65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الأحد، 4 فبراير 2024

وأحلّت له الغنائم، ولم تحلّ النبي قبله

 

نور اليقين 3.للخضري


عظمه في القلوب. وقد قال تعالى في صفة عيسى «وجيها في الدّنيا والاخرة» وكان النبي ﷺ قد رزق الحشمة، والمكانة في القلوب، والعظمة قبل النبوة عند الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره، وقضوا حاجته. كما ذكرنا ذلك مرارا، وقد كان يبهت ويفرق لرؤيته «١» من لم يره، كما روي عن قيلة: إنها لما رأته أرعدت من الفرق فقال: «يا مسكينة عليك السكينة» «٢» . وفي حديث أبي مسعود: أنّ رجلا قام بين يديه، فأرعد، فقال له : «هون عليك فإني لست بملك» «٣» .
[قدره ومنزلته ص]
وأما عظيم قدره بالنبوة، وشريف منزلته بالرسالة، وأنافة رتبته «٤» بالاصطفاء والكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الاخرة سيد ولد ادم «٥» .
وأما ما تختلف فيه الحالات في التمدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله، ككثرة المال. فصاحبه على الجملة معظّم عند العامة، لاعتقادها توصّله به إلى حاجاته، وتمكّنه في أغراضه، وإلّا فليس فضيلة في نفسه، فمتى كان بهذه الصورة، وصاحبه منفقا له في مهماته، ومهمات من قصده وأمّله، تصريفه في مواضعه، مشتريا به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة من القلوب. كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البّر، وأنفقه في سبيل الخير، وقصد بذلك الله تعالى والدار الاخرة، كان فضيلة عند الكل بكل حال، ومتى كان صاحبه ممسكا له، غير موجّهه وجوهه، حريصا على جمعه، عاد كثره كالعدم، وكان منقصة في صاحبه، ولم يقف به على جدد السلامة؛ بل أوقعه في هوّة «٦» رذيلة البخل، ومذمّة النذلة «٧»، فالتمدح بالمال ليس لذاته، بل للتوصّل به إلى غيره، وتصريفه في متصرفاته، ونبينا ﷺ أوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد،


(١) رواه الحاكم وصححه.
(٢) أي يدهشه ويفزع.
(٣) طرف من حديث طويل حسن. أخرجه بطوله ابن منده والطبراني في الكبير وغيره. وأخرج الفقرة الأولى منه أبو داود والترمذي في الشمال (أرعدت من الفرق): رحفت واضطربت من الخوف
(٤) أي رفعتها وظهورها.
(٥) كما في صحيح مسلم قوله ﷺ أنا سيد ولد ادم يوم القيام.
(٦) الهوّة: الحفرة البعيدة القعر.
(٧) السفالة.

وأحلّت له الغنائم، ولم تحلّ النبي قبله، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن، وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجلب إليه كثير من أخماسها وجزيتها وصدقاتها، وهاداه «١» جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلّا دينارا أرصده لديني» «٢» وأتته دنانير مرة فقسّمها، وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال: «الان استرحت» ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله «٣» . واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة «٤»، والكساء الخشن، والبرد «٥» الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوّصة بالذهب «٦»، ويرفع لمن لم يحضره، فأنت ترى أن رسول الله ﷺ حاز فضيلة المال بالزهد فيه، وإنفاقه على مستحقيه.
[الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة]
وأما الخصال المكتسبة من الأخلاق الحميدة، والاداب الشريفة، وهي المسماة بحسن الخلق، فجميعها قد كانت خلق نبيّنا ﷺ على الإنتهاء في كمالها، والإعتدال إلى غايتها، حتى أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «٧» قالت عائشة: كان خلقه القران، يرضى برضاه ويسخط بسخطه «٨» .
وقال
: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» «٩» وقال أنس: كان أحسن الناس خلقا. وكانت له هذه الاداب الكريمة كما كانت لإخوانه من الأنبياء جبلّة خلقوا عليها. ثم يتمكن الأمر لهم، وتترادف نفحات الله عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم، حتى يصلوا الغاية، ويبلغوا


(١) أي أرسلوا إليه الهدايا.
(٢) رواه الشيخان.
(٣) عند يهودي إلى سنة في ثلاثين صاعا من شعير.
(٤) كساء يشتمل به بأنه يديره على جسده كله.
(٥) جمع بردة وهو كساء أسود مربع.
(٦) فارسي معرب جمعه دبابيج وهو الثوب المزين والمخوصة: المنسوجة.
(٧) سورة القلم اية ٤.
(٨) عزاه السيوطي في المناهل إلى البيهقي وصدره ورواه مسلم.
(٩) رواه أحمد والبزار. والبخاري في الأدب المفرد والقضاعي ابن مسند الشهاب وصححه الحاكم.

باصطفاء الله لهم بالنبوة في تحصيل هذه الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة، وهذه الأخلاق المحمودة، والخصال الجميلة كثيرة، ولكنا نذكر أصولها. ونشير إلى جميعها، ونحقّق وصفه بها إن شاء الله.
فأصل فروعها، وعنصر ينابيعها، ونقطة دائرتها: فالعقل الذي منه ينبعث العلم والمعرفة، ويتفرّع عن هذا ثقوب الرأي، وجودة الفطنة، والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة والتدبير، واقتناء الفضائل، وتجنّب الرذائل. وقد بلغ
منه ومن العلم الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه. ويعلم ذلك من تتبّع مجاري أحواله، واطّراد سيره، وطالع جوامع كلمه، وحسن شمائله، وبدائع سيره، وحكم حديثه، وعلمه بما في التوارة والإنجيل والكتب المنزلة، وحكم الحكماء، وسير الأمم الخالية، وأيامها، وضرب الأمثال، وسياسات الأنام، وتقرير الشرائع وتأصيل الاداب النفسية، والشيم الحميدة، إلى فنون العلوم التي اتّخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشارته حجة: كالطب والحساب والفرائض والنسب وغير ذلك دون تعليم، ولا مدارسة، ولا مطالعة كتب من تقدّم، ولا الجلوس إلى علمائهم، بل نبي أميّ لم يعرف شيء من ذلك، حتى شرح الله صدره، وأبان أمره، وعلّمه.
وبحسب عقله كانت معارفه
إلى سائر ما علّمه الله، وأطلعه عليه من علم ما يكون وما كان، وعجائب قدرته، وعظيم ملكوته قال تعالى:
وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
» .
[الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره ص]
وأما الحلم والاحتمال والعفو والقدرة، والصبر على ما يكره، فمما أدب الله به نبيه، فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «٢»، وقد سأل
جبريل عن تأويلها. فقال: يا محمد، إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك «٣»، وقال له: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «٤» وقال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ


(١) سورة النساء آية ١١٣.
(٢) سورة الأعراف آية ١٩٩.
(٣) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيره من طريق مسلم. ووصله ابن برؤبه من حديث جابر.
(٤) سورة لقمان آية ١٧.

لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١» وقال: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «٢» .
وقد تضافرت الأخبار على اتّصافه
بنهاية هذه الأوصاف، فما من حليم إلّا عرفت منه زلّة، وحفظت عنه هفوة «٣»، ونبيّنا لا يزيد مع كثرة الإيذاء إلّا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلّا حلما. قالت عائشة : ما خيّر في أمرين قطّ إلّا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها «٤»، ولما فعل به المشركون ما فعلوا في أحد، وطلب منه أن يدعو عليهم قال: «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون» «٥» . وحسبك في هذا الباب ما فعله مع مشركي قريش الذين اذوه واستهزؤوا به، وأخرجوه من دياره، هو وأصحابه، ثم قاتلوه، وحرّضوا عليه غيرهم من مشركي العرب، حتى تمالأ عليه جمعهم، ثم لمّا فتح الله عليه مكّة ما زاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون: إني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» «٦» وعن أنس: كنت مع النبي وعليه برد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال: يا محمّد احمل لي على بعيريّ هذين من مال الله عندك «٧»، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النّبيّ ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده، ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي، قال: لا، قال: لم؟ قال:
لأنك لا تكافىء بالسيئة السيئة «٨» فضحك
، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الاخر تمر. قالت عائشة: ما رأيت رسول الله ﷺ منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ، ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى، وما ضرب


(١) سورة النور اية ٢٢.
(٢) سورة الشورى اية ٤٣.
(٣) أي غلطة.
(٤) رواه الشيخان وأبو داود.
(٥) رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلا. ورواه الشيخان بلفظ (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)
(٦) رواه ابن سعد والنسائي وابن زنجوية. قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء رواه ابن الجوزي في الوفاء من طريق ابن أبي الدنيا فيه ضعف.
(٧) إلى هنا رواه الشيخان وأخرجه بلفظ المصنف البيهقي في الأدب من حديث أبي هريرة
.
(٨) أخرجه بلفظ المصنف- البيهقي الأدب وأخرجه مختصرا الشيخان (يقاد منك): يقتص منك.

بيده شيئا قطّ إلّا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة «١»، فصلى الله تعالى عليه، وأقر عينه باتّباع المسلمين سنّته.
وأما الجود والكرم والسخاء والسماحة، فكان
لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة، ولا يبارى بهذا وصفه كل من عرفه. قال جابر : ما سئل عن شيء فقال: لا «٢» وقال ابن عباس:
كان
أجود الناس بالخير، وأجود ما كان في شهر رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة «٣» . وقالت خديجة في صفته مخاطبة له: إنك تحمل الكلّ، وتكسب المعدوم «٤» . وحسبك شاهدا في هذا الباب ما فعله مع هوازن من ردّ السبي إليها، وما فعله يوم تقسيم السبي من إعطاء المؤلفة قلوبهم عظيم الأعطية. وقد استوفينا ذلك في موضعه.
وحمل إليه
تسعون ألفا فوضعها على حصير، وأخذ يقسمها، فما قام حتى فرغ منها. وجاءه رجل فسأله فقال: «ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه» . فقال له عمر: ما كلّفك الله ما لا تقدر عليه، فكره ذلك ، فقال له رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا، فتبسّم وعرف البشر في وجهه وقال: بهذا أمرت «٥» والأخبار بجوده وكرمه كثيرة يكفي منها لتعليمك ما ذكرناه.
[شجاعته ص]
ومنها الشجاعة والنجدة، فكان
منهما بالمكان الذي لا يجهل، قد حضر المواقف الصعبة، وفرّ الكماة «٦» والأبطال عنه غير مرّة، وهو ثابت لا يبرح، ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح. وما من شجاع إلّا أحصيت له فرّة،


(١) أخرج الفقرة الأولى منه الترمذي في الشمائل وأبو يعلى وهي في الشيخان: «وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله ﷿.
(٢) رواه الشيخان.
(٣) رواه الشيخان.
(٤) هذا بعض حديث صحيح رواه الشيخان.
(٥) هو بلال ولكنه من المهاجرين وقد يجمع بأنهما قالا له. ورواه الترمذي في الشمائل والبزار والخرائطي في المنتقى من مكارم الأخلاق وقال الهيثمى في المجمع: فيه: اسحاق بن ابراهيم الحنيفي، وقد ضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطئ
(٦) جمع كمي وهو الشجاع أو لا بس السلاح.

وحفظت عنه جولة، سواه. وحسبك ما فعله في حنين وأحد مما ذكرناه مستوفى.
وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع، ولا أنجد، ولا أجود ولا أرضى من رسول الله ﷺ «١»، وقال عليّ: إنا كنّا إذا اشتدّ البأس واحمرّت الحدق اتّقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي ﷺ، وهو أقربنا إلى العدو، وكان أشدّ الناس يومئذ بأسا «٢»، وقال أنس: كان
أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم راجعا. قد سبقهم إلى الصوت، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عري، والسيف في عنقه، وهو يقول: «لن تراعوا» «٣» .
[حياؤه ص]
وأما الحياء والإغضاء، فكان
أشدّ الناس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء، قال أبو سعيد الخدري: كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها. وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه «٤»، وكان لطيف البشرة، رقيق الظاهر، لا يشافه أحدا بما يكرهه حياء وكرم نفس، قالت عائشة: كان إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا، ولكن يقول: ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا «٥»؟ ينهى عنه، ولا يسمّى فاعله، وقالت رضى الله عنها: لم يكن فاحشا، ولا متفحّشا، ولا صخابا بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح «٦» .
[حسن عشرته وأدبه ص]
وأما حسن عشرته وأدبه، وبسط خلقه مع أصناف الخلق، فمما انتشرت به الأخبار الصحيحة، قال علي
: كان أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة «٧»، وأكرمهم عشرة، وكان


(١) رواه الدارمي. ورجاله ثقات.
(٢) رواه أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي وأخرج مسلم بعضه. وأبو يعلى وأبو الشيخ واحمّرت الحدق كناية عن اشتداد القتال.
(٣) رواه الشيخان. لن تراعوا: أي لن تخافوا خوفا يضركم.
(٤) رواه الشيخان.
(٥) رواه أبو داود والخرائطي في المنتقى من مكارم الأخلاق وإسناده حسن.
(٦) رواه الترمذي في السنن وفي الشمائل وأحمد وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(٧) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعريكة أي طبيعة.

يؤلّفهم، ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذّر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره، ولا خلقه، يتفقّد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردّه إلّا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحقّ سواء، بهذا وصفه ابن أبي هالة «١»، وكان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه. قال تعالى فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «٢» وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «٣» وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية، ولو كانت كراعا «٤» ويكافئ عليها، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد، والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر. وقال أنس: ما التقم أحد أذن النبي فينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الاخر. وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم ير قطّ مادّا رجليه بين أصحابه حتى يضيّق بهما على أحد «٥»، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويكنّي أصحابه، ويدعوهم بأحبّ أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز، فيقطعه بنهي أو قيام، وكان أكثر الناس تبسما، وأطيبهم نفسا، ما لم ينزل عليه قران، أو يعظ، أو يخطب.


(١) هو هند بن أبي هالة، كان ربيب رسول الله ﷺ وهو ابن خديجة من زوجها أبي هالة، وقد تزوجها قبل النبي ﷺ.
(٢) سورة ال عمران اية ١٥٩.
(٣) سورة فصلت اية ٣٤.
(٤) وهو مستدق الساق في البقر والغنم.
(٥) رواه الدارقطني في غريب مالك وضعفه.

[شفقته ورأفته ص]
وأما الشفقة والرأفة والرحمة لجميع الخلق فقد وصفه الله بها في قوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «١» وقال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «٢» روي أنّ أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا فأعطاه، ثم قال:
ل «أحسنت إليك»؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم: «أن كفّوا» ثم قام ودخل منزله، وأرسل إليه، وزاده شيئا، ثم قال: «أأحسنت إليك؟» قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال
: إنك قلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ، حتى يذهب ما في صدورهم عليك»، قال: نعم، فلما كان الغد- أو العشي- جاء فقال : «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي، أكذلك؟»: قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال : «مثلي ومثل هذا، مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتّبعها الناس فلم يزيدوها إلّا نفورا، فناداهم صاحبها: خلّو بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجّه لها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردّها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه دخل النار»
«وقال
»: لا يبلّغني أحد منكم عن أصحابي شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر «٤» . وكان يسمع بكاء الصبي فيتجوّز في صلاته. وعن ابن مسعود كان يتخوّلنا بالموعظة مخافة السامة علينا «٥» .
[وفاؤه وصلته الرحم ص]
وأما خلقه
في الوفاء وحسن العهد وصلة الرحم، فروي عن عبد الله بن أبي الحمساء «٦» قال: بايعت النبي ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن اتيه بها مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث،


(١) سورة التوبة اية ١٢٨.
(٢) سورة الأنبياء اية ١٠٧.
(٣) رواه البزار عن أبي هريرة بسند ضعيف وابن حبان وأبو الشيخ مسند ضعيف قال الهثيمى في مجمع الزوائد فيه ابراهيم بن الحكم بن ابان وهو متروك وشردت الناقة نفرت واستعصت وقمام جمع قمامة وهي الكناسة.
(٤) رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود.
(٥) رواه الشيخان وقال الترمذي هذا حديث غريب من هذه الوجه.
(٦) (بالمهملتين المفتوحتين والميم بينهما ساكنة) .

فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: «يا فتى لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك «١» ! وكان إذا أتي بهدية، قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة «٢» . وكان يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. ووفد عليه وفد، فقام يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك؟ فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحبّ أن أكافئهم» «٣» . وفي حديث خديجة: أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل «٤»، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «٥» .
[تواضعه ص]
وأما تواضعه
، على علو منصبه ورفعة رتبته، فكان أشدّ الناس تواضعا، وأقلّهم كبرا، وحسبك أنه خيّر بين أن يكون نبيّا ملكا أو نبيّا عبدا فاختار أن يكون نبيّا عبدا «٦»، وخرج مرة على أصحابه متوكئا على عصا، فقاموا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضهم بعضا «٧»، وقال: «إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» «٨» . وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم حيثما انتهى به المجلس جلس. وقال : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» «٩» وحجّ على رحل رثّ، وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم؛ فقال: «اللهم اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة «١٠» . هذا وقد


(١) رواه أبو داود وابن منده في المعرفة والخرائطي في مكارم الأخلاق. قال العراقي ابن تخريج أحاديث الإحياء رواه أبو داود، واختلف في اسناده، وقال ابن مهدي: ما أظنه ابراهيم بن طهمان إلا أخطأ فيه.
(٢) رواه البخاري في الأدب المفرد. والبزار وغيره وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
(٣) رواه البيهقي في دلائل النبوة.
(٤) تقبل الحمل.
(٥) رواه البخاري ومسلم.
(٦) رواه أحمد والبيهقي وأبو يعلى وصححه ابن حبان وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد والبزار وأبو يعلى ورجال الأولين رجال الصحيح.
(٧) رواه أبو داود وابن ماجه وإسناده ضعيف.
(٨) رواه البزار قال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه حفص بن عمارة الطاحي ولم أعرفه وبقية رجاله وثقوا.
(٩) رواه البخاري والأطراء: المدح بالباطل.
(١٠) رواه ابن ماجه والترمذي في الشمائل وصححه الضياء في المختارة ورث أي خلق بال. وقطيفة: أي كساء له خمل.

فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجّه ذلك مائة بدنة «١»، ولما فتحت عليه مكّة، ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ على رحله رأسه حتى كاد يمسّ قادمته تواضعا لله تعالى «٢» . وعن أبي هريرة رضى الله عنه: دخلت السوق مع النّبيّ ﷺ، فاشترى سراويل، وقال للوزّان: زن وأرجح، ثم قال: فوثب إلى يد رسول الله ﷺ يقبّلها، فجذب يده، وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم، ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحمله قال: صاحب الشيء أحقّ بشيئه أن يحمله «٣» .

[عدله ص وأمانته، وعفّته، وصدق لهجته]
وأما عدله
، وأمانته، وعفّته، وصدق لهجته، فكان امن الناس وأعدل الناس، وأعفّ الناس، وأصدقهم لهجة منذ كان، اعترف له بذلك محادّوه وعداه «٤»، وكان يسمّى قبل نبوّته الأمين. وقد قدّمنا في سيرته قبل النبوّة. وفي الحديث عنه : ما لمست يده يد امرأة قطّ لا يملك رقّها «٥» . قال أبو العباس المبرّد: قسّم كسرى أيامه؛ فقال:
يصلح يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج، ولكن نبيّنا
جزّأ نهاره ثلاثة أجزاء، جزا لله، وجزا لأهله، وجزا لنفسه، ثم جزّأ جزأه بين الناس، فكان يستعين بالخاصة على العامة، ويقول: «أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي، فإن من أبلغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها امنه الله يوم الفزع الأكبر» «٦» . وكان لا يأخذ أحدا بذنب أحد، ولا يصدق أحدا على أحده. «٧»


(١) كما روى مسلم عنه وبدنه تقع على الجمل والناقة والبقرة.
(٢) رواه أبو يعلى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه عبد الله عن أبي بكر المقدمي وهو ضعيف وقادمته: أي قادمة الرجل هي الخشبة التي في مقدمة كور البعير بمنزلة قربوس السرج.
(٣) رواه الطبراني في الأوسط وفيه يوسف بن زياد البصري وهو ضعيف وفي اسناده عمر بن عبد العزيز بن وهيب قال الحافظ في التقريب مجهول أوقر الناس من الوقار: الحلم والرزانة.
(٤) أي مخالفوه واعداؤه.
(٥) رواه الشيخان. والترمذي ولفظه: ما لمست يد رسول الله ﷺ يد امرأة إلا امرأة يملكها.
(٦) رواه الطبراني في الكبير بسند حسن. حديث رجاله ثقات لكنه مرسل أخرجه أبو داود في المراسيل.
(٧) حديث رجاله ثقات لكنه مرسل. أخرجه أبو داود في المراسيل.

[وقاره وصمته، وتؤدته، ومروءته]
وأما وقاره
وصمته، وتؤدته، ومروءته، وحسن هديه، فكان أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه «١»، وكان إذا جلس احتبى بيديه، وكذلك كان أكثر جلوسه محتبيا «٢» . وكان كثير السكوت، لا يتكلّم في غير حاجة، يعرض عمن تكلّم بغير جميل، وكان ضحكه تبسّما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيرا له، واقتداء به، مجلسه مجلس حلم وحياء، وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن «٣» فيه الحرم، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطّير. وقال ابن أبي هالة: كان سكوته ﷺ على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكّر. وقالت عائشة : كان ﷺ يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه «٤»، وكان يحبّ الطيّب والرائحة الحسنة، ويستعملها كثيرا، ويحضّ عليهما. ومن مروءته ﷺ نهيه عن النفخ في الطعام والشراب «٥» . والأمر بالأكل مما يلي «٦» . والأمر بالسواك «٧» وانقاء البراجم «٨» والرواجب «٩» .
[زهده ص في الدنيا]
وأما زهده
في الدنيا فقد قدمنا لك فيه ما فيه الكفاية، وحسبك شاهدا على تقلّله منها، وإعراضه عن زهرتها، وقد سيقت إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها إلى أن توفّي ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله «١٠» . وهو يدعو ويقول: «اللهم اجعل رزق ال محمد قوتا» «١١» .


(١) حديث مرسل أسنده المصنف عن طريقة أبي داود في المراسيل. وفي إسناده عمرو بن عبد العزيز بن وهيب قال الحافظ في التقريب: مجهول (أوقر الناس) من الوقار: الحلم والرزانة.
(٢) رواه الترمذي.
(٣) لا ترمي بصريح ولا تذكر بقبيح.
(٤) رواه الشيخان.
(٥) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
(٦) رواه الشيخان.
(٧) رواه النسائي وأحمد وعبد الرزاق وغيره من حديث أبي هريرة وصححه ابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي وعلقه البخاري بصيغة الجزم وفي الصحيحين «مع كل صلاة» بدل «مع كل وضوء» وهو لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء.
(٨) جمع برجمة وهي مفصل الأصابع من ظاهر الكف.
(٩) رواه أحمد. والرواجب: مفاصل الأصابع من باطن الكف.
(١٠) رواه الشيخان.
(١١) رواه الشيخان وقوتا: هو كفايتهم من غير اسراف.

وقالت عائشة : «ما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز حتى مضى لسبيله»»
. وقالت: ما ترك
دينارا. ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا «٢» ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رف لي «٣» . وقال لي: «إني عرض عليّ أن تجعل لي بطحاء مكّة ذهبا فقلت: لا يا رب أجوع يوما، وأشبع يوما. فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك» «٤» . وقالت عائشة: إن كنّا ال محمد لنمكث شهرا ما نستوقد نارا إن هو إلّا التمر والماء» «٥» .
وعن أنس: ما أكل
على خوان ولا في سكرّجة ولا خبز له مرقّق، ولا رأى شاة سميطا قطّ «٦» . وفي حديث حفصة: كان فراش رسول الله ﷺ في بيته مسحا نثنيه ثنيتين. فينام عليه، فثنيناه ليلة بأربع، فلمّا أصبح قال: «ما فرشتم لي»؟ فذكرنا له ذلك، فقال: ردّوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي» «٧» وقالت عائشة: لم يمتلىء جوف النبي شبعا، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى. وإن كان ليظلّ جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها، ولقد كنت أبكي رحمة له مما أرى به، وأمسح بيدي على بطنه مما أرى به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلّغت من الدنيا بما يقوتك؟ فيقول: يا عائشة مالي وللدنيا، إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم، فأكرم مابهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصّر بي غدا دونهم، وما من شيء أحبّ إليّ من اللحوق بإخواني وأخلّائي. قالت: فما أقام بعد إلّا


(١) رواه مسلم. وفي زيادة من صحيح مسلم: برّ.
(٢) رواه مسلم.
(٣) رواه الشيخان والرف: خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الجدار يوقّى به ما يوضع عليه.
(٤) رواه الترمذي وأحمد وحسنه الترمذي قال العلائي: فيه ثلاثة ضعفاء. وقال العراقي ضعيف.
(٥) رواه الشيخان.
(٦) رواه البخاري مقطعا (الخوان): ما يؤكل عليه (سكرجة) إناء صغير يأكل فيه الشيء القليل من الادم. (سميطا) مشوية.
(٧) رواه الترمذي في الشمائل قال المناوي في فيض القدير وليس بجيد، فقد قال الحافظ العراقي: هو منقطع، والمسح كساء خشن يعد للفرش من صوف (وطأته): لينه

أشهر حتى توفّى صلوات الله عليه وسلامه «١» .

[خوفه ص من ربه، وطاعته له، وشدّة عبادته]
وأما خوفه من ربه، وطاعته له، وشدّة عبادته، فعلى قدر علمه بربه، ولذلك قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» «٢» إني أرى مالا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطّت «صوتت» السماء وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني شجرة تعضد «٣» . وكان
يصلي حتى ترم قدماه؛ فقيل له أتكلّف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ قال. «أفلا أكون عبدا شكورا!» «٤» . وقالت عائشة : كان عمل رسول الله ﷺ ديمة، وأيّكم يطيق ما كان يطيق «٥»؟ وقالت: كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم «٦» . وقال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله ﷺ ليلة، فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه فاستفتح البقرة، فلا يمر باية رحمة إلّا وقف فسأل، ولا يمر باية عذاب إلّا وقف فتعوّذ، ثم ركع، فمكث بقدر قيامه، يقول: سبحان ذي الجبروت والملكوت والعظمة، ثم سجد، وقال مثل ذلك. ثم قرأ ال عمران، ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك «٧»، وقال بعضهم: أتيت رسول الله ﷺ وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل «٨»، وفي وصف ابن أبي هالة: كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة «٩» . وعن علي قال: سألت رسول الله ﷺ عن سنته فقال:


(١) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره قريبا من هذا المعنى.
(٢) أخرجه البخاري في الرقائق ورواه أحمد والبخاري أيضا ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس.
(٣) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن غريب ومعنى تعضد: أي تقطع وقوله «لوددت أني شجرة تعضد: مدرج في الحديث من كلام أبي ذر (الصعدات): أي الطرق (تجأرون) تستغيثون وتدعون.
(٤) الشيخان.
(٥) رواه الشيخان وديمة: أي دائما في رفق واقتصاد.
(٦) رواه مسلم.
(٧) رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل وصححه النووي في الأذكار.
(٨) رواه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وغيره وصححه ابن خزيمة وابن حبان في موارد الظمان والحاكم ووافقه الذهبي وصححه أيضا النووي في رياض الصالحين.
(٩) رواه الترمذي عن عائشة وأخرجه أحمد والنسائي بسند صحيح.

«المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحبّ أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي. والحزن رفيقي. والعلم سلاحي. والصّبر ردائي.
والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوّتي، والصّدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرّة عيني في الصلاة، وثمرة فؤادي في ذكره.
وغمّي لأجل أمتي. وشوقي إلى ربي» «١» فجزاه الله من نبي عن أمته خيرا، ورحم الله عبدا تأمل في هذه الشمائل الكريمة والخصال الجميلة فتمسك بها، واتّبع رسول الله ﷺ ليحوز شفاعته يوم الفزع الأكبر ويرضى الله عنه، فنسألك اللهمّ التوفيق لما فيه الخير بمنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.

معجزاته «٢»

إذا تأمل المتأمل ما قدّمناه من جميل أثر هذا السيد الكريم. وحميد سيره، وبراعة علمه، ورجاحة عقله وحلمه، وجملة كماله، وجميع خصاله، وشاهد حاله، وصواب مقاله لم يمتر «٣» في صحة نبوّته، وصدق دعوته، وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه، والإيمان به، كعبد الله بن سلام. فإنه قال: لما قدم النبي ﷺ المدينة جئته لا نظر إليه؛ فلما استبنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. وروى مسلم أن ضمادا لما وفد عليه، قال له ﷺ «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله واحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله» فقال له ضماد: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فلقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك. ولما بلغ ملك عمان أن رسول الله
يدعوه إلى الإسلام قال: والله لقد دلّني على هذا النبيّ الأمي أنه لا يأمر بخير إلّا كان أول اخذ به، ولا ينهى عن شيء إلّا كان أول تارك له، وإنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الموعود، وأشهد أنه نبي. قال ابن رواحة:
لو لم تكن فيه ايات مبيّنة ... لكان منظره ينبيك بالخبر


(١) قال العراقي لا أصل له وهو يشبه كلام الصوفية وقال الحافظ ابن حجر: لا أصل له وقال السيوطي في المناهل موضوع.
(٢) المعجزة: هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي، الدال على صدق الأنبياء
.
(٣) أي الشك.

كيف وقد أظهر الله على يده تصديقا لدعوته من المعجزات ما لا يفي به العدّ فهو أكثر الأنبياء اية، وأظهرهم برهانا، وسنذكر لك في هذا الفصل من الايات ما تقرّبه عينك، ويزداد به يقينك مما رواه الجمّ الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وأثبته المحدّثون في صحاحهم، ونبدأ منها بأظهرها شأنا، وأوضحها بيانا، وهو القران الشريف وإعجازه.
[إعجاز القرآن الكريم]
اعلم أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة:

أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته
، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خصّوا من البلاغة والحكم بما لم يخصّ به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة «١» اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيّد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، يخطبون بديها في المقامات، وشديد الخطب، ويرتجزون «٢» به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسّلون، ويتوصّلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال «٣»، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللال «٤»، فيخدعون الألباب، ويذلّلون الصعاب، ويذهبون الإحن «٥»، ويهيجون الدّمن «٦» ويجرّئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان «٧» ويصيرون الناقص كاملا، ويتركون النبيه خاملا. منهم البدوي ذو اللفظ الجزل «٨»، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطّبع الجوهري، والمنزع القوي «٩»، ومنهم الحضري، ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطّبع السّهل،


(١) فصاحته.
(٢) أي ينشدون شعرا من بحر الرجز.
(٣) وهو أن يأتوا الكلام البليغ الذي تأزر به النفوس واللال: اللالئ: جمع لؤلؤة وهي الدرة.
(٤) أي الخيط الذي عليه تنظم حبات العقد وتنجذب به القلوب.
(٥) الاحقاد والضغائن.
(٦) أي يهيجون الأحقاد الكامنة في قلوبهم.
(٧) المراد به: البخيل.
(٨) القوي الفصيح الجامع.
(٩) أي الجذب والأخذ.

والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرّونق، الرقيق الحاشية. وكلاهما له في الحجة البلاغة البالغة، والقوة الدامغة، والقدح الفالج «١»، والمهيع الناهج «٢»، لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القّل والكثر، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعهم إلّا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «٣» أحكمت آياته، وفصّلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتضافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كلّ البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السّجع والشعر ارتجالا «٤»، وأوسع في الغريب واللغة مقالا؛ بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخا بها في كل حين، ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «٦» قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا «٧»، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «٨»، فلم يزل يقرّعهم أشدّ التقريع. ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتّت نظامهم. ويذمّ الهتم واباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون «٩» عن معارضته.


(١) السهم الفائز.
(٢) أي الطريق الواضح.
(٣) سورة فصلت اية ٤٢.
(٤) أي تكلّما به من غير فكر ورويّة.
(٥) سورة يونس اية ٣٨.
(٦) سورة البقرة اية ٢٣- ٢٤.
(٧) سورة الإسراء اية ٨٨.
(٨) سورة هود اية ١٣.
(٩) أي محجمون.

محجمون عن مماثلته. يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والاعتراء بالافتراء، وقولهم فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «١» وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «٢» إِفْكٌ افْتَراهُ «٣» أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «٤» والمباهتة، والرضا بالدنية. كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ «٥» وفِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «٦» ولا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «٧» والادعاء مع العجز كقولهم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا «٨» وقد قال لهم وَلَنْ تَفْعَلُوا «٩» فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة، كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلّا فلم يخف على أهل الميز «١٠» منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم؛ بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا إليه مذعنين من بيد مهتد وبين مفتون.
وأنت إذا تأملت قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «١١» وقوله وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «١٢» وقوله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «١٣» وقوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «١٤» وقوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «١٥» وأشباهها من الاي، بل أكثر ايات القران حقّقت ما بيّنته


(١) سورة المدثر الاية ٢٤.
(٢) سورة القمر الاية ٢.
(٣) سورة الفرقان الاية ٤.
(٤) سورة الفرقان الاية ٥.
(٥) سورة البقرة ٨٨.
(٦) سورة فصلت اية ٥.
(٧) سورة فصلت اية ٢٦.
(٨) سورة الأنفال اية ٣١.
(٩) سورة البقرة ٢٤.
(١٠) أي أهل التمييز والعقل.
(١١) سورة البقرة ١٧٩.
(١٢) سورة سبأ اية ٥١.
(١٣) سورة فصلت اية ٣٤.
(١٤) سورة هود اية ٤٤.
(١٥) سورة العنكبوت اية ٤٠.

من إيجاز ألفاظها، وكثرة معانيها، وديباجة عبارتها، وحسن تأليف حروفها، وتلاؤم كلمها، وأنّ تحت كلّ لفظة منها جملا كثيرة، وفصولا جمّة، وعلوما زواخر، ملئت الدواوين من بعض ما استفيد منها، وكثرة المقالات في المستنبطات عنها.
ثم هو في سرد القصص الطوال، وأخبار القرون السوالف، التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام، ويذهب ماء البيان، اية لمتأمّله، من ربط الكلام بعضه ببعض، والتئام سرده، وتناصف وجوهه، كقصة يوسف على طولها. ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة تردّدها، حتى تكاد كلّ واحدة ينسي في البيان صاحبتها. وتناصف في الحسن وجه مقابلتها، ولا نفور للنفوس من ترديدها، ولا معاداة لمعادها.

الوجه الثاني من إعجاز القران: صورة نظمه العجيب
، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت عليه مقاطع ايه، وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلّهت «١» دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر، أو نظم، أو سجع، أو رجز، أو شعر.
والإعجاز بكل واحد من النوعين، والإيجاز والبلاغة بذاتها، أو الأسلوب الغريب بذاته، كلّ واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما، إذ كل واحد منهما خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها.

الوجه الثالث من الإعجاز: ما أنطوى عليه من الأخبار بالمغيّبات
، وما لم يكن ولم يقع، فوجد كما ورد، وعلى الوجه الذي أخبر به كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «٢» وقوله عن الروم: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ «٣» وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «٤» وقوله: وَعَدَ اللَّهُ


(١) اندهشت.
(٢) سورة الفتح آية ٢٧.
(٣) آية ٣.
(٤) سورة التوبة: ٣٣.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...