورزق كريم ( يعني في الجنة.
فإن قلت ما معنى هذا التكرار ؟ قلت ليس فيه تكرار لأنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى حكم ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضاً ثم ذكر في هذه الآية ما منَّ به عليهم من المغفرة والرزق

صفحة رقم 55
الكريم وقيل إن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به فلما ذكرهم أولاً ثم أعاد ذكرهم ثانياً دل ذلك على تعظيم شأنهم وعلو درجاتهم وهذا هو الشرف العظيم لأنه تعالى ذكر في هذه الآية من وجوه المدح ثلاث أنواع :
أحدها : قوله أولئك هم المؤنون حقاً وهذا يفيد الحصر وقوله سبحانه وتعالى حقاً يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين في طريق الدين وتحقيق هذا القول أن من فارق أهله وداره التي نشأ فيها وبذل النفس ولمال كان مؤمناً حقاً.
النوع الثاني : قوله سبحانه وتعالى لهم مغفرة وتنكير لفظ المغفرة يدل على أن لهم مغفرة وأي مغفرة لا ينالها غيرهم والمعنى لهم مغفرة تامة كاملة ساترة لجميع ذنوبهم.
النوع الثالث : قوله سبحانه وتعالى ورزق كريم فكل شيء شرف وعظم في بابه قيل له كريم والمعنى أن لهم في الجنة رزقاً لا تلحقهم فيه غضاضة ولا تعب.
وقيل : إن المهاجرين كانوا على طبقات فمنهم من هاجر أولاً إلى المدينة وهم المهاجرون الأولون ومنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ثم هاجر إلى المدينة فهم أصحاب الهجرتين ومنهم من هاجر بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة فذكر الله في الآية الأولى أصحاب الهجرة الأولى وذكر في الثانية أصحاب الهجرة الثانية , والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
سورة التوبة
نفسير سورة التوبة.
وهي مدنية بإجماعهم قال ابن الجوزي سوى آيتيين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم

صفحة رقم 56
فإنهما نزلنا بمكة وهي مائة وتسع وعشرون آية وقيل مائة وثلاثون آية وأربعة آلاف ثمان وسبعون كلمة عشرة آلاف وأربعة وثمانون حرفا ولهذه السورة أسماء عشرة التوبة وسورة براءة وهذان الإسمان مشهوران وهي المقشقشة قاله ابن عمر سميت بذلك لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وهي المبعثرة لأنها تبعثر عن أخبار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها والفاضحة قاله ابن عباس لأنها فضحت المنافقين وسورة العذاب قاله ابن حذيفة وهي المخزية لأن فيها خزى المنافقين وهي المدمدمة سميت بذلك لأن فيها هلاك المنافقين وهي المشردة سميت بذلك لأنها شردت جموع المنافقين وفرقتهم وهي المثيرة سميت بذلك لأنها أثارت مخازي المنافقين وكشفت عن أحوالهم وهتكت أستارهم.
عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس سورة التوبة فقال بل هي الفاضحة ما زالت تقول ومنهم ومنهم حتى ظنوا لأن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها قال قلت سورة الأنفال قال نزلت في بدر قال قلت سورة الحشر قال بل سورة بني النضير أخرجاه في الصحيحين.
فصل في بيان ترك كتاب التسمية يفي أول هذه السورة
عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثالني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال ما حملكم على ذلك قاتل عثمان كان رسول اللهن ( صلى الله عليه وسلم ) كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وإذا نزلت عليه الآية يقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا كانت قصتها شبيهة بقصتها وظننت أنها منها وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها من أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن قال الزجاج والشبه الذي بينهما أن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نقضها وكان قتادة يقول هما سورة واحدة وقال محمد بن الحنفية قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب لم لم تكتبوا في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال يا بني أن براءة نزلت بالسيف وأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وسئل سفيان بن عيينة عن هذا فقال لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت بالمنافقين قال المبرد لم تفتتح هذه السورة الشريفة ببسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية افتتاح للخير وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود فلذلك لن تفتتح بالتسمية وسئل أبي بن كعب عن هذا فقال إنها نزلت في آخر القرآن وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمر بكل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولم يأمر في براءة بذلك فضمت إلى الأنفال لشبهها بها وقيل إن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة هل هما سورة واحدة أم سورتان فقال بعضهم سورة واحدة لأنهما نزلتا في القتال ومجموعهما معا مائتان وخمس آيات فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال وقال بعضهم هما سورتان فلما حصل هذا الاختلاف بين الصحابة تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول أنهما سورتان ولم يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة أما تفسير قوله تعالى )
التوبة : ( 1 - 2 ) براءة من الله...
" براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين " ( قوله تعالى : ( براءة من الله ورسوله ( يعني

صفحة رقم 57
هذه براءة من الله ورسوله وأصل البراءة في اللغة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة وقيل معناها التباعد مما تكره مجاورته قال المفسرون لما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم وذلك قوله سبحانه وتعالى : ( وإما تخافن من قوم خيانة ( " الآية ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أمر به ونبذ إليهم عهودهم قال الزجاج : أي قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا ) إلى الذين عاهدتم من المشركين ( الخطاب مع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي عاهدهم وعاقدهم إلا أنه هو الذي عاقدهم وأصحابه بذلك راضون فكأنهم هم عقدوا وعاهدوا.
قوله سبحانه وتعالى : ( فسيحوا في الأرض ( أي فسيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحداً من المشركين وأصل السياحة الضرب من الأرض والاتساع فيها والبعد عن مواضع العمارة قال ابن الأنباري : قوله فسيحوا فيه مضمر أي قل لهم فسيحوا وليس هذا من باب الأمر بل المقصود منه الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وزوال الخوف يعني سيحوا في الأرض وأنتم آمنون من القتل والقتال ) أربعة أشهر ( يعني مدة أربعة أشهر واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مجاهد : هذا التأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر حطه إلى أربعة أشهر ومن كان عهده بغير أجل معلوم محدود حده بأربعة أشهر ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله يقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان وقيل : إن المقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا ويحتاطوا لأنفسهم ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو القتل فيصير هذا داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام ولئلا ينسب المسلمون إلى الغدر ونكث العهد وكان ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.
فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً قال الزهري الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال والقول الأول أصوب وعليه الأكثرون.
وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة أشهر عهداً لمن كان له عهد دون الأربعة أشهر فأتم له الأربعة أشهر.
فأما من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى : ( فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ( " وقيل كان ابتداؤها في العاشر من ذي القعدة وآخرها العاشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسئ ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة وفيها حج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( إن الزمان قد استدار ) الحديث قال الحسن : أمر الله عز وجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال من قاتله من المشركين فقال تعالى : ( قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ( " فكان لا يقاتل إلا من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكة وذلك أن رسول

صفحة رقم 58
الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منهم وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال :
لا هم إني ناشد محمداً
حلف أبينا وأبيه ألأتلدا
كنت لنا أباً وكنا ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
في فليق كالبحر يجري مزبدا
أبيض مثل الشمس يسمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تنجىأحداً
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
" فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لانصرت إن لم أنصركم ) وتجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحج فقيل له المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال : ( لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ) فبعث أبا بكر في تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من سورة براءة ليقرآها على أهل الموسم ثم بعث بعده علياً على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فرجع أبو بكر فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء فقال : ( لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض ) ؟ قال بلى : يا رسول الله فسار أبو بكر أميراً على الحجاج وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم فأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمر به وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال يزيد بن تبيع سألنا علياً بأي شيء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عهد فهو إلى مدته ومن يكون له عهده فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في حج ثم حج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سنة عشر حجة الوداع
( ق ) .
عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ثم أردف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ويوم ==

ج6. تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني - علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن

صفحة رقم 59
الحج الأكبر يوم النحر والحج الأكبر الحج وإنما قيل الحج الأكبر من أجل قول الناس للعمرة الحج الأصغر قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه حج فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع مشرك وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين ) يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ( الآية.
( فصل )
قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا المتوهم ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميراً على الموسم في تلك السنة أول حديث أبي هريرة المتقدم أن أبا بكر بعثه في رهط يؤذنون في الناس الحديث وفي لفظ أبو داود والنسائي قال بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فقوله بعثني أبو بكر فيه دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس وهو الذي أقام للناس حجهم وعلمهم مناسكهم وأجاب العلماء عن بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً ليؤذن في الناس ببراة بأن عادة العرب جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها أو رجل من أقاربه وكان علي بن أبي طالب أقرب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أبي بكر لأنه ابن عمه ومن رهطه فبعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليؤذن عنه ببراءة إزاحة لهذه العلة لئلا يقولوا هذا على خلاف ما نعرفه من عادتنا في عقد العهود ونقضها وقيل لما خص أبا بكر بتوليته على الموسم خص علياً بتبليغ هذه الرسالة تطييباً لقلبه ورعاية لجانبه وقيل إنما بعث علياً في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بكر أميراً على الحجاج وولاه الموسم وبعث علياً خلفه ليقرأ على الناس براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر المتولى أمر الموسم والأمير علىالناس ولم يكن ذلك لعلي فدل ذلك على تقديم أبي بكر على علي وفضله عليه والله أعلم.
وقوله تعالى : ( واعلموا أنكم غير معجزي الله ( يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لمصلحة ولطف بكم ليتوب تائب وقيل : معناه فسيحوا في الأرض أربعة أشهر عالمين أنكم لا تعجزون الله بل هو يعجزكم ويأخذكم لأنكم في ملكه وقبضته وتحت قهره وسلطانه وقيل معناه إنما أمهلكم هذه المدة لأنه لا يخاف الفوت ولا يعجزه شيء ) وأن الله مخزي الكافرين ( يعين بالقتل والعذاب في الآخرة.

صفحة رقم 60
)
التوبة : ( 3 ) وأذان من الله...
" وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم " ( قوله عز وجل : ( وأذان من الله ورسوله ( الأذان في اللغة الإعلام ومنه الأذان للصلاة لأنه إعلام بدخول وقتها والمعنى وإعلام صادر من الله ورسوله واصل ) إلى الناس يوم الحج الأكبر ( اختلفوا في يوم الحج الأكبر فروى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة ويروى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعن علي بن أبي طالب قال : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن يوم الحج الاكبر فقال : يوم النحر أخرجه الترمذي وقال ويروى موقوفاً عليه وهو أصح وعن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها

صفحة رقم 61
فقال : أي يوم هذا , فقالوا يوم النحر فقال : هذا يوم الحج الأكبر أخرجه أبو داود ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي.
وروى ابن جريج عن مجاهد أن يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول الحج الأكبر أيام منى كلها لأن اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقولك يوم صفين ويوم الجمل لأن الحروب دامت في تلك الأيام ويطلق عليها يوم واحد وقال عبد الله بن الحث بن نوفل : يوم الحج الأكبر الذي حج فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول ابن سيرين لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده فعظم ذلك اليوم عند المؤمنين والكفارين.
قال مجاهد : الحج الأكبر القرآن لأنه قرن بين الحج والعمرة , وقال الزهري والشعبي وعطاء , الحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج وقيل : سمي الحج الأكبر لموافقة حجة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حجة الوداع وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فودع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم وذكر في خطبته أن الزمان قد استدار وأبطل النسي وجميع أحكام الجاهلية.
وقوله سبحانه وتعالى : ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ( فيه حذف والتقدير وأذان من الله ورسوله بأن الله بريء من المشركين وإنما حذفت الباء لدلالة الكلام عليها وفي رفع رسوله وجوه الأول أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر والتقدير أن الله بريء من المشركين ورسوله أيضاً بريء الثاني تقديره بريء الله ورسوله من المشركين الثالث إن الله في محل الرفع بالابتداء وبرئ خبره ورسوله عطف على المبتدأ.
فإن قلت : لا فرق بين قوله براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين وبين قوله إن الله بريء من المشركين ورسوله فما فائدة هذا التكرار قلت المقصود من الآية الأولى البراءة من العهد ومن الآية الثانية البراءة التي هي تفيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد والذين يدل على صحة هذا الفرق أنه قال في أولها براءة من الله ورسوله إلى يعني بريء إليهم وفي الثانية بريء منهم وقوله تعالى : ( فإن تبتم ( يعني فإن رجعتم عن شرككم وكفركم ) فهو خير لكم ( يعني من الإقامة على الشرك وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشكر الموجب لدخول النار ) وإن توليتم ( يعني أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك ) فاعلموا أنكم غير معجزي الله ( فيه وعيد عظيم وإعلام لهم بأن الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال العذاب بهم وهو قوله تعالى : ( وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ( يعني في الآخرة ولفظ البشارة هنا إنما ورد على سبيل الاستهزاء.
كما يقال : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم.
)
التوبة : ( 4 - 5 ) إلا الذين عاهدتم...
" إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم " ( قوله سبحانه وتعالى : ( إلا الذين عاهدتم من المشركين ( هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يعني إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين وهم بنو ضمرة حي من كنانة أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بإتمام عهدهم إلى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد وهو قوله تعالى : ( ثم لم ينقصوكم شيئاً ( يعني من عهودهم التي عاهدتموهم عليها ) ولم يظاهروا ( يعني ولم يعاونوا ) عليكم أحداً ( يعني من عدوكم وقال صاحب الكشاف : وجهه أن يكون

صفحة رقم 62
مستنثى قوله تعالى فسيحوا في الأرض لأن الكلام خطاب للمسلمين ومعناه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم : سيحوا في الأرض إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم ) فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ( والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل لهم بعد أن أمروا في الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر ) إن الله يحب المقتين ( يعني أن قضية التقوى تقتضي أن لا يسوى بين القبيلتين يعني الوافي بالعهد والناكث له والغادر فيه.
قوله سبحانه وتعالى : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ( يعني فإذا انقضت الأشهر الحرم ومضت وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق : هي شهور العهد سميت حرماً لحرمة نقض العهد فيها فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم وذلك خمسون يوماً وقيل إنما قال لها حرم لأن الله سبحانه وتعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم.
فإن قلت : على هذا القول هذه المدة وهي الخمسون يوماً بعض الأشهر الحرم والله سبحانه وتعالى قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم.
قلت : لما كان هذا القدر من الأشهر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع والمعنى فإذا مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( يعني في الحل والحرم وهذا أمر إطلاق يعني اقتلوهم في أي وقت وأي مكان وجدتموهم ) وخذوهم ( يعني واسروهم ) واحصروهم ( أي واحبسوهم.
قال ابن عباس : يريد أن تحصنوا فاحصروهم وامنعوهم من الخروج.
وقيل : امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام ) واقعدوا لهم كل مرصد ( يعني على كل طريق والمرصد الوضع الذي يقعد فيه للعدو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته والمعنى كونوا لهم رصداً حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا.
وقيل : معناه اقعدوا لهم بطريق مكة حتى لا يدخلوها ) فإن تابوا ( يعني من الشرك ورجعوا إلى الإيمان ) وأقاموا الصلاة ( يعني وأتموا أركان الصلاة المفروضة ) وآتوا الزكاة ( الواجب عليهم طيبة بها أنفسهم ) فخلوا سبيلهم ( يعني إلى الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم ) إن الله غفور ( يعني لمن تاب ورجع من الشرك إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة ) رحيم ( يعني بأولياءه وأهل طاعته , وقال الحسن بن الفضل : نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء.
)
التوبة : ( 6 - 8 ) وإن أحد من...
" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون " ( قوله تعالى : ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ( يعني وإن استأمنك يا محمد أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله الذي أنزل عليك وهو القرآن فأجره حتى يسمع كلام الله ويعرف ماله من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر ) ثم أبلغه مأمنه ( يعني إن لم يسلم أبلغه إلى الموضع الذي يأمن فيه وهو دار

صفحة رقم 63
قومه وإن قاتلك بعد ذلك وقدرت عليه فاقتله ) ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ( أي لا يعلمون دين الله وتوحيده فهم يحتاجون إلى سماع كلام الله عز وجل , قال الحسن : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة ) كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ( هذا على وجه التعجيب ومعناه الجحد أي لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى : ( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ( قال ابن عباس : هم قريش.
وقال قتادة : هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الحديبية وقال السدي محمد بن عباد ومحمد بن إسحاق هم بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو الديل قبائل من بني بكر كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبة , وقال مجاهد : هم أهل العهد من خزاعة ) فما استقاموا لكم ( يعني على العهد ) فاستقيموا لهم ( يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم إما أن يسلموا وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا فأسلموا بعد الأربعة الأشهر والصواب من ذلك قول من قال إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمة وبنو مدلج من ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة وإنما كان الصواب هذا القول لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وذلك قبل فتح مكة لأن بعد الفتح كيف يقول لشيء قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم وإنما هم الذين قال الله عز وجل فيهم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً كما نقصكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحداً كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقوله تعالى : ( إن الله يحب المتقين ( يعني أنه سبحانه وتعالى يحب الذين يوفون بالعهد إذا عاهدوا ويتقون نقضه ) كيف وإن يظهروا عليكم ( قبل هذا مردود على الآية الأولى تقديره كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم ) لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ( قال الأخفش معناه , كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي يظهروا بكم ويغلبوكم ويعلو عليكم لا يرقبوا أي لا يحفظوا.
وقيل : معناه لا ينتظروا.
وقيل : معناه لا يراعوا فيّكم إلاًّ.
قال ابن عباس : يعني

صفحة رقم 64
قرابة.
وقيل : رحماً وهذا معنى قول ابن عباس أيضاً.
وقال قتادة : الإل الحلف.
وقال السدي : هو العهد وكذلك الذمة وإنما كرر للتأكيد أو لاختلاف اللفظين : وقال أبو مجلز ومجاهد : الإل هو الله عز وجل ومن قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع كلام مسيلمة الكذاب إن هذا الكلام لم يخرج من إل يعني من الله وعلى هذا القول يكون معنى الآية لا يرقبون الله فيكم ولا يحفظون لا يراعونه ) ولا ذمة ( يعني ولا يحفظون عهداً ) يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ( يعني يطيعونكم بألسنتهم بخلاف ما في قلوبهم ) وأكثرهم فاسقون ( فإن قلت إن الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أخبث وأقبح من الفسق فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم وما الفائدة في قوله وأكثرهم فاسقون مع أن الكفار كلهم فاسقون.
قلت : قد يكون الكافر عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً خبيث الفسق في دينه فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين أنهم نقضوا العهد وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم فيكون أبلغ في الذم وإنما قال أكثرهم ولم يقل كلهم فاسقون لأن منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه وأكثرهم نقضوا العهد فلهذا قال سبحانه وتعالى وأكثرهم فاسقون.
)
التوبة : ( 9 - 11 ) اشتروا بآيات الله...
" اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون " ( وقوله تعالى : ( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ( يعني استبدلوا بآيات القرآن والإيمان بها عرضا قليلاً من متاع الدنيا وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب أكلة أطعمهم إياها أبو سفيان بن حرب فذمهم الله بذلك.
قال مجاهد : أطعم أبو سفيان حلفاءه وترك حلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فصدوا عن سبيله ( يعني منعوا الناس عن الدخول في دين الله قال ابن عباس : وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنهم ساء ما كانوا يعلمون ( يعني من الشرك ونقضهم العهد ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإسلام ) لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة ( يعني أن هؤلاء المشركين لا يراعون في مؤمن عهداً ولا ذمة إذا قدروا عليه قتلوه فلا تبقوا أنتم عليهم كما لم يبقوا عليكم إذا ظهروا عليكم ) وأولئك هم المعتدون ( يعني في نقض العهد.
قوله عز وجل : ( فإن تابوا ( يعني فإن رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به ) وأقاموا الصلاة ( يعني المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها ) وآتوا الزكاة ( يعني وبذلوا الزكاة المفروضة عليهم طيبة بها أنفسهم ) فإخوانكم في الدين ( يعني إذا فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم مالكم وعليهم ما عليكم ) ونفصل الآيات لقوم يعلمون ( يعني ونبين حجج أدلتنا ونوضح بيان آياتنا لمن يعلم ذلك ويفهمه.
قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة وقال ابن مسعود : أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكِّ فلا صلاة له.
وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعاً لم يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة.
وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه يعني بذلك ما ذكره أبو بكر في حق منع الزكاة وهو قوله.
والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما يعني الصلاة والزكاة
( ق ) يعني أبي هريرة قال لما توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أمرت أن

صفحة رقم 65
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل ) فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها.
وفي رواية , عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقاتلتهم على منعها , فقال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
عن أنس قال.
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ).
)
التوبة : ( 12 - 13 ) وإن نكثوا أيمانهم...
" وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( وإن نكثوا أيمانهم ( يعني وإن نقضوا عهودهم ) من بعد عهدهم ( يعني من بعد ما عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم ) وطعنوا في دينكم ( يعني وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه وثلبوه.
وفي هذا دليل على ان الذمي إذا طعن في دين الإسلام وعابه ظاهراً لا يبقى له عهد والمراد بهؤلاء الذين نقضوا العهد كفار قريش وهو قوله تعالى : ( فقاتلوا أئمة الكفر ( يعني رؤوس المشركين وقادتهم.
قال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وأبي جهل وابنه عكرمة وسائر رؤساء قريش وهم الذين نقضوا عهدهم وهموا بإخراج الرسول وقيل أراد جميع الكفار وإنما ذكر الأئمة لأنهم الرؤساء والقادة ففي قتالهم قتال الأتباع , وقال مجاهد : هم فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان : ما قوتل أهل هذه الآية بعد ولم يأت أهلها ولعل حذيفة أراد بذلك الذين يظهرون مع الدجال من اليهود فإنهم إئمة الكفر في ذلك الزمان والله أعلم بمراده.
وقوله سبحانه وتعالى : ( إنهم لا أيمان لهم ( جمع يمين أي لا عهد لهم وقيل معناه إنهم لا وفاء لهم بالعهود وقرئ لا إيمان لهم بكسر الهمزة ومعناه لا دين لهم ولا تصديق وقيل هو من الأمان أي اقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تؤمنوهم ) لعلهم ينتهون ( أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم ويرجعواعن الكفر إلى الإيمان ثم حض المؤمنين على جهاد الكفار وبين السبب في ذلك فقال تعالى : ( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم ( يعني نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية

صفحة رقم 66
وأعانوا بني بكر على خزاعة ) وهموا بإخراج الرسول ( يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ) وهم بدؤوكم ( يعني بالقتال ) أول مرة ( يعني يوم بدر وذلك أنهم قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه وقيل أراد به أنهم بدءوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) أتخشونهم ( يعني أتخافوهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم ) فالله أحق أن تخشوه ( يعني في ترك القتال ) إن كنتم مؤمنين ( يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده.
)
التوبة : ( 14 - 17 ) قاتلوهم يعذبهم الله...
" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ( يريد بالتعذيب القتل يعني يقتلهم الله بأيديكم.
فإن قلت : كيف الجمع بين قوله يعذبهم الله بأيديكم وبين قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ؟ قلت : المراد بقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم عذاب الاستئصال يعني وما كان ليستأصلهم بالعذاب جميعاً وأنت فيهم والمراد بقوله : قاتلوهم , يعني الذين نقضوا العهد وبدءوا بالقتال فأمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم.
والفرق بين العذابين , أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب وإلى المخالف والموافق , وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف قوله تعالى : ( ويخزهم ( يعني ويذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان ) وينصركم عليهم ( يعني بأن يظفركم بهم ) ويشف صدور قوم مؤمنين ( يعني ويبرئ داء قلوبهم مما كانوا ينالونه من الأذى منهم ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه فإنه يفرح بذلك ويعظم سروره ويصير ذلك سبباً لقوة اليقين وثبات العزيمة.
قال مجاهد والسدي : أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة حتى قتلوا منهم ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر حتى أخذوا ثأرهم منهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ) ويذهب غيظ قلوبهم ( يعني ويذهب وجد قلوبهم بما نالوه من بني بكر.
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم فتح مكة : ( ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر ) ذكره البغوي بغير سند.
ثم قال تعالى : ( ويتوب الله على من يشاء ( هذا كلام مستأنف ليس له تعلق بالأول والمعنى ويهدي الله من يشاء إلى الإسلام فيمن عليه بالتوبة من الشرك والكفر ويهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم منَّ الله عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا ) والله عليم ( يعني بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة فيتوب عليه ويهديه إلى الإسلام ) حكيم ( يعني في جميع أفعاله قوله عز وجل : ( أم حسبتم أن تتركوا ( هذا من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ولذلك أدخلت فيه أم لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب ) ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ( أراد بالعلم : المعلوم , لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده.
قاله الإمام فخر الدين الرازي : ونقل الواحدي عن الزجاج أي العلم الذي يجازي عليه لأنه إنما يجازي على ما عملوا ) ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ( قال الفراء : الوليجة : البطانة من المشركين يتخذونهم

صفحة رقم 67
يفشون إليهم أسرارهم.
وقال قتادة : وليجة , يعني خيانة.
وقال الضحاك : خديعة.
وقال عطاء : أولياء.
يعني لا تتخذوا المشركين أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين.
وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة من الولوج فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس.
وقال الراغب : الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمداً عليه وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم وليس منهم والمقصود من هذا نهي المؤمنين عن موالاة المشركين وإن يفشوا إليهم أسرارهم ) والله خبير بما تعملون ( يعني من موالات المشركين وإخلاص العمل لله وحده.
قوله سبحانه وتعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ( يعني به المسجد الحرام وقرئ مساجد الله على الجمع والمراد به المسجد الحرام أيضاً وإنما ذكر بلفظ الجمع لأنه قبلة المساجد كلها وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء كفار قريش أسروا يوم بدر ومنهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعيرونهم بالشرك وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقطيعة الرحم.
فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محساننا ؟ فقيل له : وهل لكم من محاسن ؟ قال : نعم.
نحن أفضل منكم نحن نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فنزلت هذه الآية : ما كان للمشركين أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله أوجب الله على المسلمين منعهم من ذلك المساجد إنما تعمر لعبادة الله تعالى وحده فمن كان كافراً بالله فليس له أن يعمر مساجد الله واختلفوا في المراد بالعمارة على قولين أحدهما أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من بناء المساجد وتشييدها ومرمتها عند خرابها فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى ببناء مسجد لم تقبل وصيته والقول الثاني إن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه فيمتنع الكافر من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذن لم يعزر ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها.
وقوله تعالى : ( شاهدين على أنفسهم بالكفر ( يعني : لا يدخلون المساجد في حال كونهم شاهدين.
وقيل : تقديره وهم شاهدون فلما حذفت وهم نصب.
وقال ابن عباس : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام فلم يزدادوا بذلك من الله إلا بعداً.
وقال الحسن : إنهم لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شهادة عليهم بالكفر.
وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل

صفحة رقم 68
من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي والمشرك يقول مشرك.
وقال ابن عباس : في رواية عنه شاهدين على رسولهم بالكفر لأنه من أنفسهم ) أولئك حبطت أعمالهم ( يعني الأعمال التي عملوها في حال الكفر من أعمال البر مثل قرى الضيف وسقي الحاج وفك العاني لأنها لم تكن لله فلم يكن لها تأثير مع الكفر ) وفي النار هم خالدون ( يعني من مات منهم على كفره.
)
التوبة : ( 18 ) إنما يعمر مساجد...
" إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " ( قوله عز وجل : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ( لما بين الله عز وجل أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين في هذه الآية من هو المستحق لعمارة المساجد وهو من آمن بالله فإن الإيمان بالله شرط فيمن يعمر المسجد لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه فمن لم يكن مؤمناً بالله امتنع أن يعمر موضعاً يعبد الله فيه واليوم الآخر يعني وآمن باليوم الآخر وأنه حق كائن لأن عمارة المسجد لأجل عبادة الله وجزاء أجره إنما يكون في الآخرة فمن أنكر الآخرة لم يعبد الله ولم يعمر له مسجداً.
فإن قلت لم لم يذكر الإيمان برسول الله مع أن الإيمان به شرط في صحة الإيمان.
قلت : إن الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) داخل في الإيمان فإن من آمن بالله واليوم الآخر فقد آمن برسول الله لأن من جهته عرف الإيمان بالله واليوم الآخر لأنه هو الداعي إلى ذلك وقيل إن المشركين كانوا يقولون أن محمداً إنما ادعى النبوة طلباً للرياسة والملك فأخبر الله عز وجل أن محمداً إنما دعا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر لا لطلب الرياسة ولملك فلذلك قال سبحانه وتعالى إنما يعمر

صفحة رقم 69
مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وترك ذكر الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : إنه تبارك وتعالى قال بعد الإيمان بالله واليوم الآخر ) وأقام الصلاة وآتى الزكاة ( وكان ذلك ما جاء به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة فقد آمن برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن الاعتبار بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المساجد أن الإنسان إذا عمر المسجد أقام الصلاة وآتى الزكاة لأن عمارة المسجد إنما تلزم لإقامة الصلاة فيه ولا يشتغل بعمارة المسجد إلا إذا كان مؤدياً للزكاة لأن الزكاة واجبة وعمارة المسجد نافلة ولا يشتغل الإنسان بالنافلة إلا بعد إكمال الفريضة الواجبة عليه.
وقوله تعالى : ( ولم يخش إلا الله ( يعني ولم يخف في الدين غير الله ولم يترك أمر الله لخشية الناس ) فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( وعسى من الله واجب يعني وأولئك هم المهتدون المتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) الآية أخرجه الترمذي.
وقال حديث حسن
( ق ) عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح النزل ما يهيأ للضيف عند نزوله بالقوم )
( ق ) .
عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنة ) وفي رواية : ( بنى الله له في الجنة مثله ) وعن أنس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة ) أخرجه الترمذي عن عمرو بن عنبسة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من بنى لله مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة ) , أخرج النسائي.
)
التوبة : ( 19 ) أجعلتم سقاية الحاج...
" أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ( الآية ( م ) عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام.
قال الآخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجره عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر إلى آخرها.
وقيل : قال العباس حين أسروا يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله هذه الآية وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله وإن الإيمان والجهاد مع نية خير مما هم عليه.
وقال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي : نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن أبي شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه.
وقال العباس : وأنا صاحب السقاية والقيامة عليها وقال ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله هذه الآية ) أجعلتم سقاية الحاج ( والسقاية مصدر كالرعاية والحماية وهي : سقي الحاج وكان العباس ابن عبد المطلب بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك وعمارة المسجد الحرام يعني بناؤه وتشييده ومرمته ) كمن آمن بالله واليوم الآخر ( فيه حذف تقديره كإيمان من آمن

صفحة رقم 70
بالله واليوم الآخر ) وجاهد في سبيل الله ( أي وكجهاد من جاهد في سبيل الله.
وقيل : السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر تقديره : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ) لا يستوون عند الله ( يعني : لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على شركه وكفره لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عملاً إلا مع الإيمان به ) والله لا يهدي القوم الظالمين (
( خ ) عن ابن عباس ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشراب من عندها فقال اسقني فقال : يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا يعني عاتقه ) ( م )
عن بكر بن عبد الله المزني قال : كنت جالساً مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل إنما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة فقال : ( أحسنتم أو أجملتم كذا فاصنعوا ) فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) النبيذ تمر ينقع في الماء غدوة ويشرب عشاء أو ينقع عشاء ويشرب غدوة وهذا حلال فإن غلى وحمض حرم.
)
التوبة : ( 20 - 23 ) الذين آمنوا وهاجروا...
" الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون " ( قوله عز وجل : ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ( يعني أن من كان موصوفاً بهذه الصفات يعني الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس كان أعظم درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام وإنما لم يذكر القسم المرجوح لبيان فضل القسم الراجح على الإطلاق على من سواهم والمراد بالدرجة المنزلة والرفعة عند الله في الآخرة ) وأولئك ( يعني من هذه صفتهم ) هم الفائزون ( يعني بسعادة الدنيا والآخرة ) يبشرهم ربهم ( يعني يخبرهم ربهم والشبارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستنير بشرة وجهه عند سماعه ذلك الخبر السار ثم ذكر الخبر الذي يبشرهم به فقال تعالى : ( برحمة منه ورضوان ( وهذا أعظم البشارات لأن الرحمة والرضوان من الله عز وجل على العبد نهاية مقصوده ) وجنات لهم فيها نعيم مقيم ( يعني أن نعيم الجنة دائم غير منقطع أبداً ) خالدين فيها ( يعني في الجنان وفي النعيم ) أبداً ( يعني لا انقطاع له ) إن الله عنده أجر عظيم ( يعني لمن

صفحة رقم 71
عمل بطاعته وجاهد في سبيله.
قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ( قال مجاهد : هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال ابن عباس : لما أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك الله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم وأنزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة.
قال بعضهم : حمل هذه الآية على ترك الهجرة مشكل لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي من آخر القرآن نزولاً والأقرب أن يقال إن الله سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالتبري من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فذكر الله أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه وهو قوله تعالى : ( إن استحبوا الكفر على الإيمان ( يعني إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه وتركوا الإيمان بالله ورسوله ) ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( يعني ومن يختار المقام معهم على الهجرة والجهاد فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله واختيار الكفار على المؤمنين ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا : لم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا.
)
التوبة : ( 24 - 25 ) قل إن كان...
" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين " ( ) قل ( أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ) إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشريتكم ( وقرئ على الجمع وعشيراتكم العشيرة هم الأدنون من أهل الإنسان الذين يعاشرونه دون غيرهم ) وأموال اقترفتموها ( يعني اكتسبتموها ) وتجارة تخشون كسادها ( يعني بفراقكم لها ) ومساكن ترضونها ( يعني تستوطنوها راضين بسكناها ) أحب إليكم من الله ورسوله ( يعني أحب إليكم من الهجرة إلى الله ورسوله ) وجهاد في سبيله ( فبين الله سبحانه وتعالى أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليماً وأخبر أنه كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله من المجاهدة في سبيل الله ) فتربصوا ( أي فانتظروا ) حتى يأتي الله بأمره ( يعني بقضائه وهذا أمر تهديد وتخويف وقال مجاهد ومقاتل يعني بفتح مكة ) والله لا يهدي القوم الفاسقين ( يعني الخارجين عن طاعته , وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلمين ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا.
قوله عز وجل : ( لقد نصركم الله ( النصر المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم ) في مواطن

صفحة رقم 72
كثيرة ( يعني أماكن كثيرة والمراد بها غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسراياه وبعوثه وكانت غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ما ذكره في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منهم ويقال إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون وقيل : ثمانون وهو قوله تعالى : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ( ) ويوم حنين ( يعني : ونصركم الله ففي يوم حنين أيضاً فأعلم الله سبحانه وتعالى أنه هو الذين يتولى نصر المؤمنين في كل موقف وموطن ومن يتولى الله نصره فلا غالب له وحنين اسم واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً.
وقال عروة : هو إلى جانب ذي المجاز وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان فخرج إلى حنين لقتال هوازن ويقيف في اثني عشر ألفاً عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وقال عطاء : كانوا ستة عشر ألفاً.
وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف وكان على هوازن مالك بن عوف النصري وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن رقيش لن نغلب اليوم من قلة فساء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه ووكلوا إلى كلمة الرجل.
وفي رواية : فلم يرض الله قوله ووكلهم إلى أنفسهم.
وذكر ابن الجوزي عن سعيد بن المسيب , أن القائل لذلك أبو بكر الصديق.
وحكى ابن جرير الطبري : أن القائل لذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه بعد لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان في جميع أحواله متوكلاً على لله عز وجل لا يلتفت إلى كثرة عدد ولا إلى غيره بل نظره إلى ما يأتي من عند الله عز وجل من النصر والمعونة قالوا : فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم تنادوا : يا حماة السواد اذكروا الفضائح.
فتراجعوا وانكشف المسلمون.
وقال قتادة : ذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا
( ق ) .
عن أبي إسحاق قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد على نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برقش من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول : ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نصرك ) زاد أبو خيثمة ثم وصفهم.
قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذين يحاذي به يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
عن أبي إسحاق قال : قال رجل للبراء بن عازب يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤه حسراً ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبنى نصر فرشقوهم رشقاً ما يكادون

صفحة رقم 73
يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل ودعا واستنصر وقال :
( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) ثم صفهم وروى شعبة عن أبي إسحاق قال : قال البراء إن هوازن كانوا قوماً رماة ولما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فأما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يفر.
قوله : ولكنه انطلق اخفاء من الناس : الإخفاء : جمع خفيف وهم المسرعون من الناس الذين ليس لهم ما يعوقهم.
والحسر : جمع حاسر وهو الذي لا درع عليه يقال إذا رمى القوم بأسرهم إلى جهة واحدة : رمينا رشقاً.
والرجل من الجراد القطعة الكبيرة منه.
وقوله : كنا إحمر البأس يعني إذا اشتد الحرب والبأس بالموحدة من تحت الشدة والخوف.
وقال الكلبي : كان حول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وقال غيره لم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ غير عمه العباس بن عبد المطلب وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن قتل يوم حنين بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أيمن أخو أسامة بن زيد لأمه أمهما بركاة مولاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحاضنته ( م ).
عن العباس بن عبد المطلب قال : شهدت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم نفارقه ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن فاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولي المسملون مدبرين فطفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يركض بغلته قبل الكفار قال العباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أي عباس ناد أصحاب السمرة ) فقال العباس , وكان رجلاً صيتاً : فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة.
قال : فوالله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا لبيك لبيك.
قال فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال : ثم قصرت الدعوة على بني الحرث بن الخزرج.
فقالوا : يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله

صفحة رقم 74
( صلى الله عليه وسلم ) هذا حين حمي الوطيس قال ثم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال : ( انهزموا ورب محمد ) قال : فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال : فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصيانه فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً.
قوله حمي الوطيس , أي اشتد الحرب.
قال الخطابي : هذه الكلمة لم تسمع قبل أن يقولها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من العرب وهي ما اقتضبه وأنشأه.
والوطيس في اللغة : التنور.
وقوله : حدهم كليلاً يعني لا يقطع شيئاً ( م ).
عن سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حنيناً قال : فلما غشوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم.
وقال : ( شاهدت الوجوه فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة ) فولوا مدبرين فهزمهم الله بذلك وقسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غنائمهم بين المسلمين أخرجه مسلم بزيادة فيه قال سعيد بن جبير : أمد الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
وروى أن رجلاً من بني نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البالق والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : تلك الملائكة.
وروي أن رجلاً من المشركين قال يوم حنين لما التقينا وأصحاب محمد لم يقفوا لنا حلب شاة أن كشفناهم فبينا نحن نسوقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا.
قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها.
واختلفوا هل قاتلت الملائكة يوم حنين على قولين والصحيح إنها لم تقاتل إلا يوم بدر وإنما كانت الملائكة يوم حنين مدداً وعوناً.
وذكر البغوي أن الزهري قال : بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إليّ وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فارعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحب إليّ من سمعي وبصري فقلت أشهد أنك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أطلعك الله على ما في نفسي فلما هزم الله المشركين وولوا

صفحة رقم 75
مدبرين انطلقوا إلى أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على الجيش فسار إلى أوطاس فاقتتلوا بها قوتل دريد بن الصمة وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيال المشركين وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أبو عامر أمير المسلمين.
قال الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف صبي ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم وأتى الجعرانة فأحرم منها عمرة وقسم بها غنائم حنين وأوطاس وتألف أناساً منهم أبو سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم
( ق ) .
عن أنس بن مالك أن ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الأنصار : أما ذوو رأينا يا رسول الله لم يقولوا شيئاً وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسوله الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن تذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ) قالوا : بلى يا رسول الله قد رضينا.
قال : فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض قالوا سنصبر زاد في رواية قال أنس فلم نصبر
( ق ) عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال : ( يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالى فأغناكم الله بي كلما قال شيئاً قالوا الله ورسوله أمن قال : فما منعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئاً قالوا

صفحة رقم 76
الله ورسوله آمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن تذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبوا بالنبي إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار ولو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم الأنصار شعار والناس دثار ) ( م ).
عن رافع بن خديج قال : أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس :
أتجعل نهبي ونهب العب
يد بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما
ومن يخفض اليوم لا يرفع
قال : فأتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له مائة
( خ ) عن المسور ومروان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم ) وفي رواية : وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : ( أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل ) فقال الناس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله.
فقال لهم في ذلك : ( إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ) فرجع الناس فكلمتهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فهذا الذي بلغنا من سبي هوازن وأنزل الله عز وجل في قصة حنين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين ) إذ أعجبتكم كثرتكم ( يعني حين قلتم لن نغلب اليوم من قلة ) فلم تغن عنكم ( يعني كثرتكم ) شيئاً ( يعني أن الظفر بالعدو ليس بكثرة العدد ولكن إنما يكون بنصر الله ومعونته ) وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ( يعني بسعتها وفضائها ) ثم وليتم مدبرين ( يعني منهزمين.
)
التوبة : ( 26 - 28 ) ثم أنزل الله...
" ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم " ( ) ثم أنزل الله سكينته ( يعني بعد الهزيمة والسكينة والطمأنينة

صفحة رقم 77
والأمنة , وهي فعلية من السكون وذلك أن الإنسان إذا خاف رجف فؤاده فلا يزال متحركاً وإذا أمن سكن فؤاده وثبت فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.
وقوله تعالى : ( على رسوله وعلى المؤمنين ( إنما كان إنزال السكينة على المؤمنين لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ساكن القلب ليس عنده اضطراب كما حصل للمؤمنين من الهزيمة واضطراب في هذه الواقعة ثم من الله عليهم بإنزال السكينة عليهم حتى رجعوا إلى قتال عدوهم بعد الهزيمة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثابت لم يفر ) وأنزل جنوداً لم تورها ( يعني الملائكة تثبيت المؤمنين وتشجيعهم وتخذيل المشركين وتجبينهم لا للقتال لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ) وعذب الذين كفروا ( يعني بالأسر والقتل وسبي العيال والأموال ) وذلك جزاء الكافرين ( يعني في الدنيا ثم إذا أفضوا إلى الآخرة كان لهم عذاب أشد من ذلك العذاب وأعظم ) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ( يعني فيهديه إلى الإسلام كما فعل بمن بقي من هوازن حيث أسلموا وقدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تائبين فمَّن عليهم وأطلق سبيهم ) والله غفور ( إن تاب ) رحيم ( بعباده.
قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ( قيل : أراد بالمشركين عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار.
وقيل : بل أراد جميع أصناف الكفار عبدة الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى.
والنجس : الشيء القذر من الناس وغيرهم.
وقيل : النجس الشيء الخبيث وأراد بهذه النجاسة نجاسة الحكم لا نجاسة العين.
سموا نجساً على الذم لأن الفقهاء اتفقوا على طهارة أبدانهم.
وقيل : هم أنجاس العين كالكلب والخنزير.
حتى قال الحسن بن صالح : من مس مشركاً فليتوضأ.
ويروى هذا عن الزيدية من الشيعة والقول الأول أصح وقال قتادة سماهم : نجساً لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون ) فلا يقربوا المسجد الحرام ( المراد : منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام ويؤكد هذا قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام أراد به الحرم لأنه أسرى به ( صلى الله عليه وسلم ) من بيت أم هانئ.
قال العلماء : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام أحدها : الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميماً كان أو مستأمناً لظاهر هذه الآية وبه قال الشافعي وأحمد ومالك فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوز

صفحة رقم 78
أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهدة حول الحرم القسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل نصفها تهامي ونصفها حجازي.
وقيل : كلها حجازي : وقال ابن الكلبي : حد الحجاز ما بين جبل طيء وطريق العراق سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة , ونجد.
وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة.
وقيل : لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام.
قال الحربي : وتبوك من الحجاز فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام ( م ).
عن ابن عمر أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلماً زاد في رواية لغير مسلم وأوصى فقال أخرجو المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم تاجراً ثلاثاً.
عن ابن شهاب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً ( م ).
عن جابر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ) قال سعيد بن عبد العزيز : جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر وقال غيره حد جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام وعرضاً والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.
وقوله تعالى : ( بعد عامهم هذا ( يعني العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق بالناس وفيه نادى على براءة وأن لا يحج بعد العام مشرك وهو سنة تسع من الهجرة ) وإن خفتم عيلة ( يعني فقراً وفاقة وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يجلبون إلى مكة الطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خاف أهل مكة من الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل وإن خفتم عيلة ) فسوف يغنيكم الله من فضله ( قال عكرمة : فأغناهم الله بأن أنزل المطر مدراراً وكثر خيرهم وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة : عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها ) إن شاء ( قيل : إنما شرط المشيئة في الغنى المطلوب ليكون الإنسان دائم التضرع والابتهال إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات وأن يقطع العبد أمله من كل أحد إلا من الله عز وجل فإنه هو القادر على كل شيء وقيل إن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله تبارك وتعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) إن الله عليم ( يعني بما يصلحكم ) حكيم ( يعني أنه تعالى لا يفعل شيئاً إلا عن حكمة وصواب فمن حكمته أن منع المشركين من دخول الحرم وأوجب الجزية والذل والصغار على أهل الكتاب.
)
التوبة : ( 29 ) قاتلوا الذين لا...
" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " ( قال تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ( قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك , وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود فصالحهم فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين وهذا خطاب للنبي صلى الله

صفحة رقم 79
عليه وسلم وأصحابه المؤمنين والمعنى قاتلوا إيها المؤمنون القوم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
فإن قلت اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ؟
قلت : إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه , والنصارى يعتقدون الحلول , ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن بالله.
وقيل : من اعتقد أن عزيزاً ابن الله وأن المسيح ابن الله فليس بمؤمن بالله بل هو مشرك بالله.
وقيل : من كذب رسولاً من رسل الله فليس بمؤمن بالله واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء فليسوا بمؤمنين بالله.
وأما إيمانهم باليوم الآخر , فليس كإيمان المؤمنين , وذلك أنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن.
وقوله تعالى : ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ( يعني : ولا يحرمون الخمر والخنزير.
وقيل : معناه أنهم لا يحرمون ما حرم الله في القرآن ولا ما حرم رسوله في السنة.
وقيل : معناه لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم ) ولا يدينون دين الحق ( يعني : ولا يعتقدون صحة الإسلام الذي هو دين الحق.
وقيل : الحق هو الله تعالى ومعناه : ولا يدينون دين الله ودينه الإسلام وهو قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقيل معناه ولا يدينون دين أهل الحق وهم المسلمون ولا يطيعون الله كطاعتهم ) من الذين أوتوا الكتاب ( يعني أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى ) حتى يعطوا الجزية ( وهي ما يعطى المعاهد من أهل الكتاب على عهده وهي الخراج المضروب على رقابهم سميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم ) عن يد ( يعني عن قهر وغلبة يقال لكل من أعطى شيئاً كرهاً من غير طيب نفس أعطى عن يد وقال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وقيل : يعطونها نقداً لا نسيئة.
وقيل : يعطونها مع إقرارهم بإنعام المسلمين عليهم بقبولها منهم ) وهم صاغرون ( من الصغار وهو الذل والإهانة يعني يعطون الجزية وهم أذلاء مقهورون وقال عكرمة : يعطون الجزية وهم قائمون والقابض جالس.
وقال ابن عباس : تؤخذ الجزية من أحدهم وتوطأ عنقه وقال الكلبي : إذا أعطي يصفع قفاه وقال هو أن يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه ويقال له أدِّ حق الله يا عدو الله وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم.

صفحة رقم 80
( فصل في بيان أحكام الآية )
اجتمعت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عرباً واختلفوا في أهل الكتاب العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم , فذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ولا تؤخذ من عبدة الأوثان بحال واحتج بما روي عن أنس : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث خالد بن الوليد إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية أخرجه أبو داود وقال الشافعي : وهو رجل من العرب يقال إنه من غسان وأخذ من أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب وذهب مالك والأوزاعي إلى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد.
وقال أبو حنيفة : تؤخذ من أهل الكتاب على العموم وتؤخذ من مشركي العجم ولا تؤخذ من مشركي العرب وقال أبو يوسف : لا تؤخذ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابياً كان أو مشركاً وأما المجوس فاتفقت الصحابة على جواز الأخذ منهم ويدل عليه ما روي عن بجالة بن عبيدة ويقال عبدة : لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذها من مجوس هجر.
أخرجه البخاري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( سنوابهم سنة أهل الكتاب ) أخرجه مالك في الموطأ عن ابن شهاب قال بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من مجوس فارس وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر أخرجه مالك في الموطأ وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذها منهم دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك وإنما تؤخذ من أهل الكتاب واختلفوا في أن المجوس هل هم من أهل الكتاب.
فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم واتفقوا على تحريم ذبائحهم ومناكحتهم بخلاف أهل الكتاب وأما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين فينظر فإن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل فإنهم يقرون بالجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم وإن كانوا دخلوا فيه بعد النسخ بمجيء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونسخ شريعتهم بشريعته فإنهم لا يقرون بالجزية

صفحة رقم 81
ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم ومن شككنا في أمرهم هل دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله يقرون بالجزية تغليباً لحقن الدم ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم تغليباً للتحريم ومنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب أقرهم عمر على الجزية.
وقال : لا تحل لنا ذبائحهم وأما الصابئة والسامرة فسبيلهم سبيل أهل الكتاب فهم في أهل الكتب كأهل البدع في المسلمين وأما قدرالجزية فأقلها دينار ولا يجوز أن يقنص عنه ويقبل الدينار من الغني والفقير والمتوسط ويدل عليه ما روي عن معاذ بن جبل : ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم أي محتلم ديناراً أو عدله من المغافرية ثياب تكون باليمن ) أخرجه أبو داود فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمره أن يأخذ من كل محتلم وهو البالغ ديناراً ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط وفيه دليل على أنه لا تؤخذ الجزية من الصبيان والنساء وإنما تؤخذ من الأحرار البالغين وذهب قوم إلى أن على كل موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط دينارين وعلى كل فقير ديناراً وهو قول أصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهماً ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام أخرجه مالك في الموطأ : قال أصحاب الشافعي : أقل الجزية دينار لا يزاد على الدنيار إلا بالتراضي فإذا رضي أهل اذمة بالزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير قال العلماء : إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل بخلاف أهل الشرك حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتبديل وأيضاً لإن بأيديهم كتباً قديمة فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته فأمهلوا لهذا المعنى وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب إقرارهم على كفرهم بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم رجاء أن يعرفوا الحق فيرجعوا إليه بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه.
)
التوبة : ( 30 ) وقالت اليهود عزير...
" وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون " ( قوله عز وجل : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ( الآية لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق بينه في هذه الآية فأخبرهم عنهم أنهم أثبتوا لله ولداً ومن جوز ذلك على الله فقد أشرك به لأنه لا فرق بين من يعبد صنماً وبين من

صفحة رقم 82
يعبد المسيح فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق وقد تقدم سبب أخذ الجزية منهم وإبقائهم على هذا الشرك وهو حرمة الكتب القديمة التي بأيديهم ولعلهم يتفكرون فيها ويعرفون الحق فيرجعون إليه.
روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من اليهود سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله فأنزل الله هذه الآية : وقال عبيد بن عمير إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال إن الله فقير ونحن أغنياء فعلى هذين القولين القائل لهذه المقالة جماعة من اليهود أو واحد وإنما نسب ذلك إلى اليهود في وقالت اليهود جرياً على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد تقول العرب فلان يركب الخيل وإنما يركب فرساً واحداً منها.
وتقول العرب : فلان مجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا واحداً منهم وروى عطية العوفي عن ابن عباس أنه قال : إنما قالت اليهود ذلك من أجل أن عزير كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه التوارة فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت غليه فأذن في قومه وقال يا قوم قد أتاني الله التوراة وردها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء الله ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
وقال الكلبي : إن بختنصر لما غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذا ذاك صغيراً فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله لهم عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون لهم آية بعدما أماته الله مائة سنة قال فأتى ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال أنا عزير فكذبوه وقالوا إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إن رجلاً منهم قال إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفاً فقالوا إن الله لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن الله فعلى هذين القولين أن هذا القول كان فاشياً في اليهود جميعاً ثم إنه انقطع واندرس فأخبر الله تعالى به عنهم وأظهره عليهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن خبر الله عز وجل أصدق وأثبت من إنكارهم وأما قول النصارى المسيح ابن الله فكان السبب فيه أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا فنحن

صفحة رقم 83
مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس كان يقاتل عليه فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه ثم أتى إلى النصارى فقالوا له من أنت قال : أنا عدوكم بولص فقد نوديت من السماء أنه ليس لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه السكينة ونصروه وأدخلوه بيتاً منها لم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال قد نوديت أن الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال اسم الواحد منهم نسطور والآخر يعقوب والآخر ملكان فعلم نسطور أن عيسى ومريم والإله ثلاثة وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن الله وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك فيهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له : أنت خالصتي وادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ثم قال لهم : إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وقال لكل واحد منهم : إني سأذبح نفسي تقرباً إلى عيسى ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرقوا واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله.
وقال الإمام فخر الدين الرازي , بعد أن حكى هذه الحكاية : والأقرب عندي أن يقال لعله ذكر لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك مهم وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة الحال ) ذلك قولهم بأفواههم ( يعني أنهم يقولون ذلك القول بألسنتهم من غير علم يرجعون إليه قال أهل المعاني : لم يذكر الله قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلا كان ذلك اقول زوراً وكذباً لا حقيقة له ) يضاهئون ( قال ابن عباس : يشابهون والمضاهاة المشابهة.
وقال مجاهد : يواطؤون وقال الحسن : يوافقون ) قول الذين كفروا من قبل ( قال قتادة والسدي : معناه ضاهت النصارى قول اليهود من قبلهم فقالوا : المسيح ابن الله كما قالت اليهود عزير ابن الله.
وقال مجاهد : معناه يضاهئون قول المشركين من قبل لأن المشركين كانوا يقولون : الملائكة بنات الله وقال الحسن : شبه الله كفر اليهود والنصارى بكفر الذين مضوا من الأمم الخالية الكافرة.
وقال القتيبي : يريد أن من كان في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولوهم ) قاتلهم الله ( قال ابن عباس : لعنهم الله وقال ابن جريج : قتلهم الله وقيل ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب أي حق أن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلاً يتعجب منه قاتله الله ما أعجب فعله ) أنى يؤفكون ( يعني أنى يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل وإقامة الحجة بأن الله واحد أحد فجعلوا له ولداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله سبحانه وتعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطبتهم فالله سبحانه وتعالى عجب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.

صفحة رقم 84
)
التوبة : ( 31 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم...
" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ( يعني اتخذ اليهود والنصارى علماءهم وقراءهم والأحبار العلماء من اليهود والرهبان أصحاب الصوامع من النصارى أرباباً من دون الله يعني أنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى وذلك أنهم أحلوا لهم أشياء وحرموا عليهم أشياء من قبل أنفسهم فأطاعوهم فيها فاتخذوهم كالأرباب لأنهم عبدوهم واعتقدوا فيهم الإلهية.
عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي عنقي صليب من ذهب فقال : ( يا عدي اطرح عنك هذا الوثن ) وسمعته يقرأ في سورة براءة ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ( فقال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه ( أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب.
قال عبد الله بن المبارك :
وهل بدل الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها
) والمسيح ابن مريم ( يعني اتخذوه إلهاً وذلك لما اعتقدوا فيه النبوة والحلول اعتقدوا فيه الإلهية ) وما أمروا ( يعني وما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم ) إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ( لأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة لا غيره ) لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( أي تعالى الله وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.
)
التوبة : ( 32 - 33 ) يريدون أن يطفئوا...
" يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " ( ) يريدون ( يعني يريد رؤساء اليهود والنصارى ) أن يطفئوا نور الله بأفواههم ( يعني يريد هؤلاء إبطال دين الله الذي جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بتكذيبهم إياه.
وقيل المراد : من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وهي أمور أحدها المعجزات الباهرات الخارقة للعادة التي ظهرت على يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الدالة على صدقه وثانيها القرآن العظيم الذي نزل عليه من عند الله فهو معجزة له باقية على الأبد دالة على صدقه وثالثها أن دينه الذي أمر به هو دين الإسلام ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لأمره ونهيه واتباع طاعته والأمر بعبادته والتبرئ من كل معبود سواه فهذه أمور نيرة ودلائل واضحة في صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير فقد خاب سعيه وبطل عمله ثم إن الله سبحانه وتعالى وعد نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بمزيد النصر وإعلاء الكلمة وإظهار الدين بقوله : ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ( يعني ويأبى الله أن يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ولو كره ذلك الكافرون.
قوله عز وجل : ( هو الذي أرسل رسوله ( يعني أن الله الذي يأبى إلا أن يتم نوره هو الذي أرسل رسوله يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) بالهدى ( يعني بالقرآن الذ أنزله عليه وجعله هادياً إليه ) ودين الحق ( يعني دين الإسلام ) ليظهره ( يعني ليعليه ) على الدين كله ( يعني على سائر الأديان وقال ابن عباس : الهاء في ليظهره

صفحة رقم 85
عائدة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها وقال غيره من المفسرين الهاء راجعة إلى الدين الحق والمعنى ليظهر دين الإسلام على الأديان كلها وهو ألا يعبد الله إلا به وقال أبو هريرة والضحاك ذلك عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى عليه السلام قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ) عن المقداد قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو بذل ذليل إما أن يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به وإما أن يذلهم فيدينون له ) أخرجه البغوي بغير سند ( م ) عن عائشة قالت سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ) فقلت يا رسول الله إني كنت أظن حين أنزل الله تعالى هو الذين أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله إن ذلك تام قال ( إنه سيكون ذلك ما شاء الله ثم يبعث ريحاً طيبة تتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم ) قال الشافعي : وقد أظهر الله دين رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل وقال وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا هو ظهوره على الدين كله ) ولو كره المشركون (.
)
التوبة : ( 34 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " ( قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ( قد تقدم معنى الأحبار والرهبان وإن الاحبار من اليهود والرهبان من النصرى وفي قوله سبحانه وتعالى : ( إن كثيراً ( دليل على ان الأقل من الأحبار والرهبان لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولعلهم الذين كانوا قبل بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعبر عن أخذ الأموال بالأكل في قوله تعالى : ( ليأكلون أموال الناس بالباطل ( لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصد واختلفوا في السبب الذي من أجله أكلوا أموال الناس بالباطل فقيل إنهم كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم في تخفيف الشرائع والمسامحة في الأحكام وقيل إنهم كانوا يكتبون بأيديهم كتباً يحرفونها ويبدلونها ويقولون هذه من عند الله ويأخذون بها ثمناً قليلاً وهي المآكل

صفحة رقم 86
التي كانوا يصيبونها من سفلتهم على تغيير نعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصفته في كتبه لأنهم كانوا يخافون لو آمنوا به وصدقوه لذهب عنهم تلك المآكل وقيل إن التوارة كانت مشتملة على آيات دالة على نعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان الأحبار والرهبان يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة باطلة ويحرفون معانيها طلباً للرياسة وأخذ الأموال ومنع الناس عن الإيمان به وذلك قوله تعالى : ( ويصدون عن سبيل الله ( يعني ويمنعون الناس عن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والدخول في دين الإسلام ) والذين يكنزون الذهب والفضة ( أصل الكنز في اللغة جعل المال بعضه على بعض وحفظه ومال مكنوز مجموع واختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذمهم الله بسبب كنز الذهب والفضة فقيل هم أهل الكتاب.
قال معاوية بن أبي سفيان : لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل ثم وصفهم بالبخل الشديد وهو جمع المال ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه.
وقال ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريق الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه.
وقال أبو ذر : نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين.
ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين
( خ )
عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا بأبي ذر فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشأم فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ( فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب.
فقلت : نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذين أنزلني هذا المنزل ولو أمر على عبد حبشي لسمعت وأطعت واختلف العلماء في معنى الكنز فقيل هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته وروي عن ابن عمر : أنه قال له أعرابي أخبرني عن قول الله عز وجل : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ( قال ابن عمر من كنزها فلم يؤد زكاتها ويل له هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهراً للأموال.
أخرجه البخاري.
وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال : سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال : هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة ورواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال : كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً وكل مال لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفوناً.
وروي عن علي بن أبي طالب قال : أربعة آلاف فما فوقها كنز وما دونها نفقة.
وقيل : الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
وروي الطبري بسنده عن أبي أمامة قال : توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيتان كان هذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الزكاة فكان يجب على كل من فضل معه شيء من المال إخراجه لاحتياج غيره إليه فلما فرضت الزكاة نسخ

صفحة رقم 87
ذلك الحكم.
عن ابن عباس قال : ( لما نزلت هذه الآية : والذين يكنزون الذهب والفضة , كبر على المسلمين فقال عمر : أنا أفرج عنكم.
فانطلق فقال : يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية.
فقال : ( إن الله لم يفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم.
قال : فكبر عمر ثم قال له : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته ( أخرجه أبو داود عن ثوبان قال ) لما نزلت والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة فلو علمنا أي المال خيراً اتخذناه ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن والصحيح من هذه الأقوال القول الأول وهو ما ذكرنا عن ابن عمر أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر وإن كان كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب عليه وإن قل إذا كان مما تجب فيه الزكاة ويستحق على منع الزكاة والوعيد من الله إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بعفوه وغفرانه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقتضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) قيل يا رسول الله فالإبل قال : ( ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قالولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطؤه باظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النارأخرجه مسلم بزيادة فيه قوله كلما ردت أعيدت له هكذا هو في بعض نسخ صحيح مسلم ردت بضم الراء وفي بعضها بردت بالباء وهذا هو الصواب والرواية الأولى هي رواية الجمهور قوله حلبها هو بفتح اللام على المشهور وحكى إسكانها وهو ضعيف قوله بقاع قرقر هو المستوى من الأرض الواسع الأملس والعقصاء هي الشابة الملتوية القرنين وإنما استثناها لأنها لا تؤلم بنطحها وكذا الجلحاء وهي الشاة التي لا قن لها وكذا العضباء وهي الشاة المكسورة القرن
( خ ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله سبحانه وتعالى ) ولا تحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ( ) الآية الشجاع الحية والأقرع صفة له بطول العمر لأن مَن طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات والزبيبتان هما الزبدتان في الشدقين واللهزمتان عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين.
وقوله تعالى : ( ولا ينفقونها في سبيل الله ( يعني ولا يؤدون زكاتها وإنما قال ولا ينفقونها ولم يقل ينفقونهما لأنه رد الكناية إلى المال المكنوز وهي أعيان الذهب والفضة وقيل رد الكناية إلى الفضة لأنها أغلب أموال الناس ) فبشرهم بعذاب أليم ( يعني الكافرين الذين لا يؤدون زكاة أموالهم
( ق ) .

صفحة رقم 88
عن أبي ذر قال : ( انتهيت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال : ( هم الأخسرون ورب الكعبة ( قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي منهم ؟ قال : ( هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس ( هذا لفظ مسلم وفرقه البخاري في موضعين.
)
التوبة : ( 35 - 36 ) يوم يحمى عليها...
" يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين " ( وقوله تعالى : ( يوم يحمى عليها ( يعني الكنوز فتدخل النار فيوقد عليها حتى تبيض من شدة الحرارة ) في نار جهنم فتكوى بها جباههم ( يعني الكنوز جباه كانزيها ) وجنوبهم وظهورهم ( قال ابن عباس : لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته.
قال بعض العلماء : إنما خص هذه الأعضاء , بالكي من بين سائر الأعضاء لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئاً تبدو منه آثار الكراهة والمنع فعند ذلك يقطب وجهه ويكلح وتجتمع أسارير وجهه فيتجعد جبينه ثم إن كرر السائل الطلب نأى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانباً ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال ولاه ظهره وأعرض عنه واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء

صفحة رقم 89
والبذل وهذا دأب ما نعى البر والإحسان.
وعادة البخلاء فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ( أي يقال لهم ذلك يوم القيامة ) فذوقوا ما كنتم تكنزون ( أي فذوقوا عذاب ما كنزتم في الدنيا من الأموال ومنعتم حق الله منها
( ق ) عن الأحنف بن قيس قال : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال : إن هؤلاء لا يعقلون شيئاً هذا لفظ مسلم وفيه زيادة لم أذكرها.
وزاد البخاري قلت : من هذا ؟ قالوا : أبا ذر.
قال : فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل فقال ما قلت إلا شيئاً سمعته من نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) .
قوله عز وجل : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ( هي : المحرم , وصفر , وربيع الأول , وربيع الآخر , وجمادى الأولى , وجمادى الآخرة , ورجب , وشعبان , ورمضان , وشوال , وذو القعدة , وذو الحجة , وهذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمس وخمسون يوماً والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف.
قال المفسرون : وسبب نزول هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان يقع حجهم تارة في وقته وتارة في المحرم وتارة في صفر وتارة في غيره من الشهور فأعلم الله عز وجل أن عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهراً على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تبارك وتعالى إن عدة الشهور عند الله يعني في علمه وحكمه اثنا عشر شهراً ) في كتاب الله ( يعني في اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلق وما يأتون وما يذرون.
وقيل : أراد بكتاب الله القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وقيل أراد بكتاب الله الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به ) يوم خلق السموات والأرض ( يعني أن هذا الحكم حكم به وقضاه يوم خلق السموات والأرض أن السنة اثنا عشر شهراً ) منها ( يعني من الشهور ) أربعة حرم ( وهي رجب فرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وإنما سميت حرماً لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال حتى لو أن أحدهم لقي قاتل أبيه وابنه وأخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يهجه ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيماً ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف وكذلك السيئات أيضاً أشد من غيرها فلا يجوز انتها حرمة الأشهر الحرم ) ذلك الدين القيم ( يعني ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي فالدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الكيس من دان نفسه ) يعني : حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت.
وقيل : أراد بالدين القيم

صفحة رقم 90
الحكم الذي لا يغير ولا يبدل.
والقيم هنا : بمعنى الدائم الذي لا يزول.
فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبياعاتهم وأجل ديونهم وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور
( ق ) عن أبي بكر أن البني ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلد الحرام ؟ قلنا : بلى.
قال : فأي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال : أليس يوم النحر.
قلنا : بلى.
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال : ألا هل بلغت ألا هل بلغت قلنا نعم قال : اللهم اشهد ) وقوله تعالى : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ( قيل : الكناية في فيهن ترجع إلى جميع الأشهر أي لا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقاً في جميع الأوقات إلى الممات.
وقيل : إن الكناية ترجع إلى الأشهر الحرم وهو قول أكثر المفسرين.
وقال قتادة : العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن وإن كان الظلم على كل عظيماً.
وقال ابن عباس : لا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن وقال محمد بن إسحاق بن يسار : لا تجعلوا حلالها حراماً ولا حرامها حلالاً كفعل أهل الشرك وهو النسئ.
وقيل : إن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم والفساد والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس لا جرم أن الله خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات فربما تكرها في باقي الأوقات فتصير هذه الأوقات الشريقة والأشهر المحرمة المعظمة سبباً لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض بمزيد التشريف والتعظيم.
وكذلك الأمكنة أيضا.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( يعني قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة والمعنى تعاونوا وتناصروا على قتالهم ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم كان كبيراً حراماً ثم نسخ بقوله : ( وقاتلوا المشركين كافة ( يعني في الأشهر الحرم وفي غيرهن وهذا قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري.
قالوا : لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزا هوازن بحنين وثقيفاً بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة.
وقال آخرون : إنه غير منسوخ.
قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها ) واعلموا أن الله مع المتقين ( يعني بالنصر والمعونة على أعدائه.
)
التوبة : ( 37 ) إنما النسيء زيادة...
" إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين " ( ) إنما النسئ زيادة في الكفر ( النسئ : في اللغة ,

صفحة رقم 91
عبارة عن التأخير في الوقت ومنه النسيئة في البيع ومعنى النسئ المذكور في الآية هو تأخير شهر حرام إلى شهر آخر وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعقتد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروف في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم إلى الأشهر الحلال فنسؤوا يعني أخروا تحريم شهر إلى شهر آخر فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيستحلون المحرم ويحرمون صفر فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع الأول فكانوا يصنعون هكذا يؤخرون شهراً بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة قبل حجة الوداع المرة الثانية من ذي القعدة ثم حج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجة شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى وأعلمهم أن أشهر النسئ قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) الحديث المتقدم.
وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام واختلفوا في أول من نسأ النسئ.
فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد : أول من نسأ النسئ بنو مالك بن كنانة وكان يليه جنادة بن عوف بن أمية الكناني وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان يقوم على الناس في الموسم فإذا همَّ الناس بالصدر قام فخطف الناس فيقول لا مرد لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهراً يغيرون فيه

صفحة رقم 92
فيقول : إن صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك , حلّوا الأوتار , ونزعوا الأسنة , والأزجة من الرماح , وإن قال : حلال , عقدوا أوتار القسي , وركبوا الأسنة في الرماح , وأغاروا وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له جنادة بن عوف : وهو الذين أدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من بني كنانة يقال له القلمس قال شاعرهم :
89 ( وفينا ناسئ الشهر القلمس ) 89
وكانوا يفلعون ذلك إذا اجتمعت العرب في الموسم وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من سن النسئ عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف والذي صح من حديث أبي هريرة وعائشة أن عمر بن لحي أول من سيب السوائب وقال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : رأيت عمر بن لحي يجر قصبه في النار فهذا ما ورد في تفسير النسئ الذي ذكره الله في قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر يعني زيادة كفر على كفرهم وسبب هذه الزيادة أنهم أمروا بإيقاع كل فعل في وقته من الأشهر الحرم ثم إنهم بسبب إغراضهم الفاسدة أخروه إلى وقت آخر بسبب ذلك النسئ فأوقعوه في غير وقته من الأشهر الحرم فكان ذلك الفعل زيادة في كفرهم ) يضل به الذين كفروا ( وقرئ : يضل بفتح الياء وكسر الضاد ومعناه يضل الله به الذين كفروا أو يضل به الشيطان الذين كفروا بتزيين ذلك لهم وقيل يضل بالنسئ الذين كفروا وقرئ يضل بضم الياء وفتح الضاد ومعناه أن كبارهم أضلوهم وحملوهم عليه وقرئ يضل به الذين كفروا بضم الياء وكسر الضاد ومعناه يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأفعالهم وهذا الوجه أقوى الوجهين في تفسير قراءة من قرأ يضل بضم الياء وكسر الضاد ) يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ( يعني يحلون ذلك الإنساء عاماً ويحرمونه عاماً والمعنى يحلون الشهر المحرم عاماً فيجعلونه حلالاً ليغيروا في ويحرمونه عاماً فيجعلونه محرماً فلا يغيرون فيه ) ليواطئوا ( يعني ليوافقوا ) عدة ما حرم الله ( يعني أنهم ما أحلوا شهراً من المحرم إلا حرموا شهراً مكانه من الحلال ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة كما حرم الله فيكون ذلك موافقة في العدد لا في الحكم فذلك قوله سبحانه وتعالى :

صفحة رقم 93
) فيحلوا ما حرم الله زين له سوء أعمالهم ( قال ابن عباس : زين له الشيطان هذا العمل ) والله لا يهدي القوم الكافرين ( يعني أنه سبحانه وتعالى لا يرشد من هو كافر أثيم لما سبق له في الأزل أنه من أهل النار.
)
التوبة : ( 38 - 40 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " ( قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ( نزلت هذه الآية في الحث على غزوة تبوك وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزو الروم وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر حين طابت الظلال ولم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز وعدداً كثيراً وجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذ قيل لكم يعني قال لكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : انفروا في سبيل الله , أي اخرجوا إلى الجهاد.
يقال : استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه ومنه قوله صلى لله عليه وسلم : ( وإذا استنفرتم فانفروا ) والإثم النفير اثاقلتم أي تثاقلتم وتباطأتم عن الخروج إلى الغزو إلى الأرض يعني لزمتم أرضكم ومساكنكم وإذنما استثقل ذلك الغزو لشدة الزمان وضيق الوقت وشدة الحر وبعد المسافة والحاجة إلى كثرة الاستعداد من العدد والزاد وكان ذلك الوقت وقت إدراك ثمار المدينة وطيب ظلالها وكان العدو كثيراً فاستثقل الناس تلك الغزوة فعاتبهم الله تعالى بقوله : ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ( يعني أرضيتم بخفض العيش وزهرة الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة ) فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( يعني أن لذات الدنيا ونعيمها فان زائل ينفد عن قليل ونعيم الآخرة باق على الأبد فلهذا السبب كان متاع الدنيا قليلاً بالنسبة إلى نعيم الآخرة وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأن الله سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجباً لما عاتبهم على ذلك التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور الآية الآتية وهي قوله تعالى : ( إلا تنفروا ( يعني إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى ما استنفركم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليه : ( يعذبكم عذاباً إليماً ( يعني في الآخرة لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة.
وقيل : إن المراد به احتباس المطر في الدنيا.
قال نجدة بن نفيع : سألت ابن عباس عن هذه الآية فقال : استنفر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حياً من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله تعالى عنهم المطر فكان ذلك عذابهم ) ويستبدل قوماً غيركم ( يعني خيراً منكم وأطوع.
قال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس.
وقيل : هم أهل اليمن نبه سبحانه وتعالى على أنه قد تكفل بنصرة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وإعزاز دينه فإن سارعوا معه إلى الخروج إلى حيث استنفروا حصلت النصرة بهم ووقع أجرهم على الله عز وجل وإن تثاقلوا وتخلفوا عنه حصلت النصرة بغيرهم وحصلت العتبى لهم لئلا يتوهموا أن إعزاز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونصرته لا تحصل إلا بهم وهو قوله تعالى : ( ولا تضروه شيئاً ( قيل : الضمير راجع إلى الله تعالى يعني ولا تضروا الله شيئاً لأنه غني عن العالمين وإنما تضرون أنفسكم بترككم الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل :

صفحة رقم 94
الضمير راجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعني : ولا تضروا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً فإن لله ناصره على أعدائه ولا يخذله ) والله على كل شيء قدير ( يعني أنه تعالى قادر على كل شيء فهو ينصر نبيه ويعز دينه قال الحسن وعكرمة هذا الآية منسوخة بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال الجمهور هذه الآية محكمة لأنها خطاب لقوم استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينفروا كما نقل عن ابن عباس وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
قوله عز وجل : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ( يعني إلا تنصروا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أيها المؤمنون هذا خطاب لمن تثاقل عن الخروج معه إلى تبوك فأعلم الله عز وجل أنه هو المتكفل بنصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإعزاز دينه وإعلاء كلمته أعانوه أو لم يعينوه وإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد ) إذ أخرجه الذين كفروا ( يعني أنه تعالى نصره في الوقت الذي أخرجه فيه كفار مكة من مكة حين مكروا به وأرادوا قتله ) ثاني اثنين ( يعني هو واحد اثنين وهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر ) إذ هما في الغار ( يعني إذ رسول الله صلى الله عله وسلم وأبو بكر في الغار والغار نقب عظيم يكون في الجبل وهذا الغار في جبل ثور وهو قريب من مكة ) إذ يقول لصاحبه لا تحزن ( يعني يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر الصديق لا تحزن وذلك أن أبا بكر خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهم فجزع من ذلك فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا تحزن ) إن الله معنا ( يعني بالنصر والمعونة قال الشعبي : عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر وقال الحسن بن الفضل : من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو كافر لإنكاره نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً ولا يكون كافراً.
عن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي بكر : ( أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار ) أخرجه الترمذي.
وقال : حديث حسن غريب
( ق ) .
عن أبي بكر الصديق قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) قال الشيخ محيي الدين النووي معناه : ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد وهو داخل في قوله سبحانه وتعالى أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وفيه بيان عظيم على توكل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها اللفظ الدال

صفحة رقم 95
على أن الله ثالثهما ومنها بذله نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله وطاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وملازمته النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعاداة الناس فيها ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك.
روي عن عمر بن الخطاب أنه ذكر عنده أبو بكر فقال : وددت أن عملي كله مثل عمله يوماً واحداً من أيامه وليلة واحدة من لياليه أما فليلته ليلة سار مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الغار فلما انتهيا إليه قال والله لا تدخله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخله فكنسه ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به وبقي منهما ثقبان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ادخل فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسقطت دموعه على وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( مالك يا أبا بكر ) فقال : لدغت فداك أبي وأمي فتفل عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته وأما يومه فلما قبض ( صلى الله عليه وسلم ) ارتدت العرب , وقالوا : لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم.
قال : لي أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام أنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد قال البغوي وروي أنه حين انطلق مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه.
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( مالك يا أبا بكر ) ؟ فقال : أذكر الطلب فأمشي خلفك واذكر الرصد فأمشي بين يديك فلما انتها إلى الغار قال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار فدخل فاستبرأه ثم قال انزل يا رسول الله فنزل وقال له : ( إن أقتل فأنا رجل واحد من المسلمين وإن قتلت هلكت الأمة )
( ذكر سياق حديث الهجرة وهو من أفراد البخاري )
عن عائشة قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طرفي النهار بكرة وعشياً فلما ابتلي المسلمون , خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال : اين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : اخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.
فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري

صفحة رقم 96
الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إنا أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيق ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وفي رواية فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقال لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلاً بكَّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاسعلان.
قالت عائشة : فأتى ابن الدغنى إلى أبي بكر , فقال : قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك وأرضى

صفحة رقم 97
بجوار الله والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ بمكة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للمسلمين : ( إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين ) وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل الميدنة فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ) فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال ( نعم ) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر هو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب : قال عروة قالت عائشة : فبينا نحن جلوس يوماً في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل هذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها.
فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستأذن , فأذن له فدخل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر : ( اخرج من عندك ) فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال : فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم ) قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : بالثمن.
قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمراً يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من الشعاء فيبيتان في رسل حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق السواحل وفي رواية طريق الساحل.
قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.
فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل أرها محمداً وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له : إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام

صفحة رقم 98
تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو لا يلتفت وأبو بكر يكبر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ الأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال أخف عنا ما استطعت فسألته أن يكتب لي كتبا أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشأم فكسا الزبير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه مبيضين يزول بهم السارب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه قال فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صامتاً فطفق من جاء من الأنصار لمن لم ير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك فلبث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم حين بركت به راحلته هذا إن شاء الله المنزل ثم دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقال لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً وطفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول :
هذا الحمال لا حمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول : ( اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة ) , فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.
قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت أخرجه البخاري بطوله.
( شرح غريب ألفاظ الحديث )
قولها : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين , يعني , أنهما كانا ينقادان إلى الطاعة , وبرك الغماد بفتح الباء من برك وكسر الغين المعجمة اسم موضع بينه وبين مكة خمس ليال مما يلي ساحل البحر إلى

صفحة رقم 99
المدينة من بلاد غفار.
وقيل : هو قليب ماء لبني ثعلبة.
قوله : تكسب المعدوم فيه قولان : أحدهما : أنه لقوة سعده وحظه من الدنيا لا يتعذر عليه كسب كل شيء حتى المعدوم الذي يتعذر كسبه على غيره.
والقول الثاني : إنه يملك الشيء المعدوم المتعذر لمن لا يقدر عليه ففيه وصفة بالإحسان والكرم والكل ما يثقل حمله من حقوق الناس وصلة الأرحام والقيام بأمر العيال وإقراء الضيف ونوائب الحق ما ينوب الإنسان من المغارم وقضاء الحقوق لمن يقصده أنا لك جار أي حام وناصر ومدافع عنك والاستعلان إظهار المخفي.
وقوله : فينقذف النساء عليه يعني يزدحمن عليه والذمة العهد والأمان وإخفاؤها نقضها.
واللابة : الجبل.
والحرة : الأرض التي تعلوها حجارة سود.
يقال : افعل الشيء على رسلك بكسر الراء أي على هينتك.
والراحلة : البعير القوي على الحمل والسير , والظهيرة : وقت شدة الحر والنطاق : حبل أو نحوه تشد به المرأة وسطها وترفع ثوبها من تحته فتطعف طرفاً من أعلاه إلى أسفله لئلا يصل إلى الأرض.
وقولها : ثقف لقن.
يقال : ثقف الرجل ثقافة إذا صار حاذقاً فطناً واللقن السريع الفهم.
والإدلاج : بتخفيف الدال سير أول الليل وبتشديدها سير آخره والمنحة الشاة ذات اللبن والرسل بكسر الراء وسكون السين هو اللبن يقال : نعق الراعي بالغنم إذا دعاها لتجتمع إليه.
والغلس.
ظلام آخر الليل.
والخريت : تقدم شرحه في الحديث وهو الماهر بالهداية وأراد به هداية الطريق فهو الدليل.
وقد غمس حلفاً يقال : غمس فلان حلفاً في آل فلان إذا أخذ بنصيب من عهدهم وحلفهم والأسودة الأشخاص.
والأكمة : التل المرتفع من الأرض.
يقال : قرب الفرس يقرب تقريباً إذا عدا عدواً دون الإسراع والكناية هي الجعبة التي تجعل فيها السهام والأزلام القداح التي كانوا يستقسمون بها عند طلب الحوائج كالفأل والعثان الغبار.
يقال : ما رزأت فلاناً شيئاً أي ما أصبت منه شيئاً والمراد أنهم لم يأخذوا منه شيئاً وقوله أوفى أي أشرف وأطلع.
والأطم : البناء المرتفع كالحصن , وقوله : مبيضين هو بكسر الياء أي : هم ذو ثياب بيض والمربد الموضع يوضع فيه التمر كالبيدر.
وقوله : هذا الحمال هو بالحاء المهملة يعني هذا الحمل والمحمول من اللبن أبر عند الله وأطهر وأبقى ذخراً وأدوم منفعة في الآخرة لأحمال خيبر يعني ما يحمل من خيبر من التمر والزبيب والطعام المحمول منها.
والمعنى : أن ذلك الحمل الذي نحمله من اللبن لأجل عمارة المسجد أفضل عند الله مما يحمل من خيبر وقد روى هذا الجمال بالجيم من التجمل , والرواية الأولى أشهر وأكثر والله أعلم قال الزهري : لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر الغار أرسل الله سبحانه وتعالى زوجاً من حمام حتى باضتا في أسفل النقب ونسجت العنكبوت بيتاً.
وقيل : أتت يمامة على فم الغار وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم أعم أبصارهم ) فجعل الطلب يضربون يميناً وشمالاً حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت ووجدت في بعض التفاسير شعراً وقد نسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو قوله :
قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئاً فإن الله ثالثنا
وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم بما صنعوا
وجاعل المنتهى منهم طم إلى النار

صفحة رقم 100
وقوله سبحانه وتعالى : ( فإنزل الله سكينته عليه ( يعني فأنزل الله الطمأنينة والسكون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ابن عباس عن أبي بكر لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت عليه السكينة من قبل ذلك.
( فصل في الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على فضل سيدي أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه )
منها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما اختفى في الغار من الكفار كان مطلعاً على باطن أبي بكر الصديق في سره وإعلانه وأنه من المؤمنين الصادقين الصديقين المخلصين فاختار صحبته في ذلك المكان المخوف لعمله بحاله.
ومنها : أن هذه الهجرة كانت بإذن الله فخصّ الله بصحبة نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر دون غيره من أهله وعشيرته وهذا التخصيص يدل على شرف أبي بكر وفضله على غيره.
ومنها : أن الله سبحانه وتعالى عاتب أهل الأرض بقوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله سوى أبي بكر الصديق وهذا دليل على فضله.
ومنها : أن سيدنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يتخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر ولا حضر بل كان ملازماً له وهذا دليل على صدق محبته وصحة صحبته له ومنها مؤانسته للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار وبذل نفسه له وفي هذا دليل على فضله.
ومنها : أن الله سبحانه وتعالى جعله ثاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله سبحانه وتعالى ثاني اثنين إذ هما في الغار وفي هذا نهاية الفضيلة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وقد ذكر بعض العلماء أن أبا بكر كان ثاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أكثر الأحوال ومنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا الخلق إلى الإيمان بالله فكان أبو بكر أول من آمن ثم دعا أبو بكر إلى الإيمان بالله ورسوله فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير فآمنوا على يدي أبي بكر ثم حملهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر معه في ذلك الموقف ومنه أنه لما مرض ( صلى الله عليه وسلم ) قام مقامه في الإمامة فكان ثانيه ومنها أنه ثانيه في تربته ( صلى الله عليه وسلم ) وفي هذا دليل على فضل أبي بكر الصديق ومنها أن الله سبحانه وتعالى نص على صحبة أبي بكر دون غيره بقوله سبحانه وتعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن ومنها أن الله سبحانه وتعالى كان ثالثهما ومن كان معه دل على فضله وشرفه على غيره ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بها دليل على فضله والله أعلم.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وأيده بجنود لم تروها ( يعني : وأيد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإنزال الملائكة ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته.
وقل : ألقى الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا وقال مجاهد والكلبي : أعانه بالملائكة يوم بدر فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه نصره وصرف عنه كيد الأعداء وهو في الغار في حالة القلة والخوف ثم نصره بالملائكة يوم بدر ) وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ( يعني كلمة الشرك فهي سفلى إلى يوم القيامة ) وكلمة الله هي العليا عزيز حكيم ( قال ابن عباس : هي كلمة لا إله إلا الله فهي باقية إلى يوم القيامة عالية.
وقيل : إن كلمة الذين كفروا هي

صفحة رقم 101
ما كانوا قدروها فيما بينهم من الكيد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليقتلوه وكلمة الله هي ما وعده من النصر والظفر بهم فكان ما وعد الله سبحانه وتعالى حقا وصدقاً.
)
التوبة : ( 41 ) انفروا خفافا وثقالا...
" انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( انفروا خفافاً وثقالاً ( يعني انفروا على الصفة التي يخفف عليكم الجهاد بها وعلى الصفة التي يثقل عليكم فيها وهذان الوصفان يدخل تحتها أقسام كثيرة فلهذا اختلفت عبارات المفسرين فيها.
فقال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة : يعني شباباً وشيوخاً.
وقال ابن عباس : نشاطاً وغير نشاط.
وقال عطية العوفي : ركباناً ومشاة.
وقال أبو صالح : خفافاً من المال يعني فقراء وثقالاً يعني أغنياء.
وقال ابن زيد : الخفيف الذي لا ضيعة له والثقيل الذي له الضيعة يكره أن يدع ضيعته.
ويروى عن ابن عباس قال : خفافاً أهل اليسرة من المال وثقالاً أهل العسرة.
وقيل : خفافاً يعني من السلاح مقلين منه وثقالاً يعني مستكثرين منه.
وقيلك مشاغيل وغير مشاغيل.
وقيل : أصحاء ومرضى.
وقيل : عزاباً ومتأهلين.
وقيل : خفافاً من الحاشية والأتباع وثقالاً مستكثرين منه.
وقيل : خفافاً يعني مسرعين في الخروج إلى الغزو ساعة سماع النفير وثقالاً يعني بعد التروي فيه والاستعداد له والصحيح أن هذا عام لأن هذه الأحوال كلها داخلة تحت قوله تعالى انفروا خفافاً وثقالاً يعني على أي حال كنتم فيهما.
فإن قلت : فعلى هذا يلزم الجهاد لكل أحد حتى المريض والزمن والفقير وليس الأمر كذلك فما معنى هذا الأمر.
قلت : من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ.
قال ابن عباس : نسخت هذه الآية بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية.
وقال السدي : نسخت بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية ومنهم من حمل هذا الأمر على الندب.
قال مجاهد : إن أبا أيوب الأنصاري شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتخلف عن غزوة غزاها المسلمون بعده فقيل له في ذلك , فقال : سمعت الله عز وجل يقول انفروا خفافاً وثقالاً ولا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل صاحب ضر فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد أو حفظت المتاع.
وقال صفوان بن عمرو : كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت يا عم أنت معذور عند الله , فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً إلا أنه من يحبه يبتليه والصحيح.
هو القول الأول أنها منسوخة وأن الجهاد من فروض الكفايات ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك وأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفايات ليس على الأعيان والله أعلم.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ( فيه قولان الأول أن الجهاد إنما يجب على من له مال يتقوى به على تحصيل آلاف الجهاد ونفس سليمة قوية صالحة للجهاد فيجب عليه فرض الجهاد والقول الثاني أن من كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للحرب فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره ممن يصلح للجهاد فيغزو بماله فيكون مجاهداً بماله دون نفسه ) ذلكم ( يعني ذلكم الجهاد ) خير لكم ( يعني من القعود والتثاقل عنه.
وقيل : معناه أن الجهاد خير حاصل لكم ثوابه ) إن كنتم تعلمون ( يعني أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود عنه ثم نزل في المنافقين

صفحة رقم 102
الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك.
)
التوبة : ( 42 - 45 ) لو كان عرضا...
" لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " ( قوله عز وجل : ( لو كان عرضاً قريباً ( فيه إضمار تقديره لو كان ما تدعوهم إليه عرضاً يعني غنيمة سهلة قريبة التناول والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها.
يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ) وسفراً قاصداً ( يعني سهلاً قريباً ) لاتبعوك ( يعني لخرجوا معك ) ولكن بعدت عليهم الشقة ( أي المسافة والشقة السفر البعيد , لأنه يشق على الإنسان سلوكها.
ومعنى الآية : لو كان العرض قريباً والغنيمة سهلة والسفر قاصداً لاتبعوك طمعاً في تلك المنافع التي تحصل لهم ولكن لما كان السفر بعيداً وكانوا يستعظمون غزو الروم لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب ثم أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنه إذا رجع النبي عليه السلام من هذا الجهاد يحلفون بالله وهو قوله تعالى : ( وسيحلون بالله ( يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الغزوة ) لو استطعنا لخرجنا معكم ( يعني إلى هذه الغزوة ) يهلكون أنفسهم ( يعني بسبب هذه الأيمان الكاذبة والنفاق وفيه دليل على أن الأيمان الكاذبة تهلك صاحبها ) والله يعلم إنهم لكاذبون ( يعني في أيمانهم وهو قولهم : لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
قوله عز وجل : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ( قال الطبري : هذا عتاب من الله عز وجل عاتب الله به نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أي في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم.
والمعنى : عفا الله عنك يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين اسأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك.
قال عمرو بن ميمون الأودي : اثنان فعلهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله كما تسمعون وقال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.
( فصل )
استدل بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنوب من الأنبياء وبيانه من وجهين : أحدهما , أنه سبحانه وتعالى.
قال : عفا الله عنك والعفو يستدعي سابقة الذنب الوجه الثاني أنه سبحانه وتعالى قال لم أذنت لهم وهذا استفهام معناه الإنكار.
والجواب عن الأول : إنا لا نسلم أن قوله تعالى عفا الله عنك يوجب صدور الذنب بل نقول إن ذلك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير فهو كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً له عفا الله عنك ما صنعت في أمري رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي وعافاك الله وغفر لك كل هذه الألفاظ في ابتداء الكلام وافتتاحه تدل على تعظيم المخاطب به قال علي بن الجهم يخاطب المتوكل.
عفا الله عنك إلا حرمة
تعود بفضلك أن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره
ومولى عفا ورشيداً هدى
أقلني أقالك من لم يزل
يقيل ويصرف عنك الردى
والجواب عن الثاني : أنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله لم أذنت لهم الإنكار عليه وبيانه : إما أن يكون قد صدر عنه ذنب في هذه الواقعة أولاً فإن كان قد صدر عنه ذنب فذكر الذنب بعد العفو لا يليق.
فقوله : عفا الله عنك , يدل على حصول العفو وبعد حصول العفو , يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه وإن لم يكن قد صدر عنه ذنب امتنع الإنكار عليه فثبت بهذا أن الإنكار

صفحة رقم 103
يمتنع في حقه ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال القاضي عياض في كتابه الشفاء في الجواب عن قوله عفا الله عنك لم أذنت لهم : أنه أمر لم يتقدم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولا عده تعالى عليه معصية بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه : وقد حاشاه لله من ذلك بل كان مخيراً في أمرين قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي فكيف وقد قال الله سبحانه وتعالى له فأذن لمن شئت منهم فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنه لا حرج عليه فيما فعل وليس عفا هنا بمعنى غفر بل كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق ولم تجب عليهم قط أي يلزمكم ذلك ونحوه للقشيري قال : وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب قال ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنب.
قال الداودي : إنها تكرمة.
وقال مكي : هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك وحكى السمرقندي أن معناه عفاك الله.
وقيل معناه : أدام الله لك العفو لم أذنت لهم يعني في التخلف عنك وهذا يحمل على ترك الأولى والأكمل لا سيما وهذه كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا ) حتى يتبين لك الذين صدقوا ( يعني في اعتذارهم ) وتعلم الكاذبين ( يعني فيما يعتذرون به.
قال ابن عباس : لم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت براءة.
قوله سبحانه وتعالى : ( لا يستأنذك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ( أي في أن يجاهدوا وإنما حسن هذا الحذف لظهوره ) والله عليم بالمتقين ( يعني الذين يتقون لمخالفته ويسارعون إلى طاعته ) إنما يستأذنك ( يعني في التخلف عن الجهاد معك يا محمد من غير عذر ) الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ( وهم المنافقون لقوله ) وارتابت قلوبهم ( يعني شكت قلوبهم في الإيمان وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لانه محل المعرفة والإيمان أيضاً فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقاً ) فهم في ريبهم يترددون ( يعني أن المنافقين متحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وقد اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية.
فقيل : إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله سبحانه وتعالى إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم وقيل إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة الله وجهاد عدوهم من غير استئذان فإذا عرض لأحدهم عذراً استأذن في التخلف فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مخيراً في الإذن لهم بقوله تعالى فأذن لمن شئت منهم وأما المنافقون فكانوا يستأذنون في التخلف من غير عذر فعيرهم الله تعالى بهذا الاستئذان لكونه بغير عذر.
)
التوبة : ( 46 - 48 ) ولو أرادوا الخروج...
" ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون " ( ) ولو أرادوا الخروج ( يعني إلى الغزو معكم ) لأعدوا له عدة ( لتهؤوا له بإعداد آلات السفر وآلات القتال من الكراع والسلاح ) ولكن كره الله انبعاثهم ( يعني خروجهم إلى الغزو معكم ) فثبطهم ( يعني منعهم وحبسهم عن الخروج معكم والمعنى أن الله سبحانه وتعالى كره خروج المنافقين مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصرفهم عنه وهاهنا يتوجه سؤال وهو أن خروج المنافقين مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلم قال : ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم , وإن كان فيه مفسدة.
فلم

صفحة رقم 104
عاتب نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) في أذنه لهم بالقعود والجواب عن السؤال أن خروجهم مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبر عن تلك المفسدة بقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً , بقي فلم عاتب الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله لم أذنت لهم فنقول إنه ( صلى الله عليه وسلم ) أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبر في حالهم فلهذا السبب قال الله تعالى : لم أذنت لهم ؟ وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحي إليه في أمرهم بالقعود ) وقيل اقعدوا مع القاعدين ( معناه أنهم لما استأذنوه في القعود.
قيل لهم : اقعدوا مع القاعدين وهم النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ثم اختلفوا في القائل من هو فقيل , قال بعضهم لبعض : اقعدوا مع القاعدين.
وقيل : القائل هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما قال ذلك لهم على سبيل الغضب لما استأنذوه في القعود فقال لهم اقعدوا مع القاعدين فاغتنموا ذلك وقعدوا وقيل إن القائل ذلك هو الله سبحانه وتعالى بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره انبعاثهم مع المسلمين إلى الجهاد ثم بيَّن سبحانه وتعالى ما في خروجهم من المفاسد فقال تعالى : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ( يعني لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الغزو ما زادوكم إلا فساداً وشراً وأصل الخبال اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون قال بعض النحاة : هذا من الاستثناء المنقطع والمعنى لو خرجوا فيكم ما زادوكم قوة لكن خبالاً والمراد به هنا الإفساد وإيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر وشدة السفر وكثرة العدوان وقوتهم ) ولأوضعوا خلالكم ( يعني ولأسرعوا فيكم وساروا بينكم بإلقاء النميمة والأحاديث الكاذبة فيكم ) يبغونكم الفتنة ( يعني يطلبون لكم ما تفتتنون به وذلك أنهم يقولون للمؤمنين لقد جمع لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تجبن وقيل معناه يطلبون العيب والشر ) وفيكم سماعون لهم ( قال مجاهد : يعني وفيكم عيون لهم يؤدون إليهم أخباركم وما يسمعون منكم وهم الجواسيس.
وقال قتادة : وفيكم مطيعون لهم يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم وذلك أنهم يلقون إليهم أنواعاً من الشبهات الموجبة لضعف القلب فيقبلونها منهم.
فإن قلت : كيف يجوز أن يكون في المؤمنين المخلصين من يسمع ويطيع للمنافقين ؟
قلت : يحتمل أن يكون بعض المؤمنين لهم أقارب من كبار المنافقين ورؤسائهم فإذا قالوا قولاً ربما أثر ذلك القول في قلوب ضعفة المؤمنين في بعض الأحوال ) والله عليم بالظالمين ( وهذا وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين وقوله سبحانه وتعالى : ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل ( يعني لقد طلبوا صد أصحابك يا محمد عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنكم قيل هذا اليوم كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول يوم أحد حين انصرف بأصحابه عنكم ) وقلبوا لك الأمور ( يعني وأجالوا فيك وفي أمرك

صفحة رقم 105
وفي إبطال دينك الرأي وبالغوا في تخذيل الناس عنك وقصدهم تشتيت أمرك ) حتى جاء الحق ( عين النصر والظفر ) وظهر أمر الله وهم كارهون ( يعني ذلك.
)
التوبة : ( 49 - 52 ) ومنهم من يقول...
" ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون " ( قوله عز وجل : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ( نزلت في الجد بن قيس وكان من المنافقين وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس : يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم تتخذ منهم سراري ووصفاء.
فقال الجد : يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بحب النساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي قال ابن عباس : اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( قد أذنت لك ) فأنزل الله عز وجل فيه ومنهم يعني ومن المنافقين من يقول ائذن لي يعني في التخلف والقعود في المدينة ولا تفتني يعني ببنات بني الأصفر وهم الروم ) ألا في الفتنة سقطوا ( يعني أنهم وقعوا في الفتنة العظيمة وهي النفاق ومخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقعود عنه ) وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( يعني يوم القيامة تحيط بهم وتجمعهم فيها.
قوله سبحانه وتعالى : ( إن تصبك حسنة تسؤهم ( يني إن تصبك يا محمد حسنة من نصر وغنيمة تحزن المنافقين ) وإن تصبك مصيبة ( يعني من هزيمة أو شدة ) يقولوا ( يعني المنافقين ) قد أخذنا أمرنا ( يعني أخذنا أمرنا بالجد والحزم في القعود عن الغزو ) من قبل ( يعني من قبل هذه المصيبة ) ويتولوا وهم فرحون ( يعني مسرورين لما نالك من المعصية وسلامتهم منها ) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ( يعني قل يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه لن يصيبنا إلا ما قدره الله لنا وعلينا وكتبه في اللوح المحفوظ لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروهاً نزل به أو يجلب لنفسه نفعاً أراده لم يقدر له ) هو مولانا ( يعني أن الله سبحانه وتعالى هو ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( يعني في جميع أمورهم ) قل هل تربصون بنا ( يعني : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين هل تنتظرون بنا أيها المنافقون ) إلا إحدى الحسنيين ( يعني إما النصر والغنيمة وإما الشهادة والمغفرة وذلك أن المسلم إذا ذهب إلى الغزو والجهاد في سبيل الله إما أن يغلب عدوه فيفوز بالنصر والغنيمة والأجر العظيم في الآخرة وإما أن يقتل في سبيل الله فتحصل له الشهادة وهي الغاية القصوى ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تكفل الله وفي رواية تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة ) أخرجاه في الصحيحين.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ونحن نتربص بكم ( يعني ونحن ننتظر بكم إحدى السوأيين ) أن يصيبكم الله بعذاب من عنده ( يعني

صفحة رقم 106
فيهلككم كما أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية ) أو بأيدينا ( يعني أو يصيبكم بأيدي المؤمنين بأن يظفرنا بكم ويظهرنا عليكم ) فتربصوا إنا معكم متربصون ( قال الحسن : فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه.
)
التوبة : ( 53 - 55 ) قل أنفقوا طوعا...
" قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " ( ) قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً ( نزلت في الجد بن قيس المنافق وذلك أنه استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في القعود عنه وقال أنا أعطيكم مالي فأنزل الله عز وجل رداً عليه قل أي قل يا محمد لهذا المنافق وأمثاله في النفاق أنفقوا طوعاً أو كرهاً يعني أنفقوا طائعين من قبل أنفسكم أو مكرهين بالإنفاق بإلزام الله ورسوله إياكم بالإنفاق ) لن يتقبل منكم ( لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير الله وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حل كل من أنفق ماله لغير وجه الله بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه ثم علل بسبب منع القبول بقوله ) إنكم ( أي لأنكم ) كنتم قوماً فاسقين ( والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى : ( وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ( أي المانع من قبول نفقاتهم هو كفرهم بالله وبرسوله ) ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ( جمع كسلان يعني متثاقلين في الإتيان إلى الصلاة وذلك لأنهم لا يرجون على فعلها ثواباً ولا يخافون على تركها عقاباً فلذلك ذمهم مع فعلها ) ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( لأنهم كانوا يعتقدون الإنفاق في سبيل الله مغرماً ومنع ذلك الإنفاق مغنماً ) فلا تعجبك ( يا محمد ) أموالهم ولا أولادهم ( هذا الخطاب وإن كان مختصاً بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المرد به جميع المؤمنين والمعنى فلا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم والإعجاب السرور بالشيء مع نوع من الافتخار به مع الإعتقاد أنه ليس لغيره مثله وهذا يدل على استغراق النفس بذلك الشيء ويكون سبب انقطاعه عن الله عز وجل فينبغي للإنسان أن لا يعجب بشيء من أمور الدنيا ولذاتها فإن العبد إذا كان من الله عز وجل في استدراج كثر ماله وولده فيكثر إعجابه بماله وولده فيبطر ويكفر نعم الله عليه ولهذا قال سبحانه وتعالى : ( إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ( فإن قلت كيف يكون المال والولد عذاباً في الدنيا وفيهما اللذة والسرور في الدنيا.
قلت : قال مجاهد وقتادة : في الآية تقديم وتأخير وتقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقيل : إن سبب كون المال والولد عذاباً في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الحزن والغم بسب المصائب الواقعة فيهما , فعلى هذا القول , لا حاجة إلى التقديم والتأخير في نظم الآية وأورد على هذا القول بأن هذا التعذيب حاصل لكل أحد من بني آدم مؤمنهم وكافرهم فما فائدة تخصيص المنافقين بهذا العذيب في الدنيا وأجيب عن هذا الإيراد بأن المنافقين مخصوصون بزيادة من هذا العذاب وهو أن المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وإنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً في الدنيا وأما المنافق فإنه لا يعتقد كون الآخرة له وإنه ليس فيها ثواب فبقي ما يحصل له

صفحة رقم 107
في الدنيا من التعب والشدة والغم والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا فثبت بهذا الاعتبار أن المال والولد عذاب على المنافقين في الدنيا دون المؤمنين.
وقيل : إن تعذيبهم بهما في الدنيا أخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله غير مثابين على ذلك وربما قتل الولد في الغزو فلا يثاب الوالد المنافق على قتل ولده وذهاب ماله.
وقيل : يعذبهم بالتعب في جمعه وحفظه والكره في إنفاقه والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ثم يقدم في الآخرة على ملك لا يعذره ) وتزهق أنفسهم ( يعني وتخرج أنفسهم ) وهم كافرون ( والمعنى أنهم يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة.
)
التوبة : ( 56 - 58 ) ويحلفون بالله إنهم...
" ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " ( قوله عز وجل : ( ويحلفون بالله ( يعني المنافقين ) إنهم لمنكم ( يعني على دينكم وملتكم ) وما هم منكم ( يعني أنهم كاذبون في أيمانهم ) ولكنهم قوم يفرقون ( يعني أنهم يخافون أن تظهروا على ما هم عليه من النفاق ) لو يجدون ملجأ ( يعني حرزاً وحصناً ومعقلاً يلجؤون إليه وقيل لو وجدوا مهرباً لهربوا إليه وقيل لو يجدون قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم ولفارقوكم ) أو مغارات ( يعني غيراناً في الجبل جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي يستتر ) أو مدخلاً ( يعني موضع دخول يدخلون فيه وهو السرب في الأرض كنفق اليربوع وقال الحسن : وجهاً يدخلونه على خلاف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) لولو إليه ( والمعنى أنهم لو وجدوا مكاناً بهذه الصفة أو على أحد هذه الوجوه الثلاثة وهي شر الأمكنة وأضيقها لولوا إليه أي لرجعوا إليه وتحرزوا فيه ) وهم يجمحون ( يعني وهم يسرعون إلى ذلك المكان والمعنى أن المنافقين لشدة بغضهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين لو قدروا أن يهربوا منكم إلى أحد هذه الأمكنة لصاروا إليه لشدة بغضهم إياكم.
قوله سبحانه وتعالى : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ( نزلت في ذي الخويصرة التميمي واسمه حرقوص بن زهير وهو أصل الخوارج
( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال : ( بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقسم فيئاً فأتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم فقال يا رسول الله اعدل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ويلك من يعدل إذا لم أعدل ( وفي رواية : ( قد خبت وخسرت إن لم أعدل ( فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ( زاد في رواية ) يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين ( وفي رواية ) من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ( وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين , يقال له أبو الجواظ لم تقسم بالسوية فنزلت هذه

صفحة رقم 108
الآية , وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقسم ذهباً وفضة فقال : يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل فما عدلت فقال نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويلك فمن ذا يعدل بعدي ( وقال ابن زيد قال المنافقون والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا من يهواه فأنزل الله سبحانه وتعالى ومنهم من يلزمك في الصدقات يعني ومن المنافقين من يعيبك في قسم الصدقات وفي تفريقها ويطعن عليك في أمرها يقال همزه ولمزه بمعنى واحد أي عابه ) فإن أعطوا منها ( يعني من الصدقات ) رضوا ( يعني رضوا عنك في قسمتها ) وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ( يعني وإن لم تعطهم منها عابو عليك وسخطوا.
)
التوبة : ( 59 - 60 ) ولو أنهم رضوا...
" ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم " ( ) ولو أنهم رضوا ( يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم الله لهم وقنعوا ) ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله ( أي كافينا الله ) سيؤتينا الله من فضله ورسوله ( يعني إليه ) إنا إلى الله راغبون ( يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب لو محذوف تقديره لكان خيراً لهم وأعود عليهم.
قوله عز وجل : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ( الآية اعلم أن المنافقين لما لمزو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعابوه في قسم الصدقات بيَّن الله عز وجل في هذه الآية إن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية ومصرفها إليهم ولا تعلن لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منها بشيء ولم يأخذ لنفسه منها شيئاً فلم يلمزونه ويعيبون عليه فلا مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات.
عن زياد بن الحرث الصدائي قال ( أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ) أخرجه أبو داود.
( فصل في بيان حكم هذه الآية وفيه مسائل )
المسألة الأولى : في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على الإغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس وذلك من وجوه , الوجه الأول أو المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال محبوباً بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال اشتغل به عن حب الله عز وجل وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى الله عز وجل فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن الله فيصير سبباً للقرب من الله عز وجل بإخراج الزكاة منه.
الوجه الثاني : إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها ولذاتها فأوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سببب لقساوة القلب.
الوجه الثالث سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن لأن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق على النفس فأوجب

صفحة رقم 109
الله عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال لتميز بذلك المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها.
الوجه الرابع أن المال مال الله والأغنياء خزان الله والفقراء عيال الله فأمر الله سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى عياله فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله
( ق ) .
عن أبي موسى الأشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كاملاً موفراً طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين ) الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال التي بأيدي الأغنياء فأوجب الله عز وجل نصيباً للفقراء في ذلك المال تطييباً لقلوبهم.
الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك بقي معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى لا يصير ذلك المال معطلاً بالكلية.
المسألة الثانية : الآية تدل على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا هؤلاء الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه لأن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك لأنها مركبة من إن وما فكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات لا تصرف إلا إلى الأصناف الثمانية.
المسألة الثالثة : في بيان الأصناف الثمانية فالصنف الأول للفقراء والثاني للمساكين وهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري : الفقير الذي لا يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمر إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على الشيء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.
وقال قتادة : الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن والمسكين من له مال أو حرفة ولكن لا تقع منه موقعاً لكفايته سائلاً كان أو غير سائل فالمكسين عنده أحسن حالاً من الفقير.
وقال أبو حنيفة , وأصحاب الرأي : الفقير أحسن حالاً من المسكين ومن الناس من قال لا فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن الله سبحانه وتعالى حكم بصرف الصدقات إلى هؤلاء الأصناف الثمانية دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ فالأهم فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد :
لما رأى لبد النسور تطايرت
رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال ابن الأعرابي : الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ولأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتعوذ من الفقر وقال ( اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة ) رواه الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت بهذا أن المسكين أحسن حالاً من الفقير ولأن الله سبحانه وتعالى

صفحة رقم 110
قال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملكاً مع اسم المسكنة لأن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ولأن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير قوله أو مسكيناً ذا متربة وصف المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة ولأن الله تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج أيضاً بقول الراعي : أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
واحتج أيضاً بقول الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له وكذا قال القتيبي : الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له وقيل : الفقير الذي له المسكن والخادم والمسكين الذي لا ملك له وقيل : إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنياً عن غيره قال الله سبحانه وتعالى : أنتم الفقراء إلى الله فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو مسكيناً ذا متربة فهو حجة لمذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه لأنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن الاستدلال ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه فسقط الاستدلال به وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين.
وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى ( ولا لذي مرة قوي ) عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال ( أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه ( أن رجلين أتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألاه عن الصدقة فقال : إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب ) واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال الأكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي.
وقال أصحاب الرأي : حده أن يملك مائتي درهم.
وقال قوم : من ملك خمسين درهماً أو قيمتها لا تحل له الصدقة لما روي عن ابن مسعود قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول الله وما يغنيه قال :

صفحة رقم 111
خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب ) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
وقالوا : لا يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين درهماً من الزكاة وقيل : أربعين درهماً لما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ) أخرجه أبو داود وكانت الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهماً الصنف الثالث قوله سبحانه وتعالى : ( والعالمين عليها ( وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر وبه.
قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات.
وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي يقول : هو وأجره عمل تقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استعمل رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا تحل لنا الصدقة وأن مولى القوم منهم ) أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع قوله تعالى : ( والمؤلفة قلوبهم ( وهم قسمان : قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان القسم الأول هم قوم من أشراف العرب كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤلاء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطيهم لتقوى رغبتهم في الإسلام وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في الإسلام وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطيهم تألفاً لقومهم ترغيباً لأمثالهم في الإسلام فيجوز للإمام أن يعطي أمثال هؤلاء من خمس خمس الغنيمة والفيء من سهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات أيضاً.
القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤلاء الذين بإزائهم من المسلمين لا يجاهدونهم لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم المؤلفة قلوبهم ومن هؤلاء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى الإمام فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات وقيل من سهم سبيل الله.
روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر بثلثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيراً وأما مؤلفة الكفار فهم قوم يخشى شرهم أو يرجى إسلامهم فيجوز للإمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسلامه فقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطيهم من خمس الخمس

صفحة رقم 112
كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام أما اليوم فقد أعز الله الإسلام وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من المشركين فلا يعطى مشرك تألفاً بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه.
وقال قوم : سهمهم ثابت لم يسقط.
يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس قوله سبحانه وتعالى : ( وفي الرقاب ( قال الزجاج : فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير الرقاب أقوال الأول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعد ويدل عليه أيضاً قوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم , القول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق أن سهم الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال لا بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله في الرقاب يقتضي التبعيض.
القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعقتوا من الزكاة.
قال أصحابنا : الأحوط في سهم الرقاب أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدمة بلام الملك فقال : إنما الصدقات للفقراء.
وقال : في الصنف الخامس وفي الرقاب فلا بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في تخليص رقابهم من الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس قوله سبحانه وتعالى : ( والغارمين ( أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين غرماً لكونه شاقاً على الإنسان والمراد بالغارمين هنا المدينون وهم قسمان أدانوا لأنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بدينونهم فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي عن عطاء بن يسار أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني ) أخرجه أبو داود مرسلاً لأن عطاء بن يسار لم يدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي

صفحة رقم 113
سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متصلاً بمعناه أما من كان دينه في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئاً الصنف السابع قوله تعالى : ( وفي سبيل الله ( يعني وفي النفقة في سبيل الله وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري ولا يعطى من سهم الله لمن أراد الحج عند أكثر أهل العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم سبيل الله إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال بعضهم : إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال لأن قوله وفي سبيل الله عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه.
الصنف الثامن قوله سبحانه وتعالى : ( وابن السبيل ( يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق قال الشاعر :
أنا ابن الحرب ربتني وليداً
إلى أن شبت واكتهلت لداتي
فكل مريد سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال , وقال قتادة : ابن السبيل هو الضيف وقال فقهاء العراق : ابن السبيل هو الحاج المنقطع.
وقوله تعالى : ( فريضة من الله ( يعني أن هذه الأحكام التي ذكرها في الآية فريضة واجبة من الله وقيل فرض الله هذه الأشياء فريضة ) والله عليم ( يعني بمصالح عباده ) حكيم ( يعني فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقض ولا خلل.
المسألة الرابعة : في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء هي الزكاة المفروضة بدليل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز صرفها كلها إلى بعض الأصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعض الأصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال : يجب أن يقسم زكاة ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء لأن سهم المؤلفة ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من الأصناف الستة لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منه ثلاثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثلاثة جاز فإن لم يجد من بعض الأصناف إلا واحداً دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد الاستحقاق فإن انتهت حاجة وفضل

صفحة رقم 114
شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز لأن الله سبحانه وتعالى إنما سمى هذه الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الثمانية إلا إيجاباً منه لقسمتها بينهم جميعاً وهذا قول عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل.
قال أحمد بن حنبل : يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى.
وقال إبراهيم النخعي : إن كان المال كثيراً يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلاً وضعه في صنف واحد.
وقال مالك : يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع غيله شيئاً من الصدقة فلا يعطي بعده شيئاً وإن كان محترفاً لكنه لا يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فالاعتبار عند الإمام الشافعي رضي الله عنه ما يدفع الحاجة من غير حد.
وقال أحمد بن حنبل : لا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهماً وقال أبو حنيفة : أكره أن يعطى رجل واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه فقيراً فبان أنه غني فهل يجزئ فيه قولان ولا يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يعطى والداً وإن علا ولا ولداً وإن سفل ولا زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فلا يدفع إليهم من الزكاة شيء قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنا آل بيت لا تحل لنا الصدقة ) وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم ولا تحرم على بني المطلب دليلنا قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ) وتحرم الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مولى القوم منهم ) وقال مالك لا تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ ( وأعلمهم أن الله سحبانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم ) الحديث بطوله في الصحيحين واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إلا ما حكى عن عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خرسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان والله

صفحة رقم 115
أعلم.
)
التوبة : ( 61 - 62 ) ومنهم الذين يؤذون...
" ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ( نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويعيبونه ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين بل نقول ما شئنا ثم نأتيه وننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن أي يسمع كل ما يقال له ويقبله وقيل معنى هو أذن أي ذو أذن سامعة , وقال محمد بن إسحاق : نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان أزنم ثائر الشعر أحمد العينين أسقع الخدين مشوه الخلقة وقد قال فيه النبي : ( من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث ) وكان ينم حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المنافقين.
فقيل له : لا تفعل ذلك.
فقال : إنما محمد أذن فمن حدثه شيئاً صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا , فأنزل الله هذه الآية.
ومقصد المنافقين بقوله هو أذن أنه ليس بعيد غور بل هو سليم سريع الاغترار بكل ما يسمع فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله : ( قل أذن خير لكم ( يعني هب أنه أذن لكنه أذن خير لكم كقولك رجل صدق وشاهد عدل والمعنى أنه مستمع خير وصلاح لا مستمع شر وفساد وقرئ أذن خير مرفوعين منونين ومعناه يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم ثم وصف الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله تعالى : ( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ( يعني أنه يصدق المؤمنين ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين وإنما عدي الإيمان بالله بالياء والإيمان للمؤمنين باللام لأن الإيمان بالله هو نقيض الكفر فلا يتعدى إلا بالياء فيقال : آمن بالله والإيمان للمؤمنين معناه تصديق المؤمنين فيما يقولونه فلا يقال إلا باللام ومنه قوله تعالى أنؤمن لك وقوله آمنتم له ) ورحمة ( أي هو رحمة ) للذين آمنوا منكم ( وإنما قال منكم لأن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فبين الله سبحانه وتعالى كذبهم بقوله إنه رحمة للمؤمنين المخلصين لا للمنافقين وقيل في كونه ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر ولا ينقب عن أحوالهم ولا يهتك أسرارهم ) والذين يؤذنون رسول الله لهم عذاب أليم ( يعني في الآخرة.
قوله عز وجل : ( يحلفون بالله لكم ليرضوكم ( قال قتادة والسدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ثم وديعة بن ثابت فوقعوا في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار أسمه عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام من قولهم وقال والله إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره فدعاهم فسألهم فأنكروا وحلقوا أن عامراً كذاب وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل عامر يدعو ويقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب.
فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي : نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتوه يعتذرون ويحلفون , فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى : يحلف لكم

صفحة رقم 116
أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون ليرضوكم يعني فيما بلغكم عنهم من أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) والله ورسوله أحق أن يرضوه ( اختلفوا في معنى هذا الضمير إلى ماذا يعود فقيل : الضمير عائد على الله تعالى لأن في رضا الله رضا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى والله ورسوله أحق أن يرضوه بالتوبة والإخلاص.
وقيل : يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
وقيل : معناه والله أحق أن يرضوه وكذلك رسوله : ( إن كانوا مؤمنين ( يعني إن كان هؤلاء المنافقون مصدقين بوعد الله ووعيده في الآخرة.
)
التوبة : ( 63 - 64 ) ألم يعلموا أنه...
" ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ألم يعلموا ( قال أهل المعاني ألم تعلم خطاب لمن علم شيئاً ثم نسيه أو أنكره فيقال له ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله ألم يعلموا يعني من شرائع الدين التي علمهم رسولنا ) إنه من يحادد الله ورسوله ( يعني أنه من يخالف الله ورسوله.
وأصل المحاداة في اللغة : المخالفة والمجانبة والمعادة.
واشتقاقه.
من الحد.
يقال : حاد فلان فلاناً إذا صار في غير حده وخالفه في أمره.
وقيل : معنى يحادد الله ورسوله أي يحارب الله ورسوله ويعاند الله ورسوله ) فأن له نار جهنم ( أي فحق أن له نار جهنم ) خالداً فيها ( يعني على الدوام ) ذلك الخزي العظيم ( يعني ذلك الخلود في نار جهنم هو الفضيحة العظيمة.
قوله عز وجل : ( يحذر المنافقون ( يعني يخشى المنافقون ) أن تنزل عليهم سورة ( يعني على المؤمنين ) تنبئهم ( يعني تخبر المؤمنين ) بما في قلوبهم ( يعني بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا فيما بينهم يذكرون المؤمنين بسوء ويسترونه ويخافون الفضيحة ونزول القرآن في شأنهم.
قال قتادة : وهذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة يعني أنها فضحت المنافقين وبعثرت عن أخبارهم وأثارتها وأسفرت عن مخازيهم ومثالبهم.
وقال ابن عباس : أنزل الله ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة منه على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضاً لأن أولادهم كانوا مؤمنين ) قل استهزئوا ( أمر تهديد فهو كقوله اعملوا ما شئتم ) إن الله مخرج ( أي مظهر ) ما تحذرون ( والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يظهر إلى الوجود ما كان المنافقون يسترونه ويخفونه عن المؤمنين.
قال ابن كيسان : نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلاً من المنافقين

صفحة رقم 117
وقفوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قد أضمروا له وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وكان معه عمار بن ياسر يقود ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة : ( اضرب وجوه رواحلهم فضربها حذيفة حتى نحاهم عن الطريق فلما نزل قال لحذيفة : من عرفت من القوم ؟ قال لم أعرف منهم أحداً يا رسول الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : فإنهم فلان وفلان حتى عدَّهم كلهم فقال هلا بعثت إليهم من يقتلهم فقال : أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم الله بالدبيلة ) ( م ).
عن قيس بن عباد قال : قلت لعمار : أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب أم عهداً عهده إليكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ فقال ما عهد إلينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً لم يعهده إلى الناس كافة وقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن في أمتي ) قال شعبة وأحسبه قال حدثني حذيفة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن في أمتي اثني عشر منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم ).
)
التوبة : ( 65 - 67 ) ولئن سألتهم ليقولن...
" ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا

صفحة رقم 118
نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ( الآية وسبب نزولها على ما قال زيد بن أسلم أن رجلاً من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك : ما لقرائنا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء ؟ فقال له عوف بن مالك : كذبت ولكنك منافق ولأخبرن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذهب عوف إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبره فوجد القرآن قد سبقه.
قال زيد : قال عبد الله بن عمر : فنظرت إليه , يعني إلى المنافق , متعلقة بحقب ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تنكبه الحجارة يقول إنما كنا نخوص ونلعب فيقول له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ما يزيده قال محمد بن إسحاق الذي قال هذه المقالة فيما بلغني هو وديعة بن ثابت أخو أمية بن زيد بن عمرو بن عوف.
وقال قتادة : ( بينا رسول الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا يرجوا هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك فقال نبي ( صلى الله عليه وسلم ) احبسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون ) وقال الكلبي ومقاتل : ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان منهم يستهزئان بالقرآن والرسول والثالث يضحك ) قيل كانوا يقولون إن محمداً يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك.
وقيل : كانوا يقولون إن محمداً يزعم أنه أنزل في أصحابنا قرآن إنما هو قوله وكلامه فأطلع الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك.
فقال : احبسوا على الركب فدعاهم.
وقال لهم : ( قلتم كذا وكذا ) فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب , ومعنى الآية : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما كانوا يقولون فيما بينهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب يعني كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعله الركب يقطعون الطريق باللعب والحديث , وأصل الخوض : الدخول في مائع كالماء مع الطين كثر استعماله حتى صار يستعمل في كل دخول مع تلويث وأذى ) قل ( أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين ) أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ( فيه توبيخ وتقريع للمنافقين وإنكار عليهم والمعنى كيف تقدمون على إيقاع الاستهزاء بالله يعني بفرائض الله وحدوده وأحكامه والمراد بآياته كتابه وبرسوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيحتمل أن المنافقين لما قالوا كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشام.
قال بعض المسلمين : الله يعينه على ذلك فذكر بعض المنافقين كلاماً يشعر بالقدح في قدرة الله وإنما ذكروا ذلك على طريق الاستهزاء.
قوله عز وجل : ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ( يعني قل لهؤلاء المنافقين لا تعتذروا بالباطل.
ومعنى الاعتذار محو أثر الموجدة من قلب المعتذر إليه.
وقيل : معنى العذر قطع اللائمة على الجاني.
قد كفرتم بعد إيمانكم : يعني الاستهزاء بالله كفر والإقدام عليه يوجب الكفر فلهذا قال سبحانه وتعالى لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم فإن قلت إن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فكيف قال قد كفرتم بعد إيمانكم.
قلت : معناه أظهرتهم الكفر بعد ما كنتم قد أظهرتم الإيمان وذلك أن المنافقين كانوا يكتمون الكفر ويظهورن الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر قيل لهم قد كفرتم بعد إيمانكم.
وقيل : معناه قد كفرتم عند المؤمنين بعد أن كنتم عندهم مؤمنين.
وقوله سبحانه وتعالى : ( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ( ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد طائفة والاثنان طائفة.
والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فلهذا أطلق لفظ الطائفة على الواحد.
قال محمد بن إسحاق : الذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشى بن حمير الأشجعي يقال إنه هو الذي كان يضحك ولا يخوض.
وقيل : إنه كان يمشي مجانباً لهم وينكر بعض ما يسمع فكان ذنبه أخف فلما نزلت الآية تاب من نفاقه ورجع إلى الإسلام وقال : اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ عني بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت , فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه قوله سبحانه وتعالى : ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ( يعني أنهم على أمر واحد ودين واحد مجتمعون على النفاق والأعمال الخبيثة كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ) يأمرون بالمنكر ( يعني يأمر بعضهم بعضاً بالشرك والمعصية وتكذيب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وينهون عن المعروف ( يعني عن الإيمان والطاعة وتصديق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويقبضون أيديهم ( يعني عن الإنفاق في سبيل الله تعالى وفي كل خير ) نسوا الله فنسيهم ( هذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على

صفحة رقم 119
النسيان الحقيقي لم يستحقوا ذماً عليه لأن النسيان ليس في وسع البشر دفعه وأيضاً فإن النسيان في حق الله محال فلا بد من التأويل وقد ذكروا فيه وجهين الأول معناه أنهم تركوا أمره حتى صاروا بمنزلة الناسين له فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسى من ثوابه ورحمته فخرج على مزاوجة الكلام فهو كقوله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ( " الوجه الثاني : أن النسيان ضد الذكر فلما تركوا ذكر الله وعبادته ترك الذكر لأن من ترك شيئاً لم يذكره وقيل لما تركوا طاعة الله والإيمان به تركهم من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته في العقبى ) إن المنافقين هم الفاسقون ( يعني هم الخارجون عن الطاعة.
)
التوبة : ( 68 - 69 ) وعد الله المنافقين...
" وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " ( ) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار ( يقال : وعده بالخير وعداً , ووعده بالشر وعيداً.
فالوعد يكون في الخير والشر ) نار جهنم خالدين فيها ( فيه حذف تقديره يصلونها خالدين يعني مقيمين فيها ) هي حسبهم ( يعني هي كافيتهم جزاء على كفرهم ونفاقهم وتركهم الإيمان والطاعة ) ولعنهم الله ( يعني وأبعدهم من رحمته وطردهم عن بابه ) ولهم عذاب مقيم ( أي دائم لا ينقطع.
فإن قلت قوله خالدين فيها بمعنى ولهم عذاب مقيم وهذا تكرار فما معناه ؟ قلت ليس ذلك تكراراً.
وبيان الفرق من وجهين الأول أن معناه ولهم نوع آخر من العذاب المقيم سوى الصلي بالنار.
ولقائل أن يقول : هذا التأويل مشكل لأنه سبحانه وتعالى قال في النار هي حسبهم وذلك يمنع من ضم شيء آخر إلى عذاب النار.
وأجيب عن هذا الإشكال بأن قوله هي حسبهم في الإيلام ولا يمتنع أن لا يحصل نوع آخر من العذاب من غير جنس النار كالزمهرير ونحوه ويكون ذلك زيادة في عذابهم.
الوجه الثاني : أن العذاب المقيم هو العذاب المعجل لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من خوف اطلاع المسلمين عليهم وما هم فيه من النفاق وكشف فضائحهم وهذا هو العذاب المقيم.
قوله سبحانه وتعالى : ( كالذين من قبلكم ( هذا رجوع عن الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم , شبه فعل المنافقين بفعل الكفار الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة وقيل : إنه تعالى شبه المنافقين في عدو لهم عن طاعة الله واتباع أمره لأجل طلب الدنيا بمن قبلهم من الكفار ثم وصفهم الكفار بأنهم كانوا أشد من هؤلاء المنافقين قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فقال تعالى : ( كانوا أشد منكم قوة ( يعني بطشاً ومنعة ) وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم ( يعني فتمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضاً عن الآخرة والخلاق النصيب وهو ما خلق الله للإنسان وقدر له من خير كما يقال قسم له ) فاستمتعتم بخلاقكم ( وهذا خطاب للحاضرين يعني فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم ) كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ( فإن قلت ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم إعادة ذكره في حق الأولين ثالثاً.
قلت فائدته أنه يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وشهواتها ورضاهم بها وتركهم النظر فيما يصلحهم في الدار الآخرة ثم شبه حال المخاطبين من المنافقين والكفار بحال من تقدمهم ثم رجع إلى ذكر حال الأولين ثالثاً وهذا كما تريد أن تبكت بعض الظلمة على قبح ظلمة فتقول له أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حق ويعذب بغير جرم فأنت تفعل مثل ما كان يفعل فالتكرير هنا للتأكيد وتقبيح فعلهم وفعل من شابههم في فعلهم.
وقوله تعالى : ( وخضتم كالذي خاضوا ( معطوف على ما قبله ومستند إليه

صفحة رقم 120
يعني وسلكتم في فعلكم مثل ما سلكوا في اتباع الباطل والكذب على الله وتكذيب رسوله والاستهزاء بالمؤمنين ) أولئك حبطت أعمالهم ( يعني بطلت أعمالهم ) في الدنيا والآخرة ( يعني أن أعمالهم لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة بل يعاقبون عليها ) وأولئك هم الخاسرون ( والمعنى أنه كما بطلت أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون وتخسرون
( ق ) .
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن ) )
التوبة : ( 70 - 72 ) ألم يأتهم نبأ...
" ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم " ( ) ألم يأتهم ( رجع من الخطاب إلى الغيبة يعني ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي قد تاهم ) نبأ ( يعني خبر ) الذين من قبلهم ( يعني الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا ثم ذكرهم فقال تعالى : ( قوم نوح ( يعني أنهم أهلكوا بالطوفان ) وعاد ( أهلكوا بالريح العقيم ) وثمود ( أهلكوا بالرجفة ) وقوم إبراهيم ( أهلكوا بسلب النعمة وكان هلاك نمرود ببعوضة ) وأصحاب مدين ( وهم قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة ) والمؤتفكات ( يعني المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها وهي مدائن قوم لوط.
وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الطوائف الستة , لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من أرض العرب , فكانوا يمرون عليهم ويعرفون أخبارهم ) أتتهم رسلهم بالبينات ( يعني بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها المنافقون والكفار فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم ) فما كان الله ليظلمهم ( يعني بتعجيل العقوبة ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( يعني أن الذي استحقوه من العقوبة بسبب ظلمهم أنفسهم.
قوله عز وجل : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ( لما وصف الله المنافقين بالأعمال الخبيثة والأحوال الفاسدة ثم ذكر بعده ما أعد لهم من أنواع الوعيد في الدنيا والآخرة عقبة بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة فقال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ( يعني الموالاة في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة.
فإن قلت : إنه سبحانه وتعالى قال في وصف المنافقين : بعضهم من بعض وقال في وصف المؤمنين : بعضهم أولياء بعض فما الفائدة في ذلك.
قلت : لما كان نفاق الأتباع وكفرهم إنما حصل بتقليد المتبوعين وهم الرؤساء والأكابر وحصل بمقتضى الطبيعة أيضاً قال فيهم بعضهم من بعض ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الفائدة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( يأمرون بالمعروف ( يعني بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف

صفحة رقم 121
في الشرع من خير وبر وطاعة ) وينهون عن المنكر ( يعني عن الشرك والمعصية والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع وهذا في مقابلة ما وصف به المنافقون وضده ) ويقيمون الصلاة ( يعني الصلاة المفروضة ويتممون أركانها وحدودها ) ويؤتون الزكاة ( يعني الواجبة عليهم وهو في مقابلة ويقبضون أيديهم ) ويطيعون الله ورسوله ( يعني فيما يأمرهم به وهو في مقابلة نسوا الله فنسيهم ) أولئك ( يعني المؤمنين والمؤمنات الموصوفين بهذه الصفات ) سيرحمهم الله ( لما ذكر الله ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين والمؤمنات من الرحمة والرضوان وما أعد لهم في الجنان والسين في قوله سيرحمهم الله للمبالغة والتوكيد ) إن الله عزيز حكيم ( وهذا يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فهو قادر على إيصال العقوبة لمن أراد والحكيم هو الذي يدبر عباده على ما يقتضيه العدل والإنصاف ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ( لما ذكر الله في الآيات المتقدمة وعيد المنافقين وما أعد لهم في نار جهنم من العذاب ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية ما وعد به المؤمنين من الخير والثواب والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يتحير في حسنها الناظر لأنه سبحانه وتعالى قال ومساكن طيبة في جنات عدن والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الآخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والفرق بينهما ) ومساكن طيبة ( يعني ومنازل يسكنونها طيبة ) في جنات عدن ( يعني في بساتين خلد وإقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به.
روى الطبري بسنده عن عمران بن حصين وأبي هريرة قال : ( سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الآية ومساكن طيبة في جنات عدن قال : قصر من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين ) وفي رواية : ( كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من طعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع ) وروي بسنده عن أبي الدرداء قال : ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عدن داره يعني دار الله التي لم ترها عين ولا تخطر على قلب بشر وهي مسكنه ولا يسكنها مع بني آدم غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله عز وجل طوبى لمن دخلك ) هكذا رواه الطبري فإن صحت هذه الرواية فلا بد من تأويلها فقوله عدن داره يعني دار الله وهو من باب حذف المضاف تقديره عدن دار أصفياء الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقربين من عباده.
عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) أخرجه البخاري ومسلم.
وقال عبد الله بن مسعود : عدن بطنان الجنة يعني وسطها.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال عطاء بن السائب : عدن نهر في الجنة خيامه على حافتيه , وقال مقاتل والكلبي : عدن أعلى درجة في الجنة فيها عين التسنيم والجنان حولها

صفحة رقم 122
محدقة بها وهي مغطاة من حيث خلقها الله حتى ينزلها أهلها وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض.
قال الإمام فخر الدين الرزي : حاصل هذا الكلام أن في جنات عدن قولين :
أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذ الأخبار والآثار تقوي هذا القول قال صاحب الكشاف وعدن علم بدليل قوله ) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده ( " والقول الثاني إنه صفة للجنة.
قال الأزهري : العدن مأخوذ من قولك : عدن بالمكان إذا أقام به.
يعدن عدواناً فبهذا الاشتقاق قالوا : الجنات كلها جنات عدن.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ورضوان من الله أكبر ( يعني أن رضوان الله الذي ينزله عليهم أكبر من كل ما سلف ذكره من نعيم الجنة ) ذلك هو الفوز العظيم ( إشارة إلى ما تقدم ذكره من نعيم الجنة والرضوان
( ق ) .
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبداً ) )
التوبة : ( 73 - 74 ) يا أيها النبي...
" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير " ( قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار ( يعني بالسيف والمحاربة والقتال ) والمنافقين ( يعني وجاهد المنافقين واختلفوا في صفة جهاد المنافقين وسبب هذا الاختلاف أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام ولما كان الأمر كذلك لم تجز مجاهدته بالسيف والقتال لإظهار الإسلام فقال ابن عباس : أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وإذهاب الرفق عنهم وهذا قول الضحاك أيضاً وقال ابن : مسعود بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه.
وقال الحسن وقتادة : بإقامة الحدود عليهم بعين إذا تعاطوا أسبابها وهذا القول فيه بعد لأن إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق وإنما قال الحسن وقتادة وذلك لأن غالب من كان يتعاطى أسباب الحدود فتقام عليهم في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنافقون.
قال الطبري : وأولى الأقوال قول ابن مسعود لأن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وقد دلت الآية على وجوب جهاد المنافقين وليس في الآية ذكر كيفية ذلك الجهاد فلا بد من دليل آخر وقد دلت الدلائل المنفصلة أن الجهاد مع الكفار إنما يكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة عليهم تارة وبترك الرفق بهم تارة وبالانتهار تارة وهذا هو قول ابن مسعود ) واغلظ عليهم ( يعني شدد عليهم بالجهاد والإرهاب ) ومأواهم جهنم وبئس المصير ( بمعنى أن جهنم مسكنهم وبئس المصير مصيرهم إليها.
فإن قلت كيف ترك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بين أظهر أصحابه مع علمه بهم وبحالهم.
قلت : إنما أمر الله عز وجل نبيه سيدنا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام على إظهارها.
فأما من تكلم بالكفر في السر فإذا اطلع عليه أنكره ورجع عنه وقال : إني مسلم فإنه يحكم بإسلامه في الظاهر في حقن دمه وماله وولده وإن كان معتقداً غير ذلك في الباطن لأن الله سبحانه وتعالى أمر بإجراء الأحكام على الظواهر فلذلك أجرى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنافقين على ظواهرهم ووكل سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى لأنه العالم بأحوالهم وهو يجازيهم في الآخرة بما يستحقون.
قوله عز

صفحة رقم 123
وجل : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ( اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقال عروة بن الزبير : نزلت في الجلاس بن سويد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء.
فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما قلت وخفت أن ينزل في القرآن أو أن تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك.
قال فدعا الجلاس , فقال له : يا جلاس أقلت ما قال مصعب ؟ فحلف ما قال , فأنزل الله عز وجل : يحلفون بالله ما قالوا : الآية.
وروي عن مجاهد ونحوه.
وقال ابن عباس : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالساً في ظل حجرة فقال : ( إنه سيأتينكم إنسان فينظر إليكم بعين الشيطان فإذا جاء فلا تكلموه ) , فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( علام تشتمني أنت وأصحابك ) ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنه فأنزل الله عز وجل : يحلفون بالله ما قالوا.
ثم نعتهم جميعاً إلى آخر الآية.
وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي سلول للأوس : انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك , وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قال فأنزل الله هذه الآية , هذه روايات الطبري.
وذكر البغوي عن الكلبي قال : نزلت في الجلاس بن سويد وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس : لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس.
فقال الجلاس : كذب يا رسول الله عليّ فأمرهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب على عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يده إلى السماء فقال : اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون آمين فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فإن يتوبوا يك خيراً لهم فقام الجلاس فقال : يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه فقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك منه فتاب وحسنت توبته فذلك قوله سبحانه وتعالى : ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم (

صفحة رقم 124
يعني أظهروا كلمة الكفر بعد إسلامهم وتلك الكلمة هي سب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقيل : هي كلمة الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير وقيل هي كلمة علد الله بن أبي سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وستأتي القصة في موضعها في سورة المنافقين إن شاء الله تعالى.
قوله سبحانه وتعالى : ( وهموا بما لم ينالوا ( قال مجاهد : همَّ الجلاس بقتل الذي سمع مقالته خشية أن يفشيها عليه وقيل همَّ عبد الله بن أبي بن سلول وكان همه قوله لئن رجعنا إلى المدينة فلم ينله وقيل : همَّ اثنا عشر رجلاً من المنافقين بقتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوقفوا على العقبة وقت رجوعه من تبوك ليقتلوه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك.
وقال السدي : قال المنافقون إذا رجعنا إلى المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي سلول تاجاً فلم يصلوا إليه ) وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ( يعني وما أنكروا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله والمعنى أن المنافقين علموا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن نقموا عليه وقيل إنهم بطروا النعمة فنقموا أشراً وبطراً وقال ابن قتيبة : معناه ليس ينقمون شيئاً ولا يتعرفون إلا الصنع وهذا كقول الشاعر :
ما نقم الناس من أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وهذا ليس مما ينقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئاً فهو كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهنَّ فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب.
قال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة في ضنك من العيش فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استغنوا بالغنائم.
فعلى هذا القول يكون الكلام عاماً.
وقال عروة : كان الجلاس قتل له مولى فأمر له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بديته فاستغنى.
وقال قتادة : كانت لعبد الله بن أبي دية فأخرجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له.
وقال عكرمة إن مولى لبني عدي قتل رجلاً من الأنصار فقضى له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالدية اثني عشر ألفاً وفيه نزلت ) وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ( ) فإن يتوبوا يك خيراً لهم ( يعني : فإن يتوبوا من كفرهم ونفاقهم يك ذلك خيراً لهم في العاجل والآجل ) وإن يتولوا ( يعني وإن يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر ) يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا ( يعني بالخزي والإذلال ) والآخرة ( أي ويعذبهم في الآخرة بالنار ) وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( يعني وليس لهم أحد يمنعهم من عذاب الله أو ينصرهم في الدنيا والآخرة.
)
التوبة : ( 75 ) ومنهم من عاهد...
" ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ( الآية.
روى البغوي بسند

صفحة رقم 125
الثعلبي عن أبي أمامة الباهلي قال : ( جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ( ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أمالك في رسول الله أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت ( ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم ارزق ثعلبة مالاً ( قال : فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل وادياً من أوديتها وهي تنموا كما ينمو الدود فكان يصلي مع رسول الله صل الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضاً حتى صار لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم جمعة خرج فتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم فقال : ( ما فعل ثعلبة ( ؟ فقالوا : يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنماً ما يسعها وادٍ.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ( فأنزل الله سبحانه وتعالى آية الصدقة , فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً من بني سليم ورجلاً من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما : ( مرا على ثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ( , فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما هذه إلا جزية , ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا وسمع بها السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأياها قالا : ما هذه عليك.
قال : خذاها فإن نفسي بذلك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأيي.
قالا : فأقبلا فملا رآهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال قبل أن يتكلما : ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل الله سبحانه وتعالى فيه : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ( الآية إلى قوله سبحانه وتعالى : ( وبما كانوا يكذبون ( " وعند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة لقد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك , فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ) , فلما أبى أن يقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي.
فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنا لا أقبلها.
فقبض أبو بكر ولم يقبلها

صفحة رقم 126
منه فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها منك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أبو بكر فأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها.
ثم ولي عثمان فأتاه فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان (.
وأخرجه الطبري أيضاً بسنده.
قال بعض العلماء : إنما لم يقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدقة ثعلبة , لأن الله سبحانه وتعالى منعه من قبولها منه مجازاة له على إخلافه وما وعد الله عليه وإهانة له على قوله : إنما هي جزية أو أخت الجزية , فلما صدر هذا القول منه ردت صدقته عليه إهانة له وليعتبر غيره فيه فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها ويرى أنها واجبة عليه وأنه يثاب على إخراجها ويعاقب على منعها.
وقال ابن عباس : إن ثعلبة أتى مجلساً من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه ووصلت القرابة فمات ابن عم له فورث منه مالاً فلم يف بما عاهد الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية.
وقال الحسن ومجاهد : نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا لئن رزقنا الله من فضله لنصدقن فلما رزقهما الله بخلا به.
وقال ابن السائب : إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهداً شديداً فحلف بالله لئن آتاني الله من فضله يعني ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن فلما آتاه ذلك المال لم يف بما عاهد الله عليه فنزلت هذه الآية وحاصله أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة فلما آتاه الله من فضله ما سأل لم يف بما عاهد الله عليه ومعنى الآية ومن المنافقين من أعطى الله عهداً رزقنا من فضله بأن يوسع علينا في الرزق لنصدقن يعني لنتصدقن ولنخرجن من ذلك المال صدقته ) ولنكونن من الصالحين ( يعني : ولنعملن في ذلك المال ما يعمله أهل الصلاح بأموالهم من صلة الأرحام والإنفاق في سبيل الله وجميع وجوه البر والخير وإخراج الزكاة وإيصالها إلى أهلها والصالح ضد المفسد والمفسد هو الذي يبخل بما يلزمه في حكم الشرع.
وقيل : إن المراد بقوله لنصدقن , إخراج الزكاة الواجبة , وقوله : ولنكونن من الصالحين إشارة إلى كل ما يفعله أهل الصلاح على الإطلاق من جميع أعمال البر والطاعة.
)
التوبة : ( 76 ) فلما آتاهم من...
" فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون " ( ) فلما آتاهم من فضله بخلوا به ( يعني فلما رزقهم الله لم يفعلوا من أعمال البر شيئاً ) وتولوا ( يعني عما عاهدوا الله عليه ) وهم معرضون ( يعني عن العهد.
)
التوبة : ( 77 - 79 ) فأعقبهم نفاقا في...
" فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم " ( ) فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم ( يعني فأعقبهم الله نفاقاً بأن صيرهم منافقين يقال أعقبت فلاناً ندامة إذا صارت عاقبة أمره إلى ذلك وقيل معناه أنه سبحانه وتعالى عاقبهم بنفاق قلوبهم

صفحة رقم 127
) إلى يوم يلقونه ( يعني أنه سبحانه وتعالى حرمهم التوبة إلى يوم القيامة فيوافونه على النفاق فيجازيهم عليه ) بما أخلفوا الله ما وعدوه ( يعني الصدقة والإنفاق في سبيله ) وبما كانوا يكذبون ( يعني في قولهم لنصدقن ولنكونن من الصالحين عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلة وفي رواية خصلة منهن كان فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر ) قال الشيخ محيي الدين النووي : هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق مخلد في النار فإن أخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال وكذا قد يوجد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذه أو كله.
قال الشيخ : هذا ليس بحمد الله إشكالاً ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في هذه الخصال ويتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا موجود في صاحب هذه الخصال فيكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) كان منافقاً خالصاً معناه كان شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من ندر ذلك منه فليس ذلك حاصلاً فيه هذا هو المختار في معنى الحديث.
وقال جماعة من العلماء : المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا وائتمنوا على دينهم فخافوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه , وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وروياه أيضاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال القاضي عياض : وإليه مال أكثر أئتمنا.
وحكى الخطابي قولاً آخر : إن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال وحكى أيضاً عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يواجههم بصريح القول فيقولا فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما بال أقوام يفعلون كذا ) والله أعلم.
وقال الإمام فخر الدين الرازي : ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ألم يعلموا ( يعني هؤلاء المنافقين ) أن الله يعلم سرهم ( يعني ما تنطوي عليه صدورهم من النفاق ) ونجواهم ( يعني ويعلم ما يفاوض به بعضهم بعضاً فيما بينهم والنجوى هو الخفي من الكلام يكون بين القوم والمعنى أنهم يعلمون أن الله يعلم جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها ) وأن الله علام الغيوب ( وهذا مبالغاً في العلم يعني أن الله عالم بجميع الأشياء فكيف تخفى عليه أحوالهم.
قوله عز وجل : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات (

صفحة رقم 128
الآية
( ق ) عن أبي مسعود البدري قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحمل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت ) الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم ( الآية وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حث على الصدقة , فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت ) فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمان ماله لهما مائة وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال : يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينثرة في الصدقات فلمزهم المنافقون.
فقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقة فأنزل الله سبحانه وتعالى الذين يلمزون يعيبون المطوعين يعني المتبرعين من المؤمنين يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي في الصدقات والتطوع التنفل بما ليس بمواجب عليه ) والذين لا يجدون إلا جهدهم ( يعني أبا عقيل الأنصاري والجهد بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وقيل : الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقد يكون القليل من المال الذي يأتي به فيتصدق به أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به فيتصدق به لأن الغني أخرج ذلك المال الكثير عن قدرة وهذا الفقير أخرج القليل إنما أخرجه عن ضعف وجهد وقد يؤثر المحتاج إلى المال غيره رجاء ما عند الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) فيسخرون منهم ( يعني أن المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين في إنفاقهم المال في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قولهم لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنياً وكان يعيرون الفقير الذي يتصدق بالقليل ويقولون : إنه لفقير محتاج إليه فكان يتصدق به وجوابهم إن كل من يرجو ما عند الله من الخير والثواب يبذل الموجود لينال ذلك الثواب الموعود به وقوله سبحانه وتعالى : ( سخر الله منهم ( يعني أنه سبحانه وتعالى جازاهم على سخريتهم ثم وصف ذلك وهو قوله تعالى : ( ولهم عذاب أليم ( يعني في الآخرة.
)
التوبة : ( 80 - 82 ) استغفر لهم أو...
" استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( قال المفسرون : لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وبان نفاقهم وظهر للمؤمنين جاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعتذرون إليه ويقولون استغفر لنا فنزلت استغفر لهم أو لا تستغفر فلن يغفر الله لهم وإنما خص سبحانه وتعالى السبعين من العدد بالذكر لأن العرب كانت تستكثر السبعين ولهذا كبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما صلى على عمه حمزة رضي الله تعالى عنه سبعين تكبيرة ولأن آحاد السبعين سبعة وهو عدد شريف فإن السموات والأرضين سبع والأيام سبع والأقاليم سبع والبحار سبع والنجوم السيارة سبع فلهذا خص الله تبارك وتعالى السبعين بالذكر

صفحة رقم 129
للمبالغة في اليأس من طمع المغفرة لهم.
قال الضحاك ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله قد رخص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم ) فأنزل الله سبحانه وتعالى سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم
( ق ) عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله يعني بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا رسول الله نصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليك فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم : ( إنما خيرني الله عز وجل فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على السبعين ) قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل ولا تصلي على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون زاد في رواية فترك الصلاة عليهم.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ( يعني أن هذا الفعل من الله وهو ترك العفو عنهم وترك المغفرة لهم من أجل أنهم اختاروا الكفر على الإيمان بالله ورسوله ) والله لا يهدي القوم الفاسقين ( يعني والله لا يوافق للإيمان به وبرسوله من اختار الكفر والخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله.
قوله عز وجل : ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ( يعني فرح المتخلفون عن غزوة تبوك والمخلف المتروك بمقعدهم يعني بقعودهم في المدينة خلاف رسول الله يعني بعده وعلى هذا المعنى خلاف بمعنى خلف فهو اسم للجهة المعينة لأن الإنسان إذا توجه إلى قدامه فمن تركه خلفه فقد تركه بعده وقيل معنه مخالفة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين سار إلى تبوك وأقاموا بالمدينة لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أمرهم بالخروج إلى الجهاد فاختاروا القعود مخالفة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ( والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الخروج إلى الجهاد وذلك أن الإنسان يميل بطبعه لى إيثار الراحة والقعود مع الأهل والولد ويكره إتلاف النفس والمال وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وقالوا لا تنفروا في الحر ( وكانت غزوة تبوك في شدة الحر فأجاب الله عن هذا بقوله سبحانه وتعالى : ( قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ( يعني : قل يا محمد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود خلافك عن الجهاد في الحر أن نار جهنم التي هي موعد في الآخرة أشد حراً من حر الدنيا لو كانوا يعلمون.
قال ابن عباس : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف.
فقال رجال : يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفر في الحر فقال الله عز وجل قل نار جهنم أشد حراً لوكانوا يفقهون فأمره الله تعالى بالخروج ) فليضحكوا قليلاً ( يعني فليضحك هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرحين قليلاً في الدنيا الفانية بمقعدهم خلافه ) وليبكوا كثيراً ( يعني مكان ضحكهم في الدنيا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار والمعنى : إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة لأن الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل ) جزاء بما كانوا يكسبون ( يعني أن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم

صفحة رقم 130
وأعمالهم الخبيثة في الدنيا
( خ ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت ) )
التوبة : ( 83 - 85 ) فإن رجعك الله...
" فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( فإن رجعك الله ( يعني فإن ردك الله يا محمد من غزاتك هذه ) إلى طائفة منهم ( يعني إلى المتخلفين عنك وإنما قال منهم لأنه ليس كل من تخلف بالمدينة عن غزوة تبوك كان منافقاً مثل أصحاب الأعذار ) فاستأذنوك للخروج ( يعني فاستأذنك المنافقون الذين تخلفوا عنك وتحقق نفاقهم في الخروج معك إلى غزوة أخرى ) فقل لن تخرجوا معي أبداً ( يعني فقل يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج وهم مقيمون على نفاقهم لن تخرجوا معي أبداً لا إلى غزوة ولا إلى سفر ) ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم ( يعني لأنكم ) رضيتم بالقعود أول مرة ( يعني أنكم رضيتم بالتخلف عن غزوة تبوك ) فاقعدوا مع الخالفين ( يعني : مع المتخلفين من النساء والصبيان.
وقيل : مع المرضى والزمنى.
وقال ابن عباس : مع الذين تخلفوا بغير عذر.
وقيل : مع المخالفين يقال صاحب خالف إذا كان مخالفاً كثير الخلاف وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته لأن الله سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الجهاد وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات.
قوله عز وجل : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ( الآية , قال قتادة : بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مريض ليأتيه قال فنهاه عمر عن ذلك فأتاه نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما دخل عليه نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أهلكك حب اليهود ) فقال يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله قميصه أن يكفن فيه فأعطاه إياه واستغفر له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمات فكفنه في قميصه ( صلى الله عليه وسلم ) ونفث في جلده ودلاه في قبره فأنزل الله سبحانه وتعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره الآية
( خ ) .
عن عمر بن الخطاب : قال لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله صلى الله علي وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه فلما قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا كذا وكذا عدد عليه وقوله فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( أخر عني يا عمر ) فلما أكثرت عليه قال : ( إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ) قال فصلى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إلى قوله وهم فاسقون قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ والله ورسوله أعلم.
وأخرجه الترمذي وزاد فيه فما صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله تعالى
( ق ) عن جابر قال : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به

صفحة رقم 131
فاخرج فوضعه على ركبتيه ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه والله أعلم.
قال : وكان كسا عباساً قميصاً قال سفيان وقال أبو هارون : وكان على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قميصان فقال له ابن عبد الله يا رسول الله ألبس عبد الله قميصك الذي يلي جلدك.
قال سفيان : فيرون أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع وفي رواية عن جابر قال : لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) له قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي إياه فلذلك نزع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قميصه الذي ألبسه.
( فصل )
قد وقع في هذه الأحاديث التي تتضمن قصة موت عبد الله بن أبي بن سلول المنافق صورة اختلاف في الروايات ففي حديث ابن عمر المتقدم , أنه لما توفي عبد الله بن أبي سلول أتى ابنه عبد الله إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه وصلى عليه وفي حديث عمر بن الخطاب من إفراد البخاري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعى له ليصلي عليه.
وفي حديث جابر : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه.
قميصه ووجه الجمع بين هذه الروايات أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أعطاه قميصه فكفن فيه ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى عليه وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه فالظاهر والله أعلم أنه صلى عليه أولاً كما في حديث عمر وابن عمر ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه ثانياً بعد ما أدخل حفرته فأخرجه منها ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه لينفث عليه من ريقه ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) ألبسه قميصه بيده الكريمة فعل هذا كله بعبد الله بن أبي تطييباً لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابياً مسلماً صالحاً مخلصاً , وأما قول قتادة : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاده في مرضه وأنه سأله أن يستغفر له وأن يعطيه قميصه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه واستغفر له وصلى عليه ونفث في جلده ودلاه في حفرته فهذه جمل من القول ظاهرها الترتيب وما المراد بهذا الترتيب إلا توفيقاً بين الأحاديث فيكون قوله : ونفث في جلده ودلاه في قبره جملة منقطعة عما قبلها.
يعني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) فعل ذلك بعد ما أعطاه القميص وبعد أن صلى عليه والله أعلم.
وقال القرطبي في شرح صحيح مسلم له أن عبد الله بن أبي بن سلول كان سيد الخرزج في آخر جاهليتهم فلما ظهر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وانصرف إليه الخزرج وغيرهم حسده وناصبه العداوة غير أن الإسلام غلب عليه فنافق وكان رأساً في المنافقين وأعظمهم نفاقاً وأشدهم كفراً وكان المنافقون كثيراً حتى لقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا ثلثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة وكان ولده عبد الله يعني ولد عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاماً وأكثرهم عبادة وأشرحهم صدراً وكان أبر الناس بأبيه ومع ذلك فقد قال يوماً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : يا رسول الله إنك لتعلم أني من أبر الناس بأبي وإن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : بل نعفو عنه وكان من أحرص الناس على إسلام أبيه وعلى أن ينتفع من بركات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشيء ولذلك لما مات أبوه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطيه قميصه لكيفنه فيه فينال من بركاته فأعطاه وسأله أن يصلي عليه فصلى عليه كل ذلك

صفحة رقم 132
إكراماً لابنه عبد الله وإسعافاً له ولطلبته من قول عمر تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه يحتمل أن يكون قبل نزول ولا تصل على أحد منهم مات أبداً.
ويظهر من هذا السياق أن عمر وقع في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه فيكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ويحتمل أن يكون فهمه من سياق قوله : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وهذان التأويلان فيهما بعد.
قال القرطبي : والذي يظهر لي , والله أعلم , أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقة سياقة هي أبين من هذه وليس فيها هذا اللفظ فقال عن ابن عباس عن عمر لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال عمر : وثبت إليه الحديث , إلى قوله فصلى عليه ثم انصرف فلم يلبث إلا يسيراً حتى أنزلت عليه الآيتان من براءة.
قال القرطبي : وهذا مساق حسن وتنزيل متقن ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم فهو الأولى وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( سأزيد على السبعين ) وعد بالزيادة وهو مخالف لما في حديث ابن عباس عن ابن عمر فإنه فيه لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضاً ويقيد بعضها بعضاً فلذلك قال لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت فقد علم أنه لا يغفر له.
وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني خيرت ) مشكل مع قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافراً وهو متقدم على الآية التي فيها التخيير والجواب عن هذا الإشكال أن المنهى عنه استغفاره لمن تحقق موته على الكفر والشرك.
وأما استغفاره لأولئك المنافقين المخير فيهم فهو قد علم ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا يقع ولا ينفع وغايته وإن وقع كان تطييباً لقلوب الأحياء من قراباتهم فانفصل الاستغفار المنهى عنه من المخير فيه وارتفع الإشكال بمحمد الله والله أعلم.
وقال الشيخ محيي الدين النووي : إنما أعطاه قميصه ليكفنه فيه تطييباً لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابياً صالحاً وقد سأل ذلك فأجابه إليه وقيل بل أعطاه مكافأة لعبد الله بن أبي المنافق الميت لأنه ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصاً وفي الحديث بيان مكارم أخلاق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء له وقابله بالحسنى وألبسه قميصه كفناً وصلى عليه واستغفر له قال الله سبحانه وتعالى وإنك لعلى خلق عظيم وقال البغوي : قال سفيان بن عيينة كانت له يد عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأحب ان يكافئه بها ويروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه ) فيروى أنه أسلم ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقوله سبحانه وتعالى : ( ولا تقم على قبره ( يعني لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه ) إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبرة ولما نزلت هذه الآية ما صلى رسول الله عليه وسلم على

صفحة رقم 133
منافق ولا قام على قبره وبعدها.
فإن قلت : الفسق أدنى حالاً من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافراً دخل تحته الفسق وغيره فما الفائدة في وصفه بكونه فاسقاً بعد ما وصفه بالكفر قلت إن الكافر قد يكون عدلاً في نفسه بأن يؤدي الأمانة ولا يضمر لأحد سوءاً وقد يكون خبيثاً في نفسه كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير وهذ أمر مستقبح عند كل أحد ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة وصفهم الله سبحانه وتعالى بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر.
قوله تعالى : ( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( الكلام على هذه الآية في مقامين المقام الأول في وجه التكرار والحكمة فيه أن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل أولاً وتأكيده وإرادة أن يكون المخاطب به على بال ولا يغفل عنه ولا ينساه وأن يعتقد أن العمل به مهم وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه وهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب والخواطر الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى وبالجملة فالتكرير يراد به التأييد والمبالغة في التحذير من ذلك الشيء الذي وقع الاهتمام به وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين كان لهم أموال وأولاد عند نزولها وبالآية الأخرى أقواماً آخرين منهم المقام الثاني في وجه بيان ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين وذلك أنه قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك بالفاء وقال هنا ولا تعجبك بالواو والفرق بينهما أنه عطف الآية الأولى على قوله ولا ينفقون إلا وهم كارهون وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء في قوله فلا تعجبك وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها فلهذا أتى بحرف الواو وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وأسقط حرف لا هنا قال سبحانه وتعالى وأولادهم والسبب فيه أن حرف لا دخل هناك لزيادة التأكيد فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد وكان إعجابهم بأولادهم أكثر وفي إسقاط حرف لا هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى إنما يريد الله ليعذبهم بحرف اللام وقال سبحانه وتعالى هنا أن يعذبهم بحرف أن والفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف اللام فمعناه أن كقوله سبحانه وتعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله ومعناه وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله وقال تبارك وتعالى في الآية الأولى في الحياة الدنيا وقال تعالى هنا في الدنيا والفائدة في إسقاط لفظة الحياة التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى حيث إنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دنائتها فهذه جمل في ذكر الفرق بين هذه الألفاظ الله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
)
التوبة : ( 86 - 90 ) وإذا أنزلت سورة...
" وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم " ( قوله عز وجل : ( وإذا أنزلت سورة ( يحتمل أن يراد بالسورة بعضها لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز ويحتمل أن يراد جميع السورة.
فعلى هذا المراد بالسورة براءة لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان والأمر بالجهاد ) أن ( أي بأن ) آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله (.
فإن قلت : كيف يأمرهم بالإيمان مع كونهم مؤمنين فهو من باب تحصيل الحاصل قلت : معناه الأمر بالدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل.
وقيل : إن الأمر بالإيمان يتوجه على كل أحد في كل ساعة.
وقيل : إن هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم

صفحة رقم 134
المنافقون والمعنى أن أخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن الجهاد بغير إيمان لا يفيد أصلاً فكأنه قيل للمنافقين : الواجب عليكم أن تؤمنوا بالله أولاً وتجاهدوا مع رسوله ثانياً حتى يفيدكم ذلك الجهاد فائدة يرجع عليكم نفعها في الدنيا والآخرة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( استأذك أولوا الطول منهم ( قال ابن عباس : يعني أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال وقيل : هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم وفي تخصيص أولى الطول بالذكر قولان : أحدهما أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد.
والقول الثاني : إنما خص أولي الطول بالذكر لأأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان ) وقالوا ( يعني أولي الطول ) ذرنا نكن مع القاعدين ( يعني في البيوت مع النساء والصبيان وقيل مع المرضى والزمنى ) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ( قيل : الخوالف النساء اللواتي يتخلفن في البيوت فلا يخرجن منها , والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء وقيل : خوالف جمع خالفة وهم أدنياء الناس وسفلتهم يقال فلان خالفة قومه إذا كان دونهم ) وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( يعني : وختم على قلوب هؤلاء المنافقين فهم لا يفقهون مراد الله في الأمر بالجهاد.
قوله سبحانه وتعالى : ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ( أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم يعني الرسول والمؤمنين ) وأولئك لهم الخيرات ( منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة وقيل الحور لقوله فيهن خيرات حسان وهي جمع خيرة تخفيف خيرة ) وأولئك هم المفلحون ( أي الفائزون بالمطالب.
قوله سبحانه وتعالى : ( أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ( بيان لما لهم من الخيرات الأخروية.
قوله سبحانه وتعالى : ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ( يعني وجاء المعتذرون من أعراب البوادي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعتذرون إليه في التخلف عن الغزو معه.
قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معتذرين إليه دفاعاً عن أنفسهم فقالوا يا نبي الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم ) وقيل : هم نفر من بن غفار رهط خفاف بن إيماء بن رحضة.
وقيل : هم من أسد وغطفان.
وقال ابن عباس هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وجاء المعذرون : أي المقصرون.
يعني : أنهم قصروا ولم يبالغوا فيما اعتذروا به والمعذر من يرى أن له عذراً ولا عذر له.
إن الأصل في هذا اللفظ عند النحاة المعتذرون أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما والاعتذار في كلام العرب على قسمين يقال اعتذر إذا كذب في عذره ومنه قوله تعالى يعتذرون إليكم فرد الله عليهم بقوله قل لا تعتذروا فدل ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه ويقال اعتذر إذا أتى بعذر صحيح ومنه قول لبيد :
89 ( ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ) 89
يعني فقد جاء بعذر صحيح.
وقيل : هو من التعذير الذي هو التقصير.
يقال : عذر تعذيراً إذا قصروا ولم يبالغ فعلى هذا المعنى , يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسيرين من قال :

صفحة رقم 135
إنهم كانوا صادقين , بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعده ) وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ( فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دلَّ ذلك على أنهم ليسوا كاذبين ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام , قال : إن قوماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله وجاء المعذورن وتخلف آخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جرأة على الله تعالى فهم المراد بقوله وقعد الذين كذبوا الله ورسوله وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله يعني في ادعائهم الإيمان ) سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ( يعني في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال منهم لأنه سبحانه وتعالى علم أن منهم من سيؤمن ويخلص في إيمانه فاستثناهم الله من المنافقين الذي أصروا على الكفر والنفاق وماتوا عليه.
)
التوبة : ( 91 - 93 ) ليس على الضعفاء...
" ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون " ( قوله عز وجل ) ليس على الضعفاء ( لما ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد واعتذروا بأعذار باطلة عقبه بذكر أصحاب الأعذار الحقيقية الصحيحة وعذرهم وأخبر أن فرض الجهاد عنهم ساقط فقال سبحانه وتعالى : ليس على الضعفاء والضعيف هو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو وتحمل مشاق السفر والجهاد مثل الشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفاً نحيفاً ويدل على أن هؤلاء الأصناف هم الضعفاء أن الله سبحانه وتعالى عطف عليهم المرضى فقال سبحانه وتعالى : ( ولا على المرضى ( والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فأما المرضى فيدخل فيهم أهل العمى والعرج والزمانة وكل من كمان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من الجهاد والسفر للغزو ) ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ( يعني الفقراء العاجزين عن أهبة الغزو والجهاد , فلا يجدون الزاد والراحلة والسلاح ومؤنة السفر لأن العاجز عن نفقة الغزو معذور ) حرج ( أي ليس على هؤلاء الأصناف الثلاثة حرج أي إثم في التخلف عن الغزو.
وقال الإمام فخر الدين الرازي : ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم فإن ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط على الضعفاء في جواز التخلف عن الغزو شرطاً معيناً وقوله سبحانه وتعالى : ( إذا نصحوا لله ورسوله ( ومعناه : أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو وقاموا بمصالح بيوتهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وتابعوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإن جملة هذه الأمور تجري مجرى النصح لله ورسوله ) ما على المحسنين من سبيل ( أي ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلفه عن الجهاد بعذر قد أباحه الشارع طريق يتطرق عليه فيعاقب عليه والمعنى أنه سد بإحسانه طريق العقاب عن نفسه ويستنبط من قوله ما على المحسنين من سبيل أن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مخلصاً من قلبه ليس عليه سبيل في نفسه وماله إلا ما أباحه الشرع بدليل منفصل ) والله غفور ( يعني لمن تخلف عن الجهاد بعذر ظاهر أباحه الشرع ) رحيم ( يعني : أنه تعالى رحيم بجميع عباده.
قال قتادة : نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو وأصحابه.
وقال الضحاك : نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر ولما ذكر الله عز وجل هذه الأقسام الثلاثة من المعذورين أتبعه بذكر قسم رابع وهو قوله تعالى : ( ولا على الذين إذا ما أتوك ( يعني ولا حرج ولا إثم في التخلف عنك على الذين إذا ما أتوك ) لتحملهم ( يعني يسألونك الحملان ليبلغوا إلى غزو عدوك وعدوهم والجهاد

صفحة رقم 136
معك يا محمد.
قال ابن إسحاق : نزلت في البكائين وكانوا سبعة.
ونقل الطبري عن محمد بن كعب وغيره قالوا : جاء ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستحملونه فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فأنزل الله هذه الآية وهم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ومن بني واقف جرمي بن عمير ومن بني مازن ابن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه ذلك ومن بني سلمة عمرو بن عنمة وعبد الله بن عمر المزني.
وقال البغوي : هم سبعة نفس سمعوا البكائين معقل بن يسار , وصخر بن خنساء , وعبد الله بن كعب الأنصاري , وعلية بن زيد الأنصاري , وسالم بن عمير , وثعلبة بن عنمة , وعبد الله بن مغفل المزني , قال : أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا رسول الله إن الله عز وجل قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا.
فقال : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) وقال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة إخوة.
معقل , وسويد , والنعمان بنو مقرن.
وقيل : نزلت في العرباض بن سارية , ويحتمل أنها نزلت في كل ما ذكر.
قال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب.
وقيل : بل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا أجد ما أحملكم عليه ) , فولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين.
فذلك قوله سبحانه وتعالى : ( قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع ( قال صاحب الكشاف : وكقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض جمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ومن البيان كقولك أفديك من رجل ) حزناً ألاّ يجدوا ما ينفقون ( يعني على أنفسهم في الجهاد ) إنما السبيل ( لما قال الله سبحانه وتعالى : ما على المحسنين من سبيل.
قال تعالى في حق من يعتذر ولا عذر له إنما السبيل يعني إنما يتوجه الطريق بالعقوبة ) على الذين يستأذنوك ( يا محمد في التخلف عنك والجهاد معك ) وهم أغنياء ( يعني قادرين على الخروج معك ) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ( يعني رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان والقعود معهم ) وطبع الله على قلوبهم ( يعني ختم عليها ) فهم لا يعلمون ( ما في الجهاد من الخير في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو وأما في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع.
)
التوبة : ( 94 - 98 ) يعتذرون إليكم إذا...
" يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم " ( قوله سبحانه وتعالى : ( يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ( يعني يعتذر هؤلاء المنافقون المتخلفون عنك يا محمد إليك وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أنهم اعتذروا إليه وإلى المؤمنين فلهذا قال تعالى يعتذرون إليكم يعني بالأعذار الباطلة الكاذبة إذا رجعتم إليهم يعني من سفركم ) قل ( أي قل لهم يا محمد ) لا تعتذروا ( قال البغوي : روي أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين فقال الله تعالى قل لا تعتذروا ) لن نؤمن لكم ( يعني لن نصدقكم فيما اعتذرتم به ) قد نبأنا الله من أخباركم ( يعني قد أخبرنا الله فيما سلف من أخباركم ) وسيرى الله عملكم ورسوله ( يعني في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه وقيل : يحتمل أنهم وعدوا بأن ينصروا المؤمنين في المستقبل فلهذا قال وسيرى الله عملكم ورسوله هل تفون بما قلتم أم لا ) ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم ( يعني فيخبركم ) بما كنتم تعلمون ( لأنه هو المطلع على ما في ضمائركم في الخيانة والكذب وإخلاف الوعد.
قوله عز وجل : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ( يعني إذا رجعتم من سفركم إليهم يعني إلى

صفحة رقم 137
المتخلفين بالمدينة من المنافقين ) لتعرضوا عنهم ( يعني لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم ولا تؤبخوهم بسبب تخلفهم ) فأعرضوا عنهم ( يعني فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق.
وقيل : يريد ترك الكلام يعني لا تكلموهم ولا تجالسوهم فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال لا تجالسوهم ولا تكلموهم قال أهل المعاني إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم فقال تعالى : ( إنهم رجس ( يعني أن بواطنهم خبيثة نجسة وأعمالهم قبيحة ) ومأواهم ( يعني مسكنهم في الآخرة ) جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( يعني من الأعمال الخبيثة في الدنيا.
قال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلاً من المنافقين فقال النبي : ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تجالسوهم ولا تكلموهم ) وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذي لا إله إلا هو أنه لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يرضى عنه فأنزل الله عز وجل هذه الآية والتي بعدها ) يحلفون لكم لترضوا عنهم ( يعني : يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم ) فإن ترضوا عنهم ( يعني فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا لكم وقبلتم عذرهم ) فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ( يعني أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم أبداً.
وقوله سبحانه وتعالى : ( الأعراب أشد كفراً ونفاقاً ( نزلت في سكان البادية يعني أن أهل البدو أشد كفراً ونفاقاً من أهل الحضر.
قال أهل اللغة : يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب.
ورجل أعرابي إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيب والكلأ.
ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فمن استوطن القرى والمدن العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم الأعراب , فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك.
العربي إذا قيل له : يا أعرابي غضب والعرب أفضل من الأعراب , لأن المهاجرين والأنصار وعلماء الدين من العرب.
والسبب في كون الأعراب أشد كفراً ونفاقاً بُعدهم عن مجالسة العلماء وسماع القرآن والسنن والمواعظ وهو قوله سبحانه وتعالى ) وأجدر ( يعني وأخلق وأحرى ) ألا يعلموا ( يعني بأن لا يعلموا ) حدود ما أنزل الله على رسوله ( يعني الفرائض والسنن والأحكام ) والله عليم ( يعني بما في قلوب عباده ) رحيم ( فيما فرض من فرائضه وأحكامه ) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ( يعني لا يرجو على إنفاقه ثواباً ولا يخاف على إمساكه عقاباً إنما ينفق خوفاً أو رياء.
والمغرم : التزام ما لا يلزم.
والمعنى : أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة لأنه لا ينفق ذلك إلا خوفاً من المسلمين أو مرآة لهم ولم يرد بذلك الإنفاق وجه الله وثوابه ) ويتربص ( يعني : ينتظر ) بكم الدوائر ( يعني بالدوائر تقلب الزمان وصروفه التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر.
قال يمان بن رباب : يعني تقلب الزمان فيموت الرسول وتظهر المشركون ) عليهم دائرة السوء ( يعني : بل يتقلب عليهم الزمان ويدور السوء والبلاء والحزن بهم ولا يرون في محمد صلى الله عيله وسلم وأصحابه ودينه ما يسوءهم ) والله سميع ( يعني لأقوالهم ) عليم (

صفحة رقم 138
يعني بما يخفون في ضمائرهم من النفاق والغش وإرادة السوء للمؤمنين نزلت هذه الآية في أعراب أسد وغطفان.
)
التوبة : ( 99 - 100 ) ومن الأعراب من...
" ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم " ( قال تبارك وتعالى : ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر (.
قال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة.
وقال الكلبي : هم أسلم وغفار وجهينة
( ق ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيراً من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة فقال رجل : خابوا وخسروا.
قال : نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة ) وفي رواية ( أن الأقرع بن حابس قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنما تابعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال وجهينة.
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال : وجيهنة خيراً من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان قال خبوا وخسروا قال نعم )
( ق ) عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ) زاد مسلم في رواية له : ( أما إني لم أقلها لكن الله قالها )
( ق ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله ) وقوله سبحانه وتعالى : ( ويتخذ ما ينفق قربات عند الله ( جمع قربة أي يطلب بما ينفق القربة إلى الله تعالى : ( وصلوات الرسول ( يعني ويرغبون في دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) ) ألا إنها قربة لهم ( يحتمل أن يعود الضمير في إنها إلى صلوات الرسول ويحتمل أن يعود إلى الإنفاق وكلاهما قربة لهم عند الله وهذه شهادة من الله تعالى للمؤمن المتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات عند الله وصلوات الرسول له مقبولة عند الله لأن الله سبحانه وتعالى أكد ذلك بحرف التنبيه وهو قوله تعالى ألا وبحرف التحقيق وهو قوله تعالى إنها قربة لهم ) سيدخلهم الله في رحمته ( وهذه النعمة هي أقصى مرادهم ) إن الله غفور ( للمؤمنين المنفقين في سبيله ) رحيم ( يعني بهم حيث وفقهم لهذه الطاعة.
قوله سبحانه وتعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ( اختلف العلماء في السابقين الأولين فقال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر.
وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان وكانت بيعة الرضوان بالحديبية.
وقال محمد بن كعب القرظي هم جميع الصحابة لأنهم حصل لهم السبق بصحبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال حميد بن زياد : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما بينهم وأردت الفتن فقال : إن الله قد غفر لجميعهم محسنهم ومسيئهم وأوجب لهم الجنة في كتابه فقلت له في أي موضع أوجب لهم الجنة فقال سبحان الله ألا تقرأ والسابقون الأولون إلى آخر الآية فأوجب الله الجنة لجميع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) زاد فرواية في قوله والذين اتبعوهم بإحسان قال شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أعمالهم الحسنة دون السيئة.
قال حميد : فكأني لم أقرأ هذه الآية قط.
واختلف العلماء في أول الناس إسلاماً بعد اتفاقهم على أن خديجة أول الخلق إسلاماً وأول من صلى مع رسول الله عليه وسلم فقال بعض العلماء أول من

صفحة رقم 139
آمن بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر بن عبد الله ثم اختلفوا في سنة وقت إسلامه فقيلك كان ابن عشر سنين.
وقيل : أقل من ذلك.
وقيل : أكثر.
وقيل : كان بالغاً.
والصحيح , أنه لم يكن بالغاً وقت إسلامه.
وقال بعضهم : أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس والنخعي والشعبي وقال الزهري وعروة بن الزبير : أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس والنخعي والشعبي وقال الزهري وعروة بن الزبير : أول من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر , ومن النساء خديجة , ومن الصبيان علي بن أبي طالب , ومن العبيد زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم فهؤلاء الأربعة سباق الخلق إلى الإسلام.
قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا الناس إلى الله ورسوله وكان رجلاً محبباً سهلاً وكان أنسب قريش لقريش وأعلمها بما كان فيها وكان رجلاً تاجراً وكان ذا خلق حسن ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من يثق به من قومه فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلموا على يده وصلوا معه فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق الناس إلى الإسلام ثم تتابع الناس بعدهم في الدخول إلى الإسلام وأما السابقون من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة وهي العقبة الأولى وكانوا ستة نفر أسعد بن زرارة وعوف بن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر وجابر بن عبد الله بن رباب ثم أصحاب العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلاً ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً منهم البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة فهؤلاء سباق الأنصار ثم بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلمهم القرآن فأسلم على يده خلق كثير من الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة وذلك قبل أن يهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة وقيل : إن المراد بالسابقين الأولين من سبق إلى الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أن الله سبحانه وتعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين بماذا سبقوا فبقي اللفظ مجملاً فلما قال تعالى من المهاجرين والأنصار ووصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً وجب صرف اللفظ المجمل إليه وهو الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أيضاً أن الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية من حيث إن الهجرة أمر شاق على النفس لمفارقة الوطن والعشيرة

صفحة رقم 140
وكذلك النصرة فإنها مرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله عز وجل عليهم ومدحهم فقال سبحانه وتعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار (.
قوله تعالى : ( والذين اتبعوهم بإحسان ( قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين فعلى هذا القول , يكون الجميع من الصحابة.
وقيل : هم الذين سلكوا سبيل المهاجرين والأنصار في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة وقال عطاء هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار فيترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم
( ق ) عن عمران بن حصين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً
( ق ) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحداً ) وفي رواية ( أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) أراد بالقرن في الحديث الأول أصحابه.
والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضاً واختلفوا في مدته من الزمان.
فقيل : من عشر سنين إلى عشرين.
وقيل : من مائة إلى مائة وعشرين سنة.
والمد : المذكور في الحديث الثاني هو ربع صاع.
والنصيف : نصفه.
والمعنى : لو أن أحداً عمل مهما قدر عليه من أعمال البر والإنفاق في الحاجة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ( يعني رضي الله عن أعمالهم ورضوا عنه بما جازاهم عليها من الثواب وهذا اللفظ عام يدخل فيه كل الصحابة ) وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم (.
)
التوبة : ( 101 ) وممن حولكم من...
" وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " ( قال سبحانه وتعالى : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ( ذكر جماعة من المفسرين المتأخرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي أنهم من أعراب مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم وكانت منازلهم حول المدينة ويعني ومن هؤلاء الأعراب منافقون وما ذكروه مشكل لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا لهؤلاء القبائل ومدحهم فإن صح نقل المفسرين فيحمل قوله سبحانه وتعالى : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ( على القليل لأن لفظة من للتبعيض ويحمل دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم على الأكثر والأغلب وبهذا يمكن الجمع بين قول المفسرين ودعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم.
وأما الطبري , فإنه أطلق القول ولم يعين أحداً من القبائل المذكورة بل قال في تفسير هذه الآية : من القوم الذين حول مدينتكم أيها المؤمنون من الأعراب منافقون ومن أهل مدينتكم أيضاً أمثالهم أقوام منافقون وقال البغوي : ( ومن أهل المدينة ( من الأوس والخزرج منافقون ) مردوا على النفاق ( فيه تقديم وتأخير تقديره وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق يعني مرنوا عليه يقال تمرد فلان على ربه إذا عتا وتجبر ومنه الشيطان المارد وتمرد في معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ولم يتب منها قال ابن إسحاق : لجوا فيه

صفحة رقم 141
وأبو غيره.
وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا منه ) لا تعلمهم ( يعني أنهم بلغوا في النفاق إلى حيث أنك لا تعلمهم يا محمد مع صفاء خاطرك واطلاعك على الأسرار ) نحن نعلمهم ( يعني لكن نحن نعلمهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت ) سنعذبهم مرتين ( اختلف المفسرون في العذاب الأول مع اتفاقهم على العذب الثاني هو عذاب القبر بدليل قوله ) ثم يردون إلى عذاب عظيم ( وهو عذاب النار في الآخرة فثبت بهذا أنه سبحانه وتعالى يعذب المنافقين ثلاث مرات مرة في الدنيا ومرة في القبر ومرة في الآخرة أما المرة الأولى وهي التي اختلفوا فيها فقال الكلبي والسدي ( قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطيباً في يوم جمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج من المسجد أناساً وفضحهم ) فهذا هو العذاب الأول.
والثاني : هو عذاب القبر لإن صح هذا القول فيحتمل أن يكون بعد أن أعلمه الله حالهم وسماهم له لأن الله سبحانه وتعالى قال لا تعلمهم نحن نعلمهم ثم بعد ذلك أعمله بهم.
وقال مجاهد : هذا العذاب الأول هو القتل والسبي وهذا القول ضعيف , لأن أحكام الإسلام في الظاهر كانت جارية على المنافقين فلم يقتلوا ولم يسبوا وعن مجاهد رواية أخرى أنهم عذبوا بالجوع مرتين.
وقال قتادة : المرة الأولى هي الدبيلة في الدنيا وقد جاء تفسيرها في الحديث بأنها خراج من نار تظهر في أكتافهم حتى تنجم من صدورهم يعني تخرج من صدورهم.
وقال ابن زيد : الأولى هي المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب القبر.
وقال ابن عباس : الأولى إقامة الحدود عليهم في الدنيا والأخرى عذاب القبر.
وقال ابن إسحاق : الأولى هي ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه كرهاً غير حسبة والأخرى عذاب القبر.
وقيل : إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم , والأخرى عذاب القبر.
وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضرار , والأخرى إحراقهم بنار جهنم وهو قوله سبحانه وتعالى : ثم يردون إلى عذاب جهنم يخلدون فيه.
)
التوبة : ( 102 ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم...
" وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم " ( قوله عز وجل : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ( فيه قولان : أحدهما : أنهم قوم من المنافقين تابوا من نفاقهم وأخلصوا وحجة هذا القول أن قوله تعالى وآخرون عطف على قوله وممن حولكم من الأعراب منافقون والعطف موهم ويعضده ما نقله الطبري.
عن ابن عباس أنه قال : هم الأعراب.
والقول الثاني : وهو قول جمهور المفسرين إنها نزلت في جماعة من المسلمين من أهل المدينة تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك.
واختلف المفسرون في عددهم فروي عن ابن عباس أنهم كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروي أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية أحدهم أبو لبابة وثقال وقال قتادة والضحاك : كانوا سبعة أحدهم أبو لبابة.
وقيل : كانوا ثلاثة : أبو لبابة بن عبد المنذر , وأوس بن ثعلبة , ووديعة بن حزام , وذلك أنهم كانوا تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك ثم ندموا بعد ذلك وتابوا وقالوا أنكون في الظلال ومع النساء ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في الجهاد واللأواء ؟ فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من سفره وقرب من المدينة قالوا : والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يطلقنا ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرَّ بهم فرآهم فقال : ( من هؤلاء ) ؟

صفحة رقم 142
فقالوا : هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم ) , ورغبوا عني وتخلفوا عن الغزوة مع المسلمين.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ) فأنزل الله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية.
وقال قوم : نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية.
وقال : والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه , فإنزل الله هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يحلني فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحله بيده فقال أبو لبابة : يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة.
قالوا جميعاً فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن الله سبحانه وتعالى قال : خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم.
لأن لفظة ( من ) تقتضي التبعيض.
وقال الحسن وقتادة : وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم.
أما تفسير الآية : فقوله تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أهل المعاني : الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا.
فإن قلت : الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا ؟
قلت : مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة.
وقوله سبحانه وتعالى : ( خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ( قيل : أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : العمل الصالح هو خروجهم مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك.
وقيل : إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصاً بمن تخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك.
وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم.
فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطاً فما المخلوط به.
قلت : إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملاً صالحاً بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي.
وقال : اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معاً بقي كل واحد منهما

صفحة رقم 143
على حاله كما هو مذهبنا فإن عندنا القول بالإحباط باطل فالطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موبجة للذم والعقاب فقوله سبحانه وتعالى خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر فليس إلا الجمع الملطق.
وقال الواحدي : العرب تقول خالطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن كما تقول جمعت زيداً وعمراً.
والواو في الآية أحسن من الباء لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط.
ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ كما يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما وقوله سبحانه وتعالى : ( عسى الله أن يتوب عليهم ( قال ابن عباس وجمهور المفسرين : عسى من الله واجب والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى : فعسى الله أن يأتي بالفتح وقد فعل ذلك.
وقال أهل المعاني : لفظة عسى هنا تفيد الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الاتكال والإهمال.
وقيل : إن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله على سبيل التفضل والتطول والإحسان فذكر لفظة عسى التي هي للترجي والطمع حتى يكون العبد بين الترجي والإشفاق ولكن هو إلى نيل ما يرجوه منه أقرب لأنه ختم الآية بقوله ) إن الله غفور رحيم ( وهذا يفيد إنجاز الوعد.
)
التوبة : ( 103 ) خذ من أموالهم...
" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم " ( قوله سبحانه وتعالى : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها (.
قال ابن عباس : لما أطلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا لبابة وصاحبيه انطلق أبو لبابة وصاحبة فأتوا بأموالهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : خذ أموالنا وتصدق بها عنا وصل علينا يريدون استغفر لنا وطهرنا.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لا آخذ شيئاً منها حتى أومر به ) , فأنزل الله عز وجل : خذ من أموالهم صدقة الآية , وهذا قول زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.
ثم اختلف العلماء في المراد بهذه الصدقة فقال بعضهم : هو راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك أنهم بذلوا أموالهم صدقة فأوجب الله سبحانه وتعالى أخذها وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية مجرى الكفارة.
وأصحاب هذا القول يقولون ليس المراد بها الصدقة الوجبة.
وقال بعضهم : إن الزكاة كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزوة وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله سبحانه وتعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأخذها منهم وقال بعضهم إن الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء وهذا قول أكثر

صفحة رقم 144
الفقهاء واستدلوا بها على إيجاب أخذ الزكاة.
أما حجة أصحاب القول الأول , فإنهم قالوا : إن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسبة فلو حملناها على أخذ الزكاة الواجبة , لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها.
ولأن جمهور المفسرين ذكروا في سبب نزولها أنها نزلت في شأن التائبين وأما أصحاب القول الأخير فإنهم قالوا : المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير وذلك أنهم لما تابوا وأخلصوا وأقروا أن السبب الموجبة للتخلف وحب المال أمروا بإخراج الزكاة التي هي طهرة فلما أخرجوها علمت صحة قولهم وصحة توبتهم.
ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فإن قالوا : إن الزكاة قدر معلوم لا يبلغ ثلث المال وقد أخذ منهم ثلث أموالهم قلنا : لا يمنع هذا صحة ما قلناه لأنهم رضوا ببذل الثلث من أموالهم فلأن يكونوا راضين بإخراج الزكاة أولى.
ثم في هذه الآية أحكام : الأول قوله سبحانه وتعالى : خذ من أموالهم صدقة , الخطاب فيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي خذ يا محمد من أموالهم صدقة فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتعالى : يأخذها منهم أيام حياته ثم أخذها من بعده الأئمة فيجوز للإمام أو نائبه أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويدفعها إلى الفقراء.
الحكم الثاني : قوله من أموالهم , ولفظة ( من ) تقتضي التبعيض وهذا البعض المأخوذ غير معلوم ولا مقدر بنص القرآن فلم يبق إلا الصدقة التي بيَّن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدرها وصفتها في أخذ الزكاة.
الحكم الثالث : ظاهر قوله خذ من أموالهم صدقة يفيد العموم فتجب الزكاة في جميع المال حتى في الديون وفي مال الركاز.
الحكم الرابع : ظاهر قوله تطهرهم , أن الزكاة إنما وجبت لكونها طهرة من الآثام وصدور الآثام لا يمكن حصولها إلا من البالغ دون الصبي فوجب أن تجب الزكاة في مال البالغ دون الصبي وهذا قول أبي حنيفة ثم أجاب أصحاب الشافعي : بأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً
وللعلماء في قوله سبحانه وتعالى تطهرهم أقوال :
الأول : أن معناه خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بأخذها من دنس الآثام.
القول الثاني : أن يكون تطهرم متعلقاً بالصدقة تقديره خذ من أموالهم صدقة فإنها طهرة لهم وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة من أوساخ الناس فإذا أخذ الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ وكان ذلك الاندفاع جارياً مجرى التطيهر : فعلى هذا القول يكون قوله سبحانه وتعالى وتزكيهم بها متقطعاً عن قوله تطهرهم ويكون التقدير : خذ يا محمد من أموالهم صدقة تطهرهم تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها.
القول الثالث : أن تجعل التاء في قوله تطهرهم وتزكيهم ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت يا محمد بأخذها منهم وتزكيهم أنت بواسطة تلك الصدقة.
القول الرابع : أن معناه تطهرهم من ذنوبهم وتزكيهم يعني ترفع منازلهم عن منازل المنافقين إلى منازل الأبرار المخلصين وقيل معنى وتزكيهم أي تنمي أموالهم ببركة أخذها منهم.
الحكم الخامس : قوله سبحانه وتعالى : ( وصل عليهم ( يعني ادع لهم واستغفر لهم لأن أصل الصلاة في اللغة الدعاء.
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول : آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت.
وقال بعضهم : يجب على الإمام أن يدعو للمتصدق.
وقال بعضهم : يستحب ذلك.
وقيل : يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع.
وقيل : يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي.
وقال بعضهم : يستحب أن يقول اللهم صلِّ على فلان.
ويدل عليه ما روي عن بعد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أتاه قوم

صفحة رقم 145
بصدقة قال : ( اللهم صلِّ عليهم ) فأتاه أبي بصدقته فقال ( اللهم صلِّ على آل أبي أوفى ) أخرجاه في الصحيحين.
وقوله سبحانه وتعالى : ( إن صلاتك ( وقرئ : صلواتك على الجمع ) سكن لهم ( يعني إن دعاءك رحمة لهم.
وقال ابن عباس : طمأنينة لهم.
وقيل : إن الله قد قبل منهم.
وقال أبو عبيدة : تثبيت لقلوبهم.
وقيل : إن السكن ما سكنت إليه النفس والمعنى إن صلواتك توجب سكون نفوسهم إليها والمعنى أن الله قد قبل توبتهم أو قبل زكاتهم ) والله سميع ( يعني لأقوالهم أو لدعائك لهم ) عليم ( يعني بنياتهم.
)
التوبة : ( 104 - 106 ) ألم يعلموا أن...
" ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم " ( ) ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ( هذه صيغة استفهام إلا أن المقصود منه التقرير فبشر الله عز وجل هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ومعنى الآية ألم يعلم الذين تابوا أن الله تعالى يقبل التوبة الصادقة والصدقة الخالصة.
وقيل : إن المراد بهذه الآية غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما بالهم اليوم فأنزل الله هذه الآية ترغيباً لهم في التوبة.
وقوله سبحانه وتعالى عن عباده قيل : لا فرق بين عن عباده ومن عباده إذا لا فرق بين قولك أخذت هذا العلم عنك أو منك.
وقيل : بينهما فرق ولعل عن في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشيراً بقبول التوبة مع تسهيل سبيلها وقوله سبحانه وتعالى : ( ويأخذ الصدقات ( يعني يقبلها ويثيب عليها وإنما ذكر لفظ الأخذ ترغيباً في بذل الصفقة وإعطائها الفقراء وقيل معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها.
ولما كان هو المجازي عليها والمثيب بها , أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان الفقير أو السائل هو الآخر لها وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله تعالى يقبلها من عبده المتصدق
( ق ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا اخذها الرحمن بيمينه وإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله ) لفظ مسلم.
وفي البخاري : ( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ) وفي رواية : ( ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ) وأخرجه الترمذي ولفظه : ( إن الله سبحانه وتعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد ) وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربى الصدقات.
وقوله : من كسب طيب.
أي : حلال.
وذكر اليمين والكف في الحديث كناية عن قبول الصدقة وأن الله سبحانه وتعالى قد قبلها من المعطي , لأن من عادة الفقير أو السائل , أخذ الصدقة بكفه اليمين , فكأن المتصدق قد وضع صدقته في القبول والإثابة.
وقوله : فتربو أي تكبر.
يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد وكبر.
والفُلوا : بضم الفاء وفتحها لغتان المهر أول ما يولد والفصيل ولد الناقة إلى أن ينفصل عنها.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وأن الله هو التواب الرحيم ( تأكيد لقوله

صفحة رقم 146
سبحانه وتعالى : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ( وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم.
قوله عز وجل : ( وقل ( أي قل يا محمد لهؤلاء التائبين ) اعملوا ( يعني لله بطاعته وأداء فرائضه ) فسيرى الله عملكم ( فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل فإن الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها ) ورسوله والمؤمنون ( يعني ويرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون أعمالكم أيضاً.
أما رؤية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فباطلاع الله إياه على أعمالكم.
وأما رؤية المؤمنين , فبما يقذف الله عز وجل في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المذنبين ) وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ( يعني : وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم ) فينبئكم ( أي فيخبركم ) بما كنتم تعملون ( يعني في الدنيا من خير أو شر فيجازيكم عن أعمالكم.
قوله سبحانه وتعالى : ( وآخرون مرجون ( أي مؤخرون والإرجاء التأخير ) لأمر الله ( يعني لحكم الله فيهم قال بعضهم إن الله سبحانه وتعالى قسم المتخلفين على ثلاثة أقسام :
أولهم : المنافقون وهم الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه.
والقسم الثاني : التائبون وهم الذين سارعوا إلى التوبة بعد ما اعترفوا بذنوبهم وهم أبو لبابة وأصحابه فقبل الله توبته.
والقسم الثالث : موقوفون ومؤخرون إلى أن يحكم الله تعالى فيهم وهم المراد بقوله : وآخرون مرجون لأمر الله.
والفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث , أن القسم الثاني سارعوا إلى التوبة فقبل الله توبتهم , والقسم الثالث توقفوا ولم يسارعوا إلى التوبة فأخر الله أمرهم.
نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم : كعب بن مالك , وهلال بن أمية , ومرارة بن الربيع , وستأتي قصتهم عند قوله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وذلك أنهم لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فوقفهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خمسين ليلة ونهى الناس عن كلامهم وكانوا من أهل بدر , فجعل بعض الناس يقول هلكوا وبعضهم يقول : عسى الله أن يتوب عليهم ويغفر لهم وهو قوله سبحانه وتعالى : ( إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ( يعني أن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم بسبب تخلفهم وإن شاء غفر لهم وعفا عنهم ) والله عليم ( يعني بما في قلوبهم ) حكيم ( يعني بما يقضي عليهم.
)
التوبة : ( 107 ) والذين اتخذوا مسجدا...
" والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً ( نزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجداً يضارّون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلاً من أهل النفاق وديعة بن ثابت

صفحة رقم 147
وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وجارية بن عمرو وابناه مجمع وزيد ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحرث وبجاد بن عثمان وبحزج بنوا هذا المسجد ضراراً يعني مضارة للمؤمنين وكفراً يعني ليكفروا فيه بالله ورسوله ) وتفريقاً بين المؤمنين ( لأنهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم فيه مجمع بن جارية وكان شاباً يقرأ القرآن ولم يدر ما أرادوا ببنائه , فلما فرغوا من بنائه , أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية , وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا فيه ) وقوله سبحانه وتعالى : ( وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ( يعني أنهم بنوا هذا المسجد للضرار والكفر وبنوه إرصاداً يعني انتظاراً وإعداداً لمن حارب الله ورسوله ) من قبل ( يعني من قبل بناء هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسموح وتنصر , فلما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال له أبو عامر ما هذا الدين الذي جئت به ؟ فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( جئت بالحنيفية دين إبراهيم ).
فقال أبو عامر : فأنا عليها.
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إنك لست عليها.
قال أبو عامر : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية.
فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طويداً وحيداً غريباً فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : آمين ( وسماه الناس : أبا عامر الفاسق.
فلما كان يوم أحد , قال أبو عامر الفاسق للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن , يئس أبو عامر وخرج هارباً إلى الشام , وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم , فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء , فذلك وقوله : سبحانه وتعالى : ( وإرصاداً ( يعني انتظاراً لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام من قبل يعني أن أبا عامر الفاسق حارب الله ورسوله من قبل مسجد الضرار ) وليحلفن ( يعني الذين بنوا المسجد ) إن أردنا ( يعني ما أردنا ببنائه ) إلا الحسنى ( يعني إلا الفعلة الحسنى وهي : الرفق بالمسلمين والتوسعة

صفحة رقم 148
على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) والله يشهد إنهم لكاذبون ( يعني في قيلهم وحلفهم.
روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما انصرف من تبوك راجعاً نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله هذه الآية خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشياً فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه , فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك أنظروني حتى أخرج إليكم بنار , فدخل أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فأحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة.
مات أبو عامر الراهب بالشام غريباً وحيداً.
وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته , فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم.
فقال : لا ولا نعمة عين أليس هو إمام مسجد الضرار ؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا شيوخاً لا يقرؤون فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولو أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
قال عطاء : لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر.
)
التوبة : ( 108 ) لا تقم فيه...
" لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " ( ) لا تقم فيه أبداً ( قال ابن عباس : معناه لا تصلّ فيه أبداً منع الله عز وجل نبيه أن يصلي في مسجد الضرار ) لمسجد أسس على التقوى ( اللام فيه لام الابتداء.
وقيل : لام القسم تقديره والله مسجد أسس يعني بني أصله ووضع أساسه على التقوى يعني على تقوى الله عز وجل ) من أول يوم ( يعني من أول يوم بني ووضع أساسه كان ذلك البناء على التقوى ) أحق أن تقوم فيه ( يعني مصلياً واختلفوا في المسجد الذي

صفحة رقم 149
أسس على التقوى فقال عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعني مسجد المدينة ويدل علي ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : ( دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول الله أي المسجدين أسس على التقوى ؟ قال فأخذ كفاً من حصى فضرب به الأرض ثم قال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة ) أخرجه مسلم
( ق ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي )
( ق ) عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) عن أم سلمة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة ) أخرجه النسائي قوله رواتب يعني : ثوابت.
يقال : رتب بالمكان إذا قام فيه وثبت.
وفي رواية عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أنه مسجد قباء ويدل عليه سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( ويدل على أنهم أهل قباء ما روي عن أبي هريرة ( قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم ) أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث غريب.
هكذا ذكره صاحب جامع الأصول من رواية أبي داود والترمذي موقوفاً على أبي هريرة ورواه البغوي من طريق أبي داود مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) قال : ( كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ) ومما يدل على فضل مسجد قباء ما روي عن ابن عمر قال : ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يزور قباء أو يأتي قباء راكباً وماشياً ) زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين وفي رواية ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً وماشياً وكان ابن عمر يفعله ) أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم وأخرج الرواية الثانية البخاري عن سهل بن حنيف قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة ) أخرجه النسائي عن أسد بن ظهير أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الصلاة في مسجد قباء كعمرة ) أخرجه الترمذي.
وقوله سبحانه وتعالى : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ( يعني من الأحداث والجنابات وسائر النجاسات وهذا قول أكثر المفسرين.
قال عطاء : ولما كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة وروى الطبري بسنده عن عويمر بن ساعدة وكان من أهل بدر , قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأهل قباء ( إني أسمع الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور ) قالوا : يا رسول الله ما نعمل شيئاً إلا أن جيراناً لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط فغلسنا كما غسلوا.
وعن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأهل قباء ( إن الله سبحانه وتعالى قد أحسن عليكم بالثناء في الطهور فما تصنعون ؟ قالوا : إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول ) وقال الإمام فخر الدين الرازي :

صفحة رقم 150
المراد من هذه الطهارة الطهارة من الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه :
الأول : أن التطهر من الذنوب هو المؤثر في القرب من الله عز وجل واستحقاق ثوابه ومدحه.
الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والتفريق بينهم والكفر بالله وكون هؤلاء يعني أهل قباء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا لكونهم مبرئين من الكفر والمعاصي وهي الطهارة الباطنية.
الوجه الثالث : إن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند الله إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي وقيل يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين يعني طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء ) والله يحب المطهرين ( فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة.
)
التوبة : ( 109 ) أفمن أسس بنيانه...
" أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ( يعني طلب ببنائه المسجد الذي بناه تقوى الله ورضاه.
والمعنى : أن الباني لما بنى ذلك البناء كان قصده تقوى الله وطلب رضاه وثواب ) خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ( الشفا : هو الشفير وشفا كل شيء حرفه ومنه يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه وقرب أن يقع فيه.
والجرف : المكان الذي أكل الماء تحته فهو إلى السقوط قريب وقال أبو عبيد : الجرف هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينحفر بالماء فيبقى واهياً هار أي هائر وهو الساقط فهو من هار يهور فهو هائر وقيل : هو من هاريها إذا تهدم وسقط وهو الذي تداعى بعضه في أثر بعض كما يهار الرمل والشيء الرخو ) فانهار به ( يعني سقط بالباني ) في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( والمعنى أن بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهله فيها.
وهذا مثل ضربه الله تعالى للمسجدين مسجد الضرار ومسجد التقوى مسجد قباء أو مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومعنى المثل : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أم من أسس دينه على أضعف القواعد وأقلها بقاء وثباتاً وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل بناء على غير أساس ثابت وهو شفا جرف هار وإذا كان كذلك كان أسرع إلى السقوط في نار جهنم ولأن الباني الأول قصد ببنائه تقوى الله ورضوانه فكان بناؤه أشرف البناء , والباني الثاني قصد ببنائه الكفر والنفاق وإضرار المسلمين فكان بناؤه أخسّ البناء وكانت عاقبته إلى نار جهنم.
قال ابن عباس : صيرهم نفاقهم إلى النار.
وقال قتادة : والله ما تناهى بناؤهم حتى وقع في النار ولقد ذكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي الدخان يخرج منها.
وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.
)
التوبة : ( 110 - 111 ) لا يزال بنيانهم...
" لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " ( ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة ( يعني شكاً ونفاقاً ) في قلوبهم ( والمعنى : أن ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم , لأن المنافقين فرحوا ببناء مسجدهم , فلما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتخريبه , ثقل ذلك عليهم وازدادوا غماً وحزناً وبغضاً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكان سبب الريبة في قلوبهم.
وقيل : إنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه كما حبب العجل إلى بني إسرائيل فلما أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتخريبه , بقوا شاكّين مرتابين لأي سبب أمر بتخريبه.
وقال

صفحة رقم 151
السدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة أي حرارة وغيظاً في قلوبهم ) إلا أن تقطع قلوبهم ( أي تجعل قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالموت.
والمعنى : أن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا عليها ) والله عليم ( يعني بأحوالهم وأحوال جميع عباده ) حكيم ( يعني فيما حكم به عليهم.
قوله عز وجل : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( الآية قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلاً قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : الجنة.
قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
فنزلت ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ( قال ابن عباس : بالجنة.
قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري الله شيئاً هو له في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والأشياء كلها ملك الله عز وجل , ولهذا قال الحسن : أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقنا إياها لكن جرى هذا مجرى التلطف في الدعاء إلى الطاعة والجهاد , وذلك لأن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله يقتل أو أنفق ماله في سبيل الله عوَّضه الله الجنة في الآخرة جزاء لما فعل في الدنيا فجعل ذلك استبدالاً وشتراء فهذا معنى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة والمراد باشتراء الأموال إنفاقها في سبيل الله وفي جميع وجوه البر والطاعة ) يقاتلون في سبيل الله ( هذا تفسير لتلك المبايعة.
وقيل : فيه معنى الأمر أي قاتلوا في سبيل الله ) فيقتلون ويقتلون ( يعني : فيقتلون أعداء الله ويقتلون في طاعته وسبيله ) وعداً عليه حقاً ( يعني ذلك الوعد بأن لهم الجنة وعداً على الله حقاً ) في التوراة والإنجيل والقرآن ( يعني أن هذا الوعد الذي وعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله قد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن وفيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ومكتوب على جميع أهل الملل ) ومن أوفى بعهده من الله ( يعني لا أحد أوفى بالعهد من الله ) فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ( فاستبشروا أيها المؤمنون بهذا البيع الذي بايعتم الله به ) وذلك ( يعني هذا البيع ) هو الفوز العظيم ( لأنه رابح في الآخرة.
قال عمر بن الخطاب : إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن وعنه قال : إن الله سبحانه وتعالى أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها.
وقال قتادة : ثامَنهم فأغلى لهم.
)
التوبة : ( 112 - 113 ) التائبون العابدون الحامدون...
" التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " ( قوله سبحانه وتعالى :

صفحة رقم 152
) التائبون ( قال الفراء : استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى وانقطاع الكلام.
وقال الزجاج : التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر.
والمعنى : التائبون إلى آخره لهم الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين بترك الجهاد وهذا وجه حسن فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين.
كما قال تعالى : وكلا وعد الله الحسنى ومن جعله تابعاً للأول , كان الوعد بالجنة خاصاً بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات , فيكون رفع التائبون على المدح يعني المؤمنين المذكورين في قوله : إن الله اشترى.
وأما التفسير : فقوله سبحانه وتعالى التائبون يعني الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق.
وقيل : التائبون من كل معصية فيدخل فيه التوبة من الكفر والنفاق.
وقيل : التائبون من جميع المعاصي , لأن لفظ التائبين لفظ عموم فيتناول الكل.
واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل بأمور أربعة : أولها احتراق القلب عند صدور المعصية , وثانيها الندم على فعلها فيما مضى , وثالثها العزم على تركها في المستقبل , ورابعها أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضوان الله وعبوديته فإن كان غرضه بالتوبة تحصيل مدح الناس له ودفع مذمتهم فليس بمخلص في توبته.
) العابدون ( يعني المطيعين لله الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقيل هم الذين أتوا بالعبادة على أقصى وجوه التعظيم لله تعالى وهي أن تكون العبادة خالصة لله تعالى : ( الحامدون ( يعني الذين يحمدون الله تعالى على كل حال في السراء والضراء.
روى البغوي بغير سند عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة , الذين يحمدون الله في السراء والضراء ) وقيل : هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى ) السائحون ( قال ابن مسعود وابن عباس : هم الصائمون.
قال سفيان بن عيينة : إنما سمي الصائم سائحاً لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الأزهري : قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه فكان ممسكاً على الأكل وكذلك الصائم ممسك عن الأكل.
وقيل : أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي وقال عطاء : السائحون هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله ويدل عليه ما روي عن ثمان بن مظعون قال قلت يا رسول الله ائذن لي في السياحة.
فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ذكره البغوي بغير سند.
وقال عكرمة : السائحون هم طلبة العلم لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لا بد أن يلقى أنواعاً من الضر والبؤس ولا بد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته ) الراكعون الساجدون ( يعني المصلين وإنما عبر عن الصلاة والسجود , لأأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره ) الآمرون بالمعروف ( يعني يأمرون الناس بالإيمان بالله وحده ) والناهون عن المنكر ( يعني عن الشرك بالله.
وقيل : إنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم واتباع الرشد والهدى

صفحة رقم 153
والعمل الصالح وينهونهم عن كل قول وفعل نهى الله عباده عنه أو نهى عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الحسن : أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه وأما دخول الواو في والناهون عن المنكر فإن العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله سبحانه وتعالى : وثامنهم كلبهم وقوله تعالى في صفة الجنة : وفتحت أبوابها.
وقيل : فيه وجه آخر وهو أن الموصوفين بهذه الصفات الست هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر , فعلى هذا يكون قوله تعالى التائبون إلى قوله الساجدون مبتدأ خبره الآمرون يعني هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) والحافظون لحدود الله ( قال ابن عباس : يعني القائمين بطاعة الله وقال الحسن : الحافظون لفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله.
وقيل : هم المؤدون فرائض الله المنتهون إلى أمره ونهيه فلا يضيعون شيئاً من العمل الذي ألزمهم به ولا يرتكبون منهياً نهاهم عنه ) وبشر المؤمنين ( يعني بشر يا محمد المصدقين بما وعدهم الله به إذا وفوا الله تعالى بعهده فإنه موف لهم بما وعدهم من إدخال الجنة.
وقيل : وبشر من فعل هذه الأفعال التسع وهو قوله تعالى التائبون إلى آخر الآية بأن له الجنة وإن لم يغز.
قوله عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ( الآية واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية فقال قوم : نزلت في شأن أبي طالب عم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والد علي وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يستغفر له بعد موته فنهاه الله عن ذلك ويدل على ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن ( قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية بن المغيرة : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قالوا : أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) أخرجاه في الصحيحين.
فإن قلت قد استبعد بعض العلماء نزول هذه الآية في شأن أبي طالب وذلك أن وفاته كانت بمكة أول الإسلام ونزول هذه السورة بالمدينة وهي من آخر القرآن نزولاً.
( قلت الذي نزل في أبي طالب قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) كما في الحديث فيحتمل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستغفر له في بعض الأوقات إلى أن نزلت هذه الآية فمنع من الاستغفار والله أعلم بمراده وأسرار كتابه ( م ).
عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعمه عند الموت : ( قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة فأبى فأنزل الله إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) الآية وفي رواية قال : ( لولا تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية )
( ق )
( عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر عنده عمه طالب فقال ) لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلى منه أم دماغه ( وفي رواية : ( يغلي منه دماغه من حرارة نعليه (
( ق ) عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه

صفحة رقم 154
وسلم قال : ( قلت يا رسول الله ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال : هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ( وفي رواية قال قلت يا رسول الله إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال ) نعم وددته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح ( وقال أبو هريرة وبريدة ) لما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ( الآية وروى الطبري بسنده عن بريدة : ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم مكة أتى رسم قال وأكثر ظني أنه قال قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبراً فقلنا : يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يؤذن لي فما رؤي باكياً أكثر من يومئذ (.
وحكى ابن الجوزي ) عن بريدة قال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر بقبر أمه فتوضأ وصلى ركعتين ثم بكى فبكى الناس لبكائه ثم انصرف إليهم فقالوا : ما أبكاك ؟ قال : مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها فزجرت زجراً فأبكاني ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيهة حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ( الآية
( ق ) ) عن أبي هريرة قال زار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبر أمه فكبى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت ( وقال قتادة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه ( فأنزل الله هذه الآية وروى الطبري بسنده عنه قال : ( ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بلى والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل الله عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ( الآية ثم عذر الله إبراهيم فقال تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية أخرجه النسائي والترمذي.
وقال : حديث حسن وأخرجه الطري.
وقال فيه : فأنزل الله عز وجل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه الآية ومعنى الآية ما كان ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله ففيه النهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لأن النهي عن الاستنغفار للمشركين عام فيستوي فيه القريب والبعيد ثم ذكر عز وجل سبب المنع فقال تعالى : ( من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( يعني تبين لهم أنهم ماتوا على الشرك فهم من أصحاب الجحيم وأيضاً فقد قال تبارك

صفحة رقم 155
وتعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به والله تعالى لا يخلف وعده.
)
التوبة : ( 114 ) وما كان استغفار...
" وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم " ( قوله سبحانه وتعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ( فمعناه وما كان طلب إبراهيم لأبيه المغفرة من الله إلا من أجل موعدة وعدها إبراهيم إياه أن يستغفر له رجاء إسلامه قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : ( لما أنزل الله خبراً عن إبراهيم ) أنه قال سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلاً يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ( " إلى قوله ) إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ( " يعني أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار لأنه إنما استغفر لأبيه وهو مشرك لمكان الوعد الذي وعده أن يسلم ) فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ( فعلى هذا الهاء في إياه راجعة إلى إبراهيم والوعد كان من أبيه وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يسلم فقال إبراهيم : سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت.
وقيل : إن الهاء راجعة إلى الأب وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه.
ويؤكد هذا قوله : سأستغفر لك ربي ويدل عليه أيضاً قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة فلما تبين له أنه عدو لله , تبرأ منه يعني : فلما ظهر لإبراهيم وبان له أن أباه عدو لله يعني بموته على الكفر تبرأ منه عند ذلك وقيل يحتمل أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن أباه عدو له فتبرأ منه وقيل لما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة ( أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ) أخرجه البخاري زاد غيره فتبرأ منه والقترة غبرة يعلوها سواد والذيخ بذال معجمة ثم ياء مثناة من تحت ثم خاء معجمة هو ذكر الضباع والأنثى ذيخة.
وقوله تبارك

صفحة رقم 156
وتعالى : ( إن إبراهيم لأواه حليم ( جاء في الحديث إن الأواه الخاشع المتضرع.
وقال ابن مسعود : الأواه الكثير الدعاء وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو المؤمن التواب , وقال الحسن وقتادة : الأواه الرحيم بعباد الله وقال مجاهد : الأواه الموقن وقال كعب الأحبار : هو الذي يكثر التأوه وكان إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول أوه من النار قبل أن لا ينفع أوه وقال عقبة بن عامر : الأواه الكثير الذكر لله عز وجل وقال سعيد بن جبير هو المسبح وعنه أنه المعلم للخير.
وقال عطاء : هو الراجع عما يكره الله الخائف من النار.
وقال أبو عبيدة : هو المتأوه شفقاً وفرقاً المتضرع إيقاناً ولزوماً للطاعة.
وقال الزجاج : انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت تنفس الصعداء والفعل منه أواه هو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن تحمي الروح داخل القلب ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخف بعض ما به من الحزن والشدة وأما الحليم : فمعناه ظاهر وهو الصفوح عمن سبه أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم بأبيه حين قال لئن لم تنته لأرجمنك , فأجابه إبراهيم بقوله سلام عليك سأستغفر لك ربي.
وقال ابن عباس : الحليم : السيد , وإنما وصف الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذين الوصفين وهما شدة الرقة والخوف الوجل والشفقة على عباد الله ليبين سبحانه وتعالى أنه مع هذه الصفات الجميلة الحميدة تبرأ من أبيه لما ظهر له إصراره على الكفر فاقتدوا به أنتم في هذه الحالة أيضاً.
)
التوبة : ( 115 ) وما كان الله...
" وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم ( يعني : وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله وذلك أنه لما منع المؤمنين من الاستغفار للمشركين وكانوا قد استغفروا لهم قبل المنع خافوا ما صدر منهم فأعلمهم أن ذلك ليس بضائرهم ) حتى يبين لهم ما يتقون ( يعني ما يأتون وما يذرون وهو أن يقدم إليهم النهي عن ذلك الفعل فأما قبل النهي فلا حرج عليهم في فعله وقيل : إن جماعة من المسلمين كانوا قد ماتوا قبل النهي عن الاستغفار للمشركين فلما منعوا من ذلك وقع في قلوب المؤمنين خوف على من مات على ذلك فأنزل الله عز وجل هذه الآية وبين أنه لا يؤآخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه ويتركوه.
وقال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة.
وقال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة.
وقال الضحاك : وما كان الله ليعذب قوماً حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون.
وقال مقاتل والكلبي : هذا في أمر المنسوخ وذلك أن قوماً قدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأسلموا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة

صفحة رقم 157
ورجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة إلى الكعبة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا بعد ذلك إلى المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت إلى الكعبة فقالوا : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل الله عز وجل : ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم ( يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم وقد عملوا بالمنسوخ حتى بين الناسخ ) إن الله بكل شيء عليم ( يعني أنه سبحانه وتعالى عليم بما خالط نفوسكم من الخوف عندما نهاكم عن الاستغفار للمشركين ويعلم ما يبين لكم من أوامره ونواهيه.
)
التوبة : ( 116 - 117 ) إن الله له...
" إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم " ( ) إن الله له ملك السموات والأرض ( يعني أنه سبحانه وتعالى هو القادر على ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه يحكم فيهم بما يشاء ) يحيي ويميت ( يعني أنه تعالى يحيي من يشاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من يشاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده ) وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( يعني أنه تعالى هو وليكم وناصركم وليس لكم غيره يمنعكم من عدوكم وينصركم عليهم.
قوله عز وجل : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ( الآية تاب الله بمعنى تجاوز وصفح عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمهاجرين والأنصار ومعنى توبته على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي كقوله سبحانه وتعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ( " فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقاباً.
وقال أصحاب المعاني : هو مفتاح كلام للتبرك كقوله سبحانه وتعالى فأن لله خمسه.
ومعنى هذا : أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله فإن لله خمسه وللرسول فهو تشريف له.
وأما معنى : توبة الله على المهاجرين والأنصار , فلأجل ما وقع في قلوبهم من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك لأنها كانت في وقت شديد وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية.
وقيل : إن الإنسان ليخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل.
ثم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين معه لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد العظيمة التي حصلت لهم في ذلك السفر غفر الله لهم وتاب عليهم لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما ضم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي لأجلها ضم ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى ذكرهم ) الذين اتبعوه ( في تلك الغزوة من المهاجرين والأنصار وقد ذكر بعض العلماء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سار إلى تبوك في سبعين ألفاً ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل ) في ساعة العسرة ( يعني في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة الشدة والضيق وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش الذي سار فيه يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة : منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون وما معهم إلى التمرات اليسيرة

صفحة رقم 158
بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يخرجها من فيه ويعطيها صاحبه ثم يشرب عليها جرعة من الماء ويفعل صاحبه كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من الترمة إلا النواة فمضوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم.
وقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك فيقيظ شديد فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده , وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيراً فادع الله قال أتحب ذلك قال : نعم فرفع يديه ( صلى الله عليه وسلم ) يرجعا حتى أرسل الله سحابة فمطرت فملأوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر أسنده الطبري عن عمر.
قوله تعالى : ( من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم ( يعني من بعد ما قارب أن تميل قلوب بعضهم عن الحق من أجل المشقة والشدة التي نالتهم والزيغ في اللغة الميل.
وقيل : همَّ بعضهم أن يفارق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الشدة التي نالتهم لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما خطر في قلوبهم فلأجل ذلك قال تعالى : ( ثم تاب عليهم ( يعني أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة.
فإن قلت قد ذكر التوبة أولاً ثم ذكرها ثانياً فما فائدة التكرار ؟
قلت إنه سبحانه وتعالى ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطييباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيماً لشأنهم وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم ثم أتبعه بقوله ) إنه بهم رؤوف رحيم ( تأكيداً لذلك ومعنى الرؤوف في صفة الله تعالى أنه الرفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى.
قال الخطابي : قد تكون الرحمة مع الكراهة للمصلحة ولا تكاد الرأفة تكون مع الكراهة.
)
التوبة : ( 118 - 120 ) وعلى الثلاثة الذين...
" وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ( هذا معطوف على ما قبله تقديره لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا وفائدة هذا العطف بين قبول توبتهم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وهم المرادون بقوله سبحانه وتعالى وآخرون مرجون لأمر الله وفي معنى خلفوا قولان : أحدهما أنهم خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وذلك أنهم لم يخضعوا كما خضع أبو لبابة وأصحابه فتاب الله على أبي لبابة وأصحابه وأخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب عليهم بعد ذلك والقول الثاني أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يخرجوا مع رسول الله فيها وأما حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه , فقد روي عن ابن شهاب الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله

صفحة رقم 159
بن كعب وكان قائد كعب بن بنيه حين عمي قال : وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : سمعت كعب بن مالك بن عبد الله بن مالك بن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك.
قال : لم أتخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزة بدر ولم يعاتب أحداً تخلف عنها إنما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة حين توائقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حتى تخلف عنه في تلك الغزوة والله ما جمعت قبله راحلتين قط حين جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حر شديد واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً واستقبل عدواً كثيراً فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب : فقل رجل يريد ان يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفي له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الغزوة حيت طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئاً فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً مما عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ( ما فعل كعب بن مالك ) فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً.
فسكت رسول الله فبينما هو كذلك , رأى رجلاً مبيضاً يزول به السراب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كن أبا خيثمة ) فإذ هو أبو خيثمة وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثى فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غداً واستعنت على ذلك

صفحة رقم 160
بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أظل قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قادماً وكان إذا قدم من سفره بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلاً فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل حتى جئت لما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال لي ( تعالى ) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال ( ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك ) قال قلت يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله , وفي رواية عفو الله عز وجل , والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أوقى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك ) فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لك قال فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأكذب نفسي.
قال : ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد معي قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدراً ففيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال : فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلم أم لا ثم أصلي قريباً منه وأسارقة النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال : فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم , ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام

صفحة رقم 161
يبيعه بالمدينة يقول من يدل عليّ كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك قال : فقلت حين قرأتها وهذا أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي وإذا رسول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأتيني فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خدام فهل تكره أن أخدمه قال ( لا ولكن لا يقربنك ) فقالت إنه والله ما به حركة إلى شيء ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يدريني ما يقول لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.
قال ثم صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجداً وعرفت أنه قد جاء فرج قال وآذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرساً وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة ويقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حوله الناس فقال إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلا رجل من المهاجرين غيره.
قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب : فلما سلمت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال وهو يبرق وجهه من السرور : ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) قال : قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ فقال : ( لا بل من عند الله ) وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سرَّ استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر قال وكنا نعرف ذلك منه

صفحة رقم 162
قال فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال وقلت يا رسول الله إن الله إن أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت قال فوالله ما علمت أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحسن مما أبلاني الله , والله ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يومي هذا وإني لأجروا أن يحفظني الله فيما بقي قال فأنزل الله عز وجل لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ أنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب : والله ما أنعم الله عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب : والله ما أنعم الله عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال كعب : والله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا إن الله عز وجل قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال الله سبحانه وتعالى : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين قال كعب : كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرنا حتى قضى الله تعالى فيه فبذلك قال الله عز وجل : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه وفي رواية ونهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر فما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو يموت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي ولا يسلم علي قال : وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند أم سلمة.
وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره قال : إذا يحطمكم الناغس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الفجر آذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتوبة الله علينا ) أخرجه البخاري ومسلم.
( شرح غريب هذا الحديث )
قوله حسن تواثقنا على الإسلام : التواثق تفاعل من الميثاق وهو العهد.
والراحلة : الجمل أو

صفحة رقم 163
الناقة القويان على الحمل والسفر.
وقوله : ورى بغيرها يقال : ورى عن الشيء إذا أخفاه وأظهر غيره.
والمفازة : البرية القفراء سميت بذلك تفاؤلاً بالفوز والنجاة منها قوله فجلا هو بالتخفيف يعني كشف لهم مقصدهم وأظهره لهم والأهبة الجهاز وما يحتاج إليه المسافر قوله فأنا إليها صعر هو بالعين المهملة أي أميل والصعر الميل.
قوله : وتفارط الغزو أي تباعد ما بيني وبين الجيش من المسافة وطفق مثل جعل والمغموص المعيب المشار إليه بالعيب.
يقال : فلان ينظر في عطفيه إذا كان معجباً بنفسه.
ويقال : زال به السراب يزول إذا ظهر شخص الإنسان خيالاً فيه من بعد.
والسراب : هو ما يظهر للإنسان في البرية في وقت الهاجرة كأنه ماء والمبيض بكسر الياء لابس البياض.
قوله : كن أبا خيثمة معناه أنت أبو خيثمة وقيل معناه : اللهم اجعله أبا خيثمة أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة قوله الذي لمزه المنافقون يعني عابوه واحتقروه والقافل الراجع من سفره إلى وطنه قوله حضرني بثني البث أشد الحزن كأنه لشدته يظهر قوله زاح عني الباطل أي زال وذهب عني وأجمعت صدقه أي عزمت عليه لقد أعطيت جدلاً أي فصاحة وقوة في الكلام بحيث أخرج عن عهدة ما أردت بما أشاء من الكلام والمغضب بفتح الضاد هو الغضبان قوله بما زالوا يؤنبونني أي يلومونني أشد اللوم قوله حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي أعرف : معناه تغير علي كل شيء من الأرض وتوحشت عليّ وصارت كأنها أرض لا أعرفها وقوله فأما صاحباي فاستكانا يعني خضعا وسكنا قوله تسورت حائط أبي قتادة أي علوته وصعدت سوره وهو أعلاه والأنباط الفلاحون والزراعون وهم من العجم والروم والمضيعة مفعلة من الضياع والأطراح , وقوله فتيممت بها التنور فسجرته بها أي فقصدت بالصحيفة التي أرسل بها ملك غسان فأحرقتها في التنور وسلع جبل بالمدنية معروفة وقوله وانطلقت أتأمم يعني أقصد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
والفوج : الجماعة من الناس.
يقال : برق وجهه إذا لمع وظهر عليه أمارات الفرح والسرور قوله أنخلع من مالي أي أخرج منه جميعه وأتصدق به كما يخلع الإنسان قميصه.
قوله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني البلاء.
والابتلاء : يكون في الخير وفي الشر وإذا أطلق كان في الشر غالباً فإذا أريد به الخير قيد به كما قيد هنا بقوله أحسن مما أبلاني أن أنعم على قوله أن لا أكون كذبته , هذا هو في جميع روايات الحديث بزيادة لفظ لا قال بعض العلماء لفظة لا زائدة ومعناه أن أكون كذبته وقوله فأهلك هو بكسر اللام وإرجاؤه أمرنا تأخيره وقوله في الرواية الأخرى يحطمكم الناس أي يطؤكم ويزدحمون عليكم وأصل الوطء الكسر وقوله سائر الليل يعني باقي الليل وقوله وآذن بتوبة الله علينا أي أعلم والأذان الإعلام

صفحة رقم 164
والله أعلم.
قوله عز وجل : ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( يعني بما اتسعت والرحب سعة المكان والمعنى أنه ضاق عليهم المكان بعد أن كان واسعاً ) وضاقت عليهم أنفسهم ( يعني من شدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم ) وظنوا ( يعني وأيقنوا وعلموا ) أن لا ملجأ ( يعني لا مفزع ولا مفر ) من الله إلا إليه ( ولا عاصم من عذابه إلا هو ) ثم تاب عليهم ( فيه إضمار وحذف تقديره وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فرحمهم ثم تاب عليهم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه وقوله ثم تاب عليهم تأكيد لقبول تبوتهم لأنه قد ذكر توبتهم في قوله تعالى : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ( كما تقدم بيانه وأنه عطف على قوله ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ( " أي وتاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار أي وتاب الله على الثلاثة الذين خلفوا.
وقوله تعالى : ( ليتوبوا ( معناه : أن الله سبحانه وتعالى تاب عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل فيرجعوا ويداوموا عليها وقيل إن أصل التوبة الرجوع ومعناه ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالتهم الأولى يعني إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك ) إن الله هو التواب ( يعني على عباده ) الرحيم ( بهم وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والفضل والإحسان وأنه لا يجب على الله تعالى شيء.
قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ( يعني في مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكونوا مع الصادقين ( يعني مع من صدق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذي قعدوا في البيوت وتركوا الغزو.
وقال سعيد بن جبير : مع الصادقين يعني مع أبي بكر وعمر.
قال ابن جريج : مع المهاجرين.
وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى تبوك بإخلاص نية.
وقيل : كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب وهم يعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق لأن الصدق يهدي إلى الجنة والكذب إلى الفجور كما ورد في الحديث.
وقال ابن مسعود : الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صاحبه شيئاً ثم لا ينجزه اقرأوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.
وروي أن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة وذلك أن الأنصار قالوا : منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر : يا معشر الأنصار إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون من هم قالت الأنصار : أنتم هم فقال أبو بكر : إن الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصدقين فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء وقيل مع بمعنى من والمعنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين قوله سبحانه وتعالى : ( ما كان لأهل المدينة ( يعني لساكني المدينة من المهاجرين والأنصار :

صفحة رقم 165
) ومن حولهم من الأعراب ( يعني سكان البوادي من مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وقيل : هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى ) أن يتخلفوا عن رسول الله ( يعني إذا غزا وهذا ظاهر خبر ومعناه النهي أي ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا يرغبوا ( يعني ولا أن يرغبوا ) بأنفسهم عن نفسه ( يعني ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يختاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويرضاه لنفسه ولا يختاروا لأنفسهم الخفض والدعة ويتركوا مصاحبته والجهاد معه في حال الشدة والمشقة وقال الحسن : لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مشقة السفر ومقاساة التعب ) ذلك بأنهم لا يصيبهم ( في سفرهم وغزواتهم ) ظمأ ( أي عطش ) ولا نصب ( أي تعب ) ولا مخمصة ( يعني مجاعة شديدة ) في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ( يعني ولا يضعون قدماً على الأرض يكون ذلك القدم سبباً لغيظ الكفار وغمهم وحزنهم ) ولا ينالون من عدو نيلاً ( يعني أسراً أو قتلاً أو هزيمة أو غنيمة أو نحو ذلك قليلاً كان أو كثيراً ) إلا كتب لهم به عمل صالح ( يعني إلا كتب الله لهم بذلك ثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم ) إن الله لا يضيع أجر المحسنين ( يعني ان الله سبحانه وتعالى لا يدع محسناً من خلقه قد أحسن في عمله وأطاعه فيما أمره به أو نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه وعمله الصالح في الآية دليل على أن من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله من قصد معصية الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها سيئآت إلا أن يغفرها الله بفضله وكرمه واختلف العلماء في حكم هذه الآية.
فقال قتادة : هذا الحكم خاص برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد ان يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف عنه إذا لم يكن للمسلمين إليه ضرورة.
وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيداً يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها فعلى هذا تكون هذه الآية محكمة لم تنسخ.
وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلاً فلما كثروا نسخها الله عز وجل وأباح التخلف لمن شاء بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة ونقل الواحدي عن عطية أنه قال : وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دعاهم وأمرهم.
وقال : هذا هو الصحيح لأنه لا تتعين الطاعة والإجابة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا إذا أمر وكذا غيره من الأئمة والولاة قالوا إذا ندبوا أوعينوا لأنّ لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد ولم يختص بذلك بعض دون بعض لأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد والله أعلم.
)
التوبة : ( 121 ) ولا ينفقون نفقة...
" ولا ينفقون نفقة صغيرة

صفحة رقم 166
ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " ( وقوله عز وجل : ( ولا ينفقون ( يعني في سبيل الله ) نفقة صغيرة ولا كبيرة ( يعني تمرة فما دونها أو أكثر منها حتى علاقة سوط ) ولا يقطعون وادياً ( يعني ولا يجاوزون في مسيرهم وادياً مقبلين أو مدبرين فيه ) إلا كتب لهم ( يعني كتب الله لهم آثارهم وخطاهم ونفقاتهم ) ليجزيهم الله ( يعني يجازيهم ) أحسن ما كانوا يعملون ( قال الواحدي : معناه بأحسن ما كانوا يعملون.
وقال الإمام فخر الدين الرازي : فيه وجهان : الأول : أن الأحسن من صفة أفعالهم وفيها الواجب والمندوب والمباح فالله سبحانه وتعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح.
والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب وفي الآية دليل على فضل الجهاد وأنه من أحسن أعمال العباد
( ق ) عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها ) وفي رواية ( وما فيها )
( ق ) عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وإيماناً بي وتصديقاً برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفسه محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فأقتل في سبيل الله ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل ) لفظ مسلم وللبخاري بمعناه
( ق ) .
عن أبي سعيد الخدري قال : ( أتى رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الناس أفضل قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله قال ثم من قال ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد الله ) وفي رواية ( يتقي الله ويدع الناس من شره )
( خ ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ) يعني حسنات
( خ ) عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) ( م ) عن أبي مسعود الأنصاري البدري قال : ( جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ) عن خريم بن فاتك قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف ) أخرجه الترمذي والنسائي.
)
التوبة : ( 122 ) وما كان المؤمنون...
" وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( الآية.
قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلوا عن رسول الله قال ناس من المنافقين.
هلك من تخلف فنزلت هذه الآية ومن كان المؤمنون لينفروا كافة.
وقال ابن عباس : أنها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب

صفحة رقم 167
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأجهدوهم فأنزل الله عز وجل الآية يخبر نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم إذا رجعوا إليهم فذلك قوله سبحانه وتعالى : ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : ( كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ويقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا عما نقول لعشائرنا إذا انلطقنا إليهم فيأمرهم نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) بطاعة الله وطاعة رسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة فكانوا إذا أتوا قومهم نادوا أن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى أن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرهم بما يحتاجون إليه من أمر الدين وأن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الإسلام وينذرهم ويبشروهم بالجنة وقال مجاهد : إن ناساً من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفاً ومن الحطب وما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم تحرجاً وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الله عز وجل ) فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ( يبتغون الخير وقعد طائفة ) ليتفقهوا في الدين ( ليسمعوا ما أنزل الله ) ولينذروا قومهم ( من الناس ) إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( وقال ابن عباس : ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيرون إلا بإذنه فإذا رجعت السرايا وقد نزل في بعضهم قرآن تعلمه القاعدون من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآناً وقد تعلمناه فمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخرى فذلك قوله سبحانه وتعالى ليتفقهوا في الدين يقول ليتعملوا ما أنزل الله على نبيهم ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون نقل هذه الأقوال كلها الطبري وأما تفسير الآية فيمكن أن يقال إنها بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد فعلى الاحتمال الأول فقد قيل : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا خرج للغزو ولم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بلغ الله في الكشف عن عيوب المنافقين وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عن سرية يبعثها فلما قدم المدينة وبعث السرايا نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحده فنزلت هذه الآية فيكون المعنى ما كان ينبغي للمؤمنين ولا يجوز لهم أن ينفروا بكليتهم إلى الجهاد ويتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل يجب أن ينقسموا إلى قسمين فطائفة يكونون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وطائفة ينفرون إلى الجهاد لأن ذلك الوقت كانت الحاجة داعية إلى انقسام أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قسمين : قسم للجهاد , وقسم

صفحة رقم 168
لتعلم العلم والتفقه في الدين , لأن الأحكام والشرائع كانت تتجدد شيئاً بعد شيء فالملازمون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحفظون ما نزل من الأحكام وما تجدد من الشرائع فإذا قدم الغزاة أخبروهم وبذلك فيكون معنى الآية وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا يعني فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للجهاد وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم من غزوهم لعلهم يحذرون يعني مخالفة مر الله وأمر رسوله وهذا معنى قول قتادة.
وقيل : إن التفقه صفة للطائفة النافرة قال الحسن : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ومعنى ذلك أن الفرقة النافرة إذا شاهدوا نصر الله لهم على أعدائهم وأن الله يريد إعلاء دينه وتقوية نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وأن الفئة القليلة قد غلبت جمعاً كثيراً , فإذا رجعوا من ذلك النفير إلى قومهم من الكفار , أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لهم لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والنفاق وأورد على هذا القول أن هذا النوع لا يعد تفقهاً في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا علموا أن الله هو ناصرهم ومقويهم على عدوهم كان ذلك زيادة في إيمانهم فيكون ذلك فقهاً في الدين.
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يقال إن هذه الآية كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد وهو ما ذكرناه عن مجاهد أن ناساً من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرجوا إلى البوادي فأصابوا معروفاً ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجاً فأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله هذه الآية والمعنى هلا نفر من كل فرقة طائفة وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ويبلغوا ذلك إلى النافرين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يعني بأس الله ونقمته إذا خالفوا أمره في الآية دليل على أنه يجب أن يكون المقصود من العلم والتفقه دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم فكل من تفقه وتعلم بهذا القصد كان المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وتعلم العلم لطلب الدنيا كان من الأخسرين أعمالاً الآية
( ق ) .
عن معاوية قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطى الله ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر الله )
( ق ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) عن ابن عباس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ) أخرجه الترمذي وأصل الفقه في اللغة الفهم يقال فقه الرجل إذا فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيهاً.
وقيل : الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم وفي الاصطلاح الفقه عبارة عن العلم بأحكام الشرائع وأحكام الدين وذلك ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ففرض العين معرفة أحكام الطهارة وأحكام الصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفة

صفحة رقم 169
ذلك قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) ذكره البغوي بغير سند وكذلك كل عبادة وجبت على المكلف بحكم الشرع يجب عليه معرفة علمها مثل علم الزكاة إذا صار مال يجب في مثله الزكاة وعلم أحكام الحج إذا وجب عليه.
وأما فرض الكفاية من الفقه , فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ودرجة الفتيا وإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعاً وإذا قام به من كل بلد واحد فتعلم حتى بلغ درجة الفتيا سقط الفرض عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث.
عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) أخرجه الترمذي مع زيادة فيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ) أخرجه الترمذي عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع ) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ) أخرجه أبو داود.
الآية المحكمة هي التي لا اشتباه فيها ولا اختلاف في حكمها أو ما ليس بمنسوخ , والسنة القائمة هي المستمرة الدائمة التي العمل بها متصل لا يترك , والفريضة العادلة هي التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها.
قال الفضيل بن عياض : عالم عامل معلم يدعى عظيماً في ملكوت السموات.
وأخرجه الترمذي موقوفاً وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ( طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ).
)
التوبة : ( 123 - 125 ) يا أيها الذين...
" يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ( أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب قال ابن عباس : مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها.
وقال ابن عمر : هم الروم لأنهم كانوا مكان الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق.
وقال بعضهم : هم الدليم.
وقال ابن زيد : كان الذين يلونهم من الكفار العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم فأمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد.
ونقل عن بعض العلماء أنه قال : نزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت : ( وقاتلوا المشركين كافة ( صارت ناسخة لقوله تعالى : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ( وقال المحققون من العلماء : لا وجه للنسخ , لأنه سبحانه وتعالى لما أمرهم بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور , ولهذا السبب قاتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أولاً قومه , ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم انتقل إلى قتال أهل الكتاب وهم : قريظة , والنضير , وخيبر , وفدك , ثم انتقل إلى غزو الروم في الشأم فكان فتح الشأم في زمن الصحابة ثم إنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد.
قوله سبحانه وتعالى : ( وليجدوا فيكم غلظة ( يعني شدة وقوة وشجاعة والغلظة ضد الرقة.
وقال الحسن : صبراً على جهادهم ) واعلموا أن الله مع المتقين ( يعني بالعون والنصرة.
قوله عز وجل : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً ( يعني : وإذا أنزل الله سورة من سورة القرآن فمن المنافقين من يقول يعني يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه يعني السورة إيماناً يعني تصديقاً ويقيناً وإنما يقول ذلك المنافقون استهزاء وقيل : يقول ذلك المنافقون لبعض المؤمنين

صفحة رقم 170
فقال سبحانه وتعالى : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم أيماناً ( يعني تصديقاً ويقيناً وقربة من الله , ومعنى الزيادة , ضم شيء إلى آخر من جنسه مما هو في صفته فالمؤمنون إذا أقروا بنزول سورة القرآن عن ثقة واعترفوا أنها من عند الله عز وجل زادهم ذلك القرار والاعتراف إيماناً وقد تقدم بسط الكلام على زيادة الإيمان في أول سورة الأنفال ) وهم يستبشرون ( يعني أن المؤمنين يفرحون بنزول القرآن شيئاً بعد شيء لأنهم كلما نزل ازدادوا إيماناً وذلك يوجب مزيد الثواب في الآخرة كما تحصل الزيادة في الإيمان بسبب نزول القرآن كذلك تحصل الزيادة في الكفر وهو قوله سبحانه ) وأما الذين في قلوبهم مرض ( أي شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى العلاج ) فزادتهم ( يعني السورة من القرآن ) رجساً إلى رجسهم ( يعني كفراً إلى كفرهم وذلك أنهم كلما جحدوا نزول سورة أو استهزؤوا بها ازدادوا كفراً مع كفرهم الأول وسمي الكفر رجساً لأنهم أقبح الأشياء وأصل الرجس في اللغة الشيء المستقذر ) وماتوا ( يعني هؤلاء المنافقين ) وهم كافرون ( يعني وهم جاحدون لما أنزل الله عز وجل على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال مجاهد : في هذه الآية الإيمان يزيد وينقص وكان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه ويقول تعالوا حتى نزداد إيماناً.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله , وإن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله , وأن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله , وأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شقتتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.
)
التوبة : ( 126 - 129 ) أو لا يرون...
" أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " ( قوله سبحانه وتعالى : ( أولا يرون ( قرئ ترون بالتاء على خطاب المؤمنين وقرئ بالياء على أنه خبر عن المنافقين المذكورين في قوله في قلوبهم مرض ) أنهم يفتنون ( يعني يبتلون ) في كل عام مرة أو مرتين ( يعني بالأمراض والشدائد.
وقيل : بالقحط والجدب.
وقيل : بالغزو والجهاد.
وقيل : إنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم.
وقيل : إنهم ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون.
وقيل إنهم ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ) ثم لا يتوبون ( يعني من النفاق ونقض العهد ولا يرجعون إلى الله ) ولا هم يذكرون ( يعني ولا يتعظون بما يرون من صدق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين ) وإذا ما أنزلت سورة ( يعني فيها عيب المنافين وتوبيخهم ) نظر بعضهم إلى بعض ( يريدون بذلك الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة ) هل يراكم من أحد ( يعني هل أحد من المؤمنين يراكم إن قمتم من مجلسكم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحداً يراهم من المؤمنين أقاموا ولبثوا على تلك الحال ) ثم انصرفوا ( يعني عن الإيمان بتلك

صفحة رقم 171
السورة النازلة.
وقيل : انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون ) صرف الله قلوبهم ( يعني عن الإيمان.
وقال الزجاج : أضلهم الله مجازاة لهم على فعلهم ) بأنهم قوم لا يفقهون ( يعني لا يفقهون عن الله دينه ولا شيئاً فيه نفعهم.
قوله سبحانه وتعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( هذا خطاب للعرب يعني : لقد جاءكم أيها العرب رسول من أنفسكم تعرفون نسبه وحسبه وأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وله فيهم نسب وقال جعفر بن محمد الصادق : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ) هكذا ذكره الطبري وذكر البغوي بإسناد الثعلبي.
عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام ) قال قتادة : جعله الله من أنفسكم فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.
قال بعض العلماء في تفسير قول ابن عباس : ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , يعني : من مضرها وربيعتها ويمانها فأما ربيعة ومضر فهم من ولد معد بن عدنان وإليه تنسب قريش وهو منهم وأما نسبه إلى عرب اليمين وهم القحاطنة فإن آمنة لها نسب في الأنصار وإن كانت من قريش والأنصار أصلهم من عرب اليمن من ولد قحطان بن سبأ فعلى هذا القول يكون المقصود من قوله : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم (.
ترغيب العرب في نصره والإيمان به فإنه تم شرفهم بشرفه وعزتهم بعزته وفخرهم بفخره وهو من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة والصيانة والعفاف وطهارة النسب والأخلاق الحميدة.
وقرأ ابن عباس والزهري : من أنفسكم بفتح الفاء.
ومعناه : أنه من أشرافكم وأفضلكم
( خ ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا حتى كنت من القرن الي كنت منه ) ( م ) عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هشام واصطفاني من بني هاشم ) عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدية من الأرض فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم وخير الفريقين ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً ) أخرجه الترمذي.
وقيل إن قوله سبحانه وتعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( عام فحمله على العموم أولى فيكون المعنى على هذا القول لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم يعني من جنسكم بشر مثلكم إذ لو كان من الملائكة لضعفت قوى البشر عن سماع كلامه والأخذ عنه.
قوله سبحانه وتعالى : ( عزيز عليه ما عنتم ( أي شديد عليه عنتكم يعني مكروهكم.
وقيل : يشق عليه ضلالكم ) حريص عليكم ( حريص على إيمانكم وإيصال الخير إليكم وقال قتادة : حريص

صفحة رقم 172
على هدايتكم وأن يهديكم الله ) بالمؤمنين رؤوف رحيم ( يعني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين
( ق ) .
عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي ) وقد سماه الله رؤوفاً رحيماً.
قال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله سبحانه وتعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسماه رؤوفاً رحيماً قال سبحانه وتعالى : ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم.

سورة يونس
تفسير سورة يونس عليه السلام نزلت بمكة إلا ثلاث آيات وهي قوله سبحانه وتعالى ' فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ' إلى آخر الثلاث آيات قاله ابن عباس وبه قال قتادة وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله تعالى ' ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ' الآية وقال مقاتل هي مكية إلا آيتين وهي واثنتان وثلاثون كلمة وتسعة آلاف وتسعة وتسعون حرفاً.
بسم الله الرحمن الرحيم )
يونس : ( 1 ) الر تلك آيات...
" الر تلك آيات الكتاب الحكيم " ( قوله عز وجل : ( الر ( قال ابن عباس والضحاك معناه أنا الله أرى وقال ابن عباس في رواية أخرى : عنه الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة وبه قال سعيد بن جبير وسالم بن عبد الله وقال قتادة : الر اسم من أسماء القرآن وقيل هي اسم للسورة وقد تقدم الكلام في معنى الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما فيه كفاية ) تلك آيات الكتاب ( المراد في لفظ تلك الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة ويكون التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب وهو القرآن الذي أنزله الله إليك يا محمد وذلك أن الله عز وجل وعده أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا تغيره الدهور.
وقيل : إن لفظة تلك للإشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن.
والمعنى : أن تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم , وفيه قول آخر أن المراد بآيات الكتاب الكتب التي قبل القرآن حكاه الطبري عن قتادة.
وروي عن مجاهد أنها التوراة والإنجيل فعلى هذا القول يكون التقدير أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة أو الإنجيل والمراد من الآيات القصص المذكورة في هذه السورة وهذا وإن كان له وجه فهو ضعيف لأن التوراة والإنجيل لم يجر لهما ذكر قريب حتى يشار إليهما قيل : إن المراد من الآيات حروف الهجاء التي منها الر سميت آيات لأنها افتتاح السور وسر القرآن ) الحكيم ( يعني المحكم الحلال والحرام

صفحة رقم 173
والحدود والأحكام.
فعيل : بمعنى مفعول.
وقيل : الحكيم بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل لأن القرآن حاكم يميز بين الحق والباطل ويفصل الحلال من الحرام.
وقيل : حكيم بمعنى المحكوم فيه فيعمل بمعنى مفعول.
قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.
وقيل : إن الحكيم هو الذي يفعل الحكمة والصواب فمن حيث إنه يدل على الأحكام صار كأنه هو الحكيم في نفسه.
)
يونس : ( 2 - 4 ) أكان للناس عجبا...
" أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( أكان للناس عجباً ( قال ابن عباس : سبب نزول هذه الآية أن الله عز وجل لما بعث محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً أنكرت العرب ذلك ومن أنكر منهم قال : الله أعظم من أن يكون له رسول بشر مثل محمد فقال الله سبحانه وتعالى : ( أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم ( وقال سبحانه وتعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ( " الآية والهمزة في أكان همزة استفهام ومعناه الإنكار والتوبيخ والمعنى لا يكون ذلك عجباً ) أن أوحينا إلى رجل منهم ( والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة.
وقيل : العجب حالة تعتري الإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة وبالرجل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) منهم يعني من أهل مكة من قريش يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ) أن أنذر الناس ( يعني خوفهم بعقاب الله تعالى إن أصروا على الكفر والمخالفة والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ( اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق.
فقال ابن عباس : أجراً حسناً بما قدموا من أعمالم.
وقال الضحاك : ثواب صدق.
وقال مجاهد : الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم.
وقال الحسن : عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول يعني في اللوح المحفوظ.
وقال زيد بن اسلم : هو شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول قتادة.
وقيل : لهم منزلة رفيعة عند ربهم وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقوله مسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد والفائدة في هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله في مقعد صدق , وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم.
يقال : لفلان قدم في الإسلام وقدم في الخير ولفلان عندي قدم صدق وقدم سوء.
قال حسان بن ثابت :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
وقال الليث وأبو الهيثم القدم السابق والمعنى أنه قد سبق لهم عند الله خير قال ذو الرمة :
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد.
وقال ذو الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
معناه لكم سابقة عظيمة لا ينكرها الناس وقال آخر.
صل لذي العرش واتخذ قدماً
تنجيك يوم العثار والزلل
وقوله سبحانه وتعالى : ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ( وقرئ : لساحر مبين وفيه

صفحة رقم 174
حذف تقديره أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون : إن هذا لساحر , يعنون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) , وإنما نسبوه إلى السحر لما أتاهم بالمعجزات الباهرات التي لا يقدر أحد من البشر أن يحصل مثلها , ومن قرأ السحر فإنهم عنوا به القرآن المنزل عليه وإنما نسبوه إلى السحر لأن فيه الإخبار بالبعث والنشور وكانوا ينكرون ذلك.
قوله عز وجل : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ( تقدم تفسير هذا في سورة الأعراف بما فيه كفاية.
وقوله سبحانه وتعالى : ( يدبر الأمر ( قال مجاهد : يقضيه وحده.
وقيل : معنى التدبير , تنزيل الأمور في مراتبها وعلى أحكام عواقبها.
وقيل : إنه سبحانه وتعالى يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة وهو النظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي.
وقيل : معناه إنه سبحانه وتعالى يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض فلا يحدث حدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي إلا بإرادته وتدبيره وقضائه وحكمته ) ما من شفيع إلا من بعد إذنه ( يعني : لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده وبموضع الصواب والحكمة في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم فإذا أذن له في الشفاعة كان له أن يشفع فيمن يأذن له فيه وفيه رد على كفار قريش في قولهم : إن الأصنام تشفع لهم عند الله يوم القيامة فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لأن له التصرف المطلق في جميع العالم ) ذلكم الله ربكم ( يعني الذي خلق هذه الأشياء ودبرها هو ربكم وسيدكم لا رب لكم سواه ) فاعبدوه ( أي فاجعلوا عبادتكم له لا لغيره لأنه المستحق للعبادة بما أنعم عليكم من النعم العظيمة ) أفلا تذكرون ( يعني أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الدلائل والآيات التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى : ( إليه مرجعكم جميعاً ( يعني إلى ربكم الذي خلق جميع المخلوقات مصيركم جميعاً أيها الناس يوم القيامة والمرجع بمعنى الرجوع ) وعد الله حقاً ( يعني وعدكم الله ذلك وعداً حقاً ) إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ( أي يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم وهذا معنى قول مجاهد فإنه قاله يحييه ثم يميته ثم يحييه.
وفي هذه الآية دليل على إمكان الحشر والنشر والمعاد وصحة وقوعه ورد على منكري البعث ووقوعه , لأن القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة والأعضاء المركبة على غير مثال سبق , قادر على إعادتها بعد تفرقها بالموت والبلى , فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيباً ثانياً ويخلق الإنسان الأول مرةأخرى وكما لم يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى وإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت كان المقصود منها إيصال الثواب للمطيع والعقاب للعاصي وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ( يعني بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئاً ) والذين كفروا لهم شراب من حميم ( هو ماء حار قد انتهى حره ) وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (.
)
يونس : ( 5 - 7 ) هو الذي جعل...
" هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون " ( ) هو الذي جعل الشمس ضياء ( يعني ذات ضياء ) والقمر نوراً ( يعني ذا نور.
واختلف العلماء أصحاب الكلام في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض , والحق أنه عرض وهو كيفية مخصوصة فالنور اسم لأصل هذه الكيفية والضوء اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية فلهذا خص الشمس بالضياء لأنها أقوى وأكمل من النور وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما لو تساوياً لم يعرف الليل من النهار فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل

صفحة رقم 175
وأقوى من النور المختص بالقمر ) وقدَّره منازل ( قيل : الضمير في وقدَّره يرجع إلى الشمس والقمر والمعنى قدر لهما منازل أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانهما في السير ولا يقصران عنهما وإنما وحد الضمير في وقدره للإيجاز أو اكتفى بذكر أحدهما دون الآخر فهو كقوله سبحانه وتعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ( " وقيل : الضمير في وقدره يرجع إلى القمر وحده لأن سير القمر في المنازل أسرع وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشرع مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشرع هي السنة القمرية لا الشمسية.
ومنازل القمر ثمان وعشرون منزلة : وهي الشرطين , والبطين , والثرايا , والدبران , والهقعة , والهنعة , والذراع , والنثرة , والطرف والجبهة , والزبرة , والصفرة , والعواء , والسماك , والغفر , والزباني , والإكليل , والقلب , والشولة , والنعائم , والبلدة , وسعد الذابح , وسعد بلع , وسعد السعود , وسعد الأخبية , وفرغ الدلو المقدم , وفرغ الدلو المؤخر , وبطن الحوت , فهذه منازل القمر وهي مقسومة على اثني عشر برجاً وهي : الحمل , والثور , والجوزاء , والسرطان , والأسد , والسنبلة , والميزان , والعقرب , والقوس , والجدي , والدلو , والحوت , لكل برج منزلان وثلث منزل وينزل القمر كل ليلة منزلاً منهما إلى انقضاء ثمانية وعشرين ليلة ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين وإن كان تسعاً وعشرين اختفى ليلة واحدة ) لتعلموا عدد السنين ( يعني قدر هذه المنازل لتعلموا بها عدد السنين ووقت دخولها وانقضائها ) والحساب ( يعني : ولتعلموا حساب الشهور والإيام والساعات ونقصانها وزيادتها ) ما خلق الله ذلك إلا بالحق ( يعني للحق وإظهار قدرته ودلائل وحدانيته ولم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً ) يفصل الآيات لقوم يعلمون ( يعني يبين دلائل التوحيد بالبراهين القاطعة لقوم يستدلون بها على قدرة الله ووحدانيته ) إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ( تقدم تفسير هذه الآية في نظائرها ) إن الذين لا يرجون لقاءنا ( يعني لا يخافون لقاءنا يوم القيامة فهم مكذبون بالثواب والعقاب والرجاء يكون بمعنى الخوف تقول العرب : فلان لا يرجو فلاناً بمعنى : لا يخافه , ومنه قوله سبحانه وتعالى ما لكم لا ترجون الله وقاراً ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
89 ( إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ) 89
أي لم يخفه.
والرجاء يكون بمعنى الطمع , فيكون المعنى : لا يطمعون في ثوابنا ) ورضوا بالحياة الدنيا ( يعني : اختاروها وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها ) واطمأنوا بها ( يعني وسكنوا إليها مطمئنين فيها وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار من الميل إلى الدنيا ولذاتها أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم ) والذين هم عن آياتنا غافلون (

صفحة رقم 176
قيل المراد بالآيات أدلة التوحيد.
وقال ابن عباس : عن آياتنا يعني عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن ؛ غافلون : أي معرضون.
)
يونس : ( 8 - 11 ) أولئك مأواهم النار...
" أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون " ( ) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( يعني : من الكفر والتكذيب والأعمال الخبثية.
قوله عز وجل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ( يعني يهديهم ربهم إلى الجنان ثواباً لهم بإيمانهم وإعمالهم الصالحة وقال مجاهد : يهديهم على الصراط إلى الجنة : يجعل لهم نوراً يمشون به.
وقال قتادة : بلغنا أن المؤمن إذا خرج من قبره يصور له عمله في صورة حسنة فيقول له : من أنت فيقول : أنا عملك.
فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة , والكافر بالضد , فلا يزال به عمله حتى يدخله النار وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون المعنى أن الله يزيدهم هداية بخصائص ولطائف وبصائر ينور بها قلوبهم ويزيل بها الشكوك عنهم ويجوز أن يكون المعنى ويثبتهم على الهداية وقيل معناه بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم ) تجري من تحتهم الأنهار ( يعني بين أيديهم ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم فهو كقوله سبحانه وتعالى : ( قد جعل ربك تحتك سرياً ( " لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه بل أراد بين يديها.
وقيل : تجري بأمرهم ) في جنات النعيم ( يعني ذلك لهم جنات النعيم ) دعواهم فيها ( أي قولهم وكلامهم فيها.
وقيل : الدعوى بمعنى الدعاء أي دعاؤهم فيها ) سبحانك اللهم ( وهي كلمة تنزيه لله تعالى من كل سوء ونقيصة.
قال أهل التفسير : هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم فيأتونهم في الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل في ميل على كل مائدة سبعون ألف صحفة في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضاً فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تبارك وتعالى : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( وقيل : إن المراد بقوله سبحانك اللهم اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله وفي هذا الذكر والتحميد سرورهم وابتهاجهم وكمال لذتهم ويدل عليه ما روي عن جابر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون قالوا فما بال الطعام قال جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وفي رواية التسبيح والحمد ) أخرجه مسلم.
قوله جشاء أي يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقاً.
وقوله سبحانه وتعالى : ( وتحيتهم فيها سلام ( يعني يحيي بعضهم بعضاً بالسلام.
وقيل : تحييهم الملائكة بالسلام وقيل تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب وأنهم إذا اشتهوا شيئاً قالوا : سبحانك الله فيحضر ذلك الشيء وإذا فرغوا منه.
قالوا : الحمد لله رب العالمين فترفع الموائد عند ذلك وقال الزجاج : أعلم الله أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بشكره والثناء عليه.
وقيل : إنهم يفتتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد.
وقيل : إنهم يلهمون ذلك كما ذكر في الحديث

صفحة رقم 177
قوله سبحانه وتعالى : ( ولو يعجل الله للناس الشر ( يعني ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر بما لهم فيه مضرة ومكروه في نفس أو مال.
قال ابن عباس : هذا في قول الرجل لأهله وولده عند الغضب لعنكم الله لا بارك الله فيكم.
وقال قتادة : هو دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله وولده بما يكره أن يستجاب له فيه ) استعجالهم بالخير ( يعني كاستعجالهم بالخير وكما يحبون أن يعجل لهم إجابة دعائهم بالخير ) لقضي إليهم أجلهم ( يعني لفرغ من هلاكهم وماتوا جميعاً والتعجيل تقديم الشيء قبل وقته والاستعجال طلب العجلة.
وقال ابن قتيبة : إن الناس عند الغضب والضجر قد يدعون على أنفسهم وأهلهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال يقال لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم يعني : لفرغ من هلاكهم ولكن الله عز وجل بفضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير ولا يستجيب له في الشر.
وقيل : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فعلى هذا يكون المعنى ولو يعجل الله للكافرين العذاب كما عجل لهم خير الدنيا من المال والولد لعجل قضاء آجالهم ولهلكوا جميعاً ويدل على صحة هذا القول قوله سبحانه وتعالى : ( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ( يعني فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت ) في طغيانهم ( يعني في تمردهم وعتوهم ) يعمهون ( يعني يترددون
( ق ) .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللهم إني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه فإنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة واجعل ذلك كفارة له يوم القيامة ) )
يونس : ( 12 - 14 ) وإذا مس الإنسان...
" وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " ( ) وإذا مس الإنسان الضر ( أي الشدة والجهد والمراد بالإنسان في هذه الآية الكافر ) دعانا لجنبه ( أي على جنبه مضطجعاً ) أو قاعداً أو قائماً ( يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا ينفك عن إحدى هذه الحالات الثلاث والمعنى أن المضرور لا يزال داعياً في جميع حالاته إلى أن ينكشف ضره سواء كان مضطجاً أو قائماً أو قاعداً وهذا القول فيه بعد لأن ذكر الدعاء إلى هذه الأحوال أقرب من ذكر الضر ) فلما كشفنا عنه ضره ( يعني فلما أزلنا عنه ما نزل به من الضر ودفعنا عنه ) مر ( يعني على طريقته الأولى قبل مس الضر ) كأن لم يدعنا ( فيه حذف تقديره كأنه لم يدعنا وإنما أسقط الضمير على سبيل التخفيف ) إلى ضر مسه ( والمعنى أنه استمر على حالته الأولى قبل أن يمسه الضر ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء والضيق والفقر ) كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ( يعني مثل ما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح كذلك زين للمسرفين والمزين هو الله سبحانه وتعالى لأنه مالك

صفحة رقم 178
الملك والخلق كلهم عبيده يتصرف فيهم كيف يشاء وقيل المزين هو الشيطان وذلك بأقدار الله إياه على ذلك والمسرف هو المجاوز الحد في كل شيء وإنما سمي الكافر مسرفاً لأنه أتلف نفسه ويضعها في عبادة الأصنام وأتلف ماله وضيعه في البحائر والسوائب وما كانوا ينفقونه على الأصنام وسدنتها يعني خدامها.
وقال ابن جريج : في قوله كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون يعني من الدعاء عند المصيبة وترك الشكر عند الرخاء.
وقيل : كما زين لكم أعمالكم كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم.
وبيان مقصود الآية أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء قليل الشكر عند حصول النعماء والرخاء فإذا مسه الضر أقبل على الدعاء والتضرع في جميع حالاته مجتهداً في الدعاء طالباً من الله إزالة ما نزل به من المحنة والبلاء فإذا كشف الله ذلك عنه أعرض عن الشكر ورجع إلى ما كان عليه أولاً وهذه حالة الغافل الضعيف اليقين فأما المؤمن العاقل فإنه بخلاف ذلك فيكون صابراً عند البلاء شاكر الله عند الرخاء والنعماء كثير التضرع والدعاء في جميع أوقات الراحة والرفاهية وهاهنا مقام أعلى من هذا وهو أن المؤمن إذا ابتلي ببلية أو نزل به مكروه يكون مع صبره على ذلك راضياً بقضاء الله غير معرض بالقلب عنه بل يكونه شاكراً لله عز وجل في جميع أحواله وليعلم العبد المؤمن أن الله تبارك وتعالى مالك الملك على الإطلاق حكيم في جميع أفعاله وله التصرف في خلقه بما يشاء ويعلم أنه إن أبقاه على تلك المحنة فهو عدل وإن أزالها عنه فهو فضل.
قوله سبحانه وتعال : ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم ( يعني أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم يخوف بذلك كفارة مكة ) لما ظلموا ( يعني لما أشركوا ) وجاءتهم رسلهم بالبينات ( يعني فكذبوهم ) وما كانوا ليؤمنوا ( يعني : هذه الأمم برسلهم ويصدقوهم بما جاؤوا به من عند الله ) كذلك نجزي القوم المجرمين ( يعني : كما أهلكنا الأمم الخالية لما كذبوا رسلهم كذلك نهلككم أيها المشركون بتكذيبكم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ( الخطاب لأهل مكة الذين أرسل فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى ثم جعلناكم أيها الناس خلفاء في الأرض من بعد القرون الماضية الذين أهلكناهم ) لننظر كيف تعملون ( يعني خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب أعمالكم والنظر هنا بمعنى العلم يريد لنختبر أعمالكم وهو يعلم ما يكون قبل أن يكون.
قال أهل المعاني : معنى النظر , هو طلب العلم وجاز في وصف الله سبحانه وتعالى إظهاراً للعدل لأنه سبحانه وتعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله تبارك وتعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ( " ذكره الواحدي والرازي ( م ) عن سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الدنيا حلوة خصرة وأن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء ) أخرجه مسلم قوله فاتقوا الدنيا معناه احذروا فتنة الدنيا واحذروا فتنة النساء.
)
يونس : ( 15 - 17 ) وإذا تتلى عليهم...
" وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ( يعني وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتابنا الذي أنزلناه إليك يا محمد بينات يعني واضحات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوتك ) قال الذين لا يرجون لقاءنا ( يعني قال هؤلاء المشركون الذين لا يخافون عذابنا ولا يرجون ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وكل من كان منكراً للبعث فإنه لا يرجوا ثواباً ولا يخاف عقاباً ) ائت بقرآن غير هذا أو بدله (

صفحة رقم 179
قال قتادة : قال ذلك مشركو مكة , وقال مقاتل : هم خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري والعاص بن عامر بن هشام , قال هؤلاء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) : إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن غير هذا ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وإن لم ينزله الله عليك فقل أنت من عند نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالاً ومكان حلال حراماً.
قال الإمام فخر الدين الرازي : اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء وهو قولهم لو جتنا بقرآن غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك وغرضهم السخرية والاستهزاء.
الثاني : أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان حتى أنه لو فعل ذلك علموا أنه كان كاذباً في قوله : إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله.
ومعنى قوله : ائت بقرآن غير هذا أو بدله يحتمل أن يأتي بقرآن آخر مع وجود هذه القرآن ولتبديل لا يكون إلا مع وجوده وهو أن يبدل بعض آياته بغيرها كما طلبوه ولما سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمره الله أن يجيبهم بقوله ) قل ( أي قل يا محمد لهؤلاء ) ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ( يعني أن هذا الذي طلبتموه من التبديل ليس إليّ وما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي ولم أومر به ) إن أتبع إلا ما يوحى إليّ ( يعني فيما آمركم به أو أنهاكم عنه وما أخبركم إلا ما يخبرني الله به وإن الذي أتيتكم به هو من عند الله لا من عندي ) إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( أي : قل لهم يا محمد إني أخشى من الله إن خالفت أمره أو غيرت أحكام كتابه أو بدلته فعصيته بذلك أن يعذبني بعذاب عظيم في يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت.
قوله سبحانه وتعالى : ( قل ( أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله ) لو شاء الله ما تلوته عليكم ( يعني لو شاء الله لم ينزل علي هذا القرآن ولم يأمرني بقراءته عليكم ) ولا أدراكم به ( قال ابن عباس : ولا أدراكم الله به ولا أعلمكم به ) فقد لبثت فيكم عمراً من قبله ( يعني فقد مكثت فيكم قبل أن يوحى إلي هذا القرآن مدة أربعين سنة لم آتكم بشيء ووجه هذا الاحتجاج أن كفار مكة كانوا قد شاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مبعثه وعلموا أحواله وأنه كان أمياً لم يطالع كتاباً ولا تعلم من أحد مدة عمره قبل الوحي وذلك أربعون سنة ثم بعد الأربعين جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والآداب ومكارم الأخلاق والفصاحة والبلاغة ما أعجز البلغاء والفصحاء عن معارضته فكل من له عقل سليم وفكر ثاقب يعلم أن هذا لم يحصل إلا بوحي من الله تعالى لا من عند نفسه وهو قوله ) أفلا تعقلون ( يعني أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ لا من قبل نفسي
( ق ) عن ابن عباس قال : أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ابن أربعين سنة فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين ثم توفي ( صلى الله عليه وسلم ) : في رواية أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة , وفي رواية أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة , وفي رواية أن النبي أقام بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئاً وثمان سنين يوحى إليه وأقام بالمدينة عشراً أو توفي وهو ابن خمس وستين سنة أخرجاه في الصحيحين
( ق ) عن عائشة قالت : توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ابن ثلاث وستين سنة.
أخرجاه في الصحيحين ( م ) عن أنس قال : قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ابن ثلاث وستين سنة وأبو بكر

صفحة رقم 180
وهو ابن ثلاث وستين وعمر وهو ابن ثلاث وستين أخرجه مسلم
( ق ) .
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سمعت أنس بن مالك يصف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : كان ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم ليس بجعد قطط ولا سبط رجل أنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه الوحي وبالمدينة عشراً وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعره بيضاء.
أخرجاه في الصحيحن قال الشيخ محيي الدين النووي : ورد في عمره ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث روايات إحداها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) توفي وهو ابن ستين سنة والثانية خمس وستون سنة والثالثة ثلاث وستون سنة وهو أصحها وأشهرها رواها مسلم من حديث أنس وعائشة وابن عباس واتفق العلماء على أن أصحها ثلاث وستون سنة وتأولوا الباقي عليه فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود وترك الكسر ورواية الخمس متأولة أيضاً بأنها حصل فيها اشتباه.
قوله : يسمع الصوت , يعني صوت الهاتف من الملائكة ويرى الضوء يعني شوء الملائكة أو نور آيات الله حتى رأى الملك بعينه وشافه بالوحي من الله عز وجل وقوله ليس بالأبيض الأمهق المراد به الشديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهم الناظر أنه برص.
والمراد : أننه كان أزهر اللون البياض والحمرة.
قوله عز وجل : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( يعني فزعم أن له شريكاً وولداً والمعنى : أني لم أفتر على الله كذباً ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله وأنتم قد افترتيم على الله الكذب فزعمتم أن له شريكاً وولداً والله تعالى منزه عن الشريك والولد وقيل : معناه إن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان أحد في الدنيا أظلم على نفسه مني من حيث إني أفتريته على الله ولما كان هذا القرآن من عند الله أوحاه إليّ وجب أن يقال ليس أحد في الدنيا أجهل ولا أظلم على نفسه منكم من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله فقد كذبتم بآياته وهو قوله تعالى : ( أو كذب بآياته ( يعني جحد بكون القرآن من عند الله وأنكر دلائل التوحيد ) إنه لا يفلح المجرمون ( يعني المشركون وهذا وعيد وتأكيد لما سبق.
)
يونس : ( 18 - 21 ) ويعبدون من دون...
" ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " ( ) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ( يعني : ويعبد هؤلاء المشركون الأصنام التي لا تضرهم إن عصوها وتركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها لأنها حجارة وجماد لا تضر ولا تنفع وإن العبادة أعظم أنواع التعظيم فلا تليق إلا بمن يضر وينفع ويحيي ويميت وهذه الأصنام جماد وحجارة لا تضر ولا تنفع ) ويقولون هؤلاء ( يعني الأصنام التي يعبدونها ) شفعاؤنا عند الله ( قال أهل المعاني : توهموا أن عبادتها أشد من تعظيم الله من عبادتهم إياه وقالوا لسنا بأهل أن نعبد الله ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام فإنها تكون شافعة لنا عند الله ومنه قوله سبحانه وتعالى إخبار عنهم ) ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( " وفي هذه الشفاعة قولان :
أحدهما : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة قاله ابن جريج عن ابن عباس.
والثاني : أنها تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم قاله الحسن لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثاً بعد الموت ) قل ( أي قل لهم يا محمد ) أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض ( يعني : أتخبرون الله أن له شريكاً ولا يعلم الله لنفسه شريكاً في السموات ولا في الأرض.
وهذا على طريق الإلزام.
المقصود : نفي علم الله بذلك الشفيع وأنه لا وجود له البتة لأنه لو كان موجوداً لعلمه الله وحيث لم يكن معلوماً لله وجب أن لا يكون موجوداً ومثل هذا مشهور

صفحة رقم 181
في العرف فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء حصل في نفسه يقول : ما علم الله ذلك مني مقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع ) سبحانه وتعالى عما يشركون ( نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشركاء والأضداد والأنداد وتعالى أن يكون له شريك في السموات والأرض ولا يعلمه.
قوله سبحانه وتعالى : ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ( يعني : فتفرقوا إلى مؤمن وكافر يعني كانوا جميعاً الدين الحق وهو دين الإسلام ويدل على ذلك أن آدم عليه السلام وذريته كانوا على دين الإسلام إلى أن قتل قابيل هابيل ثم اختلفوا.
وقيل : بقوا على ذلك إلى زمن نوح عليه السلام ثم اختلفوا فبعث الله نوحاً.
وقيل : إنهم كانواعلى دين الإسلام وقت خروج نوح ومن معه من السفينة ثم اختلفوا بعد ذلك وقيل كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي.
فعلى هذا القول , يكون المراد من الناس في قوله ) وما كان الناس إلا أمة واحدة ( العرب خاصة.
وقيل : كان الناس أمة واحدة في الكفر.
وهذا لقول منقول عن جماعة من المفسرين ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى في سورة البقرة : ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ( " وتقديره : أنه لا مطمع في أن يصير الناس على دين واحد فإنهم كانوا أولاً على الكفر وإنما أسلم بعضهم ففيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل : كان الناس أمة واحدة.
وليس في الآية ما يدل على أي دين كانوا من إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج.
وقيل : معناه أنهم كانوا في أول الخلق على الفطرة السليمة الصحيحة ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) والمراد بالفطرة في الحديث , فطرة الإسلام.
قوله سبحانه وتعالى ) ولولا كلمة سبقت من ربك ( يعني أنه سبحانه وتعالى جعل لكل أمة أجلاً وقضى بذلك في سابق الأزل , وقال الكلبي : هي إمهال هذه الأمة وأنه لا يهلكهم بالعذاب ) لقضي بينهم ( يعني بنزول العذاب وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فصلاً بينهم ) فيما فيه يختلفون ( وقال الحسن : ولولا كلمة سبقت من ربك يعني مضت في حكمة الله أنه لا يقضي عليهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضى بينهم في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بإيمانهم وأدخل الكافرين النار بكفرهم ولكن سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة وقيل سبق من الله أنه لا يؤاخذ أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه.
وقيل : الكلمة التي سبقت من الله هي قوله : ( إن رحمتي سبقت غضبي ) ولولا رحمته , لعجل لهم العقوبة في الدنيا ولكن أخرهم برحمته إلى يوم القيامة ثم يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يعني في الدنيا ) ويقولون ( يعني كفار مكة ) لولا أنزل عليه آية من ربه ( يعني هلا نزل على محمد ما نقترحه عليه من الآيات ) فقل ( أي : فقل لهم يا محمد ) إنما الغيب لله ( يعني إن الذي سألتمونيه هو من الغيب وإنما الغيب لله لا يعلم أحد ذلك إلا هو والمعنى لا يعلم أحد متى نزول الآية إلا هو ) فانتظروا ( يعني نزولها ) إني معكم من المنتظرين ( وقيل معناه فانتظروا قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل إني معكم من المنتظرين قوله عز وجل : ( وإذا أذقنا الناس رحمة ( يعني رخاء ونعمة ) من بعد ضراء مستهم ( يعني من بعد شدة وبلاء وضيق في العيش أصابهم

صفحة رقم 182
والمراد بالناس هنا : كفار مكة , وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين حتى هلكوا من الجوع والقحط , ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم , فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك الضر فلم يتعظوا بذلك بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر وهو قوله سبحانه وتعالى : ( إذا لهم مكر في آياتنا ( قال مجاهد : أي تكذيب واستهزاء وقال مقاتل وابن حيان : لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.
ويدل على صحة هذا القول ما روي عن زيد بن خالد الجهني قال : صلى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل , فلما انصرف , أقبل على الناس فقال : ( هل تدرون ماذا قال ربكم ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بين مؤمن بالكواكب ) أخرجاه في الصحيحين.
قوله : على أثر سماء كانت من الليل أي مطر كان قد وقع في الليل وسمي المطر سماء لأنه يقطر من السماء.
والأنواء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره وكانوا يعتقدون في الجاهلية أنه لا بد عند ذلك من وجود مطر أو ريح كما يزعم المنجمون أيضاً فمن العرب من يجعل ذلك التأثير للطالع لأنه ناء أي ظهر وطلع ومنهم من ينسبه للغارب فنفى النبي عليه السلام صحة ذلك ونهى عنه وكفَّر معتقده إذا اعتقد أن النجم فاعل ذلك التأثير وأما من يجعله دليلاً , فهو جاهل بمعنى الدلالة.
وأما من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وحرمه قوم ومنهم من تأول الكفر بكفر نعمة الله والله أعلم وسمى تكذيبهم بآيات الله مكراً لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بنوع من الحيلة وكان كفار مكة يحتالون في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من المفاسد : ( قل الله أسرع مكراً ( أي : قل لهم يا محمد الله أعجل عقوبة وأشد أخذاً وأقدر على الجزاء وإن عذابه في هلاكهم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ولما قابلوا نعمة الله بالمكر , قابل مكروهم بمكر أشد منه وهو أمهلهم إلى يوم القيامة ) إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ( يعني الحفظة الكرام الكاتبين يكتبون ويحفظون عليهم الأعمال القبيحة السيئة إلى يوم القيامة حتى يفتضحوا بها ويجزون على مكرهم.
)
يونس : ( 22 - 23 ) هو الذي يسيركم...
" هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون " ( قوله تعالى : ( هو الذي يسيركم في البر والبحر ( يعني : هو الله الذي يسيركم يعني يحملكم في البر على ظهور الدواب وفي البحر على الفلك.
وقيل : معناه هو الله الهادي لكم في السير في البر والبحر طلباً للمعاش أو هو المهيء لكم أسباب السير في البر والبحر ) حتى إذا كنتم في الفلك ( يعني : السفن.
ولفظة الفلك : تطلق على الواحد والجمع وتقديراهما مختلفان فإن أريد بهما الواحد كان كبناء قفل , وإن أريد بها الجمع كان كبناء أسد والمراد بها هنا الجمع لقوله تعالى : ( وجرين بهم ( يعني : وجرت السفن بركابها.
فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة ؟ قلت : قال صاحب الكشاف : المقصود منه المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتقبيح وقال غيره إن مخاطبة الله لعباده على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده إلى الغائب.
وقيل : إن الالتفات في الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس من فصيح كلام العرب ) بريح طيبة ( يعني وجرت السفن بريح طيبة ساكنة ) وفرحوا بها ( يعني وفرح ركبان تلك الفلك بتلك الريح الطيبة , لأن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود

صفحة رقم 183
حصل له النفع التام والمسرة العظيمة بذلك ) جاءتها ريح عاصف ( قيل : إن الضمير في جاءتها يرجع إلى الريح فيكون المعنى : جاءت الريح الطيبة ريح عاصف فأقلبتها.
وقيل : الضمير في جاءتها يرجع إلى الفلك.
يعني : جاءت الفلك.
ريح عاصم.
يقال : ريح عاصف وعاصفة , ومعنى عصفت الريح : اشتدت.
وأصل العصف : السرعة وإنما قال : عاصف , لأنه أراد به ذات عصوف أو لأجل أن لفظ الريح قد يذكر ) وجاءهم الموج من كل مكان ( يعني : وجاء ركبان السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من غوارب الماء في البحر وقيل : هو شدة حركة الماء واختلاطه ) وظنوا أنهم أحيط بهم ( يعني : وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق.
وقيل : المراد من الظن اليقين أي وأيقنوا أنه الهلاك.
وقيل : بل المراد منه المقاربة من الهلاك والدنو منه والإشراف عليه ) دعوا الله مخلصين له الدين ( يعني أنهم أخلصوا في الدعاء لله عز وجل ولم يدعو أحداً سواه من آلهتهم وقيل في معنى هذا الإخلاص العلم الحقيقي لا إخلاص الإيمان لأنهم كانوا يعلمون حقيقة أنه لا ينجيهم من جميع الشدائد والبلايا إلا الله تعالى فكانوا إذا وقعوا في شدة وضر وبلاء أخلصوا لله الدعاء ) لئن أنجيتنا ( أي قائلين لئن أنجيتنا يا ربنا ) من هذه ( يعني من هذه الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة ) لنكونن من الشاكرين ( يعني من الشاكرين لك على إنعامك علينا بخلاصنا مما نحن فيه من هذه الشدة ) فلما أنجاهم ( يعني : فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدة التي كانوا فيها ) إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ( يعني أنهم أخلفوا الله ما وعدوه وبغوا في الأرض فتجاوزوا فيها إلى غير ما أمر الله به من الكفر والعمل بالمعاصي على ظهرها وأصل البغي مجاوزة الحد.
قال صاحب المفردات : البغي على ضربين , أحدهما محمود وهو مجاوزة العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع.
والثاني مذموم وهو مجاوزة الحق إلى الباطل أو إلى الشبهة.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى قوله بغير الحق والبغي لا يكون بحق قلت بلى قد يكون بحق وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببني قريظة ) يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ( يعني : إن وبال بغيكم راجع عليكم ) متاع الحياة الدنيا ( قيل هو كلام مبتدأ , والمعنى : أن بغي بعضكم على بعض هو متاع الحياة الدنيا لا يصلح لزاد الآخرة وقيل هو كلام متصل بما قبله والمعنى يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم لا يتهيأ أن يبغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها في سرعة انقضائها.
والبغي : من منكرات الذنوب العظام.
قال بعضهم : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي.
وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعراً وكان المأمون يتمثل به فقال :
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فارجع فخير مقال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
وقوله سبحانه وتعالى : ( ثم إلينا مرجعكم ( يعني يوم القيامة ) فننبئكم ( أي فنخبركم ) بما كنتم تعملون ( يعني في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها.
)
يونس : ( 24 - 25 ) إنما مثل الحياة...
" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " ( قوله عز وجل : ( إنما مثل الحياة الدنيا ( يعني في فنائها وزوالها ) كماء أنزلناه من السماء ( يعني المطر ) فاختلط به ( أي بالمطر ) نبات الأرض ( قال ابن عباس : نبت بالماء من كل لون

صفحة رقم 184
) مما يأكل الناس ( يعني من الحبوب والثمار ) والأنعام ( يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه ) حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ( يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور ) وازينت ( أي وتزينت ) وظن أهلها ( يعني أهل تلك الأرض ) أنهم قادرون عليها ( يعني على جذاذها وقطافها وحصادها , رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهوماً.
وقيل : رده إلى الثمرة والغلة وقيل : إلى الزينة ) أتاها أمرنا ( أي قضاؤنا بهلاكها ) ليلاً أو نهاراً ( يعني في الليل أو النهار ) فجعلناها حصيداً ( يعني محصودة مقطوعة ) كأن لم تغن بالأمس ( يعني : كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات الزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها.
وذلك أنه تعالى لما قال : يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا , أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفاً فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن الله سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو برداً أو ريحاً فجعلها حصيداً كأن لم تكن من قبل.
قال قتادة : إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون.
ووجه التمثيل , أن غاية هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه , ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها.
وقيل : يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد والبعث بعد الموت وذلك , لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى أتته آفة فتلف بالكلية.
ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرة فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادراً على إعادة الأموات أحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
) كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( يعني : كما بينا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفنا كم حكمها , كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ليكون ذلك سبباً موجباً لزوال الشك والشبهة من القلوب.
قوله سبحانه وتعالى : ( والله يدعو إلى دار السلام ( لما ذكر الله زهرة الحياة الدنيا وأنها فانية زائلة لا محالة دعا إلى داره والله يدعو إلى دار السلام.
قال قتادة : الله هو السلام وداره الجنة فعلى هذا السلام اسم من أسماء الله عز وجل ومعناه أنه سبحانه وتعالى سلم من جميع النقائص والعيوب والفناء والتغيير.
وقيل : إنه سبحانه وتعالى يوصف بالسلام لأن الخلق سلموا من ظلمه.
وقيل : إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى ذي السلام أي لا يقدر على تخليص العاجزين من المكاره والآفات إلا هو.
وقيل : دار السلام اسم للجنة وهو جمع سلامة.
والمعنى : أن من دخلها فقد سلم من جميع الآفات , كالموت والمرض

صفحة رقم 185
والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد.
وقيل : سميت الجنة دار السلام لأن الله سبحانه وتعالى يسلم على أهلها أو تسلم الملائكة عليهم.
قيل : إن من كمال رحمة الله وجوده وكرمه على عباده , أن دعاهم إلى جنته التي هي دار السلام.
وفيه دليل على أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , لأن العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم ولا يصف إلا عظيماً , وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه : ( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( يعني : والله يهدي من يشاء من خلقه إلى صراطه المستقيم وهو دين الإسلام عم بالدعوة أولاً إظهاراً للحجة وخص بالدعوة ثانياً استغناء عن الخلق وإظهاراً للقدرة فحصلت المغايرة بين الدعوتين
( خ ) .
عن جابر قال : ( جاءت ملائكة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نائم فقال بعضهم : إنه نائم وقال بعضهم : العين نائمة والقلب يقظان فقالوا : إن لصاحبكم مثلاً فاضربوا له مثلاً فقالوا مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ) ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها يفقهها فإن العين نائمة والقلب يقظان فقال بعضهم الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله ومن عصى محمداً فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس وفي رواية : ( خرج علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلاً ) وعن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كتفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة على الأبواب ستور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والأبواب التي على كتفي الصراط حدود الله فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر والذي يدعو من فوقه واعظ ربه ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
)
يونس : ( 26 - 28 ) للذين أحسنوا الحسنى...
" للذين أحسنوا الحسنى

صفحة رقم 186
وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون " ( قوله عز وجل : ( للذين أحسنوا الحسنى ( قال ابن عباس : للذين شهدوا أن لا إله إلا الله الجنة.
وقيل : معناه للذين أحسنوا عبادة الله في الدنيا من خلقه وأطاعوه فيما أمرهم ونهاهم عنه الحسنى , قال ابن الأنباري : الحسنى في اللغة , تأنيث الأحسن والعرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخلصة المرغوب فيها.
وقيل : معناه للذين أحسنوا المثوبة الحسنى ) وزيادة ( اختلف المفسرون في معنى هذه الحسنى وهذه الزيادة على أقوال :
القول الأول : إن الحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم وهذا قول جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وهو قول الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي ويدل على صحة هذا القول المنقول والمعقول فما روي عن صهيب أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى أتريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب قال فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى ) زاد في رواية ( ثم تلا هذه الآية : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) أخرجه مسلم.
وروى الطبري بسنده عن كعب بن عجرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
وعن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قول الله سبحانه وتعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
قال : الحسنى : الجنة وزيادة : قال النظر إلى وجه الله.
وعن أبي موسى الأشعري قال : ( إن كان يوم القيامة بعث الله إلى أهل الجنة منادياً ينادي هل أنجزكم الله ما وعدكم به فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامات فيقولون نعم فيقول للذين أحسنوا الحسنى وزيادة النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى وفي رواية رفعها أبو موسى قال عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله يبعث يوم القيامة ( وذكره بمعناه.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله لهم : هل بقي من حقكم شيء لم تعطوه قال : فيتجلى لهم عز وجل قال فيصغر عندهم كل شيء أعطوه ثم قال للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال الحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه ربهم ( فهذه الأخبار والآثار قد دلت على أن المراد بهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.
وأما المعقول فنقول : إن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف فانصرفت إلى المعهود السابق وهو الجنة في قوله سبحانه وتعالى والله يدعو إلى دار السلام فثبت بهذا أن المراد من لفظة الحسنى هي الجنة وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمراً مغايراً لكل ما في الجنة من النعيم وإلا لزم التكرار وإذا كان كذلك وجب حمل هذه الزيادة على رؤية الله تبارك وتعالى ومما يؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( " فأثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما النضارة وهو حسن الوجوه وذلك من نعيم الجنة , والثاني النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى وآيات القرآن يفسر بعضها بعضاً فوجب حمل الحسنى على الجنة ونعيمها وحمل الزيادة على رؤية الله تبارك وتعالى.
وقالت المعتزلة : لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية , لأن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممتنعة , ولأن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ورؤية الله ليست من جنس نعيم الجنة ولأن الأخبار التي تقدمت توجب التشبيه ولأن جماعة من المفسرين حملوا هذه الزيادة على غير الرؤية فانتفى ما قلتم.
أجاب أصحابنا عن هذه الاعتراضات بأن الدلائل العقلية قد دلت على إمكان وقع رؤية الله تعالى في الآخرة وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأحاديث الصحيحة بإثبات الرؤية وجب المصير إليها وإجراؤها على ظواهرها من غير تشبيه ولا إحاطة.
وأجيب عن قولهم ولأن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه بأن المزيد عليه إذا كان بمقدار معين كانت الزيادة من جنسه وإذا لم يكن بمقدار معين وجب أن تكون الزيادة مخالفة له فالمذكور في الآية لفظ الحسنى وهي الجن ونعيمها غير مقدر بقدر معين فوجب أن الزيادة تكون شيئاً مغايراً لنعيم الجنة وذلك المغاير هو الرؤية
وأجيب عن قولهم ولأن جماعة من المفسرين حملوا الزيادة على غير الرؤية بأنه معارض بقول جماعة من المفسرين : بأن الزيادة هي الرؤية والمثبت مقدم على النافي والله أعلم.
القول الثاني : في معنى هذه الزيادة ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب.
القول الثالث : إن الحسنى واحدة الحسنات والزيادة التضعيف إلى تمام العشرة إلى سبعمائة.
قال ابن عباس : هو مثل قوله سبحانه وتعالى : ( ولدينا مزيد ( " يقول يجزيهم بعملهم ويزيدهم من فضله.
قال قتادة : كان الحسن يقول : الزيادة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
القول الرابع : إن الحسنى حسنة مثل حسنة والزيادة مغفرة من الله ورضوان قاله مجاهد.
القول الخامس : قول ابن زيد أن الحسنى هي الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به يوم القيامة وقوله سبحانه وتعالى : ( ولا يرهق وجوههم ( يعني ولا يغشى وجوه أهل الجنة ) قتر ( أي كآبة

صفحة رقم 187
ولا كسوف ولا غبار.
وقال ابن عباس : هو سواد الوجوه ) ولا ذلة ( يعني ولا هوان.
قال ابن أبي ليلى : هذا بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى : ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( يعني أن هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أصحاب الجنة لا غيرهم وهم فيها مقيمون لا يخرجون منها أبداً.
قوله سبحانه وتعالى : ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ( اعلم أنه لما شرح الله سبحانه وتعالى أحوال المحسنين وما أعد لهم من الكرامة شرح في الآية حال من أقدم على السيئات والمراد بهم الكفار فقال سبحانه وتعالى : والذين كسبوا السيئات.
يعني : والذين عملوا السيئات والمراد بها الكفر والمعاصي جزاء سيئة بمثلها يعني فلهم جزاء السيئة التي عملوها مثلها العقاب.
والمقصود من هذا التقييد , التنبيه على الفرق بين الحسنات والسيئات لأن الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة وذلك تفضلاً منه وتكرماً.
وأما السيئات , فإنه يجازي عليها بمثلها عدلاً منه سبحانه وتعالى : ( وترهقهم ذلة ( قال ابن عباس : يغشاهم ذل وشدة.
وقيل : يغشاهم ذل وهوان لعقاب الله إياهم ) ما لهم من الله من عاصم ( يعني ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم ) كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً ( يعني كأنما ألبست وجوههم سواداً من الليل المظلم ) أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( قوله سبحانه وتعالى : ( ويوم نحشرهم جميعاً ( الحشر الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد والمعنى ويوم نجمع الخلائق جميعاً لموقف الحساب وهو يوم القيامة ) ثم نقول للذين أشركوا مكانكم ( أي الزموا مكانكم واثبتوا فيه حتى تسألوا وفي هذا وعيد وتهديد للعابدين والمعبودين ) أنتم وشركاؤكم ( يعني أنتم أيها المشركون والأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله ) فزيلنا بينهم ( يعني : ففرقنا بين العابدين والمعبودين وميزنا بينهم وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.
فإن قلت قوله سبحانه وتعالى فزيلنا بينهم جاء على لفظ الماضي بعد قوله ثم نقول للذين أشركوا وهو منتظر في المستقبل فما وجهه.
قلت : السبب فيه , أن الذي حكم الله فيه بأنه سيكون صار كالكائن الآن.
قوله : ( وقال شركاؤهم ( يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله وإنما سماهم شركاءهم , لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم أو لأنه سبحانه وتعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله : مكانكم فقد صاروا شركاء في هذا الخطاب ) ما كنتم إيانا تعبدون ( تبرأ المعبودون من العابدين.
فإن قلت : كيف صدر هذا الكلام من الأصنام وهي جماد لا روح فيها ولا عقل لها ؟
قلت : يحتمل أن الله تعالى خلق لها في ذلك اليوم من الحياة والعقل والنطق حتى قدرت على هذا الكلام فإن قلت إذا أحياهم الله في ذلك اليوم فهل يفنيهم أو يبقيهم.
قلت : الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله وأحوال القيامة غير معلومة إلا ما دل عليه الدليل من كتاب أو سنة.
فإن قلت : إن الأصنام قد أنكرت أن الكفار كانوا يعبدونها وقد كانوا يعبدونها ؟
قلت : قد تقدمت هذه المسألة وجوابها في تفسير سورة الأنعام ونقول هنا قال مجاهد : تكون في يوم القيامة ساعة تكون فيها شدة تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله , فتقول الآلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ولا نعلم أنكم تعبدوننا فيقولون والله إياكم كنا نعبد فتقول لهم الآلهة.
)
يونس : ( 29 - 32 ) فكفى بالله شهيدا...
" فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون " ( ) فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (.
والمعنى قد علم الله وكفى به شهيداً

صفحة رقم 188
أما ما علمنا أنكم كنتم تعبدوننا وما كنا عن عبادتكم إيانا من دون الله إلا غافلين ما نشعر بذلك أما قوله سبحانه وتعالى : ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ( فهو كالتتمة للآية المتقدمة والمعنى في ذلك المقام أو ذلك الموقف أو ذلك الوقت على معنى استعارة إطلاق اسم المكان على الزمان وفي قوله تبلو قراءات قرئ بتاءين ولها معنيان أحدهما أنه من تلاه إذا تبعه أي تبع كل نفس ما أسلفت لأن العمل هو الذي يهدي النفس إلى الثواب أو العقاب.
الثاني : أن يكون من التلاوة والمعنى أن كل نفس تقرأ صحيفة عملها من خير أو شر.
وقرئ : تبلو بالتاء المثناة والباء الموحدة ومعناه تخبر وتعلم.
والبلو : الاختبار ومعناه : اختبارها ما أسلفت يعني : أنه إن قدم خيراً أو شراً قدم عليه وجوزي به ) وردوا إلى الله مولاهم الحق ( الرد : عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه.
والمعنى : وردوا إلى ما ظهر لهم من الله الذي هو مالكهم ومتولي أمرهم.
فإن قلت : قد قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى ) وأن الكافرين لا مولى لهم ( " فما الفرق ؟
قلت : المولى في اللغة يطلق على المالك ويطلق على الناصر , فمعنى المولى هنا المالك ومعنى المولى هناك الناصر فحصل الفرق بين الآيتين ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ( يعني وبطل وذهب ما كانوا يكذبون فيه في الدنيا وهو قولهم إن هذه الأصنام تشفع لنا.
قوله عز وجل : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض ( أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماء يعني المطر والأرض يعني النبات ) أم من يملك السمع والأبصار ( يعني ومن أعطاكم هذه الحواس التي تسمعون بها وتبصرون بها ) ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ( يعني أنه تعالى يخرج الإنسان حياً من النطفة وهي ميتة وكذلك الطير من البيضة وكذلك يخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ويخرج البيضة الميتة من الطائر الحي.
وقيل : معناه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن , والقول الأول أقرب إلى الحقيقة ) ومن يدبر الأمر ( يعني أن مدبر أمر السموات ومن فيها ومدبر أمر الأرض وما فيها هو الله تعالى وذلك قوله ) فسيقولون الله ( يعنى أنهم يعترفون أن فاعل هذه الأشياء هو الله وإذا كانوا يقرون بذلك ) فقل ( أي قل لهم يا محمد ) أفلا تتقون ( يعني : أفلا تخافون عقابه حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تقدر على شيء من هذه الأمور ) فذلكم الله ربكم الحق ( يعني : فذلكم الذي يفعل هذه الأشياء ويقدر عليها هو الله ربكم الحق الي يستحق العبادة لا هذه الأصنام ) فماذا بعد الحق إلا الضلال ( يعني : إذا ثبت بهذه البراهين الواضحة والدلائل القطعية أن الله هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً وباطلاً ) فأنى تصرفون ( يعني : إذا عرفتم هذا الأمر الظاهر الواضح فكيف تستخيرون العدول عن الحق إلى الضلال الباطل.
)
يونس : ( 33 - 35 ) كذلك حقت كلمة...
" كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " ( ) كذلك ( أي كما ثبت أنه ليس بعد الحق إلا الضلال ) حقت ( أي وجبت ) كلمة ربك ( في الأزل ) على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ( قيل : المراد بكلمة الله قضاؤه عليهم في اللوح المحفوظ أنهم لا يؤمنون وقضاؤه لا يرد ولا يدفع ) قل هل من شركائكم ( أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين هل من شركائكم يعني هذه الأصنام التي تزعمون أنها آلهة ) من يبدأ الخلق ( يعني من يقدر على أن ينشئ الخلق على غير مثال سبق ) ثم يعيده ( أي ثم يعيده بعد الموت كهيئته أول مرة , وهذا

صفحة رقم 189
السؤال استفهام إنكار ) قل ( أي : قل أنت يا محمد ) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ( يعني أن الله هو القادر على ابتداء الخلق وإعادته ) فأنى تؤفكون ( يعنى فأنى تصرفون عن قصد السبيل والمراد من هذا التعجب من أحوالهم كيف تركوا هذا الأمر الواضح وعدلوا عنه إلى غيره ) قل ( أي قل يا محمد ) هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ( يعني هل من هذه الأصنام من يقدر علي أن يرشد إلى الحق فإذا قالوا لا ولا بد لهم من ذل ) قل ( أي قل لهم أنت يا محمد ) الله يهدي للحق ( يعني أن الله هو الذي يرشد إلى الحق لا غيره ) أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ( يعني أن الله هو الذي يهدي إلى الحق فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدي.
فإن قلت : الأصنام جماد لا تتصور هدايتها ولا أن تهدي فكيف قال إلا أن يهدي.
قلت : ذكر العلماء عن هذا السؤال وجوهاً.
الأول : أن معنى الهداية في حق الأصنام الانتقال من مكان إلى مكان فيكون المعنى أنها لا تنتقل من مكان إلى مكان آخر إلا أن تحمل وتنقل , فبين سبحانه وتعالى بها عجز الأصنام.
الوجه الثاني : أن ذكر الهداية في حق الأصنام على وجه المجاز وذلك أن المشركين لما اتخذوا الأصنام آلهة وأنزلوها منزلة من يسمع ويعقل عبر عنها بما يعبر به عمن يسمع ويعقل ويعلم ووصفها بهذه الصفة وإن كان الأمر ليس كذلك.
الوجه الثالث : يحتمل أن يكون المراد من قوله هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده الأصنام , والمراد من قوله هل من شركائكم من يهدي إلى الحق رؤساء الكفر والضلالة فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين بما ظهر من الدلائل الدالة على وحدانيته وأما رؤساء الكفر والضلالة فإنهم لا يقدرون على هداية غيرهم إلا إذا هداهم الله إلى الحق فكان اتباع دين الله والتمسك بهدايته أولى من اتباع غيره.
وقوله سبحانه وتعالى : ( فما لكم كيف تحكمون ( قال الزجاج : فما لكم كلام تام كأنه قيل لهم : أي شيء لكم في عبادة هذه الأصنام.
ثم قال : كيف تحكمون ؟ يعني : على أي حال تحكمون.
وقيل : معناه كيف تقضون لأنفسكم بالجور حين تزعمون أن مع الله شريكاً وقيل معناه بئسما حكمتم إذ جعلتم لله شريكاً من ليس بيده منفعة ولا مضرة ولا هداية.
)
يونس : ( 36 - 40 ) وما يتبع أكثرهم...
" وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين " ( ) وما يتبع أكثرهم إلا ظناً ( يعني : وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته بل هم في شك منه وريبة وقيل المراد بالأكثر الكل لأن جميع المشركين يتبعون الظن في دعواهم أن الأصنام تشفع لهم وقيل المراد بالأكثر الرؤساء ) إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ( يعني أن الشك لا يغني عن اليقين شيئاً ولا يقوم مقامه وقيل في الآية إن قولهم إن الأصنام آلهة وإنها تشفع لهم ظن منهم لم يرد به كتاب ولا يعني أنها لا تدفع عنهم من عذاب الله شيئاً ) إن الله عليم بما يفعلون (

صفحة رقم 190
يعني من اتباعهم الظن وتكذيبهم الحق اليقين.
قوله تعالى : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ( يعني وما كان ينبغي لهذا القرآن أن يختلف ويفتعل لأن معنى الافتراء الاختلاق والمعنى ليس وصف القرآن وصف شيء ممكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر وذلك أن كفار مكة زعموا أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بهذا القرآن من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق فأخبر الله عز وجل أن هذا القرآن وحي أنزل الله عليه وأنه مبرأ من الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يؤكد هذا بقوله ) ولكن تصديق الذي بين يديه ( يعني ولكن الله أنزل هذا القرآن مصدقاً لما قبله من الكتب التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل.
وتقرير هذا , أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يجتمع بأحد من العلماء , ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بها القرآن العظيم المعجز وفيه أخبار الأولين وقصص الماضين وكل ذلك موافق لما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة قبله ولو لم يكن كذلك لقدحوا فيه لعداوة أهل الكتاب له ولما لم يقدح فيه أحد من أهل الكتاب علم بذلك أن ما فيه من القصص والأخبار مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع القطع بأنه ما علم ما فيها فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله عليه وأنه مصدق لما بين يديه وأنه معجزة له ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل في معنى قوله : ولكن تصديق الذي بين يديه يعني من أخبار الغيوب الآتية , فإنها جاءت على وفق ما أخر ) وتفصيل الكتاب ( يعني وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام ) لا ريب فيه من رب العالمين ( يعني أن هذا القرآن لا شك فيه أنه من رب العالمين وأنه ليس مفترى على الله وأنه لا يقدر أحد من البشر على الإتيان بمثله وهو قوله سبحانه وتعالى : ( أم يقولون افتراه ( يعني أم يقول هؤلاء المشركون افترى محمد هذا القرآن وخلقه من قبل نفسه وهو استفهام إنكار وقيل أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه ) قل ( أي : قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون ) فأتوا بسورة مثله ( يعني بسورة شبيهة به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم فأنتم عرب مثلي في الفصاحة والبلاغة.
فإن قلت : قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة فأتوا بسورة من مثله وقال سبحانه وتعالى هنا فأتوا بسورة مثله فما فائدة ذلك وما الفرق بينهما.
قلت لما كان محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أمياً لم يقرأ ولم يكتب وأتى بهذا القرآن العظيم كان معجزاً في نفسه فقيل لهم فأتوا بسورة من مثله يعني : مع إنسان أمي مثل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في عدم الكتابة والقرآءة.
وأما قوله سبحانه وتعالى : فأتوا بسورة مثله أي فأتوا بسورة تساوي سورة القرآن في الفصاحة والبلاغة وهو المراد بقوله فأتوا بسورة مثله يعني أن السورة في نفسها معجزة فإن الخلق لو اجتمعوا على ذلك لم يقدروا عليه وهو المراد من قوله : ( وادعوا من استطعتم من دون الله ( يعني وادعوا للاستعانة على ذلك من استطعتم من خلقه ) إن كنتم صادقين ( يعني في قولكم إن محمداً افتراه ثم قال تعالى : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ( يعني القرآن.
أي : كذبوا بما لم يعلموه.
قال عطاء : يريد أنه ليس خلق يحيط بجميع علوم القرآن.
وقيل : معناه بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها مما لم يحيطوا بعلمه , لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله.
وقيل : إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص وأخبار الأمم الخالية ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك أنكروها لجهلهم فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة لا يقدر أحد على استيعابها وتحصيلها ) ولما يأتهم تأويله ( يعني أنهم كذبوا به ولم

صفحة رقم 191
يأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في القرآن به من العقوبة.
والمعنى : أنهم لم يعلموا ما تؤول إليه عاقبة أمرهم.
وقيل : معناه أنهم لم يعلموه تنزيلاً ولا علموه تأويلاً فكذبوا به وذلك لأنهم جهلوا القرآن وعلمه وعلم تأويله ) كذلك كذب الذين من قبلهم ( يعني كما كذب هؤلاء بالقرآن كذلك كذب الأمم الماضية أنبياءهم فيما وعدوهم به ) فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي : فانظر يا محمد كيف كان عاقبة من ظلم من الأمم كذلك تكون عاقبة من كذبك من قومك ففيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس.
والمعنى : فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم فاحذر أن تفعل مثل فعله.
)
يونس : ( 41 - 45 ) وإن كذبوك فقل...
" وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين " ( ) وإن كذبوك ( يعني وإن كذبك قومك يا محمد ) فقل ( أي فقل لهم ) لي عملي ( يعني الطاعة وجزاء ثوابها ) ولكم عملكم ( يعني الشرك وجزاء عقابه ) أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون ( قيل : المراد منه الزجر والرجوع.
وقال مقاتل والكلبي : هذه الآية منسوخة بآية السيف.
قال الإمام فخر الدين الرازي : وهو بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً الحكم المنسوخ.
ومدلول الآية : اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلاً.
قوله تعالى : ( ومنهم ( يعني ومن هؤلاء المشركين ) من يستمعون إليك ( يعني بأسماعهم الظاهرة ولا ينفعهم ذلك لشدة بغضهم وعداوتهم لك ) أفأنت تسمع الصم ( يعني كما أنك لا تقدر على إسماع الصم فكذلك لا تقدر على إسماع من أصم الله سمع قلبه ) ولو كانوا لا يعقلون ( يعني أن الله سبحانه وتعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يسمعون ولم يوفقهم لذلك فهم بمنزلة الجهال إذا لم ينتفعوا بما لم يسمعوا وهم أيضاً كالصم الذين لا يعقلون شيئاً ولا يفهمونه لعدم التوفيق ) ومنهم من ينظر إليك ( يعني بأبصارهم الظاهرة ) أفأنت تهدي العمي ( يريد عمي القلوب ) ولو كانوا لا يبصرون ( لأن الله أعمى بصائر قلوبهم فلا يبصرون شيئاً من الهدى وفي هذا تسلية من الله عز وجل لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الله عز وجل إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ولا تقدر أن تهدي من سلبته البصر ولا تقدر أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن ) إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون (.
قال العلماء : لما حكم الله عز وجل على أهل الشقوة بالشقاوة لقضائه وقدره السابق فيهم أخبر في هذه الآية أن تقدير الشقاوة عليهم ما كان ظلماً منه لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيدة وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالماً وإنما قال ولكن الناس أنفسهم يظلمون لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم.
قوله سبحانه وتعالى : ( ويوم يحشرهم ( يعني : واذكر يا محمد يوم نجمع هؤلاء المشركين لموقف الحساب.
وأصل الحشر : إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم ) كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ( يعني كأنهم

صفحة رقم 192
لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من النهار.
وقيل : معناه كأنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار.
والوجه الأول أولى , لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار لبثهم في القبور إلى وقت الحشر , فتعين حمله على أمر يختص بحال الكافر وهو أنهم لما لم ينتفعوا بأعمارهم في الدنيا استقلوها.
والمؤمن لما انتفع بعمره في الدنيا لم يستقله.
وسبب استقلال الكفار : مدة مقامهم في الدنيا أنهم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على ما فيها ولم يعملوا بطاعة الله فيها كان وجود ذلك كالعدم فلذلك استقلوه.
وقيل : إنهم لما شاهدوا أهوال يوم القيامة وطال عليهم ذلك , استقلوا مدة مقامهم في الدنيا , لأن مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة قليل جداً ) يتعارفون بينهم ( يعني : يعرف بعضهم بعضاً إذا خرجوا من قبورهم كما كانوا يتعارفون في الدنيا ثم تنقطع المعرفة بينهم إذا عاينوا أهوال يوم القيامة , وفي بعض الآثار : أن الإنسان يوم القيامة يعرف من بجنبه ولا يقدر أن يكلمه هيبة وخشية , وقيل : إن أحوال يوم القيامة مختلفة ففي بعضها يعرف بعضها بعضاً وفي بعضها ينكر بعضهم بعضاً لهول ما يعاينون في ذلك اليوم ) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ( يعني أن من باع آخرته الباقية بدنياه الفانية قد خسر لأنه أثر الفاني على الباقي ) وما كانوا مهتدين ( يعني إلى ما يصلحهم وينجيهم من هذا الخسار.
)
يونس : ( 46 - 50 ) وإما نرينك بعض...
" وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون " ( ) وإما نرينك ( يعني يا محمد ) بعض الذي نعدهم ( يعني ما نعدهم به من العذاب في الدنيا فذاك ) أو نتوفينك ( قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى : ( فإلينا مرجعهم ( يعني في الآخرة وفيه دليل على أن الله يري رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنواعاً من عذاب الكافرين وذلهم وخزيهم في حال حياته في الدنيا وقد أراه ذلك في يوم بدر وغيره من الأيام وسير به ما أعد لهم من العذاب في الآخرة بسبب كفرهم وتكذيبهم ) ثم الله شهيد على ما يفعلون ( فيه وعيد وتهديد لهم يعني أنه سبحانه وتعالى شاهد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة.
قوله عز وجل : ( ولكل أمة رسول ( لما بيَّن الله عز وجل حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع قومه بيَّن أن حال الأنبياء مع أممهم كذلك فقال تعالى : وكل أمة , يعني قد خلت وتقدمت قبلكم , رسول يعني : مبعوثاً إليهم يدعو إلى الله وإلى طاعته والإيمان به ) فإذا جاء رسولهم ( في هذا الكلام إضمار تقديره , فإذا جاءهم رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون ) قضي بينهم بالقسط ( يعني حكم بينهم بالعدل وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان : أحدهما : أنه في الدنيا وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى كل أمة رسولاً لتبليغ الرسالة وإقامة الحجة وإزالة العذر فإذا كذبوا رسلهم وخالفوا أمر الله قضى بينهم , وبين رسلهم في الدنيا فيهلك الكافرين وينجي رسلهم والمؤمنين ويكون ذلك عدلاً لا ظلماً لأن قبل مجيء الرسول لا يكون ثواباً ولا عقاباً.
القول الثاني : إن وقت القضاء في الآخرة وذلك أن الله إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والقضاء بينهم والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم.
والمراد من ذلك , المبالغة في إظهار العدل , وهو قوله تعالى : ( وهم لا يظلمون ( يعني من جزاء أعمالهم شيئاً ولكن يجازي كل أحد على قدر عمله.
وقيل : معناه أنهم لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم ) ويقولون ( يعني هؤلاء

صفحة رقم 193
الكفار ) متى هذا الوعد ( يعني الذي تعدنا به يا محمد من نزلو العذاب وقيل قيام الساعة , وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد ) إن كنتم صادقين ( يعني فيما تعدونا به , وإنما قالوا بلفظ الجمع لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك أو يكون المعنى : إن كنتم صادقين أنت وأتباعك يا محمد أوذكروه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم ) قل ( أي : قل لهم يا محمد ) لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً ( يعني لا أملك لنفسي دفع ضر أو جلب نفع ولا أقدر على ذلك ) إلا ما شاء الله ( يعني أن أقدر عليه أو أملكه.
والمعنى : أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصر للأولياء وعلم قيام الساعة لا يقدر عليه إلا الله فتعيين الوقت إلى الله سبحانه وتعالى بحسب مشيئته ثم إذا حضر ذلك الوقت الذي وقته الله لحدوث هذه الأشياء فإنه يحدث لا محالة وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ولكل أمة أجل ( أي مدة مضروبة ووقت معين ) إذا جاء أجلهم ( يعني إذا انقضت مدة أعمارهم ) فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( يعني لا يتأخرون عن ذلك الأجل الذي أجل لهم ولا يتقدمونه ) قل ( أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ) أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً ( يعني ليلاً يقال بات يفعل كذا إذا فعل بالليل والسبب فيه إن الإنسان في الليل لا يكون إلا في البيت غالباً فجعل الله هذه اللفظة كناية عن الليل ) أو نهاراً ( يعني في النهار ) ماذا يستعجل منه المجرمون ( يعني ما الذي يستعجلون من نزول العذاب وقد وقعوا فيه وحقيقة المعنى أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( " فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله : ( ماذا يستعجل منه المجرمون ( يعني أي شيء يعلم المجرمون ما يطلبون ويستعجلون كما يقول الرجل لغيره وقد فعل فعلاً قبيحاً ماذا جنيت على نفسك.
)
يونس : ( 51 - 56 ) أثم إذا ما...
" أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون " ( ) أثمّ إذا ما وقع ( يعني إذا ما نزل العذاب ووقع ) آمنتم به ( يعني آمنتم بالله وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس وقيل معناه صدقتم بالعذاب عند نزوله ودخلت همزة الاستفهام على ثم للتوبيخ والتقريع ) آلآن ( فيه إضمار تقديره يقال لهم آلآن تؤمنون أي حين وقوع العذاب ) وقد كنتم به تستعجلون ( يعني تكذيباً واستهزاء ) ثم قيل للذين ظلموا ( يعني ظلموا أنفسهم بسبب شركهم وكفرهم بالله ) ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ( يعني في الدنيا من الأعمال.
قوله سبحانه وتعالى : ( ويستنبئونك أحق هو ( يعني ويستخبرونك يا محمد أحق ما تعدنا به من نزول العذاب وقيام الساعة ) قل إي وربي ( أي قل لهم يا محمد نعم وربي ) إنه لحق ( يعني إن الذي أعدكم به حق , لا شك فيه ) وما أنتم بمعجزين ( يعني بفائتين من العذاب لأن من عجز عن شيء فقد فاته ) ولو أن لكل نفس ظلمت ( يعني أشركت ) ما في الأرض ( يعني من شيء ) لافتدت به ( يعني يوم القيامة.
والافتداء : بمعنى البذل لما ينجو به من العذاب إلا أنه

صفحة رقم 194
لا ينفعه الفداء ولا يقبل منه ) وأسرّوا الندامة ( يعني يوم القيامة , وإنما جاء بلفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة , لأن أحوال يوم القيامة لما كانت واجبة الوقوع , جعل الله مستقبلها كالماضي والإسرار يكون بمعنى الإخفاء وبمعنى الإظهار فهو من الأضداد , فلهذا اختلفوا في قوله : وأسروا الندامة.
فقال أبو عبيدة : معناه وأظهروا الندامة لأن ذلك اليوم ليس يوم تصبر وتصنع.
وقيل : معناه أخفوا , يعني أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء والأتباع خوفاً من ملامتهم إياهم وتعبيرهم لهم ) لما رأوا العذاب ( يعني : حين عاينوا العذاب وأبصروه ) وقضي بينهم بالقسط ( يعني وحكم بينهم بالعدل قيل بين المؤمن والكافر وقيل : بين الرؤساء والأتباع.
وقيل : بين الكفار لاحتمال أن بعضهم قد ظلم بعضاً فيؤخذ للمظلوم من الظالم وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وهم لا يظلمون ( يعني في الحكم لهم وعليهم بأن يخفف من عذاب المظلوم ويشدد في عذاب الظالم ) ألا إن لله ما في السموات والأرض ( يعني أن كل شيء في السموات والأرض لله ملك له لا يشركه فيه غيره فليس للكافر شيء يفتدي به من عذاب الله يوم القيامة لأن الأشياء كلها لله وهو أيضاً ملك لله فكيف يفتدي من هو مملوك لغيره بشيء لا يملكه ) ألا إن وعد الله حق ( يعني ما وعد الله به على لسان نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ثواب الطائع وعقاب العاصي حق لا شك فيه ) ولكن أكثرهم لا يعلمون ( يعني حقيقة ذلك ) هو يحيي ويميت ( يعني الذي يملك ما في السموات والأرض قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد ) وإليه ترجعون ( يعني بعد الموت للجزاء.
)
يونس : ( 57 - 60 ) يا أيها الناس...
" يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون " ( قوله عز وجل : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ( قيل : أراد بالناس قريشاً.
وقيل : هو على العموم وهو الأصح وهو اختيار الطبري قد جاءتكم موعظة من ربكم يعني القرآن والوعظ زجر مقترن بتخويف.
وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
وقيل : الموعظة , ما يدعو إلى الصلاح بطريقة الرغبة والرهبة.
والقرآن داع إلى كل خير وصلاح بهذا الطريق ) وشفاء لما في الصدور ( يعني أن القرآن ذو شفاء لما في القلوب من داء الجهل وذلك لأن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن.
وأمراض القلب هي : الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة.
فالقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها , لأن فيه الوعظ والزجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير فهو الدواء والشفاء لهذه الأمراض القلبية , وإنما خص الصدر بالذكر , لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه ) وهدى ( يعني وهو هدى من الضلالة ) ورحمة للمؤمنين ( يعني ونعمة على المؤمنين لأنهم هم الذين انتفعوا بالقرآن دون غيرهم ) قل بفضل الله وبرحمته ( الباء في بفضل الله متعلقة بمضمر استغنى عن ذكره لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله قد جاءتكم موعظة من ربكم.
والفضل هنا : بمعنى الإفضال ويكون معنى الآية على هذا يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهو القرآن بإفضال الله عليكم ورحمته بكم وإرادته الخير لكم ثم قال سبحانه وتعالى : ( فبذلك فليفرحوا ( أشارة بذلك إلى القرآن لأن المراد بالموعظة والشفاء : القرآن فترك اللفظ وأشار إلى المعنى وقيل : فبذلك فليفرحوا إشارة إلى معنى الفضل والرحمة والمعنى فبذلك التطول والإنعام فليفرحوا قال الواحدي الفاء في قوله تعالى : فليفرحوا زائدة كقول الشاعر :
89 ( فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ) 89
" فالفاء في قوله فاجزعي , زائدة.
وقال صاحب الكشاف في معنى الآية بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك.
فليفرحوا والتكرير للتأكيد والتقرير إيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة

صفحة رقم 195
المذكور عليه والفاء داخلة لمعنى الشرط فكأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح , فإنه لا مفروح به أحق منهما , والفرح : لذة في القلب بإدراك المحبوب والمشتهى.
يقال : فرحت بكذا إذا أدركت المأمول ولذلك أكثر ما يستعمل الفرح في اللذات البدنية الدنيوية واستعمل هنا فيما يرغب فيه من الخيرات ومعنى الآية ليفرح المؤمنون بفضل الله ورحمته أي ما آتاهم الله من المواعظ وشفاء الصدور وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه ) هو خير مما يجمعون ( يعني من متاع الدنيا ولذاتها الفانية هذا مذهب أهل المعاني في هذه الآية.
وأما مذهب المفسرين فغير هذا , فإن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا : فضل الله الإسلام ورحمته القرآن وقال أبو سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله.
وقال ابن عمر : فضل الله الإسلام ورحمته تزيينه في قلوبنا.
وقيل : فضل الله الإسلام ورحمته الجنة.
وقيل : فضل الله القرآن ورحمته السنن.
فعلى هذا الباء في بفضل الله تتعلق بمحذوف يفسره ما يعده تقديره قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته ) قل ( أي قل يا محمد لكفار مكة ) أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق ( يعني من زرع وضرع وغيرهما وعبر عما في الأرض بالإنزال لأن جميع ما في الأرض من خير ورزق فإنما هو من بركات السماء ) فجعلتم منه ( يعني من ذلك الرزق ) حراماً وحلالاً ( يعني ما حرموه على أنفسهم في الجاهلية من الحرث والأنعام , كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
قال الضحاك : هو قوله سبحانه وتعالى : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( ) قل آلله أذن لكم ( يعني : قل لهم يا محمد آلله أذن لكم في هذا التحريم ) أم على الله تفترون ( يعني بل أنتم كاذبون على الله في ادعائكم أن الله أمرنا بهذا ) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ( يعني : إذا لقوه يوم القيامة أيحسبون أنه لا يؤاخذهم على أعمالهم فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع والوعيد العظيم لمن يفتري على الله الكذب ) إن الله لذو فضل على الناس ( يعني ببعثة الرسل وإنزال الكتب لبيان الحلال والحرام ) ولكن أكثرهم لا يشكرون ( يعني : لا يشكرون الله على ذلك الفضل والإحسان.
)
يونس : ( 61 - 63 ) وما تكون في...
" وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده والشأن الخطب والحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور والجمع الشؤون تقول العرب ما شأن فلان أي ما ماله.
والشأن اسم إذا كان بمعنى الخطب والحال ويكون مصدراً إذا كان معناه القصد والذي في هذه الآية يجوز أن يكون المراد به الاسم.
قال ابن عباس : معناه , وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر ؟ وقال الحسن : في شأن من شؤون الدنيا وحوائجك ويجوز أن يكون المراد منه القصد يعني قصد الشيء وما تتلو منه من قرآن.
اختلفوا في الضمير في منه إلى ماذا يعود فقيل : يعود إلى الشأن إذا تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل هو أعظم شؤونه , فعلى هذا يكون داخلاً تحت قوله تعالى : وما تكون في شأن إلا أنه سبحانه وتعالى خصة بالذكر لشرفه وعلو مرتبته.
وقيل : إنه راجع إلى القرآن لأنه قد تقدم ذكره في قوله سبحانه وتعالى قل بفضل الله وبرحمته , فعلى هذا يكون المعنى وما تتلو من القرآن من قرآن يعني من سورة وشيء منه لأن لفظ القرآن يطلق على جميعه وعلى بعضه.
وقيل : الضمير في منه راجع إلى الله والمعنى وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك.
وأما قول سبحانه وتعالى : ( ولا تعملون من عمل ( فإنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته

صفحة رقم 196
داخلون فيه ومرادون به , لأن من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس قوم وكبيرهم , كان القوم داخلين في ذلك الخطاب.
ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى : ولا تعلمون من عمل على صيغة الجمع فدل على أنهم داخلون في الخطابين الأولين وقوله سبحانه وتعالى : ( إلا كنا عليكم شهوداً ( يعني شاهدين لأعمالكم وذلك لأن الله سبحانه وتعالى شاهد على كل شيء وعالم بكل شيء أنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى فكل ما يدخل في الوجود من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وهو شاهد عليه ) إذ تفيضون فيه ( يعني أن الله سبحانه وتعالى شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون في ذلك العمل.
والإفاضة : الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه.
وقال ابن الأنباري : معناه إذا تدفعون فيه وتبسطون في ذكره.
وقيل : الإفاضة : الدفع بكثرة.
وقال الزجاج : تنشرون فيه.
يقال : أفاض القوم في الحديث , إذا انتشروا فيه ) وما يعزب عن ربك ( يعني : وما يبعد ويغيب عن ربك يا محمد من عمل خلقه شيء لأنه عالم به وشاهد عليه.
وأصل العزوب : البعد.
يقال منه كلام عازب إذا كان بعيد المطلب ) من مثقال ذرة ( يعني وزن ذرة والمثقال : الوزن.
والذرّة : النملة الصغيرة الحمراء وهي خفيفة الوزن جداً ) في الأرض ولا في السماء ( فإن قلت : لمَ قدم ذكر الأرض على لاسماء هنا وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ وما فائدة ذلك ؟ قلت : كان حق السماء أن تقدم على الأرض كما في سورة سبأ إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم , ثم وصل ذلك بقوله وما يعزب عن ربك حسن تقديم الأرض على السماء في هذا الموضع لهذه الفائدة ) ولا أصغر من ذلك ( يعني من الذرة ) ولا أكبر ( يعني منها ) إلا في كتاب مبين ( يعني في اللوح المحفوظ.
قوله سبحانه وتعالى : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( اعلم أننا نحتاج أولاً في تفسير هذه الآية أن نبين من يستحق اسم الولاية ومن هو الولي فنقول : اختلف العلماء فيمن يستحق هذا الاسم فقال ابن عباس في هذه الآية هم الذين يذكر الله لرؤيتهم وروى الطبري بسنده عن سعيد بن جبير مرسلاً قال : ( سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أولياء الله فقال هم الذين إذ رؤوا ذكر الله ) وقال ابن زيد : هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ولن يتقبل الإيمان إلا بالتقوى.
وقال قوم : هم المتحابون في الله.
ويدل على ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا بشهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم ؟.
قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتقاطعونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس.
وقرأ هذه الآية : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أخرجه أبو داود.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) أخرجه مسلم.
عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( قال الله تعالى : المتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ) أخرجه الترمذي.
وروي البغوي بسنده عن أبي مالك الأشعري.
قال : كنت عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن لله عبيداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة ) قال : وفي ناحية القوم أعرابي , فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم من هم ؟ قال : فرأيت في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) البشر فقال ( هم عباد

صفحة رقم 197
من عباد الله ومن بلدان شتى وقبائل شتى لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتبادلون بها يتحابون بروح الله يجعل وجوههم نوراً ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن , يفزع الناس لو يفزعون ويخاف الناس ولا يخافون ) ويروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قال الله تبارك وتعالى إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم ) هكذا ذكره البغوي بغير سند , وروى الطبري بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) الغبطة نوع من السحد إلا أن الحسد مذموم والغبطة محمودة والفرق بين الحسد والغبطة أن الحاسد يتمنى زوال ما على المحسود من النعمة ونحوها والغبطة هي أن يتمنى الغابط مثل تلك النعمة التي هي على المغبوط من غير زوال عنه.
وقال أبو بكر الأصم : أولياء الله هم الذين تولى الله هدايتهم وتولوا القيام بحق العبودية لله والدعوة إليه.
وأصل الولي من الولاء وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض عليه ويكون مشتعلاً بالله مستغرق القلب في معرفة نور جلال الله فإن رأى رأى دلائل قدرة الله وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله وإن تحرك تحرك في طاعة الله وإن اجتهد اجتهد فيما يقربه إلى الله لا يفتر عن ذكر الله ولا يرى بقلبه غير الله , فهذه صفة أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه قال الله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا ( " وقال المتكلمون : ولي الله من كان آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتياً بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة وإليه الإشارة بقوله ) الذين آمنوا وكانوا يتقون ( وهو أن الإيمان مبني على جميع الإعتقاد والعمل ومقام التقوى هو أن يتقي العبد كل ما نهى الله عنه وقوله سبحانه وتعالى : لا خوف عليهم , يعني في الآخرة إذ خاف غيرهم ولا هم يحزنون يعني على شيء وفاتهم من نعيم الدنيا ولذاتها.
قال بعض المحققين : زوال الخوف والحزن عنهم إنما يحصل لهم في الآخرة لأن الدنيا لا تخلو من هم وغم وأنكاد وحزن.
قال بعض العارفين : إن الولاية عبارة عن القرب من الله ودوام الاشتغال بالله وإذا كان العبد بهذه الحالة فلا يخاف من شيء ولا يحزن على شيء لأن مقام الولاية والمعرفة منعه من أن يخاف أو يحزن.
وأما قوله سبحانه وتعالى ) الذين آمنوا وكانوا يتقون ( فقد تقدم تفسيره وأنه صفة لأولياء الله.
)
يونس : ( 64 - 65 ) لهم البشرى في...
" لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( اختلفوا في هذه البشرى , فروي عن عبادة بن الصامت قال ( سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ) أخرجه الترمذي.
وله عن رجل من أهل مصر قال ( سألت أبا الدرداء عن هذه الآية لهم البشرى في الحياة الدنيا قال : ما سألني عنها أحد منذ

صفحة رقم 198
سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنها وقال ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) قال الترمذي حديث حسن
( خ ) .
عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة )
( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) لفظ البخاري ومسلم ( إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة والرؤيا ثلاث : الرؤيا الصالحة بشرى من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث المرء نفسه , قال بعض العلماء : ووجه هذا القول إنا إذا حملنا قوله تبارك وتعالى لهم البشرى على الرؤيا الصالحة الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحمل هذه الحالة إلا لهم , وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله عز وجل ومن كان كذلك فإنه عند النوم لا يبقى في قلبه غير ذكر الله ومعرفته ومن المعلوم أن معرفة الله في القلب لا تفيد إلا الحق والصدق فإذا رأى الولي رؤيا أو رؤيت له كانت تلك الرؤيا بشرى من الله عز وجل لهذا الولي.
قال الخطابي : في هذه الأحاديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم وكان الأنبياء عليهم السلام يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة , قال الخطابي : قال بعض العلماء معنى الحديث أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة لا أنها جزء من النبوة وقال الخطابي وغيره في معنى قوله - الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة : أقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوة ثلاثاً وعشرين سنة على الصحيح وكان قبل ذلك بستة أشهر يرى في المنام الوحي فهي جزء من ستة وأربعين جزءاً وقيل إن المنام لعل أن يكون فيه إخبار بغيب وهو أحد مراتب النبوة وهو يسير في جانب النبوة لأنه لا يجوز أن يبعث الله بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبياً يشرع الشرائع ويبين الأحكام ولا يخبر بغيب أبداً.
فإذا وقع لأحد في المنام الإخبار بغيب يكون هذا القدر جزءاً من النبوة لا أنه نبي , وإذا وقع ذلك لأحد في المنام يكون صدقاً والله أعلم.
وقيل في تفسير الآية : إن المراد بالبشرى في الحياة الدنيا هي الثناء الحسن وفي الآخرة الجنة ويدل على ذلك ما روي عن أبي ذر قال ( قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن ) أخرجه مسلم قال الشيخ محيي الدين النووي قال العلماء معنى هذا البشرى المعجلة له بالخير , وهي دليل للبشرى المؤخرة له في الآخرة بقوله بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار وهذه البشرى المعجلة دليل على رضا الله عنه ومحبته له وتحبيبه إلى الخلق كما قال ثم يوضع له القبول في الأرض هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم قال بعض المحققين : إذا اشتغل العبد بالله عز وجل استنار قلبه وامتلأ نوراً فيفيض من ذلك النور الذي في قلبه على وجهه فتظهر عليه آثار الخشوع والخضوع يحبه الناس ويثنون عليه فتلك عاجل بشراه بمحبة الله له ورضوانه عليه وقال الزهري وقتادة في تفسير البشرى : هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند الموت ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى : ( تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } " وقال عطاء عن ابن عباس البشرى في الدنيا عند الموت تأتيهم

صفحة رقم 199
الملائكة بالبشارة وفي الآخرة بعد خروج نفس المؤمن يعرج بها إلى الله تعالى ويبشر برضوان الله تعالى وقال الحسن هي ما بشر الله به المؤمنين في كتابه من جنته وكريم ثوابه ويدل عليه قوله تعالى : ( لا تبديل لكلمات الله ( يعني لا خلف لوعد الله الذي وعد به أولياءه وأهل طاعته في كتابه وعلى ألسنة رسله ولا تغيير لذلك الوعد ) ذلك هو الفوز العظيم ( يعني ما وعدهم به في الآخرة ) ولا يحزنك قولهم ( يقول الله لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يحزنك يا محمد قول هؤلاء المشركين لك ولا يغمك تخويفهم إياك ) إن العزة لله جميعاً ( يعني أن القهر والغلبة والقدرة لله جميعاً هو المنفرد بها دون غيره وهو ناصرك عليم والمنتقم لك منهم.
وقال سعيد بن المسيب : إن العزة لله جميعاً فيعز من يشاء وهذا كما قال سبحانه وتعالى في آية أخرى ) ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ( " ولا منافاة بين الآيتين فإن عزة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعزة المؤمنين بإعزاز الله إياهم فثبت بذلك أن العزة لله جميعاً وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.
وقيل إن المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم فأخبر الله سبحانه وتعالى أن جميع ذلك لله وفي ملكه فهو قادر على أن يسلبهم جميع ذلك ويذلهم بعد العز ) هو السميع ( لأقوالكم ودعائكم ) العليم ( بجميع أحوالكم لا تخفى عليه خافية.
)
يونس : ( 66 - 70 ) ألا إن لله...
" ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ( ألا كلمة تنبيه معناه أنه لا ملك لأحد في السموات ولا في الأرض إلا لله عز وجل فهو يملك من في السموات ومن في الأرض.
فإن قلت قال سبحانه وتعالى في الآية التي قبل هذه ألا إن لله ما في السموات بلفظة ما وقال سبحانه وتعالى في هذه الآية بلفظة من فمن فائدة ذلك ؟ قلت إن لفظة ما تدل على ما لا يعقل ولفظة من تدل على من يعقل فمجموع الآيتين يدل على أن الله عز وجل يملك جميع من في السموات ومن في الأرض من العقلاء وغيرهم وهم عبيده وفي ملكه.
وقيل : إن لفظة من لمن يعقل فيكون المراد بمن في السموات الملائكة والعقلاء ومن في الأرض الإنس والجن وهم العقلاء أيضاً وإنما خصهم بالذكر لشرفهم وإذا كان هؤلاء العقال المميزون في ملكه وتحت قدرته فالجمادات بطريق الأولى أن يكونوا في ملكه إذا ثبت هذا فتكون الأصنام التي يعبدها المشركون أيضاً في ملكه وتحت قبضته وقدرته ويكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شركاء لله معبودة دونه ) وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ( لفظة ما استفهاميه معناه وأي شيء يتبع الذي يدعون من دون الله شركاء والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء لأنهم يعبدونها على أنها شركاء لله تشفع لهم وليس الأمر على ما يظنون وهو قوله سبحانه وتعالى : ( إن يتبعون إلا الظن ( يعني أن فعلهم ذلك ظن منهم إنها تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله وذلك ظن منهم لا حقيقة له ) وإن هم إلا يخرصون ( يعني إن هم إلا يكذبون في دعواهم ذلك.
قوله عز وجل : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ( يعني هو الله ربكم الذي خلق لكم الليل راحة لتسكنوا فيه وليزول التعب والكلال بالسكون فيه , وأصل السكون الثبوت بعد الحركة والنهار مبصراً وجعل النهار مضيئاً لتهتدوا فيه لحوائجكم وأسباب معايشكم وأضاف الإبصار إلى النهار وإنما يبصر فيه وليس النهار مما يبصر ولكن لما كان مفهوماً من كلام العرب معناه خاطبهم بلغتهم وما يفهمونه قال جرير :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى
ونمت وما ليل المطي بنائم

صفحة رقم 200
فأضاف النوم إلى الليل ووصفه به وإنما عنى نفسه وأنه لم يكن نائماً ولا بعيره وهذا من باب نقل الاسم من المسبب إلى السبب قال قطرب تقول العرب أظلم الليل وأبصر النهار بمعنى صار ذا ظلمة وذا ضياء.
قوله تعالى : ( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( يعني يسمعون سمع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الإله المعبود المنفرد بالوحدانية في الوجود ) قالوا ( يعني المشركين ) اتخذ الله ولداً ( يعني به قولهم الملائكة بنات الله ) سبحانه ( نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن اتخاذ الولد ) هو الغني ( يعني أنه سبحانه وتعالى هو الغني عن جميع خلقه فكيف يليق بجلاله اتخاذ الولد وإنما يتخذ الولد من هو محتاج إليه والله تعالى هو الغني المطلق وجميع الأشياء محتاجة إليه وهو غني عنها ) له ما في السموات وما في الأرض ( يعني أنه مالك ما في السموات وما في الأرض وكلهم عبيده وفي قبضته وتصرفه وهو محدثهم وخالقهم.
ولما نزَّه الله سبحانه وتعالى نفسه عن اتخاذ الولد عطف على من قال ذلك بالإنكار والتوبيخ والتقريع فقال سبحانه وتعالى : ( إن عندكم من سلطان بهذا ( يعني أنه لا حجة عندكم على هذا القول البتة ثم بالغ في الإنكار عليهم بقوله تعالى : ( أتقولون على الله ما لا تعلمون ( يعني أتقولون على الله قولاً لا تعلمون حقيقته وصحته وتضيفون إليه ما لا تجوز إضافته إليه جهلاً منكم بما تقولون بغير حجة ولا برهان ) قل إن الذين يفترون على الله الكذب ( أي : قل يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون على الله الباطل ويزعمون أن له ولداً ) لا يفلحون ( يعني لا يسعدون وإن اغتروا بطول السلام والبقاء في النعمة.
والمعنى أن قائل هذا القول لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر قال الزجاج هذا وقف قام يعني قوله لا يفلحون ثم ابتدأ فقال تعالى : ( متاع في الدنيا ( وفيه إضمار تقديره لهم متاع في الدنيا يتمتعون به مدة أعمارهم وانقضاء آجالهم في الدنيا وهي أيام يسيرة بالنسبة إلى طول مقامهم في العذاب وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ثم إلينا مرجعهم ( يعني بعد الموت ) ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ( يعني ذلك العذاب بسب بما كانوا يجحدون في الدنيا من نعمة الله عليهم ويصفونه بما لا يليق بجلاله.
)
يونس : ( 71 - 73 ) واتل عليهم نبأ...
" واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( واتل عليهم نبأ نوح ( لما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أحوال كفار قريش وما كانوا عليه نم الكفر والعناد شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم ليكون في ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسوة بمن سلف من الأنبياء وتسلية له ليخف عليه ما يلقى من أذى قومه وأن الكفار من قومه إذا سمعوا هذه القصص وما جرى لكفار الأمم الماضية من العذاب والهلاك في الدنيا كان ذلك سبباً لخوف قلوبهم وداعياً لهم إلى الإيمان.
ولما كان قوم نوح أول الأمم هلاكاً وأعظمهم كفراً وجحوداً ذكر الله قصتهم وأنه أهلكهم بالغرق ليصير ذلك موعظة وعبرة لكفار قريش , فقال سبحانه وتعالى واتل عليهم نبأ نوح يعني واقرأ على قومك يا محمد خبر قوم نوح ) إذ قال لقومه يا قوم ( وهو بنو قابيل ) إن كان كبر ( يعني ثقل ) عليكم مقامي ( يعني فيكم ) وتذكيري بآيات الله ( يعني : ووعظي إياكم بآيات الله : وقيل : معناه إن كان ثقل وشق عليكم طول مقامي فيكم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى ويذكرهم بآيات الله وهو قوله وتذكيري بآيات الله يعني ووعظي بآيات الله وحججه وبيناته فعزمتم على قتلي وطردي ) فعلى الله توكلت ( يعني فهو حسبي وثقتي ) فأجمعوا أمركم ( يعني

صفحة رقم 201
فأحكموا أمركم واعزموا عليه , قال الفراء : الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا وجوه كيدهم وكرهم فالتقدير لا تدعوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه ) وشركاءكم ( يعني وادعوا شركاءكم يعني آلهتكم فاستعينوا بها لتجمع معكم وتعينكم على مطلوبكم وإنما حثهم على الاستعانة بالأصنام بناء على مذهبهم واعتقادهم أنها تضر وتنقع مع اعتقاده أنها جماد لا تضر ولا تنفع فهو كالتبكيت والتوبيخ لهم ) ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ( يعني لا يكن أمركم عليكم خفياً مبهماً ولكن ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً من قولهم غم الهلال فهو مغموم إذا خفي والتبس على الناس ) ثم اقضوا ( ثم امضوا ) إليّ ( بما في أنفسكم من مكروه وما توعدوني به من قتل وطرد وافرغوا منه تقول العرب قضى فلان إذا مات ومضى وقيل معناه ثم اقضوا ما أنتم قاضون ) ولا تنظرون ( أي : ولا تؤخروني ولا تمهلوني بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه وهذا الكلام من نوح عليه الاسلام على طريق التعجيز لهم أخبر الله عز وجل عن نوح عليه السلام أنه كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله وأنه كان واثقاً بنصره غير خائف من كيدهم علماً منه بأنهم وآلهتهم ليس لهم نفع ولا ضر وإن مكرهم لا يصل إليه ) فإن توليتم ( يعني فإن أعرضتم عن قولي وقبول نصحي ) فما سألتكم من أجر ( يعني من جعل وعوض على تبليغ الرسالة فإذا لم يأخذ على تبليغ الدعوة إلى الله شيئاً كان أقوى تأثيراً في النفس ) إن أجري إلا على الله ( أي : ما ثوابي وجزائي على تبليغ الرسالة إلا على الله ) وأمرت أن أكون من المسلمين ( يعني أني أمرت بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تارك له سواء قبلتموه أم لم تقبلوه وقيل معناه وأمرت أن أكون من المستسلمين لأمر الله ولكل مكروه يصل إلي منكم لأجل هذه الدعوة ) فكذبوه ( يعني فكذبوا نوحاً عليه السلام ) فنجيناه ومن معه في الفلك ( يعني في السفينة ) وجعلناهم خلائف ( يعني وجعلنا الذين نجيناهم معه في الفلك سكان الأرض بعد الهالكين ) وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( أي فانظر يا محمد أو يا أيها الإنسان كيف كان آخر أمر من أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ولم يقبلوا ذلك.
)
يونس : ( 74 - 80 ) ثم بعثنا من...
" ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون " ( ) ثم بعثنا من بعده ( يعني من بعد نوح ) رسلاً إلى قومهم ( لم يسم هنا من كان بعد نوح من الرسل وقد كان بعد نوح هود وصالح وغيرهما من الرسل ) فجاؤوهم بالبينات ( يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ( يعني أن أولئك الأقوام والأمم التي جاءتهم الرسل جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما جاءتهم به الرسل ولم يرجعوا عما هم فيه من الكفر والتكذيب ) كذلك نطبع على قلوب المعتدين ( يعني مثل إغراقنا قوم نوح بسبب تكذيبهم نوحاً كذلك نختم على قلوب من اعتدى وسلك سبيلهم في التكذيب.
قوله عز وجل : ( ثم بعثنا من بعدهم ( يعني من بعد الرسل ) موسى وهارون إلى فرعون وملئه ( يعني أشراف

صفحة رقم 202
قومه ) بآياتنا فاستكبروا ( يعني عن الإيمان بما جاء به موسى وهارون ) وكانوا قوماً مجرمين ( يعني مستكسبين للإثم ) فلما جاءهم الحق من عندنا ( يعني فلما جاء فرعون وقومه الحق الذي جاء به موسى من عند الله ) قالوا إن هذا لسحر مبين ( يعني أن هذا الذي جاء به موسى سحر مبين يعرفه كل أحد ) قال موسى أتقولون للحق لمَّا جاءكم أسحر هذا ( فيه حذف تقديره أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا فحذف السحر الأول اكتفاء بدلالة الكلام عليه ثم قال أسحر هذا وهو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنه ليس بسحر ثم احتج على صحة قوله فقال ) ولا يفلح الساحرون ( يعني حاصل السحر تمويه وتخييل وصاحب ذلك لا يفلح أبداً ) قالوا ( يعني قال قوم فرعون لموسى ) أجئتنا لتلفتنا ( يعني لتصرفنا وتلوينا ) عما وجدنا عليه آباءنا ( يعني من الدين ) وتكون لكما الكبرياء ( يعني الملك والسلطان ) في الأرض ( يعني في أرض مصر والخطاب لموسى وهارون.
قال الزجاج : سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ) وما نحن لكما بمؤمنين ( يعني بمصدقين ) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ( يعني أن فرعون أراد أن يعارض معجزة موسى بأنواع من التلبيس أن ما أتى به موسى سحر ) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ( إنما أمرهم موسى بإلقاء ما معهم من الحبال والعصي التي فيها سحرهم ليظهر الحق ويبطل الباطل ويتبين أن ما أتوا به فاسد.
)
يونس : ( 81 - 83 ) فلما ألقوا قال...
" فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين " ( ) فلما ألقوا ( يعني ما معهم من الحبال والعصي ) قال موسى ما جئتم به السحر ( يعني الذي جئتم به هو السحر الباطل وهذا على سبيل التوبيخ لهم ) إن الله سيبطله ( يعني يكمله ويظهر فضيحة صاحبه ) إن الله لا يصلح عمل المفسدين ( يعني لا يقويه ولا يكمله ولا يحسنه ) ويحق الله الحق ( يعني ويظهر الله الحق ويقويه ويعليه ) بكلماته ( يعني وعده الصادق لموسى أنه يظهره وقيل بما سبق من قضائه وقدره لموسى أنه يغلب السحرة ) ولو كره المجرمون (.
قوله سبحانه وتعالى : ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ( لما ذكر الله عز وجل ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة الباهرة أخبر الله سبحانه وتعالى أنه مع مشاهدة هذه المعجزات ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه وإنما ذكر الله عز وجل هذا تسلية لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به واستمرارهم على الكفر والتكذيب فبين الله سبحانه وتعالى أن له أسوة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي جاء به موسى عليه السلام من المعجزات كان أمراً عظيماً ومع ذلك فما آمن معه إلا ذرية.
والذرية : اسم يقع على القليل من القوم , قال ابن عباس : الذرية القليل وقيل المراد به التصغير وقلة العدد واختلفوا في هاء الكناية في قومه فقيل إنها راجعة إلى موسى وأراد بها قوم موسى وهم بنو إسرائيل الذين كانوا معه بمصر من أولاده.
قال مجاهد : هم أولاد يعقوب الذين أرسل إليه موسى هلك الآباء وبقي الأبناء وقيل هم قوم نجوا من قتل فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة في بني إسرائيل إذا ولدت ابناً وهبته لقبطية خوفاً

صفحة رقم 203
عليه من القتل فنشؤوا بين القبط فلما كان اليوم الذي غلب موسى فيه السحرة آمنوا به , وقال ابن عباس : ذرية من قومه يعني من بني إسرائيل.
وقيل : إنها راجعة إلى فرعون يعني إلا ذرية من قوم فرعون.
روى عطية عن ابن عباس قال : هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطة ابنته.
قال الفراء : سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فكان الرجل يتبع أمه وأخواله في الإيمان وذلك ما يقال لأولاد فارس الذين دخلوا إلى اليمن الأبناء لأن أمهاتهم من غير جنس الآباء ) على خوف فرعون وملئهم ( الملأ : الأشراف فعلى هذا يكون معنى الآية على خوف من فرعون ومن أشرافهم , وهم ملأ الذرية لأنه كان آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل وقيل أراد بالملأ ملأ فرعون وإنما قال سبحانه وتعالى وملئهم بالجمع وفرعون واحد على سبيل التفخيم له ) أن يفتنهم ( أي يصرفهم ويصدهم عن الإيمان وإنما قال أن يفتنهم ولم يقل أن يفتنوهم لأن قوم فرعون كانوا على مراده وتابعين لأمره ) وإن فرعون لعال في الأرض ( يعني أنه لغالب قهار متكبر فيها ) وإنه لمن المسرفين ( يعني من المجاوزين الحد لأنه كان عبداً فادعى الربوبية وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل.
)
يونس : ( 84 - 88 ) وقال موسى يا...
" وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " ( ) وقال موسى ( يعني لقومه ) يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ( يعني.
فيه فثقوا ولأمره فسلموا فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه ) إن كنتم مسلمين ( يعني إن كنتم مستسلمين لأمره قيل إنما أعيد قوله إن كنتم مسلمين بعد قوله إن كنتم آمنتم بالله لإرادة إن كنتم موصوفين بالإيمان القلبي وبالإسلام الظاهري ودلت الآية على أن التوكل على الله والتفويض لأمره من كمال الإيمان وأن من كان يؤمن بالله فلا يتوكل إلا على الله لا على غيره ) فقالوا ( يعني قال قوم موسى مجيبين له ) على الله توكلنا ( يعني عليه اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا ربهم فقالوا ) ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ( يعني لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بذنوبهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغياناً وكفراً وقال مجاهد : لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق لما عذبوا ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا بذلك وقيل معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا ) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ( يعني وخلصنا برحمتك من أيدي قوم فرعون الكافرين لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة قوله عز وجل : ( وأوحينا إلى موسى وأخيه ( هارون ) أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً ( يعني اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً للصلاة فيها يقال تبوأ فلان لنفسه بيتاً إذا اتخذه مباءة

صفحة رقم 204
أي وطناً والمعنى اجعلا بمصر لقومكما بيوتاً ترجعون إليها للصلاة والعبادة ) واجعلوا بيوتكم قبلة ( اختلف أهل التفسير في معنى هذه البيوت والقبلة فمنهم من قال أراد بالبيوت المساجد التي يصلى فيها وفسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة فعلى هذا يكون معنى الكلام واجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقيل معناه اجعلوا بيوتكم إلى القبلة.
واختلفوا في هذه القبلة , وظاهر القرآن لا يدل على تعيينها إلا أنه قد نقل عن ابن عباس أنه قال : كانت الكعبة قبلة لموسى وهارون , وهو قول مجاهد أيضاً قال ابن عباس : قالت بنو إسرائيل لموسى لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وأن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقيل كانت القبلة إلى جهة المقدس.
وقيل : أراد مطلق البيوت وعلى هذا يكون معنى قوله واجعلوا بيوتكم قبلة أي مقابلة يعني يقابل بعضها بعضاً وقيل معناه واجعلوا في بيوتكم قبلة تصلون إليها.
فإن قلت : إنه سبحانه وتعالى خص موسى وهرون بالخطاب في أول الآية بقوله سبحانه وتعالى : وأخيه أن تبوآ لقومكما ثم إنه عم بهذا الخطاب فقال تعالى : واجعلوا بيوتكم قبلة فما السبب فيه.
قلت : إنه سبحانه وتعالى أمر موسى وهارون بأن يتبوءا قومهما بيوتاً للعبادة وذلك مما يخص به الأنبياء فخصا بالخطاب لذلك.
ثم لما كانت العبادة عامة تجب على الكافة عمَّ بالخطاب الجميع فقال تعالى : واجعلوا بيوتكم قبلة ) وأقيموا الصلاة ( يعني في بيوتكم وذلك حين خاف موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل من فرعون وقومه إذا صلوا في الكنائس والبيع الجامعة أن يؤذهم فأمرهم الله سبحانه وتعالى أن يصلوا في بيوتهم خفية من فرعون وقومه , وقيل : كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في الكنائس الجامعة وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريب تلك الكنائس ومنعهم من الصلاة فيها فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون.
وقيل : إن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون وأظهرهما على فرعون أمرهم باتخاذ المساجد ظاهرة على رغم الأعداء وتكفل لهم بصونهم من شرهم وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وبشر المؤمنين ( يعني بأنه لا يصل إليهم مكروه.
قوله سبحانه وتعالى : ( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ( لما أتى موسى عليه السلام بالمعجزات الباهرات ورأى أن القوم مصرون على الكفر والعناد والإنكار لما جاء به أخذ في الدعاء عليهم ومن حق من يدعو على الغير ان يذكر أولاً سبب إقدامه على الجرائم التي كانت سبب إصراره على ما يوجب الدعاء عليه.
ولما كان سبب كفرهم وعنادهم هو حب الدنيا وزينتها لا جرم أن موسى لما أخذ في الدعاء قدم هذه المقالة فقال ) ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ( والزنية عبارة عما يتزين به اللباس والدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر والأشياء الجميلة والمال ما زاد على هذه الأشياء من الصامت ونحوه ثم قال تبارك وتعالى : ( ربنا ليضلوا عن سبيلك ( اختلفوا في هذه اللام فقال الفراء : هي لام كي فعلى هذا يكون المعنى ربنا إنك جعلت هذه الأموال سبب لضلالهم لأنهم بطروا وطغوا في الأرض واستكبروا عن الإيمان.
وقال الأحفش : إنما هي لما يؤول إليه الأمر والمعنى إنك أتيت فرعون وملأه زينة في الحياة الدنيا فضلوا فعلى هذا هي لام العاقبة يعني فكان عاقبتهم الضلال , وقال ابن الأنباري : هي لام الدعاء وهي لام مكسورة تحزم المستقبل

صفحة رقم 205
ويفتتح بها الكلام فيكون المعنى ربنا إنك ابتليتهم بالضلال عن سبيلك ) ربنا اطمس على أموالهم ( الطمس : إزالة أثر الشيء بالمحو.
ومعنى اطمس على أموالهم أزال صورها وهيئاتها.
وقال مجاهد : أهلكها وقال أكثر المفسرين : امسخها وغيرها عن هيئتها , قال قتادة : بلغنا أن أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم صارت حجارة , وقال محمد بن كعب القرظي : صارت صورهم حجارة وكان الرجل مع أهله في فراشه فصار حجرين والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً وهذا فيه ضعف لأن موسى عليه السلام دعى على أموالهم ولم يدع على أنفسهم بالمسخ.
وقال ابن عباس : بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً.
وقيل إن عمر بن عبد العزيز دعا بخريطة فيها شيء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة منقوشة والجوزة مشقوقة وهي حجارة.
قال السدي : مسخ الله أموالهم حجارة النخل والثمار والدقيق والأطعمة هذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى عليه السلام ) واشدد على قلوبهم ( يعني اربط على قلوبهم واطبع عليها وقسها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان ؛ قال الواحدي : وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لمن يشاء ولولا ذلك لما جسر موسى عليه السلام على هذا السؤال ) فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( يعني الغرق قاله ابن عباس وقال ابن عباس في رواية أخرى عنه : قال موسى قبل أن يأتي فرعون ربنا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فاستجاب الله له دعاءه فحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق فلم ينفعه الإيمان.
قال بعض العلماء : إنما دعا عليهم موسى بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون ذلك أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم في الأزل أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم.
)
يونس : ( 89 - 90 ) قال قد أجيبت...
" قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " ( ) قال ( الله عز وجل لموسى وهارون ) قد أجيبت دعوتكما ( إنما نسب الدعاء إليهما وأن الداعي هو موسى وحده لأن هارون عليه السلام كان يؤمن والتأمين دعاء لأنه طلب وسؤال أيضاً ومعناه اللهم استجب فصار بذلك شريك موسى في الدعاء فلذلك قال تعالى قد أجيب دعوتكما ) فاستقيما ( يعني على تبليغ الرسالة وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب ) ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ( يعني ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فإن وعدي لا خلف فيه ووعدي نازل بفرعون وقومه فلا تستعجلا.
قيل : كان بين دعاء موسى عليه السلام وبين الإجابة أربعون سنة.
قال الإمام فخر الدين الرازي : واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى وهارون كما أن قوله لئن أشركت ليحبطن عملك لا يدل على

صفحة رقم 206
صدور الشرك منه.
قوله عز وجل : ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ( أي : وقطعنا ببني إسرائيل البحر وعبرناهم إياه حتى جاوزوه وعبروه ) فأتبعهم فرعون وجنوده ( يعني لحقهم وأدركهم ) بغياً وعدواً ( أي ظلماً وعدواناً وقيل البغي طلب الاستعلاء بغير حق والعدو الظلم وقيل بغياً في القول وعدواً في الفعل.
قال أهل التفسير : اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف وهم اثنان وسبعون وخرجوا مع موسى من مصر وهم ستمائة ألف وذلك أنه لما أجاب الله دعاء موسى وهارون أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر في الوقت الذي أمرهما أن يخرجا فيه بهم ويسر لهم أسباب الخروج وكان فرعون غافلاً فلما سمع بخروجهم ومفارقتهم مملكته خرج بجنوده في طلبهم فلما أدركهم قالوا لموسى أين المخلص والمخرج البحر أمامنا وفرعون وراءنا وقد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وكشف الله عن وجه الأرض وألبس لهم البحر فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان وكان مقدمهم جبريل وكان على فرس أنثى وديق وميكائيل بسقوهم حتى لا يشد منهم أحد فلما خرج آخر بني إسرائيل من البحر دنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئاً فنزل البحر وتبعه جنوده حتى إذا اكتملوا جميعاً في البحر وهمّ أولهم بالخروج التطم البحر عليهم فلما أدرك فرعون الغرق أتى بكلمة الإخلاص ظناً منه أنها تنجيه من الهلاك وهو قوله تعالى : ( حتى إذا أدركه الغرق قال ( يعني فرعون ) آمنت أنه لا إله إلا لذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ( قال ابن عباس : لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب به وقد كان في مهل.
قال العلماء : إيمانه غير مقبول وذلك أن الإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبولين ويدل عليه قوله تعالى : ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ( " وقيل : إنه قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة , ولم يكن قصده بها الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية لا جرم لم ينفعه ما قال في ذلك الوقت.
وقيل : إن فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى : فلهذا قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه ولما رجع فرعون إلى الإيمان والتوبة حين إغلق بابهما بحضورالموت ومعاينة الملائكة قيل له.
)
يونس : ( 91 - 93 ) آلآن وقد عصيت...
" آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " ( ) آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ( يعني الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية , والمخاطب لفرعون بهذا هو جبريل عليه السلام وقيل الملائكة.
وقيل : إن القائل لذلك هو الله تعالى عرف فرعون قبح صنعه وما كان عليه من الفساد في الأرض ويدل على هذا القول قوله سبحانه وتعالى فاليوم ننجيك ببدنك , والقول الأول أشهر ويعضده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لما أغرق الله فرعون قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال جبريل يا محمد فلو رأتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ) أخرجه الترمذي , وقال حديث حسن.
وفي رواية أخرى عنه عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : ذكر أحدهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ذكر أن جبريل عليه السلام جعل يدس في فيّ فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه الله أخرجه الترمذي , وقال حديث حسن صحيح.

صفحة رقم 207
( فصل : في الكلام على هذا الحديث )
لأنه في الظاهر مشكل فيحتاج إلى بيان وإيضاح فنقول قد ورد هذا الحديث على طريقين مختلفين عن ابن عباس , ففي الطريق الأول عن ابن زيد بن جدعان وهو وإن كان قد ضعفه يحيى بن معين وغيره فإنه كان شيخاً نبيلاً صدوقاً ولكنه كان سيئ الحفظ ويغلط وقد احتمل الناس حديثه وإنما يخشى من حديثه إذا لم يتابع عليه أو خالفه فيه الثقات وكلاهما منتف في هذا الحديث لأن في الطريق الآخر شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير وهذا الإسناد على شرط البخاري , ورواه أيضاً شعبة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير وعطاء بن السائب ثقة قد أخرج له مسلم فهو على شرط مسلم وإن كان عطاء قد تكلم فيه من قبل اختلاطه فإنما يخاف منه ما انفرد به أو خولف فيه وكلاهما منتف فقد علم بهذا أن لهذا الحديث أصلاً وأن رواته ثقات ليس فيهم متهم وإن كان فيهم من هو سيئ الحفظ فقد تابعه عليه غيره.
فإن قلت ففي الحديث الثاني شك في رفعه إنما هو جزم بأن أحد الرجلين رفعه وشك شعبة في تعيينه هل هو عطاء بن السائب أو عدي بن ثابت وكلاهما ثقة فإذا رفعه أحدهما وشك في تعيينه لم يكن هذا علة في الحديث وقوله من حال البحر أي من طين البحر كما في الرواية الأخرى.
( فصل )
ووجه إشكاله ما اعترض به الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره فقال : هل يصح أن جبريل أخذ يملأ فمه بالطين لئلا يتوب غضباً عليه والجواب الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة , إما أن يقال : التكليف هل كان ثابتاً أم لا فإن كان ثابتاً لا يجوز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الذي نسب إلى جبريل فائدة وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر وأيضاً فكيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان.
ولو قيل : إن جبريل فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فهذا يبطله قول جبريل وما نتنزل إلا بأمر ربك فهذا وجه الإشكال الذي أورده الإمام على هذا الحديث في كلام أكثر من هذا , والجواب عن هذا الاعتراض أن الحديث قد ثبت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلا اعتراض عليه لأحد.
وأما قول الإمام : إن التكليف هل كان ثابتاً في تلك الحالة أم لا فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة فإن هذا القول لا يستقيم على أصل المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله وأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وهذا قول أهل السنة المثبتين للقدر , فإنهم يقولون إن الله يحول بين الكافر والإيمان ويدل على ذلك قوله تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } " وقوله تعالى : ( وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم } " وقال تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } " فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه قلب أفئدتهم مثل تركهم الإيمان به أول مرة , وهكذا فعل بفرعون منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أولاً فدس الطين في فم فرعون من جنس الطبع والختم على القلب ومنع الإيمان وصون الكافر عنه وذلك جزاء على كفره السابق وهذا قول طائفة من المثبتين للقدر القائلين بخلق الأفعال لله.
ومن المنكرين لخلق الأفعال من اعترف أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يفعل هذا عقوبة للعبد على كفره السابق فيحسن منه أن يضله

صفحة رقم 208
ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان.
فأما قصة جبريل عليه السلام مع فرعون فإنها من هذا الباب فإن غاية ما يقال فيه إن الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق ورده للإيمان لما جاءه.
وأما فعل جبريل من دس الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه.
فأما قول الإمام لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا يجب عليه ما يجب علينا.
وأما إذا كان جبريل إنما يفعل أمره الله به والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان.
وقد يقال : إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به وإما أن يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة ولا يحرم عليه منعه منها لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به ويحرم عليه فعل ما نهي عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا.
وقوله وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نسب إلى جبريل فائدة فجوابه أن يقال إن للناس في تعليل أفعال الله قولين أحدهما أن أفعاله لا تعلل وعلى هذا التقدير فلا يريد هذا السؤال أصلاً وقد زال الإشكال.
والقول الثاني : إن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح لأجلها فعلها وكذا أوامره ونواهيه لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب وأن إيمانه لا ينفعه دس الطين في فيه لتحقق معاينته للموت فلا تكون تلك الكلمة نافعة له وأنه وإن كان قالها في وقت لا ينفعه فدس الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع والفائدة فيه تعجيل ما قد قضي عليه وسد الباب عند سداً محماً بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان فإن موسى عليه السلام لما دعا ربه بأن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع أجاب الله دعاءه.
فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله قد أجيبت دعوتكما فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله فيكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون.
وأما قوله : لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر , فجوابه ما تقدم من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وجبريل إنما يتصرف بأمر الله ولا يفعل إلا ما أمره الله به وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به فأي كفر يكون هنا وأيضاً فإن الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمرنا به.
وأما من ليس مأموراً كأمرنا ولا مكلفاً كتكليفنا بل يفعل ما يأمره به ربه فإنه إذا نفذ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر ولا يكون كفراً في حقه وعلى هذا التقدير فإن جبريل لما دس الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره غير راض به والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد خيرها وشرها وهو غير راض بالكفر فغاية

صفحة رقم 209
أمر جبريل مع فرعون أن يكون منفذاً لقضاء الله وقدره في فرعون من الكفر وهو ساخط له غير راض به وقوله كيف يليق بجلال الله أن يأمر جبريل بأن يمنعه من الإيمان فجوابه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وأما قوله وإن قيل إن جبريل إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله فجوابه أنه إنما فعل ذلك بأمر الله منفذاً لأمر الله والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
قوله سبحانه وتعالى : ( فاليوم ننجيك ببدنك ( أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع.
قال أهل التفسير : لما أغرق الله سبحانه وتعالى فرعون وقومه أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه فقالت بنو إسرائيل ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله فأمر الله عز وجل البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيراً كأنه ثور فرآه بنو إٍسرائيل فعرفوه فمن ذلك الوقت لا يقبل الماء ميتاً أبداً , ومعنى قوله ببدنك يعني نلقيك وأنت جسد لا روح فيه وقيل هذا الخطاب على سبيل التهكم والاستهزاء كأنه قيل له ننجيك ولكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك.
وقيل : أراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب مرصع بالجواهر , يعرف به فلما رأوه في درعه ذلك عرفوه ) لتكون لمن خلفك آية ( يعني عبرة وموعظة , وذلك أنهم ادعوا أن مثل فرعون لا يموت أبداً فأظهره الله لهم حتى يشاهدوه وهو ميت لتزول الشبهة من قلوبهم ويعتبروا به لأنه كان في غاية العظمة فصار إلى نهاية الخسة والذلة ملقى على الأرض لا يهابه أحد ) وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون ( قوله عز وجل : ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ( يعني أسكناهم مكان صدق وأنزلناهم منزل صدق بعد خروجهم من البحر وإغراق عدوهم فرعون.
والمعنى : أنزلناهم منزلاً محموداً صالحاً وإنما وصف المكان بالصدق لأن عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول العرب : هذا رجل صدق وقدم صدق والسبب فيه أن الشيء إذا كان كاملاً صالحاً , لا بد أن يصدق الظن فيه وفي المراد بالمكان الذي بوءوا قولان أحدهما أنه مصر فيكون المراد : إن الله أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من ناطق وصامت وزرع وغيره.
والقول الثاني : إنه أرض الشام والقدس والأردن لأنها بلاد الخصب والخير والبركة ) ورزقناهم من الطيبات ( يعني تلك المنافع والخيرات التي رزقهم الله تعالى : ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ( يعني فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل حتى جاءهم ما كانوا به عالمين وذلك أنهم كانوا قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مقرين به مجمعين على نبوته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) واختلفوا فيه فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وكفر به بعضهم بغياً وحسداً.
فعلى هذا المعنى يكون المراد من العلم المعلوم والمعنى فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه حقاً فوضع العلم مكان العلوم وقيل المراد من العلم القرآن النازل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما سماه علماً لأنه سبب العلم وتسمية السبب بالمسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان :
الأول : أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين , فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة لهم فآمن به طائفة قليلة وكفر به غالبهم.
والوجه الثاني : أن اليهود كانوا على دين واحد قبل نزول القرآن فلما نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) آمن به طائفة وكفر به آخرون.
وقوله تعالى : ( إن ربك ( يعني يا محمد ) يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( يعني من أمرك وأمر نبوتك في الدنيا فيدخل من آمن بك الجنة ومن كفر

صفحة رقم 210
بك وجحد نبوتك النار.
)
يونس : ( 94 - 98 ) فإن كنت في...
" فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " ( ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ( الشك في موضع اللغة خلاف اليقين والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين أو لعدم الأمارة والشك ضرب من الجهل وهو أخص منه فكل شك جهل وليس كل جهل شكاً فإذا قيل فلان شك في هذا الأمر فمعناه توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه وظاهر هذا الخطاب في قوله فإن كنت في شك أنه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى فإن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به وأنزلناه يعني القرآن ) فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ( يعني علماء أهل الكتاب يخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم وقد توجه هاهنا سؤال واعتراض وهو أن يقال هل شك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أنزل عليه أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك وإذا كان شاكاً في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه.
قلت : الجواب عن هذا السؤال والاعتراض ما قاله القاضي عياض في كتابه الشفاء فإنه أورد هذا السؤال , ثم قال : احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أوحي إليه فإنه من البشر فمثل هذا لا يجوز عليه ( صلى الله عليه وسلم ) جملة بل قال ابن عباس : لم يشك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يسأل.
ونحوه عن سعيد بن جبير والحسن البصري.
وحكي عن قتادة أنه قال : بلغنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما أشك ولا أسأل ) وعامة المفسرين على هذا , ثم كلام القاضي عياض رحمه الله ثم اختلفوا في معنى الآية ومن المخاطب بهذا الخطاب على قولين أحدهما أن الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر والمراد به غيره فهو كقوله لئن أشركت ليحبطن عملك ومعلوم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشرك فثبت أن المراد به غيره ومن أمثلة العرب :
إياك أعني واسمعي يا جارة.
فعلى هذا يكون معنى الآية قل يا محمد , يا أيها الإنسان الشاك إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) فاسأل الذين يقرؤون الكتاب يخبروك بصحته ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر هذه السورة قل يا أيها الناس إن كنتم في شك في ديني الآية فبين أن المذكور في هذه الآية على سبيل الرمز وهو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح وأيضاً لو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شاكاً في بنوته لكان غيره أولى بالشك في نبوته وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية معاذ الله من ذلك وقيل إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي لم يشك قط فيكون المراد بهذا التهييج فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سمع هذا الكلام يقول ( لا أشك يا رب ولا أسأل أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة ) وقال الزجاج : إن الله خاطب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله فإن كنت في شك وهو شامل للخلق فهو كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وهذا وجه حسن لكن فيه بعد وهو أن يقال متى كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) داخلاً في هذا الخطاب كان الاعتراض موجوداً والسؤال وارداً , وقيل : إن لفظة إن في قوله فإن كنت في شك للنفي ومعناه وما أنت في شك مما أنزلنا إليك حتى تسأل فلا تسأل ولئن سألت لازددت يقيناً.
والقول الثاني : إن هذا الخطاب ليس هو للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) البتة ووجه هذا القول إن الناس كانوا في زمنه على ثلاث فرق فرقة له مصدقون وبه مؤمنون وفرقة على الضد من ذلك والفرقة الثالثة المتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله عز وجل بهذا الخطاب , فقال : تمجد وتعالى : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فاسأل أهل الكتاب ليلوك على صحة نبوته وإنما

صفحة رقم 211
وحد الله الضمير في قوله فإن كنت وهو يريد الجمع لأنه خطاب لجنس الإنسان كما في قوله تعالى : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ( " لم يرد في الآية إنساناً بعينه بل أراد الجمع واختلفوا في المسؤول عنه في قوله تعالى : ( فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ( من هم فقال المحققون من أهل التفسير : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم هم الموثوق بأخبارهم.
وقيل : المراد كل أهل الكتاب سواء مؤمنهم وكافرهم لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو أنه مكتوب عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك فقد حصل المقصود والأول أصح.
وقال الضحاك يعني أهل التقوى وأهل الإيمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لقد جاءك الحق من ربك ( هذا كلام مبتدأ منقطع عما قبله وفيه معنى القسم تقديره أسقم لقد جاءك الحق اليقين من الخير بأنك رسول الله حقاً وأن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك ) فلا تكونن من الممترين ( يعني من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك ) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ( يعني بدلائله وبراهينه الواضحة ) فتكون من الخاسرين ( يعني الذين خسروا أنفسهم.
واعلم أن هذا كله على ما تقدم من أن ظاهره خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره ممن عنده شك وارتياب فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشك ولم يرتب ولم يكذب بآيات الله فثبت بهذا أن المراد به غيره والله أعلم.
قوله سبحانه وتعالى ) إن الذين حقت عليهم ( يعني وجبت عليهم ) كلمة ربك ( يعني حكم ربك وهو قوله سبحانه وتعالى : وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وقال قتادة : سخط ربك وقيل لعنة ربك وقيل هو ما قدره عليهم وقضاه في الأزل ) لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ( فإنهم لا يؤمنون بها ) حتى يروا العذاب الأليم ( فحينئذ لا ينفعهم شيء قوله سبحانه وتعالى : ( فلولا ( يعني فهلا ) كانت قرية ( وقيل معناه فما كانت قرية وقيل لم تكن قرية لأن في الاستفهام معنى الحجة والمراد هل كانت قرية ) آمنت ( يعني عند معاينة العذاب ) فنفعها إيمانها ( يعني في حال اليأس ) إلا قوم يونس ( هذا استثناء منقطع يعني لكن قوم يونس فإنهم آمنوا فنفعهم إيمانهم في ذلك الوقت وهو قوله ) لما آمنوا ( يعني لما أخلصوا الإيمان ) كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ( يعني إلى وقت انقضاء آجالهم واختلفوا في قوم يونس هل رأوا العذاب عياناً أم لا فقال بعضهم رأوا دليل العذاب فآمنوا ؛ وقال الأكثرون إنهم رأوا العذاب عياناً بدليل قوله كشفنا عنهم عذاب الخزي والكشف لا يكون إلا بعد الوقوع أو إذا قرب وقوعه.
( ذكر القصة في ذلك )
على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم قالوا : إن قوم يونس

صفحة رقم 212
كانوا بقرية نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام فدعاهم فأبوا عليه فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك فقالوا إنا لم نجرب عليه كذباً قط فانظروا فإن بات فيكم الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم فلما كلان جوف الليل خرج يونس من بين أظهرهم فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم.
قال ابن عباس : إن العذاب كان أهبط على قوم يونس حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل فلما دعوا كشف الله عنهم ذلك.
وقال مقاتل : قدر ميل , وقال سعيد بن جبير : غشي قوم يونس العذاب كما يغشى الثوب القبر , وقال وهب : غامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيهم يونس عليه السلام فلم يجدوه فقذف الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم فلبسوا المسموح وأظهروا الإسلام والتوبة وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب فحن البعض إلى البعض فحن الأولاد إلى الأمهات والأمهات إلى الأولاد وعلت الأصوات وعجوا جميعاً إلى الله وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس وتابوا إلى الله وأخلصوا النية فرحمهم ربهم فاستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب بعد ما أظلهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي إلى الجر وقد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه فيرده.
وروى الطبري بسنده عن أبي الجلد خيلان قال : لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى قال قالوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ومتعوا إلى حين.
وقال الفضيل بن عياض : إنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله , قال : وخرج يونس وجعل ينتظر العذاب فلم ير شيئاً فقيل له ارجع إلى قومك قال وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذاباً وكان من كذب ولا بينة

صفحة رقم 213
له قال فانصرف عنهم مغاضباً فالتقمه الحوت وستأتي القصة في سورة والصافات إن شاء الله تعالى فإن قلت كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد ما نزل بهم وقبل توبتهم ولم يكشف العذاب عن فرعون حين آمن ولم يقبل توبته.
قلت : أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :
أحدهما : أن ذلك كان خاصاً بقوم يونس والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
الجواب الثاني : أن فرعون ما آمن إلا بعد ما باشر العذاب وهو وقت اليأس من الحياة وقوم يونس دننا منم العذاب ولم ينزل بهم ولم يباشرهم فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية.
الجواب الثالث : أن الله عز وجل علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه ما صدق في إيمانهم ولا أخلص فلم يقبل منه إيمانه والله أعلم.
)
يونس : ( 99 - 101 ) ولو شاء ربك...
" ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ( يقول الله عز وجل لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لآمن بك وصدقك من في الأرض كلهم جميعاً ولكن لم يشأ أن يصدقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل قال ابن عباس : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله عز وجل أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له من السعادة في الذكر الأول ولم يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول وفي هذا تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان حريصاً على إيمانهم كلهم فأخبره الله أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له العناية الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم وهو قوله سبحانه وتعالى : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( يعني ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه أو تحرص عليه إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئتنا وقضائنا وقدرنا ليس ذلك لأحد سوانا ) وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ( يعني وما كان ينبغي لنفس خلقها الله تعالى أن تؤمن وتصدق إلا بقضاء الله لها بالإيمان فإن هدايتها إلى الله وهو الهادي المضل.
وقال ابن عباس : معنى بإذن الله , بأمر الله وقال عطاء : بمشيئة الله قوله تعالى : ( ويجعل ( قرئ بالنون على سبيل التعظيم أي ونجعل نحن وقرئ بالياء ومعناه ويجعل الله ) الرجس ( يعني العذاب , وقال ابن عباس : يعني السخط ) على الذين لا يعقلون ( يعني لا يفهمون عن الله أمره ونهيه.
قوله عز وجل : ( قل انظروا ( أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات انظروا يعني انظروا بقلوبكم نظر اعتبار وتفكر وتدبر ) ماذا في السموات والأرض (

صفحة رقم 214
يعني : ماذا خلق الله في السموات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته ففي السموات الشمس والقمر وهما دليلان على النهار والليل والنجوم سخرها طالعة وغاربة وإنزال المطر من السماء وفي الأرض الجبال والبحار والمعادن والأنهار والأشجار والنبات كل ذلك آية دالة على وحدانية الله تعالى وأنه خالقها كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
) وما تغني الآيات والنذر ( يعني الرسل ) عن قوم لا يؤمنون ( وهذا في حق أقوام علم الله أنهم لا يؤمنون لما سبق لهم في الأزل من الشقاء.
)
يونس : ( 102 - 106 ) فهل ينتظرون إلا...
" فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين " ( ) فهل ينتظرون ( يعني مشركي مكة ) إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ( يعني من مضى من قبلهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل قال قتادة يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود.
والعرب تسمي العذاب أياماً والنعم أياماً كقوله تعالى وذكرهم بأيام الله والمعنى فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا يوماً يعاينون فيه العذاب مثل ما فعلنا بالأمم السالفة المكذبة أهلكناهم جميعاً فإن كانوا ينتظرون ذلك العذاب ف ) قل فانتظروا ( يعني : قل لهم يا محمد فانتظروا العذاب ) إني معكم من المنتظرين ( يعني : هلاككم , قال الربيع بن أنس : خوفهم عذابه ونقمته ثم أخبرهم أنه إذا وقع ذلك بهم أنجى الله رسله والذين آمنوا معهم من ذلك العذاب وهو قوله تعالى : ( ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ( يعني من العذاب والهلاك ) كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين ( يعني كما أنجينا رسلنا , والذين آمنوا معهم من الهلاك كذلك ننجيك يا محمد والذين آمنوا معك وصدقوك من الهلاك والعذاب.
قال بعض المتكلمين : المراد بقوله حقاً علينا الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب واجب وأجيب عن هذا بأنه حق واجب من حيث الوعد والحكم لا أنه واجب بسبب الاستحقاق لأنه قد ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً.
قوله سبحانه وتعالى : ( قل يا أيها الناس ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلتك إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك ) إن كنتم في شك من ديني ( يعني الذي أدعوكم إليه وإنما حصل الشك لبعضهم في أمره ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى الآيات التي كانت تظهر على يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحصل له الاضطراب والشك فقال إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه لأنه دين إبراهيم عليه السلام وأنتم من ذريته وتعرفونه ولا تشكون فيه وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في عبادتكم لهذا الأصنام التي لا أصل لها البتة فإن أصررتم على ما أنتم عليه ) فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ( يعني هذه الأوثان وإنما وجب تقديم هذا النفي لأن العبادة هي غاية التعظيم للمعبود فلا تليق لأخس الأشياء وهي الحجارة التي لا تنفع لمن عبدها ولا تضر لمن تركها ولكن تليق العبادة لمن بيده النفع والضر وهو قادر على الإماتة والإحياء وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ( والحكمة في وصف الله سبحانه وتعالى في هذا المقام بهذه الصفة أن المراد أن الذي يستحق العبادة أعبده أنا وأنتم هو الذي خلقكم أولاً ولم تكونوا شيئاً ثم يميتكم ثانياً ثم يحييكم بعد الموت ثالثاً , فاكتفى بذكر الوفاة تنبيهاً على الباقي , وقيل : لما كان الموت أشد الأشياء على النفس ذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع وقيل إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم ) وأمرت أن أكون من المؤمنين ( يعني وأمرني ربي أن أكون من المصدقين بما جاء من عنده قيل لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان

صفحة رقم 215
لأنه من أعمال القلوب ) وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ( الواو في قوله وأن أقم واو عطف معناه وأمرت أن أقيم وجهي يعني أقم نفسك على دين الإسلام حنيفاً يعني مستقيماً عليه غير معوج عنه إلى دين آخر , وقيل معناه أقم عملك على الدين الحنيفي وقيل أراد بقوله وأن أقم وجهك للدين صرف نفسه بكليته إلى طلب الدين الحنيفي غير مائل عنه ) ولا تكونن من المشركين ( يعني ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه غيره فيهلك وقيل إن النهي عن عبادة الأوثان قد تقدم في الآية المتقدمة فوجب حمل هذا النهي على معنى زائد وهو أن من عرف الله عز وجل وعرف جميع أسمائه وصفاته وأنه المستحق للعبادة لا غيره فلا ينبغي له أن يلتفت إلى غيره بالكلية وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشكر الخفي ) ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ( يعني إن عبدته ودعوته ) ولا يضرك ( يعني إن تركت عبادته ) فإن فعلت ( يعني ما نهيتك عنه فعبدت غيري أو طلبت النفع ودفع الضر من غيري ) فإنك إذاً من الظالمين ( يعني لنفسك لأنك وضعت العبادة في غير موضعها وهذا الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فالمراد به غيره لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يدع من دون الله شيئاً البتة فيكون المعنى ولا تدع أيها الإنسان من دون الله ما لا ينفعك , الآية.
)
يونس : ( 107 - 109 ) وإن يمسسك الله...
" وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " ( قوله تعالى : ( وإن يمسسك الله بضر ( يعني وإن يصبك الله بشدة وبلاء ) فلا كاشف له ( يعني لذلك الضر الي أنزل بك ) إلا هو ( لا غيره ) وإن يردك بخير ( يعني بسعة ورخاء ) فلا راد لفضله ( يعين فلا دافع لرزقه ) يصيب به ( يعني : بكل واحد من الضر والخير ) من يشاء من عباده ( قيل إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأوثان وبين أنها لا تقدر على نفع ولا ضر بين تعالى أنه هو القادر على ذلك كله , وأن جميع الكائنات محتاجة إليه وجميع الممكنات مستندة إليه لأنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة ولهذا المعنى ختم الآية بقوله ) وهو الغفور الرحيم ( وفي الآية لطيفة أخرى وهي أن الله سبحانه وتعالى رجح جانب الخير على جانب الشر وذلك أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه سبحانه وتعالى يزيل جميع المضار ويكشفها لأن الاستثناء من النفي إثبات.
ولما ذكر الخير قال فيه فلا راد لفضله يعني أن جميع الخيرات منه فلا يقدر أحد على ردها لأنه هو الذي يفيض جميع الخيرات على عباده وعضده بقوله وهو الغفور يعني الساتر لذنوب عباده الرحيم يعني بهم.
قوله سبحانه وتعالى : ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ( يعني القرآن والإسلام وقيل الحق هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) جاء بالحق من الله عز وجل ) فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ( لأن نفع ذلك يرجع إليه ) ومن ضل فإنما يضل عليها ( أي على نفسه لأن وباله راجع إليه فمن حكم الله له بالاهتداء في الأزل انتفع ومن حكم عليه بالضلالة ضل ولم ينتفع بشيء أبداً ) وما أنا عليكم بوكيل ( يعني وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم وقال ابن عباس : هذه الآية منسوخة بآية السيف ) واتبع ما يوحى إليك ( يعني الأمر الذي يوحيه الله إليك يا محمد ) واصبر ( يعني على أذى من خالفك من كفار مكة وهم قومك ) حتى يحكم الله ( يعني ينصرك عليهم بإظهار دينك ) وهو خير الحاكمين ( يعني أنه سبحانه وتعالى حكم بنصر نبيه وإظهار دينه وبقتل المشركين وأخذ الجزية من أهل الكتاب , وفيه ذلهم وصغارهم والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

صفحة رقم 216
سورة هود
تفسيرسورة هود.
وهي مكية في قول ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد وابن زيد وقتادة وفي رواية عن ابن عباس أنها مكية غير آية وهي قوله سبحانه وتعالى واقم الصلاة طرفي النهار ' وعن قتادة نحوه وقال مقاتل هي مكية إلا قوله سبحانه فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وقوله أولئك يؤمنون به وقوله سبحانه وتعالى إن الحسنات يذهبن السيئات وهي مائة وثلاث وعشرون آية وألف وستمائة كلمة وتسعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفا عن ابن عباس قال : قال أبو بكر يا رسول الله قد شبت قال شيبتي هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الاشمس كورت أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي رواية غيره قال قلت ' يا رسول الله عجل إليك الشيب قال شيبتني هود وأخواتها الحاقة والواقعة وعم يتساءلون وهل أتاك حديث الغاشية قال بعض العلماء سبب شيبه ( صلى الله عليه وسلم ) من هذه السور المذكورة في الحديث لما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار والله أعلم بمراد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
)
هود : ( 1 ) الر كتاب أحكمت...
" الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " ( قوله عز وجل : ( الر كتاب أحكمت آياته ( قال ابن عباس : لم ينسخها كتاب كما نسخت هي الكتب والشرائع ) ثم فصلت ( يعني بينت وقال الحسن : أحكمت آياته بالآمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وفي رواية عنه بالعكس , قال : أحكمت بالثواب والعقاب وفصلت بالأمر والنهي , وقال قتادة : أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فيها وقيل : أحكمها الله فليس فيها تناقض ثم فصلها وبينها وقيل معناه نظمت آياته نظماً رصيناً محكماً بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل كالبناء المحكم الذي ليس فيه خلل ثم فصلت آياته سورة سورة وقيل إن آيات هذا الكتاب دالة على التوحيد وصحة النبوة والمعاد وأحوال القيامة وكل ذلك لا يدخله النسخ ثم فصلت بدلائل الأحكام والمواعظ والقصص والإخبار عن المغيبات , وقال مجاهد : فصلت بمعنى فسرت وثم في قوله ثم فصلت ليست هي للتراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل فإن قلت كيف عم الآيات هنا بالأحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات.
قلت : إن الإحكام الذي عم به هنا غير الذي خص به هناك فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد كأحكام البناء فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله منه آيات محكمات أن بعض آياته منسوخة نسخها بآيات منه أيضاً لم ينسخها غيره وقيل أحكمت آياته أي معظم آياته محكمة وإن كان قد دخل النسخ على البعض فأجرى الكل على البعض لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامهم تقول أكلت طعام زيد وإنما أكلت بعضه.
وقوله تعالى : ( من لدن حكيم ( يعني أحكمت آيات الكتاب من عند حكيم في جميع أفعاله ) خبير ( يعني بأحوال عباده وما يصلحهم.
)
هود : ( 2 - 5 ) ألا تعبدوا إلا...
" ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور " ( ) ألا تعبدوا إلا الله ( هذا مفعول له معناه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله والمراد بالعبادة التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته والدخول في دين الإسلام ) إنني لكم منه ( أي : قل لهم يا محمد إنني لكم من عند الله ) نذير ( ينذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه ) وبشير ( يعني وأبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ( اختلفوا

صفحة رقم 217
في بيان الفرق بين هذين المرتبتين فقيل معناه اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم ارجعوا إليه لأن الاستغفار هو طلب الغفر وهو الستر والتوبة الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة وقيل معناه استغفروا ربكم لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل وقال الفراء : ثم هنا بمعنى الواو لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد ) يمتعكم متاعاً حسناً ( يعني إنكم إذا فعلتم ما أمرتم به من الاستغفار والتوبة وأخلصتم العبادة لله عز وجل بسط عليكم من الدنيا وأسباب الرزق ما تعيشون به في أمن وسعة وخير , قال بعضهم : المتاع الحسن هو الرضا بالميسور والصبر على المقدور ) إلى أجل مسمى ( يعني يمتعكم متاعاً حسناً إلى حين الموت ووقت انقضاء آجالكم.
فإن قلت قد ورد في الحديث ) إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ( " وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله فيكف الجمع مبين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى.
قلت أما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الدنيا سجن المؤمن ) فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم فإنه في سجن في الدنيا حتى يفضي إلى ذلك المعد له وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو النسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم الذي لا ينقطع فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشة حسنة لأنه راض عن الله في جميع أحواله.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ( أي ويعط كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة , قال أبو العالية : من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال , وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن زادت سيئاته دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته كان من الأعراف ثم يدخلون الجنة.
وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول ابن مسعود : هلك من غلبت آحاده أعشاره وقيل معنى الآية من عمل لله وفقه الله في المستقبل لطاعته ) وإن تولوا ( يعني وإن أعرضوا عما جئتم به من الهدى ) فإني أخاف عليكم ( أي : فقل لهم يا محمد إني أخاف عليكم ) عذاب يوم كبير ( يعني : عذاب النار في الآخرة ) إلى الله مرجعكم ( يعني في الآخرة فيثيب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته ) وهو على كل شيء قدير ( يعني من إيصال الرزق إليكم في الدنيا وثوابكم وعقابكم في الآخرة قوله سبحانه وتعالى : ( ألا إنهم يثنون صدورهم ( قال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام

صفحة رقم 218
حلو المنظر وكان يلقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما يجب وينطوي بقلبه على ما يكره فنزلت ألا إنهم يثنون صدورهم يعني يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة من ثنيت الثوب إذا طويته.
وقال عبد الله بن شداد بن الهاد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال قتادة : كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي , وقال السدي : يثنون صدورهم أي يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني ) ليستخفوا منه ( يعني من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال مجاهد من الله عز وجل إن استطاعوا ) ألا حين يستغشون ثيابهم ( يعني يغطون رؤوسهم بثيابهم ) يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ( ومعنى الآية على ما قاله الأزهري : إن الذين أضمروا عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يخفى علينا حالهم في كل حال وقد نقل عن ابن عباس غير هذا التفسير وهو ما أخرجه البخاري في إفراده عن محمد بن عياش بن جعفر المخزومي أنه سمع ابن عباس يقرأ : ألا إنهم يثنون صدورهم , قال : فسألته عنها فقال كل أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء.
)
هود : ( 6 - 7 ) وما من دابة...
" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " ( وقوله سبحانه وتعالى : ( وما من دابة في الأرض ( الدابة اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض وأطلق لفظ الدابة على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف والمراد منه الإطلاق فيدخل الآدمي وغيره من جميع الحيوانات ) إلا على الله رزقها ( يعني هو المتكفل برزقها فضلاً منه لا على سبيل الوجوب فهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل إن لفظة على بمعنى أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها فتموت جوعاً ) ويعلم مستقرها ومستودعها ( قال ابن عباس : مستقرها المكان الذي تأوي في ليل أو نهار ومستودعها المكان الذي تدفن فيه بعد الموت , وقال ابن مسعود : مستقرها أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر ) كل في كتاب مبين ( أي كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها قوله عز وجل : ( وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ( يعني قبل خلق السموات والأرض قال كعب خلق الله ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت

صفحة رقم 219
ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء.
قال ضمرة : إن الله سبحانه وتعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما خلق وما هو خالق وما هو كائن من خلقه إلى يوم القيامة ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه.
وقال سعيد بن جبير سئل ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى : ( وكان عرشه على الماء ( على أي شيء كان الماء قال : على متن الريح , وقال وهب بن منبه : إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض ثم قبض الله قبضة من صفاء الماء ثم فتح القبضة فارتفع دخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم أخذ سبحانه وتعالى طينة من الماء فوضعها مكان البيت ثم دحا الأرض منها ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين والأرض في يومين ثم رفع آخر الخلق وفي اليوم السابع.
قال بعض العلماء : وفي خلق جميع الأشياء وجعلها على الماء ما يدل على كمال القدرة لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم وهو العرش والسموات والأرض على الماء فهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى
( خ ) عن عمران بن حصين قال ( دخلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعقلت ناقتي بالباب فأتى ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فاعطنا مرتين فتغير وجهه ثم دخل عليه ناس من بني أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا يا رسول الله ثم قالوا جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب يقطع دونها وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم ) عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال ( كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء ) أخرجه الترمذي , وقال قال أحمد : يريد بالعماء أنه ليس معه شيء قال أبو بكر البيهقي : في كتاب الأسماء والصفات له قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان الله ولم يكن شيء قبله ) , يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما وقوله ) وكان عرشه على الماء ( يعني وخلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء , وقوله في عماء وجدته في كتاب عمار مقيداً بالمد فإن كان في الأصل ممدوداً فمعناه سحاب رقيق ويريد بقوله في عماء أي فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه كما قال سبحانه وتعالى ) أأمنتم من في السماء ( " يعني من فوق السماء وقال تعالى : ( لأصلبنكم في جذوع النخل ( " يعني على جذوعها وقوله ) ما فوقه هواء ( " أي ما فوق السحاب هواء وكذلك قوله ) وما تحته هواء ( " أي ما تحت السحاب هواء وقد قيل إن ذلك العمى مقصور والعمى إذا كان مقصوراً فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمى عن الخلق لكونه غير شيء فكأنه قال في جوابه كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره ثم قال ما فوقه هواء وما تحته هواء أي ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا تحته هواء لأن ذلك إن كان غير شيء فليس يثبت له هواء بوجه والله أعلم وقال الهروي صاحب الغريبين : قال بعض أهل العلم معناه أين كان عرش ربنا فحذف المضاف اختصاراً كقوله واسأل القرية ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( وكان عرشه على الماء ( هذا آخر كلام البيهقي , وقال ابن الأثير : العماء في اللغة السحاب الرقيق وقيل : الكثيف وقيل : هو الضباب ولا بد في الحديث من حذف مضاف , تقديره أين كان عرش ربنا فحذف ويدل على هذا

صفحة رقم 220
المحذوف قوله تعالى : ( وكان عرشه على الماء ( وحكي عن بعضهم في العمى المقصور أنه قال هو كل أمر لا يدركه الفطن , وقال الأزهري : قال أبو عبيد إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء قال الأزهري : فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ) وفي رواية ( فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء بخمسين ألف سنة ) قوله فرغ يريد إتمام خلق المقادير لا أنه كان مشغولاً ففرغ منه لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
قوله سبحانه وتعالى : ( ليبلوكم ( يعني ليختبركم وهو أعلم بكم منكم ) أيكم أحسن عملاً ( يعني بطاعة الله وأورع عن محارم الله ) ولئن قلت ( يعني ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك ) إنكم مبعوثون من بعد الموت ( يعني للحساب والجزاء ) ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( يعنون القرآن.
)
هود : ( 8 - 12 ) ولئن أخرنا عنهم...
" ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل " ( ) ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ( يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى ) ليقولن ما يحبسه ( يعني : أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالاً بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشي قال الله عز وجل : ( ألا يوم يأتيهم ( يعني العذاب ) ليس مصروفاً عنهم ( أي لا يصرفه عنهم شيء ) وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ( يعني ونزل بهم وبال استهزائهم.
قوله سبحانه وتعالى : ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ( يعني : رخاء وسعة في الرزق والعيش وبسطنا عليه من الدنيا ) ثم نزعناها منه ( يعني سلبناه ذلك كله وأصابته المصائب فاجتاحته وذهبت به ) إنه ليؤوس كفور ( يعني يظل قانطاً من رحمة الله آيساً من كل خير كفور أي جحود لنعمتنا عليه أولاً قليل الشكر لربه قال بعضهم : يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من أمن وسعة وعافية فاشكرها ولا تجحدها فإن نزعت عنك فينبغي لك أن تصبر ولا تيأس من رحمة الله فإنه العواد على عباده بالخير وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ( يعني ولئن نحن أنعمنا على الإنسان وبسطنا عليه من العيش ) ليقولن ( يعني الذي أصابه الخير والسعة ) ذهب السيئات عني ( يعني ذهب الشدائد والعسر والضيق وإنما قال ذلك غرة بالله عز وجل وجرأة عليه لأنه لم يضف الأشياء كلها إلى الله وإنما أضافها إلى العوائد فهلذا ذمه الله تعالى فقال ) إنه لفرح فخور ( أي إنه أشر بطر والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه ثم استثنى فقال تبارك وتعالى : ( إلا الذين صبروا , وعملوا الصالحات ( قال الفراء : هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم ليسوا كذلك فإنهم إن نالتهم شدة صبروا وإن نالتهم نعمة شكروا عليها ) أولئك ( يعني من هذه صفتهم ) لهم مغفرة ( يعني لذنوبهم ) وأجر كبير ( يعني الجنة.
قوله عز وجل : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك (

صفحة رقم 221
الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الله عز وجل لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ربك أن تبلغه إلى من أمرك أن تبلغ ذلك إليه ) وضائق به صدرك ( يعني ويضيق صدرك بما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا فهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يترك ذكر آلهتهم ظاهراً فأنزل الله عز وجل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني من ذكر آلهتهم هذا ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية وأجمع المسلمون على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) فيما كان طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا خطأ ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) بلغ جميع ما أنزل الله عليه إلى أمته ولم يكتم منه شيئاً وأجمعوا على أنه لا يجوز على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خيانة في الوحي والإنذار ولا يترك بعض ما أوحي إليه لقول أحد لأن تجويز ذلك يؤدي إلى الشك في أداء الشرائع والتكاليف لأن المقصود من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه فإذا لم يحصل ذلك فقد فاتت فائدة الرسالة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) معصوم من ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئاً آخر سوى ما ذكره المفسرون.
وللعلماء في ذلك أجوبة :
أحدها : قال ابن الأنباري : قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يترك شيئاً مما يوحى إليه إشفاقاً من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( " الآية.
الثاني : أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وتحريضه على أداء ما أنزله إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه.
الثالث : أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه وتهاونون به وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن يتحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي , والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل , وقيل : إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يترك شيئاً من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله : ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ( أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم ) أن يقولوا ( يعني مخافة أن يقولوا ) لولا أنزل عليه كنز ( يعني يستغني به وينفقه ) أو جاء معه ملك ( يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي.
والمعنى أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن كانت صادقاً في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكاً يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عز وجل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نذير بقوله عز وجل : ( إنما أنت نذير ( تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك ) والله على كل شيء وكيل ( يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.
)
هود : ( 13 - 15 ) أم يقولون افتراه...
" أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون " ( قوله سبحانه وتعالى : ( أم يقولون افتراه ( يعني بل يقول كفار مكة اختلقه

صفحة رقم 222
يعني ما أوحي إليه من القرآن ) قل ( أي قل لهم يا محمد ) فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( لما قالوا له افتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك وليس هو من عند الله تحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي شيء وأن الأمر كما قلتم وأنتم عرب مثلي من أهل الفصاحة وفرسان البلاغة وأصحاب اللسان فأتوا أنتم بكلام مثل هذا الكلام الذي جئتكم به مختلق من عند أنفسكم فإنكم تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام فلهذا قال سبحانه وتعالى : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( في مقابلة قولهم افتراه.
فإن قلت قد تحداهم فأن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك وعجزوا عنه فكيف قالوا فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ومن عجز عن سورة واحدة فهو عن العشرة أعجز.
قلت : قد قال بعضهم إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس , وأنه تحداهم أولاً بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس وأنكر المبرد هذا القول وقال : إن سورة يونس نزلت أولاً , قال : ومعنى قوله في سورة يونس فأتوا بسورة مثله يعني مثله في الإخبار عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد وفي قوله في سورة هود فأتوا بعشر سور مثله يعني في مجرد الفصاحة والبلاغة من غير خبر عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد فلما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم ) وادعوا من استطعتم من دون الله ( حتى يعينوكم على ذلك ) إن كنتم صادقين ( يعني في قولكم إنه مفترى ) فإن لم يستجيبوا لكم ( اعلم أنه لما اشتملت الآية المتقدمة على أمريين وخاطبين :
أحدهما : أمر وخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله سبحانه وتعالى قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات.
والثاني : أمر وخطاب للكفار وهو قوله تعالى وادعوا من استطعتم من دون الله ثم أتبعه بقوله تبارك وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لعجزهم عنها واحتمل أن يكون المراد أن من يدعون من دون الله لم يستجيبوا للكفار في المعارضة فلهذا السبب اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين أحدهما أنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين معه كانوا يتحدون الكفار بالمعارضة ليتبين عجزهم فلما عجزوا عن المعارضة قال الله سبحانه وتعالى لنبيه والمؤمنين فإن لم يستجيبوا لكم فيما دعوتموهم إليه من المعارضة وعجزوا عنه ) فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ( يعني فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثباتاً لأنهم كانوا عالمين بأنه منزل من عند الله , وقيل : الخطاب في قوله فإن لم يستجيبوا لكم للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له ( صلى الله عليه وسلم ) .
القول الثاني : أن قوله سبحانه وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم خطاب مع الكفار وذلك أنه سبحانه وتعالى لما قال في الآية المتقدمة وادعوا من استطعتم من دون الله قال الله عز وجل في هذه الآية فإن لم يستجيبوا لكم أيها الكفار ولم يعينوكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأنه ليس مفترى على الله بل هو أنزله على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وأن لا إله إلا هو ( يعني الذي أنزل القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو لا من تدعون من دونه ) فهل أنتم مسلمون ( فيه معنى الأمر أي أسلموا وأخلصوا لله العبادة وإن حملنا معنى الآية على أنه خطاب مع المؤمنين كان معنى قوله فهل أنتم مسلمون الترغيب أي دوموا على ما أنتم عليه من الإسلام.
قوله عز وجل : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ( يعني بعمله الذي يعمله من أعمال البر نزلت في كل من عمل عملاً يبتغي به غير الله عز وجل :

صفحة رقم 223
) نوف إليهم أعمالهم فيها ( يعني أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا وذلك أن الله سحبانه وتعالى يوسع عليهم في الرزق ويدفع عنهم المكاره في الدنيا ونحو ذلك ) وهم فيها لا يبخسون ( يعني أنهم لا ينقصون من أجور أعمالهم التي علموها لطلب الدنيا بل يعطون أجور أعمالهم كاملة موفرة.
)
هود : ( 16 - 17 ) أولئك الذين ليس...
" أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " ( ) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها ( يعني وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر ) وباطل ما كانوا يعملون ( لأنه لغير الله واختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن احسن مثله , وقال الضحاك : من عمل عملاً صالحاً في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك اجراً في الدنيا وهو أن يصل رحماً أو يعطي سائلاً أو يرحم مضطراً أو نحو هذا من أعمال البر فيجعل الله له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما خوله ويدعف عنه المكاره في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الآية وهذه حالة الكافر في الآخرة وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة وقيل إن حمل الآية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة قال مجاهد في هذه الآية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن قوله سبحانه وتعالى أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار ويدل على هذا ما روي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول قال الله تبارك وتعالى : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) أخرجه مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار ) أخرجه الترمذي , عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) يعني ريحها أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة قيل يا رسول الله من يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم ) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال البغوي وروينا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء ) أخرجه بغير سند والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة ليحمده الناس عليها أو ليعتقدوا فيه الصلاة أو ليقصدوه بالعطاء فهذا العمل هو الذي لغير الله نعوذ بالله من الخذلان قال البغوي وقيل هذا في الكفار يعني قوله من كان يريد الحياة وزينتها أما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وروينا عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً ) أخرجه البغوي بغير سند.
قوله سبحانه وتعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه (

صفحة رقم 224
لما ذكر الله سبحانه وتعالى : في الآية المقتدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة فقال سبحانه وتعالى افمن كان على بينة من ربه أي كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار وإنما حذف هذا الجواب لظهوره ودلالة الكلام عليه وقيل معناه أفمن كان على بينة من ربه وهو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه كمن هو في ضلالة وكفر والمراد بالبينة الدين الذي أمر الله به نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل المراد بالبينة اليقين يعني أنه على يقين من ربه أنه على الحق ) ويتلوه شاهد منه ( يعني ويتبعه من يشهد له بصدقه واختلفوا في الشاهد من هو , فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر المفسرين : أنه جبريل عليه السلام يريد أن جبريل يتبع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويؤيده ويسدده ويقويه وقال الحسن وقتادة هو لسان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وروي عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى : عنه أنت التالي ؟ قال : وما تعني بالتالي ؟ قلت : قوله سبحانه وتعالى ويتلوه شاهد منه قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ووجه هذا القول إن اللسان لما كان يعرف عما في الجنان ويظهره جعل كالشاهد له لأن اللسان هو آلة الفضل والبيان وبه يتلى القرآن وقال مجاهد الشاهد هو ملك يحفظ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويسدده وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هو القرآن لأن إعجازه وبلاغته وحسن نظامه يشهد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنبوته ولأنه أعظم معجزاته الباقية على طول الدهر , وقال الحسين بن علي وابن زيد : الشاهد منه هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووجه هذا القول أن من نظر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعين العقل والبصيرة علم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون , وقال جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب : ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك فقال على ما تقرأ الآية التي في هود ويتلوه شاهد منه فعلى هذا القول يكون الشاهد علي بن أبي طالب وقوله يعني من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد تشريف هذا الشاهد وهو علي لاتصاله بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل يتلوه شاهد منه يعني الإنجيل وهو اختيار الفراء والمعنى أن الإنجيل يتلو القرآن في التصديق بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأمر بالإيمان به وإن كان قد نزل قبل القرآن.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ومن قبله ( يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) كتاب موسى ( يعني التوراة ) إماماً ورحمة ( يعني أنه كان إماماً لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال وذلك سبب حصول الرحمة وقوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به ( يعني أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم هم المشار إليهم بقوله ولئك يؤمنون به يعني بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ) ومن يكفر به ( يعني بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) من الأحزاب ( يعني من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة فتدخل فيه اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم والأحزاب والفرق الذين تحزبوا وتجمعوا على مخالفة الأنبياء ) فالنار موعده ( يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )

صفحة رقم 225
قال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله عز وجل حتى بلغني هذا الحديث لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث , قال سعيد : فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية ) ومن قبله كتاب موسى ( إلى قوله سبحانه وتعالى : ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ( قال فالأحزاب أهل الملل كلها ثم قال سبحانه وتعالى : ( فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ( فيه قولان أحدهما أن معناه فلا تك في شك من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلاً من عند الله فعلى هذا القول يكون متعلقاً بما قبله من قوله تعالى : ( أم يقولون افتراه ( والقول الثاني : إنه راجع إلى قوله ) ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ( يعني فلا تك في شك من أن النار موعد من كفر من الأحزاب والخطاب في قوله ) فلا تك في مرية ( للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشك قط ويعضد هذا القول سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( يعني لا يصدقون بما أوحينا إليك أو من أن موعد الكفار النار.
)
هود : ( 18 - 20 ) ومن أظلم ممن...
" ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون " ( قوله عز وجل : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( يعني أي الناس أشد تعدياً ممن اختلق على الله كذباً فكذب عليه وزعم أن له شريكاً أو ولداً وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم لأن قوله تعالى : ( ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً ( ورد في معرض المبالغة ) أولئك ( يعني المفترين على الكذب ) يعرضون على ربهم ( يعني يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا ) ويقول الأشهاد ( يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم , قاله مجاهد وقال ابن عباس : هم الأنبياء والرسل وبه قال الضحاك وقال قتادة : الأشهاد الخلق كلهم ) هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ( يعني : في الدنيا وهذه الفضيحة تكون في الآخرة لكل من كذب على الله ) ألا لعنة الله على الظالمين ( يعني يقول الله ذلك يوم القيامة فيلعنهم ويطردهم من رحمته
( ق ) .
عن صفوان بن محرز المازني قال : بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في النجوى قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول أعرب رب أعرف مرتين فيقول سترتها عليه في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ) وفي رواية ( ثم تطوى صحيفة حسناته ) وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد وفي رواية ( فينادى بهم على رؤوس الأشهاد من الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) قوله سبحانه وتعالى : ( الذين يصدون عن سبيل الله ( هذه الآية متصلة بما قبلها والمعنى ألا لعنة الله على الظالمين ثم وصفهم فقال الذين يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس من الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام ) ويبغونها عوجاً ( يعني ويطلبون إلقاء الشبهات في قلوب الناس وتعويج الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام ) وهم بالآخرة هم كافرون ( يعني وهم مع صدهم عن سبيل الله يجحدون البعث بعد الموت وينكرونه ) أولئك ( يعني من هذه صفتهم ) لم يكونوا معجزين في الأرض ( قال ابن عباس يعني سابقين وقيل هاربين وقيل فائتين في الأرض والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب والانتقام منهم ولكنهم في قبضته وملكه لا يقدرون على الامتناع منه إذا طلبهم ) وما كان لهم من دون الله من أولياء ( يعني وما كان لهؤلاء المشركين

صفحة رقم 226
من أنصار يمنعونهم من دون الله إذا أراد بهم سوءاً وعذاباً ) يضاعف لهم العذاب ( يعني في الآخرة يزاد عذابهم بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث بعد الموت ) ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( قال قتادة صموا عن سمع الحق فلا يسمعون خيراً فينتفعون به ولا يبصرون خيراً فيأخذون به.
وقال ابن عباس أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال ما كانوا يستطيعون السمع وهي طاعته وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم.
)
هود : ( 21 - 26 ) أولئك الذين خسروا...
" أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " ( ) أولئك الذين خسروا أنفسهم ( يعني أن هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ) وضل عنهم ما كانوا يفترون ( يعني وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله وادعاؤهم أن الملائكة والأصنام تشفع لهم ) لا جرم ( يعني حقاً وقال الفراء لا محالة ) أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( لأنهم باعوا منازلهم في الجنة واشتروا عوضها منازل في النار وهذا هو الخسران المبين.
قوله عز وجل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ( لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع له فقوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( إشارة إلى جميع أعمال الجوارح وقوله وأخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخضوع والخشوع لله عز وجل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد الله بالثواب والجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى وإذا فسرنا الإخبات الخشوع والخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمل الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة وهو الخشوع والخضوع ) أولئك ( يعني الذين هذه صفتهم ) أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال.
قوله سبحانه وتعالى : ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ( لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ضرب لهم مثلاً فقال تبارك وتعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين وفريق الكفارين كالأعمى وهو الذي لا يهتدي لرشده والأصم وهو الذي لا يسمع شيئاً البتة , والبصير وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها , والسميع وهو الذي يسمع الأصوات ويجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع ويبصر وهو الكامل في نفسه ومثل الكافر كمثل الذي لا يسمع ولا يبصر وهو الناقص في نفسه ) هل يستويان مثلاً ( قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهما واحد وهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد وهما من وصف المؤمن

صفحة رقم 227
) أفلا تذكرون ( يعني فتتعظون.
قوله عز وجل : ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين ( يعني أن نوحاً عليه السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالفة أمر الله وعبد غيره ؛ وهو قوله سبحانه وتعالى : ( أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( يعني مؤلم موجع قال ابن عباس : بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفاً وخمسين سنة.
وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو يومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة.
)
هود : ( 27 - 30 ) فقال الملأ الذين...
" فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون " ( ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ( يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح ) ما نراك ( يا نوح ) إلا بشراً مثلنا ( يعني آدمياً مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بني آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخباراً عن قوم نوح ) وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ( يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالاو ذلك جهلاً منهم أيضاً لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين ) بادي الرأي ( يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك , ولو تفكروا ما اتبعوك.
وقيل : معناه ظاهر الرأي , يعني أنهم اتبعوك من غير أن تفكروا باطناً ) وما نرى لكم علينا من فضل ( يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضاً جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة ) بل نظنكم كاذبين ( قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم ) قال ( يعني نوحاً ) يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ( يعني على بيان ويقين من ربي بالذي أنذرتكم به ) وآتاني رحمة من عنده ( يعني هدياً ومعرفة ونبوة ) فعميت عليكم ( يعني خفيت وألبست عليكم ) أنلزمكموها ( الهاء عائدة إلى الرحمة والمعنى أنلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا

صفحة رقم 228
) وأنتم لها كارهون ( وهذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك والذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى الله وليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة والله لو استطاع نبي ( صلى الله عليه وسلم ) لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً ( يعني لا أسألكم ولا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلاً ) إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا ( وذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون ) إنهم ملاقو ربهم ( فلا أطردهم ) ولكني أراكم قوماً تجهلون ( يعني عظمة الله ووحدانيته وربوبيته وقيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ( يعني من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون ) أفلا تذكرون ( يعني فتتعظون.
)
هود : ( 31 - 36 ) ولا أقول لكم...
" ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون " ( ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ( هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالاً والمعنى لا أسألكم عليه مالاً ولا أقول لكم عندي خزائن الله يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وقال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق وإنما وجب أن يكون هذا جواباً من نوح عليه السلام لهم لأنهم قالوا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم وهم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيباً لهم ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده وما يظهرونه إلا هو وإنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم والقول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله وبين قوله ) ولا أعلم الغيب ( يعني ولا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر ولا يعلم ما في ضمائرهم إلا الله ) ولا أقول إني ملك ( وهذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.
( فصل )
استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحاً عليه السلام قال ولا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف وافضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه والجواب أن نوحاً عليه السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه وتعالى : ( ولا أقول إني ملك ( ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء والله أعلم.
وقوله سبحانه وتعالى : ( ولا أقول للذين تزدري أعينكم ( يعني تحتقر وتستصغر أعينكم يعني المؤمنين وذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة وهي الخسة ) لن يؤتيهم الله خيراً ( يعني توفيقاً وهداية وإيماناً وأجراً ) الله أعلم بما في أنفسهم ( يعني من الخير والشر ) إني إذاً لمن الظالمين ( يعني إن طردتهم مكذباً لظاهرهم ومبطلاً لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم وأنا لا أفعله فما أنا من

صفحة رقم 229
الظالمين ) قالوا يا نوح قد جادلتنا ( يعني خاصمتنا ) فأكثرت جدالنا ( يعني خصومتنا ) فأتنا بما تعدنا ( يعني من العذاب ) إن كنت من الصادقين ( يعني في دعواك أنك رسول الله إلينا ) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ( يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى الله ينزله متى شاء وعلى من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم ) وما أنتم بمعجزين ( يعني وما أنتم بفائتين إن أراد الله نزول العذاب بكم ) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ( يعني ولا ينفعكم إنذاري وتحذيري إياكم عقوبته ونزول العذاب ) إن كان الله يريد أن يغويكم ( يعني يضلكم وقيل يهلككم وهذا معنى وليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك ) هو ربكم ( يعني أنه سبحانه وتعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه ) وإليه ترجعون ( يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم ) أم يقولون افتراه ( أي اختلقه وجاء به من عند نفسه والضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به ) قل إن افتريته ( أي اختلقته ) فعلي إجرامي ( أي إثم إجرامي والإجرام اقتراف السيئة واكتسابها يقال جرم وأجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب وافتعله ) وأنا بريء مما تجرمون ( يعني من الكفر والتكذيب وأكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه السلام وقال مقاتل ) أم يقولون ( يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه وتعالى : ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ( قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخاً منهم جاء متكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) فلا تبتئس ( يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم ) بما كانوا يفعلون ( يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال ) رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ( " وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحاً فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه فإذا فاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكا نوح إلى الله عز وجل فقال يا رب ) أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً ( " الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه.
)
هود : ( 37 - 38 ) واصنع الفلك بأعيننا...
" واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون " ( ) واصنع فلك ( يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع ) بأعيننا ( قال ابن عباس

صفحة رقم 230
بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا ) ووحينا ( يعني بأمرنا ) ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحاً فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجاراً فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى : ( ويصنع الفلك ( يعني كما أمره الله سبحانه وتعالى قال أهل السير لما أمر الله سبحانه وتعالى نوحاً بعمل السفينة أقبل على عملها ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عمل الفلك وجعل قومه يمرون وهو في عمله فيسخرون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاث طباق سفلى ووسطى وعلياً وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره الله سبحانه وتعالى وقال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره قال قتادة وكان بابها في عرضها , وروي عن الحسن : أنه كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والقول الأول أشهر وهو أن طولها ثلثمائة ذراع وقال زيد بن أسلم : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يصنع الفلك , وقال كعب الأحبار : عمل نوح عليه السلام السفينة في ثلاثين سنة وروي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب , والوحوش والطبقة الوسطى للإنس والطبقة العلياء للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهي القطة والقط فأقبلا على الفأر فأكلاه.
قوله

صفحة رقم 231
سبحانه وتعالى : ( وكلما مر عليه ملأ من قومه ( أي جماعة من قومه ) سخروا منه ( يعني استهزؤوا به وذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجاراً وقيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتاً يمشي على الماء فضحكوا منه ) قال ( يعني نوحاً لقومه ) إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( يعني إن تستجهلونا في صنعنا فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط الله وعذابه , فإن قلت السخرية لا تليق بمنصب النبوة فكيف قال نوح عليه السلام إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون.
قلت إنما سمي هذا لفعل سخرية على سبيل الازدوج في مشاكلة الكلام كما في قوله سبحانه وتعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ( " والمعنى إنا نرى غب سخريتكم بنا إذا نزل بكم العذاب.
)
هود : ( 39 - 40 ) فسوف تعلمون من...
" فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " ( قوله تعالى : ( فسوف تعلمون ( يعني فسترون ) من يأتيه ( يعني أينا يأتيه نحن أو أنتم ) عذاب يخزيه ( يعني يهينه ) ويحل عليه عذاب مقيم ( يعني في الآخرة فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وهو الغرق والمراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة وعذاب النار الذي لا انقطاع له.
وقوله عز وجل : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ( يعني وغلى والفور الغليان وفارت القدر إذا غلت.
والتنور : فارسي معرب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون وقيل إن لفظ التنور جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي وقيل إن لفظ التنور أصله أعجمي فتكلمت به العرب فصار عربياً مثل الديباج ونحوه واختلفوا في المراد بهذا التنور , فقال عكرمة والزهري : هو وجه الأرض وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة فعلى هذا يكون قد جعل فوران التنور علامة لنوح على هذا الأمر العظيم وقال علي : فار التنور أي طلع الفجر ونور الصبح شبه نور الصبح بخروج النار من التنور , وقال الحسن ومجاهد والشعبي : إن التنور هو الذي يخبز فيه , وهو قول أكثر المفسرين ورواية عن ابن عباس , أيضاً وهذا القول أصح لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه.
فإن قلت الألف واللام في لفظ التنور للعهد وليس هاهنا معهود سابق عند السامع فوجب حمله على غيره وهو شدة الأمر والمعنى إذا رأيت الماء يشتد نبوعه ويقوى فانج بنفسك ومن معك.
قلت : لا يبعد أن يكون ذلك التنور معلوماً عند نوح عليه السلام , قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكانت حواء تخبز فيه ثم صار إلى نوح وقيل له إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا في موضع التنور فقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وكان ذلك في ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة , قال الشعبي : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان فوران التنور علامة لنوح عليه السلام , وقال مقاتل : كان ذلك التنور تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له

صفحة رقم 232
عين وردة وروي عن أبي عباس أنه كان بالهند قال : والفوران الغليان ) قلنا احمل فيها ( يعني : قلنا لنوح احمل في السفينة ) من كل زوجين اثنين ( الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج والمعنى من كل صنف زوجين ذكراً أو أنثى فحشر الله سبحانه وتعالى إليه الحيوان من الدواب والسباع والطير فجعل نوح يضرب بيديه في كل جنس منها فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيجعلهما في السفينة ) وأهلك ( أي واحمل أهلك وولدك وعيالك ) إلا من سبق عليه القول ( يعني بإهلاك وأراد به امرأته واعلة وولده كنعان ) ومن آمن ( يعني واحمل معك من آمن بك من قومك ) وما آمن معه إلا قليل ( اختلفوا في عدد من حمل نوح معه في السفينة فقال قتادة وابن جريج ومحمد كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانين : نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين له وهم سام وحام ويافث ونساؤهم ؛ وقال الأعمش : كانوا سبعة نوحاً وبنيه وثلاث كنائن له.
وقال محمد بن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم وهم نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة نفر آمنوا بنوح وأزواجهم جميعاً , وقال مقاتل : كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة وقال ابن عباس كان في السفينة ثمانون رجلاً أحدهم جرهم , قال الطبري : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل : ( وما آمن معه إلا قليل ( فوصفهم الله سبحانه وتعالى بالقلة ولم يحدد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال مقاتل : حمل نوح معه جسد آدم عليه السلام فجعله معترضاً بين الرجال والنساء وقصد نوحاً جميع الدواب والطيور ليحملها قال ابن عباس : أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه وجعل نوح يقول له ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال له أدخل وإن كان الشيطان معك كلمة ذلت على لسانه فلما قالها نوح خلى سبيل الحمار فدخل الحمار ودخل الشيطان معه فقال له نوح ماذا أدخلك عليّ يا عدو الله قال ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك قال اخرج عني يا عدو الله.
قال : لا بد من أن تحملني معك فكان فيما يزعمون على ظهر السفينة , هكذا نقله البغوي وقال الإمام فخر الدين الرازي : وأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق وأيضاً فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه , قال البغوي : وروي عن بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك فقال إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين لم تضراه وقال الحسن لم يحمل نوح معه في السفينة إلا ما يلد ويبيض وأما ما سوى ذلك مما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم

صفحة رقم 233
يحمل منها شيئاً.
)
هود : ( 41 - 43 ) وقال اركبوا فيها...
" وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين " ( قوله سبحانه وتعالى : ( وقال اركبوا فيها ( يعني وقال نوح لمن حمل معه اركبوا في السفينة ) بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ( يعني بسم الله اجراؤها وإرساؤها قال الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال بسم الله فتجري وكان إذا أراد أن ترسو يعني تقف قال بسم الله فترسو أي تقف وهذا تعليم من الله لعباده أنه من أراد أمراً فلا ينبغي له أن يشرع فيه حتى يذكر اسم الله عليه وقت الشروع حتى يكون ذلك سبباً للنجاح والفلاح في سائر الأمور ) وهي تجري بهم في موج كالجبال ( الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح , شبهه سبحانه وتعالى بالجبال في عظمه هو ارتفاعه على الماء قال العلماء : بالسير أرسل الله المطر أربعين يوماً وليلة وخرج الماء من الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر ( " يعني : صار إناء نصفين نصفاً من السماء ونصفاً من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء.
وروي أنه لما كثر الماء في الشكك خافت أم الصبي على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلحقها الماء فارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي ) ونادى نوح ابنه ( يعني كنعان وكان كافراً ) وكان في معزل ( يعني عن نوح لم يركب معه ) يا بني اركب معنا ( يعني في السفينة ) ولا تكن مع الكافرين ( يعني فتهلك معهم ) قال ( يعني قال كنعان ) سآوي ( يعني سألتجئ وأصير ) إلى جبل يعصمني ( يعني يمنعني ) من الماء قال ( يعني قال له نوح ) لا عاصم ( يعني لا مانع ) اليوم من أمر الله ( يعني من عذابه ) إلا من رحم ( يعني إلا من رحمه الله فينجيه

صفحة رقم 234
من الغرق ) وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ( يعني كنعان.
)
هود : ( 44 - 46 ) وقيل يا أرض...
" وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين " ( ) وقيل ( يعني بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح ) يا أرض ابلعي ماءك ( أي اشربيه ) ويا سماء أقلعي ( أي أمسكي ) وغيض الماء ( أي نقص ونضب يقال غاض الماء إذا نقص وذهب ) وقضي الأمر ( يعني وفرغ من الأمر وهو هلاك قوم نوح ) واستوت ( يعني واستقرت السفينة ) على الجودي ( وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل ) وقيل بعداً ( يعني هلاكاً ) للقوم الظالمين ( قال العلماء : بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين , فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي أن نوحاً عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت الحرام وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه فطافت السفينة به سبعاً وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام وأمر جميع من معه بصيامه شكراً لله تعالى وبنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان , وقيل : إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان المال يصل إلى حجزته وسبب نجاته من الهلاك أن نوحاً عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه الله من الغرق لذلك.
فإن قلت : كيف اقتضت الحكمة الإلهية والكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم.
قلت : ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان ويرد على ذلك أيضاً إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح.
والجواب الشافي عن هذا كله أن الله سبحانه وتعالى متصرف في خلقه وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قوله عز وجل : ( ونادى نوح ربه ( أي دعاه وسأله ) فقال رب إن ابني من أهلي ( يعني وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ) وإن وعدك الحق (

صفحة رقم 235
يعني الصدق الذي لا خلف فيه ) وأنت أحكم الحاكمين ( يعني أنك حكمت لقوم بالنجاة وحكمت على قوم بالهلاك ) قال ( يعني قال الله تعالى : ( يا نوح إنه ( يعني هذا الابن الذي سألتني نجاته ) ليس من أهلك ( اختلف علماء التفسير : هل كان هذا الولد ابن نوح لصلبه أم لا فقال الحسن ومجاهد كان ولد حدث من غير نوح ولم يعلم به فلذلك قال إنه ليس من أهلك , وقال محمد بن جعفر الباقر : كان ابن امرأة نوح وكان يعلمه نوح ولذلك قال من أهلي ولم يقل مني.
وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين : إنه ابن نوح من صلبه , وهذا القول هو الصحيح والقولان الأولان ضعيفان بل باطلان ويدل على صحة هذا نقل الجمهور لما صح عن ابن عباس أنه قال : ما بغت امرأة نبي قط ولأن الله سبحانه وتعالى نص عليه بقوله سبحانه وتعالى : ( ونادى نوح ابنه ( " ونوح ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً نص عليه بقوله ) يا بني اركب معنا ( " وهذا نص في الدلالة وصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة لا يجوز وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً وهذا خطأ ممن قاله لأن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير وهم الكفار والله سبحانه وتعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم فإن الله سبحانه وتعالى أخرج قابيل من صلب آدم عليه السلام وهو نبي وكان قابيل كافراً وأخرج إبراهيم من صلب آزر وهو نبي وكان آزر كافراً فكذلك أخرج كنعان وهو كافر من صلب نوح وهو نبي فهو المتصرف في خلقه كيف يشاء.
فإن قلت : فعلى هذا كيف ناداه نوح فقال : اركب معنا وأسأل له النجاة مع قوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً قلت : قد ذكر بعضهم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم بكون ابنه كان كافراً فلذلك ناداه وعلى تقدير أنه يعلم كفره إنما حمله على أن ناداه رقة لأبوة ولعله إذا رأى تلك الأهوال أن يسلم فينجيه الله بذلك من الغرق فأجابه الله عز وجل بقوله إنه ليس من أهلك يعني أنه ليس من أهل دينك لأن أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما.
ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر قال الله سبحانه وتعالى لنوح : إنه ليس من أهلك ) إنه عمل غير صالح ( قرأ الكسائي ويعقوب : عَمِلَ بكسر الميم وفتح اللام غير بفتح الراء على عود الفعل على الابن ومعناه أنه عمل الشرك والكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح , وقرأ الباقون من القراء : عمَلٌ بفتح الميم ورفع اللام مع التنوين وغير بضم الراء ومعناه إن سؤالك إياي أن أنجيه من الغرق عمل غير صالح لأن طلب نجاة الكفار بعد ما حكم عليه بالهلاك بعيد فلهذا قال سحبانه وتعالى : ( إنه عمل غير صالح ( ويجوز أن يعود الضمير في إنه على ابن نوح أيضاً ويكون التقدير على هذه القراءة إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح فحذف المضاف كما قالت الخنساء : فإنما هي إقبال وإدبار.
قال الواحدي , وهذا قول أبي إسحاق يعني الزجاج وأبي بكر بن الأنباري وأبي علي الفارسي قال أبو علي : ويجوز أن يكون ابن نوح عمل عملاً غير صالح فجعلت نفسه ذلك العمل لكثرة ذلك منه , كما يقال الشعر زهير والعلم فلان إذا كثر منه فعلى هذا لا حذف ) فلا تسألن ما ليس لك به علم ( وذلك أن نوحاً عليه السلام سأل ربه إنجاء ولده م نالغرق وهو من كمال شفقة الوالد على ولده وهو لا يعلم أن ذلك محظور لإصرار ولده على الكفر فهناه الله سبحانه وتعالى عن مثل هذه المسألة وأعلمه أن ذلك لا يجوز فكان المعنى فلا تسألن ما ليس لك به علم بجواز مسألته ) إني أعظك ( يعني أنهاك ) أن تكون من الجاهلين ( يعني لمثل هذا السؤال.

صفحة رقم 236
هود : ( 47 - 50 ) قال رب إني...
) قال ( يعني : قال نوح ) رب إني أعوذ بك ( يعني : ألجأ إليك وأعتذر إليك ) أن أسألك ما ليس لي به علم ( يعني : إنك أنت علام الغيوب وأنا لا أعلم ما غاب عني فأعتذر إليك من مسألتي ما ليس لي به علم ) وإلا تغفر لي ( يعني : جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم ) وترحمني ( يعني برحمتك التي وسعت كل شيء ) أكن من الخاسرين (
( فصل وقد استدل بهذه الآيات من لا يرى عصمة الأنبياء )
وبيانه أن قوله إنه عمل غير صالح المراد منه السؤال وهو محظور فلهذا نهاه عنه بقوله فلا تسألن ما ليس لك به علم , وقوله سبحانه وتعالى : ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ( يدل على أن ذلك السؤال كان جهلاً ففيه زجر وتهديد وطلب المغفرة والرحمة له يدل على صدور الذنب منه.
والجواب أن الله عز وجل كان قد وعد نوحاً عليه السلام بأن ينجيه وأهله فأخذ نوح ظاهر اللفظ واتبع التأويل بمقتضى هذا الظاهر ولم يعلم ما غاب عنه ولم يشك في وعد الله سبحانه وتعالى فأقدم على هذا السؤال لهذا السبب فعاتبه الله عز وجل على سؤاله ما ليس له به علم وبين له أنه ليس من أهله الذي وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح وأعلمه الله سبحانه وتعالى أنه مغرق مع الذين ظلموا ونهاه عن مخاطبته فيهم فأشفق نوح من إقدامه على سؤال ربه فيما لم يؤذن له فيه فخاف نوح من ذلك الهلاك فلجأ إلى ربه عز وجل وخشع له وعاذ به وسأل المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية والله أعلم.
قوله سبحانه وتعالى : ( قيل يا نوح اهبط ( أي انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض ) بسلام ( أي بأمن وسلامة ) منا وبركات عليك ( البركة هي ثبوت الخير ونماؤه وزيادته , وقيل : المراد بالبركة هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة فكل العالم من ذرية أولاده الثلاثة ولم يعقب من كان معه في السفينة غيرهم ) وعلى أمم ممن معك ( يعني : وعلى ذرية أمم ممن كانوا معك في السفينة , والمعنى وبركات عليك وعلى قرون تجيء من بعدك من ذرية أولادك وهم المؤمنون.
قال محمد بن كعب القرظي : دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة ) وأمم سنمتعهم ( هذا ابتداء كلام أي وأمم كافرة يحدثون بعدك سنمتعهم يعني في الدنيا إلى منتهى آجالهم ) ثم يمسهم منا عذاب أليم ( يعني في الآخرة ) تلك من أنباء الغيب ( هذا خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعني أن هذه القصة التي أخبرناك يا محمد من قصة نوح وخبر قومه من أنباء الغيب يعني من أخبار الغيب ) نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ( يعني من قبل نزول القرآن عليك.
فإن قلت إن قصة نوح كانت مشهورة معروفة في العالم فكيف قال ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا.
قلت : يحتمل أن يكون كانوا يعلمونها مجملة فنزل القرآن بتفصيلها وبيانها.
وجواب آخر وهو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أميّاً لم يقرأ الكتب المتقدمة ولم يعلمها وكذلك كانت أمته فصح قوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل نزول القرآن بها ) فاصبر ( يا محمد على أذى مشركي قومك كما صبر نوح على أذى قومه ) إن العاقبة ( يعني النصر والظفر على الأعداء والفوز بالسعادة الأخروية يعني للمؤمنين.
قوله عز وجل : ( وإلى عاد (

صفحة رقم 237
يعني وأرسلنا إلى عاد ) أخاهم هوداً ( يعني أخاهم في النسب لا في الدين ) قال يا قوم اعبدوا الله ( يعني وحدوا الله ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة ) ما لكم من إله غيره ( يعني أنه تعالى هو إلهكم لا هذه الأصنام التي تعبدونها فإنها حجارة لا تضر ولا تنفع ) إن أنتم إلا مفترون ( يعني ما أنتم إلا كاذبون في عبادتكم غيره.
)
هود : ( 51 - 56 ) يا قوم لا...
" يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " ( ) يا قوم لا أسألكم عليه ( يعني على تبليغ الرسالة ) أجراً ( يعني جعلاً آخذه منكم ) إن أجري ( يعني ما ثوابي ) إلا على الذي فطرني ( يعني : خلقني فإنه هو الذي رزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة ) أفلا تعقلون ( يعني فتتعظون ) ويا قوم استغفروا ربكم ( أي آمنوا به فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان لأنه هو المطلوب أولاً ) ثم توبوا إليه ( يعني من شرككم وعبادتكم غيره ومن سالف ذنوبكم ) يرسل السماء عليكم مدراراً ( يعني : ينزل المطر عليكم متتابعاً مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه وذلك أن بلادهم كانت مخصبة كثيرة الخير والنعم فأمسك الله عنهم المطر مدة ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إن آمنوا بالله وصدقوه أرسل الله إليهم المطر فأحيا به بلادهم كما كانت أول مرة ) ويزدكم قوة إلى قوتكم ( يعني شدة مع شدتكم , وقيل : معناه أنكم إن آمنتم يقوِّكم بالأموال والأولاد وذلك أنه سبحانه وتعالى أعقم أرحام نسائهم فلم تلد فقال لهم هود عليه السلام إن آمنتم أرسل الله المطر فتزدادون مالاً ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت عليه فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد وقيل : تزدادون قوة في الدين إلى قوة الأبدان ) ولا تتولوا مجرمين ( يعني ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حال كونكم مشركين ) قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ( أي ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول ) وما نحن بتاركي ألهتنا عن قولك ( يعني وما نترك عبادة آلهتنا لأجل قولك ) وما نحن لك بمؤمنين ( يعني بمصدقين ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ( يعني إنك يا هود لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بخبل وجنون لأنك سببتهم فانتقموا منك بذلك ولا نحمل أمرك إلا على هذا ) قال ( يعني قال هود مجيباً لهم ) إني أشهد الله ( يعني على نفس واشهدوا يعني واشهدوا أنتم أيضاً علي : ( أني بريء مما تشركون من دونه ( يعني هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها ) فكيدوني جميعاً ( يعني احتالوا في كيدي وضري أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضر ولا تنفع ) ثم لا تنظرون ( يعني ثم لا تمهلون وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام وذلك أنه كان وحيداً في قومه فما قال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت إلا لثقته بالله عز وجل وتوكله عليه وهو قوله تعالى : ( إني توكلت على الله ربي وربكم ( يعني أنه فوض مره إلى الله واعتمد عليه ) ما من دابة ( يعني تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان لأنهم يدبون على

صفحة رقم 238
الأرض ) إلا هو آخذ بناصيتها ( يعني أنه تعالى هو مالكها والقادر عليها وهو يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته , والناصية مقدم الرأس وسمي الشعر الذي عليه ناصية للمجاورة قيل : إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم فإذا وصفوا إنساناً بالذلة مع غيره يقولون ناصية فلان بيد فلان وكانوا إذا أسروا أسيراً وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليمنوا عليه ويعتدوا بذلك فخراً عليه فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بما يعرفون من كلامهم ) إن ربي على صراط مستقيم ( يعني إن ربي وإن كان قادراً وأنتم في قبضته كالعبد الذليل فإنه سبحانه وتعالى لا يظلمكم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف والعدل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه , وقيل معناه أن دين ربي هو الصراط المستقيم وقيل فيه إضمار تقديره إن ربي يحملكم على صراط مستقيم.
)
هود : ( 57 - 59 ) فإن تولوا فقد...
" فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد " ( ) فإن تولوا ( يعني تتولوا بمعنى تعرضوا عن الإيمان بما أرسلت به إليكم ) فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ( يعني أني لم يقع مني تقصير في تبليغ ما أرسلت به إليكم إنما التقصير منكم في قبول ذلك ) ويستخلف ربي قوماً غيركم ( يعني أنكم إن أعرضتم عن الإيمان وقبول ما أرسلت به إليكم يهلككم الله ويستبدل بكم قوماً غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه فيه إشارة إلى عذاب الاستئصال فهو وعيد وتهديد ) ولا تضرونه شيئاً ( يعني بتوليكم إنما تضرون أنفسكم بذلك وقيل لا تنقصونه شيئاً إذا أهلككم لأن وجودكم وعدمكم عنده سواء ) إن ربي على كل شيء حفيظ ( يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ لكل شيء فيحفظني من أن تنالوني بسوء.
قوله سبحانه وتعالى : ( ولما جاء أمرنا ( يعني بإهلاكهم وعذابهم ) نجينا هوداً والذين آمنوا معه ( وكانوا أربعة آلاف ) برحمة منا ( وذلك أن العذاب إذا نزل قد يعم المؤمن والكفار فلما أنجى الله المؤمنين من ذلك العذاب كان برحمته وفضله وكرمه ) ونجيناهم من عذاب غليظ ( يعني الريح التي أهلكت بها عاد وذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل على عاد ريحاً شديدة غليظة سبع ليلا وثمانية أيام حسوماً وهي الأيام النحسات فأهلكتهم جميعاً وأنجى الله المؤمنين جميعاً فلم تضرهم شيئاً , وقيل : المراد بالعذاب الغليظ هو عذاب الآخرة وهذا هو الصحيح ليحصل الفرق بين العذابين والمعنى أنه تعالى كما أنجاهم من عذاب الدنيا كذلك ينجيهم من عذاب الآخرة ووصف عذاب الآخرة بكونه غليظاً لأنه أعظم من عذاب الدنيا ) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ( لمكا فرغ من ذكر قصة عاد خاطب أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وتلك عاد رده إلى القبيلة وفيه إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا بها ثم وصف حالهم بقوله تعالى جحدوا بآيات ربهم يعني المعجزات التي أتى بها هود عليه السلام وعصوا رسله يعني هوداً وحده إنما أتى به بلفظ الجمع إما للتعظيم أو لأن من كذب برسول فقد كذب كل الرسل ) واتبعوا أمر كل جبار عنيد ( يعني أن السفلة منهم اتبعوا الرؤساء والمراد من الجبار الرفيع في نفسه المتمرد على الله والعنيد المعاند

صفحة رقم 239
الذي لا يقبل الحق ولا يتبعه.
)
هود : ( 60 - 63 ) وأتبعوا في هذه...
" وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير " ( ) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ( يعني أردفوا لعنة تتبعهم وتلحقهم وتنصرف معهم واللعنة الطرد والإبعاد من رحمة الله ) ويوم القيامة ( يعني وفي يوم القيامة أيضاً تتبعهم اللعنة كما تتبعهم في الدنيا , ثم ذكر سبحانه وتعالى السبب الذي استحقوا به هذه اللعنة فقال سبحانه وتعالى : ( ألا إن عاداً كفروا ربهم ( أي كفروا بربهم ) ألا بعداً لعاد ( يعني هلاكاً لهم وقيل بعداً عن الرحمة.
فإن قلت : اللعنة معناها الإبعاد والهلاك فما الفائدة في قوله ألا بعداً لعاد لأن الثاني هو الأول بعينه.
قلت : الفائدة فيه أن التكرار بعبارتين مختلفتين يدل على نهاية التأكيد وأنهم كانوا مستحقين له ) قوم هود ( عطف بيان لعاد.
فإن قلت : هذا البيان حاصل مفهوم فما الفائدة في قوله قوم هود ؟
قلت : إن عاداً كانا قبيلتين عاد الأولى القديمة التي هم قوم هود وعاد الثانية وهم إرم ذات العماد وهم العماليق فأتى بقوله قوم هود ليزول الاشتباه وجواب آخر وهو أن المبالغة في التنصيص تدل على تقوية التأكيد.
قوله عز وجل : ( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ( يعني وأرسلنا إلى ثمود وهم سكان الحجر أخاهم صالحاً يعني في النسب لا في الدين ) قال يا قوم اعبدوا الله ( أي وحدوا الله وخصوه بالعبادة ) ما لكم من إله غيره ( يعني هو إلهكم المستحق للعبادة لا هذه الأصنام ثم ذكر سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال تعالى : ( هو أنشأكم من الأرض ( يعني أنه هو ابتدأ خلقكم من الأرض وذلك أنهم من بني آدم وآدم خلق من الأرض ) واستعمركم فيها ( يعني وجعلكم عمارها وسكانها , وقال الضحاك : أطال أعماركم فيها حتى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذلك كان قوم عاد وقال مجاهد : أعمركم من العمرى أي جعلها لكم ما عشتم ) فاستغفروه ( يعني : من ذنوبكم ) ثم توبوا إليه ( يعني من الشرك ) إن ربي قريب ( يعني من المؤمنين ) مجيب ( لدعائهم ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا ( يعني : قبل هذا القول الذي جئت به والمعنى إنا كنا نرجوا أن تكون فينا سيداً لأنه كان من قبيلتهم وكان يعين ضعيفهم ويغني فقيرهم , وقيل : معناه أنا كنا نطمع أن تعود إلى ديننا فلما أظهر دعاءهم إلى الله وعاب الأصنام انقطع رجاؤهم منه ) أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ( يعني الآلهة ) وإننا لفي شك مما تدعونا إليه ( يعني من عبادة الله ) مريب ( يعني انا مرتابون في قولك من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس ووقوعها في التهمة ) قال ( يعني قال صالح مجيباً لقومه ) يا قوم أرأيتم الله ( أي فمن يمنعني من عذاب الله ) إن عصيته ( يعني

صفحة رقم 240
إن خالفت أمره ) فما تزيدونني غير تخسير ( قال ابن عباس معناه غير خسارة في خسارتكم وقال الحسن بن الفضل : لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إلى الخسارة.
)
هود : ( 64 - 67 ) ويا قوم هذه...
" ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين " ( ) ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ( وذلك أن قومه طلبوا أن يخرج لهم ناقة من صخرة كانت هناك أشاروا إليها فدعا الله عز وجل فأخرج لهم من تلك الصخرة ناقة عشراء ثم ولدت فصيلاً يشبهها وقوله ناقة الله إضافة تشريف كبيت الله وعبد الله فكانت هذه الناقة لهم آية ومعجزة دالة على صدق صالح عليه السلام ) فذروها تأكل ( يعني من العشب والنبات ) في أرض الله ( يعني فليس عليكم مؤنتها ) ولا تمسوها بسوء ( يعني يعقر ) فيأخذكم ( يعني إن قتلتموها ) عذاب قريب ( يعني في الدنيا ) فعقروها ( يعني فخالفوا أمر ربهم فعقروها ) فقال ( يعني فقال لهم صالح ) تمتعوا ( يعني عيشوا ) في داركم ( أي في بلدكم ) ثلاثة أيام ( يعني ثم تهلكون ) ذلك ( يعني العذاب الذي أوعدهم به بعد ثلاثة أيام ) وعد غير مكذوب ( أي هو غير كذب روى أنه قال لهم يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول ووجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي اليوم الثالث مسودة فكان كما قال وأتاهم العذاب في اليوم الرابع وهو قوله سبحانه وتعالى : ( فلما جاء أمرنا ( يعني العذاب ) نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ( أي بنعمة منا بأن هديناهم إلى الإيمان فآمنوا ) ومن خزي يومئذ ( يعني ونجيناهم من عذاب يومئذ سمي خزياً لأن فيه خزي الكافرين ) إن ربك ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعني إن ربك يا محمد ) هو القوي ( يعني هو القادر على إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين ) العزيز ( يعني القاهر الذي لا يغلبه شيء ثم أخبر عن عذاب قوم صالح فقال سبحانه وتعالى : ( وأخذ الذين ظلموا ( يعني أنفسهم بالكفر ) الصيحة ( وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعاً وقيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعاً ) فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( يعني صرعى هلكى.
)
هود : ( 68 - 71 ) كأن لم يغنوا...
" كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " ( ) كأن لم يغنوا فيها ( يعني كأن لم يقيموا في تلك الديار ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال غنيت بالمكان إذا أتيته أقمت به ) ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود ( وهذه القصص قد تقدمت مستوفاة في تفسير سورة الأعراف.
قوله عز وجل : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى (

صفحة رقم 241
أراد بالرسل الملائكة واختلفوا في عددهم , فقال ابن عباس وعطاء : كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل , وقال الضحاك : كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثني عشر ملكاً , وقال محمد بن كعب القرظي : كان جبريل ومعه سبعة أملاك وقال السدي : كانوا أحد عشر ملكاً على صور الغلمان الحسان الوجوه وقول ابن عباس : هو الأولى لأن أقل الجمع ثلاثة وقوله رسلنا جميع فيحمل على الأقل وما بعده غير مقطوع به بالبشرى يعني بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بإهلاك قوم لوط ) قالوا سلاماً ( يعني أن الملائكة سلموا سلاماً ) قال ( يعني لهم إبراهيم ) سلام ( أي عليكم أو أمركم سلام ) فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ( يعني : مشوياً والمحنوذ هو المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض وهو من فعل أهل البادية وكان سميناً يسيل منه الودك قال قتادة : كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر , وقيل : مكث إبراهيم عليه السلام خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف فاغتم لذلك وكان يحب الضيف ولا يأكل إلا معه فلما جاءت الملائكة رأى أضيافاً لم ير مثلهم قط فعجل قراهم وجاءهم بعجل سمين مشوي ) فلما رأى أيديهم ( يعني أيدي الأضياف ) لا تصل إليه ( يعني إلى العجل المشوي ) نكرهم ( يعني أنكرهم وأنكر حالهم وإنما أنكر حالهم لامتناعهم من الطعام ) وأوجس منهم خيفة ( يعني ووقع في قلبه خوف منهم والوجوس هو رعب القلب وإنما خاف إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) منهم لأنه كان ينزل ناحية من الناس فخاف أن ينزلوا به مكروهاً لامتناعهم من طعامه ولم يعرف أنهم ملائكة وقيل إن إبراهيم عرف أنهم ملائكة لما قدمه إليهم لمعلمه أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولأنه خافهم ولو عرف أنهم ملائكة وإنما خاف أن يكونوا نزلوا بعذاب قومه فخاف من ذلك والأقرب أن إبراهيم عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة في أول الأمر ويدل على صحة هذا أنه عليه السلام قدم إليهم الطعام ولو عرف أنهم ملائكة لما خافهم فلما رأت الملائكة خوف إبراهيم عليه السلام ) قالوا لا تخلف ( يا إبراهيم ) إنا ( ملائكة الله ) أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته ( يعني سارة زوجة إبراهيم وهي ابنة هاران بن ناحوراء وهي ابنة عم إبراهيم ) قائمة ( يعني من وراء الستر تسمع كلامهم , وقيل : كانت قائمة في خدمة الرسل وإبراهيم جالس معهم ) فضحكت ( أصل الضحك انبساط الوجه من سرور يحصل للنفس ولظهور الأسنان عنده سميت مقدمات الأسنان الضواحك ويستعمل في السرور المجرد وفي التعجب المجرد أيضاً وللعلماء في تفسير هذا الضحك قولان أحدهما أنه الضحك المعروف وعليه أكثر المفسرين ثم اختلفوا في سبب هذا الضحك فقال السدي لما قرب إبراهيم الطعام إلى أضيافه فلم يأكلوا خاف إبراهيم منهم ثم اختلفوا في سبب هذا الضحك فقال السدي لما قرب إبراهيم الطعام إلى أضيافه فلم يأكلوا خاف إبراهيم فقال ألا تأكلون فقالوا إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن قال فإن له ثمناً قالوا وما ثمنه قال تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلاً فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه ضحكت سارة وقال يا عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون

صفحة رقم 242
طعامنا , وقال قتادة : ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم , وقال مقاتل والكلبي : ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه وخواصه وقيل : ضحكت من زوال الخوف عنها وعن إبراهيم وذلك أنها خافت لخوفه فحين قالوا لا تخف ضحكت سروراً وقيل ضحكت سروراً بالبشارة , وقال ابن عباس ووهب : ضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها فعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير تقديره فبشّرناها بإسحاق فضحكت يعني تعجباً من ذلك وقيل إنها قالت لإبراهيم أضمم إليك ابن أخيك لوطاً فإن العذاب نازل بقومه فلما جاءت الرسل وبشّرت بعذابهم سُّرت سارة بذلك وضحكت لموافقة ما ظنت.
القول الثاني : في معنى قوله فضحكت قال عكرمة ومجاهد أي حاضت في الوقت وأنكر بعض أهل اللغة ذلك , قال الراغب : وقول من قال حاضت ليس ذلك تفسيراً لقوله فضحكت كما تصوره بعض المفسرين فقال ضحكت بمعنى حاضت وإنما ذكر ذلك تنصيصاً لحالها فإن جعل ذلك أمارة لما بشرت به بحيضها في الوقت لتعلم أن حملها ليس بمنكر لأن المرأة ما دامت تحيض فإنها تحمل وقال الفراء : ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة , وقال الزجاج : ليس بشيء ضحكت بمعنى حاضت , وقال ابن الأنباري : قد أنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت وقد عرفه غيرهم وأنشد :
تضحك الضبع لقتلى هذيل
وترى الذئب بها يستهل
قال : أراد أنها تحيض فرحاً وقال الليث في هذه الآية فضحكت أي طمثت وحكى الأزهري عن بعضهم في قوله فضحكت أي حاضت قال : ويقال أصله من ضحاك الطلعة إذا انشقت , قال : وقال الأخطل فيه بمعنى الحيض :
تضحك الضبع من دماء سليم
إذ رأتها على الحراب تمور
وقال في المحكم : ضحكت المرأة حاضت وبه فسر بعضهم قوله سبحانه وتعالى فضحكت فبشرناها بإسحاق وضحكت الأرنب ضحكاً يعني حاضت حيضاً قال :
وضحك الأرنب فوق الصفا كمثل دم الخوف يوم اللقا
يعني الحيض فيما زعم بعضهم وأجاب عن هذا من أنكر أن يكون الضحك بمعنى الحيض , قال : كان ابن دريد يقول من شاهد الضبع كند كشرها علم أنها تحيض وإنما أراد الشاعر تكشر لأكل اللحوم وهذا سهو منه لأنه جعل كشرها حيضاً , وقيل : معناه أنها تستبشر بالقتلى فتهز بعضها على بعض فجعل هزيزها ضحكاً , وقيل : لأنها تسر بهم فجعل سرورها ضحكاً.
فإن قلت أي القولين أصح في معنى الضحك قلت إن الله عز وجل حكى عنها أنها ضحكت وكلا القولين محتمل في معنى الضحك فالله أعلم أي ذلك كان وقوله سبحانه وتعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( يعني : ومن بعد إسحاق يعقوب وهو ولد الولد فبشرت سارة بأنها تعيش حتى ترى ولد ولدها فلما بشرت بالولد صكت وجهها أي ضربت وجهها وهو من صنيع النساء وعادتهن وإنما فعلت ذلك تعجباً.
)
هود : ( 72 - 73 ) قالت يا ويلتى...
" قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " ( ) قالت يا ويلتا ( نداء ندبة وأصلها يا ويلتاه وهي كلمة يستعملها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه مثل ما عجباه ) أألد وأنا عجوز ( وكانت

صفحة رقم 243
بنت تسعين سنة في قول ابن إسحاق , وقال مجاهد : كانت بنت تسع وتسعين سنة ) وهذا بعلي ( يعني زوجي والبعل هو المستعلي على غيره ولما كان زوج المرأة مستعلياً عليها قائماً بأمرها سمي بعلاً لذلك ) شيخاً ( وكان سن إبراهيم يومئذ مائة وعشرين سنة في قول محمد بن إسحاق وقال مجاهد مائة سنة وكان بين الولادة والبشارة سنة ) إن هذا لشيء عجيب ( لم تنكر قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تعجبت من كون الشيخ الكبير والعجوز الكبير يولد لهما ) قالوا ( يعني قالت الملائكة لسارة ) أتعجبين من أمر الله ( معناه لا تعجبي من ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء فإذا أراد شيئاً كان سريعاً ) رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ( يعني : بيت إبراهيم عليه السلام وهذا على معنى الدعاء من الملائكة لهم بالخير والبركة فيه دليل على أن أزواج الرجل من أهل بيته ) إنه حميد ( يعني : هو المحمود الذي يحمد على أفعاله كلها وهو المستحق لأن يحمد في السراء والضراء والشدة والرخاء فهو محمود على كل حال ) مجيد ( ومعناه المنيع الذي لا يرام , وقال الخطابي : المجيد الواسع الكرم , وأصل المجد في كلامهم : السعة يقال رجل ماجد إذا كان سخياً كريماً واسع العطاء وقيل الماجد هو ذو الشرف والكرم.
)
هود : ( 74 - 77 ) فلما ذهب عن...
" فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب " ( قوله سبحانه وتعالى : ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ( يعني : الفزع والخوف الذي حصل له عند امتناع الملائكة من الأكل ) وجاءته البشرى ( يعني زال عنه الخوف بسبب البشرى التي جاءته وهي البشارة بالولد ) يجادلنا ( فيه إضمار تقديره أخذ يجادلنا أو جعل يجادلنا ويخاصمنا وقيل معناه يكلمنا ويسألنا ) في قوم لوط ( لأن العبد لا يقدر أن يخاصم ربه وقال جمهور المفسرين : معناه يجادل رسلنا في قوم لوط وكانت مجادلة إبراهيم مع الملائكة أن قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن قوم لوط خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا قال فما زال كذلك حتى بلغ خمسة قالوا لا قال أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا لا قال إبراهيم فإن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا أمرأته كانت من الغابرين وقيل إنما طلب إبراهيم تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون أو يرجعون عما هم فيه من الكفر والمعاصي , قال ابن جريج : كان في قرى قوم لوط أربعة آلاف مقاتل ) إن إبراهيم لحليم أوَّاه منيب ( تقدم تفسيره في سورة التوبة فعند ذلك قالت الملائكة لإبراهيم ) يا إبراهيم أعرض عن هذا ( يعني أعرض عن هذا المقال واترك هذا الجدال ) إنه قد جاء أمر ربك ( يعني : إن ربك قد حكم بعذابهم فهو نازل بهم وهو قوله سبحانه وتعالى : ( وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( يعني أن العذاب الذي نزل بهم غير مصروف ولا مدفوع عنهم.
وقوله عز وجل : ( ولما جاءت رسلنا لوطاً ( يعني : هؤلاء الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم

صفحة رقم 244
وكانوا على صورة غلمان مرد حسان الوجوه ) سيء بهم ( يعني أحزن لوط بمجيئهم إليه وساء ظنه بقومه ) وضاق بهم ذرعاً ( قال الأزهري : الذي يوضع موضع الطاقة والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعه من ذلك وضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة والمعنى وضاق بهم ذرعاً إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصاً , وقال غيره : معناه ضاق بهم قلباً وصدراً ولا يعرف أصله إلا أن يقال إن الذرع كناية عن الوسع , والعرب تقول : ليس هذا في يدي يعنون ليس هذا في وسعي لأن الذراع من اليد ويقال ضاق فلان ذرعاً بكذا إذا وقع في مكروه ولا يطيق الخروج منه وذلك أن لوطاً عليه السلام لما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم أشفق عليهم من قومه وخاف أن يقصدوهم بمكروه أو فاحشة وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم ) وقال ( يعني لوطاً ) هذا يوم عصيب ( أي : شديد كأنه قد عصب به الشر والبلاء أي شد به مأخوذ من العصابة التي تشد به الرأس , قال قتادة والسدي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فأتوا لوطاً نصف النهار وهو يعمل في أرض له وقيل أنه كان يحتطب وقد قال الله سبحانه وتعالى للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فاستضافوه فانطلق بهم فلما مشى ساعة قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرهم قال أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملاً يقول ذلك أربع مرات فمضوا معه حتى دخلوا منزله وقيل : إنه لما حمل الحطب ومعه الملائكة مر على جماعة من قومه فتغامزوا فيما بينهم فقال لوط إن قومي شر خلق الله تعالى , فقال جبريل : هذه واحدة فمر على جماعة أخرى فتغامزوا فقال مثله ثم مر على جماعة أخرى ففعلوا ذلك وقال لوط مثل ما قال أولاً حتى قال ذلك أربع مرات وكلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة اشهدوا وقيل إن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط فوجدوه في داره فدخلوا عليه ولم يعلم أحد بمجيئهم إلا أهل بيت لوط فخرجت امرأته الخبيثة فأخبرت قومها وقالت : إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط ولا أحسن منهم.
)
هود : ( 78 - 80 ) وجاءه قومه يهرعون...
" وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " ( ) وجاءه قومه يهرعون إليه ( قال ابن عباس وقتادة يسرعون إليه وقال مجاهد يهرولون , وقال الحسن : الإهراع هو مشي بين مشيين وقال شمر هو بين الهرولة والخبب والجمز ) ومن قبل ( يعنى من قبل مجيء الرسل إليهم قيل ومن قبل مجيئهم إلى لوط ) كانوا يعملون السيئات ( يعني الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم ) قال ( يعني : قال لوط لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم ) يا قوم هؤلاء بناتي ( يعني أزواجكم إياهن وقى أضيافه ببناته قيل إنه كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة تزويج المرأة المسلمة بالكافر , وقال الحسن بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام , وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد ببناته

صفحة رقم 245
نساء قومه وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته وهو كالوالد لهم وهذا القول هو الصحيح وأشبه بالصواب إن شاء الله تعالى والدليل عليه أن بنات لوط كانتا إثنتين وليستا بكافيتين للجماعة وليس من المروءة أن يعرض الرجل بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم فكيف يليق ذلك بمنصب الأنبياء أن يعرضوا بناتهم على الكفار وقيل إنما قال ذلك لوط على سبيل الدفع لقومه لا على سبيل التحقيق وفي قوله ) هن أطهر لكم ( سؤال وهو أن يقال أن قوله هو أطهر لكم من باب أفعل التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهراً ومعلوم أنه محرم فاسد نجس لا طهارة فيه البتة فكيف قال هن أطهر لكم والجواب عن هذا السؤال إن هذا جار مجرى قوله ذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال يوم أحد اعل هبل قال الله أعلى وأجل إذ لا مماثلة بين الله عز وجل والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة.
وقوله ) فاتقوا الله ( يعني خافوه وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان ) ولا تخزون في ضيفي ( يعني ولا تسوءني في أضيافي ولا تفضحوني معهم ) أليس منكم رجل رشيد ( أي صالح سديد عاقل , وقال عكرمة : رجل يقول لا إله إلا الله , وقال محمد بن إسحاق : رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى ينهى عن هذا الفعل القبيح ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ( يعني ليس لنا بهن حاجة ولا لنا فيهن شهوة وقيل معناه ليست بناتك لنا بأزواج ولا مستحقين نكاحهن وقيل معناه مالنا في بناتك من حاجة لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ولا نريد ذلك ) وإنك لتعلم ما نريد ( يعني من إتيان الرجال في أدبارهم فعند ذلك ) قال ( لوط عليه السلام ) لو أن لي بكم قوة ( أي لو أني أقدر أن أتقوى عليكم ) أو آوي إلى ركن شديد ( يعني أو أنضم إلى عشيرة يمنعوني منكم , وجواب لو محذوف تقديره لو وجدت قوة لقاتلتكم أو لوجدت عشرة لانضممت إليهم قال أبو هريرة : ما بعث الله نبياً بعده إلا في منعة من عشيرته
( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته ) قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله : المراد بالركن الشديد هو الله عز وجل فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها ومعنى الحديث أن لوطاً عليه السلام لما خاف على أضيافه ولم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد خزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في تلك الحال لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم وقصد لوط إظهار العذر عند أضيافه وأنه لو استطاع لدفع المكروه عنهم ومعنى باقي الحديث فيما يتعلق بيوسف عليه السلام يأتي في موضعه من سورة يوسف إن شاء الله تعالى , قال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وجعل يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب وقومه يعالجون سور الدار فلما رأت الملائكة

صفحة رقم 246
ما لقي لوط بسببهم.
)
هود : ( 81 - 82 ) قالوا يا لوط...
" قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود " ( ) قالوا يا لوط ( ركنك شديد ) إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ( يعني بمكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه عز وجل في عقوبتهم فأذن له فتحول إلى صورته التي يكون فيها ونشر جناحية وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك مثل المرجان كأنه كالثلج بياضاً وقدماه إلى الخضرة فضرب بجناحية وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فانصرفوا وهم يقولون النجاء النجاء في بيت لوط أسحر قوم في الأرض قد سحرونا وجعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتى تصبح وسترى ما تلقى منا غداً يوعدونه بذلك ) فأسر بأهلك ( يعني ببيتك ) بقطع من الليل ( قال ابن عباس : بطائفة من الليل , وقال الضحاك : لبقية من الليل , وقال قتادة : بعد مضي أوله وقيل أنه السحر الأول ) ولا يلتفت منكم أحد ( يعني ولا يلتفت منكم أحد إلى ورائه ولا ينظر إلى خلفه ) إلا امرأتك ( فإنها من الملتفتات فتهلك مع من هلك من قومها وهو قوله سبحانه وتعالى : ( إنه مصيبها ما أصابهم ( فقال لوط : متى يكون هذا العذاب قالوا ) إن موعدهم الصبح ( قال لوط إنه بعيد أريد أسرع من ذلك فقالوا له ) أليس الصبح بقريب ( فلما خرج لوط من قريته أخذ أهله معه وأمرهم ألا يلتفت منهم أحد فقبلوا منه إلا امرأته فإنها لما سمعت هذه العذاب وهو نازل بهم التفتت وصاحت وا قوماه فأخذتها حجارة فأهلكتها معهم ) فلما جاء أمرنا ( يعني أمرنا بالعذاب ) جعلنا عاليها سافلها ( وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس مدائن أكبرها سدوم وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة ويقال كان فيها أربعمائة ألف وقيل أربعة آلاف ألف فرفع جبريل المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب لم يكفأ لهم إناء ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ) وأمطرنا عليها ( يعني على شذاذها ومن كان خارجاً عنها من مسافريها وقيل بعد ما قلبها أمطر عليهم ) حجارة من سجيل ( قال ابن عباس وسعيد بن جبير : معناه شنك كل فارسي معرب لأن العرب تكلمت بشيء من الفارسي صارت لغة للعرب ولا

صفحة رقم 247
يضاف إلى الفارسي مثل قوله سندس وإستبرق ونحو ذلك فكل هذه ألفاظ فارسية تكلمت بها العرب واستعملتها في ألفاظهم فصارت عربية , قال قتادة وعكرمة : السجيل الطين دليله قوله في موضع آخر حجارة من طين.
وقال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين , وقال الحسن : أصل الحجارة طين فشدت , وقال الضحاك : يعني الآجر وقيل : السجيل اسم سماء الدنيا , وقيل : هو جبل في سماء الدنيا ) منضود ( قال ابن عباس : متتابع يتبع بعضها بعضاً مفعول من النضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
)
هود : ( 83 - 85 ) مسومة عند ربك...
" مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " ( ) مسومة عند ربك ( صفة للحجارة يعني معلمة قال ابن جريج : عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض , وقال قتادة وعكرمة : عليها خطوط حمر على هيئة الجزع وقال الحسن والسدي : كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم , وقيل : كان مكتوباً عليها أي على كل حجر اسم صاحبه الذي يرمى به ) وما هي ( يعني تلك الحجارة ) من الظالمين ( يعني مشركي مكة ) ببعيد ( قال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الآمة والله ما أجار الله منها ظالماً بعد وفي بعض الآثار ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة , وقيل : إن الحجارة اتبعت شذاذ قوم لوط حتى إن واحداً منهم دخل الحرم فوجد الحجر معلقاً في السماء أربعين يوماً حتى خرج ذلك الرجل من الحرم فسقط عليه الحجر فأهلكه.
قوله عز وجل : ( وإلى مدين ( يعني وأرسلنا إلى مدين ) أخاهم شعيباً ( مدين اسم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم صار إسماً للقبيلة من أولاده وقيل هو اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم فعلى هذا يكون التقدير وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه ) قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( يعني وحِّدوا الله ولا تعبدوا معه غيره كانت عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يبدؤون بالأهم فالأهم ولما كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء قال شعيب إعبدوا الله ما لكم من إله غيره ثم بعد الدعوة إلى التوحيد شرع فيما هم فيه ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في الكيل والوزن دعاهم إلى ترك هذه العادة القبيحة وهي تطفيف الكيل والوزن فقال ) ولا تنقصوا المكيال والميزان ( النقص في الكيل والوزن على وجهين أحدهما : أن يكون الاستنقاص من قبلهم فيكيلون ويزنون للغير ناقصاً , والوجه الآخر : هو استيفاء الكيل والوزن لأنفسهم زائداً عن حقهم فيكون نقصاً في مال الغير وكلا الوجهين مذموم فلهذا نهاهم شعيب عن ذلك بقوله ولا تنقصوا المكيال والميزان ) إني أراكم بخير ( قال ابن عباس : كانوا موسرين في نعمة وقال مجاهد : كانوا في خصب وسعة فحذرهم زوال تلك النعمة وغلاء السعر وحصول النقمة إن لم يتوبوا ولم يؤمنوا وهو قوله : ( وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( يعني : يحيط بكم فيهلككم جميعاً وهو عذاب الاستئصال في الدنيا أو حذرهم عذاب الآخرة ومنه قوله سبحانه وتعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان ( أي أتموهما ولا تطففوا فيهما ) بالقسط ( أي بالعدل=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...