65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

السبت، 20 مايو 2023

5. موسوعة خطب المنبر - احمد السني


5. موسوعة خطب المنبر - احمد السني

موسوعة شاملة للخطب التي تم تفريغها في موقع شبكة المنبر

تماسك الفرد والمجتمع (سورة الحجرات)

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

آفات اللسان, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

12/1/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

إشارة إلى ما تحويه السورة من آداب المجتمع المسلم – قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ... إلى قوله : فأولئك هم الظالمون ) وما فيه من توجيهات لحفظ تماسك المجتمع المسلم , ثم على مستوى الأمة في قوله : ( وإن طائفتان من المسلمين اقتتلوا فأصلحوا وأُسس هذا الإصلاح : 1- الحزم والقوة 2- العدل والإنصاف 3- تأكيد مبدأ الأخوة الإيمانية - أهمية هذه الأسس , وخطورة إهمالها – النهي عن السخرية , واللمز والتنابز , وخطورة هذه الأخلاق على المجتمع – تكاتف المؤمنين وكونهم كالجسد الواحد , وواقع الأمة المؤسف اليوم وسببه إعراضها عن دين الله

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الإثم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون [الحجرات:11], لقد بدأنا قبل فترة لبيان ما في هذه السورة العظيمة، سورة الحجرات من دروس ومبادئ وآداب تهم الفرد والمجتمع المسلم وها نحن نصل اليوم إلي هذه الآية، فهذه الآية الكريمة وما بعدها من الآيات فيها مجموعة من الآداب والأحكام الرفيعة الهدف منها الحفاظ على تماسك المجتمع المسلم بوشائج الاخوة الإسلامية وأواصر المحبة الإيمانية، فالشارع الحكيم عني بالحفاظ على التلاحم بين أفراد المجتمع المسلم كما عني به على مستوى الأمة كما عني بالمحافظة على هذا التلاحم على مستوى الأمة إذ فرض عليها في الآيتين اللتين قبل هذه الآية المبادرة دائماً إلى حل ما يمكن أن ينشأ من تنازع وتناحر وتقاتل بين المؤمنين إلى حله بالعدل والإنصاف والحزم والقوة, فقال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [الحجرات:9]. هذا هو الأساس الأول الحزم والقوة: فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين [الحجرات:9]. وهذا هو الأساس الثاني وهو العدل والإنصاف. وأما الأساس الثالث فهو مبدأ الاخوة الإيمانية ولذلك عقب سبحانه علي هذه الآية مباشرة بقوله: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10], فبدون إخوة الإيمان وبدون العدل والإنصاف في العلاقات بين الفرد والجماعات وبدون الحزم والقوة في حماية مبدأ الاخوة الإيمانية وفي حراسة مبدأ العدل والإنصاف، بدون هذه الأسس الثلاثة لا يمكن أن تستقيم حياة المؤمنين ولا يمكن أن يبقى كيان المجتمع المسلم سليماً معافى، إذا لم يتأدب الجميع بهذه الآداب القرآنية الرفيعة فإن الذي سيسود على الجميع هو منطق الجاهلية الأولى الذي يجعل الأساس الأول والأخير هو القوة أي سيأكل القوى الضعيف وحيث لا تبقى هناك أية قيمة لوشائج الاخوة ولا لأواصر المحبة، إنما الذي يسود العلاقات في ظلال الجاهلية هو منطق العدوان والبغي والسلب والنهب كما قال شاعر الجاهلية الأولى:

وأحيان علي بكر أخينا ……

إذا لم نجد إلا أخانا

ولقد عني الشارع الحكيم بالمحافظة على التلاحم بين الأفراد كما عني بالمحافظة على مستوى الأمة فأوجب على الأشخاص مجموعة من الأحكام والآداب والأوامر عليهم جميعاً أن يلتزموا بها، فلا يسخر قوم من قوم أي لا يسخر رجال من رجال، فقوم معناها رجال إذا وردت مقابل النساء أما إذا وردت مطلقاً في لغة القرآن يدخل فيها الرجال والنساء، فهنا لا يسخر قوم من قوم أي رجال من رجال. ولا يسخر نساء من نساء ولا يلمزوا أنفسهم أي لا يحقر بعضهم بعضاً ولا يتنابزوا بالألقاب أي لا يطلق أحد علي أحد لقباً أو اسماً بغرض السخرية والاستهزاء والاحتقار وتأملوا هذا الأسلوب الرقيق الدقيق في الآية الكريمة, قال تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم وأراد لا تلمزوا الناس فعبر بلفظة أنفسكم لأن كل مؤمن هو لأخيه المؤمن بمثابة نفسه، فالمؤمنون الحقيقيون كيان واحد وجسد واحد إذا لحق أي فرد منهم الضرر أو السوء أو الأذى فإنه يمس الباقين، فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وكثيراً ما يقع اليوم بعض الناس في ارتكاب هذه المنهيات، كثير من الناس رجالاً ونساء يتورطون في ارتكاب هذه المنهيات فيسخر بعضهم من بعض ويحسد بعضهم بعضاً ويتنابزون بالألقاب يعير بعضهم بعضاً، إما بسبب فقره أو بسبب نسبه أو بغير ذلك من الأسباب وربما عيره بمعصية ارتكبها. حتى صاحب المعصية لا يجوز تعييره بمعصيته إنما الواجب النصح له وزجره وتخويفه من عذاب الله عز وجل فكثير من الناس يقعون في هذه المنهيات مستهينين بما يمكن أن ينشأ من سلبيات خطيرة هدامة عن ذلك ومستخفين بما يمكن أن يتولد من حقد في النفوس بناء على ذلك وحينئذ تتقطع وشائج الاخوة الإسلامية وتنهار روابط المحبة الإيمانية وفي ذلك فساد عريض للمجتمع المسلم أفراداً وجماعات. فاتقوا الله أيها المؤمنون وأصلحوا ذات بينكم وكونوا عباد الله إخواناً.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن في أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) رواه الإمام أحمد في مسنده(1)[1]. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن ذو الإيمان الصحيح يعيش مع إخوانه المؤمنين يألم لألمهم يعيش معهم بمشاعره وأحاسيسه، يحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويهتم بما يصيب المسلمون من كوارث ومصائب فالمؤمن لا يعيش وحده منعزلاً بمشاعره وأحاسيسه لا يهتم بما يصيب المسلمين ولا يشعر بمشاعرهم فتلك أنانية ليست من طبع المؤمن ولا من صفاته فالمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.

و نظرة تلقيها اليوم علي حال المسلمين كفيلة بأن تقطع قلب أي مؤمن حسرة وحزناً وألماً علي ما آل إليه حالهم من تشتت وتفرق وتنازع وتناحر وتقاتل وما أصابهم الذي أصابهم من هذه الكوارث وهذا التشتت وهذا التفرق وهذه الشحناء وهذا التقاتل البغيض إلا بسبب ضعف إيمانهم وانحرافهم عن تعاليم الإسلام وتركهم آداب القرآن، أنظر إليهم اليوم كيف يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضاً كما كان يفعل أهل الجاهلية الأولى، أهل داحس والغبراء وحرب البسوس بينما عدوهم الحقيقي الصهيوني البغيض واقف علي الأبواب يتربص بهم الدوائر وهو جاثم علي صدور إخوانهم من أهل القبلة الأولى يسومهم الذل وسوء العذاب وينكل بهم تنكيلاً ويقتلهم تقتيلاً أما كان من الأولى أن تترك القوة مادامت هناك قوة لمقاتلة هذا العدو الحقيقي بدل من مقاتلة الجار والشقيق ولكن انظروا أيها المسلمون كيف يكون الحال إذا فرطنا في الإيمان وانحرفنا عن مبادئ الإسلام وتعاليمه وهجرنا آداب القرآن فهذه عقوبات لها ذنوب ونتائج لها مقدمات وعواقب لها أسباب فعلي المسلمين أن يصلحوا الأسباب والعواقب وأن يهجروا الذنوب وأن يعودوا إلى مبادئ دينهم وإسلامهم الذي يفرض عليهم مبدأ الأخوة الإيمانية, عليهم أن يحافظوا على هذا المبدأ ويتقوا الله إن كانوا يريدوا أن يكونوا من المرحومين.

وحده سبحانه هو الذي يستطيع أن يؤلف بين القلوب ويجمع الشتات ويزيل التفرق من الصفوف ومن القلوب هو خالق هذه النفوس الجامحة المتمردة هو وحده سبحانه من يستطيع ذلك: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [الأنفال:63]. فنتوجه إليه سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وبصفاته العلا أن يصلح حال المسلمين. اللهم أصلح حال المؤمنين. اللهم ألف بين قلوبهم واجمع كلمتهم على الحق ورد عنهم كيد الكائدين ودسائس المفسدين. اللهم ارحم عبادك المسلمين. اللهم هيئ لهم من أمرهم رشداً.

أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[2] اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) مسند أحمد (5/340).

(2) صحيح مسلم (408).

(1/276)

خواطر الإجازة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة

اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أهمية استغلال الإجازة. 2- نفاسة الوقت وضرورة استغلاله. 3- الحذر من التسويف وطول الأمل. 4- صلة الأرحام والحذر من قطعها واستغلال الإجازة في وصلها. 5- الاستفادة من الإجازة في تنمية المواهب وحفظ القرآن والسنة والعلم. 6- الحذر من السياحة في بلاد الكفار وأماكن الرذيلة وإضاعة المال هناك. 7- تشجيع السياحة الداخلية لا سيما التعبدية ( العمرة – الزيارة - ..).

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

فيا أيها الناس : اتقوا الله حق التقوى، عباد الله يقول في الحديث الصحيح: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس، الصحة والفراغ)) الحياة نعمة عظيمة ومنحة من الله كريمة ينبغي لنا أن نودع أيامها من الأعمال الجادة والمواقف الرائدة ما يعصمها من أن تصبح عبئا على أصحابها، وكابوسا على أبنائنا. إن المستفيدين من الحياة هم الذين بفضل الله أعدوا لكل يوم عمله ولكل شهر مشروعه وجعلوا من أوقات الراحة لحظات نافعة وفرصا نحو الخير دافعة.

وفي مواسم الإجازات يحسن الحديث عنها ويجمل الخطاب إلى أهلها حول استغلالها بالخير والنافع فتعالوا معاشر الإخوة لنستعرض بعضا مما يجول في الذهن من خواطر حول الإجازة.

إخوة الإيمان: من أكبر علامات المقت إضاعة الوقت، فليس الوقت من ذهب كما يقول المثل الشائع بل هو أغلى من الذهب واللؤلؤ ومن كل جوهر نفيس أو حجر كريم، إنه الحياة والعمر، والإنسان يفتدي نفسه بكل غال ونفيس، قال ابن مسعود : " ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي " نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة في صالح العمل .

من أمضى يوما من عمره في غير حقٍ قضاه أو فرضٍ أدّاه أو مجد أصّله، أو فعل محمود حصّله، أو علم اقتبسه، َفَقَدَ يومه وظلم نفسه وخان عمره .

أيها الشباب : من المحزن حقاً أن يعيش شباب في عمر الزهور واكتمال القوى لا يبالون في إضاعة أوقاتهم سدى بل إنهم يعتدون على أوقات الآخرين ليقطعوها باللهو والباطل والشؤون الساقطة والأمور المحتقرة يجب أن ننقذ شباب الأمة من هذا الذهول المهلك غفلة عن الغد وإغراق مميت في الحاضر، مسحورون بنضرة الشباب العارضة وتضيع الأيام والليالي من غير حساب ولا محاسبة. يقول جل وعلا: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [يونس: 8-7]

أليس من الغفلة والحرمان وسبيل فناء أمم أن يألف شباب أصحاء النوم حتى الضحى، أو ما بعده، تمرّ عليهم زهرة اليوم وهم َيغطَّون في نوم عميق قد بال الشيطان في آذانهم إذا قام أحدهم فإذا هو ثقيل الخطى خبيث النفس هزيل القوى كسلان أضاع يومه ما بين سهره ونومه.

أيها الإخوة : من أجل مزيد من حفظ الوقت والانضباط فيه علينا أن ندرك حكمة الإسلام في المداومة على العمل وإن طال فالمنقطع وذو الأمزجة لا يكاد يجدي ، ولو كان كثيرا فالعمل الدائم يبدأ صغيرا ومع المداومة وقوة العزيمة يغدو كبيرا .

إن المداومة والمسارعة في الخيرات فيها اغتنام للوقت من غير تكاسل أو تثاقل ففي حديثه عن أبي هريرة أنه قال : ((بادروا بالأعمال سبعأً هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر )) رواه الترمذي .

إن مما يحفظ الوقت التنظيم وحسن الترتيب فالوقت لا يتسع لكل شيء ومن شغل نفسه بغير المهم ضيع المهم وفوّت الأهم ، ومن وصايا أبي بكر لخليفته عمر رضي الله عنهما : " اعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار " ، ولهذا جاءت عبادات كثيرة موقوتة بأوقاتها، التقدم عليها لا يجزي والتأخر من غير عذر يوقع في المأثم والمغرم .

شباب الإسلام : تلكم أهمية الوقت فأين استغلالنا له إياكم والتسويف فإن (سوف) من جند إبليس، الموت يأتي بغتة والأكفان منسوجة والآجال عندكم غير معلومة ، كم أَمَّل شاب وشابة وخططوا في هذه الإجازة، وقف الموت فجأة دون تلك الخطط والآمال، فأين العبرة والعظة؟ إذا ضمنا الغد فمن يضمن السلامة من المعوقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل أو فتنة جائحة؟ (( اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك )) ، حديث رواه الحاكم والبيهقي بإسناد حسن

من ظن من الشباب أن المستقبل أكثر فراغا فليعلم أن هذا وهم، وسراب فكلما كبرت السن كثرت المسؤوليات، وزادت العلاقات، وضاقت الأوقات، وضعفت الطاقات، فالوقت في الكبر أضيق والجسم فيه أضعف فبادروا ساعاتكم ولا تتعلقوا بغائب مجهول وما التسويف إلا تفويت للحق وخسران لليوم وتضييع للغد .

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيُع

إخوة الإيمان : من خواطر الإجازة التي ترد على البال أن نعلم أن في كل فراغ يمر بالإنسان فرصا للخير هي مشاريع زائدة وأفكار رائعة تجلب أجرا وتحط وزرا يجب على الإنسان استغلال فراغه فيها لتجعل أيامه عامرة بالخير غامرة بالنفع .

فأين نحن من صلة الأرحام؟ ولا سيما الأباعد، هذا الأمر الذي أهملناه وأصبح الحديث فيه غريبا في ظل ما عرفنا فيه من مادية وغفلة سيطرت على قلوبنا وعقولنا .

كم من قريب عققناه؟ وكم من رحم قطعناها؟ إن الإجازة فرصة لكم للم الشمل، إن الإجازة فرصة لِرَأْب الصدع إن الإجازة خير وسيلة لصلة الرحم ثم المواصلة بعدها قال : ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أَصِلَ من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك)).

ومن مشاريع الإجازة أن كثيرا من أبنائنا ولله الحمد قد رزقوا مواهب وطاقات فأين نحن من تنميتها وتوجيهها إلى الخير؟ أين رعايتنا بموهبة حفظ القرآن والسنة؟ أين عنايتنا بهم بالميل إلى الثقافة أو نظم الشعر أو الكتابة؟ بل حتى المواهب الحرَِفية كالزراعة والصناعة ينبغي تشجيعها وإنماؤها، ما المانع في أن نستغل الإجازة في إشباع هذه المواهب ودعمها بأسباب القوة لتعود على صاحبها وعلى المجتمع بالخير العميم والنفع العظيم أين اهتمامنا بالقراءة أسلوبا وهدفا فردا وأسرة فلا نقرأ للمنام ولا نقرأ دفعا للسأم، بل نقرأ كل نافع ومفيد لنقوي فكرنا وفكر أبنائنا.

أيها المسلمون : من خواطر الإجازة والأفراد أننا عند الإجازة نرى بعض الأسر ينتظرون بفارغ الصبر لتبدأ رحلات سياحية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بدعوى الترفيه وإنني إذ أدعو كل أب إلى الترفيه المباح الحلال له ولأبنائه فيجب أن يكون هذا الترفيه متفقا مع قيمه متكاملا مع عقيدته يبني ولا يهدم ، يقدم ولا يؤخر فيزداد الأبناء بالتأمل في خلق الله من جبل ونهر وواد سهل وصحراء وبحر، كما يزدادون معرفة ببلاد الله الواسعة وعباده المنتشرين فوق الأرض ، ولكن أن تصبح السياحة هدفا للأبناء والأسر، ومرضا لا عافية معه، وتعلقا بالشهوات والشبهات وسياحة في بلاد تخلع فيها الكرامة وينسلخ بها الحياء، ثم نبذل فيها الأموال الطائلة والأوقات الضائعة بل الأهم أن الدين والخلق يقلان ويضعفان في تلك السياحة لتنتهي بخسران عظيم وألم مقيم في التفريط في جنب الله العظيم .

أيها الشاب : الدين والصحة والنعمة أمور نرفض ويرفض كل ذي عقل أن تكون ثمنا لمتعة عابرة، أو رحلة جامحة، يعود صاحبها باقتناء السراب، وافتقاد مقومات الحياة السليمة، وخسران الدنيا والآخرة، وإننا حين نصرح بذلك نطالع بعين العجب والأسف إلى جرائدنا ومجلات الإعلان وقد أصبحت مرتعا لما نُحَّذر منه فحين نُقلبَّها لا نجدها ممتلئة بشروح مفصلة لما يتعرض له المسلمون في شرق الأرض وغربها من حروب فتاكة ودماء مهدرة وأراض منهوبة وحقوق مضيعة وتلك الوسائل من فرط تأثرها بهذه المآسي أصبحت تفرغ في أعمدتها حيزا كبيرا للإعلانات عن ماذا يا ترى ؟! إنها الإعلانات السياحة والتخفيضات في التذاكر والإقامة في بلدان تغلب في أكثرها الفسوق والرذيلة، داعية الشباب والعائلات إلى السفر للخارج وبذل الأموال الطائلة لإضاعة الدين والعرض والوقت والصحة، بالله عليكم إخوة الإيمان ما الهدف من هذه الحملة الشعواء ؟ ما الفائدة العلمية والعملية ؟ إنهم يبذلون كل جهد في الدعاية لبلادهم لتصبح مهوى أفئدة أبنائنا وليصرف أغنياؤنا عندهم الأموال وتنتهك الأوقات إلا من رحم ربك وقليل ماهم.

إن لنا فيما نراه من تجارب السياحة الخارجية في إجازات مضت ما هو كفيل بإعطائنا الدروس .

إذا كنا نشكو من وفرة المال فإن هناك إخوانا لنا من المسلمين يتضورون جوعا وتهلكهم المصائب ولا يجدون من يغيثهم إذا كنا نشكو من الفراغ فلنتذكر حديث نبينا محمد الصحيح حين قال : (( لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به )) إذا كنا نشكو من قلة الفرص لنا ولأبنائنا فإن سبل الخير متوفرة وموجودة، ولا عذر لأحد في تجاهلها من سياحة داخلية في بلادنا العامرة، وعمرة وزيارة ومراكز صيفية بناءة وحَِلق جماعات تحفيظ القرآن وغيرها من فرص الخير .

اتقوا الله رحمكم الله وقوموا مسؤولياتكم اتقوا الله في أماناتكم في أبنائكم وشبابكم وإجازاتكم .

ولنعلم أننا أمة إن تعاونت على البر والتقوى وربت عليها الأولاد والمجتمع فلن يكون بها مكان لسماسرة الترفيه المشبوه ولا لألبسة التحرر الفكري السلوكي وستجني بلادنا وأمتنا إن شاء الله أطيب الثمار عندما نحافظ على أبنائها وبناتها ونحرص على تربيتهم وندعو الله أولا وأخيرا لتوفيقهم إنه سميع مجيب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم .[الأنفال:27-28 ]

بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم …

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه …أما بعد :

فيا أيها الناس عباد الله : إن الإجازة ثروة في الوقت وأولادنا ثروة العمر فهل نتركهم في هذه الإجازة نهبا لرفقة السوء تنزع منهم في الصيف ما اكتسبوه في دراستهم من علم وأخلاق ؟

متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

هل نترك أولادنا لرفاق شر يقضون معهم سواد الليل ليبثوا فيهم سواد الفكر ؟

هل نتركهم إلى استراحات وأحواش وأزقة وشوارع تبعدهم من المساجد والجوامع؟

هل نغض الطرف عن سفرهم إلى خارج البلاد وليعودوا بأمراض الخارج الفكرية والكفرية والصحية ؟

هل ننسى أن الجد عصمة من أمراض الفراغ وحصنٌ من التهتك والإغراق؟، وقديما قالت العرب : " لئن كان العمل مجهدة فإن الفراغ مفسدة "

ولئن كانت بلادنا قبلة المسلمين في صلاتهم بتوفيق الله، فنرجوه سبحانه أن يجعل شبابنا قدوة لشباب المسلمين، وإننا حين نوفق في توجيه أولادنا التوجيه السليم لاستغلال كل إجازة تمر عليهم فسنُحَصَّل من ذلك: الابن الرضي الذي ليس بجبار ولا عصي، البارّ بوالديه، الموقر لأهل الفضل، المحافظ على بلاده وأمته حدودا ووجودا دينا ودنيا .

نسأل الله أن يوفقنا لما يرضيه وأن يكفينا شر معاصيه وأن يصلح شبابنا ويعمر بالإيمان أوقاتنا إنه سميع مجيب.

(1/277)

سوء الظن (سورة الحجرات)

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

أمراض القلوب, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

19/1/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

إشارة إلى ما تحويه السورة من آداب عظيمة – قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ... ) – من معاني الأخوة الإسلامية ومراتبها وآثارها : 1- الإيثار , وهي أعلى مرتبة وبها مدح الله الأنصار 2- مرتبة محبة لأخيه ما يحب لنفسه ما يحب لنفسه , وهي مرتبة الإيمان الكامل 3- مرتبة الإسلام وهي كف الأذى – خطورة سوء الظن وأثره على المجتمع المسلم – حال المؤمن في السراء والضراء – واقع الأمة المرير وبغيها على بعضها البعض وتكالب أعدائها عليها – واجب المسلم اليوم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:12].

في سلسلة تسجيلنا إلي سورة الحجرات نصل اليوم إلي هذه الآية، الآية الثانية عشرة من هذه السورة الكريمة وقد تضمنت هذه الآية مجموعة من الأحكام الجليلة والآداب الرفيعة التي تنظم العلاقات بين المؤمنين وتبنى مجتمعاً إسلامياً قوياً متماسكاً يتكون من أفراد مؤمنين متحابين يظللهم مبدأ الاخوة الإسلامية وتجمع قلوبهم وشائج المحبة الإيمانية وشعارهم المسلم أخ المسلم, هذا الشعار الذي أطلقه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الأساس المتين الذي يقوم عليه كيان المجتمع الإسلامي، نعم المسلم أخو المسلم ومن معاني هذه الأخوة أن يؤثر المسلم أخاه المسلم ويقدمه على نفسه وهذا نموذج من أرفع نماذج هذه الأخوة ودرجة من أعلى درجاتها وهي درجة الصحابة الكرام رضوان الله عليه أجمعين، وهي الدرجة التي مدح بها الأنصار على وجه الخصوص في القرآن العظيم، فإن لم يبلغ المسلم هذه المرتبة العظيمة الرفيعة في علاقته مع أخيه المسلم فالتي تليها وهي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يبلغ المسلم مرتبة الإيمان الحقيقي الكامل إلا بهذا، فإن لم يبلغ المسلم في تعامله مع أخيه المسلم حتى هذه المرتبة الثانية فأقل ما يجب عليه أن يكف لسانه ويده عن أخيه المسلم فلا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يسبه ولا يغتابه ولا يلمزه ولا ينبذه ولا يحقره ولا يسيء به الظنون, هذا هو واجب المسلم على أخيه المسلم وبدون هذا ليس هناك إلا الدمار والخراب وتمزق الصفوف وتباغض القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))(1)[1] أي المسلم الحقيقي الصحيح الإسلام هو من هذا حاله وشأنه إذ أن من معاني الإسلام الأمان والسلامة فإن الإنسان بدخوله في الإسلام يسلم من يد المسلمين وألسنتهم, يسلم من سيوفهم يأمن على نفسه وعلى دمه وعلى ماله وعرضه كما أن الآخرين يأمنونه على أنفسهم وعلى دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم فإن هذا من معاني الإسلام فالإسلام يكون بهذا كالسياج للإنسان، هو سياج من الأمن والسلام والسلامة هذا من معاني الإسلام ومن لم يكن بهذه المثابة فإن في إسلامه خللاً كبيراً وفي إيمانه نقصاً خطيراً.

و إن من أشد الأمراض الاجتماعية فتكاً بالأفراد والجماعات، من أشد الأجواء الاجتماعية إفساداً للمجتمع المسلم وتمزيقاً لصفة وهدماً لكيانه سوء الظن والتجسس والغيبة ,و كل واحدة منها تحتاج إلى وقفة لكننا نبدأ اليوم بأولها بإشارة وجيزة لها تكملة إن شاء الله وهو سوء الظن، فعن عمر الفاروق رضي الله عنه قال: " لا تظنن بكلمة من أخيك إلا خيراً وأنت تجد لها محملاً على الخير"، لأن أخاك المسلم الأصل فيه أنه لا يريد بك إلا الخير فإذا صدرت منه كلمة أو موقف أو تصرف يحتمل احتمالات كثيرة الخير واحد منها فعليك أن تحمله على الخير. أما إن كان ليس هناك أي محمل لكلمته على الخير فأنت وذاك، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك دمه وماله وأن لا يظن به إلا خيراً))(2)[2] صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

و روى مالك بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث))(3)[3].

كم نوفر علي أنفسنا نحن المسلمين من جهود وطاقات تبدد وكم ندرأ عن أنفسنا من مفاسد لو تأدبنا بهذه الآداب القرآنية وامتثلنا لهذه التوجيهات النبوية.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) صحيح البخاري (10)، صحيح مسلم (41).

(2) صحيح البخاري _2966)، صحيح مسلم (1742).

(3) صحيح مسلم (408).

(1/278)

الغيبة (من دروس سورة الحجرات)

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

آفات اللسان, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

11/2/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

خطورة الغيبة , وخطورة اللسان وأثره – الواجب على المسلم إذا رأى أخاه واقعاً في ذنب كفارة الغيبة – ثلاثة لا تُعدُّ من الغيبة : 1- التحذير من الفاسق المجاهر ومن مُرَوِجي الفساد 2- التحذير من المبتدع وشره 3- الاستنصاح والمشاورة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:12].

فالغيبة من أشد آفات اللسان ضررا وأعظمها إثما، فالإنسان إذا صان لسانه وفرجه فإنه ينجو ولكنه إذا سلم من الزنا والفواحش فإنه قلما يسلم من الكذب أو الغيبة أو النميمة، فالسلامة من ذلك أصعب من السلامة من تلك . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من وقاه الله شر ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))(1)[1].

كثير من الناس لا يلقون بالا لمفاسد القول ولمخاطر الكلام ولا يخافون من حصائد الألسنة وإنما يكب الناس على مناخيرهم يوم القيامة حصائد ألسنتهم.

ومن حصائد الألسنة ما يهوي بالإنسان في النار سبعين خريفا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم الكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار))(2)[2]. وربما تكون هذه الكلمة هتكا لستر مسلم أو كشفا لعيوبه أو تتبعاً لعوراته وهذه هي الغيبة. وربما يحدث الوقيع بين المسلمين وفساد ذات البين وهذه هي النميمة، وربما تكون هذه الكلمة كذبا أو نقل الكذب فإن نقل الكذب مثل الكذب، وربما تكون قولا على الله بغير علم وهذا من أشد المحرمات لأن صاحبه ربما تسبب في نشر بدعة أو خرافة أو ضلالة وهو لا يشعر، ربما يكون من المبتدعين والبدعة أكثر ضررا من المعصية لذلك روي أن المبتدع لا تقبل له توبة ولا صلاة. فليحذر الذين يتكلمون باسم الدين ويقولون على الله بغير علم فليحذروا أن يكونوا من المبتدعين وهم لا يدرون.

ومما يكثر منه الناس وينتشر على الألسنة تعيير العاصي والمذنب على ذنبه في غيابه فهذا إلى جانب كونه وقيعة في عرض المسلم، فإن فيه إعانة للشيطان عليه، فإنه إذا بلغه ذلك تأذى منه وربما يدفعه إلى التمادي في العصيان فلا يجوز ذلك.

هذا ماعز الأسلمي رضي الله عنه لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقر عنده بالزنا وطلب من الرسول أن يطهره بالحد فأمر به رسول الله أن يرجم فرجم بعد أن تثبت النبي من إقراره وحاول أن يصرفه عنه، فرجم ثم سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يتحدث أحدهما إلى الآخر فيقول: ألم ترى إلى ذلك الذي ستر الله عليه ثم لم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب سمع الرسول ذلك ثم مر حتى جاء على جيفة حمار منتنة فقال: ((أين فلان وفلان؟)) ينادي الرجلين الذين قالا تلك المقالة ثم قال لهما: ((انزلا فكلا من جيفة الحمار)) فقالا: غفر الله لك يا رسول الله أيؤكل هذا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا من هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها))(3)[3] صدق صلى الله عليه وسلم.

فحتى المسلم المذنب لا يجوز تعييره بذنبه في غيابه بل الواجب على المسلم إذا رأى أخاه المسلم يتورط في معصية أن يستر عليه ولا يفضحه، الواجب عليه أن ينصحه فيما بينه وبينه ويخوفه عذاب الله مع ستر سره وحماية عرضه – هذا هو أدب الشرع في هذه الأحوال.

فإذا وقع المؤمن في الغيبة ثم ندم وأراد أن يكفر عن ذنبه ماذا عليه أن يصنع؟ قال بعض العلماء، عليه أن يخبر ذلك الذي اغتابه وأن يتحلل منه – وقال آخرون وهو الصحيح: بل لا يلزمه ذلك لأن إخباره يؤدي إلى تنافر النفوس بدلا من تصافيها، بل عليه أن يتوب إلى الله ويستغفره وأن يمحو غيبته بأن يستغفر له ويدعو له عن ظهر الغيب ويثني عليه أمام الناس أو في نفس المجلس الذي اغتابه فيه وأن يدافع عن عرضه، فإن في ذلك تكفيرا وتطهيرا له: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا [الاحزاب:70].

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فثلاثة لا تعد من الغيبة:

1) ذكر الفاسق المجاهر بفسقه المعلن لمعصيته ومن باب أولى أولئك الذين يروجون للفساد وينشرون الفاحشة كأصحاب المجلات الخليعة "سيدتي" و"الهدف" ومثلها عربية كانت أو أجنبية، وكمنتجي الأفلام الرقيعة، وكأصحاب وكالات السفر والسياحة التي تستدرج شباب المسلمين ليشدوا رحالهم إلى أماكن الرذيلة، والممثلون والممثلات والمغنون والمغنيات والراقصون والراقصات، هؤلاء وأشباههم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هؤلاء وإن كانوا مسلمين، لا حرمة لهم ولا لأعراضهم، لا غيبة لهم ولا كرامة، يجب كشف حالهم وفضح نواياهم وطواياهم وأهدافهم الخبيثة، فهم يهدمون جسم الأمة. أرأيتم لو أن مليونا من شبابنا تربوا على روح الجهاد وعلى السلاح واستعماله، كيف يكونون سندا للجيش المسلم، أيطمع حينئذ طامع فينا؟ ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عن الفاروق عمر بن الخطاب قال: ((لا حرمة لفاجر)) وعن الحسن بن علي: ((ثلاثة لا غيبة لهم – صاحب هوى (المبتدع )، والفاسق المعلن لفسقه، والإمام الجائر)).

2) ذكر المبتدع وتحذير الناس منه ومن شره ومن بدعته، فإن خطر المبتدع قد تعدى إلى غيره وربما يكون خطره على المسلمين عظيما. فإن البدعة أعظم ضررا وخطرا من المعصية ففي البدعة خللا للعقائد. فإن المبتدع إذا أصر على بدعته لا تقبل له توبة، فيلقى الله على ذلك.

3) ذكر عيوب الإنسان إذا كان في ذلك نصرة لمسلم استنصحك أو استشارك – فإذا أراد شخصا أن يزوج آخر أو يودع عنده مالا أو ما إلى ذلك، فإن كنت تعلم عن ذلك الآخر خيانة أو شيئا فإن عليك أن تنصحه. والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها لما جاءته تخبره أن أبا جهم ومعاوية رضي الله عنهما قد خطباها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: ((أما أبو جهم فإنه رجل لا يضع عصاه عن عاتقه (أي أنه كثير الضرب يضرب كثيرا )، أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له))(4)[1].

وروى الحاكم في مستدركه أن أخا لبلال رضي الله عنه خطب امرأة، فقال له ذووها إن جاءنا بلال زوجناك، فأتاهم بلال فقال لهم: ((أنا بلال وهو أخي ، هو امرؤ سيئ الخلق والدين))(5)[2] وهو أخوه! ولكن للنصح أخبرهم بما فيه من عيب رضي الله عنهم جميعا.

__________

(1) البخاري بنحوه:الرقاق (619).

(2) الترمذي :الزهد(2314).

(3) أخرجه أبو بعلي في مسنده (6114) بإسناد صحيح كما قال ابن كثير في التفسير (4/331).

(4) مسلم :الطلاق رقم (1480).

(5) أخرجه الحاكم (3/283) روحمته ووافقه الذهبي.

(1/279)

العنصريات الجاهلية وضرب الإسلام

-----------------------

أديان وفرق ومذاهب

مذاهب فكرية معاصرة

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

25/2/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

قوله تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ... ) وما فيه من مبادئ الإسلام الأساسية – المساواة حقيقية راسخة بين البشر , ولا تفاضل بينهم في العناصر والأنساب - إهدار الإسلام للتفاضل على أساس الأصل والجنس والنسب , وأمثلة على ذلك : ( بلال وأذانه زواج زيد من زينب القرنية – سلمان الفارسي ) – دعاوى القومية والعنصرية من ميراث الجاهلية , وأثرهم الخبيث وحقدهم الدفين ( أتاتورك وهدم الخلافة – ميشيل عفلق والقومية العربية – حزب البعث ) ما جنته الأمة من هذه الدعاوى الخبيثة – طبيعة الصراع بين الإسلام ومبادئه والكفر ومبادئه , ودور العلمانيين الخبيث

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

هذه الآية الكريمة قدرت مبدأ عظيماً من مبادئ الإسلام الأساسية. والمبادئ الأساسية هي بمثابة الاستراتيجيات باللغة العسكرية أي هي أمور ثابتة لا تفريط فيها ولا تهاون في أمرها فهذه ثوابت الدين الرباني الذي ندين الله به ونعتقده وتصطبغ به حياتنا. فالمساواة حقيقة راسخة بين البشر أجمعين من الأصول والعناصر والعروق والأنساب فأصل الجميع واحد الأب واحد والأم واحدة وجميع الخلق جميع الناس تتسلل أصولهم وأنسابهم لتنتهي إلى عنصر واحد هو التراب فلماذا يتوهمون التفاضل فيما بينهم في الأصول وفي العناصر والأنساب؟ لا قومية ولا عنصرية فالقوميات تجعل أساس التجمع بين الناس هو الأصل والعنصر والنسب الأصل والجنس والنسب. القومية تجعل أساس التجمع ومقياس التفاضل والتمييز هو الأصل والجنس والنسب. ولو كان الأصل والجنس والنسب اعتبار في الإسلام ما أمر سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم بلالاً الحبشي الزنجي الأسود رضي الله عنه وأرضاه أمره أن يرقى على سطح الكعبة المعظمة ليصدح بالأذان وتحته أشراف العرب وشاراتهم وذلك في الفتح الأعظم وذلك عندما دخل سيدنا المصطفي رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً وخضعت له قريش التي ناوأته وحاربت دعوته أكثر من 20 عاماً لو كان لشعب أو لقبيلة أو لجنس أو لعشيرة أن يفضلوا الآخرين وأصلهم وجنسهم ونسبهم.

ما زوج رب العالمين زينب بنت جحش القرشية الهامشية من جهة أمها الأسدية من جهة أبيها. زوجها رب العالمين من عبد من مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة زوّجه منها من فوق سبع سماواته فكان ذلك إعلاناً ربانياً سماوياً بإلغاء العنصريات والقوميات والقبليات وبتحريم التفاخر بالآباء قال سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ((يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله تعالى ورجل فاجر هين على الله تعالى ))(1)[1] وقال صلى الله عليه وسلم: ((الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملأه إن الله لن يسألكم عن أنسابكم ولا أحسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) صدق المصطفي صلى الله عليه وسلم بهذا الميزان الرباني وهذا المقياس النبوي هو الذي حكم بتفضيل بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي على أبي لهب العربي القرشي الهاشمي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا لأن هؤلاء الأعاجم آمنوا بالله واتقوه ونصروا الله ورسوله وذلك العربي القرشي الهاشمي كفر وفجر بمبادئ هذا الدين الرباني وموازينه ومقايسه.

ولا محاباة فيها ولا مداهنة وإلا فمقام القربى من رسول الله صلي الله عليه وسلم كان أولى المقامات لأن ينفع صاحبه أن ينفع ذلك المشرك الذي نزل فيه قرآن يتلى إلى يوم القيامة بذمه والدعاء عليه وذلك لأنه لا محاباة ولا مداهنة في موازيين هذا الدين الرباني ومقاييسه. إن هذا الإسلام هو معين الله تعالى بسائر البشر للناس أجمعين. أنه يسع جميع الناس ولا يضيق عن أحد مع اختلاف أجناسهم وألوانهم وأصولهم أنسابهم، الإسلام يسعهم جميعاً ولا يضيق عن أحد. وسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المسداه أرسل رحمة للعالمين لجميع العالمين أرسل للناس كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم وشعوبهم وقبائلهم هو رحمة للجميع ورسالته للجميع ودين الله الإسلام هو دين يسع الجميع وتنصهر فيه جميع القبائل والشعوب والأجناس والأعراف متساوين في ذلك بين يدي الله لا يتفاوتون إلا بالتقوى هذا مبدأ أساسي من مبادئ هذا الدين العظيم الكريم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد: روي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم بلغه أن ناساً من أصحابه تنازعوا فقال قائل منهم يا للمهاجرين وقال قائل منهم يا للأنصار فخرج سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم من بيته غاضباً يجر ردائه فقال أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة(2)[1]، لقد بعث سيدنا المصطفي صلي الله عليه وسلم للقضاء على العنصريات الجاهلية المنتنة وليقيم بدلاً منها صرح الإيمان الذي يجتمع تحت لوائه جميع المؤمنين إخواناً متحابين تربط بينهم رابطة واحدة وشيجة واحدة وهي رابطة الإيمان ووشجية الإسلام.

ولكن أعداء المسلمين نجحوا اليوم في التسلل إلى صفوفهم وزرع بذور العنصريات الجاهلية المنتنة بينهم فمزقوهم وشتتوا شملهم بعد أن كانوا أمة واحدة إسلامية مرهوبة الجانب ففي ديار الترك مثلاً الماسونيون والصهيونيون ويهود الدونمة بعد أن نجحوا في تقويض صرح الخلافة الإسلامية الذي جعل ديار الترك فترة طويلة من الزمن مركزاً للتجمع الإسلامي لتجمع المسلمين بعد أن نجحوا في تقويض ذلك الصرح زرعوا بذور العنصرية التورانية القومية التورانية بين الترك ورفع لواء هذه العنصرية الجاهلية في تركية أحزاب ماسونية مشبوهة كحزب الاتحاد والترقي أو حزب تركيا الفتاة وكان من أبرز طواغيت تلك العنصرية التورانية مصطفى كمال الذي لبث في أول أمره فترة يتمسح بمسوح الإسلام ولقب نفسه بالغازي في سبيل لله وأعلن الجهاد ليخدع المسلمين لتنطلي حيلته على السذج ولقد انطلت حيلته فعلاً حتى مدحه أحمد شوقي في قوله:

الله أكبر كم في الفتح من عجب …يا خالد الترك جدد خالد العرب

وانخدع به وظنه فعلاً مجاهداً غازياً في سبيل الله وما لبث ذلك الطاغوت العنصري اليهودي التوراني أن كشر عن أنيابه فإذا هو عدو الله ورسوله. عدو مريد للإسلام فتك بالمسلمين في ديار الترك قتل علماءهم حتى بلغت به الوقاحة أن منع الآذان من على المنابر العربية بل أوجب أن يكون الأذان بالتركية من شدة سخريته بالإسلام المسلمين ولقد رد الله كبره في نحره وكبده أذنابه فها هم الترك يتململون وينفضون عن كواهلهم غبار هذه العنصرية الجاهلية التورانية ويجددون إيمانهم بالله ورسوله، صحوة إسلامية فيما بينهم وعودة إلى دين الله رغم أنف العنصريين الجاهليين وأما نصارى العرب فقد زرعوا بين العرب العنصرية العربية الجاهلية القومية العربية وكان من أبرز حملة راية هذه العنصرية حسب البعث الذي أنشأه قبل خمسين سنه ميشيل عفلق النصراني ومبادئ هذا الحزب إن ذهبنا نشرحها يطول بنا المقام ولكن لحقها شاعر بعثي كافر خبيث بقوله فض الله فاه:

آمنت بالبعث رباً لا شريك له …وبالعروبة ديناً ما له ثان

فالعروبة بمعناها العنصري الجاهلي المنتن هو دين هذا الحزب العلماني العنصري الملحد الخبيث ومنذ نشأ هذا الحزب فهو وأشباهه من التجمعات العنصرية الجاهلية المنتنة يجرون الكوارث تلو الكوارث والهزائم تلو الهزائم على العرب وعلى أمة الإسلام جميعاً وكأنما يآبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يحقق وعده الذي أعلنه رسوله المصطفي صلى الله عليه وسلم منذراً أمته بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لينتهين أقوام عن تفاخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان))(3)[2]، فالذل والهوان والتشتت والانقسام والتقاتل والتناصر كما كانوا يفعلون في الجاهلية قبل الإسلام. هذه هي العقوبة الإلهية للذين أعرضوا عن مبادئ الإسلام الخالدة الرفيعة السامية. مبادئ المساواة وميزان التقوى والأخوة الإيمانية الإسلامية التي تجمع بين سائر المسلمين علي اختلاف أجناسهم والوانهم هذه هي العقوبة الإلهية لمن ذهبوا يجرون لاهثين وراء العنصريات الجاهلية المنتنة وراء القوميات تورانية كانت أو فارسية هندية كانت أو بربرية جندية كانت أو عربية كلها دعاوى الجاهلية التي وصفها النبي المصطفى صلي الله عليه وسلم بأنها منتنة. طاغية العراق الذي روع الناس اليوم وهتك الحرمات وسفك الدماء وزاد الأمة تمزيقاً وفتح الأبواب للأعداء هو إفراز منتن من إفرازات ذلك الحزب العنصري الجاهلي حزب البعث كارثة مفجعة من كوارثه العديدة المتوالية. إنه ليس أول كوارثه ولن يكون آخرها الذين يتوهمون أن الصراع بيننا وبين شخص واحد مخدوعون أو مخادعون.

السياسة قلب قد يكون حليف اليوم عدواً غداً وقد يكون عدو الأمس حليفاً اليوم فالسياسة قلب.

أم المبادئ متباينة فاعلموا أيها المسلمون وتبصروا في أمر عدوكم. الحرب حرب مبدئية ثابتة والصراع طويل مديد إلي يوم الدين بين ملتين بين ملة الإسلام وملة الكفر بين مبادئ الإسلام الرائعة السامية الكريمة مبادئ المساواة وميزان التقوى والأخوة الإيمانية وبين العنصريات الجاهلية قومية بعثية تورانية عروبية إلي غير ذلك صراع مريب ثابت مستمر ولكن خذوا حذركم أيها المسلمين فتشوا بين صفوفكم وفي دياركم عن الطابور الخامس وفتشوا عن العلمانيين عن الجاهليين وعن البعثيين فإنهم قد يكونوا مندسين بين صفوفكم من أبناء بلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويتقطعون غيظاً عليكم مهما تمسحوا بمسوح الإسلام وتستروا ونافقوا وأظهروا لكم الموافقة وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]. ستكشف أقلامهم وأقولهم ومواقفهم وأفعالهم وخاصة في المحن تكشف ما في صدورهم من بغضاء من غيظ على الإسلام وأهل الإسلام.

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].

__________

(1) سنن الترمذي (3270) وقال : حديث غريب.

(2) صحيح البخاري (4905) صحيح مسلم (2584).

(3) مسند أحمد (2/361).

(1/280)

حقيقة الإيمان على ضوء سورة الحجرات

-----------------------

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, حقيقة الإيمان

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

16/3/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

وضوح حقيقة الإيمان في القرآن , وليس كل من ادعى الإيمان مؤمناً – حقيقة الإيمان تتكون من عنصرين : 1- استقرار التصديق ومحبة الله ورسوله في القلب 2- ما يتولد عنهما من أعمال – من خصائص الإيمان وطبيعته أنه يزيد وينقص – أثر القرآن على الإيمان - أثر القرآن على الإيمان – من خصائص الإيمان الثبات والصلابة ,وحاله صلى الله عليه وسلم في ذلك – عز سلفنا وذلنا , وسبب ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].

هذه هي حقيقة الإيمان كما بينها القرآن ناصعة كضياء الصبح واضحة كشعاع الشمس حتى لا تختلط علينا الأمور وتلتبس الحقائق وحتى نعرف مواقعنا ونتبصر بحقائقنا كما نعرف مواقع الآخرين ونتبصر بحقائقهم. ليس كل من ادعى أنه مؤمن فهو كذلك قد يكون مسلماً أي يكون مستسلماً لحكم الإسلام الظاهر قائماً بالأعمال الظاهرة ولكن قلبه خواء ليس فيه من الإيمان شيء. وما أكثر من يحمل اسم الإسلام وقلبه مظلم بظلمات الكفر والإلحاد وما أكثر كذلك من يحمل اسم الإسلام وفي قلبه إيمان ضعيف ذبالة ضعيفة تكاد تنطفئ وقد حاصرتها ظلمات الشك والارتياب وظلمات الشبهات وشهادة الإيمان درجة سامية عالية لا يبلغ حقيقتها كل من ادعى الإسلام وحقيقة الإيمان تتكون من عنصرين أولهما ما يستقر في القلب من تصديق بالله ورسوله ومحبة لله ورسوله وهذا التصديق وهذه المحبة يتصفان بصفة الثبات والقوة والرسوخ فلا تؤثر فيهم المؤثرات الخارجية ولا تزعزعهما الهجمات. هجمات الشك والارتياب وهجمات الشبهات والشهوات لا تزعزعهما هجمات الشهوات والشبهات مهما كانت عنيفة قوية عارمة والعنصر الآخر من عنصري الإيمان من العنصرين الذين تتكون منهما حقيقة الإيمان ما يولده هذا التصديق وتنتجه هذه المحبة وما يولده هذا التصديق الراسخ وتنتجه هذه المحبة القوية الصادقة من أعمال يأتي في قمتها الجهاد بالمال والنفس فإن الجهاد هو ذروة السنام. إيمان تدعونه ولا ينتج عنه أعمالاً لا ينتج جهاداً بالنفس والنفيس في سبيل الله هو دعوة مشكوك فيها فإن من خصائص الإيمان وطبيعته أنه يدفع الجوارح إلى العمل، الإيمان متحرك ومحرك، متحرك يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويحرك الإنسان ويدفعه إلي العمل ولذلك وصف القرآن بأنه روح وبأنه حياه وبأنه روح وبأنه نور وصف القرآن بأنه روح وبأنه نور لأن القرآن يولد في نفس الإنسان الإيمان والإيمان للإنسان بمثابة الروح للجسد يبث الحياة في الجسد فالإيمان يحرك الإنسان ويبعث الحياة فيه في قلبه وفي جوارحه وهو نور له يهديه إلى صراط مستقيم، نور يهديه في الظلمات الحالكة مهما اشتد سوؤها وديجورها قال الله تعالى: وكذلك أوحينا إليك رحمةً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52]. وإن من أبرز خصائص الإيمان أنه إذا انبعثت أنواره في القلب فإن من أبرز خصائصه الثبات المؤمن ثابت راسخ كالجبل الأشم لا تزعزعه الفتن ولا تدعيه المحن ولا تفت من عزيمته لا المغريات ولا المفزعات، هذا من أبرز خصائص الإيمان الثبات والصلابة على دين الله عز و جل وعلى التصديق بالله ورسوله وعلى محبة الله ورسوله، وأبرز وأعظم وأكرم مثل لهذا سيدنا محمد في أحلك الظروف والأحوال وهو يعاني ويواجه جبروت المشركين وطغيانهم وقهرهم وإيذاءهم له وحيداً بلا أنصار ولا أتباع ولا جند ولا سلطان ومع ذلك لم يتزعزع إيمانه لحظة واحدة بالنصر والتمكين، ولذلك كان في أشد الأحوال وأحلكها يبشر أصحابه المقهورين المضطهدين يبشرهم بنصر الله عز وجل وتمكينه وهاهو المصطفي يخرج من بلده الحبيبة على قلبه مكة يخرج طريداً شريداً مقهوراً مهاجراً بدينه ليس معه أحد من الناس ولا جند ولا أنصار ولا أتباع إلا رفيق دربه وحبيبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ودليلهما ابن أريقط وأبو بكر خائف يترقب مشفق على سيدنا رسول الله أن تنتبه إليه الأعين أو يكشفه المطاردون وقد رصد المشركون من قريش جائزة سخية لمن يأتي بسيدنا محمد حياً أو ميتاً ولذلك فأبو بكر الصديق مشفق على رسول الله وليس على نفسه وبين هم كذلك إذ يلوح في الأفق خيال فارس يعدو على فرسه يريد اللحاق بهما فارس من فرسان المشركين سراقة بن مالك سمع بالجائزة السخية فعزم على أن يلحق بهما ويأتي بهما إلى قريش ويدعو رسول الله صلي الله عليه وسلم فتسيخ قوائم فرس سراقة وتسيخ في الأرض وتتعثر ويسقط من فوقهما هكذا ثلاث مرات حينئذ أدرك سراقة بن مالك المشرك في ذلك الوقت أن هذين الرجلين الكريمين العظيمين محميان بحماية إلهية خاصة وأنه لا يستطيع أن يدنو منهما بشر وناداهما أمنهما من نفسه وممن وراءه من مشركين في أول النهار وطاردهما في آخره وأصبح حارساً لهما ذاباً عنهما عن سيدنا المصطفي ورفيقه وصاحبة الصديق ويحادث سراقة رسول الله صلي الله عليه وسلم فيبشره رسول الله ويبشره بماذا؟ يقول: ((الله كيف بك يا سراقة وقد لبست سواري كسرى)) يا عجباً هو في هذه الحالة بلا قوة ولا سلطان و لا أنصار ولا أتباع وطريد شريداً مهاجرا خارجاً من بلده الحبيبة مكة ومع ذلك يحدث سراقة عن سواري كسري، نعم، إنه الإيمان الراسخ القوي الثابت أشد شموخاً من الشم العوالي بوعد الله له ألم يعده ربه بالنصر والتمكين وقد أخبره بهذا الذي بشر به سراقة فإيمان المصطفي بوعد الله ثابت لا يتزحزح وصدق رسول الله وعده لنبيه ففي خلافة الفاروق أمير المؤمنين عمر لما فتحت جيوش المسلمين العراق وأجزاء من فارس ودخلوا عاصمة ملك كسرى المدائن جمع قائد جيوش المسلمين سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه جمع كنوز كسرى فأرسلهما إلى الخليفة الفاروق عمر في هذه المدينة النبوية فوضعهما الفاروق عمر في المسجد في مسجد رسول الله وجمع الناس حتى يروا نصر الله لدينه وإعزازه لجنده .

وقف الفاروق ودعا سراقة بن مالك وقال له: (يا سراقة اليوم يوم الوفاء) ودفعوا إليه سواري كسرى أمام جموع المسلمين ما بين تهليلهم وتكبيرهم ثم أمسك الفاروق بذراعي سراقة ورفعهما حتى يراهما المسلمين ويروا تصديق الله وعده لرسوله وقال الفاروق عمر رافعاً صوته: (الحمد لله الذي نصر دينه وأعز جنده وألبس أعرابياً من بني مدلج سواري كسري). نعم سلفكم بلغوا هذا العز وهذا النصر والتمكين لما بلغوا حقيقة الإيمان. ونحن اليوم نحن المسلمين اليوم أكثر من ألف مليون ومع ذلك نعيش في ذل وهوان قبلتنا الأولى ضائعة بيدي القردة والخنازير وها هما الحرمان المقدسان شرفهما الله وحماهما تتهددهما الأخطار وتحيد بهما الأطماع من أعداء الله ورسوله وما ذاك وما هذا الذل والهوان الذي انحدرنا إليه إلا بسبب أنا لم نبلغ حقيقة الأيمان نعم نحن مسلمون ولكننا لم نحقق حقيقة الإيمان كما حققهما سلفنا الاماجد رضوان الله عليهم أجمعين بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله وإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان. صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا على النبي وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلي الله عليه وسلم ((من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشراً ))(1)[1]. وبارك على محمد وعلى آل محمد. كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعلى آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين .

وقد روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال ((المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والذي إذا أشرف على طمع تركه لله تعالى))(2)[2]. فهذه درجات المؤمنين كما وصفها سيدنا المصطفي وهي درجات كما ترونها كلها درجات لا يقوى عليها إلا أولو العزم أصحاب الإيمان الصادق الراسخ. حتى الذي يكف شره عن الناس يكف لسانه ويده لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا كان صاحب الإيمان صادق راسخ حتى الذي إذا وقف أمام المغريات أمام بهارج الدنيا الزائلة الزائفة من أموال ومناصب ونساء وملذات وبهارج زائفة. إذا وقف أمام هذه المغريات ثم أعرض عنها طاعة لله ورسوله لا يفعل ذلك إلا من كان ذا إيمان صادق راسخ نقول هذا ونحن نرى أكثر الناس يتكالبون على متع الدنيا ويلهثون وراء بهارجها حتى أشغلتهم عن ذكر الله عز و جل أنستهم الله، أنستهم الدنيا ربهم عز وجل وأنستهم ذكره سبحانه وتعالي. يلهثون وراء متع الدنيا الزائفة الزائلة حتى إذا ما جاءت المحن وكشرت عن نابها فزعوا وتحيروا وزاغت منهم الأبصار وذهبوا يعدون العدة للانهزام وللفرار بأموالهم وأنفسهم وما هذا إلا لأن قلوبهم خواء ليس فيها من الإيمان شئ أو لأن الإيمان الذي في قلوبهم ضعيف جداً لا يصمد أمام هجمات الشك والارتياب وأمام هجمات الشبهات والشهوات وأمام مخوفات المحن والفتن والله تعالي يقول إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ومظاهر الارتياب في حياتنا لمعاصرة نحن المسلمين ما أكثرها وسوف نستعرض بعضها إن شاء الله تعالى في الخطب القادمة .

__________

(1) صحيح مسلم (408).

(2) مسند أحمد (3/8) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(1/281)

الأمة المؤمنة على ضوء سورة الحجرات

-----------------------

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, فضائل الإيمان

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

23/3/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

حقيقة الإيمان ومرتبته , وتلازمه مع الجهاد – وعد الأمة المؤمنة حقاً بأربع مميزات : 1- النصر 2- الحماية الإلهية 3- التمكين في الأرض 4- العلو على باقي الأمم - معنيا الإيمان كما أشارت إليه آية الحجرات : 1- الاعتقاد الواضح واليقين الراسخ 2- العمل والجهاد بالمال والنفس – واقع الأمة اليوم وأسباب هوانها وذلها – مقصود الجهاد في الإسلام , وخطورة التخلي عنه

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فقد قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].

ليس كل مسلم مؤمناً فالإيمان مرتبة سامية لها شروط سامية ولها مميزات عظيمة, الإيمان هو الاعتقاد الواضح واليقين الراسخ الذي لا تردد فيه ولا ارتياب ثم الترجمة العملية لهذا الاعتقاد ولهذا اليقين بالعمل والجهاد فالأمة المؤمنة أمة مجاهدة, الإيمان والجهاد سمتان متلازمتان من سمات الأمة المؤمنة وهذه الأمة المؤمنة هي الأمة الموعودة بالنصر وبالحماية الإلهية وبالتمكين في الأرض, هذه الأمة المؤمنة هي التي قال الله تعالى فيها: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين [الروم:47]. وهي التي قال فيها: إن الله يدافع عن الذين آمنوا [الحج:38]. وهي التي قال فيها سبحانه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً [النور:55]. هذه الأمة المؤمنة هي التي تستحق العلو والظهور علي باقي الأمم كما قال تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران:139]. فهذه المميزات الأربعة العظيمة:

- النصر - الحماية الإلهية - التمكين في الأرض - العلو علي باقي الأمم.

ربطت كلها بالإيمان, ليس الإيمان بمعنى التصديق بالله ورسوله فحسب ولكنه هذا الإيمان الذي أشارت إليه هذه الآية من سورة الحجرات, الإيمان بمعنييه العظيمين الاعتقاد الواضح واليقين الراسخ الذي لا تشوبه شائبة ارتياب ولا تضعضع ولا انهزام فكري ولا نفسي ولا قلبي هذا المعني الأول.

المعنى الثاني: العمل والجهاد بالمال والنفس, إن مجرد كون الأمة مسلمة لا يؤهلها لهذه المميزات الأربعة العظيمة النصر الإلهي والحماية الإلهية والتمكين في الأرض والعلو على باقي الأمم فها نحن اليوم أمة مسلمة كبيرة العدد أكثر من ألف مليون مسلم ومع ذلك فنحن أمة مقهورة مغلوبة تتلاعب بنا القوى العالمية وتسير أمورنا كيفما شاءت على رغم أنوفنا, ونحن أمة منهوبة تسفك دماؤنا وتنتهك خيراتنا على مسمع منا وعلى مرأى من أبصارنا ومازلنا مكبلين لا نملك إلا الصياح والنواح, وهانحن اليوم أمة لا سلطان لها لا سلطة تمثلها فلا يوجد اليوم على وجه الأرض سلطة يمكن أن تمثل الإيمان تمثيلاً حقيقياً صادقاً, شعوب مسلمة نعم أمة مسلمة نعم حكومات مسلمة ربما ولكن أمة مؤمنة وسلطة مؤمنة فلا، لا يوجد هذا الحلم في واقع حياتنا المعاصرة " أمة مؤمنة تمثلها سلطة مؤمنة " وإلا لتغير وجه واقعنا المعاصر لأن أمة مؤمنة تمثلها سلطة مؤمنة لابد أن تغير وجه هذا الواقع, لابد أن تحظى بهذه المميزات الأربعة العظيمة النصر والحماية الإلهية والتمكين في الأرض والعلو والظهور على سائر الأمم, هذا وعد الله والله تعالى لا يخلف الميعاد ومن أصدق من الله قيلاً [النساء:122].

فإذا تأملتم واقعكم أيها المسلمون فوجدتموه مهلهلاً مفجعاً فلا تقولوا: لماذا نحن هكذا يا ربنا؟ أين وعدك وأين نصرك؟ فالله تعالى ما وعد المسلمين إنما وعد المؤمنين لأن الاستسلام وحده لحكم الإسلام الظاهر بالأعمال الظاهرة هذا وحده لا يكفي, هذا يشترك فيه المسلمون والمنافقون ولذلك فإن الأفراد من هؤلاء وهؤلاء يحظون بنتائجه يتمتعون بحقوق المسلم الذي استسلم في الظاهر لأحكام الإسلام وأعماله الظاهرة من صيانة للدم والمال ولغير ذلك من الأحكام ولكن هذا لا يكفي لابد من الإيمان بمعنى الاعتقاد الواضح السليم واليقين الراسخ الثابت الذي لا ارتياب فيه ولا تردد وبمعنى العمل والجهاد, فالأمة المؤمنة أمة مجاهدة لا تضع سلاحها عن عاتقها أبداً رايات الجهاد فوقها خفاقة دائماً وجحافلها المؤمنة المدربة في تعبئة دائمة ليس لقهر الشعوب الأخرى وسفك دمائها والتسلط عليها واستعمارها ولكن للذود عن حياض الإسلام ضد كيد المعتدين وأطماع الطامعين ولضمان الحرية أمام كلمة الله حتى يسمعها كل مكلف علىوجه الأرض، أي ضمان الحرية للدعوة الإسلامية على سائر الأرض في أنحاء المعمورة, هذا هو المقصود بالجهاد في الإسلام وهذه هي وظيفة الأمة المؤمنة الدعوة والجهاد, فإذا ما تخلت عن وظيفتها هذه وركنت إلى التجارة وإلى حياة اللهو واللعب والملذات والشهوات فإنها حينئذ تكون قد تقهقرت من مرتبة الإيمان إلى درجة من أدنى درجات الإسلام, هذا إذا حافظت حتى على الحد الأدنى من درجات الإسلام, وحينئذ بتقاعسها عن الدعوة وعن الجهاد تكون قد فقدت تلك المميزات الأربعة العظيمة التي وعدت بها الأمة المؤمنة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فقد وَفَدَ وَفْد بنو عبد القيس على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ((من القوم؟ قالوا: ربيعة. فقال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا نداما. فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرام, وإن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر, فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة)). فقال لهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده, أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتعطوا الخمس من المغنم. ثم نهاهم صلى الله عليه وسلم عن أربعة أنواع من الأشربة المسكرة, ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: ((احفظوهن وبلغوا من وراءكم))(1)[1].

ففي هذا الحديث الصحيح الثابت الجليل فسر النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالأعمال إلى جانب الاعتقاد فكأنما هو تفسير لآية سورة الحجرات التي صدرنا بها, إلا أن في الحديث تفصيلاً زائداً وبياناً هائلاً فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العبادات المفروضة على كل مسلم ضمن وصف الإيمان وهي الصلاة والزكاة والصيام ولم يكن الحج قد فرض بعد , وذكر الجهاد في قوله: ((وأن تعطوا الخمس من المغنم)), ثم ضمن النبي صلى الله عليه وسلم في أوامره النهي عن المحذورات, اجتناب المحرمات وخص أنواعاً من الأشربة المسكرة بالذكر لأن الخمر كانت متفشية منتشرة بين العرب قد ألفوا شربها ومعاقرتها وإلا فاجتناب سائر المحرمات هو داخل ضمن وصف الإيمان, إذاً فالأمة المؤمنة هي التي حققت هذه الأمور: الاعتقاد الواضح الراسخ الذي لا شبهة فيه ولا تردد ولا شك ولا ارتياب, وأداء الفرائض, ثم الجهاد بالمال والنفس, ثم اجتناب المحرمات ومحاربتها والوقاية منها. فالأمة المؤمنة هي التي حققت هذه الأمور وهذه الأمة هي الموعودة بتلك المميزات العظيمة الأربعة, فكأنما حديث النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم تفسير للآية من سورة الحجرات. ومن لازم هذا أن ما يشاهد في بعض المجتمعات المسلمة اليوم من إضاعة للصلوات ولا يعطون الفقير حقه المعلوم الذي فرضه الإسلام بلا منة من أحد ويجاهرون بالإفطار في شهر الصيام, تراهم يأكلون ويشربون في أسواقهم ومنتدياتهم, وبدلاً من الجهاد اصبحوا أسرى لحياة الشهوات والملذات وحياة اللهو واللعب وبدلاً من محاربة المنكرات تجد المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الموبقات متفشية في تلك المجتمعات التي تسمى مسلمة ولا تزال تسمى مسلمة, مثل هذه المجتمعات هي أسوأ وأحقر من أن يصدق عليها وصف الإيمان ربما يقال فيها تسامحاً إنها مجتمعات مسلمة أما أن تكون مجتمعات مؤمنة فهي أسوء وأحقر حالاً من ذلك.

إن على كل واحد منا واجباً في هذا المجال , نعم المسؤولية العظمى أكبرها على ولاة الأمور الذين وظيفتهم في الإسلام هي حراسة الدين ورعاية مصالح الأمة ولكن على كل فرد منا عمل يؤديه في سبيل تحقيق مرتبة الإيمان لنفسه ولمن يعول وفي سبيل الإسهام في الوصول بالمجتمع إلى هذه المرتبة حتى يستحق أن يوصف بوصف الإيمان وفي سبيل الوصول بأمتنا المنكوبة المغلوبة إلى هذه المرتبة بحيث أن تستحق أن توصف بوصف الأمة المؤمنة, على كل فرد منا واجب في ذلك يؤديه نحو نفسه أولاً ونحو ولده, فإن على كل أب أن يربي ولده على معاني الإيمان التي ذكرناها, وعلى كل أم أن تربي وليدها منذ صغره على معاني الجهاد, أن تحكي لهم سير الأمجاد من أبطال المسلمين ترضعهم ذلك مع حليبها, أن تقص عليهم السيرة النبوية الشريفة وأحوال الصحابة الكرام.

وهنا نلمس مدى حاجتنا إلى الكتابات, إلى المؤلفات التي صيغت بلغة الصغار في السيرة النبوية, فأين أقلامنا؟ أقلامنا لا تكتب إلا للكبار, لماذا لا تكتب للصغار؟ فإن السيرة النبوية بحاجة إلي أن نرضعها مع حليب الأم لصغارنا, الكتابة للصغار أشد أهمية من الكتابة للكبار وهذا النقص هو من أوجه الخلل والتقصير الذي تعاني منها أقلامنا, هذا النقص هو من أوجه الدروشة التي تسبح فيها أقلامنا, صرفوا جهودهم إلى فئة في الأمة لا تتعدى عشرة بالمائة بينما أخطر فئات الأمة الصغار والفتيان والمراهقون والشباب والشابات قلما تكتب لهم الأقلام.

فيا أيها الآباء ويا أيها الأمهات ويا كل فرد مسلم ربوا صغاركم على معاني الإيمان وعلى معاني الجهاد واحموهم من الإعلام فإن إعلامنا ولشدة الأسف لا يزال يقوم ليس بمهمة غرس معاني الإيمان والجهاد ولكن بمهمة الفساد والإفساد حتى والكوارث تنصب على رؤوسنا والأعداء يقرعون أبوابنا ويكادون يستبيحون بيضتنا, فإن إعلامنا ولشدة الأسف لا يزال يقوم بمهمة ووظيفة الطابور الخامس, مهمة تخريب الأخلاق من الداخل والإيمان.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[2] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري :ك:الإيمان رقم (53).

(2) صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه.

(1/282)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا المجتمع

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

8/4/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

قصة يوسف عليه السلام والموضوعات التي تناولتها : 1- الغرائز والمواقف والطبائع البشرية وآثارها وتهذيبها : الغيرة والحسد – الفساد والانحراف الخلقي – صراع الشهوة الجنسية 2- عاقبة الصبر والثبات 3- القصص القرآني حقيقة وثابت وليس من نسج الخيال وله فوائد ودروس – من الدروس المستفادة : 1- أهمية تنوع أساليب الدعوة المشروعة مثل ( الحديث القصة – التذكير ) وضرورة اقتحام الدعاة لهذا المجال , وعدم تركه لأصحاب الشهوات - انتشار مظاهر البذخ والبطر في المجتمع وخطورة ذلك ( الإسراف في الولائم – إلقاء الباقي في المزبلة ) كيف يتحقق إدراك النعمة وشكرها , ودور الجمعيات الخيرية في ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فمنذ اليوم نعرض إن شاء الله ما في سورة يوسف من الدروس والعبر. وإن فيها كثيرا من الدروس التي تتعلق بكثير من مشكلاتنا في حياتنا المعاصرة.

إن هذه السورة الكريمة تتعلق بشخصية كريمة لنبي من الأنبياء وما واجهه في حياته من حوادث ووقائع وابتلاءات ومحن فمنذ أن رأى الرؤيا ثم ألقي في الجب ثم تقلب في الرق ثم وهو يواجه محنة الإغراء والفتنة ثم وهو يعاني من محنة السجن ثم وقد خرج من الشدة إلى الرخاء فإذا بالسلطان بين يديه وإذا به المتحكم في الرقاب وفي الأرزاق في رقاب العباد وأرزاقهم.

إنها قصة نبي كريم منذ رأى الرؤيا إلى أن تحقق له تأويلها فرفع أبويه على العرش ورفع التثريب عن اخوته الذين كادوا له.

إنها قصة الصديق نبي الله يوسف عليه السلام. وكيف ثبت بعقيدته وبنقاء نفسه وبطهارة ثوبه أمام مختلف المحن والابتلاءات التي مرت به فإذا به يخرج منتصرا بصلابة عقيدته وثبات إيمانه ونقاء نفسه وطهارة ثوبه.

إنها قصة تتحدث عن مجموعة من الغرائز والطبائع البشرية والمواقف البشرية وتأثير هذه الطبائع والغرائز في الحياة الاجتماعية وتأثير الدعوة الربانية في إصلاحها في إصلاح هذه الغرائز والطبائع وتهذيبها وتوجيهها.

تتحدث عن الغيرة وعن الحسد الذي قد ينهش قلوب أقرب الأقربين وعن المؤامرات والمناورات التي تنبع من هذه الغريزة المدمرة وتنشأ عنها.

تتحدث عن الفساد والخراب الخلقي والانحلال الذي يعتلي الحياة الاجتماعية المترفة والظلم الذي يتفشى عادة بأسباب أولئك المترفين. تتحدث عن الصراع؛ صراع الشهوة والغريزة الجنسية بين ثبات وصمود الأنقياء الأتقياء من الشباب الصالحين وعباد الله المخلصين وبين المتدهورين المنحطين من المترفين الفاسدين.

تتحدث عن عاقبة الصبر والثبات في الشدائد والمحن والابتلاءات وهذه العاقبة هي التمكين في الأرض.

كل هذه الجوانب الإنسانية تتحدث عنها هذه السورة العظيمة في قالب قصصي بديع وأسلوب قرآني رفيع ولكن القصص القرآني يتحدث عن الحقائق وليس عن الخيالات إنه يتحدث عن تجارب الأمم السابقة وبعض الشخصيات السابقة من الأنبياء والمرسلين أو من غيرهم أو ما واجههم من حوادث ووقائع ومواقف كلها حقيقية ثابتة فالقصص القرآني حقيقي ولهذا بدأت هذه السورة العظيمة سورة يوسف وهي أروع مثال وأطول مثال للقصص القرآني بدأت بقول الله تعالى في الآية الثالثة منها: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [يوسف:3]. وختمت هذه السورة بقوله تعالى في آخر آية منها: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [يوسف:111]. فالشأن في القصص القرآني ليس كالشأن في ما يكتبه القصاصون من الناس عادة، يتخيل القصاص من الناس الشخصية والحوادث والمواقف كلا فالقصص القرآني ما كان حديثا يفترى ليس للخيال ولا للافتراء فيه أي نصيب إنه يتحدث عن شخصيات حقيقية وعن حوادث ووقائع ومواقف صادقة ولكن باسلوب رفيع محكم بديع لا ترقى إليه أى قصة مكتوبة ولا ترقى إليه أي قصة محبوكة.

وفي هذا درس لأهل الأقلام والمواهب ليتعلموا من القرآن ويستغلوا مواهبهم وليسخروا أقلامهم حتى تكون أداة حتى تكون أدوات للرحمة حتى تكون أدوات للهدى وحتى يفصلوا للناس ما يحتاجون إليه من الدروس والعبر.

فإن الدعوة والإصلاح يحتاجان إلى تنوع الأساليب فالنفوس البشرية تملّ وها هو القرآن في هذه السورة العظيمة يعلمنا أول درس إنه درس للموجهين والمصلحين بل هو درس للعلماء المربين كأنما القرآن يهتف بهم جميعا: لا تجمدوا على وسيلة واحدة أو وسيلتين فالمنبر على عظم أهميته وحده لا يكفي وحلقة الدرس على عظم نفعها وبركتها وأهميتها وحدها لا تكفي.

لابد من تنوع الأساليب لابد من تنوع الأساليب لابد من استغلال سائر الوسائل المتاحة التي يأذن لنا الشرع باستغلالها وهذه الوسيلة الفعالة الشديدة الأثر هي من هذه الوسائل المباحة والمتاحة القصة. القصة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية مسموعة إنها من أشد الوسائل تأثيرا في النفوس وها هو القرآن الكريم يقدم لنا أروع مثل لهذا اللون من ألوان البيان وهذا الأسلوب من أساليب الإصلاح.

النفوس تمل ولذلك لابد من استخدام جميع الوسائل المتاحة والأساليب المباحة.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة – أي اعتراهم الملل في يوم من الأيام – فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: حدثنا فأنزل الله تعالى قوله: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [الزمر:23].

و عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: هلا حدثتنا فأنزل الله تعالى قوله: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها فقالوا: هلا قصصت علينا فأنزل الله: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن فقالوا: هلا ذكرتنا. فأنزل الله تعالى قوله: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق [الحديد:16].

فهذه ثلاثة أساليب: الحديث والقصة والتذكير كلها من ألوان البيان وأساليب البيان وقد استخدمها القرآن واستخدم غيرها من الأساليب.

فهذا هو أول درس قرآني في هذه السورة فيا حملة الأقلام ويا أرباب التوجيه والإصلاح هذا الدرس لكم ويا شباب الإسلام يا أهل الأدب يا أهل الأقلام الأدبية هلا اقتحمتم هذا المجال هذا المجال الشديد التأثير مجال القصة هلا خرجتم لنا بالقصة الإسلامية الهادفة التي تبني ولا تهدم وتصلح ولا تخرب وتعلم ولا تفسد.

لقد امتلأت ساحاتنا بغثاء بركام من إفراز الخبيثين والخبيثات من إنتاج أتباع الشهوات الذين يريدون من المؤمنين أن يميلوا ميلا عظيما.

ما أكثر القصص المفسدة المخربة في ساحاتنا في أسواقنا على صفحات مجلاتنا وجرائدنا فهذه قصص نجيب محفوظ وهذه قصص يوسف إدريس وأمثالهما من العلمانيين والزنادقة واليساريين والبعثيين فتحنا لها أبوابنا فملئت ساحاتنا ودخلت بيوتنا وقد تترجم إلى قصص مسموعة أو مسموعة مرئية حتى يزداد تأثيرها في الهدم والتخريب.

فهيا يا شباب الإسلام يا أصحاب الأقلام يا أصحاب المواهب الأدبية اقتحموا هذا المجال فإن هذا المجال لكم لا تتركوه لأولئك المفسدين القذرين من اليساريين والبعثيين والحداثيين أتباع الشهوات الذين يريدون أن يميل المؤمنين ميلا عظيما: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به سائل فأعطاه تمرة فسخطها ولم يقبلها فمر به آخر فأعطاه إياها فقبلها وقال: تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطي أربعين درهما، وأرسل جارية إلى بيت أم سلمة أن ادفعوا الأربعين درهما التي عندكم وهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم(1)[1].

إن المشاهد في مجتمعاتنا اليوم كثير من مظاهر البطر كثير من الناس وقعوا في البطر لا يعرفون قدر النعمة ولا يقدرون حق شكرها يهينون نعم الله عز وجل ولا يعرفون قدرها ولا يؤدون حق شكرها.

وإن من مظاهر هذا البطر وهذا الكفر بالنعمة ذلك الإسراف والبطر الذي يقترفه الكثيرون في الولائم والمناسبات تتكدس الأطعمة على الصحون أرزاً ولحما وشحما حتى إذا صالت الأيدي فيها وجالت تقززت نفوسهم مما بقي بعد ذلك وتأففوا منه فربما رمى به بعض الذي يكفر النعمة ولا يعرف قدرها رمى بهذا الباقي وهو كثير رمى به في المزبلة وكذلك ربة البيت قد ترمي ببقايا الطعام في الصحون والقدور مما يمكن أن يؤكل ترمي به في المزبلة.

وهذا من كفر النعمة وهو محرم لا يجوز هذا من مظاهر البطر ومن أسباب العقوبات العقوبة الإلهية قد تحل على الفرد الذي يقترف مثل هذا الفرد الذي يقترف مثل هذا البطر وقد تحل على المجتمع الذي تتفشى فيه مثل هذه الظاهرة فإن الرب تبارك وتعالى وعد بمزيد من النعم لمن شكر وتوعد من كفر بنعمه بالعذاب الشديد فقال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].

إذا أردت أن تعرف قدر النعمة التي تتقلب فيها، النعمة التي أنعم الله عليك بها من رغد في العيش وأمن في الحياة ورخاء وتنعم في المأكل والمشرب والملبس إذا أردت أن تعرف قدر نعمة الله عليك فتذكر أن هناك اليوم عبادا لله ماتوا جوعا وعطشا لم يجدوا حتى بعض هذا الذي ترمي به في المزبلة ليسدوا به رمقهم أفلا تخاف أن يصيبك الله بما أصابهم.

إن من شكر نعمة الله عليك أن تشرك الفقير معك في طعامك وشرابك أن تتذكر الفقير فتشركه معك في طعامك وشرابك وأضعف الإيمان أن توزع على الفقراء ما تبقى من موائدك وصحونك وقدورك بدلا من أن تهين نعمة الله عليك فترمي بها في المزبلة.

لقد سمعت أن هناك بعض الجمعيات النسائية الخيرية تقوم بهذه المهمة إذا اتصل بها صاحب المناسبات الباذخة التي تكدست فيها الأطعمة إذا اتصل بها يأتون ويأخذون ما تبقى من الأطعمة ويوزعونه على بيوت فقيرة لا تجد ما تقتات به هنا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونعم ما فعلت هذه الجمعيات النسائية الخيرية ما أحسن ما صنعت لقد عرفت كيف تداوي الداء، داء الإسراف وداء الكفر بالنعمة وعرفت كيف تُعنى بأولئك الفقراء الذين لا يجدون ما يسد به رمقهم وهم جيراننا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وليت سائر الجمعيات الخيرية تفعل مثل ما سمعت بدلا من إقامة الحفلات الدعائية والمؤتمرات الفارغة التي ليس وراءها أي نفع للناس التي لا يرضى عنها الفقير ولا الكبير كلها رياء وسمعة لا تجلب على أصحاب تلك الجمعيات الخيرية إلا الإثم والوزر والعقوبة وكراهية الناس.

سئل أحد التابعين: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيهما أفضل أما الأولى فقد ستر الله علي ذنوبي فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد وأما الأخرى فقد ألقى الله محبتي في قلوب العباد مع أن عملي لا يبلغ ذلك.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(2)[2] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) مسند احمد 3/155 ،260.

(2) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/283)

أمهات الكبائر

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

1/7/1416

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- العقل نعمة من الله عز وجل. 2- ذهاب العقل يجر إلى البلاء والفتنة. 3- أدلة تحريم الخمر ولعن عشرة فيها. 4- أضرار الخمر والمخدرات الاجتماعية. 5- أسباب انتشار الخمر بين المسلمين. 6- ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأشكاله لرد هذا الفساد. 7- دعوة إلى هجر الذنوب والخوف من عقوبة الله.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.

إخوة الدين والعقيدة: امتن الله سبحانه وتعالى على بني الإنسان بنعم عديدة لا يحصرها قلم أو تحيط بها سطور أو خطب ومن أسمى هذه النعم وأزكاها: نعمة العقل التي ميزه الله بها عن الحيوانات بها يعرف الحق من الباطل، ويميز بين الضار والنافع ويدرك الحلال والحرام ومن هنا خص بالتكليف وحصلت له الكرامة ويشرق هذا العقل وخطورة ذهابه فقد طالبنا الشرع المطهر بالمحافظة عليه وحذرنا من إذهابه بأي وسيلة من الوسائل .

روى البيهقي بإسناد صحيح عن عثمان بن عفان أنه قال كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فأحبته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة فجاء البيت ودخل معها فكانت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى وصل إلى امرأة وضيئة أي حسناء جميلة جالسة عندها غلام وإناء خمر فقالت له إنها ما دعته لشهادة وإنما دعته ليقع عليها أو يقتل الغلام أو يشرب الخمر فلما رأى أنه لا بد له من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشربه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام قال أمير المؤمنين عثمان فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه .

إخوة الإيمان : حديثنا اليوم عن داء خطير من صنوف الخبائث بل أم الخبائث إنها الخمر والمسكرات والمخدرات والتي ما انتشرت في مجتمع من المجتمعات فسكتوا عن إنكارها على مر التاريخ إلا وكتب لذلك المجتمع الانهيار والنهاية، والخمر والمخدرات من الوسائل التي تذهب العقل ولقد توعد الشارع من استخدم هذه المسكرات التي هي سبب في ذهاب العقول توعده بالوعيد الشديد والعذاب الأليم في الآخرة، فقد حذر الرسول من شرب الخمر وما شابهها مما يؤثر على العقل فقال فيما روى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : (( نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر )) وقال (( من شرب الخمر سقاه الله من طينة الخبال يوم القيامة قالوا وما طينة الخبال يا رسول الله قال عرق وقيح أهل النار )) كما أخبر (( أن مدمن الخمر من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم )) وفي حديث أنس بن مالك (( أن رسول الله لعن في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له )) وقد أنزل الله تعالى في كتابه قوله: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر و الميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:90/91] تذكر لنا كتب التفسير أن هذه الآية حين نزلت على النبي فسمعها الصحابة قالوا مباشرة انتهينا حتى أن بعضهم كان قد رفع كأسه ليشربها فأراقها وأراقها الصحابة حتى سالت بها طرق المدينة ويقول (( مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن )) وقال (( من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا )) ولهذه النصوص مجتمعه وغيرها مما لا يتسع لنا ذكره يتبين لنا شدة حرمة الخمر والمخدرات ، وما كان هذا الوعيد وذلك التهديد إلا لمكانة هذا العقل الذي أكرم لله به الإنسان وهو بذلك يساوي بعقله عقول الحيوانات والمجانين ومن فقدوا العقل والرأي، ولو فكر ذلك المسكين الذي كان سببا في إذهاب عقله بنفسه لأدرك عظيم الخطر الذي هو واقع فيه، فكم من المصائب التي سوف تلحق به وبأسرته، ولا شك أننا في حديثنا عن الخمر لا يمكن أن نغفل الحديث عن آفة العصر التي تقضي على الأمة ألا وهي المخدرات التي تنتشر الآن بصورة رهيبة في العالم وتوغلت في بنية المجتمعات شرقا وغربا وقد بات تزايد الخطر تدق بقوة هنا وهناك لأن ضحايا إدمان المخدرات أصبحوا في تزايد مستمر وأصبحت أمم العالم تواجه خطرا عظيما لا يعدله أي خطر بهذا الداء العظيم الذي يفتك بالبشرية ولعلنا إخوة الإيمان لا نستغرب وجود مثل هذا الداء العظيم على مجتمعات كفرت بالله وزعت الإباحية ووفرتها ولكن الغريب أن نراه منتشرا بين الشعوب المسلمة التي منّ الله عليها بهذا الدين العظيم فما أسباب ذلك؟ فإن وقفتنا على المسببات ومعالجة تلك الأسباب وتلافي دواعيها هو الخلاص من مثل هذه الآفات الخطيرة .

وأول هذه الأسباب : لوجود وانتشار المخدرات والمسكرات ضعف الوازع الديني والبعد عن دين الله فالشخص المتمسك بدينه المرتبط بالله جل وعلا وعباداته صدقا من صوم وصلاة النوافل وذكر لله لا يفكر أن يكون بينه وبين هذه الأدواء صلة ، يقول الله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء .[إبراهيم 27]

والسبب الثاني : من أسباب السقوط في هذه الهاوية: الفراغ الذي يعود بالأثر السيئ على صاحبه فيضطر إلى قضاء وقته بما لا ينفعه أو فيما وبدين ضعيف لا يقاوم إلى بلد تبذل لهم فيه كل ما يشتهون ثم يعودون بخسارة الدين والعرض والصحة والمال .

ومن أسباب انتشار الخمور والمخدرات وعدم الوعي بها عرضها في وسائل الإعلام والقنوات وبأشكال مغرية وأوضاع لشاربيها تدعوا أولئك المراهقين إلى ممارستها وتذوقها بدعوى اللذة والنكهة فلست أدري كيف يمضي مثل ذلك على مجتمع كمجتمعنا ويغفل عن رقابة ذلك الأباء والأولياء بل قد يسعون لتوفير كل ذلك وعدم الاعتراض عليه .

إخوة الإيمان : إن كثيرا من شبابنا ممن يقع في هذه الهاوية حينما تسأله عن سبب ذلك فلا يلبث أن يردك إلى سبب من تلك الأسباب فيتكلم لك عن رفقة سار معهم حتى أوصلوه إلى حافة الهلاك ،يكلمك عن أب أطعمه وسقاه وكساه وأسكنه، لكنه غفل عنه ولم يسأل عن حاله بل قد تمضي الأيام وهو لا يراه، والمصيبة حينما يسمح له بالسفر إلى خارج البلاد ليبيع دينه وعرضه وأخلاقه بلذاته وقد يكون سبب حاله كما يقول بعده عن الله وغفلته لإعراضه عن دينه كترك الصلوات وسائر العبادات .

إننا أيها الإخوة المؤمنون يجب أن نعود إلى أنفسنا وأن ننتبه لأسرنا ومجتمعنا وأن نعلم أن مثل هذه الأدواء غريبة على مجتمعنا وبالإيمان وحسن الرعاية والاهتمام نستطيع مقاومة هذه الأدواء فهلا قمنا بذلك هلا كنا عونا لكل شاب كاد أن يسقط في هاوية من هذه الهاويات فانتشلناه منها قبل أن يسقط ونحن بذلك نحقق مبدأ الأخوة الإيمانية الحقة : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [الحجرات:10]

إن أضرار المخدرات والمسكرات كبيرة في المجتمع في إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس وقتل للمعنويات العالية في الإنسان وتغيب للأخلاق الفاضلة وإغراء بالفواحش كالزنا واللواط وكبائر الإثم كما يشهد لذلك واقع أولئك الذين ابتلاهم الله بذلك .

وإننا إخوة الإيمان نقف شاكرين وداعين الله لهم بالتوفيق لرجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجال مكافحة المخدرات ومن شاركهم والذين يقفون بجدية وتضحية لمحاربة هذا الداء العظيم ويحاربون في سبيل عدم انتشاره في مجتمعنا المؤمن بحفظه، وأن يجعل كل ذلك في ميزان حسناتهم، وإنني أدعو كل من ابتلي بقريب أو صديق قارف تلك الخطيئة أن يعزم على معالجته وإبعاده عن الأسباب المؤدية به إلى هذه السقطة وأبواب مستشفيات الأمل في بلادنا مفتوحة لعلاج مثل هؤلاء الذين حادوا عن جادة الصواب وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء لواجب الأمانة التي وضعها الله في أعناقنا نسأل الله الإعانة عليها.

فاتقوا الله يا عباد الله واسألوه العصمة من كبائر الإثم والفواحش والتوبة من جميع الإثم والمعاصي وتعاونوا على البر والتقوى ومنع الإثم والعدوان اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة إليك واغفر لنا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

أما بعد :

فيا أيها الإخوة المؤمنون : اتقوا الله تعالى حق التقوى .. خرج بعض الناس صبيحة يوم الإثنين الماضي إلى صلاة الاستسقاء يدعون ربهم ويتضرعون إليه طلبا لنزول الغيث … ولا شك إخوة الإيمان أنه وجب علينا أن نراجع حساباتنا مع أنفسنا فما زال ربنا جل وعلا يرسل لنا الآيات تخويفا وإنذاراً بالعقوبة ويحذرنا بذلك من مقارفة ما يغضبه والرجوع إليه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، إن على أمة الإسلام دولا وشعوبا أن ينتبهوا لذلك النذير، ولعل من آخر تلك النذر فقد الأمن ومنه هذا الزلزال الذي شمل أرضا كبيرة وخلف أضرارا كثيرة.

أيها الإخوة: إنه ليس بيننا وبين الله نسب حتى تكون العقوبات لأمم أخرى ونحن نسلم منها،لذا ينبغي أن نتوقعها إن لم نعد إلى الله، إن على دول الإسلام وشعوبه أن تراجع حساباتها فكم يوالى أعداء الله ويهان ويؤذي أولياء الله ودعاته؟ كم من دول للإسلام تحيد عن شرع الله ونهجه القويم في تشريعاتها .

كم جاهرنا بالمنكرات والمعاصي ؟ كم أعَلَنّا الربا وأقمنا صروحه وقلاعه ؟ كيف كانت وسائل إعلام المسلمين سببا في إفساد بيوتهم وقذف مسلمات دينهم ونشر للفساد ثم بعد ذلك لا ترى من ينكر.

(1/284)

شهر القرآن

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, فضائل الأعمال

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

8/9/1417

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الدعوة لقراءة القرآن الكريم وبيان أجرها. 2- مثل للمؤمن التالي للقرآن والجافي عنه ومثله للمنافق. 3- حال السلف مع القرآن في رمضان. 4- شفاعة القرآن لأهله يوم القيامة. 5- تلاوة القرآن تستلزم العمل به وتدبره. 6- دعوة للإنفاق في سبيل الله.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه، إخوة الإيمان يقول الله سبحانه وتعالى: طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين [النمل:1].

نعيش اليوم في زمن تلاطم الأفكار وتغير المفاهيم، زمن مواجهة شبهات وتحديات وتساؤلات، كثيرا ما تقرع الأسماع وتتوارد على القلوب ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وما منّا من أحد في هذه الدنيا مهما كان مقامه إلا وهو يحتاج إلى ما يشد أزره ويرسى قدمه يزيد في إيمانه ويقينه ليثْبُتَ أمام تلكم الشهوات والتحديات ثبات الجبال التي لا تحركها الهزات ولا تؤثر فيها الأعاصير، ما منا من أحد إلا وهو محتاج إلى ما يؤنسه إن تطرقت إليه وحشة، ويسليه ويواسيه إن ألمت به مصيبة، ويرجيه ويعده إن ضاقت به حال ، أو طاف به طائف اليأس والقنوط من روح الله، وينذره ويخوفه إن استولى عليه،مامنا إلا وهو محتاج إلى مايسرّه،وهو أن يزداد إيمانه وأن تحصن عقيدته وأن تقوى صلته بربه تبارك تعالى،

ولا تقوية لأزرٍ، ولا رسوخَ لقدمٍ، ولا أنس لنفسٍ ولا تسلية لروحٍ، ولا تحقيق لوعد، ولا أمن من عقاب، ولا ثبات لمعتقد، ولا بقاء لذكر وأثر مستطاب إلا بأن يتجه المرء اتجاها صحيحا بكامل أحاسيسه ومشاعره وقلبه وقالبه إلى كتاب ربه إلى القرآن الكريم، تلاوة وتدبرا وتعلما وعملا، فهو المَعين العذب الصافي الذي لا ينضب، وهو الكنز الوافر الذي لا يزيده الإنفاق إلا جدة وكثرة، ولا تكرار التلاوة إلا حلاوة ورغبة.

القرآن العظيم هو كلام الله الذي لا يشبهه كلام ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد تكفل الله بحفظه فلا يتطرق إليه نقص ولا زيادة، مكتوب في اللوح المحفوظ، وفي المصاحف محفوظ وفي الصدور متلو بالألسن ميسر للتعلم والتدبر: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [القمر:17]. يستطيع حفظه واستظهاره الصغار والأعاجم ،لا تكل الألسنة تلاوته ولا تمل الأسماع من حلاوته ولذته ،ولا تشبع العلماء من تدبره والتفقه في معانيه، ولا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثل سورة منه لأنه المعجزة الخالدة والحجة الباقية، أمر الله بتلاوته وتدبره وجعله مباركا: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب [ص:29].

قال عليه الصلاة والسلام: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنه والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف))، رواه الترمذي وقال حسن صحيح.

وقد جعل الله ميزة وفضيلة لحملة القرآن العاملين به على غيرهم من الناس فرسول الله يقول: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) رواه البخاري .

ويقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل الثمرة لا ريح لها وطعمها طيب حلو، مثل المنافق الذي الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مُر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر)) رواه البخاري ومسلم.

إخوة الدين والعقيدة: إن السعادة والطمأنينة في تعظيم كتاب الله وتلاوته والرجوع إليه واتباعه والاهتداء بهديه، والشقاوة والتخبط في الإعراض عنه والاستهانة به وهجره: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه:24-26].

عباد الله: لعل شهر رمضان المبارك الذي نعيشه هذه الأيام يذكر الأمة المسلمة بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله العظيم فقد شرف الله تعالى هذا الشهر بنزول القرآن فقال: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فالله سبحانه وتعالى أنزل كتابه العزيز ليهتدي به الناس ويعتصموا به فهو مصدر القوة والعزة وأساس التمكين والرفعة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق الإيمان وصدق به وأخلص التصديق فقد هداه الله وآتاه من فضله وأعانه على كل خير، قال جل وعلا: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [البقرة:1]. أما من هجره وأعرض عنه علما وعملا ولم يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه فقد أضله الله وختم على قلبه وبصره.

عباد الله: شهر رمضان شهر القرآن، ومن أفضل ما تعمر به الأوقات في هذا الشهر الاهتمام بالقرآن حفظا وتلاوة وتدبرا وعملا، هذا ما نراه ولله الحمد في الخيّرين من الناس في الإقبال على القرآن في هذا الشهر، ولقد كان اهتمام سلف الأمة بالقرآن في رمضان كبير، انظروا مثلا إلى قدوتنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه الذي يروي عنه ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين فيقول: ((كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة)). فدلنا هذا الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والإجتماع على ذلك ودلنا أيضا على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان.

ويتبين لنا من خلال الحديث أيضا أن مدارسة جبريل عليه السلام له كانت ليلا دلالة على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا، فالليل تنقطع فيه الشواغل ويجمع فيه الهم ويتواطؤ فيه القلب واللسان على التدبر يقول تعالى: إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً [المزمل:6]. خلافا لما يفهمه كثير من الناس من المداومة على القرآن في نهار رمضان وترك تلاوته ليلا ، وكان بعض السلف يختمون في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع منهم قتادة وبعضهم في كل عشر.

وقال ابن رجب رحمه الله: " وكان السلف رضوان الله عليهم يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزهري إذا دخل رمضان قال :فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام " قال ابن عبد الحكم " كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراء القرآن وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في رمضان فإذا طلعت الشمس نامت " أ.هـ كلامه رحمه الله.

روى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي (( الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان )).

إخوتي الصائمون إن خير ما نستغل به شهر الصوم قراءة القرآن وتدبره فيامن أهمل القرآن طول عمره، جاءك رمضان فرصة لك في العودة إلى كتاب الله فكيف ترجوا ممن أهملته الشفاعة .

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة ينفخ

إخوة الدين والعقيدة يجب أن نعلم أن القرآن الكريم ليس آيات تهتز لها الرؤوس وتتمايل بها العمائم يطرب لها الدراويش في الموالد والمآثم والاحتفالات، وليس آيات تهذ هذّ الشعر أو تنثر نثر الدقل، بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها السكينة والطمأنينة وتملؤها بالثقة والثبات، وتدبر آيات الله عز وجل ومعرفة مقاصدها ومراميها والوقوف عند عظاتها وعبراتها والتفكر في معانيها وفقهها وأسرارها نعمة عظيمة من أجلّ النعم التي يوفق إليها العبد المسلم، يقول الله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون [الأنفال:2]. ولهذا وصف عبد الرحمن السلمي صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوله: ((حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا)).

وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما " لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أقرأ القرآن أجمع هذرمة ". وإذا طغى الران على القلب وانتكس الإنسان بعبثه ولهوه حجبه الله تعالى عن نور القرآن وحال بينه وبين الهدى والحق أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:54].

عباد الله أين من يريد الرفعة بهذا القرآن ، فهذا هو شهر البر والإيمان والقرابين وإن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ، إن وجود القرآن بيننا وتيسير الحصول عليه لمن طلبه وتوفير المصاحف في المساجد والبيوت والمكاتب بحمد الله وإذاعة القرآن الكريم الموجودة في هذا البلد والتي نفع الله بها في كل مكان، فجزى الله القائمين عليها خيرا، إن توفر القرآن عبر هذه الأرض من أعظم النعم على من وفقه الله لتعلم كتابه واستماعه والعمل به وهو كذلك من أعظم قيام الحجة على من أعرض عنه أو خالف، فقد قال الله لرسوله: وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . وقال : ((القرآن حجة لك أو عليك)).

فاتقوا الله عباد الله واهتموا بكتاب الله تعلما وتعليما وعلما وعملا تكونوا من أهله.

اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين يعظمونه حق التعظيم فيؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه ويحلون حلاله ويحرمون حرامه ويحكمونه في جميع أمورهم إنه سميع مجيب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً [الإسراء:9-10].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بالذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام. .أما بعد:

فيا عباد الله : اتقوا الله تعالى .. إخوة الإيمان للصدقة مزية وخصوصية في رمضان والمبادرة إليها والحرص عليها وعدم إهمالها أو التقصير فيه فضل عظيم وهي ليست مقصورة على سن معينة أو مال معين كل ذلك يبين لنا أن الصدقة من أفضل الأعمال التي تتأكد في رمضان من إطعام الطعام وتفطير الصائم أو بذل المال أو مساعدة المحتاج، ولهذا فقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أجود ما يكون في رمضان، بل إنه أجود بالخير من الريح المرسلة والجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها وأدعى لتغطية الخلل في الصيام.

إخوة الإيمان في رمضان تزكوا النفوس وتتآخى القلوب نصرة ودعما للفقراء في كل مكان داخل البلاد أو خارجها، ويخطئ كثيرا من فضّل الأقربين بدعوى قرب المكان، وأغفل في الوقت نفسه مسلمين في بلاد بعيدة مع أنهم أشد حاجة وأعظم مصيبة والجمع بينهما أجمل وأحرى بإذن الله وعلى قدر الحاجة، تفريج الكربات وإغاثة اللهفات من أعظم القربات عند الله تعالى وحين نتطلع من حولنا في أحوال المسلمين نرى فقرا عظيما وحاجة كبيرة في مأكلهم ومشربهم في تعليمهم وصحتهم في مسكنهم ومأواهم فما أعظم أن نرى القلوب المتآخية الزكية في رمضان تمد أيديها دعما للمسلمين ونصرة لهم. وإن ملايين المسلمين في كل مكان من بقاع الأرض ينتظرون منكم الدعم والنصرة، وينظرون إليكم بعين المحتاج إلى ما أفاض الله به علينا من النعم الجزيلة نحمد الله عليها ونسأله جل وعلى أن يديمها على هذه البلاد المباركة وأن يرزقنا شكرها على الوجه الذي يرضى به الله عنا.

إخوة الإيمان فضل الصدقة عظيم سيما هذا الشهر، ورب قليل تدفعه اليوم يكون لك درعا ووقاء من نار تلظى يوم القيامة فأين الباذلون أين المتصدقون أين المزكون.

(1/285)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

22/4/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

المشهد الثاني من القصة : تآمر اخوة يوسف عليه , ودلالة ذلك على عدم كونهم أنبياء والخلاف في ذلك وتوجيهه – حفظ الله تعالى لعباده الصالحين وتدبيره لهم – للظواهر والحوادث بواطن لا يعلم حقائقها إلا المتدبرون , وبيان ذلك في قصة يوسف – ما في قصة يوسف من عِبَر جديرٌ بالدعاة أن يتأملوها في مواجهتهم أعداءهم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين [يوسف:7].

هذا هو المشهد الثاني من بدايات هذه القصة القرآنية العظيمة والأول هو مشهد الأب يعقوب عليه السلام وهو يحاور ابنه الصغير يوسف عليه السلام ويحذره أن يقص رؤياه على إخوته خوفا من حسدهم وكيدهم بعد أن فهم الأب من تلك الرؤيا وفسرها وأولها بأن ابنه الصغير هذا سيكون له شأن عظيم من النبوة والسلطان ثم يجيء هذا المشهد المشهد الثاني في الجانب الآخر إخوة يوسف يتحاورون ويتآمرون .

يتآمرون على أخيهم وفي هذا دليل على أنهم لم يكونوا أنبياء لأن الأنبياء لا يظلمون ولا يحقدون ولا يغدرون ولا يرتكبون الكبائر والآيات هنا تصور إخوة يوسف وقد تسلط الشيطان عليهم فملأ قلوبهم حسدا والشيطان لا سبيل له على الأنبياء والمرسلين وزعم قلة من المفسرين أنهم كانوا أنبياء أن إخوة يوسف كانوا أنبياء واستدلوا بقوله تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط [البقرة:136]. قالوا الدليل من هذه الآية من وجهين أوله أن الله تعالى ذكر الأسباط في هذا السياق في سياق الأنبياء والأسباط هم أبناء يعقوب عليه السلام يوسف وإخوته وكانوا اثني عشر وهذا دليل على أنهم كانوا أنبياء والوجه الثاني أن الآية صرحت بالإنزال إليهم وهذا معناه النبوة فنقول ليس في هذه الآية دليل على نبوة إخوة يوسف بل ليس في القرآن كله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على نبوتهم بينما قامت الأدلة من القرآن والسنة على نبوة ورسالة يوسف عليه السلام أما ذكر الأسباط في سياق الآية فالأسباط في بني إسرائيل معناه القبائل والأمم فبنو إسرائيل الذين هم أبناء يعقوب عليه السلام فإسرائيل هو يعقوب بنوه وذريته كانوا اثني عشر قبيلة تنحدر كلها من ابنائه الاثني عشر يوسف وإخوته قال تعالى في بني إسرائيل: وقطعناهم اثني عشر أسباطا أمما [الأعراف:160]. فالأسباط هم القبائل والأمم من بني إسرائيل وقد جعل الله عز وجل النبوة في ذرية بني يعقوب جعل النبوة في بني إسرائيل في ذرية يعقوب وليس معنى هذا أنهم أنبياء بل الأنبياء فيهم ومنهم الأنبياء فيهم ومنهم فيما يخص هذا الفرع من أبناء إبراهيم الخليل عليه السلام وأما التصريح بالإنزال إليهم فلا يعني النبوة بالضرورة ولو كان يعنى ذلك لكنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم جميعنا أنبياء لأنه قال في صدر الآية: أنزل إلينا أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما المعنى أنزل فينا على واحد فينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو أنزل من أجلنا ومن أجل هدايتنا فإذا ثبت هذا وأن إخوة يوسف عليه السلام لم يكونوا أنبياء فلم يعصمهم مقام النبوة مما يلي البشر من لم يكونوا أنبياء فلم تثبت لهم العصمة مما يعتري البشر عادة من نزغات الشيطان ووساوسه ها هي الآيات هذه الآيات تصور حالهم وقد غلبهم الحسد وملأ قلوبهم وغطى على أعينهم فها هم يتغيظون من أبيهم يعقوب عليه السلام كيف يحب يوسف وأخاه أكثر منهم ويوسف وأخوه كانا اثنين صغيرين لا ينفعانه كما ينفعونه هم وهم عصبة كثيرون وكانوا أبناء أم واحدة بينما يوسف وأخوه من أم أخرى وكلمة عصبة هنا في هذا السياق لها دلالات عجيبة ليوسف وأخيه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة [يوسف:8]. فالعصبة في اللغة الجماعة المتعصبون المتعاضدون والعصبة في اللغة العشرة فصاعدا وهذا هو حال إخوة يوسف كانوا عشرة من أم واحدة وكانوا متعصبين يعاضد بعضهم بعضا ضد أخويهم من الأب يوسف وأخيه وكأنما أرادوا أن يخفوا ما أعتلج في صدورهم من حسد وحقد بأن أشغلوا أنفسهم بلوم أبيهم وتخطأته على موقفه وعلى تفضيله ليوسف وأخيه عليهم فقالوا إن أبانا لفي ضلال مبين كأنهم هم لم يكونوا ضالين إذ يستسلمون لنزغات الحسد ويتردون في شباكه وكأنما نوازع الإثم تلجلجت في صدورهم فها هم يلحون ويصرون على لوم أبيهم فيصفون ضلاله بأنه مبين كأنما يريدون أن يقولوا إنه خطأ واضح بين أن يحب أبونا يوسف وأخاه أكثر منا وتلجلجت نوازع الإثم في صدورهم وتأججت نيران الحسد في قلوبهم حتى إنها تكاد تدفعهم دفعا إلى النتيجة المتوقعة إلى القتل اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا [يوسف:9]. ولكن لماذا هذه الجريمة يجيبون يخل لكم وجه أبيكم ولكن ماذا يكون حالكم بعد اقتراف هذه الجريمة أتعيشون قتلة مجرمين كلا فنفوسهم المتلجلجة المترددة بين الإقدام على الجرم أو الإحجام عنه تسول لهم ذلك الفعل وتزينه في قلوبهم وتبرره لكم بأنهم يتوبون بعد اقتراف الجريمة فيعيشون حينئذ هادئين مطمئنين وتكونوا من بعده قوما صالحين [يوسف:9]. وهكذا النفس البشرية إذا سولت للإنسان الإقدام على الجريمة وهكذا وساوس الشيطان ومكائده إذا أراد الإيقاع بالمسلم في حمأة الجريمة فنعوذ بالله من نزغات الشياطين ونعوذ بالله من النفس الأمارة بالسوء.

قال محمد بن إسحاق رحمه الله في إخوة يوسف وما بيتوه نحو أخيهم: لقد اجتمعوا على أمر عظيم على قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له والكبير الفاني الذي له الحق والحرمة والفضل إنه عند الله خطير مع عظم حق الوالد على ولده الذي عزموا على أن يفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه وعظم مكانه عند الله عز وجل وبين ابنه الذي لا قوة له مع ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين فقد احتملوا أمراً عظيماً.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فمن أعظم الدروس في سورة يوسف وقصته ما فيها من آيات عند حكمة الله عز وجل ولطف تدبيره ورحمته بعباده المخلصين وكلاءته لعباده الصالحين بما يدبره لهم من عجائب المقادير التي لا يحتسبونها والتي لا تخطر لهم على بال ولا يجري بها تفكير فإن للظواهر والحوادث بواطن لا يعلم حقائقها إلا المتدبرون الذين يعقلون فإخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه في غيابات الجب ولو لم يلقوه في الجب لما وصل إلى عزيز مصر ولو لم يعتقد ذلك العزيز في أمانة يوسف وفراسته وصدقه لما أمنه على بيته ورزقه وأهله ولو لم تراود يوسف امرأة العزيز لو لم تراوده عن نفسه فاستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها ولو لم يخب كيدها وكيد صواحبتها لما ألقوه في السجن إخفاء أمرهم ولو لم يلقوه في السجن لما عرفه ساقي الملك وعرف صدقه وبراعته في تأويل الرؤيا ولو لم يعرفه الساقي لما عرفه ملك مصر وآمن له وجعله على خزائن الأرض ولو لم يتبوأ يوسف ذلك المنصب لما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهلهم أجمعين من المخمصة التي كانوا فيها وهم في صحراء فلسطين ولما استطاع أن يأتي بهم إلى مصر ليشاركوه في رئاسته ومجده فيتحقق بذلك قول أبيه من قبل: ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب فكل حلقة من هذه السلسلة ظاهرها محرق وباطنها مشرق بدايتها شر وعناء وبلاء ونهايتها خير وفوز وتمكين وهكذا حكمة الله جل جلاله ولطفه في التدبير قدر كل شيء بإحكام وربط كل شيء بسبب سبحانه وتعالى تجري مقاديره بأنواع من الحوادث قد يحزن المتقون منها ويصيبهم الهم والغم والعناء والقرح ولكنها سلسلة تنتهي إلى نهاية واحدة وإلى غاية واحدة تنتهي إلى أن العاقبة للمتقين ولذلك عليهم الصبر والمصابرة والثبات والتحمل والرفق واللين والحكمة لا تغرنهم الحوادث لا يغتروا بظواهر الحوادث ولا ييأسوا من كثرة الخبث ولا يستفزنّهم حمق الخصوم ولا رعونة الأعداء فينسيهم ذلك ما كتب عليهم من الصبر والتحمل والثبات والثبات والمصابرة فها هي سلسلة الحوادث تبدأ بيوسف نبي الله ورسوله تبدأ بيوسف الصديق عناء وبلاء وهم وغم وسوء ثم تنتهي به نصرا وفوزا وتمكينا في الأرض جزاء على صبره وثباته وتحمله عليه السلام.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(1)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/286)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

السيرة النبوية, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

29/4/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الأجواء التي تَنزلت فيها سورة يوسف : 1- معاداة قرابته صلى الله عليه وسلم وعمه أبي لهب للدعوة 2- وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة 3- اشتداد المحنة والابتلاء للرسول صلى الله عليه وسلم – بعض السنن الربانية اللازمة للدعاة أن يَعوها جيداً – ظاهرة البذخ والإسراف وأسبابها , وحال المؤمن في المطعم والمشرب – الكرم الزائف – حال أكرم الخلق مع الضيف- نماذج من إيثار السلف

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

احتدم الصراع المرير بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش الذين كانوا أهم ما عندهم هو إيقاف الدعوة حتى أنهم هموا بقتل النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم شددوا عليه من وطأة الأذى والإهانة وشددوا من وطأة القهر والأذى والتنكيل على أصحابه حتى اشتكى هؤلاء الصحابة الكرام إلى سيدنا محمد من شدة وطأة الأذى عليهم.

ولكن كان أكثر ما يحز في نفس النبي المصطفى، وهو ذو النفس الرفيعة السامية الكريمة، أن من ضمن المناوئين لدعوته أهلاً له وعشيرة أقربين كان ينبغي أن يكونوا أول المناصرين المتبعين.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج للدعوة، يعرض الإسلام على القبائل في الموسم، يتبعه عمه أبو لهب ليحذر القبائل منه صلى الله عليه وسلم. وكان عمه هذا أول من صادم المصطفى عندما جهر بدعوته فوق الصفا واجتمعت قريش لتسمعه، فبعد أن بلغهم ما أمره ربه قال له عمه أبو لهب " تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا " فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب (1)[1].

لم يناصره من أعمامه من بني عبد مناف إلا عمه العباس وكان يناصره سرا وعمه أبو طالب وكان يناصره جهرا وإن لم يؤمن بدينه ويتبع دعوته.

وكان لزوجه الحبيبة إلى قلبه أم المؤمنين خديجة مواقف عظيمة في مؤازرته صلى الله عليه وسلم ومناصرته بمالها ورجاحة عقلها بعد أن آمنت به وكانت أول من آمن به. ولكن وفي عام واحد ذهب المناصران المؤازران، فقد توفى عمه أبو طالب وزوجه خديجة، فكان ذلك العام عام الحزن، فاشتدت وطأة الأحزان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم واحتدم الصراع المرير بين الكفر والإيمان حتى ضاق صدره وكاد الحزن والأسى من إعراض قومه وعشيرته الأقربين يقضي عليه.

في هذه الفترة المشحونة بالابتلاءات والأحزان، نزلت سورة يوسف على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تقص عليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم فهو من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

نزلت هذه السورة لتقص على الرسول قصة نبي أيضا كريم ابن كريم وهو يوسف بن يعقوب بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، وكيف أن أخاه يوسف عليه السلام واجه الابتلاءات والمحن منذ صغره.

والمحن والابتلاءات لازمة لأصحاب الهمم العالية والنفوس الكريمة، وأولى الناس بها الأنبياء والمرسلون، فجاءت هذه السورة تثبيتا للنبي وحثا له على الصبر كما صبر أخوه يوسف، وبشارة له بحسن العاقبة، فإن هذه الغمة من الابتلاءات سوف تنجلي عن نصر مؤزر كما انجلت هذه الابتلاءات عن أخيه.

وجاءت هذه السورة الجلية تعليما ربانيا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأتباعه وأمته من بعده وتبصيرا لهم بجملة من السنن في مسيرة هذه الدعوة الكريمة الإسلامية عليهم أن يعوها جيدا.

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [يوسف:103-109].

هذه جملة من الحقائق والسنن التي يجب أن يعييها الناس، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فإن ظاهرة البذخ والإسراف في حياتنا اليوم هي من نتائج الرخاء والرغد التي يعيش فيها كثير من الناس، فإن كان هؤلاء الناس شاكرين نعمة الله عليهم ما وقعوا في هذا البذخ والإسراف.

قال قائل: ذكرت أن رمي بقية الطعام في المزبلة حرام، فماذا نصنع فيما يتبقى في القدر من طعام قليل، إن أعطيناه إلى أحد ما قبله، لقد أصبح الناس اليوم يصنعون أكثر مما يأكلون، ويأكلون أكثر مما يطيقون، ولو اكتفوا بحاجتهم ما احتاجوا أن يبحثوا عن حل للبقايا التي تتبقى من طعامهم، فإن المؤمن يكفيه القليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء))(2)[1].

وسبب هذه المقالة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاف يوما كافرا فأمر له بشاة فحلبت له فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فحلبت له فشرب حلابها حتى شرب حلاب سبعة. ثم لما أصبح هذا الكافر فأسلم فأمر له رسول الله بشاة فحلبت له ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها.

إذن فليس من عادة المؤمن ذلك النهم في الطعام والشراب الذي طبع عليه الكافر لأن المؤمن يتقلل بالقليل ويقنع به، يقنع بزاد راكب وهو يعلم أنه راحل عن هذه الدنيا أما الكافر فإنه لا يعرف غيرها. ولذلك فإنه يأخذ طيباته ويتمتع بها في هذه الدنيا.

المؤمن يكتفي بما يسد رمقه، فإن اشتهى أكثر من ذلك فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلعق بقية الطعام في الصحن ويلعق أصابعه لأنه لا يدري أين تكون بركة الطعام – هذه عادة المؤمن.

ولكن لماذا لا يتذكر هؤلاء المسرفون في حياتهم ومنا سباتهم، لماذا لا يتذكرون أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الهلال والهلالان وليس لهم طعام إلا الأسودان التمر والماء.

إن أولئك الكرماء المزيفين الذين يقدمون الخراف المشوية والأطعمة المتنوعة لضيوفهم مما لا يستطيع الضيوف أن يأكلوا عشره ليسوا مثل سيدنا المصطفى في الكرم. فهو أكرم الخلق ومع ذلك لم يكن يتكلف أكثر مما عنده، أكثر مما في بيته. روى أبو هريرة رضى الله عنه قال: ((أتى رجلا الرسول صلى الله عليه وسلم – أي ضيفا – فبعث رسول الله إلى نسائه فقالوا: ما معنا إلا الماء - ليس في بيوته إلا الماء - فقال لأصحابه: من يضم هذا، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله – فانطلق به إلى بيته فقال الأنصاري لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: ما عندنا إلا قوت صبياننا، فقال لها: أصلحي فراشك ونومي صبيانك إذا أرادوا الطعام – ففعلت وقامت كأنه تصلح السراج فأطفأته فأخذا يريان ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان في الظلام فأكل مطمئنا وباتا لم يذوقا شيئا من الطعام. فلما أصبحا غدا الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: لقد ضحك الله تعالى الليلة من فعالكما))(3)[2]

فهذا الرجل الأنصاري هو أكرم من هؤلاء الكرماء المزيفين لأنه لم يتكلف فوق طاقته فضحك الله من فعله ونخشى أن يغضب الله على هؤلاء المزيفين.

أما بعد فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن أدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: ك: التفسير (4687).

(2) البخاري: ك: الأطعمة (5078).

(3) البخاري: ك: مناقب الأنصار (3587).

(1/287)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

الشمائل, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أجواء تَنَزُّل سورة يوسف على النبي صلى الله عليه وسلم , وازدياد أذى قريش له بعد موت خديجة وعمه – في السورة جملة من السنن الربانية في التمكين والابتلاء – رمي الطعام في المزبلة حرام , وسبب هذه الأزمة – ليس النَّهَم والإسراف من عادة المؤمن – معيشته صلى الله عليه وسلم وزهده – الكرم الزائف

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

احتدم الصراع المرير بين دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش الذين كانوا أهم ما عندهم هو إيقاف الدعوة حتى أنهم هموا بقتل النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم شددوا عليه من وطأة الأذى والإهانة وشددوا من وطأة القهر والأذى والتنكيل على أصحابه حتى اشتكى هؤلاء الصحابة الكرام إلى سيدنا محمد من شدة وطأة الأذى عليهم.

ولكن كان أكثر ما يحز في نفس النبي المصطفى، وهو ذو النفس الرفيعة السامية الكريمة، أن من ضمن المناوئين لدعوته أهلاً له وعشيرة أقربين كان ينبغي أن يكونوا أول المناصرين المتبعين.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج للدعوة، يعرض الإسلام على القبائل في الموسم، يتبعه عمه أبو لهب ليحذر القبائل منه صلى الله عليه وسلم. وكان عمه هذا أول من صادم المصطفى عندما جهر بدعوته فوق الصفا واجتمعت قريش لتسمعه، فبعد أن بلغهم ما أمره ربه قال له عمه أبو لهب " تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا " فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب (1)[1].

لم يناصره من أعمامه من بني عبد مناف إلا عمه العباس وكان يناصره سرا وعمه أبو طالب وكان يناصره جهرا وإن لم يؤمن بدينه ويتبع دعوته.

وكان لزوجه الحبيبة إلى قلبه أم المؤمنين خديجة مواقف عظيمة في مؤازرته صلى الله عليه وسلم ومناصرته بمالها ورجاحة عقلها بعد أن آمنت به وكانت أول من آمن به. ولكن وفي عام واحد ذهب المناصران المؤازران، فقد توفى عمه أبو طالب وزوجه خديجة، فكان ذلك العام عام الحزن، فاشتدت وطأة الأحزان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم واحتدم الصراع المرير بين الكفر والإيمان حتى ضاق صدره وكاد الحزن والأسى من إعراض قومه وعشيرته الأقربين يقضي عليه.

في هذه الفترة المشحونة بالابتلاءات والأحزان، نزلت سورة يوسف على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تقص عليه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم فهو من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

نزلت هذه السورة لتقص على الرسول قصة نبي أيضا كريم ابن كريم وهو يوسف بن يعقوب بن إبراهيم عليهم جميعا السلام، وكيف أن أخاه يوسف عليه السلام واجه الابتلاءات والمحن منذ صغره.

والمحن والابتلاءات لازمة لأصحاب الهمم العالية والنفوس الكريمة، وأولى الناس بها الأنبياء والمرسلون، فجاءت هذه السورة تثبيتا للنبي وحثا له على الصبر كما صبر أخوه يوسف، وبشارة له بحسن العاقبة، فإن هذه الغمة من الابتلاءات سوف تنجلي عن نصر مؤزر كما انجلت هذه الابتلاءات عن أخيه.

وجاءت هذه السورة الجلية تعليما ربانيا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولأتباعه وأمته من بعده وتبصيرا لهم بجملة من السنن في مسيرة هذه الدعوة الكريمة الإسلامية عليهم أن يعوها جيدا.

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون قل هذا سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [يوسف:103-109].

هذه جملة من الحقائق والسنن التي يجب أن يعييها الناس، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فإن ظاهرة البذخ والإسراف في حياتنا اليوم هي من نتائج الرخاء والرغد التي يعيش فيها كثير من الناس، فإن كان هؤلاء الناس شاكرين نعمة الله عليهم ما وقعوا في هذا البذخ والإسراف.

قال قائل: ذكرت أن رمي بقية الطعام في المزبلة حرام، فماذا نصنع فيما يتبقى في القدر من طعام قليل، إن أعطيناه إلى أحد ما قبله، لقد أصبح الناس اليوم يصنعون أكثر مما يأكلون، ويأكلون أكثر مما يطيقون، ولو اكتفوا بحاجتهم ما احتاجوا أن يبحثوا عن حل للبقايا التي تتبقى من طعامهم، فإن المؤمن يكفيه القليل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن الكافر يأكل في سبعة أمعاء))(2)[1].

وسبب هذه المقالة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاف يوما كافرا فأمر له بشاة فحلبت له فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فحلبت له فشرب حلابها حتى شرب حلاب سبعة. ثم لما أصبح هذا الكافر فأسلم فأمر له رسول الله بشاة فحلبت له ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها.

إذن فليس من عادة المؤمن ذلك النهم في الطعام والشراب الذي طبع عليه الكافر لأن المؤمن يتقلل بالقليل ويقنع به، يقنع بزاد راكب وهو يعلم أنه راحل عن هذه الدنيا أما الكافر فإنه لا يعرف غيرها. ولذلك فإنه يأخذ طيباته ويتمتع بها في هذه الدنيا.

المؤمن يكتفي بما يسد رمقه، فإن اشتهى أكثر من ذلك فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويلعق بقية الطعام في الصحن ويلعق أصابعه لأنه لا يدري أين تكون بركة الطعام – هذه عادة المؤمن.

ولكن لماذا لا يتذكر هؤلاء المسرفون في حياتهم ومناسباتهم، لماذا لا يتذكرون أن بيت الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الهلال والهلالان وليس لهم طعام إلا الأسودان التمر والماء.

إن أولئك الكرماء المزيفين الذين يقدمون الخراف المشوية والأطعمة المتنوعة لضيوفهم مما لا يستطيع الضيوف أن يأكلوا عشره ليسوا مثل سيدنا المصطفى في الكرم. فهو أكرم الخلق ومع ذلك لم يكن يتكلف أكثر مما عنده، أكثر مما في بيته. روى أبو هريرة رضى الله عنه قال: ((أتى رجلا الرسول صلى الله عليه وسلم – أي ضيفا – فبعث رسول الله إلى نسائه فقالوا: ما معنا إلا الماء - ليس في بيوته إلا الماء - فقال لأصحابه: من يضم هذا، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله – فانطلق به إلى بيته فقال الأنصاري لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: ما عندنا إلا قوت صبياننا، فقال لها: أصلحي فراشك ونومي صبيانك إذا أرادوا الطعام – ففعلت وقامت كأنه تصلح السراج فأطفأته فأخذا يريان ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يأكلان في الظلام فأكل مطمئنا وباتا لم يذوقا شيئا من الطعام. فلما أصبحا غدا الأنصاري إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: لقد ضحك الله تعالى الليلة من فعالكما))(3)[2]

فهذا الرجل الأنصاري هو أكرم من هؤلاء الكرماء المزيفين لأنه لم يتكلف فوق طاقته فضحك الله من فعله ونخشى أن يغضب الله على هؤلاء المزيفين.

أما بعد فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن أدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: ك: التفسير (4687).

(2) البخاري: ك: الأطعمة (5078).

(3) البخاري: ك: مناقب الأنصار (3587).

(1/288)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

أعمال القلوب, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

13/5/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

من دروس الآيات ( 8 – 10 ) : الهداية و التوفيق بيد الله وحده ( إبراهيم مع أبيه – نوح مع ابنه – الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب – أولاد يعقوب مع يعقوب ) وتسلية الآباء في ذلك – العدل بين الأبناء وضابطه – معنى الحسد , وحكمه , ومتى يكون محموداً

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين [يوسف:8-10].

في هذه الآيات دروس عظيمة دروس هامة منها أن أمر الهداية والتوفيق كله بيد الله تعالى وحده لا دخل للإنسان في ذلك مهما علا شأنه وعظمت مكانته عند الله عز وجل فهذا أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام عجز عن هداية أبيه آزر مع شدة حرصه على ذلك وهذا نوح عليه السلام من قبله مع شدة حرصه على إنقاذ ابنه لم يمكنه إنقاذه وتلقى الأمر الإلهي الحازم إنه ليس من أهلك [هود:46]. بالصبر والانقياد والخضوع والاستسلام وهذا سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم مع شدة حرصه على هداية عمه أبي طالب وقد كان يحنو عليه ويذب عنه ومع ذلك لم تكتب الهداية لعمه فالأنبياء عباد الله يسيرون بقدره ويخضعون لحكمته ومشيئته سبحانه وتعالى ليس لهم من الأمر شيء إنما وظيفتهم البلاغ وإرشاد الناس إلى دين الله وظيفتهم تنفيذ أمر الله بالبلاغ وإرشاد الناس إلى دين الله أما الهداية والتوفيق فليس لهم منهما شيء ليس لهم من أمر الهداية والتوفيق شيء.

قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون [آل عمران:128]. وقال تعالى له أيضا: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [القصص:56]. هؤلاء أبناء يعقوب عليه السلام أبناء نبي كريم هؤلاء إخوة يوسف أولاد نبي كريم أبناء نبي كريم من سلالة كريمة وبيت كريم ومع ذلك وقع منهم ما وقع ولم يتمكن أبوهم من منعهم من ذلك لم يتمكن يعقوب عليه السلام من منعهم من ذلك مع عظم قدره ومكانته عند الله تعالى فليأخذ من هذا درسا كل أب مرد عليه أولاده وفشل في إصلاحهم وهدايتهم مع بذله الجهد والطاقة وسعيه في ذلك على كل أب كما أن على كل أب أن يبذل جهده وسعيه في إرشاد أبنائه وإصلاحهم وتربيتهم تربية حسنة فإنه مع ذلك يجب ألا ينسى أن هناك جانبا لا يملكه، لا يملكه إلا الله وحده هذا الجانب هو الهداية والتوفيق فعلى كل أب أن يستنزله بالدعاء أن يلهج لسانه دائما بالدعاء لأولاده بالهداية والتوفيق لعله يستنزل ذلك من الرب عز وجل وكثيرا ما نغفل عن هذا وليأخذ أيضا من هذا درسا كل داعية إلى طريق الجنة يبذل جهده ويستفرغ وسعه لإرشاد الناس وهدايتهم إليها ومع ذلك فإنه يرى أكثرهم معرضين عنها معرضين عن طريق الجنة ويراهم يتهافتون بدلا منها على طريق النار فيهتف في قلبه هاتف الشفقة والإنكار يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار [غافر:41]. إن طريق الجنة محفوفة بالمكاره وإلا لسلكها كل أحد وطريق النار محفوف بالشهوات وإلا لما تردى فيها أحد وليس العجب من الناس إذا أذنبوا وإذا أخطؤوا وإذا عصوا ولكن العجب ممن نشأ في كنف الأنبياء وشاهد نور النبوة وعاشر نور النبوة كيف يذنب لكنها سنة الله في خلقه التي لا تبديل لها أن أمر الهداية والتوفيق ليس بيد أحد حتى ولا بيد الأنبياء بل كله بيد الله تعالى وحده مع أن إخوة يوسف تغلبت عليهم تلك الغريزة البشرية القاهرة التي غالبا ما تدفع الإنسان إلى ارتكاب الإثم التي غالبا ما تدفع الناس إلى اقتراف الذنوب تلك الغريزة التي دفعت أحد ابني آدم إلى قتل أخيه إنها الحسد فالحسد هتف من أعماق نفوسهم من أعماق نفوس إخوة يوسف ليوسف وأخيه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة مع أن أباهم لم يظلمهم فهو نبي والأنبياء لا يظلمون ولذلك لا نشك أبدا أن يعقوب عليه السلام كان في معاملته مع أبنائه جميعا عادلا منصفا لا نشك أبدا أن يعقوب عليه السلام كان يسوي بين يوسف وإخوته في الواجبات والحقوق كما هو الواجب على كل أب ولكن ليس معنى التسوية بين الأولاد في الواجبات والحقوق أن نغفل الفروق الطبيعية الجبلية بينهم فواجبات الصغير وحقوقه ومتطلباته ليست كواجبات الكبير وحقوقه ومتطلباته وواجبات، الابن وحقوقه ومتطلباته ليست كحقوق البنت وحقوقها ومتطلباتها ولكن العدل والإنصاف هو أن يحافظ الأب في هذا المجال بالميزان بين أولاده فيعتبر في كل واحد منهم حقوقه ومتطلباته الطبيعية.

سئل رجل من العرب: أي ولدك أحب إليك فقال: صغيرهم حتى يكبر وغائبهم حتى يحضر ومريضهم حتى يشفى فالعدل والإنصاف المطلوبان من الأب بين أولاده إنما هو في الظاهر أي فيما يظهره لهم باختياره أما المحبة أما محبة القلب وميله فهذا أمر قاهر لا يد لأحد فيه وقد كان يعقوب عليه السلام في قرارة نفسه يحب ابنه يوسف أكثر من باقي أبنائه لما رأى فيه من مخايل النبوة وتفرد فيه من علاماتها كان يحبه أكثر من باقي إخوته ويبدو أن علامات هذه المحبة الخاصة ظهرت لإخوة يوسف على الرغم من حرص يعقوب عليه السلام على العدل والإنصاف في معاملتهم جميعا ولكن على حد قول الشاعر:

دلائل الحب لا تخفى على أحد كحامل المسك لا يخلو من العبق

فالأب ليس ملوما في ما لا يملكه من محبة القلب وميله وإنما هو ملوم فيما يفعله باختياره من أنواع المعاملة والبشاشة والعطية والهبة الرعاية ونحو ذلك فإنه إذا أظهر تفريقا بين أبنائه في هذه الأمور فهو لم يظلمهم فحسب وإنما يدفعهم دفعا إلى التحاسد والتباغض وربما إلى التظالم لأن الولد الذي ميزه على غيره يشعر بعلو منزلته على باقي إخوته فلربما دفعه ذلك إلى ظلمهم والتسلط عليهم والعدوان ولم يصدر شيء من ذلك من يوسف عليه السلام وهو في كنف أبيه ولم يقع منه عليه السلام أي تقصير في العدل والإنصاف بين ولده ومع ذلك فقد تغلبت تلك الغريزة القاهرة تلك الغريزة البشرية الخطيرة تغلبت على قلوب إخوة يوسف غريزة الحسد فيا لها من غريزة قاهرة خطيرة ما أعظم سلطانها ما أقوى سلطانها وأشد نارها علينا جميعا أن ننتبه إلى هذا الأمر وأن نعدل وأن ننصف بين أولادنا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق))(1)[1] أي هو ينفقه في أوجه الخير صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسد معناه تمني زوال النعمة من الخير سواء تمنى تحويلها إليه أم لا ولا يلزم فيها أن تتحول من مجرد شعور في القلب أو خاطر في الذهن إلى فعل وسعي بل يكفي فيها فعل القلب فإن الحسد عمل قلبي أي شعور يطرأ على القلب خاطر يخطر في الذهن وشعور يطرأ على القلب فيسيطر عليه ويتمكن منه إذا ما استسلم الإنسان له وتمادى فيه فإنه يأثم بذلك وأما إذا بادر بالتخلص من ذلك الشعور وبادر بطرد ذلك الخاطر الخبيث من عقله فإنه يسلم من الإثم أما إذا استسلم له وتمادى فيه فإنه يأثم وإن كان مجرد فعل قلبي أما إذا حرك هذا الشعور الخبيث حرك جوارح الإنسان إلى الفعل وإلى السعي والمكر في سبيل إزالة النعمة من الغير فإن الإثم حينئذ يضاعف لأن الإثم حينئذ يكون على فعل القلب وعلى فعل الجوارح وأما ما لا يلام عليه الإنسان ولا يؤاخذ فيه فهو أنه إذا رأى نعمة على إنسان أن يتمنى مثلها دون أن يتمنى زوالها من الغير وهذا ما يسمى بالغبطة أو الاغتباط وهو المراد بهذا الحديث هنا وهو في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين)) بدليل الرواية الأخرى: ((لا اغتباط إلا في اثنتين)) فإن الاغتباط يؤدي إلى التنافس في فعل الخير وهذا أمر مطلوب بين الناس مطلوب منا جميعا أن نتنافس في أوجه الخير وفي فعل الخير وبدون الاغتباط وبدون التنافس في ذلك فإن أفراد المجتمع يبقون عناصر ميتة مشلولة لا يحركها محرك إلى العمل والإنتاج فالغبطة والتنافس محرك إيجابي للإنسان يدفعه إلى العمل والإنتاج وفعل الخير والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خص شيئين بالذكر وهما العلم والمال لأنهما عنصران أساسيان في بناء المجتمع فعلى الجميع أن يتنافسوا في سبيل تحصيل العلم ولكن العلم المؤدي إلى العمل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على قوله: ((رجل آتاه الله القرآن)) بل وصفه بالعمل فقال: ((فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار)) وكذلك المال فإن على الناس أن يتنافسوا فيه ولكن ليس في تحصيله وجمعه وتخزينه فحسب فإن هذا ليس أمرا إيجابيا ولا فعلا منتجا وكذلك ليس المراد أن تحصل المال لتنفقه في أوجه الشر في البذخ والإسراف فهذا ليس أمرا بناء في المجتمع بل هو أمر هدام فيه إفساد للمجتمع وموجب لعقوبة الله تعالى قال سبحانه: كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما [الفجر:17-20]. إنما المراد بالمال هنا والتنافس فيه التنافس في جمعه لإنفاقه في أوجه الخير كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فسلطه على هلكته في الحق أي على إنفاقه في أوجه الخير)) فهذا عنصر بناء في المجتمع ينبغي أن يتنافس فيه الجميع.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا بن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: ك: العلم (73).

(1/289)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة

الترفيه والرياضة, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

20/5/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الآيات ( 11 – 18 ) وما فيها من روعة وبلاغة القرآن وإيجازه في عرض المواقف - تنفيذ المؤامرة على يوسف – حفظ الله ليوسف ولعباده الصالحين المخلصين – جواز ممارسة بعض الرياضات التي تُنَمِّي روح الحماس والجهاد وأمثلة على ذلك من السيرة ( السبق بين الخيل – مصارعته صلى الله عليه وسلم رَكانة – لعب الحبشة بالحراب .. )- واقع الرياضة في هذا العصر ودورها في إلهاء الشباب وإفسادهم – الواجب تجاه ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: قالوا مالك لا تأمنا علي يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا علي قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان علي ما تصفون [يوسف:11-18].

على عادة القرآن الكريم في أسلوبه المعجز العظيم , هذه الآيات القلائل تتحدث عن جملة من المواقف, مواقف هذه القصة الكريمة لو بسطت بسطاً بأقلام البشر لملأت صفحات وصفحات ولكن هذه الآيات القرآنية اختصرتها وطوتها طياً في عبارات قوية السبك رائعة الإيجاز.

هؤلاء أخوة يوسف الحاسدون له الحاقدون عليه وقد بدؤوا ينفذون مؤامرتهم عليه, هاهم يراودون أباهم لعله يرسله معهم وهم ذاهبون إلي الصحراء لرعي مواشيهم وأبوهم غير واثق بهم, إنه مشفق على صغيره منهم والله أعلم بمراده إذ قال: وأخاف أن يأكله الذئب أي ذئب يقصد الذئب الحقيقي الحيواني أم الذئب البشري وهو أعظم مكراً وأشد خطراً وإفساداً ولكن العجيب في القصة أنه لأمر ما أرسله في نهاية الأمر معهم كأنه عليه السلام لم يخطر على باله أن حسدهم له سيبلغ حد قتله أو حد التفكير في قتله ومحاولة القضاء عليه أو التفريط بشأنه بشأن ابنه يوسف, لكنهم كانوا قد أجمعوا أمرهم واتفقوا علي أن يلقوا أخاهم يوسف في غيابة الجب, والجب هو حفرة تحفر في أرض الصحراء تكون واسعة في أسفلها وضيقة في أعلاها تجتمع فيها مياه الأمطار والسيول والغيابة هو كل شيء غيب عنك شيئاً ولذلك يسمى القبر غيابة.

وألقى يوسف الصبي الصغير النبيل الكريم الطري العود ألقي في ذلك الجب الموحش المهلك وياله من موقف عصيب فماذا عساه يفعل ذلك الصغير, ذلك الصغير الذي لم يخبر بعد تجارب الحياة ولم يعارك قسوتها ولم يصلب بعد عوده وتشتد قناته, ماذا عساه يفعل وقد وجد نفسه في غيابة ذلك الجب الموحش المهلك؟ ولكن هكذا العلماء يربيهم الله تعالى بنار المحن وينشئهم في غمار الشدائد والصعاب, فإن حياة الكسل والخمول وحياة اللهو والترف واللعب لا تليق بأمثالهم.

والدرس المهم في هذا أن الله جل جلاله لا يضيع عباده المخلصين إنه معهم دائماً يصنعهم على عينه ويرعاهم برعايته ويكلؤهم بكلائته , فها هو يوسف في قاع ذلك الجب الموحش المهلك حزيناً خائفاً دامع العينين مما صنعه به أخوته وإذا بعناية الله تعالى ورحمته تتداركه وهو في قاع الجب كما تداركت يونس وهو في بطن الحوت , يظهر جبريل عليه السلام ليوسف ويطمئن قلبه ويثبت فؤاده ويخبره بأنه نبي وأنه سيخرج من هذا الجب وستكون العاقبة له وأنه يوماً ما سينبئ إخوته بصنيعهم هذا وهم لا يعرفونه ولا يشعرون به وعلم جبريل عليه السلام يوسف دعاء يدعو به إذا أراد أن يخرج من هذه المحنة وهو: يا مؤنس كل غريب ويا صاحب كل وحيد ويا ملجأ كل خائف ويا كاشف كل كربة ويا عالم كل نجوى ويا منتهى كل شكوى ويا حاضر كل ملأ يا حي يا قيوم اقذف رجاءك في قلبي حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك واجعل لي من أمري هذا فرجاً ومخرجاً إنك على كل شيء قدير.

ولما سمعت الملائكة دعاء يوسف جأرت إلى ربها قائلة: يا إلهنا إننا نسمع صوتاً ودعاء, الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبي.

وبات يوسف ليلته في قاع ذلك الجب يلهج بهذا الدعاء فما أصبح حتى أخرجه الله تعالى من ذلك الجب, خرج من قاع الجب إلي فسحة القصر, قصر العزيز عزيز مصر, فسبحان من بيده الجبروت والملكوت سبحانه ولي الصالحين ونصير الضعفاء, سبحانه وتعالى يحمى عباده المخلصين ويدافع عن المؤمنين, سبحانه هو الرؤوف الرحيم اللطيف الودود العزيز الحكيم.

وهذا درس لكل الصالحين فمهما اشتدت الخطوب وادلهمت الفتن وتلاطمت المحن وكثر الخبث وتوالت الأرزاء فان الملجأ والملاذ والمنجي والمعاذ هو رب العالمين فلتلهج الألسنة فلتجأر القلوب بذكره والثناء عليه والتذلل بين يديه والإلحاح عليه بالدعاء والرجاء فما خاب من وقف ببابه ولا من تعلق بأعتابه كيف وهو ينزل كل ليلة إلي السماء الدنيا ينادى عباده: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر:60].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فبمناسبة قوله تعالى: أرسله معنا غداً يرتع ويلعب [يوسف:12]. وقوله: إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف [يوسف:17]. نقول قد ثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سابق بين الخيل, أجرى السباق بين الخيل بين أصحابه أما المضمرة فمداها من الحفياء إلى ثنية الوداع وأما التي لم تضمر فمن ثنية الوداع إلي مسجد بني زريق, وذكر أصحاب الأخبار والسير أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس على الطرف الشرقي من جبل سلع يشرف على هذا السباق وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يشارك فيه بنفسه على ناقة له تسمى العضباء وكانت لا تسبق, فجاء مرة أعرابي على قعود له فسبقها فصعب ذلك على المسلمين وثقل على أصحابه صلى الله عليه وسلم فلما عرف النبي ذلك منهم قال: ((إنه حق على الله أنه ما ارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه))(1)[1]. وثبت عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صارع ركانة وكان ركانة مشركاً وكان لا يصرع ولا يغلب أبداً فغلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرعه فأسلم ركانة(2)[2].

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أن الحبشة كانوا يلعبون بين يديه بالحراب(3)[3], هذا لعب ينمي الروح العسكرية والحماس في نفوس الصحابة, يلعبون بالسلاح بين يديه صلى الله عليه وسلم وهكذا فإن هذه الأنواع من أنواع الرياضات في الإسلام المقصود بها الإعداد للجهاد, إعداد الشباب للجهاد بتقوية أبدانهم وتنمية معنوياتهم وروح العسكرية والفروسية فيهم, هكذا هي الرياضة في الإسلام ليست لهواً ولا عبثاً فلا لهو ولا عبث في حياة المسلم, كيف وربنا عز وجل ذكر من صفات المسلمين المؤمنين أنهم لا يعبثون فقال جل من قائل: والذين هم عن اللغو معرضون [المؤمنون:3].

أما الرياضة في هذا العصر فمضيعة للشباب وإفساد لهم واستهلاك لقدراتهم وطاقاتهم فيما لا يعود علي الأمة بأي مصلحة, الرياضة اليوم متهمة كالإعلام فإنهما أصبحا في هذا العالم البائس المتفرنج وسيلتين من أخبث الوسائل للفساد والإفساد, من يستطيع أن يزعم أن أولئك الشباب الذين شمروا سراويلهم عن عوراتهم وانقطعت أنفاسهم وهم يجرون وراء قطعة مكورة من الجلد أنهم بذلك يعدون أنفسهم لأمر عظيم, يعدون أنفسهم للجهاد, من يستطيع أن يزعم أن تلك الجماهير المتكدسة علي مدرجات الملاعب ترقص وتطبل وتزمر وتزعق زعيق المجانين, أنهم يهيئون أنفسهم ويروضون مواهبهم للدفاع عن الأمة والذب عن حرمة الدين, من يستطيع أن يقول ذلك فان كذبه أوضح من الشمس, تلك أحوال عجيبة ومهازل مكشوفة ومخازي مفضوحة وأحوال سيئة لا تليق بشباب المسلمين, فعلى كل شاب عاقل أن يربأ بنفسه عن تلك الرياضات الإفرنجية التي وفدت علينا وأن يبحث عن رياضة الإسلام.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا علي خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) أصله في البخاري: ك: الجهاد (2717).

(2) أخرجه أبو داود: ك: اللباس (4078)، والترمذي: ك:: اللباس (1784).

(3) أصله في البخاري: ك: اللباس المناقب (3337).

(1/290)

الكلمة الطيبة صدقة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

آفات اللسان

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

14/1/1417

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- اللسان نعمة من نعم الله. 2- اللسان ميزان لصاحبه في الدنيا وأعمال الآخرة. 3- خطر إطلاق اللسان في غير مرضاة الله. 4- الغيبة والكذب والبذاءة . . نماذج من سوء استخدام اللسان. 5- الأمر بالكلمة الطيبة اللينة وعظم أجرها عند الله.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه .. إخوة الإيمان .. يقول الله تعالى: الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [الرحمن:1-4]. نعمة البيان من أجلٍّ النعم التي أسبغها الله على الإنسان واللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه .. لا يستبين الكفر والإيمان إلا بنطق اللسان وكل مجالات العلوم بيانها اللسان، وهو آلة البيان وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير، وله في الشر باعٌ طويل، فمن استعمله للحكمة والقول النافع وقضاء الحوائج وقيده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة وهو بالنجاة جدير، ومن أطلق لسانه وأهمله، سلك به الشيطان كل طريق ولا يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.

اللسان هو الميزان الذي توزن به الرجال، وتعرف به أقدارها، ما صلح منطق رجل إلا ظهر ذلك على سائر عمله، ولا فسد منطق رجل إلا عرف ذلك من سائر عمله، قال رسول الله : ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))، رواه أحمد في مسنده، والناس على مر الزمن ينظرون إلى المتكلم ويربطون بين حديثه ومطابقته للواقع وصدقه مع نفسه، وإنهم ليعرفون بثاقب نظرهم ويدركون بعميق خبرتهم الكاذب من الصادق، والمصلح من المفسد، والبَّر من الفاجر، ولذلك انقسمت أخبار الناس إلى صدق وكذب، وطيب وخبيث، وحق وباطل، يقول : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يَصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا)) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.

إن البعد عن اللغو من أركان الفلاح، وكره الإسلام اللغو، وبقدر تنزه المسلم عن اللغو تكون درجته عند الله، عن أنس بن مالك قال: ثوب رجل، فقال رجل آخر ورسول الله يسمع أبشر بالجنة، فقال رسول الله: ((أولا تدري فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه)) أخرجه الترمذي، وصاحب اللغو يُرسل الكلام على عواهنه فربما قذف بكلمة سببت بواره ودمرت حياته، وقد قيل من كثر لغطه كثر غلطه.

يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل

قال : ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه)) رواه البيهقي. يقول الله عز وجل: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [إبراهيم:24-27].

إخوة الإيمان: إن صاحب الكلمة الخبيثة لا ينطق إلا بأقوال أثيمة، لسانه لماز، وبصره غمّاز، حديثه بذاء، وفعله عدوان، لا يذكر عظيم إلا استحقره، ولا يرى كريم إلا نال من عرضه فلا يتعمد الكذب إلا متملق منافق، فهو عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية، وجبن النفس، وقديما قال الحكماء: " لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده "، ومن قلّ إيمانه بربه وخفّ من يوم الحساب خوفه، لا يبالي أن يلبس الحق بالباطل، ويصور الأشياء على غير الواقع، ويكيل التهم جزافا لأهل الحق، ومن اشتهر بالخير زورا وبهتانا وتملقا وعدوانا، سيما إن اتخذ من فهمه القاصر للدين دعما لذلك الزور والبهتان، إن الكلمة يشتد خبثها ويعظم وزر الكذب فيها إذا اتسع نطاق ضررها، فالصحفي الذي ينشر على الملأ خبرا باطلا، والسياسي الذي يخدع الناس في القضايا الكبرى، والمغرض الذي يسوق التهم في الكبراء والمصلحين، والمدّاح الذي يتخذ من المدائح الفارغة بضاعة يتملق بها الأكابر ويكيل الثناء للوجهاء، ويهرف بما لا يعرف، فيصف الجبان بالشجاعة، والظالم بالعدالة، والبخيل بالكرم، كل أولئك يرتكبون جرائم عظيمة، ويجرون على عواقب وخيمة، وفي خبر البخاري رحمه الله عن النبي فيما حدث به مما رآه من أنواع عذاب أهل النار فكان مما قال: ((أما الذي رأيته يشق شدقه في النار، فكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة)). إن أمتنا تعيش الآن أزمة عظمية في فقد الصدق الذي حل محله التناقض بين الأقوال والأعمال في كل شيء فانعكس ذلك على أحوالنا وتربيتنا وتعليم أولادنا، والله وحد المستعان، على ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف، إن من لطخ لسانه برحى الكذب وخبيث الكلم، لا بد أن تبدو سريرته وينكشف أمره، فلا يلقى من الناس إلا الازدراء والمنقصة، أما أهل الحق والإيمان فيهديهم ربهم إلى الطيب من القول ويهديهم إلى صراط الحميد، نعم إخوة الدين والعقيدة، إذا منَّ الله على عبده بصدق اللهجة، وطيب الحديث، شرف قدره، وطابت حياته، وعرف بقوة الإرادة ورجحان العقل، وسلامة الطوية، والناس في معاملاتهم لا يطمئنون إلا إلى صدوق اللسان، فحكمه عندهم عدل، وشهادته بر، ومعاملته بركة، يأمنونه على أموالهم وأهليهم مؤتمن في الأحياء وفي الأموات، في الوصايا والأوقات في الودائع والأمانات، ولا يستقيم لأحد سؤدد أو يحرز في قلوب الناس منزلة إلا حين يهبه الله لسان صدق، فيصّدقونه الناس إذا تحدث ويفقدونه إذا غاب، يقول علي : " من كانت له عند الناس ثلاث، وجبت له عليهم ثلاث: من إذا حدثهم صدقهم، وإذا ائتمنوه لم يخنهم، وإذا وعدهم وفىّ لهم، وجب له عليهم أن تحبه قلوبُهم، وتنطلق بالثناء عليه ألسنتهم، وتظهر له معونتهم ". الطيب من القول أيها الإخوة دائرته واسعة إذا ما وفق له العبد، وسلك فيه مسالك الإسلام والتزم توجيهات القرآن وآداب السنة، يقول جل وعلا: وقولوا للناس حسناً ويقول موجها: ((الكلمة الطيبة صدقة)).

وما أجمل أن يعودّ الإنسان لسانه الجميل لين القول فإذا ما تكلم لم يقل إلا خيرا، والكلام الطيب العف يجمل مع الأصدقاء والأعداء جميعا وله ثماره الحلوة، فهو مع الأصدقاء يحفظ مودتهم، ويستديم صداقتهم، يمنع كيد الشيطان أن يوهي حبالهم ويفسد ذات بينهم: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً [الاسراء53] وحسن الحديث مع الأعداء يطفئ خصومتهم، ويكسر حدتهم، أو يوقف تطور الشر، واستطارة شرره: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم يقول: إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الُخُلق)) رواه البزار في مسنده، إن الحرمان مع الأدب خير من العطاء مع البذاذة، يقول الله جل وعلا : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم [البقرة:263] يقول أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : " ينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا، ووجهه منبسطا مع البر والفاجر من غير مداهنة، لأن الله قال لموسى وهارون: فقولا له قولاً ليناً .. . فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما ربهما باللين معه "، وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء : إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فّي حدّة فأقول لهم بعض القول الغليظ فقال : لا تفعل ،يقول الله تعالى: وقولوا للناس حسناً [البقرة:83]. قال عطاء: " فدخل في هذا اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي "، وقال شريك بن سنان لسعيد بن جبير رحمه الله : " المجوسي يوليني من نفسه ويسلَّم علي أفأرد عليه، فقال سعيد: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو ذلك، فقال : لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه ".

فأين من جعلوا خلافهم سببا للهجران والقطيعة، ولم يمسكوا زمام ألسنتهم عن الشتم والسب، وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شؤون الناس ونياتهم أساء وإذا سلطها على حقائق الدين شوه جمالها، وأضاع هيبتها، وحرف قصدها، قال رسول الله : ((إن أبغض الرجال إلى الله الألدَّ الخصم)) أخرجه النسائي.

معاشر الأحبة : إن الكلام اللين كما يقول بعض الحكماء : " يغسل الضغائن المستكينة في الجوارح "، فكل كلام لا يضر في دينك، ولا يسخط ربك، ويرضي به جليسك فلا تكن به بخيلا يعوضك الله به ثواب، ومن كلام وهب بن منبه: " ثلاث من ُكنَّ فيه أصاب البر، سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام " متفق عليه.

ومن حديث عدي بن حاتم: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيبة)) وعن أبي المقدام عن أبيه عن جده قال : قلت للنبي أخبرني بشيء يوجب الجنة، قال: ((عليك بحسن الكلام وبذل الطعام)) أخرجه البخاري والحاكم وابن حبان وصححه الألباني .

إخوة الإيمان: ذلكم هو صلاح المنطق وفساده، إما إخبار وبيان للواقع ومطابقة للمعتقد ومؤانسة للمجالس، وإما حديث بالباطل، وفحش في القول، وبذاء في الكلام، … فاتقوا الله رحمكم الله وألزموا الصدق والطيب من القول فإنما يصعد إلى ربكم الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا ًسديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].

بارك الله لي ولكم في القرآن . . .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/291)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

القرآن والتفسير, القصص

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

27/5/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الآيات من ( 16- 18 ) : تنفيذ المؤامرة على يوسف , وموقفهم من أبيهم – براعة الوصف القرآني للموقف – علامات كذبهم , وإدراك أبيهم كذبَهم ومؤامرتهم – معنى الصبر وفضله , وصبر يعقوب لمّا نُعي إليه ابنه

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فقد قال الله تعالى: وجاؤوا أباهم عشاء يبكون. قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاؤوا علي قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:16-18].

بعد أن نفذ أخوة يوسف مؤامرتهم الشنيعة وتخلصوا من أخيهم يوسف بإلقائه في ذلك الجب الموحش المهلك وحيداً ضعيفاً لا حول له ولا حيلة وبذلك خلا لهم وجه أبيهم على حد زعمهم, كان لابد لهم أن يواجهوا أباهم ذلك الأب الشيخ الجليل النبي يعقوب عليه السلام وقد وعدوه أن يكونوا ليوسف ناصحين وأن يكونوا له حافظين وتعهدوا له بحمايته والعناية بحراسته حتى لا يأكله الذئب أو يصيبه أي مكروه وإن مواجهة أبيهم الذي لم يكن أصلاً واثقاً بهم وكان شديد التعلق بابنه الصغير يوسف شديد المحبة له حتى إنه لا يطيق فراقه ويحزنه ابتعاده عنه, إن مواجهة أبيهم تحتاج منهم إلي قدر كبير من التمويه والخداع وبدؤوا تمثيليتهم جاءوا إلى أبيهم في أول الليل يحملون له النبأ المفجع المحزن, يظهرون حزناً ويذرفون دموعاً, إنهم يتباكون بل هم من شدة عنايتهم بالتباكي تحول تباكيهم إلى بكاء حقيقي ولذلك قالت الآية يبكون ولم تقل يتباكون جاؤوا أباهم عشاء يبكون ولم تقل يتباكون, فأظهروا حزنهم وذرفوا دموعهم وبكوا وهم واقفين بين يدي أبيهم المفجوع المحزون لذلك النبأ كل هذا صورته الآية في إيجاز محكم بديع في أربع كلمات فقط اختزلت صفحات وصفحات جاؤوا أباهم عشاء يبكون فأي وصف أبدع من هذا الوصف وأي وصف أجمل من هذا الوصف وأي تعبير أقوى من هذا التعبير, ياله من إبداع محكم بديع السبك كثير المعاني واسع الدلالات, تأملوا مثلاً قوله عشاء لم لم يقل ليلاً؟ العشاء أدق معنى وأرق وصفاً من الليل إنه تلك السويعات من أول الليل حين تختفي شمس الغروب تلملم ذيولها الذهبية ولا يبقى أي أثر لشفقها حين يغيم الدجى بعباءته السوداء على تلك الروابي الصحراوية من بادية فلسطين حيث كان يقيم يعقوب النبي عليه السلام مع أهله وولده, فياله من تحديد بديع للوقت الذي جاؤوا فيه إلى أبيهم ينقلون له ذلك الخبر المفجع, يا للأسى يأخذون يوسف العزيز الحبيب نهاراً وهاهم جاؤوا ينعونه إلى أبيهم ليلاً ولكن هل أتقن المتآمرون حبك التمثيلية وتلفيق الكذبة؟ دائماً يترك المجرم وراءه خيوطاً تدل على فعلته وتكشف ما اقترفت يداه وإنما يدرك ذلك أولو الألباب, والنبي يعقوب عليه السلام هذا الأب الجليل أدرك بفطنته وفراسته أدرك زيف تلك الخديعة وكذبها لعدة قرائن:

أولها: أنهم بادروا بلا روية إلى استخدام نفس السبب الذي أبداه الأب قبل أن يرسل معهم يوسف حينما عبر عن مخاوفه من أن يأكل الذئب يوسف, فما أسرع ما اصطادوا هذا السبب واتخذوه عذراً يتسترون وراءه, ما أسرع ما كان ذلك الذئب الذي خافه يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف, ما أسرع ما كان حاضراً فأكل يوسف كما زعموا.

ثانيها: القميص قميص يوسف الذي اتخذوه بينة على عدوان الذئب عليه وهو بريء من دمه والدم المزيف الذي لطخوا ذلك القميص به فضحهم ونادى بكذبهم فكيف ينهش الذئب جسد يوسف ولا يمزق قميصه ولذلك روى عن يعقوب عليه السلام أنه لما رأى قميص ابنه ملطخاً بالدم سليماً من التمزيق قال لهم: يا بني إنه لذئب حليم هذا الذي أكل يوسف ولم يمزق قميصه.

ولقد عبرت الآية عن هزال هذه الخديعة وانكشاف هذه الكذبة عبرت بقوله سبحانه: وجاؤوا على قميصه بدم كذب فوصف الدم بأنه كذب كأن الدم نفسه صار نفس الكذب وإلا فالمعنى بدم ذي كذب أو بدم مكذوب وهذا من أسلوب العرب في لسانها أنها تصف بالمصدر بدلاً من اسم المفعول زيادة في التأكيد ومبالغة في توضيح المرام, فهذه الخديعة من شدة وضوحها وانكشافها وهزالها صار الدم نفسه كذباً فلم ينفع أولئك المذنبين كذبهم ولا تمويههم ولا خداعهم ولا حرصهم علي إخفاء معالم جريمتهم, وهكذا يأبى الله تعالى إلا أن يظهر آثار الجريمة دائماً ولو بعد حين وهذا من حكمته ولطفه ورحمته بعباده سبحانه وتعالى, ولقد أعلن يعقوب عليه السلام شكه وارتيابه في تلك الدعوى التي سمعها فقال عليه السلام: قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18]. وكم في كلمة "سولت" هذه الكلمة القرآنية البديعة من معان كبيرة ودلالات واسعة خاصة في عالم الجريمة وعالم الذنوب ولكن لعلنا نذكر طرفاً من ذلك في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له))(1)[1] رواه مسلم.

الصبر هو احتمال حكم الله تعالى والرضا به سواء كان حكماً قدرياً كونياً وهي الوقائع والحوائج التي تقع للناس والمصائب التي تحل بهم أو كان حكماً دينياً شرعياً وهي أوامر الله ورسوله ونواهي الله ورسوله فمن فعل ذلك وصبر على حكم الله ورضي به وأظهر الرضا بحكم الله عز وجل فقد كسب الرضا من ربه وأما من لم يصبر على حكم الله ولم يرض به بل سخط من حكم الله وأظهر السخط والجزع فقد كسب السخط من الله تعالى وكذلك من يجزع ويظهر الجزع ولا يتجلد عند حلول المصائب والفتن فإنه يكون كأنما اتهم ربه عز وجل شعر بذلك أم لم يشعر, ولماذا تجزع يا أيها المؤمن وأنت تعلم أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وأن الملك كله لله يفعل فيه ما يشاء لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى, ولماذا تخاف وتفزع من النوائب والمصائب والحوادث وأنت تعلم أنك وغيرك في كلاءة الله تعالى وعنايته ورعايته, ربما كرهت شيئاً من المصائب التي تحل بك وفيها خير لك وأنت لا تدري, يغفر الله لها بك من الخطايا ويكفر من السيئات ويرفع في درجاتك وربما يدفع بها بأساً أعظم وفتنة أكبر ومصيبة أشد وربما كانت ابتلاء وامتحاناً لك لينظر ربك سبحانه كيف تفعل, فإذا ما وجدت نفسك في وسط المصائب والفتن وقد حفت اليوم المصائب والفتن المسلمين في كل مكان فتذكر يا مؤمن حكمة ربك عز وجل وعدله ولطفه ورأفته ورحمته بعباده فإن ذلك يعينك على الصبر وحينئذ إذا تذكرت ذلك وحضر إيمانك به وتذرعت بالصبر فإنه تحيطك أعين العناية الإلهية والرعاية الربانية على حد قوله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [الطور:48]. فمن صبر لحكم ربه فإن أعين الرعاية الإلهية وأعين الكلاءة الربانية تحوطه حينئذ والعاقبة للمتقين وإن الله عز وجل لا يضيع أجر المحسنين وهو سبحانه مع الصابرين يوفيهم أجرهم بغير حساب.

تأملوا كيف كان موقف يعقوب عليه السلام لما نعي إليه ابنه الصغير العزيز الحبيب إلى قلبه ماذا قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون , تذرع عليه السلام بالصبر وتقوّى بالاستعانة بالله تعالى وهذان ركنان الصبر الجميل وهو الصبر الذي لا جزع فيه ولا شكوى والاستعانة بالله تعالى وحده, هذان ركنان ما لجأ إليهما مكروب أو مهموم إلا كشف الله عنه كربته وأزال همه وغمه ونصره سبحانه وتعالى, فهذان ركنان عظيمان علينا جميعاً أن نتمسك بهما ونلجأ إليهما وخاصة عند توالي الفتن وتواتر المحن, قال عمر الفاروق رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا في الصبر لما في ذلك من الرضا حكم الله عز وجل والخضوع لحكمه سبحانه وتعالى".

قال تعالى: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم [محمد:31].

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) مسلم: ك: الزهد والرقائق (2999).

(1/292)

حماة المجتمع

-----------------------

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

5/5/1416

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 2- لنا فيما مضى من القرون عبرة ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم..). 3- أهل الحسبة ورجالها لا يبغضهم إلا منافق. 4- رجال الهيئة هم صمام الأمان للمجتمع. 5- واجبنا نحو هذه الفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى روي في السير أن المسلمين لما فتحوا جزيرة قبرص تفرق أهلها شذر مذر فبكى بعضهم إلى بعض فرئي أبو الدرداء يبكي، فقي له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال : " ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى " عندما نقلب صفحات التاريخ وأحداثه نجد أن أمما وحضارات سادت ثم بادت، وحينما تتعمق في البحث عن أحواله هذه الأمم نجد أن أوان قوتها وازدهارها إن حفظت لنفسها ما يصلح دنياها ومجتمعها فاستمرت عليه، وما لبث انتشار الفساد ورواجه وتقوّي أهله أن قلب موازين هذه الأمة، وحساباتهم، فلم تلبث أن تنحدر في مهاوي السقوط حتى كانت أثرا بعد عين لم نعد نذكر منها إلا ما ذكره التاريخ عنها فكان الفساد وأهله هم الذين قضوا عليها.

إخوة الإيمان: كان من نعم الله عز وجل على عباده المؤمنين لاستمرار أمتهم أن جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخصائص والميزات التي اختص الله جل وعلا بها هذه الأمة من بين سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل يقول الله عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، فسبب خيرية الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتركوا الفساد يستشري في جسدهم بدون إنكار عليه، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مؤهلات أمة الإسلام التي اختصت بها كما أنه ضمان للمجتمع وحماية له من التلوث في الأخلاق وحماية له من الانحراف ودواعيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان من الله عز وجل للأمة من حلول العقوبات ونزول النكبات: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:116-117]. نعم، وأهلها مصلحون، روي في الحديث الصحيح أم سلمة رضي الله عنها قالت أن رسول الله استيقظ ذات ليلة فزعا، وقال: ((ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مقدار هذا وأشار بيده، فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث)) إذاً مع غياب هذه الفريضة تفتح أبواب البلاء وتنعقد أسباب الهلاك وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأولويات المهمة للمجتمع المسلم قال الله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .

إخوة الإسلام: إننا أمة ما قامت في هذا البلد على عصبية قبلية أو نخوة وطنية أو عرق أو حدود، وإنما قام بلدنا وتأسس على التوحيد ولذلك فليس بغريب أن توجد هيئة متخصصة حكومية للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيقا لخيرية هذه الأمة وحماية للمجتمع والفرد.. إن هذا ليس بغريب بل نحمد الله عز وجل أن تحقق لنا مثل هذه الهيئات التي تقوم بهذا الدور المهم، ولكن المستغرب إخوة الإيمان أن نرى بعضا من مجتمعنا لا همَّ لهم إلا الكلام بحقد على الهيئات ورجالها، والتنذر بهم وسرد الحكايات الموهومة والقصص المزعومة عن تجاوز رجال الهيئة كما يدعى ويصور.. ويغيب عن هؤلاء الذين أطلقوا لألسنتهم العنان دور رجال الهيئات وأي بلاء يدافعونه وأي فساد عريض يواجهونه، وأي إنجاز ضخم حققوه للمجتمع، قد لا نشعر به لأننا كفينا مؤنة ذلك فلم نتجرع مرارته، إن إنجازات رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنجازات ضخمة لا يشك أحد أنها فوق إمكانياتهم وفوق قدراتهم يكفي أن نرى أسواقنا مثلا كيف كانت قبل سنوات مضت ثم بعد جهود الهيئات وهذه الصحوة المباركة أصبحت، حتى أن النساء أصبحن يأمن على أنفسهن من تعرض ذئب غادر لإحداهن في الغالب الأعم، إن رجال الهيئات يقفون خلف ذلك، وصدقوني أنه لو غُفِلَ عن الأسواق فقط لا نفتح علينا من أبواب الفساد ما نغرق في نتنه ولست بصدد سرد إنجازات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل أذكر لكم محاربتهم للأفلام الممنوعة التي لو تيسرت لشبابنا لما استطعنا مقاومة أثرها الهادم، هل أحدثكم عن مصانع الخمور التي يقبع خلفها بعض الفاسدين والتي تمسك بها الهيئة، كذلك المخدرات التي يقاومها رجال الهيئة بمعونة رجال مكافحة المخدرات، ترى هل أحدثكم عن معالجة رجال الهيئة للانحرافات الخلقية وكيف نذروا أنفسهم للإصلاح أولا ثم الحماية ثانيا، كم فوت رجال الهيئة الفرصة على ذئاب يريدون اغتيال عفة فتاة بريئة، كم من قضايا أخلاقية عالجها رجال الهيئة بالستر على أعراضٍ وعوراتٍ بالتعاون مع الجهات المسئولة فحموا بيوتا كادت أن تنهار، انظروا إلى رجال تائهين كان المجتمع لا يعرفهم إلا بالفساد وبفضل الله عز وجل ثم رجال الهيئات ومحتسبي الدعوة تحولوا إلى نعيم الهداية ورجالها، فكم من ليلة ينام هؤلاء الوالغين ملء أو ملاحقة شقي عابث، ويسهرون ونحن نائمون لمواجهة المجرمين وهم عزل من كل شيء، هل دفعهم إلى ذلك، مكافأة خارج دوام ؟ هل دفعهم إلى ذلك الحرص إلى زيادة الراتب ؟ إنما دفعهم إلى كل هذا هو حب المجتمع وحمايته وقبل ذلك الإخلاص لله تعالى وحده، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، أما الأخطاء فإنني لست أنكر من خلال حديثي وقوعهم في أخطاء يسيرة هم وإدارتهم دائما حريصون على تلافيها ولكني أسائلكم إخوة الإيمان: من مِنْ الناس يعمل ويسلم من الخطأ ؟ إن أية جهة أو دائرة حكومية لا يمكن أن تسلم من الخطأ وأي مدير أو مشرف لا يمكن أن يزعم العصمة من الخطأ لموظفي دائرته أو مؤسسته، ولكننا مع ذلك نكبر أخطاء الهيئة وننظر إليها بعين نقفل هذه العين ذاتها عن أخطاء جهة أخرى، ومع كل ذلك يأتيك فئة من الناس من القعدة لا هم لهم إلا ثلب رجالات الهيئة والحديث عنهم وتضخيم أخطائهم وإغفال محاسنهم، أو تأتيك فئة أخرى من الناس يطالبون الهيئة ورجالها بأدوار فوق طاقتهم وفوق إمكانياتهم وتتجاوز صلاحياتهم، وقد تجد فئة من الناس لا ينظرون إلى الهيئات على أنها جهة حكومية بل ينظر إليها وكأنها جمعية خيرية أو أهلية لا تجد توقيرا منه، إن هذا النقد غير البناء ليس دليل خير في أي مجتمع من المجتمعات، ولا يبغض رجال الهيئة المخلصين إلا شخص قطعوا عليه شهوته، أو جاهل بما يضره في دينه ودنياه، إننا في مجتمع تأسس على الخير والحق ونشأ على الخير وأحب الخير وأهله ودعاته، ولذلك فمن الغريب جدا عليه أن يوجد فيه مثل هذا السباب لرجال نذروا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة هذا الدين فإن لم نساندهم ونأخذ على يد أولئك خسرنا جميعا، قال : ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا – يريدون عدم إيذائهم – فإن أطاعوهم وما أرادوا هلكوا وأهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))، فلابد أن نحرص على الحفاظ على سفينة مجتمعنا وعلى من أمسكوا بدفتها.

إخوة الإيمان: إن كثيرا منا يخطئ كثيرا حينما يقصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذه الجهات الرسمية، فنراه سلبيا لا يقوم بأي جهد تجاه المنكرات لا في حيه ولا في سوقه ولا في إدارته بل ولا في بيته، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة المسلمين جميعا كل بحسبه يقول : ((من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان شيء)) لقد أصبح كثير من الناس اليوم مقصرا في جيرانه بل وفي الذي أمرنا الله ورسوله به ويضع أمامه العوائق حتى يسقط التبعة عن نفسه وعن غيره بالإنكار، فأين مراسلة المسئولين وكاتبتهم عن المنكرات وأين وعظ أصحاب المنكرات ومحلاتها، أين زيارة ذوي القلوب اللاهية الغافلة عن ذكر الله وأمرهم بالمعروف ،إننا إنْ لم نقم بأمر الله ونسعى في إصلاح مجتمعنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن الذي يقوم ويسعى بذلك لقد أصبح لدى كثير من الناس خور وضعف لا يستطيعون معهما أن يتكاتفوا لمنع الشر والفساد والأخذ بيد أهله إلى جادة الحق والصواب بالحكمة والموعظة الحسنة، ولأضرب لكم مثالا في أقل الحالات، فلقد أصبح بعض المراهقين الآن يقومون برفع أصوات الموسيقى مثلا في الشوارع والأرصفة وعند الإشارات وقد يقومون بالرقص ومع ذلك لا تجد ممن حولهم حتى من أهل الخير والصلاح من ينصحهم أو يوجههم في هذا الأمر فما بالك بما هو أعظم وأنكى، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه أو يأكل معه، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوبهم مع بعضهم لبعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) ثم قال : ((والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم))، إن من المؤسف ومن المروع أن ترى أفراد أمة الإسلام لا يغارون لدين الله وحرماته، ولا يخافون من وبال أو عقاب حتى أصبح الرجل لا يتفقد أهله وولده وعماله ولا ينظر في جيرانه بل تراه يرى المعاصي فيهم وفي مجتمعه ولا ينهى عنها أو يحذر منها وهذا مما ينذر بالخطر سيما مع كثرة النعم والانغماس في الترف، إن مما شجع على استمراء كثير من الناس لهذه المنكرات وعدم إنكارها مع الأسف أننا نرى كثيرا منها يعرض في وسائل الإعلام ويمرر على مجتمعنا من خلال هذه الأجهزة التي نشتريها بأموالنا وتضييع أوقاتنا فكيف نأمر بستر المرأة وعدم مخالطتها للرجال وذلك معروض بكل سهولة وتغفلها عين الرقيب في تلك الوسائل؟ كيف نحذر ابناءنا وبناتنا من تقليد موضات الغرب وعاداتهم ونحن نتلقفها صباح مساء عبر القنوات الفضائية؟ إننا في مواجهة هذا الموج الغامر لابد من سعي حثيث لإعادة هذه الشعيرة في نفوسنا ونفوس من حولنا .

حتى النساء أُمرن بهذه الشعيرة ولم يُغفَل دورهن، يقول الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم [التوبة:71]. إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم صمام الأمان لهذه الأمة هم من ينبغي أن نحرص عليهم فهم قد نذروا حياتهم لخدمة أمتهم والدفاع عن قضاياها ولذلك فإنك ترى أثرهم على الناس عظيما، ومكانتهم في قلوب الناس عظيمة حتى ولو ماتوا أو فٌقدوا، أما أثر غيرهم ممن عاش حياته لنفسه وفَقَدَه مجتمعه فإنه إذا مات أو فُقد لم يفقده أحد أو يبكي على ذهابه إن لم يسلم من عذاب الله ومقته بعدم إنكاره وشواهد التاريخ وقصصه تدعم ذلك وتؤيده، نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا وأن يوفق رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحميهم ويكفيهم شر الأشرار وحديث الفجار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/293)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, مكارم الأخلاق

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

4/6/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

* قوله تعالى : ( وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت ... ) – معنى كلمة سولت , في القرآن ودلالتها على عناصر جذب الإنسان إلى المعصية : النفس والشيطان – من سمات المؤمنين أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ذنباً ندموا وبادروا بالتوبة – إجرام فرعون واجتراؤه على مقام الألوهية , وموقفه وموقف الطواغيت عند معاينة الموت – خطورة النفس , وضرورة حملها على الحق والهدى , وعدم الاستسلام لنزَغاتها وتطبيق ذلك على اخوة يوسف - * -------------------------

الخطبة الثانية : منزلة الصبر في القرآن وفضله – نموذجان للصبر في حديث " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " : 1-النموذج العملي : في زهده صلى الله عليه وسلم وصبره على شدة العيش 2- النموذج القولي : قوله للمرأة بعد أن جاءته : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " ودلالة ذلك ونموذج من صبر السلف

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18].

قوله سولت من السول وهو الاسترخاء يقال: سولت له نفسه كذا أي زينت وسهلت جعلته سهلا أمامه حتى يرتكبه وقد وردت هذه الكلمة مسندة في القرآن في ثلاثة مواضع إلى ثلاثة أمور:

أولا: وردت مسندة إلى النفس في هذه الآية من سورة يوسف قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا [يوسف:18].

ثانيا: وردت مسندة إلى نفس السامري الوثني الذي صنع عجلا لبني إسرائيل له خوار فعبدوا العجل فقال له نبي الله موسى عليه السلام: قال ما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [طه:95].

ثالثا: وردت مسندة إلى الشيطان في قول الله تعالى من سورة محمد: إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم [محمد:25].

وجملة هذه المواضع تلخص لنا عنصرين يتجاذبان الإنسان إلى المعصية والذنب وهما النفس والشيطان فكلاهما يزينان المعصية للإنسان ويحرضانه على اقتراف الإثم حتى يندفع بلا روية إلى حمأة المعصية والذنب تحت وطأة التزيين والتسهيل وكثير من العصاة لا يدركون فداحة ما ارتكبوا من معاصٍ وما اقترفوا من ذنوب حتى يغرقوا في حمأتها إلى الأذقان وحينئذ كثيرا ما يكون التراجع صعبا ولكن من تنبه منهم قبل فوات الأوان فندم وتاب تاب الله عليه إذا تنبه قبل فوات الأوان حيث يكون باب التوبة مفتوحا فإن الله وصف المؤمنين ذكر من أوصاف المؤمنين أنهم قد يرتكبون شيئا من الذنوب والفواحش في ساعة تكون فيها البصائر والأبصار في حالة من العمى لكنهم إذا استيقظت بصائرهم وانفتحت أبصارهم تذكروا ربهم فندموا وتابوا في الوقت المناسب فتاب الله عليهم قال الله تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [آل عمران:135]. وكذلك المجرم يرتكب جريمته في ساعة خذلان في ساعة استسلام لتزيين النفس وزخارف الشيطان ووساوسه ولكنه إذا تذكر قبل فوات الأوان وتاب قبل انصرام العمر وذهاب الزمان بحيث يتمكن من إصلاح ما أفسد إذا كانت جريمته قد ألحقت بالآخرين أضراراً ومفاسد فإنه إذا فعل ذلك في الوقت المناسب يتوب الله عليه أما إذا استمرت بصيرته مغلقة واستمر مصرا على المعصية والذنب وظلم الناس حتى حضره الموت ورأى بوادره فتاب حينئذ لا تنفعه توبته قال الله تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [النساء:17]. أي يتوبون قبل أن يدركهم الموت ماذا تريد أن تصنع أيها العاصي أيها الظالم أيها السادر في غيه تريد أن تخادع ربك وتخادع المؤمنين تملأ حياتك كلها فسادا وإفسادا تفني عمرك في معصية الله حتى إذا رأيت بوادر الموت تتوب ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما [النساء:17].

كان عليما بأحوال الناس بسرائرهم وجواهرهم حكيما فيما يقدر ويفعل ويحكم سبحانه وتعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما [النساء:18]. لم يشهد التاريخ مجرما كفرعون لم يكتف بما سفك من دماء ولا بلا ما اقترفت يداه من آثام ومظالم حتى اجترأ على مقام الألوهية وادعى الألوهية وقال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري وهذه عادة الفراعنة في كل زمان وفي كل مكان إن لم يقولوها بلسان مقالهم قالوها بلسان حالهم رددتها أجهزة إعلامهم ما علمت لكم من إله غيري [القصص:38]. وهذا غاية الاستبداد وغاية الغرور وغاية الطغيان من المخلوق واستمر فرعون في غيه وفي تجبره وطغيانه حتى إذا أدركه الغرق وأحيط به من كل مكان أحاطت به عقوبة الله من كل مكان وزال الخفاء وانكشف الغطاء صرخ فرعون في حالة الفزع: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل [يونس:90]. حتى اسم ربه لم يذكره لم يعرف ربه حتى يذكر اسمه فهل تنفع مثل هذه التوبة هل تنفع الإنسان مثل هذه التوبة مقتضى عدل الله ورحمته ألا يقبلها فقد فات أوانها ولذلك قيل في شأن فرعون: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس:91].

فيا أيها الناس: النفس خطيرة النفس خطيرة إذا حاربها المؤمن وانتصر عليها ونهاها عن الهوى وقهرها واجبرها على الهدى فقد نجا وسلم أما إذا استسلم لنزغاتها وشهواتها وأهوائها وتخاذل أمام مطالبها فتحكمت فيه غرائزها الحيوانية إذا تحكمت فيه غرائزها الحيوانية فإنها تودي به إلى الهلاك والخسران كما كاد يحدث ذلك لإخوة يوسف كاد يحدث لهم ذلك وكادوا يخسرون ويهلكون لما تحركت في أنفسهم غريزة حيوانية من أشد غرائز النفس البشرية غريزة الحسد فاستسلموا لها فتمكنت منهم وسيطرت عليهم حينئذ سولت لهم جريمة من أعظم الجرائم بعد الإشراك بالله تعالى وهي جريمة قتل النفس ولولا بركة بيت النبوة الذي عاشوا في كنفه ولولا بركة دعاء أبيهم يعقوب عليه السلام فتداركهم الله عز وجل بلطفه فتابوا في الوقت المناسب لهلكوا وخسروا وهكذا الإنسان يفكر ويدبر ويطغى ويتجبر لكن الله غالب على أمره والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:21].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فعن أنس رضي الله عنه قال: ((مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي لم تعرفه صلى الله عليه وسلم قال : فقيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن انصرف صلى الله عليه وسلم أخبروها بأنها كانت تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت إلى بيته صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى باب بيته فلم تجد عنده بوابين هكذا يقول أنس ذهبت إلى باب بيته فلم تجد عنده بوابين صلى الله عليه وسلم فقالت له: لم أعرفك فقال لها صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى))(1)[1] متفق عليه.

لقد ذكر الصبر في القرآن العظيم في خمسة وتسعين موضعا ولم يذكر وعد بالجزاء كما ورد في الصبر لم يرد وعد بالجزاء الجزيل كما ورد في الصبر فقال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10]. ثم تأملوا هذا الحديث النبوي الشريف تجد فيه أنموذجين للصبر أحدهما عملي والآخر قولي أما العملي فيتجلى في حال سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف عاش متقللا من الدنيا عازفا عن زينتها وبهارجها وزخارفها مترفعا عن خيلائها وترفها بينما هو أكرم الخلق وأعظم الخلق أين منه الأكاسرة والقياصرة والجبابرة وسائر ملوك الدنيا لا يساون في القدر قلامة ظفر من أظفاره صلى الله عليه وسلم ومع ذلك انظروا الفرق بينه وبينهم أما هم فوجه بعضهم أنهم استعبدتهم الدنيا بزخارفها وشهواتها وخيلائها وزخارفها هذا وجه بعضهم وأما وجه عظمته صلى الله عليه وسلم فإنه كان أرفع وأسمى من أن تستعبده تلك الدنيا الغرارة فعاش صلى الله عليه وسلم عيشة المساكين بينما الدنيا كلها بين يديه إن أراد وأحب عاش عيشة المساكين لم تجد تلك المرأة المكلومة الحزينة عند بيته بوابين لا حجاب ولا حرس ولا ستور ولا عوائق لما أرادت أن تعتذر له صلى الله عليه وسلم من خشونتها في الجواب فإنها لم تعرفه وكانت تحت وطأة المصيبة لما أرادت أن تعتذر له وجاءت إلى بيته لم تجد أي عوائق تعوق بينها وبين لقاء أكرم الخلق وأعظم الخلق صلى الله عليه وسلم هذا الأنموذج العملي أي نفس عظيمة تلك النفس التي صبرت على ذلك وآثرت ما هو خير وأبقى على هذه الدنيا الفانية ما أعظمها من نفس تلك النفس الشريفة أما الأنموذج الثاني فهو في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) فهذه قاعدة عظيمة لو التزمها المسلم في حياته العملية فإنه لا يغلب ولا يخسر لأنه لا يستدرك ولا يستفز لا تستطيع شياطين الإنس والجن أن تستدركه إلى حبائلها ولا تستفزه في إيمانه ودينه لو التزم المؤمن بهذه القاعدة فإنه لا يغلب ولا يخسر أبدا إذا تسلح بالصبر وخاصة في تلك اللحظات الحرجة في اللحظات الأولى من المواجهة من مواجهة المصائب والحوادث والأمور التي يقدرها الله عز وجل عليه إذا تسلح بالصبر في اللحظات الأولى فإنها لحظات تنهار عندها عزائم الرجال في الغالب وتغور قواهم ويذهب تجلدهم وتضيع أناتهم وحكمتهم. في صحيح مسلم أن أبا طلحة رضي الله عنه مات ابن له صغير من أم سليم فقالت أم سليم لأهلها: لا تحدثوه بابنه حتى أكون أنا أحدثه فلما جاء أبو طلحة قدمت إليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع من قبل أي تزينت وتهيأت فوقع بها جامعها فلما أن رأت أنه شبع وأصاب منها قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوها قال: لا قالت: احتسب ابنك فغضب أبو طلحة وقال: تركتيني إلى أن تلطخت ثم أخبرتيني أي تركتيني إلى أن تلطخت من الجماع ثم أخبرتيني بموت ابني فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان أي بما حدث بموت ابنه وبفعل امرأته أم سليم رضي الله عن الجميع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بارك الله لكما في ليلتكما))(2)[2] ما أعظمه من مكسب يثني به الرسول صلى الله عليه وسلم على موقف هذه الزوجة وعلى صبرها وعلى حسن صنيعها دعا لهما بالبركة بالذرية المباركة فحملت أم سليم فولدت غلاما فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله قال رجل من الأنصار لقد رأيت لعبد الله هذا من الأولاد تسعة كلهم قرأ القرآن كلهم حفظ القرآن وأتقنه وهذه بركات ذلك الدعاء النبوي الذي كان سببه موقف تلك الزوجة وصبرها على النائبة وحسن تصرفها.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: ك: الجنائز (1194).

(2) مسلم: ك: فضائل الصحابة (2144).

(1/294)

أي امرأة نريد

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

1/5/1417

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصَّكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة فتوبوا إليه واستغفروه واشكروه، عباد الله، بزغ نور الهداية يشع في ذرُى مكة المكرمة لينتشر في أنحاء العالم، ناشرا معه الفضيلة، داعيا إلى الخير، مرهَّبا من الشر، أقر الفضائل، وَنقَّص الرذائل وألغى ما يخالف الإسلام من عادات جاهلية تسلب الحقوق وتهدر الكرامات.

كان من فضائل الإسلام على المرأة أن أعاد عليها كرامتها، وحفظ عليها ماء وجهها من أن تبذله، وتستذل استذلالا مقيتا، جعلها محفوظة في بيت أبيها تُحْتَرم ويعطف عليها لأنها امرأة، يراها مكرّمة معززة في بيت زوجها تبدي رأيها وتزور أهلها وتصل رحمها، نراها أمََّا تصبح كنفا للابن وينبوع سعادة، يتدفق بأغلى عاطفة إنسانية، فتعالوا إخوتي مرة أخرى لنتحدث عن المرأة بعد أن تحدثنا في خطبتنا الماضية عن كيفية الحفاظ على المرأة فهيا بنا نتناول الحديث عن المرأة التي نريد وماذا نريد من المرأة؟!

إخوة الإيمان: كوّن آدم وحواء أول أسرة في التاريخ عاشت بعد أمر الله لهم بإنجاب الأولاد ثم تربيهم على عقيدة الله عز وجل ونبذ الشرك، إذا فالمرأة تبدأ من الأسرة وتعتبر إحدى ركائزها، بل هي الركيزة الأساسية لهذه الأسرة، التي أمر الإسلام بأن يكون الزوجين فيها مترابطين بهذا الولاء: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21]. وبلغ من عظم هذا الرباط بين الزوجين أن جعله عليه الصلاة والسلام إحدى وصاياه لأمته في خطبة الوداع: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ..))، والمرأة سواء كانت أمًا أو زوجة أو بنتا أو أختا أو عمة أو خالة لها مكان محترم وتقدير من نوع خاص، فاحترام الأم ينبع من توجيه إسلافنا بطاعة الوالدين، وتقدير الزوجة لأنها النصف الآخر لدين الرجل وعتبة منزله، وبنتا لتربيتها وحسن رعايتها، أجر مرافقة النبي في الجنة، وأختا يحافظ عليها حتى تجد الزوج الصالح، وعمة وخالة أمر الدين بصلة الرحم من خلالهن وتوعد قاطع الرحم بأشد العقوبات.

أيها الإخوة المؤمنون: لا يمكن لنا أن نتحدث عن دور المرأة ورسالتها المطلوبة منها بمعزل عن الحالة العامة التي تعيشها الأمة، فالمرأة لا تقيم في جزيرة نائية بل تعيش وسط العمعمة، تؤثر وتتأثر، تستقبل وترسل فما كان من ضعف في كيان الأمة أحست به وتأثرت له، وما كان من خير وقوة علمته وتمثلته ليعود نفعا عليها وعلى أسرتها، وحينما نرى كثير من المجتمعات نرى فيها اهتماما أكبر بالرجل كمًا وكيفاً، يتقدم هذا الاهتمام على الاهتمام بالمرأة بل قد يكون على حسابها في التربية والتعليم بما أثر في وجود ظواهر سلبية في شخصية المرأة ودورها ورسالتها.

وعلى الرغم من أن المرأة المسلمة بدأت تنال حظا من التعليم والاهتمام على مستويات رسمية وشعبية إلا أن هذا التعليم والاهتمام تأثر كثيرا بمفاهيم غير إسلامية، تؤكد مثلا على عمل المرأة ووظيفتها خارج البيت أكثر مما تؤكد على الأمومة وقيادة الأسرة، توهم المرأة بخيال حرية خطرة تهدد معتقداتها وسلوكها وكيفية أسرتها، إن الإعلام في أكثر البلدان الإسلامية لا سيما من خلال القنوات الفضائية التي تتابعها وتشاهدها المرأة يعمل على تقديم النماذج النسائية التي يطلبون تمثلها في مجتمعاتنا الإسلامية وأن تقلدها نساءنا إنها نماذج تعيش في بيوت جميلة، وترتدي الثياب الجميلة أيضا، وأحيانا تمثل القيم للناس بل ونساء التاريخ الإسلامي الطاهرات العفيفات، ولكن لا تسأل عما وراء ذلك كله من تهتك قِيَِمِي، تحلل عقدي يؤدي في النهاية إلى كون المرأة سلعة في جنبات سوق نخاسة عالمي ينظر التجار فيه إلى الأخلاق وكأنها تراث أو كماليات، يوجد في الحياة بدائل عنها تجد سماسرة ذلك السوق يقتلون المرأة باسم الحرية، فهم يكسبون المال بفتاة الغلاف ويروجون مصنوعاتهم بصورة امرأة متبرجة أو شبه عارية .

إننا كأولياء على النساء يحتم علينا الإسلام أن نجمع جهودنا في صياغة برامج تربوية لإصلاح المرأة وإعادة دورها المنشود، أن نكرس جهودنا في إعداد موسوعة علمية تتناول شؤون المرأة وشجونها، همومها واهتماماتها، حاضرها ومستقبلها، وأن نعمل بعون الله ثم بالتعاون المثمر البناء مع كل مؤسسة عامة أو خاصة، رسمية وشعبية بل مع الجهود الفردية لننقل التصور إلى حقيقة مرئية، ولنعبر من جموح الخيال إلى طموح الواقع ومن النظريات إلى التطبيقات، ولنبدأ مثلا مع بداية العام الدراسي للمرأة بالتأكيد على العلاقة بين القراءة والفعل، بين المدرسة الشارحة والمدرسة السالكة المطبقة، بين الإسلام بوصفه خِيَِرة الله للناس وصبغة الله التي أرادها للبشر: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، لنساهم في وجود العلم والمعلّمة والإرادة للذين يجعلون بناء العقيدة في شخصية الطالبة أكبر همهم ويحضونها على طلب العمل لنفع دينها وأمتها ودنياها، أخرج البخاري أن رسول الله قال: ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران))، وقال عروة بن الزبير: " ما رأيت أحدا أعلم بطب ولا بفقه ولا بشعر من عائشة "، يجب أن نساعد في وجود العلم والمعلمة الذين يعدون المرأة الزوجة والمرأة الأم، والمرأة المنتجة مثل أن يعدوا المرأة لوظيفة تخالف طبعها وطبيعتها لتقضي عليها أمًا وزوجة.

ليساعد الآباء والأمهات والأولياء والأزواج المسؤولين في آرائهم ورُآهم، وليكن همُّ الكتَّاب والمثقفين والإعلاميين رفع دور المرأة وتوضيح حقيقته، ليتحدث الخطباء وليتكلم المحاضرون على المرأة الموجود والمرأة المطلوبة، عن الأم التي تخلت عن أمومتها للخادمات، وانشغلت بالأفراح والحفلات، ليتحدث الجميع عن المرأة التي انشغلت عن بيتها للثرثرة عند الجارات في أحاديث تفسد الدين ولا تنفع الدنيا، لنتحدث عن الأم التي صارت مجلات الأزياء ثقافتها مهملة كتاب ربها وسنة نبيها، لتكتب الأقلام وتنطق المنابر بأن المرأة المسلمة هي التي باعت لله نفسها، وبايعت على العفة والجد، ترى واجبها الأكبر في أداء حق ربها ثم في إرضاء زوجها، ورعاية أطفالها وبيتها، قال : (( إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)).

لتكتب الأقلام عن المرأة المسلمة التي تكون مباركة حيث ما حلت فلا تختصر الزوجية بالطبخ ولا تختزلها في الملبس، ولا ترتضي تلك المرأة الخيرة بيتا لا مكان للعلم وحفظ القرآن وتداوله فيه، ولا تقترن برجل لا يعظم شعائر الله ولا يلتزم بشرائع الإسلام، يؤرقها جهل أولادها وسوء خلقهم، كما أنها تقلق لمرضهم وانحراف صحتهم، تخشى على بيتها الانحراف والفساد كخوفها من حيوان مفترس يتربص بأهل بيتها الدوائر، تسعى بكل جهدها لتعليم أولادها واختيار أحسن المعلمين لهم كما تجهد لإطعامهم واختيار لباسهم، روى مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ((جاءت بي أم سليم – والدته – إلى رسول الله وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، قالت: يا رسول الله هذا أنُيَسْ ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقال : اللهم أكثر ماله وولده)) فكان أنس من مكثري الصحابة في الرواية عنه .

إننا إخوة الإيمان نريد المرأة التي تؤثر ولا تستأثر، وتقنع ولا تطمع، تسير مع زوجها وفق قدرته فلا ترهقه بمطالب تجعله فريسة للديون.

إننا نريد المرأة التي تكون بشخصيتها المسلمة لا بوقاً لكل ناعق ناعب وليست مناعا لكل متربص بالبيت المسلم دوائر السوء.

إننا إذ نريد ذلك كله فإننا نطلب من الله عز وجل أن يعيننا على ذلك بفضله ومنّه، ونريد من مجتمعاتنا بكل طاقاتها وإمكانتاتها، نريد قادراً وقائداً ومقوداً العمل على تعبيد الطريق لتدعيم القيم الإسلامية والبراعم الإيمانية لكي ينعم الجميع، مجتمع آمن متراحم متماسك إن شاء الله ،وليضع لبنة الأم المدرسة التي تصنع أجيال المستقبل الواعد .

الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق

إذا كنا نريد نتائج عامة نافعة للأمة فإن المشاركة لا تكون خاصة ولنعلم أن جمع الجهود وتكريسها لتربية المرأة وإعادة دورها المنشود ورسالتها الواعدة هو خير ما يجتمع الناس له ويتواصون به: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) هذه صيغة عموم وجود صدرها يستلزم حضور لوازمها فإذا التزم الأكثر من المجتمع خيرا وطمأنينة، وإن قل الملتزمون بالمساعدة على إيجاد المرأة المسلمة ببذل الجهود وجمع الوسائل والدعاء الصالح والرأي الناصح والدعم بالمال ونشر العلم المقتبس من كتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة السلف الصالح وسلوك المسلمات الصالحات، إن قل كل ذلك فما أخال غدنا إلا كالحا ولا مستقبلنا إلا قاحلا .

وثقتي بالله عز وجل، ثم بالمسلمين الحريصين على مجتمعهم من أمثالكم تحملني على التفاؤل وتدفعني وإياكم لأن نُغَلَّب جانب الأمل بفضل الله ثم بجهودكم التي نسأله جل وعلا أن يبارك فيه ويضاعف أجرها ويضعف عدوها، ولنعلم تماما أيها الأحبة أن ليس في الدنيا خير من نسائنا ما تمَّسْكن بحجابهن وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق وأحكام إسلامهن، وتتبعن خطا ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج خديجة وأسماء والخنساء ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأدبيات، والأمهات الديّنات الصَّينات اللائي وَلدن أولئك الرجال الذين كانوا قواد الميادين، وفرسان المنابر وأبطال الفكر، وسادة الدنيا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر...أما بعد:

فيا أيها الناس: حين تداولنا الحديث عن دور المرأة وماذا نريد منها تعالوا بنا نقلب صفحات سيرتنا العطرة لنطالع غيضا من فيض سيرة أعظم النساء في التاريخ فكل مَنْ يرى بداية دعوة الإسلام لا يغفل عن موقف خديحة رضي الله عنها في نصرة الرسول وتثبيتها، فلقد وقفت بجانبه وآزرته معنويا وماديا، وكانت له خير معين إلى أن توفاها الله، أنظر كيف ثبتته حين عاد من رحلة الغار فزعا مهموما: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكلّ وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر"، ثم إلى صورة سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر التي عذبت في سبيل دينها حتى الموت فخلد التاريخ اسمها أول شهيدة في الإسلام، واستمر دور المرأة، عظيما في سيرة الإسلام الأولى في بيعة العقبة حيث بايع رسول الله ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي، وانظر إلى عائشة رضي الله عنها في إيصال علم النبي إلى الناس، عن أبي موسى الأشعري قال: "ما أشكل علينا أصحاب رسول الله حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما"، أخرجه الترمذي، وكان للمرأة دور كبير في الجهاد حيث لم تبخل بشيء من جهدها، فعن أم سعيد بنت سعد قالت: دخلت على أم عمارة نسيبة بنت كعب فقلت لها: حدثيني خبرك يوم أحد؟ قالت: "خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى الرسول وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فجعلت أباشر القتال دونه وأذود عن رسول لله بالسيف وأرمي القوس حتى خلصت إلي الجراح " قالت الراوية: فرأيت على عاتقها جرحا له غوار جوف.

وفي صحيح مسلم عن أم عطية الأنصارية قالت : " غزوت مع رسول الله سبع غزوات كنت أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى " تلك أجزاء من سيرة المؤمنات المناضلات المجاهدات الصابرات اللواتي سَمَتْ نفوسهن وعلت أخلاقهن واللواتي يشعرن بحريتهن من خلال عبوديتهن لله وحده .

ونحن نريد من كل ذلك أم المستقبل الباسم المشرق، نريد من ترضي ربها، نريد مربية الأجيال ومدرسة الرجال، وأمل الأمة، نريد مخرجة العلماء والدعاة المحامية عنهم الداعية لهم ذلك هو ما نريده من دور عظيم وبناء للمرأة وتلك هي المرأة التي نريد .

أسأل الله جلت قدرته أن يصلح أحوال المسلمين وأن يصلح نساء المسلمين ويجنبهن ما يكاد لهن ويُخَطَّطْ من تدمير وإفساد، وأن يرزقهن حسن التربية ودوام العمل لخدمة الدين ونشر الإسلام .

وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه …

(1/295)

التوبة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

التوبة

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- دعوة للمبادرة إلى التوبة في موسم رمضان 2- قصة توبة الكفل

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها المؤمن الغافل يا أيها المسلم العاصي وأنت في هذا الموسم الكريم لا تزال سادرا في غيك متى تؤوب؟ ومتى من الذنوب تتوب؟ والرحمن الرحيم الذي لا تخفى عليه خافية مطلع عليك يرقب حالك ويحلم عليك لعلك تؤوب إليه وأنت معرض عنه في غيك, غارق في معاصيك ومخازيك حتى في هذه الأيام المباركات حتى في هذا الموسم العظيم الذي هيأه لك الرب الكريم ففتح لك فيه أبواب جنانه وغلق عنك أبواب نيرانه وصفد عنك الشياطين ومردة الجن كل ذلك يحثك على أن ترجع إليه تائبا نادما مهما كانت ذنوبك لو ملأت قراب الأرض وبلغت عنان السماء. من كرمه سبحانه على خلقه ورحمته بهم إذا رجعت إليه تائبا نادما فتح لك بابه ودخلت جنانه وتقبلك فغفر لك فإنه سبحانه يقبل التوبة من عباده ويغفر الذنب العظيم فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بهذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((كان الكفل رجلا من بنى إسرائيل لا يتورع عن ذنب فعله رجل عات جبار يرتكب من الذنوب العظام لا يمنعه شئ من ذلك فأعطى امرأة ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال لها: ما يبكيك أأكرهتك ؟ قالت: لا ولكنه عمل لم أعمله قط فقال لها الكفل فلماذا تفعلينه وأنت لم تفعليه من قبل قط؟ قالت دفعني إلى ذلك الحاجة فقام الكفل ولم يفعل بها شيئا وقال لها: اذهبي والدنانير لك ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبدا عاهد ربه بعد ذلك ألا يعصيه أبدا فمات من ليلته فأصبح وعلى بابه مكتوب قد غفر الله للكفل كتبته الملائكة قد غفر الله للكفل))(1)[1] فانظر كم ربنا كريم حنان منان هذا الكفل ارتكب من المعاصي ما ارتكب لم يردعه عن أي معصية شيء أبدا حتى إذا استيقظ قلبه في تلك اللحظة وتاب وآب وعاهد ربه أن لا يعود لم يمهله الأجل كان أجله في ليلته ومع ذلك قبله الرب الكريم وغفر له لصدق توبته والدليل على صدق توبته أنه ترك تلك المسكينة وترك لها الدنانير.

فيا مؤمن يا غافل بادر بالتوبة بادر بالأوبة بالرجوع إلى رب كريم وجناب كريم فإنك لا تدرى متى تحين ساعتك فبادر أجلك وساعتك وتب إلى الله تعالى يتوب عليك وأقلع عن معاصيك يقبلك لديه سبحانه وتعالى في جناب رحب كريم.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [سورة الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة (2496).

(1/296)

السحر آفة خطيرة

-----------------------

التوحيد

الشرك ووسائله

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

22/6/1415

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم... يقول الله تعالى في كتابه الكريم: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة:102].

إخوة الإيمان: لكثرة الملحين على تناول هذا الموضوع وطرحه ولتعلقه الكبير بإيمان الناس وعقيدتهم، رأيت لزاما علي أن نتحدث اليوم عن موضوع السحر.

ولست أزعم إخوة الإيمان: أنني سأغوص في تفاصيل هذا الموضوع وطرقه ودروسه وتاريخه، فهذا ما لا أراه مجديا ولا الوقت كافيا، وللأسف أننا نرى الآن انتشار بعض الكتب التي يتداولها عامة الناس من صغار وكبار ورجال ونساء في هذا الأمر وهم لا يعلمون شرها وضررها، أما لماذا نطرح هذا الموضوع، فلأنه موضوع مهم وقضية هامة من قضايا المجتمع كل فرد ينتمي إلى هذا المجتمع ولهذه الأمة هو من المعنيين بحديثنا هذا اليوم عن السحر، إن حديثنا عن السحر، حديث القرآن عن السحر، ذلك الحديث الذي ذكر الله سبحانه وتعالى فيه أن السحر ضلالة وكفر وذكر فيه المولى جل وعلا أن السحر ينتج عنه التفريق بين المرء وزوجه، وقِسْ على ذلك ما تشاء من التفريق بين الأم وأبنائها وبين الوالد وأولاده وبين الجار وجيرانه والقريب وأقربائه.

إننا نعرف أنا هناك من يرى أن طرح هذا الموضوع لا أهمية له بجانب قضايا كبيرة أهم منه ولكن هؤلاء ربما لم يقدروا الآثار العظيمة التي دعتنا للحديث عنه:

أولها: تنبيه الأمة على خطر السحر والشعوذة في المجتمع، فلقد شاع وذاع وراج في مجتمعنا من قضايا السحر والشعوذة الكثيرة، فهو الجزاء الرادع الذي ينتظر الزوج من زوجته أو العكس، وهو كذلك الترجمة الحقيقة لما يحيك في النفس الشريرة من مؤامرات، ومن تدبير لتفريق الأسر، وهدم المجتمع وضياع الأفراد ،ويصاحب ذلك من الهوى المتبع ومن الشيطان المريد ومن ضعف الإيمان ما يجعله تجارة سائغة موجودة في المجتمع يجب التنبه إليها.

ثاني هذه الأسباب: التي دعتنا لطرح هذا الموضوع هو قلة زواج أو لتحقيق نجاح يعتقده الإنسان، ويكون في أكثر الأحيان للتخلص من عدو يراه الإنسان وإنني أقول أن من يسلك هذا المسلك هو من الذين فقدوا المعنى الحقيقي لـ لا إله إلا الله تلك الكلمة التي حملها بين جنبيه ورددها بلسانه وأشهرها وأعلنها مبدأ من مبادئه ولكنه يفقد معنى هذه الكلمة حينما يسلم نفسه إلى الساحر أو الكاهن ليفعل به ما يريد، يقول جل وعلا: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، أما الأسباب التي أدت بالإنسان إلى ذهابه إلى السحرة فهي:

أولها: ضعف الإيمان : هو سبب لكثير من القضايا حيث يقل توكل الإنسان على ربه فتضعف نفسه لدواعي الشيطان ومهلكاته بالسحر وغيرها.

ثاني هذه الأسباب: الجهل بالدين وقلة العمل فإن كثيرا من الذين يذهبون إلى السحرة لا يعلمون أنه منكر وكفر بل قد يظن الرجل أحيانا أن السحرة مثل القراء الذين يقرؤن الرقى الشرعية، بل يظن البعض أنها قربة له في أن يفرج عن المريض أو المصاب كربته، أو كخدمة لقريب له أو صديق يقول : ((من أتى ساحرا أو عرافا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أحمد، وقال : ((من أتى كاهنا أو عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما))، وعد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام:

الإعراض عن دين الله لا يعلمه المرء ولا يتعلمه، وأيضا من الأسباب التي تدعو إلى هذا العمل كثرة الفراغ لدى الشباب والشابات وغيرهم وهو منبع كل شر.

أما السبب الذي لا نستطيع أن نخفي أثره في نشر السحر وتهوين أمره فهي تعرض لنا مثل هذه البائقة التي عدها رسول الله من الموبقات من خلال البرامج المطروحة، فنرى أطفالنا يتلقون الأفلام الكرتونية التي تبين السحر والسحرة وكيف أثرهم حتى أن الساحر منهم بعصاه ذي النجمة يستطيع تحويل كل شيء لما يحب، من تحويل الجو وبناء القصور في لحظة والمدافعة عن المظلومين لكي يحبه هذا الطفل الصغير بل وقد يقلده وكل ذلك يعرض ونحن في غفلة، كذلك ما يعرض في الأفلام والمسلسلات من استعانة بالسحرة واللجوء إليهم عند الشدائد ألا ترون إخوة الإيمان أن لذلك كبير الأثر على الأسرة المسلمة الموحدة.

هذا فضلا عن الجرائد والمجلات التي تجلب لنفسها الإثارة والمتعة بالتشويق مثل هذه الأمور حتى أن جريدة عربية واحدة منها على سبيل المثال استمرت في عرض حلقات مطولة وعبر ثلاث صفحات على الأقل بعنوان كيف تتعلم السحر؟! وغيرها من المجلات والجرائد التي تغفل عنها وهي تعرض المقابلات مع السحرة والكهنة وكيف يتعلمون السحر وما هي طرقكم في السحر إلى أخر ذلك من الأسئلة التعليمية، وانظر مثالا للإيمان بالشعوذة والكتابة والأبراج والحظ فأنت إن ولدت في يوم كذا ستكون مشئوما وفي يوم كذا ستكون سعيدا أو حظك اليوم سعيد أو حظك اليوم شقاء وغير ذلك من ترهات نشتريها بأموالنا ونغذي بها عقول أولادنا ونسائنا.

ومن الأسباب كذلك لإنتشار السحر: سوء بعض العمالة الوافدة، وأكثرها غير مسلم من الخادمات على وجه الخصوص اللاتي يختلطن في البيوت وكذلك السائقين والعمال من الديانات الهندوسية والبوذية والنصرانية وغيرها، وإنني على يقين من أن بعضكم يعرف قصصا تثبت ما أقول.

عباد الله إن أحوال السحرة وعاداتهم وطبائعهم غريبة كل الغرابة، بل وشاذة أنزه أسماعكم وهذا المنبر من ذكر بعضها أو كلها، ولا يفلح الساحر حيت أتى ويكفي هذا الأمر لكي نعلم مدى السوء الذي يصلون إليه حينما يكونوا من السحرة أو الكهنة ولذلك فقد كان حد الساحر ضربة بالسيف كما ورد ذلك عن النبي ، قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ : " الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلق فأرى أن يقتل إذا عمله بنفسه .." وقال مثل ذلك الإمام الشافعي رحمه الله . وإن مما يساعد السحرة ويجعل سوقهم رائجة الوهم الذي يصيب الكثير منا لأي هاجس يصاب به الإنسان أو حالة نفسية طبيعية تصيبه أو مرض غير معروف للوهلة الأولى وخصوصا لدى النساء اللاتي يسارعن إلى الشك بأن هذا الوهم عمل من السحر، بل ونسارع إلى علاجه قبل كل شيء بالذهاب إلى السحرة وتصديقهم فيما يقولون ودفع المبالغ الطائلة لهم بل والإشراك بالله في بعض الأحيان إما بقول فيه شرك أو بالذبح لغير الله وغير ذلك وهذا من أعظم الطوام، وعلى فرض أن السحر وقع حقيقة لا تجد أننا نسعى لكتاب الله نطلب فيه الشفاء الذي يقول الله تعالى عنه : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [سورة الفلق]. ولا شك أن القرآن أثبت أن فيه العلاج لكثير من الأمراض والأسقام وهناك مع ذلك الطرق المشروعة التي قال بها الفقهاء عند الإصابة بالسحر أو قبل الإصابة به كقراءة الأوراد والأذكار الحافظة للإنسان من كل شر وكذلك الرقى الشرعية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع كتابه وهدي رسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بين لنا الحق بدليله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى سبيله، صلى الله عليه وسلم على آله وأصحابه وكل من الصف باتباع الحق وقبوله، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: بالله ورسوله، لا شك أن لكل داء دواءا علمه من علمه وجهله من جهله إلا الموت كما ورد ذلك عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولا شك أن هناك طرقا شرعية لعلاج السحر والوقاية منها يجب علينا أن نعرفها ونشير بها على الناس ومنها:

أولا: الصبر وقوته على المرض أو الوهم وعدم الخوف والضعف، فإن هذه الأمور كثيرا ما تصيب ضعيف الإرادة ذا الإيمان الضعيف، وكذلك الصبر بعدم التعجل للشفاء مع استخدام الرقى الشرعية من القرآن الكريم، فقد تطول مدة القراءة، والناس مع الأسف يملون ثم يتجهون إلى السحرة، لقد جلس النبي ستة أشهر وهو يستخدم القراءة بالرقى الشرعية حينما أصيب بالسحر، فما بالكم إذا علمتم أن صبر الإنسان لهذه الصيبة رافع لدرجاته زيادة لحسناته فإنه من الابتلاء.

الثاني: من الطرق الشرعية لعلاج السحر: تقوية الإيمان بالله ،والتوحيد في نفوسنا والاتكال على الله وكثرة الاستعاذة بالله واللجوء إليه من شياطين الإنس والجن كما قال سبحانه وتعالى: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [المؤمنون:97-98]. وكما قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. [فصلت:36] الآية، واجعل قلبك أخي المؤمن مملوء بتقوى الله ومخافته في السر والعلن وأن تكون متوكلا على الله في جميع أمورك ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3].

الثالث: من الطرق الواقية من السحر: عدم الظلم للآخرين لأنه يورث البغض والعداوة في قلب المظلوم ينسى معه الخوف من الله سواء كان هذا المظلوم هو الزوجة أو الزميل أو العامل أو الخادمة فيلجئه الظالم إلى أن يقع على ضلالة فيما حرم الله فيعمل السحر، فيصيبك على حين غفلة من تركك للأولاد التي وردت عن النبي .

أيضا من الوسائل لمنع السحر ووقوعه: عمل القربات إلى الله سبحانه وتعالى كقراءة القرآن والإكثار منها آناء الليل وأطراف النهار وكذلك الحرص على الأولاد الثابتة عن النبي في الصباح والمساء وكذلك الصدقة والإنفاق فإنها تقي مصارع السوء، وكذلك الإحسان إلى الغير بشتى أنواع الإحسان.

الأمر الخامس من الطرق الواقية من السحر: تجديد التوبة لله جل وعلا من كل ذنب يرتكبه الإنسان فإن الفساد الذي يحوم في نفوسنا مرتع خصب لنمو هذه البوائق واستمرائها لدى الفرد والمجتمع.

وإنني على يقين إخوة الإيمان أن كل هذه الوسائل وما لم يذكر منها كفيلة بأن يحبط كيد الساحر حيث أتى وهي كفيلة أيضا بأن تلغي كل دور للوسوسة والهم والغم الذي يعتري قلوبنا ولا شك أنه ما كان للسحر أن ينتشر في المجتمع وفي بلاد التوحيد على وجه الخصوص لولا ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب علينا جميعا أفرادا ومسئولين أن ندرك أننا مسئولون عن مقاومة مثل هذا الشرك وغيره وذلك بفضح هؤلاء السحرة والكهنة والإخبار عنهم وعن أماكنهم، وطريقهم، بل وفضح من يدل عليهم ويجلب لهم الزبائن، وكذلك يجب علينا أن ننشر هذا الدين ونعلمه الناس في المساجد والجوامع والمدارس والمنتديات، لأن الجهل كما ذكرنا آنفا باب لكل شر وفتنة فما بالكم الجهل بالتوحيد، أسأل الله العظيم الجليل أن يحمي أنفسنا ونسائنا وذرياتنا من كل من في نفسه شر وفتنة، وأن يرد كيد السحرة والمشعوذين في نحورهم وأن يكفي البلاء والعباد خطرهم وضررهم إنه سميع مجيب.

(1/297)

وقفات مع الحج

-----------------------

سيرة وتاريخ

القصص

-----------------------

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

1/12/1416

جامع السلام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- قصة هاجر وإسماعيل مع بئر زمزم. 2- قصة بناء البيت. 3- أرض الجزيرة إنما شرفت بالإسلام لا غيره. 4- مشاهد الحج وروعتها وتحقق دعوة إبراهيم عليه السلام. 5- فضل عشر ذي الحجة.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

أيها الناس: اتقوا الله وتوبوا إليه .

قف بالأباطح تسري في مشارفها مواكب النور هامت بالتقى شغفا

من كل فج أتت لله طائعة أفواجها ترتجي عفوا الكريم عفا

صوب الحطيم خطت أو المقام مشت مثل الحمائم سربا بالحمى اعتكفا

في كل عام ترى وفود الحجيج وضيوف الرحمن يلبون نداء الله بالحج إلى بيته الأمين أقبلوا بقلوب طائعة مختارة ملبية تريد رضى ربها ومن لم يتيسر لهم الحج من المسلمين الباقين يلبون بقلوبهم ويتطلعون بأنظارهم إلى هذه البقاع التي شرفها الله ببيته الحرام .

إخوة الإيمان : حين نرى مثل ذلك الحدث يتشوق القلب ويحن فتعالوا إلى فيض مع الوقفات العطرة من أعظم الأحداث للمسلمين وإنما هي خواطر ترد في الذهن ونحن نتأمل تلك الوفود الزائرة المحرمة، نتذكر عند مرأى الحجيج قدم ذلك الركب الصغير الذي يقطع صحراء لا نهاية لها تتحرك بها المطايا اللاغية تتغلب الجفاف والكرى، موكب من شيخ كبر وامرأته التي وضعت ولدها تواً وهي تحمل رضيعها بين يديها ما معهم إلا شنة فيها ماء وتجعل الأم تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، ترى أي أمر حدا بهذا الركب إلى قطع هذه الصحاري والقفاز ويخلف وراءه أرض الماء والأكل والكلأ أما الركب فإنه ركب الشيخ الأمّة القانت أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ومعه هاجر تحمل ابنها إسماعيل عليه السلام وأما ماحدا بهم إلى قطع هذه المسافات فهو أمر الله جل وعلا لإبراهيم بالتوجه إلى تلك البقعة وسط الجبال في جزيرة العرب إنها مكة أم القرى البلد الأمين حرم الله الأمين .

سار إبراهيم عليه السلام وابنه حتى بلغوا مكة فوضعهما تحت دوحة فوق زمزم وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، وضعها هناك طائعا أمر ربه ويضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء وقَفَل راجعا إلى الشام مضحيا لله عز وجل بزوجته وابنه الذي جاءه بعد كبر وتتجه هاجر ولا يلتفت إليها حتى إذا بلغوا كداء نادته من ورائه فقالت يا إبراهيم أبن تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها خشي أن ينظر إليها فيقرأ الحزن في قسمات وجهها فيرق لها أو لغلامها الذي يتركه فقالت له بعد أن رأت منه ذلك : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم، قالت : إذا لا يضيعنا، وينطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية دعا رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [إبراهيم 37]

ورجعت أم إسماعيل تشرب مما معها من ماء وترضع وليدها حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وتنظر إليه يتلوى فانطلقت هائمة على وجهها كراهية أن تنظر إليه فذهبت تصعد الصفا هل تحس من أحد فلم تر شيئا فنزلت حتى بلغت الوادي ورفعت طرف درعها وسعت وأتت المروة وفعلت ذلك أشواطا ثم قالت لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي فذهبت فإذا هو على حاله كأنه ينشع الموت فلم تقرها نفسها فذهبت إلى أعلى الصفا فلم تر أحدا.

لكنه الله سبحانه الرحيم بعباده فإذا بصوت فأرهفت سمعها عله أن يكون المنقذ فإذا جبريل عليه السلام عند موضع زمزم فغمز بعقبه على الأرض فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل حين ظهر الماء ولكنه الله الذي لا يضيع أولياءه وعباده، وجعلت تحوض الماء وتغرف في سقائها وهو يفور قال ابن عباس رضي الله عنهما راوي هذا الحدث في البخاري ومسلم قال النبي رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا، قال: فشربت وأرضعت وليدها فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله.

وجاء إبراهيم بعد أن سكنت مكة وشب إسماعيل فقال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك الله، قال: وتعينني قال: نعم قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتا هنا وأشار إلى أكمة مرتفعة ويرفع إبراهيم القواعد من البيت وجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني .

إخوة الإيمان: بعد أن فرغ إبراهيم من البناء أمره الله بأن يؤذن بالناس بالحج: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم [الحج:27-28]. ونادى إبراهيم في الناس يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم . فأجابوا بالتلبية لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك . وقد أبلغ الله تعالى صوت إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج كل مكان وحفظ الله هذا الأذان فجعله يتردد في الصلوات ويتلى في المحاريب وفرض الحج من ذلك اليوم إلى يومنا هذا وعلى سنن الأنبياء والمرسلين فإن هذا البيت كان وبقي مثابة للناس وأمنا منذ طاف به إبراهيم أبو الحنفاء الذي دعا ربه أن يحفظ هذه الأرض فدبت الحياة في هذه الأرض القحلة الجرداء وأجاب الله دعاء نبيه فإذا أفئدة من الناس تهوي إليهم وإذا هذه الأرض الجرداء تصبح أرضا مباركة ومحط أنظار العالمين بما حباها الله تعالى من الهداية العظمى التي يتطلع إليها كل التائهين.

إلى المشاعر تعلو الدهر سيرتها قدسية النفح للتاريخ حين وفى

مشى الحجيج بها ركبا حِدته ضحى أسلافنا فحدونا ربكه خلفا

توسد الأمن غاديها ورائحها ونام في كنف الرحمن حيث غفا

أيها الإخوة المؤمنون إن مما نتذكر هذه الأيام أن هذه الجزيرة ليست فقط بذهبها وخيراتها وإنما قيمتها بما جعل الله تعالى من الهداية التي يتلقاها الإنسان من أهل هذه البلاد وعلى يدهم كما أن الإسلام قدر هذه الجزيرة لا تبتغي عنه بديلا مهما كاد الكائدون وسعى المنافقون وأرجف المرجفون فإن الإسلام خيرة الله لهذه البلاد ولن تبتغي عنه سبيلا تلك هي دعوة الأنبياء والمرسلين وبشراهم. وإن تميز هذه البلاد الحقيقي وقيمتها الكبرى التي تتطامن عندها كل الميزات وتتضاءل عنها كل القيم إنها أرض الإسلام التي اختارها الله لتكون مشرق نور الإسلام .

ومنطلق الرسالة كما كانت أرض أنبياء الله من قبل هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد عليهم الصلاة والسلام أول أرض يتطيب ثراها بالسجود لله وتعطر سماؤها بالأذان ويتلى في محرابها القرآن عليها وُلد محمد ونزل جبريل ومشى وعاش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسارت كتائب الإسلام منها فاتحة للأرض ناشرة للإسلام وكما كانت هذه الجزيرة منطلق الإسلام فهي مؤئله ومأواه إذا ضاقت على الإسلام فجاج الأرض كلها يقول : ((بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ يأرز إلى المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها)).

إن هذه الجزيرة أرض قرت بها عين الإسلام ويئس الشيطان أن يعبد في أرضها كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)) أي يجمعوا على ذلك إنها أرض أخلصت للإسلام فليس لغير الإسلام فيها نصيب مهما خطط المخططون وكاد المنافقون وخصوم الإسلام فإنهم لن ينالوا وطرهم سعوا وأجلبوا خيلهم ورجْلَهم وكتاباتهم وإعلامهم ولن يجتمع في جزيرة العرب دينان.

بلاد بها الرحمن ألقى ضياءه على لابتيها والعوالم غيب

إذا نسب الناس البلاد رأيتها إلى جنة الفردوس تعزى وتنسب

وإن نصبت أنهارها فَبِحبّها من الدين نهر للهدى ليس ينضب

تفجر من نبع النبوة ماؤها له الحق ورد والسماحة مشرب

إخوة الإسلام نتذكر في الحج يوم حج رسول الله مع مائة ألف من المسلمين حجة الوداع ونظر رسول الله إلى الألوف المؤلفة وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله فشرح صدره انقيادها للحق واهتداؤها إلى الإسلام فعزم على أن يغرس في قلوبهم لباب الدين وينتهز تجمعهم ليقول كلمات تبدد آخر ما أبقيت الجاهلية من مخلفات في النفوس فيلقي خطبته الجامعة الشاملة يوم عرفة فيبين فيها حرمة دم المسلم وماله وعظم الأمانة وخطر الربا حتى المرأة لم تنسى في هذه الخطبة الجامعة فيقول :((واستوصوا بالنساء خيرا فإنهم عندكم عوان)) وكان يشهدهم على قوله فيقول ألا هل بلغت؟ فيقول: المسلمون: نعم، فيقول : اللهم فأشهد .

لقد كان عليه الصلاة والسلام يحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة ،وهو الذي ظل ثلاثا وعشرين سنة يصل الأرض بالسماء، ويغسل أدران الجاهلية وهاهو ذا يقول للحجيج ليخلصهم من الشرك حقاً لقد أجاب الله دعاء نبيه إبراهيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم [البقرة:129].

أيها الإخوة المؤمنون: ومن وقفات الحج ومن أهميته أن سورة في القرآن موسومة بالحج كلها تتحدث عن التوحيد وتنعي على أولئك الذين يعبدون غير الله تعالى أو يدعون من دونه مالا يضرهم ولا ينفعهم، ولعل لنا وقفة مستقبلا نرى من خلال مناسك الحج توحيدا لله جل وعلا .

إخوة الإيمان: إن مما يَرِدُ على الخاطر في الحج هو بيان قدرة الله تعالى وفضله بأن جمع أولئك الناس في هذه البقعة الصغيرة فذهبت أجناسهم ولغتهم بل ولباسهم واحد وينظر الله إليهم يوم عرفة فيباهى بهم ملائكته انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا حاجين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم ولم ير أكثر عتيقا من النار يوم عرفة.

إن الحج فرصة لتعظيم الله عز وجل، وغنيمة لنيل الحسنات والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة إن الحج ليس لتعظيم فلان وفلان من الناس وكثرة الثناء على محامدهم وتعظيم قدرهم ومدح إنجازاتهم بأسلوب يثير النفوس المؤمنة، كما أنه ليس بغريب على الأذهان كيف كانت صور بعض الزعماء والآيات بزعمهم تتصدر المسيرات الغادية والرائحة في بطاح مكة ورباعها والتي يهتدون بها كل عام وكأن الحج أصبح مناظرات سياسية يقصد بها التلبيس على أناس وخداعهم، وأضاعوا بذلك الحج الذي يوحد القلوب ويصفي النفوس والفرصة لرص الصفوف التي شبعت تفككا وفرقة. إن المصيبة أننا نرى الشيعة الرافضة يعلنون البراءة من المشركين وهم يدخلون ضمن ذلك سبهم القبيح لصحابة رسول الله وعلى رأسهم الشيخان أبو بكر وعمر، فأي تناقض هذا وأي براءة تلك إنها وقفة نقفها ونحن نرى شعاراتهم التي يحاولون إعلانها ورفعها كل عام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [آل عمران:96-97].

بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه . . . . . أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون: اتقوا الله تعالى واعلموا أنه تمر بكم مواسم عظيمة تضاعف فيها الحسنات وتكفر فيها السيئات ومن هذه المواسم أيام شهر ذي الحجة فقد جمع الله فيها من الفضائل ونوع فيها من الطاعات ما لا يخفى إلا على أهل الغفلة والإعراض ففي أوله العشر المباركة التي قال عنه سبحانه وتعالى: والفجر وليال عشر [الفجر:1-2]. وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك شيء)). وقد شرع الله لعباده صيام هذه الأيام المباركة عدا اليوم العاشر ومما يشرع في هذه الأيام الإكثار من ذكر الله ولا سيما التكبير قال الله تعالى: ويذكروا اسم الله في أيام معلومات [الحج:28]. يستحب الإكثار من ذكره تعالى من التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد وأن يجهر بذلك في الأسواق، وذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما فأين هذه السنة من واقعنا الآن كما يستحب هذه الأيام فعل الخيرات وبذل الصدقات خصوصا من لم يتوفر له الحج فإنه يستطيع بعمله الصالح إذا أخلص نيته وتابع نيته أن يعمل عملا يفضل الجهاد في سبيل الله.

ولتعلموا يا عباد الله أن بعض العلماء فضل هذه الأيام العشر على العشر الأواخر في رمضان ومن توسط فضّل أيامها على أيام العشر الأواخر وليالي العشر والأواخر على ليالي عشر ذي الحجة، فاغتنموا خيرات هذا الشهر الذي تنوعت فيه الفضائل والخيرات التي أعظمها إيقاع الحج فيه إلى بيت الله الحرام والأضحية، وهو من الأشهر الحرم حرم الله القتال فيها لوقوع الحج فيها.

(1/298)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

سيرة وتاريخ

القصص

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة"جمال يوسف وحسنه – تعلق امرأة العزيز بيوسف – عصمة يوسف – بين ذل المعصية وعز الطاعة – مفاسد الترف – أنواع الصبر ومراتبه "

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إني ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:22-24].

لقد نشأ يوسف الصديق عليه السلام في بيت العزيز بلغ أشده وهو في بيت العزيز أصبح شابا مكتمل الخلقة كامل العقل فآتاه الله الحكم والعلم وهذا كناية عن النبوة فقد أنعم الله عليه بهذه المزية العظمى لأنه كان أهلا لها أنعم عليه بالنبوة لأنه كان أهلا لها ولقد كانت من أعظم الأسباب لعصمته وسلامته من الذنب فبينما كان يوسف الصديق يتقلب بسبب الرق يتقلب في قعر دار الترف والفساد كان مع ذلك نورا في ديجور وأنموذجا للنقاء في مجتمع ملوث.

لقد تحقق في يوسف الصديق نوران نور الخلقة وكمالها ونور النبوة وجلالها فقد أوتي يوسف شطر الحسن(1)[1] كما اخبر بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أي إن الحسن كله قسم نصفين فنصف لسائر الخلق ونصف أوتيه يوسف الصديق وحده فتعلق به قلب امرأة العزيز لكنه تعلق قلب آثم ملوث بأقذار المعاصي وقاذورات الآثام لم تشاهد امرأة العزيز من حسن يوسف إلا وجها واحدا وهو الحسن الجسدي ولم تبصر من جماله إلا جانبا واحدا وهو جمال الظاهر فلما أن راودته عن نفسه ودعته إلى فعل الفحشاء تجلى أمامها الجانب الآخر من الحسن والجمال في هذا الشاب المهاب إنه حسن الباطن وجمال النفس ونقاء السريرة.

فقد كان يوسف من المحسنين أخلص عبوديته لله كان مخلصا لربه فكان مخلصا من ربه فعصمه عاصمان عاصم التقوى ومخافة الله تعالى التي تلجم اندفاع الغريزة وتضبط جموح النفس وعاصم النبوة بجلالتها وبركتها فإذا بامرأة العزيز التي أذلها سعار الشهوة فأصبحت طالبة لا مطلوبة تعرض نفسها على الصديق ولكن في مستنقع المعصية إذا بها تواجه شموخ الطاعة وعزة العبودية المخلصة لله تعالى وصلابة التقوى التي ضربت سياجها حول الصديق عليه السلام تواجه هذا كله في شخصية يوسف فإذا بهذا الشاب الرائع الحسن المكتمل الخلقة والحيوية يرفض بشموخ وعزة عرضها المهيب المحفوف بكل أسباب الفتنة والإغراء.

لقد مرت بيوسف الصديق عليه السلام حتى الآن محنتان عظيمتان وخرج من كلتا المحنتين سليما طاهرا نقيا ونجا من كلتا المحنتين جميعا.

أما المحنة الأولى فهي اضطهاد إخوته له وتآمرهم على قتله حتى ألقوه في ذلك الجب الموحش المهلك وأنجاه الله تعالى وهذه المحنة هي محنة الضراء وهي على ما فيها من قهر وعذاب جسدي ونفسي إلا أنها أهون من المحنة أخرى ألا وإنها محنة السراء فتنة الإغراء.

ففي قصر العزيز أتيحت أمام يوسف كل وسائل المتعة كانت بين يديه منقادة إليه وهذه فتنة شديدة الوطأة على الإنسان قلما يقاوم الإنسان داءها ويسلم من شرها وإغرائها فتنة السراء أشد فتكا في الناس من فتنة الشدة والضراء ولذلك كان سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه الكرام: ((ما الفقر أخشى عليكم – لا أخشى عليكم من محنة الفقر – ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على الذين من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ))(2)[2].

إن الدنيا إذا انبسطت على الناس وتوافر لهم الرخاء والعيش المترف الهنيء فإن ذلك مظنة في الغالب لغفلة القلوب عن الله مظنة لغفلة القلوب عن الله وإعراض الناس عن الله وحينئذ فإن النتائج التي تترتب على ذلك أنهم يقعون في براثن الفساد العريض يغرقون في لجج الفساد العريض لكن يوسف الصديق عليه السلام كان من المحسنين كان قمة في إيمانه كان في إيمانه محسنا والإحسان أن يعبد الله كأنه يراه وأن يستحضر في قلبه دائما أن الله سبحانه يراه هذا مقام المراقبة والمشاهدة هذا مقام يوسف الصديق عليه السلام ولذلك كوفئ على هذا الإحسان بالنبوة قال تعالى: ولما بلغ أشده أتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين [يوسف:22].

وكان يوسف الصديق عليه السلام من عباد الله المخلصين قال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين وفي قراءة (المخلِصين) بكسر اللام ومعنى ذلك انه عليه السلام لما أخلص العبودية لربه تعالى جعله الله من عباده المخلصين أي المجتبين المصطفين الأخيار ولذلك واجهت معصية امرأة العزيز جلال الطاعة مكن يوسف اصطدم ذل الشهوة من امرأة العزيز بعزة التقوى من يوسف فرجع الشيطان خاسئا وهو حسير يجلجل في أذنيه إعلان يوسف الصديق كأنه الأذان معاذ الله أي أعوذ بالله سبحانه مما تعرضينه علي ألوذ بجنابه تعالى من شر السوء والفحشاء معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون هذه ومضة من ومضات هذا الموقف الرائع العظيم الموقف الهام من مواقف هذه القصة الشريفة قصة الصديق يوسف عليه السلام وسنكمل الحديث عن هذا الموقف في الجمعة القادمة إن شاء الله وخاصة عن قوله: ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فعن عطاء بن أبي رباح قال: ((قال لي العباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قال: فقلت: بلى قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف ادعُ الله تعالى لي فقال لها: المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك)) فقالت: أصبر ثم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أتكشف ادعُ الله ألا أتكشف فدعا لها صلى الله عليه وسلم)) رواه البخاري ومسلم.(3)[1]

هذا النوع من الصبر نوع عظيم وهو الصبر على البلاء على ما يصيب العبد من بلاء جسدي أو نفسي فكل ما يكرب المؤمن إذا صبر عليه كان له ثوابا وأجرا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصيب المؤمن نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه)) رواه البخاري(4)[2].

ولكن أعظم من هذا النوع الصبر على طاعة الله أداء الأوامر الإلهية والصبر على ذلك وأعظم من هذا الصبر عن معاصي الله وأعظم أنواع الصبر عن المعصية صبر المتمكن عن المعصية أي التي تتوافر لديه الدواعي لفعل المعصية ثم يعصم نفسه منها ينهى نفسه عن الهوى ويصبر عن المعصية مثل الشاب القوي الشهوة القوي البنية فإن الدواعي التي تدعوه إلى اقتراف الزنا قائمة لديه فإذا ما نهى نفسه عن هذه المعصية واستعصم وعصم نفسه عن السوء والفحشاء وتعفف فهذا من أعظم الصابرين أجرا وأعظم صبرا مثلا من الشيخ الذي لا يشتهي ودواعي الزنا ليست قائمة لديه هذا الشاب هو من أعظم الصابرين أجرا إذا تعفف وعصم نفسه من السوء والفحشاء وكذلك الإمام العادل فإن أسباب السلطان بين يديه والدواعي التي تدعوه إلى التسلط والظلم قائمة لديه فإذا ما نهى نفسه عن ذلك وصبر عن الظلم وعن التسلط وأخذ نفسه بالعدل فهذا من أعظم الصابرين أجرا قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)).

فبدأ بالإمام العادل لأن في عدله وصلاحه منفعة وبركة على سائر الرعية: (( إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه))(5)[3].

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(6)[4] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) أحمد (3/148)، ومسلم في الإيمان (259).

(2) البخاري: ك: الجزيه (2988).

(3) البخاري: ك: المرض (5328)، ومسلم : ك: البر والصلة (2576).

(4) البخاري: ك : المرض (5713).

(5) البخاري:ك : الجماعة والإيمامة (629)، مسلم: ك: الزكاة (1031).

(6) صحيح مسلم (408).

(1/299)

حق الزوجة على زوجها

-----------------------

الأسرة والمجتمع, التوحيد

أهمية التوحيد, قضايا الأسرة

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- التوحيد حق الله على العباد 2- العبودية منزلة كل الخلق ومنهم الأنبياء 3- أدب المؤمن مع ربه 4- البعد عن الغلو والمدح المُفرط 5- موقف المسلم من المدح 6- الطاعة حق للزوج على زوجته

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى التوحيد ليدعوهم إلى أن يحققوا العبودية لله جل جلاله , وإذا وحد العبد ربه فقد حقق العبودية له سبحانه وكلما حقق العبد عبوديته لله كلما كانت منزلته أعلى وأعظم عند الله ولذلك مدح الرب نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم بذلك ومدحه بوصف العبودية في أعظم المناسبات يذكر الرب نبيه ومصطفاه بهذه الصفة لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بواجب الدعوة إلي التوحيد رغم معارضة المشركين وتألبهم عليه , ذكر الرب ذلك في كتابه فقال وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً وعبد الله أي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم , وعندما ذكر مقام نبوته صلى الله عليه وسلم وتنزل الوحي عليه قال فأوحى إلى عبده ما أوحى , وعندما ذكر تنزل القرآن العظيم عليه قال تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وقال الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب , فإذن الرب عز وجل يمدح نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية لأن هذه الصفة هي سر الكمال في شخصه صلى الله عليه وسلم , ومن كمال حرصه صلى الله عليه وسلم على تحقيق العبودية لربه كان حرصه الشديد على حماية جناب التوحيد فنهانا صلى الله عليه وسلم على أن نطريه كما أطرت النصارى نبيهم عيسى ابن مريم عليه السلام أي نهانا عن الغلو في مدحه والمبالغة في وصفه كما يصنعه المداحون , أعظم وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومدح له كما علمنا ربنا وكما أرشدنا إليه هو نفسه صلى الله عليه وسلم هو مقام العبودية مع مقام النبوة والرسالة فإذا قلت عبد الله ورسوله فقد جمعت له صلى الله عليه وسلم بين المقامين , مقام العبودية ومقام الرسالة .

الدرس الثاني : من هذا التوجيه النبوي أن علي كل مؤمن موحد أن يتأدب مع الله عز وجل وأن يظهر عبوديته لله وأن يظهر تواضعه لله عز وجل فالمؤمن الموحد يحرص دائماً علي أن يظهر عبوديته للرب عز وجل وتواضعه بين يديه ويظهر افتقاره إليه وذله وانكساره بين يديه سبحانه وتعالى , لا يحق لأحد من الخلق مهما علا شأنه , مهما أوتي من قوة وجاه وسلطان أن يظهر شيئاً من الكبرياء والعظمة أو يظهر الخيلاء والجلالة , لا يحق لأحد من الخلق أن يظهر شيئاً من الكبرياء والعظمة فانهما من صفات الله جل جلاله لا يشركه فيهما أحد , يقول الرب عز وجل في الحديث القدسي (( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني إياهما قصمته )) أي أهلكته وقضيت عليه . أما المؤمن الموحد فهو كما قلنا يظهر دائماً عبوديته لله وافتقاره إليه وذله وانكساره بين يديه , وسيد المؤمنين الموحدين عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الناس على ذلك , على إظهار عبوديته لله وافتقاره إليه وإظهار ذله وانكساره بين يديه ولهذا حرص حرصاً شديداً علي أن تعرف أمته مقامه الحقيقي صلى الله عليه وسلم فلا تغلُ في مدحه ولا تبالغ في وصفه , إذا نظرت إلى مواقفه صلى الله عليه وسلم وإلى كلامه تجد حرصه الشديد علي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (( أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل )) , فمن غلا في مدحه وبالغ في وصفه حتى خرج عن حد الحق والاعتدال فقد عانده صلى الله عليه وسلم وارتكب ما يكره وينهى عنه ويحرمه , وليس في ذلك أي أدب معه صلى الله عليه وسلم ولا هو دليل على محبته صلى الله عليه وسلم , الأدب كل الأدب في الامتثال وأعظم دليل على محبته صلى الله عليه وسلم هو طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر صلى الله عليه وسلم , فمن مقتضيات محبته أن تفعل محبوباته وتجتنب مكروهاته صلى الله عليه وسلم .

الدرس الثالث : أن على كل مؤمن موحد تأدباً مع الرب عز وجل وتحقيقاً لمكان العبودية لله جل جلاله أن يمتنع على المدح ويزجر المداحين بل وأن يحثو في وجوههم التراب كما أمر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم , فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو أحق الناس بالمدح والثناء قد نهى أمته من الغلو والإسراف في مدحه والثناء عليه فغيره من باب أولى , وليس المنهي عنه هو مطلق المدح والثناء إنما المنهي عنه هو الغلو والإفراط والمدح والثناء بما هو ليس أهل له والمبالغة في ذلك ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نحثو التراب في وجوه المداحين وليس في وجه كل مادح , والمداح صيغة مبالغة تدل علي أمرين , تدل على من كانت تلك عادته المدح والمبالغة في المدح عادته ودأبه دائماً وتدل على الغلو والإفراط في المدح بما هو خارج عن حق العدل والاعتدال , وهاتان الصفتان من صفات المنافقين المداهنين في كل المجتمعات الذين لا ينصحون للإنسان فيبصرونه بالحقائق ولكن يخادعونه بالغلو في مدحه والإفراط في الثناء عليه حتى يعموا بصره ويشغلونه عن حقيقة نفسه وعن حقائق الأمور من حوله , فما أجدر بهؤلاء أن يحثى في وجوههم التراب وتغلق دونهم الأبواب .

المؤمن الموحد من كمال تواضعه للرب عز وجل وإظهار العبودية له لا يقبل المدح والثناء من المداحين من المنافقين والمداهنين ولكن لا يدخل في الحد المنهي عنه , مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه بما هو أهله وإبراز ظواهر القدوة والأسوة والتكريم في شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم فقد مدحه ربه عز وجل في القرآن وأثني عليه , مدحه بحسن الخلق ومدحه بشفقته علي أمته ورأفته بها وحرصه على هدايتها صلى الله عليه وسلم , ومدحه أصحابه بين يديه شعراً ونثراً فلم ينههم صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن في مدحهم له غلو ولا إفراط , مدحه حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولكن لكي تعرف الحد بين الحد المباح المشروع وبين حد الغلو والإفراط اسمع قول كعب بن زهير في وصفه صلى الله عليه وسلم ومدحه حين قال :

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ……القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

مدحه بأعظم معجزة أوتيها صلى الله عليه وسلم وهي القرآن , قارن بين هذا وبين قول القائل :

و إن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

الدنيا والآخرة والجنة والنعيم والصراط كل ذلك من جود المصطفى صلى الله عليه وسلم ماذا بقي للرب جل جلاله إذن ؟, اللوح الذي فيه كل ما كان وما سيكون وما هو سيكون كائن يوم القيامة هو من بعض علوم المصطفى صلى الله عليه وسلم ماذا بقي إذن لعلام الغيوب ؟ , هذا القائل كأنه قال محمد هو الله جل جلاله سواء قصد ذلك أم لم يقصد , هذا هو الغلو الذي خاف محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على أمته منه , أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى أن تجيء إليه إلا باتت والذي في السماء غاضب عليها )) متفق عليه . وفي رواية (( إذا دعا رجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات وهو عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح )) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً وذكر منهم امرأة بات زوجها عليها غضبان )) . وروي مثله عن أبي أمامة رضي الله عنه وقال الترمذي حديث حسن غريب , هذا كله يبين عظم حق الزوج على زوجته وأنه يجب عليها طاعته في المعروف وتحرص على تلبية احتياجاته الشرعية خاصة منها ما يتعلق بفراشه فإن الزوج بحاجة إليها لتعينه على إعفافه وإحصانه خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وعوامل الفساد والانحلال والإغراء , فإذا ما عصت الزوجة زوجها في المعروف وأبت عليه حقه المشروع فإن في إسخاطه في ذلك إسخاط لرب العالمين تبيت والملائكة تلعنها وصلاتها إن كانت مصلية لا ترفع إلى ربها عز وجل , فعلى المرأة المؤمنة الصالحة أن تراعي حق زوجها وأن تطيعه في المعروف وأن تحرص على تلبية احتياجاته الشرعية , أن تراقب ذلك من نفسها وأن تعينه على العفاف والإحصان هذا إذا كان الزوج ممن يعرف حدود الله عز وجل , أما إذا كان يعرف حدود الله وطلب منها أمراً محرماً فلا طاعة له ولا كرامة إنما الطاعة في المعروف أي في ما أباحه الشرع وجعله من حقوق الزوج . وقال صلى الله عليه وسلم في حق الزوج على زوجته (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمر الزوجة أن تسجد زوجها )) لكنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك لأنه لا يحل لأحد أن يضع جبهته علي الأرض وأن يسجد إلا لرب العالمين , لكنه بهذا القول الشريف الكريم أكد حق الزوج على زوجته فيا له من حق عظيم .

أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا بن آدم أحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فانك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم (( من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا )) اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيتك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين .

(1/300)

طرف من سيرة أبي بكر رضي الله عنه

-----------------------

سيرة وتاريخ

تراجم

-----------------------

منصور الغامدي

الطائف

3/4/1420

أبو بكر الصديق

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- غفلة القلوب وقسوتها وسبب ذلك ونتائجه ومظاهره . 2- من النماذج المشرقة في التاريخ الإسلامي: أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (رجاحة عقله- دعوته وجهاده – محبته للرسول صلى الله عليه وسلم- تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم- مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم)

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: ولما طال الأمر على كثير من الناس، أصابت القلوب الغفلة والقسوة وحينما ابتليت بالغفلة والقسوة تخبطت واتخذت طرائق مختلفة، ومن الطرائق المتخبطة اتخاذهم سفلة الناس، وخبالة المجتمعات، قدوات لها تترسم خطاها، وتسير على سيرها، فراج سوق المغنيين والمغنيات، والممثلين والممثلات، واللاعبين واللاعبات، فأمسى التشبه بهم مواكبة للعصر، واتخاذ صورهم وجمعها في ألبومات دليل الحب والولاء، وإذا كان أمثال هؤلاء الساقطين هم قدوة لنا فكبر على الأمة أربعا .

أيها الاخوة الكرام: في ظل الضجيج الإعلامي في إبرز القدوات السيئة والمنحرفة، فإنه يحلونا أن نبحث في صفحات التاريخ المشرق، وآياته الخالدة، مشاعل غائبة عن واقع الناس، ولنطلع على أحاديث وقصص ما كانت لتفترى، ونتعرف على ما روى التاريخ من أبناء العظمة الباهرة، إنها ليست أساطير، وإن بترت من فرط إعجازها كالأساطير، إنها حقائق تبين ما كان لأصحاب رسول الله من شخصية وحياة، وإنها لتسمو وتتألق بقدر ما بذلوا في سبيل التفوق يضع يده في العذرة ويدنيها من فيها، فإذا وجد ريحها صدف عنها، فحرمها أبو بكر على نفسه، لقد توصل هذا الإمام بصفاء طبعه وحدة فؤاده إلى ضرر الخمر فحرمها على نفسه، ولم ينزل في تحريمها وحي، ولم تمنعها شريعة، والناس في جاهلية فكيف يحلها اليوم لأنفسهم ناس من الناس يشربونها في منتدياتهم وسمرهم، وبين أيديهم كتاب الله الذي حرمها عليهم .

وفي جانب الصدع بكلمة الحق وإعلانه للناس وحبه العظيم لرسول الله وصحبه على الأذى في ذات ابن هذا الموقف، جاء في الإصابة لابن حجر أن أصحاب رسول الله اجتمعوا وكانوا تسعة وثلاثين رجلا، فألح أبو بكر على رسول الله بالظهور قال: ((أبا بكر إنما قليل))، فلم يزل يلح إلى رسول الله حتى ظهر وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبا ورسوله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله عز وجل والى رسوله، وثار المشركون عليه وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضربا شديدا، ودنا عتبة بن ربيعة من أبي بكر وجعل يضرب بنعلين مخصوفين حتى لم يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم وهم قبيلة أبي بكر فأجلواْ المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه بيته لا يشكون في موته، ورجع بنو تميم فدخلوا المسجد فقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر يكلمونه، حتى أجابهم آخر النهار، فكان أول ما قاله : ماذا يمكن أن يقول أي إنسان حصل له مثل ما حصل للصديق قال الصديق : ما فعل رسول الله ؟ لقد نسي الصديق آلامه الشديدة، نسي الجراح التي كانت تشغب دما، نسي نعلي عتبة بن ربيعة التي هوى بها على وجهه الكريم، وتذكر رسول الله، خشي عليه أن يصيبه المشركون بأذى كما أصيب هو، وحينما سمع بنو تميم سؤال أبي بكر عن الرسول نالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قالوا لأمه، انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه، فلما خلت به وألحت جعل يقول : ما فعل رسول الله، قالت : والله ما أعلم بصاحبك، قال : فاذهبي إلى أم جميل، فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت : ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن شئت ذهبت معك إليه، قالت : نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، فدنت منه أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجوا أن ينتقم الله لك، قال: ما فعل رسول الله قالت : هذا أمك تسمع، قال : لا عين عليك منها، قالت : سالم وصالح، قال : إي هو: قالت في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا أو أتي رسول الله فأمهلتا وحتى إذا هدأت الرجال، وسكن الناس، خرجنا به يتكئ عليهما، حتى دخلتا به على رسول الله فانكب عليه فقبله، وانكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي.

هذا نموذج حق، وموقف صدق من كثير من المواقف المثالية التي أنتجها الصديق في عالم لا يعرف القيم قدرها.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلم يبلغ الصديق رضوان الله عليه ما بلغ من المنزلة الشامخة، والسؤدد العظيم إلا بالإيمان بالله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه عليه، فحين قضى النبي على مشركي قريش وعلى صحابته ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج ارتد من ارتد عن ضعفاء الإيمان، وهزئت قريش برسول الله أيما هزء، واستغل الخبيث أبو جهل الفرصة ليفتن أبي بكر بهذا الخبر، فجاء لينظر ماذا يكون موقفه من هذه الحادثة العجيبة، فإذا بأبي بكر يرد على رئيس الضلالة في قريش بهدوء المؤمن الواثق بنبيه، المطمئن إلى صدق رسول الله : أو قد قال ذلك ؟ فيقول أبو جهل : نعم ! فيقول الصديق: لئن قال ذلك لقد صدق، قال أبو جهل ومن معه : تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة، إنه إيمان بلغ الدين وأتى أكله كل حين بإذن ربه .

أيها المسلمون : ولئن كان الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم يتراشقون بالسباب والشتم، والكذب البهتان فإن الصديق لم يكن كذلك، عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم النبي فأعطاني أرضا وأعطى أبا بكر أرضا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقال أبو بكر: هي في حدي، وقلت أنا: هي في حدي، فكان بيني وبين وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهتها، وندم، فقال: يا ربيعة رد علي بمثلها حتى يكون قصاصاً، فقلت لا أفعل، فقال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله ، فانطلقت أتوله، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله وهو الذي قال لك ما قال ؟ قلت : أتدرون من هذا ؟ أبو بكر الصديق وهو ثاني اثنين وهو ذو شيبة في الإسلام، فإياكم أن يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: فما تأمرنا قلت : ارجعوا وانطلقت وحدي اتبع أبا بكر حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث، فقال يا ربيعة، مالك وللصديق فقلت : يا رسول الله كان كذا وكذا، قال لي كلمة كرهتها، فقال لي : قل لي كما قلت لك حتى يكون قصاصا فأبيت قال رسول الله : ((أجل فلا ترد عليه ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر))، فولى أبو بكر وهو يبكي رضي الله عنهم أجمعين.

أيها المسلمون: إنها لآلئ منثورة هنا وهناك من سيرة أولئك، العظماء الذين يجب علينا أن نقرأ سيدهم ونقرأها أبناءنا وننشئهم على وابلها انقياض كي نراها سلوكا عمليا في واقعنا وواقعهم، وما لم يحصل ذلك فإن الشباب والجيل سوف يكون كهشيم تذروه الرياح وسراب يحسبه الظمآن ماء.

(1/301)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, مساوئ الأخلاق

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الفرار بالنفس من دواعي الحرام – خطر المرأة الفاسدة – ضعف الحياء والغيرة من صفات المترفين الخطبة 2 : التحذير من وسائل الإعلام العالمية "

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى: واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:25-29].

في هذه الآيات من قصة يوسف عليه السلام مسائل ودروس وعبر:

أولها: في قوله تعالى: واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب كل منهما يريد أن يدركه ويلحقه قبل الأخر, يوسف الصديق يريد أن يلحق الباب لينفذ بجلده وينجو بنفسه وعرضه, وامرأة العزيز تريد أن تدركه حتى تغلقه وتمنع يوسف من الخروج, فهذه الجملة القرآنية إضافة إلي ما فيها من براعة وبلاغة وطي لمواقف عديدة من القصة فإنها تصور لنا ذلك الصراع المحموم بين نفسين بشريتين, نفس نقية طاهرة تفر من الدنس ونفس أخرى ملوثة تصر على الدنس , أما يوسف الصديق فكان حريصاً علي النجاة بنفسه من حفرة المعصية التي راودته امرأة العزيز علي التردي فيها, وأما تلك المرأة الآثمة الفاسدة فكانت مصممة علي التردي في حفرة المعصية وأن تجر يوسف الصديق معها.

وانطلقا نحو الباب مع الفارق الكبير بين الموقفين، وفي موقف يوسف الصديق درس لكل مؤمن ومؤمنة على كل واحد أن يفر بنفسه لا من المعصية والإثم فحسب بل حتى من دواعيهما ولذلك لما نهى الله تعالى عن الفاحشة عن الزنا قال: ولا تقربوا الزنا [الإسراء:32]. فنهى حتى عن مجرد القرب, فعلي من يريد أن يسلم من هذه الفاحشة القبيحة المقيتة أن يتحاشى الدواعي والأسباب التي يمكن أن تغريه وتحرضه على الوقوع في وحلها وحفرتها, في هذا العصر الحافل بالفتن والمغريات والدواعي التي تدعو إلى الانحلال والفساد وإلى ارتكاب الفواحش فإن علي كل مؤمن ومؤمنة أن يفروا إلى الله: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [الذاريات:50].

المسألة الثانية: سرعة بديهة تلك المرأة الآثمة الفاسدة إذ لم تعقد المفاجأة لسانها وتشل تفكيرها عندما وجدت زوجها لدى الباب فإذا بها أمامه وجهاً لوجه وهي تسابق يوسف إلى الباب بل بادرت بإلقاء التهمة على يوسف بقولها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم [يوسف:25]. وهكذا المرأة المتمردة, المرأة إذا تمردت وتوغلت في أوحال الإثم والفساد فإنها تكون غاية في الخبث والمكر والدهاء ولذلك ترى في هذه الآيات أن كيدها وصف بأنه عظيم بينما وصف كيد الشيطان في القرآن بأنه ضعيف فالمرأة إذا فسدت وتمرغت في وحل المعصية والإثم تكون أشد خبثاً وكيداً من الشيطان نفسه, وأما تلك المرأة التي آمنت وصلحت واتقت ربها عز وجل فإنها تكون خير متاع الدنيا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم(1)[1].

المسألة الثالثة: في هذه الآيات أن حياة الترف, الحياة اللاهية العابثة المترفة المتحللة من القيود والضوابط الأخلاقية والآداب الشرعية تصبغ أصحابها بصبغة قبيحة منتنة, إن من أسوأ نتائج تلك الحياة المترفة المتحللة ذلك الانفلات الأخلاقي والتحلل المعنوي الذي يصيب أصحابها حتى لا يبقى لديهم شيء من الغيرة والحشمة والحياء, هذا العزيز لما قام الدليل على إدانة امرأته وثبت لديه أنها هي التي راودت يوسف عن نفسه لم يحرك ساكناً كان غاية ما قاله وفعله أن قال في الحال: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:28]. هذا كل ما لديه من تأديب لامرأته الفاسدة الآثمة بل أكثر من ذلك لم يحاول إبعاد ذلك الشاب الممتلئ رجولة وحيوية ووسامة عن امرأته بل تركه حيث هو, ويوسف الصديق كان مغلوباً على أمره كان مملوكاً مقهوراً وإلا لو كان الاختيار بيده لما تردد بالفرار بنفسه من تلك البيئة العفنة الملوثة لكنه صبر مقهوراً ومغلوباً على أمره متحصناً بما حماه الله به, أما هذا الموقف من العزيز فهو مثال لما يمكن أن تصنعه الحياة المترفة المسرفة المتحللة اللاهية العابثة لما يمكن أن تصنعه من الرجل حيث تقضى فيه على كل معاني الرجولة والغيرة والحياء, هذا الموقف من العزيز هو ما يسمى في الشرع بالدياثة وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم الديوث وقال: ((لا يدخل الجنة ديوث))(2)[2] والديوث هو الذي يرضى على أهله بالسوء والفحشاء والدنس لا يغار عليهم ولا يحاول منعهم من السوء والفحشاء وحمايتهم من الدنس, فيا أيها المسلمون اتقوا الله عز وجل واحذروا من حياة الترف, احذروا من الحياة اللاهية العابثة المتحللة التي لا تضبطها الضوابط الأخلاقية ولا تقيدها الآداب الشرعية حتى أولئك الذين وسع الله عليهم وأنعم عليهم من رزقه فإن عليهم أن يحرصوا كل الحرص علي حماية أنفسهم وأهليهم وأولادهم من حياة الترف وأن يقصروهم علي الآداب الشرعية على الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [طه:132].

فيا أيها المسلمون قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))(3)[1]. وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضى الله عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال))(4)[2]. وقيل وقال أي كثرة الحديث وكثرة الكلام بدون روية ولا تدبر ولا تثبت ولا تبين.

وفي سنن أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بأس مطية الرجل زعموا))(5)[3] وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين "وكالة يقولون" فترى كثيراً من الناس يتناقلون الأحاديث والإشاعات والأخبار بدون روية ولا تثبت وقد يسهمون بذلك بفت عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبث الرعب في قلوبهم فيخدمون بذلك دون أن يشعروا أهداف العدو, فإن العدو غاية ما يسعى إليه هو ضعضعة معنوياتنا وإلقاء الرعب في قلوبنا وإضعاف إيماننا, إن الحرب النفسية الآن لا تقل شراسة عن الحرب العسكرية, الحرب النفسية الآن محتدمة بين الأطراف كلها كما هو الشأن في الحرب العسكرية فكل الأطراف يستخدمون هذا النوع الذي هو الحرب النفسية لأنه سلاح هام وفي مثل هذه الظروف والمحن فإن هناك جهات مغرضة تنتهز هذه الفرصة للدس والتشويش بهدف زعزعة معنويات المسلمين وإضعاف إيمانهم وبث الرعب في قلوبهم, فعلى كل مسلم وعلى كل مسلمة أن يتحاشوا نقل شيء من الأخبار والشائعات أو المقالات أو التوقعات أو التحليلات إذا كانت مما يضعف معنويات المسلمين ويبث الرعب في قلوبهم, علينا جميعاً أن نتحاشى ذلك وأن نتثبت من الأخبار فإن من يتتبع الإذاعات الأجنبية اليوم ووسائل الإعلام العالمية يتحير ويتخبط في حيرته من تناقض الأخبار والتحليلات والتوقعات والمقالات ونحو ذلك من الوسائل الإعلامية وربما وقع فريسة لبعض تلك الجهات المغرضة الحاقدة المعادية, فعلى المسلم أن يمتثل لتوجيه النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم لا يحدث بكل ما سمع, لا ينشر بين الناس كل ما يسمع وما يقرأ بل عليه أن يتحاشى نشر أي شائعة أو خبر أو تحليل أو نحو ذلك إذا كان فيه فت لعضد المؤمنين وإضعاف لمعنوياتهم وزعزعة لإيمانهم وبث للرعب في قلوبهم حتى ولو كان ذلك صحيحاً, المنافقون لا يفوتون مثل هذه الفرص يحرصون علي اغتنامها للتشويش على المسلمين ولإلحاق الضرر بهم وهذه خصلة فيهم ذكرها القرآن الكريم قال تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به [النساء:83]. أي نشروه وبثوه ليلقوا الرعب في قلوب المؤمنين ويشوشوا عليهم ويربكوا صفوفهم ولو ردوه إلى الرسول وأولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء:83]. فاتقوا الله أيها المؤمنون فليحذر كل واحد منكم أن يكون إذاعة متنقلة للعدو يحقق أهدافه المعنوية دون أن يشعر.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(6)[4] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) مسلم (1467).

(2) أحمد بنحوه (2/134).

(3) مسلم: المقدمة (5).

(4) البخاري: ك: الزكاة (1407).

(5) أبو داود: ك: الأدب (4972).

(6) صحيح مسلم (408).

(1/302)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, المرأة

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

خطورة الاختلاط – التحذير من الخدم – صور من المخالفات الشرعية مع الخدم والسائقين تنبيهات للمستقدمين

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تعالى: فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [يوسف:28-29].

في الجمعة الماضية ذكرنا ثلاثة دروس وثلاث مسائل مستفادة من هاتين الآيتين والآيات قبلهما والمسألة الرابعة تنبهنا هذه الآيات إلى خطورة الاختلاط وخاصة مع الخدم يوسف هنا كان مثالا رائعا للنقاء والطهر والأمانة ولم يكن في الحقيقة عبدا مملوكا بل هو سيد كريم ابن سادات كرام لكن كان من البلاء الذي ابتلي به وصبر عليه أنه اتخذ قهرا عبدا مملوكا فاضطر أن يخدم العزيز في قصره واضطر كارها إلى مخالطة أهله فإذا كان غير يوسف مكانه ماذا كان الحال لقد أثبت العزيز في موقفه لا مبالاته وعدم غيرته على أهله إذ كيف رضي أن يضع شابا جميلا عند أهله ليخدمهم منذ البداية كيف رضي بذلك بل حتى بعد أن ثبتت إدانة امرأته وعلم أنها راودت يوسف عن نفسه لم يحاول إبعاد يوسف عنها البلاء منها وليس منه ولكن على الأقل لكي لا تتكرر تلك المحاولة الآثمة من امرأته الآثمة الخائنة وهذه الدياثة هي من أسوأ ما يمكن أن تنتجه حياة المدنية المترفة اللاهية المتفلتة المتحللة من ضوابط الأخلاق وآداب الشرع إن الشرع يأمر الرجل أن يحمي عرضه وأن يغار على أهله وحريمه وأن يحتاط من أجل الحفاظ على عرضه وأخلاقه وأن يبتعد عن الشبهات ((فمن ابتعد عن الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه))(1)[1]، كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك منع الشرع الاختلاط وأمر بغض البصر وأمر المرأة بالاحتشام وأمرها بالحجاب أمام الأجنبي حتى لو كان خادما إن مسألة الخدم هي من مظاهر الرفاهية في حياتنا اليوم نعم بحمد الله تعالى جرت الخيرات في أيدي كثير من الناس وكثير من البيوت صار فيها خدم وخادمات ولكن لا تنسى أيها المسلم أن هذه الخادمة أجنبية عنك لا تنسى أيتها المسلمة أن هذا الخادم أو السائق أجنبي عنك فلا تنسوا ذلك لا تنسوا آداب الشرع ولكن من مشكلات هذه الظاهرة من مشكلات مسألة الخدم أنك ترى بعض الناس يأتي بخادمة فتاة جميلة محل فتنة وإغراء فيضعها في بيته أمامه وربما أمام أولاده فتيانا مراهقين أو شبانا يأتي بالفتنة عينها فيضعها أمامه وأمام أولاده ثم يقول لنفسه هو وأولاده لا تحترقوا وترى بعض الناس وترى بعض الناس يتخذ خادما أو سائقا شابا لا تدل هيئته على أنه من أهل الديانة والأمانة والعفاف فماذا يتوقع من يفعلون ذلك هل يتوقعون إلا الخراب والدمار والفساد العريض في بيوتهم انظروا موقف العزيز الذي تصوره لنا تلك الآيات إن فيه تحذيرا مبطنا من ربنا عز وجل تحذيرا لكل عاقل فيه غيره وفيه نخوه وفيه دين وإيمان من أن يؤول به الحال إلى مثل هذه الحال إذا كنا قد بلينا بهذه المسألة واضطررنا إليها في حياتنا المرفهة في هذا العصر فعلى كل منا أن يحتاط لدينه ولعرضه ولأخلاقه ولدين أهله وأولاده وعرضهم قارن بين موقف العزيز الذي بعد أن ثبتت إدانة زوجه وفسادها يقول ليوسف أعرض عن هذا لفلف القضية واسترها لا تتحدث بها وأنت أيتها الزوجة الخائنة استغفري لذنبك قارن بين هذا الموقف وبين موقف آخر يمثل النقاء والعفاف والطهر والحرص على صيانة الأخلاق والأعراض إنه موقف ذلك الشيخ الجليل صاحب موسى عليه السلام لما عاون موسى تلك المرأتين اللتين وجدهما عند بئر أو ماء يسقيان وسط الرجال فعاونهما وسقى لهما ثم تولى إلى الظل وجلس يشكو إلى ربه حاجته وفقره ويسأله أن ينزل عليه من فضله أن ينزل عليه من خيره وسرعان ما جاءته الإجابة جاءته إحدى المرأتين تمشي على استحياء إنها من بيئة شعارها الحياء والحشمة والنقاء والطهر ليست مثل تلك البيئة التي صورتها الآيات بيئة العزيز وامرأته قالت له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا [القصص:25]. وذهب موسى عليه السلام إلى أبيهما الشيخ الجليل وقص عليه القصص فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [القصص:25]. إذن عرف ذلك الشيخ الجليل حقيقة موسى وأخباره كلها عرف نبله وقدره وأمانته وعرف مكانته وقوته فأحبه ورغب أن يعمل عنده أجيرا لكنه حينئذ سيخالطهم سيعيش معهم وذلك الشيخ عنده بنات ونساء ولم يفت ذلك الشيخ أن إحدى ابنتيه انتبهت إلى شهامة ذلك الشاب الجليل الشأن موسى عليه السلام وانتبهت إلى أمانته وقوته فزوجه إياها هكذا بيسر وسهولة وبدون تكلف ولا تعقيد كتعقيد أهل المدنية المترفة زوجه إياها وجعل مهرها أن يعمل عنده أجيرا ثماني حجج ثماني سنين وإن أتمها عشرا فذلك تطوع منه وبذلك صان الشيخ عرضه وأحصن ابنته وكسب ذلك الشاب الجليل الشأن وساعده على الإحصان هذا مثال للنقاء والطهر وللحرص حرص أهل النقاء والطهر والعفاف والتقى على صيانة الأعراض والأخلاق هذا هو المراد وليس المراد أن تزويج الأجير دائما هو الحل فمن يجد مثل موسى عليه السلام وإنما المراد أن هذا مثال لما يجب على العاقل وعلى المؤمن على وجه الخصوص من الحرص على صيانة الأخلاق والأعراض من الحرص على أن يستبرئ لدينه وعرضه وعلى أن يبتعد عن الشبهات فإذا كنت أيها المسلم ألجأتك ضرورة هذه الحياة المرفهة إلى مسألة الخدم فلا تتخذ إلا خادما تثق بأمانته وديانته وعفافه ولا يحل لك أن تدخل في بيتك خبثا وفسادا عريضا وإذا اضطررت إلى اتخاذ خادمة فلا تدخل في بيتك فتنة أو محل فتنة وإغراء فتعرض نفسك وأولادك وشبابك إلى الفساد العريض خذ بواجب الاحتياط لدينك ولعرضك وابتعد عن الشبهات قدر إمكانك فاتقوا الله أيها المسلمون اتقوا الله أيها المسلمون وحافظوا على دينكم وعلى أعراضكم وعلى أعراض أهليكم وأولادكم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

لما خرج سيدنا رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك غازيا مجاهدا في سبيل الله قال لأصحابه المجاهدين الذين خرجوا معه: ((إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا هم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم حبسهم العذر))(2)[1]، فدل هذا الحديث الشريف على أن من وطن نفسه وعزيمته على الجهاد في سبيل الله وسعى إلى تحقيق ذلك ثم لم يتمكن بسبب العذر فإنه يشارك المجاهد في الأجر فما بالك به إذا شارك معه وسانده ولو لم يخرج معه بنفسه ونحن في هذه الأيام نمر في محنة عظيمة وفتنة عمياء هجم علينا هذا العدو الغادر وهذا الظالم الغاشم هذا البعثي العلماني الملحد هجم علينا وتسبب في كل هذه الفتنة والكارثة العظيمة وكان لابد من أن ندفع عنا شره وشر من وراءه ولقد رد الله كيده في نحره وألب عليه الأمم وجمع عليه الجيوش هذا من لطفه سبحانه وتعالى بجيران هذين الحرمين الشريفين والمسجدين المقدسين وها هم جنودنا من أبناء هذه الأمة يدافعون عنا عن حرماتنا وأعراضنا وأموالنا وديارنا ويدافعون عن حمى هذين الحرمين الشريفين والمسجدين المقدسين قد بذلوا أرواحهم وقدموا أنفسهم في سبيل ذلك فواجب على كل واحد منا مسانداتهم ومعاضاتهم فمن لم يلزمه الخروج معهم للقتال فالواجب عليه أن يكون سندا وعونا لهم لا يكون مصدر فتنة وتشويش عليهم أن يخلفهم بخير وأن يكون سندا وعونا كل بما يستطيع فصاحب اللسان والقلم واجبه أن يدفع عنا بلسانه وقلمه يبين لهم الحقائق يبين للمسلمين حقائق ذلك الصراع فإنها فتنة عمياء اختلط فيها الحق بالباطل على كثير من الناس يبين للمسلمين الحقائق وينشر الوعي بين الناس ويبين لهم واجبهم ويذكرهم بالله عز وجل وينصحهم بالإقلاع عن الذنوب والمسارعة إلى التوبة ومن كان لا يقدر على ذلك يقدم ما يستطيع من إمكانه وقدرته يقدم دمه يتبرع بدمه فهذا من أثمن الأشياء التي يمكن أن تقدمها للمقاتلين هذه من أثمن الأشياء التي تسهم بها في القتال أما من قعد آمنا في بيته معافى في سربه محميا بحماية الله تعالى الذي سخر لنا جميعا من يدافع عنا ويدفع عنا عدوان المعتدين ثم مع ذلك لا يشارك بشيء أبدا لا بمشاعره ولا بلسانه ولا بدمه ولا حتى بدعائه بل ربما لا يكف لسانه عن التشويش والفتنة هذا والعياذ بالله لا أظنه مسلما فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم فاتقوا الله أيها المسلمون وعودوا إلى الله بادروا بالتوبة إليه وأقلعوا عن الذنوب فإن هذا كله من شؤم الذنوب هذا من عواقب المعصية من عواقب المعاصي والذنوب فأقلعوا عن الذنوب وتوبوا إلى الله تعالى قبل أن يعم شؤم هذه الذنوب والمعاصي بادروا إلى التوبة وألحوا بالدعاء على الله تعالى لا تملوا من ذلك فهذا وقت الدعاء في وقت الكرب وقت الضرورة والله رحيم غفور كريم يجيب دعاء المضطرين نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكفينا ويكفي المسلمين جميعا شر هذه الفتنة العمياء وأن كل من أراد بالإسلام والمسلمين شرا أن يرد كيده في نحره ويكفينا شره إنه قوي عزيز على كل شيء قدير.

أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(3)[2]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: كتاب الإيمان (52).

(2) البخاري: كتاب المغازي (4161).

(3) صحيح مسلم (408).

(1/303)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

فساد أحاديث المترفين – معنى حياة الترف – العلاقة بين المكر والغيبة – جمال يوسف -الجمال بين الخالق والمخلوق – أهل الجنة ورؤية الله

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فقال الله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشَ لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف:30-31].

تصور لنا هاتان الآيتان الجو السائد في تلك البيئة المترفة المتفلتة كما هي العادة غالبا في حياة القصور المنفلتة من ضوابط الشرع وقواعد الأخلاق. فتكون حينئذ أحاديث الفاحشة وقصص الفجور والفساد والإفساد هي الشغل الشاغل لأهلها يتناقلونها فيما بينهم بالرغم مما في ذلك من إشاعة الفاحشة وتشجيع على الخنا والفجور.

فهنا هاتان الآيتان تصور لنا كيف أن نسوة في تلك المدينة أخذن يثرثرن بقصة تلك المرأة الخائنة وما حدث منها من مراودة فتاها وخادمها, ويتظاهرن بلومها على ذلك مع أنهن أشد فسادا منها, فكل واحدة منهن لا تقل عنها فسادا. إنهن نسوة قلة مترفات أفسدتهن حياة القصور, نسوة في المدينة, فقوله في المدينة إشارة إلى البيئة والطبقة التي ينتمي إليها أولئك النسوة, وقوله نسوة وهذا جمع قلة, إشارة بليغة إلى قلة عددهن, إنهن نساء قلائل من علية القوم, قلة تتحكم في المجتمع وتتولى إفساد المجتمع, وليس كل علية في المجتمع فاسدون مفسدون, ولكن إذا غرق العلية من المجتمع في حياة الترف, فإنهم يتحولون إلى عنصر فساد وإفساد, فيسمون حينئذ بلغة القرآن مترفين, قال تعالى: إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [الإسراء:16]. حياة الترف معناها حياة البذخ والإسراف والكبر والخيلاء والفخر والمباهاة حياة التفلت الخلقي فليس كل غني بالضرورة مترفا ولا كل كبير بالضرورة مترفا فكم من الأغنياء والكبراء من صالحين ومصلحين, لكن هذا هو الغالب على حياة الترف حياة الإسراف والبذخ والكبر والخيلاء والمباهاة والانفلات الأخلاقي, وهنا أولئك النسوة من الفاسدات المترفات كن فاسدات فأخذن يلكن بألسنتهن قصة امرأة العزيز أعملن ألسنتهن بالغيبة وبحديث الفاحشة, ولذلك وانظر إلى الدقة في تعبير القرآن سمى ثرثرتهن تلك مكرا فلما سمعت بمكرهن [يوسف:31]. لأن في كل من المكر والاغتياب إفساداً خفياً فالمكر إفساد خفي والاغتياب إفساد خفي كما أن في تناقل أحاديث الفاحشة وقصص الخنا والفجور إفسادا خفيا ولذلك نهى الشارع الحكيم عن ذلك , بل نهى الرجل والمرأة عن نقل ما يقع بينهما من مباح ونكاح نهى الزوجين عن ذلك فما بالك ما يقع من قصص الخنا والفجور.

لا يجوز تناقلها وإشاعتها فإن في ذلك إشاعة للفاحشة وتشجيعا وتحريضا وإن كان غير مباشر على الخنا والفجور والفساد والإفساد, ربما في بعض الأحيان يكون من المصلحة والنصح التحذير من بعض الظواهر الفاسدة ولكن ليس على سبيل القصص ولا على سبيل التفاصيل فإن كثيراً من الناس اليوم يقعون في ذلك يتناقلون قصصا بتفاصيلها لا مصلحة من تفاصيلها ووصفها إلا تحريض السامعين على الفساد والإفساد.

فلما سمعت بمكرهن بادلتهن مكرا بمكر وكيدا بكيد, فأعدت لهن حفلا مترفا حفلا مخملياً كما يقولون في الصحف.

أسرت في نفسها شيئا تلك المرأة الفاسدة الآثمة وقبل أن ندخل في تفاصيل تلك الحفلة فلنستجلي شيئا من إعجاز القرآن العظيم إعجازه البلاغي ولنسمع أنموذجا من بلاغته الرائعة وأسلوبه القصصي البديع انظروا كيف انطوت تلك الآية مع وجازتها وقلة عباراتها على معاني غزيرة لو أراد أي قاص أن ينثرها لاحتاج إلى صفحات ومع ذلك طوتها الآية وتضمنتها في سطرين وقال نسوة في المدينة [يوسف:31]. أشرت إلى ما في هذه العبارة من دلالات كثيرة تشير إلى البيئة وإلى الطبقة التي تنتمي إليها تلك النسوة وإلى الظرف الذي أخذن يثرثرن فيه وفيها إيحاء بالمكان وإيحاء بالعادات الغالبة وفيها تنبيه إلى مساوئ حياة مثل هؤلاء المترفين.

ماذا قال أولئك النسوة وهن يثرثرن بأحاديثهن الفاسدة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه, امرأة العزيز هذا إشارة منهن إلى علو مكانة تلك المرأة في نظرهن إلى علو مكانتها في المجتمع فهي امرأة العزيز امرأة الرجل الذي هو أعلى مسؤول في بلده حينذاك فالمفترض أن تأنف بنفسها مع كل ما يتعارض مع مكانتها أو يدنس منصبها ومع ذلك فهي تراود فتاها عن نفسه، فتاها أي خادمها وعبدها، ولكن القرآن أعرض عن وصفه بالعبودية لم يقل عبدها وخادمها بل قال فتاها وهذا من أدب القرآن دائما يذكر الخادم والعبد بلفظ الفتى وإذ قال موسى لفتاه [الكهف:60]. ودخل معه السجن فتيان [يوسف:36]. أي خادمان وعبدان وهذا من أدب القرآن.

وقد جاءت السنة المطهرة بتفصيله فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي بل يقل فتاي وفتاتي))(1)[1] ومثله في هذه الأيام خادمي , خادمتي لا ينبغي للإنسان أن يعبر بمثل هذه الألفاظ لما فيه من إشعار لهذا الإنسان أو تلك الإنسانة بالمهانة والعبودية.

هذا من أدب الشرع من أدب القرآن تراود فتاها [يوسف:30]. أي عبدها وخادمها وكلمة تراود فيها ما فيها من إيحاءات أنها تصور لنا تكرار المحاولة من امرأة العزيز تصور لنا إلحاحها على يوسف , بذل كل وسيلة متاحة لها لأهوائه وإغوائه.

فلماذا امرأة العزيز مع علو مكانها ومكانتها تنزل بنفسها وتهبط بمكانتها إلى هذا الدرك تكون هي الطالبة المرتمية عند أقدام ذلك الفتى النقي الطاهر الذي استعصم بنفسه واستعلى بإيمانه وطهارته ونقائه عن تلك الفتنة القذرة ورفض محاولاتها بكل إباء واحتقار.

يجيب النسوة لأنه قد شغفها حبا أي اخترق حبه شغاف قلبها، وشغاف القلب حجابه وغلافه، فحبه نفذ في أعماق قلبها تمكن من قلبها فذهب عقلها وذهب صوابها فوقعت في الإثم وفي هذا تنبيه خفي من الرب جل جلاله إلي العواقب الوخيمة التي تترتب على التساهل في المخالطة وفي المعاشرة مع الأجنبي والأجنبيات.

هذا أنموذج للأسلوب القرآني الرائع البديع المعجز فسبحانه الذي قال: نحن نقص عليك أحسن القصص [يوسف:31].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشَ لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم

[يوسف:31]. ورد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه شاهد يوسف ليلة المعراج فوصفه أنه أوتي شطر الحسن(2)[1] وفي رواية أوتي يوسف وأمه شطر الحسن, وفي رواية أوتي يوسف وأمه سارة التي هي جدته امرأة إبراهيم جدته سارة نصف الحسن, ولكن هذا الجمال الذي أوتي يوسف عليه السلام يصح أن يوصف بأنه جمال ملائكي لأنه جمال مقرون بالكمال بالنقاء والطهر والإيمان, إنه جمال الظاهر والباطن فنفس يوسف كانت أجمل من ظاهره، نفس يوسف كانت أنقى وأجمل من ظاهره ولذلك أولئك النسوة لما رأينه اقترن في قلوبهن جمال ظاهره بما سمعنه من تعففه ونقائه وطهارته فوصفوه بأنه ملك كريم, ليس من عادات البشر في زعمهن أن يكون أوتي كل هذا الجمال وكل هذا الحسن ويواجه كل هذا الإغراء وكل تلك الفتنة ومع ذلك يستعلي بنفسه ويستعصم عن الفتنة وعن السوء والفحشاء يستعلي بنفسه وبإيمانه, هذا في الغالب ليس من طبع البشر ولذلك وصفنه بأنه ملك كريم, هذا جمال ملائكي جمال الظاهر والباطن.

أولئك النسوة لما رأين ذلك الجمال جمال يوسف غلبتهن المهابة والدهشة فغبن عن وعيهن وقطعن أيديهن, كل واحدة في يدها سكين تقطع به الفاكهة فمن الدهشة والمهابة أعملن أيديهن بالسكين فجرحنها ذهلن وغبن عن وعيهن لما شاهدن جمال المخلوق, فماذا يحدث للإنسان لو شاهد جمال الخالق سبحانه وتعالى ذي الجلال وذي الكمال الذي له الجمال كله والجلال كله والكمال كله؟

لما شاهد بعض الناس جمال المخلوق ذاك حدث لهم ما حدث. فماذا يكون شأن الإنسان لو شاهد جمال الخالق سبحانه وتعالى؟ مادام الإنسان مكبلا بقيود هذه الحياة الدنيا فإنه غير قادر على مشاهدة الجمال الإلهي ولكنه قد يستشعر ذلك الجمال بقلبه إن كان من أهل الإيمان والإحسان لكنه لا يستطيع مشاهدته مادام مكبلا بأغلال هذه الحياة الدنيوية, أما أهل الجنة في الجنة فيكمل لهم النعيم بالنظر إلى ووجهه الكريم فيكون ذلك نعيما لهم لا أكمل ولا أعظم منه ولذة لهم لا أكمل ولا أعظم منها, يرون ربهم عز وجل كما رأى الصحابة القمر لا يضامون في رؤيته: ((أشار النبي مرة إلى البدر وقال لأصحابه: هل ترون هذا البدر. قالوا: نعم. قال: سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته))(3)[2].

فمن كمال النعيم لأهل الجنة أنهم يتلذذون بزيادة النعيم بلذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى وهذا من الثواب الذي أعده الله للمحسنين, كما قال سبحانه: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس:26]. فالحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم.

روى الإمام أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ثم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. نادى منادِ: أن يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجز كموه. فيقولون: وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار. فيكشف الحجاب فيرون ربهم وينظرون إليه يكمل لهم النعيم بذلك فلا أعظم لهم من ذلك النعيم ولا أقر لأعينهم))(4)[3], أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

اللهم إنا نسألك نعيم الجنة ولذة النظر إلى وجهك الكريم. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(5)[4]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: كتاب العتق (2414).

(2) مسلم (162).

(3) البخاري كتاب التوحيد (6997).

(4) مسلم كتاب الإيمان (297).

(5) صحيح مسلم (408).

(1/304)

حرب الخليج

-----------------------

أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد

المسلمون في العالم, مذاهب فكرية معاصرة

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

اندحار جيش البعث – عصر الكوارث والهزائم – حرب الخليج من أعظم كوارث العصر دروس من هذه الأزمة – لا عزة إلا بالإسلام

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فقال الله تعالى: ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [إبراهيم:27]. وهانحن نرى اليوم رأي العين كيف ذهب كيد الظالمين في ضلال , كيف ذهبوا مع كل ما أنفقوا من إمكانيات هائلة ووضعوا من مخططات رهيبة ذهبوا هباء منثورا وهاهم في آخر أمرهم وقد أصبحوا صما بكما عميانا لا يبصرون , تخبطوا لما حلت عليهم عقوبة ربك سبحانه وقد كان أملا لهم قبل ذلك فعاثوا في الأرض فسادا فأكثروا فيها الفساد ,غدروا بإخوانهم وبجيرانهم واعتدوا على الحرمات وسفكوا دماء المسلمين وانتهكوا أعراض المسلمات وخوفوا المؤمنين الآمنين ووجهوا صواريخهم إلى جيران وخدام الحرمين الشريفين بدلا من أن يوجهوها إلى العدو الحقيقي توجيها حقيقيا . لقد فرقوا صفوف الأمة وأشمتوا بها الأعداء الصهيونيين فما أشد ظلم ذلك المعتدي البعثي العراقي وما أعظم جرمه ولكن هاهي النهاية نهاية الظلم والبغي والغدر والعدوان , فانظر كيف كان عاقبة الظالمين واليوم ونحن نشارك إخواننا الكويتيين المسلمين فرحتهم بعودة بلدهم وتحريره وزوال ذلك الغزو البعثي العراقي عن كواهلهم ونهنئهم بذلك ونهنئ أنفسنا بزوال الغمة وانجلاء الكارثة إن شاء الله فإننا لا نملك إلا أن نسأل الرب الكريم الرحيم أن يعجل بالفرحة الثانية وهي خلاص إخواننا في العراق من ذلك الكابوس البعثي البغيض , لئن كان الشعب الكويتي المسلم عانى من الغزو البعثي العراقي سبعة أشهر فإن الشعب المسلم العراقي يعانون من ذلك القهر ومن ذلك الكابوس البعثي الخبيث الظالم منذ سنين , فنسأله سبحانه وتعالى أن يعجل لهم بالفرج والخلاص لا من صدام حسين فحسب بل من أولئك الذين أعانوه ورفعوه على أكتافهم وجعلوا منه كابوسا بشعا , إنه حزب البعث العربي الاشتراكي العلماني العنصري المنفر البغيض .

هذه ليست أول كارثة تحل بالعرب والمسلمين في العصر الحديث إنه عصر يستحق أن يسمى بحق عصر الهزائم والكوارث . كم تحمل فيه العرب ومن ورائهم المسلمون من كوارث عديدة وهزائم كثيرة ولعل أعظمها تلك الكارثة التي لا تزال محفورة في قلب كل مؤمن إنها سقوط المسجد الأقصى بيد أحفاد القردة والخنازير الصهيونيين , تلك هي الكارثة العظمى التي ستظل نقطة عار في جبين هذا الجيل , ستظل محفورة في قلب كل مؤمن مقهور لا يملك حيالها شيئا ويتحرق أسفا وألما منها . ولكن هذه الكارثة التي اقترفها البعث العراقي بقيادة كلبه المتوحش صدام هي أبشع ما واجهنا في هذا العصر من كوارث , من حيث اتساع الأضرار الفادحة التي ألحقتها بمصالح الأمة العليا ومن حيث الذيول التي تركتها مع ما يترتب عليها من آثار مدمرة قد تبقى حقبة من الزمن نعاني من وطأتها , إلا أن يشاء الله شيئا إلا أن يأذن الله بأمر رشد لهذه الأمة تستعيد به عزتها وتداوي جراحها .

إن هذه الكارثة البعثية الصدامية بالرغم من شدة وطأتها علينا جميعا ومرارتها في قلوبنا ونفوسنا فإنها انطوت علي قدر كبير من الأهمية من الدروس والعبر والسعيد من اتعظ بها وتبصر:

أولا: علينا جميعا في هذه البقاع المقدسة خصوصا وفي الكويت و في الخليج وفي كل مكان أن نوطد قلوبنا بالله عز وجل وأن نتوجه إليه بقلوبنا وأفئدتنا شاكرين حامدين على لطفه بنا ومنه وكرمه علينا فالأمر كله بيده سبحانه .

الأمر كله له هو الذي قدر ما قدر وهو الذي قهر من قهر , الأمر به بدأ وإليه يعود والملك كله له يعز من يشاء ويذل من يشاء ويفعل ما يشاء ولكنه لا يفعل شيئاً إلا لحكمة فله سبحانه الحمد كله وله الثناء كله .

ثانيا: إن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده المؤمنين بالمحن ليتخذ منهم شهداء ويميز الخبيث من الطيب وليكشف المنافقين ويميزهم عن المؤمنين , ولقد أصبح واضحا لكثير من المؤمنين أن هذه المحنة كشفت زيف كثير من أهل الزيف والنفاق حتى من أولئك الذين كنا نمالئهم ونداريهم ونمدهم بالأموال ونخصهم بالدعم والتأييد والمودة حتى ولو كان ذلك أحيانا على حساب إخوان لنا وأشقاء مسلمين موحدين مصلين يئنون تحت وطأة أولئك يقولون لا إله إلا الله ويصرخون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا , ماذا نفعنا ممالأتنا لبعث العراق ولهدام العراق والعرب والمسلمين حتى عندما سفك دماء الآلاف من العراقيين وقتل الآلاف المؤلفة من إخواننا الأكراد صمتنا صمت القبور مداراة له وممالأة فماذا نفعنا ذلك كله؟ لقد تكشفت قلوبهم عن حقد دفين وعداوة مريرة والدرس المستفاد هنا هزال كل علاقة وكل وشيجة وكل رابطة وكل تعاون لا يقوم علي أساس الإسلام هزال كل تلك الروابط وكل هذا التعامل بل وخطورته علينا وعواقبه الوخيمة .

ألم يكن ربنا عز وجل الرؤوف بنا الرحيم بنا قد نصحنا ونبهنا ولكننا ما انتصحنا: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي قلوبهم أكبر قد بينا الآيات إن كنتم تعقلون هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور [آل عمران:118-119].

ثالثا: تنبهنا هذه الكارثة البعثية الصدامية إلي ضرورة الامتثال إلى ذلك الأمر الإلهي الذي يحمل معنى هاما وأساسيا واستراتيجيا في حياتنا نحن المسلمين , ذلك الأمر الذي طالما تغافلنا عنه قال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم [الأنفال:60]. وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ألا إن القوة الرمي ))(1)[1] , ولكن تأملوا كيف صنفت تلك الآية الكريمة أعداءنا الذين يجب أن نأخذ حذرنا منهم وأن نعد العدة لهم وأن نبني قوتنا الذاتية خوفا منهم وإرهابا هم أولا عدو الله ترهبون به عدو الله كل من ناصب دين الله وشريعة الله وأولياء الله كل من ناصبهم العداء وهو عدونا الحقيقي .

ولكن هناك آخرون مختفون وراء الابتسامات , ابتسامات الخديعة والمكر والخيانة والغدر إذا كنا لا نعلمهم أو نتعامى عنهم فإن الله يعلمهم , هاهو واحد منهم صدام البعثي الهدام وقد انكشف لنا وانقضى فيا ترى كم صدام بقي هناك ؟ لا يزال يتستر ويختفي وراء الابتسامات الماكرة , إن الإعداد والاستعداد واجب شرعي ومبدأ إسلامي , قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا [النساء:71]. فكارثة بهذا الحجم إذا لم تكن نجحت في تنبيهنا إلى وجوب الإعداد وبناء قواتنا الذاتية وتربية شبابنا على الجهاد فماذا يجب أن يحدث حتى نفتح أعيننا ونتبصر بواجباتنا؟

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد فالدرس الرابع من هذه الكارثة البعثية الصدامية أنها كشفت لنا مدى قبح وشناعة الانحراف عن الإسلام , أمة العرب في العصر الحديث جربوا فيها كل شيء إلا الإسلام وحكموا فيها كل نحلة إلا الإسلام , جربوا فيها القوميات العنصرية , وجربوا فيها الاشتراكية العربية الناصرية , وجربوا فيها البعث العلماني الإلحادي الذي أفرز لنا عدة كوارث كبرى هذه واحدة منها . فيا ترى ماذا سيجربون أيضا في الأيام القادمة؟ أخوف ما نخاف أننا ونحن مقبلون على مرحلة يشتد فيها الانبهار والإعجاب بالغرب وتكنولوجيته والشعور بالامتنان نحو هذا الغرب الذي ساعدنا على الانتصار على صدام الذي هو عميله و صنيعته , أخوف ما أخاف أن تنشط من جديد تلك العلمانية البغيضة التي حزب البعث وجه من وجوهها . فيا ترى ماذا ستلبس لنا في الأيام القادمة وبماذا ستسمى؟ فقد أفلست تلك الأسماء القديمة , لا بد أنها ستهجم علينا من جديد لابسة أثواب أخرى ومتسمية بأسماء جديدة ولا نستبعد أن تتسمى باسم الإسلام فنشهد في الأيام القادمة الإسلام العلماني .

ترى من أولئك الذين يحولون بيننا وبين أن يحكمنا الإسلام في عالم العرب والمجتمع الإسلامي , هذا الإسلام الذي نحمله جميعا في قلوبنا عقيدة ونمارسه عبادة , إنه نظام كامل شامل , إنه عقيدة وشريعة وقانون ونظام حكم واقتصاد . ولو سيطر الإسلام على حياتنا السياسية طوال الفترة الماضية لكنا وفرنا على أنفسنا كل تلك الكوارث والهزائم , ولكن فساد الطبقة السياسية في العصر الحديث في عالم العرب والمسلمين وانحرافهم عن الإسلام وانفصالهم عن عقيدة الأمة وعن آمال الأمة هو الذي جلب على أمة الإسلام وعلى أمة العرب على وجه الخصوص كل تلك الكوارث والهزائم وسيجرون كوارث أخرى إلا أن يشاء الله أن يتداركنا برحمته .

حقيقة يجب أن نتنبه لها ونتذكرها حكاما ومحكومين أننا مهما ابتغينا العزة في غير دين الله , أذلنا الله وسلط علينا من يقهرنا ويسومنا سوء العذاب , فإنه تعالى حكم في كتابه المنزل أن العزة لله جميعا ليس لأحد غيره نصيب من العزة حتى يؤتيه من يشاء ويمنعه عن من يشاء فالعزة لله جميعا , فإذا ما أردنا العزة وإذا ما أردنا السلامة من الذل والقهر والكوارث والهزائم فعلينا أن نحكم شريعة الله عز وجل في جميع شؤون حياتنا وخاصة حياتنا السياسية .

أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا ))(2)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) صحيح مسلم (1917) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

(2) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/305)

السيرة النبوية العطرة - فتح مكة

-----------------------

سيرة وتاريخ

غزوات

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

صلح الحديبية وفتح مكة – رمضان والفتح – رمضان والفتح – سبب غزوة الفتح إسلام أبي سفيان – تحطيم الأصنام – مشهد رائع للعفو – أحكام زكاة الفطر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى لرسوله ولنبيه صلى الله عليه وسلم: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا [الفتح:1-3].

نزلت هذه السورة في صلح الحديبية الذي أبرمه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه الأساسي في ذلك الوقت قريش, فهذه الآيات تبشره صلى الله عليه وسلم بأن تلك المعاهدة هي البداية للفتح الأعظم فتح, وهذا ما حدث فعلا فقد كان نقض قريش لفقرة من فقرات تلك المعاهدة سببا لغزو النبي صلى الله عليه وسلم لها وفتحه مكة وكان هذا الفتح الأعظم فتح مكة في شهر الفتوح والبشائر والخيرات شهر الجهاد شهر رمضان المبارك.

وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن قريشا أعانوا سرا حلفاءهم بني بكر على الإغارة على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم عزم على غزو قريش لأنها نقضت العهد الذي أبرمه معها صلى الله عليه وسلم.

وندمت قريش وخافت من النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه زعيمها أبا سفيان بن حرب ليفاوضه ليشد العقد ويزيده في المدة فلم يفلح أبو سفيان.

أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمر أصحابه بالتجهز للقتال وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجها إلى مكة في نحو عشرة آلاف مقاتل, وفي أثناء الطريق في الجحفة لقيه عمه العباس بن عبد المطلب وقد خرج مسلما مهاجرا بأهله وعياله فتقبله النبي صلى الله عليه وسلم.

و في الأبواء لقيه عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبي أمية وكانا من ألد أعدائه صلى الله عليه وسلم فأسلما فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهما.

ولما بلغ رسول الله مر الظهران قرب مكة أمر الجيش فنزلوا وأوقدوا عشرة آلاف نار, وركب العباس بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وخرج يلتمس أحدا يبلغ قريشا لتخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتطلب منه الأمان فلا يكون في البلد الأمين قتال.

ولقي العباس أبا سفيان بن حرب بالقرب من الجيش المسلم. فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل ما وراءك فقال هذا رسول الله في الناس. فقال أبو سفيان: فما الحيلة. فقال له العباس: اركب معي حتى آتي بك النبي صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. فأتى به العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي لأبي سفيان: ((ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله)). فقال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأعظمك وأحلمك لقد علمت أن لو كان مع الله غيره لأغنى عني. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما آن لك أن تعلم أني رسول الله)). فتلكأ أبو سفيان فقال له العباس: ويحك أسلم. فأسلم أبو سفيان وشهد شهادة الحق. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس أن يوقف أبا سفيان في مضيق الوادي عند خطم الجبل حتى يمر به المسلمون فيرى أبو سفيان القوة الإسلامية رأي العين فأخذت القبائل تمر على راياتها كلما مرت قبيلة سأل أبو سفيان عنها فيخبره العباس هذه قبيلة فلان, قبيلة بني فلان. فيقول أبو سفيان: ما لي ولها. حتى أقبلت قبيلة لم ير مثلها. فقال أبو سفيان: يا عباس ما هؤلاء. فقال العباس: هؤلاء الأنصار وعلى رأسهم سعد بن عبادة معه الراية فلما دنا سعد من أبي سفيان قال: أبا سفيان اليوم يوم الملحمة, اليوم تستحل الكعبة. ثم أقبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد ففزع أبو سفيان وقال: سبحان الله يا عباس من هؤلاء. فقال العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. ثم لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره أبو سفيان بمقالة سعد بن عبادة وهو قوله "اليوم تستحل الكعبة ", فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة, اليوم يوم أعز الله فيه قريشا))(1)[1].

وأمر النبي فنزعت الراية من سعد بن عبادة وسلمت لابنه قيس فرأى بذلك أن الراية لم تخرج منه إذ أعطيت لابنه وأمن بذلك النبي صلى الله عليه وسلم من أن تكون لسعد بن عبادة صولة في قريش يكرهها النبي صلى الله عليه وسلم.

ولما دنا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أمر برايته فركزت بالحجون ودخل مكة فاتحا مؤيدا منصورا مظفرا مؤيدا بتأييد الله عز وجل. دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة مطأطئ الرأس يكاد رأسه يمس رحله تواضعا لله جل وعلا, دخلها وهو يقرأ سورة الفتح: إنا فتحنا لك فتحا مبينا [الفتح:1]. ويرجعها أي يتغنى بها ويترنم رافعا صوته صلى الله عليه وسلم , وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى مجنبتي الجيش خالد بن الوليد وعلى الأخرى الزبير بن العوام ومضى صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد الحرام فطاف بالبيت على راحلته وكان حول البيت ستون وثلاثمائة صنم فجعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنها بقوس معه وهو يقول: ((جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ويقول قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)). فجعلت تلك الأصنام تتساقط على وجوهها واحدة إثر أخرى, ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم جوف الكعبة فصلى بها فلما فرغ من صلاته دار فيها وكبر في نواحيها ووحد الله عز وجل. ووجد فيها صورا زعموا أنها للأنبياء فأمر بها فمحيت. وبعد ذلك وقف على باب الكعبة وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل بهم صلى الله عليه وسلم وهم الذين ما تركوا وسيلة لحربه ومناوأته واضطهاده وإيذائه إلا فعلوها, كانوا ينتظرون ماذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم, فوقف النبي بباب الكعبة ممسكا بعضادتي الباب وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده, يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء, الناس من آدم وآدم من تراب: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير , يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم)). فقالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء))(2)[2].

وهكذا طهر الله جل وعلا بلده الأمين وبيته الكريم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم طهره من مظاهر الشرك والوثنية ونور أرجاءه بنور التوحيد ودين الإسلام ومكارم الأخلاق فكان ذلك الفتح النبوي الأعظم فتح مكة تكريسا لعقيدة التوحيد بها وترسيخا لسماحة الإسلام بها فلا حقد ولا انتقام ولا سفكاً للدماء ولا انتهاكاً للحرام ولكن أمن وأمان ورحمة ورأفة وبر وإحسان وأداء للأمانات وعدل بين الناس .و الحمد لله رب العالمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد فقد أوجب الله تعالى على عباده التراحم والتعاطف والتعاون وأن يتفقد غنيهم فقيرهم فيقوم بحاجاته الضرورية, وجعل في مال الغني حقا معلوما للفقير لا منة فيه ولا فضل للغني بل هو فرض واجب الأداء ألا وهو الزكاة فعلى كل مسلم ملك نصابا أن يقدمها للفقير طيبة بها نفسه ومن أنواع الزكاة التي فرضت على المسلمين زكاة الفطر, فرضت على المسلمين على الكبير والصغير والذكر والأنثى ولا تجب على الجنين في بطن أمه إلا أن يخرجها عنه وليه تطوعا.

فرضت هذه الصدقة لإغناء الفقراء يوم العيد وكفهم عن السؤال, قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللهو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة أي صلاة العيد فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.

يجب إخراج هذه الصدقة صاعا من طعام برا أو شعيرا أو تمرا أو أقطا أو زبيبا أو أرزا أو غير ذلك, قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام وكان طعامنا حينئذ الشعير والتمر والأقط والزبيب. رواه البخاري.

إذن يجب إخراج الزكاة صاعا من الطعام الذي اعتاد الناس اليوم أن يأكلوه ويطعموه والصاع يعادل كيلوين وأربعين جراما, ويبدأ وقت وجوب إخراج هذه الزكاة بغروب الشمس ليلة العيد ويمتد إلى صلاة العيد ولا يجوز تأخيرها عن ذلك فمن أخرها أثم وهي صدقة من الصدقات ويجوز تقديمها على هذا الوقت بيوم أو يومين وتدفع هذه الصدقة للفقراء في البلد الذي يكون فيه المزكي وقت وجوبها عليه سواء كان محل إقامته أو غير ذلك.

فاتقوا الله أيها المسلمون وبادروا إلى أداء هذه الصدقة تزكون بها أنفسكم وتشاركون إخوانكم الفقراء بإغنائهم يوم العيد وكفهم عن السؤال.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(3)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) انظر زاد المعاد (3) ص (1402).

(2) الطبقات لابن سعد بنحوه (1) (141) (143) وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (561).

(3) صحيح مسلم (408).

(1/306)

منكرات الأفراح

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

منصور الغامدي

الطائف

4/3/1420

أبو بكر الصديق

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- العبودية لله في جميع الأحوال والأوقات 2- مظاهر إعلان النكاح ودلالتها وأثرها 3- وصايا السلف في ليلة الزفاف 4- طبيعة الزواج في الاسلام 5- بعض منكرات الأفراح: (الذهاب إلى العرافين والكهنة – بدعة قراءة الفاتحة – دبلة الخطوبة – الخطبة على خطبة أخيه - المغالاة في المهور – قولهم في التهنئة: بالرفاه والبنين – التباهي والاسراف في ولائم العرس – الغناء – السهر وتضييع الفجر – الاختلاط – التصوير ) 6- خطورة هذه المنكرات وأثرها السيء على الحياة الزوجية .

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى وأن ملك الموت قد تخطأكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم.

أيها الأحبة الكرام: إن الناس يعيشون أحوالا متقلبة، من العسر واليسر، والفرج والشدة، الحزن والفرح، وفي ذلك كله فإن المسلم الحق يبقى وثيق الصلة بربه معتصما الذي لو تخلى عنه طرفه عين لهلك.

أيها الاخوة الكرام: ومن مظاهر الفرح والسرور التي يعيشها الناس في هذا الأيام مظاهر إعلان النكاح في كل مكان ودعوة الناس لحضورها فتجد كثيرا من البيوت تعيش فرحة زواج الذكر أو الأنثى، وتعد له ما يحتاجه، وأسر أخرى تنتظر يوم فرحتها بهذا الحديث والناس، يكتنفهم السرور، ويحدوهم الفرح في التهنئة والمشاركة ولا شك أيها الاخوة أن هذه المشاعر الفياضة، والعواطف الجياشة من الفطرة، وإن الحياة لتحلوا إذا رأى المرء الناس قريبين يبادلونه مشاعر الابتهاج، ويقدمون له من الخدمات ما يحتاج إليه ويسمع ألسنتهم تلهج بالدعاء له بأن يبارك الله له ويبارك عليه وأن يجمع بينهما في خير.

لقد كان للسلف في ليلة الزفاف وصايا عظيمة، وكلمات نافعة، يهمسون بها في أدب الزوجين حين إقبالها على حياة جديدة، قال عتبة بن أبي سفيان لا بن أخيه عثمان حينما خطب ابنته قال: أقرب قريب، خطب أحب حبيب، لا أستطيع له ردا، ولا أجد من إسعافه بدا، قد زوجتكما وأنت أعز علي منها، وهي ألصق بقلبي منك، فأكرمها يعذب على لساني ذكرك، ولا تهنها فيصغر عندي قدرك، وقد قربتك مع قربك، فلا تبعد قلبي من قلبك وأوصيت أمامه بنت الحارث ابنتها قبل زفافها فقالت: أي بنية، إنك قد فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا، واحفظي له خصالا عشرا تكن لك ذخرا، أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة وحسن السمع والطاعة، والثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة : فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، وأما السابعة والثامنة : فالاحتراس بماله، والارعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال: حسن التقدير، وفي العيال: حسن التدبير، وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا، ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مغتما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا.

هذه بعض المعالم التي يسوقها المجرّب الخرّيت إلى فلذة كبده: يعينه بها على الحياة، ويشد من أزره ليبقى موصول السعادة، دائم البشر، متيقظا حذرا.

وفي ليلة الزفاف يسمح للنساء الضرب بالدف فقط، قال : ((فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف)).

أيها الاخوة الكرام: إن الزواج في ظل الإسلام لا يحمل أي مشقة بل كان الزواج من أيسر الأمور قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوا ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))، ويقول الله تعالى: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ولم يكن ليالي الزفاف مثقلة بكثير مما يخالف ما جاء به السنة والقران.

أيها الأب الموفق، أيها الأخ الغيور: لقد أصبحت ليالي العرس وما قبلها وما بعدها تحمل أنظمة معينة، وقوالب ليست جامدة بل قابلة للزيادة، وكل من يخالفها فإنه يرمى بشتى التهم، ويهمز في المجالس ويغمز، مع العلم إن العادات ما جاءت في كتاب ولا سنة، بل إن كثيرا منها محرم ومنكر عظيم ومن هذه المنكرات التي يقع فيها كثير من الناس بعلم وبغير علم ما يسمى بالخيرة، وهو الذهاب إلى بعض السحرة والكهنة والعرافين لمعرفة نجم الخاطب والمخطوبة فإذا نصحهم على الزواج أقدموا، وإذا نصحهم بالإحجام أحجموا، وهذا عمل لا يجوز قال : ((من أتى عرفا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة))، والصحيح أن يستخير العبد ربه في كل شيء وقد علمنا دعاء الاستخارة قال: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم و وأنت علام الغيوب، اللهم إني كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال ( عاجل أمري وآجله) فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)) أو قال: ((عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) ثم يسمي حاجته.

ومن منكرات الأفراح : بدعة قراءة الفاتحة بقصد الخطبة فإنه لم يردعن النبي لقوله : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) .

ومنها (دبلة الخطوبة ) فإن كانت ذهبا فهي محرمة، لأنها من الذهب ولأن فيها تشبها بالكفار لقوله : ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده))، أما وجه التشبه بالكفار في لبس الدبلة فإن النصارى كان من عادتهم أن يضع العريس الخاتم على إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الأب، ثم ينقله على رأس السبابة ويقول: باسم الابن، ثم يضعه على الوسطى ويقول: باسم الروح القدوس وعندما يقول آمين يضعه أخيرا في البنصر.

ومن المنكرات المتعلقة بالأفراح : أن يخطب الرجل على خطبة أخيه المسلم وهذا الفعل محرم إذا أجيب لخاطب الأول ولم يأذن للثاني ولم يترك الخاطب الأولى من تقدم لخطبة ابنتهم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: ((نهى النبي أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب)).

ومنها: المغالاة في المهور، أيؤد لي هذا الفعل إلى إصابة الفتيات بالعنوسة، والشباب بالفساد، والمستطيع من الشباب على هذا الغلاء فإنه إنما جمع المهر بعد أن أراق ماء وجهه عند الناس بطلب الدين منهم، الأمر الذي يجعله منشغلا في سداد دين المهر لسنوات طويلة مهملا الزوجة التي يفكر في أنها هي سبب ما هو فيه من الدين.

ومن منكرات الأفراح أيضا: قولهم في التهنئة بالرفا والبنين وهي تهنئة جاهلية وإنما الوارد في السنة: ((بارك الله عليك وبارك عليك وجمع بينكما في خير))، اللهم بارك لإخواننا وبارك عليهما، واجعل حياتهم مكللة بالسعادة في ظل الالتزام بهدي النبي .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ومن منكرات الأفراح: مظاهر التباهي في ولائم العرس، إذ يدعي الأغنياء ويترك الفقراء، كما يكون منها من التبذير والاستهانة بالنعمة ما يكلم القلوب، ويصدع الرؤوس وأنت ترى الشاحنات تحمل، أكوام الطعام بعد الزواج لتلقي به في حاويات النفايات وربما تلقي الذبيحة كاملة، دون أن تمس يا لهؤلاء أفلا تتقون الله، أو ما شعرتم بشعور الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلون، أفلا تذكرتم أنتم وآباؤكم يوما من الدهر ما كنتم تلبسون، وكيف كنتم تعيشون، أو ما كنتم تلبسون المرقع من الثياب، وتعملون خدما في مكة وغيرها وتركبون الحمير أعزكم الله، إن شبعتم يوما لم تشبعوا اليوم الذي بعده، أما المسكن فكانت الأسر تجتمع ففي غرفة واحدة تعيش معهم بهائمهم، ولما أتى الله بهذه النعم كأنها الغمام نسي أولئك الناس فضل الله عليهم ولم يشكروه، وكأنهم في مأمن أو قد جاءهم صك من الله أنهم سوف يبقون على نعيمهم وثرائهم: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً .

ومن منكرات الأفراح العظيمة: دعوة المغنين والمغنيات، إذ تجد مكتوبا على بطاقة الدعوة: يحي الحفل الفنان أو الفنانة، وما أدري هل يحيونه بالذكر والتلاوة والدعاء للعروسين بالبركة والتوفيق، أو يميتون الليل بكلام سافل ساقط، ويعطون مالا كبيرا على هذه المعصية، لقد نسي صاحب الحفل أنه قد تحمل في ليلته تلك آثام كل من حضر: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ، والله إن الناس لن يغنوا عنه من الله شيئا: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .

ومن منكرات الأفراح: السهر إلى وقت متأخر من الليل مما يؤدي إلى تضييع صلاة الفجر وهذا الشهر محرم، كما قاله العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

ومن منكرات الأفراح: ما يسمى بالنصبة، وهو دخول العريس إلى العروسة وجلوسهما في مكان عال بمرأ الناس من جميع الحاضرين والنصة محرمة لأمور منها: دخول الرجل وهو أجنبي وجلوسه بين النساء وكذلك مرافقة أقاربه وأقارب الزوجة واختلاطهم بالنساء، وربما يرقصون بين النساء وربما دخل المصورون والمصورات لالتقاط الصور التذكارية للعروسين وللعائلة.

والأدهى من ذلك تصوير حفل النساء بالفيديو ثم يتداوله الناس مما يكشف عورات المسلمين، ويجر من المصائب ما لا يعلمه إلا الله قال الشيخ عبد العزيز بن باز، ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان وضع منصة للعروس بين النساء ويجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات والمتبرجات وربما حضر معه غيره من أقاربه، أو أقاربها من الرجال ولا يخفى على ذوي الفطرة السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبيرة وتمكن الرجال الأجانب من مشاهدة الفاتنات المتبرجات وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة والقضاء عليه حسما لأسباب الفتنة وصيانة للمجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المطهر.

أيها المسلمون: ويا من يريد التوفيق لابنه أو ابنته إنه لا يمكن أن يكون التوفيق للزوجين في ظل هذه المنكرات، إذ إنهم يبدأن حياتهم بلطخة سوداء، وعودوا بذاكرتكم إلى كل زواج اشتمل على هذه المنكرات فسوف تجدون أنه الزواج قد فشل أو أوشك على الفشل، وهذه هي النتيجة الحتمية، فاتقوا الله في حياة أبناءكم وبناتكم، وإننا لندعو الله لهؤلاء أن يهدي قلوبهم وأن يجنبهم الهوان والتباهي .

كما نقدم الثناء والدعوات الصادقة لأولئك الآباء الحريصين على رضي الله سبحانه، وعلى سعادة أبنائهم فإنه من ابتغى رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط الناس عليه، ومن ابتغى رضى الله بسخط الناس رضى الله عليه وأرضى عنه الناس، وهذه عاجل بشرى المؤمن. إن أريد إلا الإصلاح.

(1/307)

رمضان شهر التوحيد (غزوة بدر)

-----------------------

سيرة وتاريخ

غزوات

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

سبب الغزوة – مشاهد من الإعداد للغزوة – هزيمة قريش – دروس : 1- رمضان والجهاد 2- النصر بيد الله 3- خطأ المعايير المادية 4- أهمية الشورى 5- أهمية الدعاء

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد قال الله عز وجل ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون [آل عمران:123].

في شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة وقعت أولى الغزوات النبوية الكبرى , غزوة بدر الكبرى وكان سببها أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بقافلة تجارية كبيرة لقريش عائدة من الشام إلى مكة يقودها أبو سفيان, فأمر أصحابه بالخروج للاستيلاء عليها وقال لهم: لعل الله يمكنكموها , فقد كانت قريش إذ ذاك حربا على رسول الله وحربا على المسلمين وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه, خرجوا لا يريدون الحرب ولا يظنون أن سيكون قتال ولكن أبا سفيان أفلت ونجى بالقافلة أما قريش فلما أتاها الصارخ خرجت بأشرافها عن بكرة أبيهم في نحو ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير , خرجوا كبرا ورءاء الناس ويصدون عن سبيل الله معهم القيان يغنين بهجاء المسلمين , فلما علم أبو سفيان بخروج قريش أرسل إليهم يخبرهم بنجاته وإفلات القافلة ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب , فأبوا وقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نبلغ بدرا فنقيم فيه ثلاثا ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا .

أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علم صلى الله عليه وسلم بأمر قريش جمع من كان معه من أصحابه استشارهم , فقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وهو من المهاجرين فقال : يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فو الله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك. فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : أشيروا علي أيها الناس . فقام سعد بن معاذ من الأنصار وهو سيد الأوس فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله . فقال : أجل . فقال سعد : كأنك يا رسول الله خشيت أن تكون الأنصار ترى أنه ليس من حقها أن تنصرك إلا في ديارهم وأنا أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن متى شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا منها ما شئت والذي تأخذه منا كان أحب إلينا مما تتركه وما أمرت فيه بأمر فأمرنا فيه تبع لأمرك فسر بنا فو الله لو سرت بنا إلى برك الغماد لنسيرن معك ولو استعرضت هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , والله لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدا فإننا صبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك.

فسر النبي صلى الله عليه وسلم مما سمع من كلام المهاجرين والأنصار وقال لأصحابه : سيروا وأبشروا فو الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .

و سار النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه حتى نزل بأدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة . فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر أم هو الرأي والحرب والمكيدة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل هو الحرب والرأي والمكيدة .

فقال الحباب : فليس هذا بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من الآبار , فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم رأي الحباب ومضى بأصحابه حتى نزل بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة وجيش قريش بالعدوة القصوى مما يلي مكة , وأنزل الله مطرا كان شديدا ووحلا زلقا على المشركين وكان طلا خفيفا على المسلمين , طهرهم به ووطأ لهم الأرض وثبت به الأقدام وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا على تل مشرف على موضع المعركة .

ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوى صفوف أصحابه ومشى في أرض المعركة يشير إلى مصارع القوم إلى المواضع التي سيقتل فيها زعماء المشركين يقول هذا مصرع فلان إن شاء الله فو الله ما جاوز أحد منهم الموضع الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم, قتلوا في تلك المواضع التي عينها النبي صلى الله عليه وسلم .

والتقى الفريقان وقام النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي ربه يدعو ويلح في الدعاء ويتضرع بين يدي ربه ويستغيث به , يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني , اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها تصد عن دينك وتحارب رسولك ,ثم يقول عن أصحابه : اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض .

واستجابة من الرب سبحانه وتعالى لاستغاثة نبيه واستغاثة الصحابة أنزل عليهم نصره , أنزل الملائكة فهزموا عدوهم , هزمت قريش وولوا الدبر , قتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وجمع من القتلى أربعة وعشرون من صناديد المشركين فألقي بهم في قليب من قلبان بدر , منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من رؤوس الكفر وصناديد المشركين .

وبعد ثلاث ليال أقامها النبي صلى الله عليه وسلم ببدر , انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند انصرافه وقف علي القليب ونادى أولئك الصناديد بأسمائهم وأسماء آبائهم , يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا .

فقال له عمر الفاروق : أتنادي أجساداً قد بليت يا رسول الله . فقال : والله ما أنتم بأسمع لكلامي منهم ,ذلك أن الله عز وجل أسمعهم نداء نبيه في تلك اللحظة(1)[1].

وفي هذين الفريقين فريق الإيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفريق الكفر والشرك قريش وصناديدها أنزل الله تبارك وتعالى قوله: هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم [الحج:19].

اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب رسولك وحب من يحب رسولك وحب عمل يقربنا إليك.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .

أما بعد فما أكثر الدروس وما أعظمها في هذه الغزوة النبوية الكبرى غزوة بدر الكبرى :

أولا : هذه الغزوة وقعت في شهر رمضان, هذا الشهر الكريم شهر العمل وشهر الصبر والجهاد في سبيل الله , تتضاعف فيه همة المؤمن ويقرب من ربه الكريم الرحيم وتفتح فيه أبواب الجنان فهو أثمن وأنفس فرصة للمؤمن لكي يضاعف فيها نشاطه وعمله في سبيل الله عز وجل وأكثر المعارك الإسلامية الكبرى في تاريخ المسلمين وقعت في هذا الشهر الكريم.

ثانيا : هذه الغزوة تبين بجلاء ما يعرفه كل مؤمن أن النصر كله بيد الله يؤتيه من يشاء , فالصحابة رضوان الله عليهم لما خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يريدون الحرب وما ظنوا أن سيكون قتال ولذلك لم يتهيؤوا للحرب والقتال ولم يعدوا ما يكفي من العدة ومع ذلك أظفرهم الله ونصرهم على عدوهم لما صدقوا ما عاهدوا الله عليه وامتثلوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم, فببركة إيمانهم وبصدقهم مع الله وطاعتهم لرسوله نصرهم الله وأظفرهم وأظهرهم على عدوهم .

ثالثا : حينما تكون المعركة بين الإيمان والكفر فإن النتائج لا تقاس بالمقاييس البشرية التي تبنى عادة علي الأسباب المادية وحدها , فإن الله عز وجل يؤيد جند الإيمان , يؤيد المؤمنين على الكافرين وإن كان الميزان المادي بينهم وبين عدوهم ليس متكافئا فإن الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده المؤمنين يعوض ما عساه نقص من استعداداتهم بما شاء من جنوده وما يعلم جنود ربك إلا هو .

فالصحابة رضوان الله عليهم في بدر كان عدوهم أكثر منهم عددا وأقوى عدة , كان جيش المشركين ثلاثة أضعاف جيش المؤمنين ولكنهم لما لجأوا إلى ربهم واستغاثوا به نصرهم الله عز وجل علي عدوهم رغم هذا الفارق المادي الكبير في العدد والعدة .

رابعا : لم يكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوانى عن مشاورة أصحابه في جلائل الأمور وخاصة في المواقف الخطيرة كغزوة بدر وغزوة أحد وغزوة الخندق كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بمبدأ المشاورة امتثالا لأمر ربه عز وجل ولذلك كانت بركات هذا المبدأ تنزل عليه وعلى أصحابه نجاحا وفلاحا وفوزا في الأمور ونصرا وظفرا في المعارك .

خامسا : الأمر كله لله المُلك ملكه والخلق عبيده , فالخلق مفتقرون كلهم إلى الخالق وهذه هي حقيقة العبودية وهي حقيقة عرفها المؤمن وامتثل لها وعاندها الكافر وتمرد عليها وهذا هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم يعلمنا هذا الدرس الجليل مهما كانت الأحوال فان إظهار الافتقار إلى الرب عز وجل والتضرع بين يديه والتذلل له سبحانه وإظهار الضعف بين يديه والحاجة إليه والاستغاثة به , هذه كلها أمور مطلوبة من المؤمن مهما كانت الأحوال فالنبي صلى الله عليه وسلم مع يقينه بالنصر حتى إنه حدد المواضع التي سيقتل فيها زعماء المشركين ومع ذلك يقف بين يدي ربه يدعو ويلح في الدعاء والتضرع والاستغاثة وببركة هذه الاستغاثة من النبي صلى الله عليه وسلم وببركة استغاثة الصحابة الكرام استجاب لهم الرب فنصرهم وأيدهم على الرغم من ذلتهم والمقصود بالذلة ضعف القوة وقلة العدد, يقول تعالى: إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال:9].

أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (( من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا ))(2)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين .

__________

(1) صحيح البخاري (1370، 3976، 4026) ، صحيح مسلم (2873، 2875) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/308)

تتمة حديث ابن عباس (احفظ الله يحفظك)

-----------------------

التوحيد, العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة, الألوهية

-----------------------

منصور الغامدي

الطائف

19/10/1419

أبو بكر الصديق

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك)). 2- معية الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين ونماذج منها 3- التعرف إلى الله في الرخاء (معناه وأثره) 4- الاستعداد للموت كيف يكون 5- وجوب إفراد الله بالمسألة 6- الاستعانة بالله معناها وأثرها .

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيتواصل الحديث مع الوصية العظيمة والكلمات البليغة، التي حباها رسول الله لحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وهو لا يزال آنذاك غلاما يافعا.

والوصية الثانية: قوله : ((احفظ الله تجده أمامك))، أو تجاهك، فمعنى هذه الوصية، أن من حفظ الله وراعى حقوقه، وجد الله معه في جميع الأحوال يحوطه وينصره ويحفظه بل ويوفقه ويؤيده ويسدده فإنه سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت، وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

قال قتادة : من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل .

ولقد كان بعض السلف يوصي إخوانه بكلمات نافعة عظيمة الأثر كتب بعضهم لأخيه: أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو.

ومعية الله سبحانه لعباده المتقين الذين حفظوا أوامره، واجتنبوا نواهيه تقتضي النصر والتأييد لهم، قال الله تعالى لموسى وهارون: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه 46]، وكما في خبر هجرة النبي وصاحبه الصديق رضوان الله عليه إلى المدينة عندما كانت قريش تطاردهم في كل مكان، وكان قد تملك الصديق الخوف، فخاطبه النبي خطاب الواثق بربه فقال: ((يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).

وفي الحديث عن أبي هريرة : ((إن الله تعالى يقول: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)).

الوصية الثالثة: قول : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ))، وهذا يعني: أن من اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال الرخاء والصحة، فقد تعرف بذلك إلى الله؛ بينه وبينه معرفة، وهذه المعرفة هي معرفة خاصة تقتضي القرب من أرحم الراحمين، ومحبته سبحانه لعبده، وإجابته لدعائه، حينئذ لا تسأل عن طمأنينة العبد بربه، وثقته به في إنجائه من كل كرب وشدة، فهذا يونس بن متى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجاب الله دعاءه ونجاه من الغم، أما فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، لما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس 91]، قال الضحاك : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة .

فإذا تبين أن التعرف إلى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبده في الشدة، فلا شدة يلقاها العبد في الدنيا أعظم من شدة الموت، فإن كانت خاتمته خيرا فالموت آخر شدة يلقاها، وإن كان مصير العبد إلى شر والعياذ بالله فالموت أهون مما بعده، وكان السلف يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه.

قال أبو عبد الرحمن الشبلي: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان، ولما احتضر أبو بكر بن عباس وبكوا عليه قال: لا تبكوا، فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت 30].

الوصية الرابعة: قوله : ((إذا سألت فاسأل الله)) وهذه الوصية أمر بإفراد الله تعالى بالسؤال، ونهي عن سؤال غيره من الخلق كما قال تعالى: واسألوا الله من فضله [النساء 32]

وفي الحديث: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع))، وقد بايع النبي جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا، منهم الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه رضي الله عنهم، فسؤال الله تعالى هو المتعين عقلا وشرعا لوجوه متعددة، منها:

أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.

أما من أكثر المسألة بغير حاجة فإنه يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدنيا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي، فيصير عظما بغير لحم ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة .

اللهم كما صنت وجوهنا عن السجود لغيرك، فصنها عن المسألة لغيرك.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فكما أن سؤال غير الله فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، ففي سؤال الله تعالى عبودية عظيمة، لأن فيها إظهار الافتقار إليه، واعترافا بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم، لأن المخلوق جزما عاجز عن جلب النفع لنفسه، ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره؟!

والذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أحق من يسأل ويطلب منه قضاء الحوائج، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر))، قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها، فكيف أسأل من لا يملكها؟! وكان بعض السلف يتواصون في طلب الحوائج إلا من الله، قال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجابه ، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك.

الوصية الرابعة: قوله : ((وإذا استعنت فاستعن بالله)).

والاستعانة طلب العون من الله وحده، وسبب استعانة العبد بالله عز وجل دون غيره من الخلائق، لأن العبد عاجز عن جلب مصالحه ودفع مضاره بنفسه، ولأنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله عز وجل فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنه لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، هذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة.

وكل مسلم محتاج إلى الاستعانة بالله عز وجل في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت، وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا معين على ذلك كله إلا الله تعالى، ونحن نقرأ في كل ركعة من صلاتنا إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة 4] والاستعانة تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه.

والاستعانة بالله هي الوسيلة لتحقيق عبادة الله على الوجه الذي يرضيه، فأهل العبادة الاستعانة بالله عليها غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها، ولهذا كان أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل : ((يا معاذ، والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).

فأنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته ومن الناس من يكون معرضا عن عبادة ربه والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة، بل إن سأله أحدهم واستعان به، فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه، فإنه سبحانه يسأله من في السماوات والأرض؛ يسأله أعداؤه وأولياؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إليه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته، كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه، وهكذا كل من استعان به على أمر سأله إياه ولم يكن عونا على طاعته، كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد.

وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله السائلين ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينيه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظا، لا بخلا على كلأ، فمن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولا. كتب الحسن إلى عمر بن بعد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه.

(1/309)

يوسف ( قال رب السجن أحب إليّ )

-----------------------

الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

القرآن والتفسير, القصص, قضايا المجتمع

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

12/10/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة"الحكمة من قصص القرآن – خطر المترفين – من آثارهم : 1- الإباحية والانحلال 2- الدياثة كيف تنتشر الدياثة في المجتمع – النجاة من كيد المترفين "

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راوته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم [سورة يوسف:30-34].

ها نحن نعود إلى سابق عهدنا بسورة يوسف وقصته الكريمة وفي حقيقة الأمر نحن لا نروي لكم مجرد قصة أو نروي سورة وإنما نحاول استنباط الدروس والعبر منهما لحياتنا المعاصرة ومشكلاتنا الحاضرة انطلاقا من أن هذا هو مغزى سوق هذه القصة وأمثالها في كلام ربنا عز وجل فكما ذكرنا مرارا إنها ليست مجرد قصة تخيلها قصاص أو لفق حبكتها أديب إنما هي دروس وعبر وهداية لنا من ربنا عز وجل وتفصيل لكل شيء: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [سورة يوسف:111]. في هذه الآيات التي تلوناها عليكم من سورة يوسف تصوير لمشهد ليس من مشاهد القصة فحسب إنه من مشاهد الحياة تصوير لمشهد من مشاهد حياة الترف والنعيم حياة الطبقة المترفة من أهل القصور وماذا يمكن أن يفعلوه بالمجتمع إذا استعبدوه وتسلطوا عليه إنهم بإيجاز يخربونه ويقودونه نحو الدمار والهلاك وإذا ما رأيت مجتمعا أي مجتمع سلط الله عليه المترفين فتحكموا في مقدراته وملكوا أمره فاعلم أنه سائر سيرا حثيثا إلى الهلاك والدمار قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [سورة الإسراء:16]. إن المترفين من أهل القصور إذا تحكموا في المجتمع فإنهم ينشرون فيه الإباحية والانحلال وبسلوكياتهم الشائنة القذرة التي تصبح حديث المجالس ومحط اهتمامات الناس الفارغين بسلوكياتهم تلك يضعفون نوازع الفضيلة في نفوس الناس والمجتمع في بداية الأمر وهو مازال متصفا بالبراءة وبقدر كبير من النقاء فإن أفراده غالبا ما يستقبلون تلك الأحوال بالاستنكار ويستقبلون تلك الأخبار بالتقزز والنفور ولكن مع استمرارها وتكرارها فإن استنكارهم لها يضعف حتى يصل إلى الحد الذي يسمعون فيه وربما يرون الموبقات التي يرتكبها المترفون من أهل القصور ولا ينبض لهم عرق تلك الغيرة التي كانت تتأجج في الصدور وتلك النخوة إنهما الآن يبردان ويهمدان حتى تنحط مشاعر الناس والعياذ بالله ربما تنحط مشاعر الناس فيصلون إلى الحد الذي يعتادون فيه الخبث بل وربما يتقبلونه لأنه باستمراره وتكراره دون أن يغير فإنهم يألفونه ثم يتقبلونه ثم يتشوفون إليه وهكذا وبالتدريج يتم للمترفين القضاء على تلك البراءة في المجتمع وتلويث ذلك النقاء إن المترفين من أهل القصور لا ينشرون الإباحية والانحلال في المجتمع فحسب بل إنهم ينشرون الدياثة تأمل نموذجا من دياثة المترفين كما تصورها هذه السورة سورة يوسف: فلما رأى قميصه قد من قبل قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم [يوسف:28]. هذا هو كل ما فعله ذلك المترف هذا هو كل ما فعله العزيز لما تكشف له انحلال زوجته وفسادها وخيانتها لزوجها ومراودتها لفتاها نوه بكيدها ولم يجرؤ على مخاطبتها مباشرة بذلك مراعاة لخاطرها الملوث فصرف الحكم إلى جنسها من النساء إنه من كيدكن أي أيتها النساء إن كيدكن عظيم ثم بعد ذلك: يوسف أعرض عن هذا ليس هناك عقاب للمسيء ليس هناك أي تدارك للخلل ولا مبادرة لإصلاح الفساد ولكن لفلفة للقضية ودفن لنارها تحت الرماد فتلك المرأة الخائنة لم تلق من العقوبة ما يردعها عن تكرار محاولاتها الآثمة ويوسف البريء النقي بقي في مكانه بعلم العزيز وموافقته والقضية صدر الأمر إلى يوسف بلفلفتها بالسكوت عليها هذا نموذج من دياثة المترفين وهذه الدياثة إذا استحكمت في الرجال فماذا يفعل النساء إذا استحكمت الدياثة في الرجال فإن الوقاحة والجرأة على الخبث تستحكم في النساء تأملوا ماذا فعلت امرأة العزيز بعد ذلك لقد أعلنت عن جريمتها بل إنها تتباهى بجريمتها بكل جرأة ووقاحة ولقد راودته عن نفسه فاستعصم قالت: فذلك الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [يوسف:32]. هكذا يكون حال النساء عندما تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع والعياذ بالله ولكن كيف تصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع اسألوا أذناب القردة والخنازير وتأملوا إلى أي شيء يدعون المجتمع لماذا يصرون ويلحون على إخراج المرأة المسلمة من بيتها لماذا يصرون على تمزيق حجابها لماذا يصرون على تعليمها كيف تراقص الأمريكان أذناب القردة والخنازير يريدون نشر الانحلال والدياثة العامة في المجتمع اسألوهم تعرفون كيف ينتشر الانحلال وتصبح الدياثة ظاهرة عامة في المجتمع وحينئذ الويل للآباء والويل للأزواج والويل للإخوان والأعمام إذا رأوا بناتهم ورأوا زوجاتهم ورأوا أخواتهم يتمرغون أمام أعينهم في وحل القاذورات الإفرنجية إذا ما أخذت النخوة أي واحد منهم فإنه يسجن ويعاقب إذا ما اشتعلت الغيرة في أي واحد منهم الغيرة للعرض وللفضائل وللدين فإنه سوف يسجن وينكل به ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونن من الصاغرين [يوسف:32]. من أراد أن يشاهد هذا الذي أحدثكم به فليلق نظرة على جيراننا على المجتمعات من حولنا التي ابتليت بأذناب القردة والخنازير وتحكم فيها دعاة الانحلال من المترفين ألقِ نظرة تشاهد هذا الذي أقوله وأحذرك منه نسأل الله عز وجل أن يقينا شر هذه الفتن ألقِ نظرة على المجتمعات من حولك تجد هذا الذي أحدثك عنه واضحا للعيان أيها المؤمنون اتقوا الله في أنفسكم واتقوا الله في أعراضكم واتقوا الله في أخلاقكم واحذروا المترفين من أهل القصور احذروا المترفين من أذناب القردة والخنازير دعاة الانحلال أولئك الذين يهلك الله بهم القرى ويدمر بهم الأمم فإن الناس في أي مجتمع إذا ما اعتادوا الخبث إذا ما أصبحوا يرون الخبث في ذويهم وفي مجتمعاتهم فلا ينبض لهم عرق ولا تتحرك فيهم نخوة فإن الهلاك حينئذ قد حط على هذا المجتمع والعياذ بالله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

ماذا تفعل يا أيها المؤمن المتمسك بالنقاء والطهر الثابت على دين الله إذا كنت في مجتمع يسير سيرا حثيثا نحو الانحلال إذا كنت في مجتمع أسباب الانحلال فيه تحاصرك من كل مكان الإعلام والتعليم والسوق والبيت والأقارب والجيران والمعارف والأصدقاء والصديقات إذا كان الجميع يضغطون عليك لأن تفعل وربما يتهددك دعاة الانحلال أذناب القردة والخنازير يتوعدونك بمختلف النعوت والأوصاف إذا لم تستسلم متزمت متشدد متطرف أصولي إنهم أناس يتطهرون [الأعراف:82]. هذه أوصاف تجدونها متفشية اليوم في المجتمعات الإسلامية وخاصة في وسائل الإعلام التي يديرها أذناب القردة والخنازير هذا حصار نفسي من العدو حصار نفسي وهناك حصار اجتماعي وهناك حصار سياسي كل هذا على المؤمن لكي يفعل ولئن لم يفعل ما أمره به ليسجنن وليكونن من الصاغرين [يوسف:32]. يضعونه في سجن هذا الحصار إذا لم يستسلم ويقبل بالانحلال والانهيار عليك يا أيها المؤمن أولا وقبل كل شيء أن تلجأ إلى ربك عز وجل تطلب منه بصدق وإخلاص أن يحميك من كيد هؤلاء من كيد دعاة الانحلال من كيد أذناب القردة والخنازير أن يصرف عنك كيدهم والسوء الذي يريدون استدراجك إليه أنت وأهلك وبناتك وأولادك الجأ إلى ربك أولا كما فعل يوسف الصديق وقال رب السجن أحب إلي وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فإنك لما بقيت وحدك في الميدان بقدراتك الذاتية بدون معونة إلهية بدون ربك نسيت ربك فلم تلجأ إليه بالدعاء واللجوء والاستعاذة فإنهم منتصرون عليك لا محالة أنت هالك لا محالة فابدأ باللجوء إلى ربك واطلب منه الحماية والعصمة من هذا الذي يدعونك إليه فإن أي شيء يصيبك هو أهون من أن تستجيب إلى ما يدعونك إليه ثم عليك بالثبات على هذا النقاء إذا كنت في مجتمع يجري نحو القاذورات عليك بالثبات على دين الله إذا كنت في مجتمع يبتعد عن الله عليك بالثبات واعلم أن الله عز وجل ناصرك ومعينك إذا علم صدقك وإخلاصك ولجوءك إليه وبذلك لكافة ما تستطيع من الوسائل كما استجاب لعبده الصديق يوسف عبده ونبيه الصديق يوسف فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(1)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وأرضى اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) صحيح مسلم (408).

(1/310)

المترفون

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة"جزاء المترفين ليوسف السجن – أبرز صفات المترفين : 1- الظلم 2- الإفساد 3- قلب الحقائق 4- ضيقهم بالمصلحين – حال المسلمين وأثر المترفين – التحذير من المترفين "

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد فقد حكى الله تعالى حكاية عن يوسف الصديق عليه السلام قال رب السجن أحب إلي مما يدعوننى اليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين [يوسف:33-35].

لقد واجه التقي النقي الطاهر يوسف الصديق ابتلاء عظيما, تمثل في تلك الإغراءات التي لا قبل لشاب بها وفي تلك الضغوط والتهديدات ولما حاصرته الدواعي وخشي على نفسه الفتنة, لجأ إلى ربه بالدعاء أن يصرف عنه ذلك البلاء ويبعد عنه هذا السوء, فاستجاب له الرب الكريم, ولكنهم بعدما ثبتت لهم براءة يوسف, بدلا من إكرام المحسن ومعاقبة المسيء عكس المترفون القضية فتركوا المسيء يسرح ويمرح وعاقبوا المحسن بعد أن ثبتت طهارته ونقاؤه وأمانته وقامت الأدلة الظاهرة الواضحة على ذلك لقد سجنوا يوسف من أجل تحقيق هدفين.

هما دفن القضية ولملمتها بعد أن فاحت جريمة تلك المرأة الخائنة وتناولت الشائعات سيرتها في المجالس حاولوا إخفاء جريمتها بالتهمة إلى يوسف, فإن أكثر الناس إذا ما سمعوا بسجنه في ذلك الوقت بعد سماع الشائعات يثبت عندهم إتهام يوسف وأنه هو الذي حاول مراودة امرأة العزيز عن نفسها.

وتلك خطة دنيئة لتشويه سمعة شاب طاهر ليكون هو الضحية من أجل إخفاء معالم الجريمة. ولكنها خطة فاشلة فإن شمس الحقيقة لا يمكن إخفاؤها, فإنه يمكن للإنسان أن يغطى عينيه بحجاب فلا يرى ولا يبصر وهذا هو الذي عمله المترفون بيوسف, حاولوا تغطية أعينهم وأعين كثير من الناس في وقتهم. ولكن أين لهم أن يخفوا شمس الحقيقة وشمس يوسف مشرقة.

وهذا الداء العضال هو أبرز ظواهر الطبقات المترفة, فأولا هم أهل ظلم يضعون الشيء في غير موضعه, ويسندون الأمر إلى غير أهله.

تأمل صورة لذلك هنا, في امرأة العزيز, بل في العزيز نفسه, واسأل نفسك بعد أن سمعت أحوالهما وأفعالهما وأقوالهما, أتصلح تلك المرأة زوجة وسيدة في قصر زوجها, بل أيصلح العزيز للمسؤولية وهذا حاله في بيته؟ سيضيع الرعية من ضيع بيته وأهله.

وثانيا إن المترفين لا يصلحون فسادا أبدا ولا خللا, بل حالهم دائما الهروب والفرار من المسؤولية لأنهم غارقون في شهواتهم, كل همهم الحفاظ على كراسيهم وحماية مصالحهم.

وثالثا حتى ولو تحرك المترفون واضطروا للتصرف حينما يتفشى الداء وتكثر المشكلات ولا يمكن إخفاؤها, فإنهم عادة بل قل دائما ما يتصرفون بعكس القضية, دائما يعكسون القضية, يعاقبون المحسن ويكافؤون المسيء لأن المسيء هو الأقرب لشهواتهم والأنسب لمصالحهم.

فالشبيه يميل إلى شبيهه وينفر من نقيضه. ولذلك تجد النفرة بين المصلحين والمفسدين, بين الأنقياء والملوثين, بين الصالحين والفاسدين. تجد هذه النفرة دائما حتى إذا ما استحكمت وظهرت, يدب الخلاف والصدام, وعادة ما يبدأ الصدام عباد الشهوات.

فإنهم كلما رأوا مصلحا يعيب عليهم فسادهم واستسلامهم لشهواتهم, فإنهم يضيقون به ذرعا, حتى إذا أعجزتهم الحيلة, ناجزوا المصلحين وصادقوهم وهتفوا بكل جرأة ووقاحة, إن لم يكن بلسان المقال فهو بلسان الأفعال: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [النمل:56].

الويل للمجتمعات من المترفين إذا ما تسلطوا عليها وتحكموا في شؤونها. لأنهم هم أعداء الأنبياء والمرسلين لأن الأنبياء إنما جاؤوا برسالة الإصلاح والهداية ومهمة المترفين الإفساد في الأرض قال تعالى: وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [سبأ:34]. ولذلك فإنهم أعداء المصلحين. فإن الصدام بين المترفين والمصلحين قاعدة مطردة وأمر محتوم ولكن حبل الطغيان قصير والعاقبة للمتقين.

إذا ألقيت نظرة من حولك أيها المسلم, تجد أكثر مجتمعات المسلمين اليوم وقد تسلط عليها المترفون المفسدون الفاسدون. ما أسوأ حال المسلمين اليوم, تحكم فيهم الحشاشون والفجرة والسراقون, وهؤلاء إنما تنكشف أخبارهم حينما يسقطون. إذا سقط أي واحد منهم انكشفت مخازيه على رؤوس الأشهاد, فإذا هي سرقات بالبلايين واستخفاف بالرعية وبأخلاقهم وحقوقهم ومصالحهم. فأي بلاء هذا البلاء الذي أصاب المسلمين اليوم.

الويل للمسلمين إذا استمر تسلط هؤلاء وتحكمهم في الرقاب وعبثهم في مصالح الأمة: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:116-117].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الترف معناه في اللغة التنعم الزائد, والمترف هو الذي أفسدته النعمة وأطغته. ومن عادة الإنسان وطباعه الطغيان وخاصة إذا أصابه الغنى والسلطان إلا من عصمه الله بالإيمان إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [العلق:7]. وهذه الظاهرة ما أكثرها في أحوال الناس, فتجد الإنسان وهو في قمة تمتعه بالنعمة تجده جبارا عنيدا, لا يخاف من العواقب ولا يفكر في المصير, فعلى بصره غشاوة وإلا فهو يرى كل يوم إنساناً محمولاً على الأعناق والأعواد يهرولون به إلى حفرته ويعلم علم اليقين أنه صائر إلى ذلك المصير وبالرغم من ذلك فهو لا يعتبر. فهو مهما بلغ من الجبروت والطغيان , فإنه يوما ما سيحملونه على الأعواد ويحشرونه في حفرته. وليس غريبا أن تعمى بصيرة المترف ويعجبه حجاب الغنى, فإن المترف قد وقع فريسة لشبكة معقدة من الأهواء والشهوات, المصالح المتشابكة والملذات التي ترتبت على استسلامه لحياة الترف.

ولذلك فقد حذر النبي الصادق الأمين, حذر الأمة من الاستسلام لحياة الترف والنعيم. تملك الأموال, لا يمنع ذلك أحد, تملك النفوذ والسلطان لم يحظر عليك ذلك أحد, ولكن ندب أمته من أن يتقللوا في حياتهم, أن يكتفوا بالقليل ولا يعودوا أنفسهم على الترف, فإن الترف مفسد للنفوس ومقسٍ للقلوب, ينسي العبد مقامه بين يدي رب العالمين ويصرفه عن نفسه. ولذلك حذر سيدنا رسول الله من ذلك فقال لأصحابه الكرام: ((ما الفقر أخشى عليكم, ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت للذين من قبلكم, فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم))(1)[1] ولذلك أيضا بدأ الرسول بنفسه فاكتفى من هذه الدنيا بزاد الراكب , تقلل في عيشه مع أن الدنيا كلها كانت بين يديه ولكنه مر بها مرور الراكب. كان عليه الصلاة والسلام في حياته على هذا المنهج, أخذا بالعزيمة, فكان يمر الهلال والهلالان وليس في بيت النبي إلا الأسودان التمر والماء.

إن الداء ليس في أصل النعمة التي يمن الله بها على العباد إذا أنعم الله على إنسان بنعمة فالداء ليس في أصل النعمة ولكن في الإنسان الذي يوهب تلك النعمة فيتغير حاله ويبارز ربه بالعظائم والمنكرات ويسخر تلك النعمة والأموال والقوة للفساد في الأرض والصد عن سبيل الله ومحاربة الله ورسوله والعياذ بالله.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[2].

اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: كتاب الجزية (2988).

(2) صحيح مسلم (408).

(1/311)

أدب الدعوة والحوار

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

الآداب والحقوق العامة, قضايا دعوية

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة"محنة جديدة ليوسف – ملامح إحسان يوسف في السجن – حقيقة الدعوة أسر النفوس تحذير الدعاة من بعض الصفات – " بشروا ولا تنفروا " جوانب هامة في الدعوة "

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى: ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أرانى أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبأنا بتأويله إنا نراك من المحسنين [يوسف:36].

نبدأ من هذه الآية مرحلة أخرى زاخرة بالدروس من قصة يوسف عليه السلام كما يصورها القرآن وبشيء من التدبر والتفكير نجد معالم واضحة للدعوة, أهدافها وغاياتها ووسائلها وأساليبها. نجد معالم واضحة للدعوة على منهج الأنبياء وما أشد حاجتنا اليوم إلى فهم جيد لهذا المنهج حتى نستفيد منه في فقه التطبيق. خاصة ونحن نشاهد اليوم صحوة إسلامية وإقبالا على كتاب الله وعلى سنه رسوله وخليله المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ولذلك نهدي هذه الدروس لكل مسلم إذ كل مسلم عليه واجب الدعوة, كل على حسب طاقته. كل مسلم على قدر من مسؤولية الإصلاح بحسب إمكانياته. ولكننا أيضا نهدي هذه الدروس إلى شباب الصحوة وشاباتها. هؤلاء الذين أحيوا في نفوسنا الأمل بغد أكثر إشراقا بنورالاسلام, غد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية. يعز فيه أتباع محمد عليه الصلاة والسلام وتذل فيه القردة والخنازير وتكبت أذنابهم كما كبت الذين من قبلهم.

فعلى هؤلاء الشباب أن يفهموا منهاج الأنبياء ليسيروا عليه. وقصة سيدنا يوسف عليه السلام فيها عبرة وذكرى لأولي الألباب, فيها ملامح زاخرة من منهج الأنبياء. فها هو يوسف يدخل السجن, حكم عليه بذلك منطق المترفين الذي يتهم الأنقياء الأبرياء ويذكي المفسدين الفاسدين.

لقد دخل يوسف سجن المترفين في محاولة منهم لتلويث سمعته وجعله كبش فداء في تلك المشكلة التي تفاقم أمرها وتلك الجريمة التي فاحت روائحها وكانت امرأة العزيز فيها أولى بالعقوبة. انتقل يوسف من سجن إلى سجن, فحياته في القصر لم تكن إلا حياته في سجن كبير, فإن أصحاب المبادئ السامية والبصائر المستنيرة إذا رأوا مجتمعاتهم من حولهم يذبحون وينحرون تلك المبادئ من أجل الشهوات, فإن المجتمع ينقلب من حولهم إلى سجن مرير. ولولا شيء من الأمل في التغير لما تحمل أصحاب النفوس السامية, لما تحملوا هذه الحياة المنحرفة من حولهم. انتقل يوسف الصديق من سجن إلى سجن, لم يكن هناك فرق بين السجن الذي غادره إلى السجن الذي دخله, ولكن كان في كلتا الحالتين نورا يضيء لمن حوله. كان نورا يشع لمن حوله, كان أرفع نموذجا للمبادئ التي يحملها, فحياته وسلوكه وشموخه كان أرفع أسلوبا للدعوة إلى مبادئه وأحسن وسيلة يقدم بها رسالته إلى المجتمع.

ولذلك تجد السجينين الذين دخلا معه السجن يصفانه بالإحسان فما هي ملامح هذا الإحسان الذي أحس به هذان السجينان ورأياه رأي العين؟

يقول المفسرون: اشتهر يوسف في السجن بالجود والأمانة, والكرم وبصدق الحديث وحسن السمت وكثرة العبادة, كما اشتهر بمعرفة التعبير أي تعبير الرؤيا, واشتهر بالإحسان إلى أهل السجن, كان يعود مرضاهم ويتفقد شؤونهم ويقوم بحقوقهم ويصبرهم على محنتهم محنة السجن الذي هم فيه بأرق الكلام وأحنه على قلوبهم.

ولذلك أحبوه حبا شديدا وتألفوا به لأنهم رأوا الإحسان رأي العين. وهذه هي حقيقة الدعوة, إنها تأسر القلوب وتجذب النفوس بدماثة أساليبها, إنها إحسان وليست إفسادا, إصلاح وليست تخريبا, تربية وليست إثارة ولا تهريجا, إنها غرس للسكينة في النفوس, سكينة الإيمان والإحسان. فإذا ما كانت الدعوة صحيحة على ذلك المنهاج فإنها تبني في نفوس الناس الثقة وتأسر قلوبهم.

فلا تجعل في نفسك أيها الداعي حكما على الناس ولا رقيبا صارما على أحوالهم وتصرفاتهم, لا تتفرغ لتتبع عوراتهم وسلبياتهم وانحرافهم, فإن هذا ليس من شأن الدعوة الصحيحة, كن محسنا في دعوتك, فإن تركيزك على إبراز هذا الجانب وحسب, جانب السلبيات والمحرمات, فيه إساءة واضحة للدعوة سواء شعرت بذلك أم لم تشعر. ولذلك انتبه أعداء الشريعة الإسلامية لذلك, فهم دائما لا يذكرون من الشريعة إلا العقوبات فهم لا يتكلمون إلا عن رجم الزاني وقطع يد السارق ونحو ذلك من الحدود, وإنما يفعلون ذلك لتنفير المجتمعات عن حكم الشريعة الإسلامية, لإيهام الناس أنها مجموعة من الأغلال التي تكبت الحرية. فلماذا تفعل أنت مثلهم؟ الدعوة إحسان وإصلاح ومحبة تنشرها بين الناس, يجب ألا يشعر الناس بأنك تبغضهم أو تتعالى عليهم, يجب أن يحسوا بحقيقة الدعوة في قولك وفعلك وأنها محبة وإصلاح وإحسان فإن ذلك أدعى للاستجابة إلى دعوتك وقبول جهدك في الإصلاح, يجب أن يكون لسان مقال الداعي بشأن مقال الأفعال إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود:88].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد فقال سيدنا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم: ((بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا))(1)[1]، ما أكثر من غفل عن هذا الأدب الرفيع والمنهاج الكريم وتخصص بل وتفرغ لإحصاء مثالب الناس وتتبع عوراتهم, إن إبراز هذا الجانب وحده يسيء أيما إساءة إلى الدعوة. الدعوة إحسان وهي قوام الحياة, قوام حياة المجتمع, فعلى الدعاة أن يقوموا بهذه المهمة.

أن يقوموا بحاجات الناس ومتطلباتهم, أن يحسنوا إليهم, لماذا ندع هذا المنهج الذي هو منهج يوسف عليه السلام. أوندعه للنصارى؟ انظروا ماذا يفعلون اليوم لتحقيق مآربهم ونشر معتقداتهم الفاسدة, إنهم يغيثون المنكوبين ويداوون المرضى ويطعمون الجوعى ومن خلال ذلك يحققون مآربهم, كأنما سبقونا إلى فهم منهاج الأنبياء, ما الفائدة من أن تلقي محاضرة على إنسان مزقته الكارثة؟ أو أن تقدم كتابا أو حتى مصحفا لمريض افترسه المرض وجائع هده الجوع؟ القرآن نفسه يأمرك أن تغيثه أولا فتسد رمقه أو تداوي مرضه, هذه من رسالتك, من صلب دعوتك الإحسان إلى الناس, من أرفع أساليب الدعوة التي تقدم رسالتك من خلالها إلي المجتمع.

قال سيدنا رسول الله: ((أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام))(2)[2]، هذا البرنامج النبوي الكريم, انظر أي شيء تضمن: أفشوا السلام تنشر به المحبة بين الناس, فإن إفشاء السلام به نشر المحبة, فيه إشعار للآخرين بأنك تحبهم وتحترمهم.

أطعموا الطعام, فهذا الجانب العملي, أن تقوم بحقوق الناس وترعى حاجاتهم ومتطلباتهم, لا تنسيك صلتك بالله رب الناس, فالصلة بينك وبين الله يجب أن تكون على أحسن ما يرام وصلوا والناس نيام. هذا هو البرنامج النبوي والمنهج للدعوة.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(3)[3]. اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: كتاب العلم (69).

(2) ابن ماجة: أبواب إقامة الصلاة (1334).

(3) صحيح مسلم (408).

(1/312)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, مساوئ الأخلاق

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

حكمة يوسف في الدعوة – التعريف بالدين – الترفق بالمخاطَب – الدعوة إلى التوحيد الجمع بين الترغيب والترهيب – وسائل المترفين في محاربة المصلحين – لحوم العلماء مسمومة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى: ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:36-38].

بدأ يوسف عليه السلام في الجواب على سؤال السجينين وبدأ الجواب بالتعريف بنفسه فلماذا؟ لا ننسى أنه دخل السجن بتهمة أخلاقية لفقت عليه, فالمترفون بعد أن ثبت لهم نقاؤه وصفاء سريرته وأنه صاحب رسالة سماوية أرادوا بذلك تشويه سمعته فهو أمام السجينين في موقف غريب إنه سجين مثلهما محل للتهمة وهناك محاولات لتلطيخ سمعته لكنه عليه السلام وجد السجينين يميلان إليه ويثقان به ويأنسان لشخصه وذلك نتيجة ما رأياه في السجن من سلوكه الرفيع وسجاياه العظيمة وخصاله الكريمة فأفعاله زكته قبل أقواله, أفعاله برأته قبل أقواله لكنه أحب هنا أن يبين لهما سلامة موقفه وصفاء سريرته, سلامته من التهمة التي لفقها عليه المترفون وذلك حتى يرسخ ثقتهما به وأنسهما بشخصه, فبدأ عليه السلام يعرف بنفسه بعبارة وجيزة لا فخر فيها ولا غرور ولا اعتداد بالنفس ولا خيلاء لكنه بدأ بما يتعلق بشأنهما وحاجتهما وما يشغلهما فطمئنهما إلى قدرته العلمية وموهبته الربانية في تأويل الرؤى.

قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما [يوسف:37]. أليس هذا من مدح النفس وتزكيتها, ألا يمكن أن يكون دافعه الغرور والاعتداد بالنفس؟ كلا وحتى لا يخطر في بال السجينين شيء من ذلك بادر يوسف عليه السلام ببيان مصدر ذلك العلم ومصدر تلك الموهبة ومصدر ذلك العطاء ذلكما مما علمني ربي [يوسف:37]. إنه ليس بجهدي ولا بإمكانياتي ولا لخصائص في ذاتي ولكنه عطاء من الرب سبحانه وتعالى, إنه انتقال رائع من الدفاع عن النفس والتعريف بالشخص إلى الحديث عن الرب سبحانه وتعالى والتعريف به أنه مصدر العطاء ومصدر العلم فالخلق كلهم محتاجون إليه سبحانه وتعالى حتى يهبهم العلم وحتى يهبهم العطاء.

ثم انتقل يوسف عليه السلام بحكمة بالغة وأسلوب بديع من التعريف بالرب سبحانه وتعالى إلى الكلام على الدين والعقيدة والملة بحنكة وذكاء عجيبين ففي نفس الوقت الذي يطرح فيه علي مسامع السجينين المنتبهين إليه بكل جوارحهما في نفس الوقت الذي يطرح عليهما أفكاراً أساسية عن العقيدة والملة والدين يعرفهما بنفسه أيضاً: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون [يوسف:37]. هذا بيان لعقيدة الطرف الأخر, الطرف المخالف الذي يراد تحذير السجينين من عقائده وأفكاره, إنه المجتمع الذي ينتمي إليه السجينان ولذلك ترفق يوسف عليه السلام بهما وهو يبين لهما فساد عقيدة مجتمعهما الذي ينتميان إليه والذي هما جزء منه فاستخدم أسلوب التعميم والتلميح بدلاً من التصريح تركت ملة قوم ملة قوم هذا التنكير مع أن مراده عليه السلام هو المجتمع الذي ينتمي إليه السجينان وعاش يوسف نفسه في ظلال ذلك المجتمع, لكن هذا التنكير الذي هو نوع من التعميم والتلميح مراد يوسف به استجلاب السجينين والرفق بهما وهو يبين لهما فساد أفكار المجتمع وعقيدة المجتمع واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ربطهما بتلك السلسلة الكريمة من الرسالات السماوية وبتلك السلسلة العظيمة من أنبياء الله ورسله, في نفس الوقت بين لهما على استحياء انتسابه لتك السلسلة النبوية اتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب [يوسف:38]. فلما عرف السجينان شخصيته وعرفا أنه سليل بيت النبوة وأن الرسالة التي يدعو إليها هي فرع من تلك الرسالات العظيمة الكريمة واكتملت صورة شخصيته المهيبة في نفسيهما بعد ذلك كله, صدع بأول أساس فكري للملة الصحيحة للعقيدة الصحيحة التي يدعوهما إليها ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء إنه التوحيد أول أساس فكري للملة الصحيحة يدعو يوسف عليه السلام رفيقيه السجينين إليهما ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء [يوسف:38]. إذن فتلك الوثنية التي يرتع فيها المجتمع مجتمعنا أيها السجينان إنها انحراف قبيح عن الدين الحق والملة الصحيحة التي جاء بها الأنبياء والمرسلون بل هي أكثر من ذلك الشرك والوثنية أكثر من ذلك إنها شقاء في الحياة ونقمة على الناس بينما ملة التوحيد إذا اتبعوها نعمة عظمى عليهم وفضل من الله يتفضل به على من يصطفي من عباده ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:38]. ذلك أي التوحيد, إن دعوة المنحرفين عن الملة السمحاء ملة التوحيد لا يكفي فيها أن تبين لهم قبح انحرافهم ولا سوء الوثنية التي وقعوا فيها ولا سوء الشرك الذي تورطوا في حبائله بل يجب على الدعاة إلى التوحيد يجب على كل إنسان أن يتنبه عقله إلى محاسن التوحيد, فعلى الدعاة أن ينبهوا عقول الناس إلى محاسن التوحيد ويشوقوا نفوسهم إلى مزاياه العظيمة فإن للتوحيد أثراً إيجابياً عظيماً على حياة الإنسان وفي صلاح حياة الإنسان وازدهارها في سائر الجوانب, ولذلك فهو ملمح عظيم من ملامح الأسلوب القرآني جمعه بين الترغيب والترهيب فمن أسلوب القرآن الكريم الجمع بين الترغيب والترهيب فلو اقتصر على الترغيب فحسب إذن ربما يتكل الناس علي الوعد فلا يخافون, ولو اقتصر على الترهيب فحسب إذن ربما يقنطون من المغفرة والرحمة فلا يتوبون, ولكن الحكمة القرآنية البالغة ميزان دقيق بين الطرفين بين الترغيب والترهيب نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [الحجر:49].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فإن هذه المحنة وهي المحنة الثالثة التي يمر بها يوسف الصديق عليه السلام محنة السجن مع محاولة تلطيخ السمعة تنبهنا إلى أمرين خطيرين على كل مسلم ومسلمة أن يكون على بصيرة بهما لكي لا يقع في حبائلهما:

أولهما: أن المترفين يحاربون رسالات الإصلاح , يحاربون الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من المصلحين يحاربونهم بكل وسيلة لا يردعهم شيء عن استخدام أي وسيلة مهما كانت خبيثة دنيئة لا أخلاقية فالغاية تبرر الوسيلة في منطق المترفين أعداء الأنبياء ومن أشد وسائلهم جرماً استباحة أعراض العلماء والدعاة والمصلحين هذا من أشد وسائل أولئك المترفين جرماً وخبثاً وضرراً فهو محاولة للقتل المعنوي لكنه يفشل دائماً لأن شمس الحق, شمس النقاء, شمس المبادئ الربانية السامية تبدد الظلام وتقضى دائماً علي خفافيش الظلام ولذلك يلجؤون إلى القتل الجسدي قتل الأنبياء, قتل أتباع الأنبياء وأكثر من يقترف هاتين الجريمتين خبثاً وتمرساً ودهاء ومكراً هم اليهود من أول الزمان إلى أخر الزمان, قال تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين [آل عمران:21-22].

ثانيهما: فليعلم كل مسلم أن أعراض العلماء محرمة ولحومهم مسمومة فكل من أكل لحوم العلماء هلك وكل من استباح أعراضهم خسر الدنيا والآخرة لأن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكنهم ورثوا هذا العلم, وكل مسلم هو بهذه المثابة فعرضه محرم ولحمه محرم ولكن حق العلماء أكبر ولكن حرمتهم أعظم, فالوقيعة في العلماء وفي الدعاة والمصلحين وفي حملة كتاب الله للعالمين هي من أشد الكبائر جرماً بل هي أخبث ضرراً من الزنا واللواط وشرب الخمر, قال تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:65-66]. فسمى الوقيعة في العلماء كفراً فإن سبب نزولها أن بعض المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تكلموا في علماء الصحابة فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء. فحكم الله عليهم بالكفر والنفاق ولم يقبل اعتذارهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه بأنهم كانوا يمزحون ويلعبون , لم يكونوا يقصدون, لم يقبل الله عذرهم وحكم عليهم بالكفر والنفاق(1)[1] واعتبر وقيعتهم في العلماء استهزاء بالله وبآياته وبرسوله, هذا الدين كلام الله عز وجل سنة النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم كيف وصلت إليك؟ أوصلت إليك تمشي على رجلين؟ العلماء هم حملة هذا الدين حملة هذا الكتاب حملة هذه السنة وأوعيتها بواسطتهم وصل إليك الدين فالوقيعة فيهم إذن سخرية بالله, استهزاء بالله وبآيات الله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنته المطهرة, فإياك أيها المسلم أن تلقى الله عز وجل وفي ذمتك الوقيعة في عرض أي مسلم, فإن عرض المسلم حرام ولكن أشد من ذلك وأعظم جرماً أن تلقى الله وفي ذمتك الوقيعة في العلماء فإن العلماء هم ولاة أمر هذه الأمة, إذا كان الأمراء هم ولاة أمر التنفيذ فالعلماء هم ولاة أمر التوجيه الذين يحملون هذا الدين ويحملون كلام رب العالمين وسنة سيد المرسلين, وتنفيذ بلا توجيه كارثة علي الأمة ودار وهلاك, فإياك أن تلقى الله وفي ذمتك الوقيعة في عرض عالم في عرض داعية مصلح, وأعظم من هذا جرماً وأخبث أثراً وربما خرجت به من الملة الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم سادة العلماء وقادة هذه الأمة وقدوتها إلى يوم القيامة, رب كلمة تقولها لا تلقي لها بالاً تستبيح بها عرض مسلم وخاصة إذا كان من العلماء والدعاة والمصلحين وتهوي بها في النار سبعين خريفاً, ورب كلمة تقولها في الذب عن عرض أخيك المسلم وخاصة إذا كان من العلماء والدعاة المصلحين لا تلقي لها بالاً يرفعك الله بها درجات في الجنة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم))(2)[2] صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(3)[3]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) أخرجه الطبراي في التفسير الجزء العاشر (172).

(2) البخاري: كتاب الأدب (6113).

(3) صحيح مسلم (408).

(1/313)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا دعوية

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

روس في أساليب الدعوة : 11- لغة الخطاب 2- رقة الأسلوب 3- التمهيد والتدرج 4- التدين عن علم وبصيرة 5- اجتناب الفظاظة والغلظة أهمية الأسلوب الصحيح في صحة الدعوة ( أمثلة )

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون [يوسف:37].

في جواب يوسف على هذين الفتيين لمحات رائعة في أسلوب الدعوة أهمها لغة الخطاب التي استعملها يوسف عليه السلام في حواره معهما فالفتيان كانا وثنيين كما تدل على ذلك دعوته إياهما على التوحيد ومع ذلك تأمل رقة أسلوبه واللغة التي استعملها في حواره معهما.

بدأ أولاً ببيان قدرته كما أسلفنا على تأويل الرؤى والتحدث بما أنعم الله عليه من علم حتى يطمئنهما من أول وهلة على أن المشكلة التي تؤرقهما سيجدان حلها عنده, ثم بعد ذلك مهد عليه السلام للفكرة التي يريد أن يلقيها عليهما والعقيدة التي يريد أن يدعوهما إليها بعدة تمهيدات:-

أولها: لفت انتباههما إلي الرب سبحانه وتعالى, الرب الذي يعبده يوسف وأنه مصدر العطاء كل عطاء.

ثانيهما: بين لهما عليه السلام أن ما أختصه الله به من علم وأنعم عليه من موهبة في تعبير الرؤى إنما كان بسبب أنه وقع فيما وقع فيه مجتمعه وهو ذات المجتمع الذي ينتمي إليه الفتيان من شرك ووثنية ثم بعد ذلك في قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله [يوسف:37]. تركت ملة قوم هذه العبارة الوجيزة من الأسرار القرآنية وآداب الدعوة الرفيعة ما لا ينتهي منه العجب ولكن نذكر طرفاً من ذلك:

أولاً: قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله [يوسف:37]. هو تعليل لقوله: ذلكما مما علمني ربي [يوسف:37]. فبذلك أراد يوسف أن يبين لهما أن الإنسان قد يجد الجزاء على العقيدة الصحيحة والأعمال الصالحة في الدنيا قبل الآخرة وأن هذا الجزاء قد يكون مادياً وقد يكون معنوياً كما هو هنا فقد كافئ الله يوسف على تجنبه تلك الملة المنحرفة وعدم وقوعه فيها ملة الوثنية والشرك والكفر بالله والكفر باليوم الآخر وكافئه على اتباع هذه الملة الصحيحة ملة التوحيد بأن وهبه العلم على حد قوله تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله وقوله سبحانه: إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً .

ثانياً: قوله: إني تركت ملة قوم يريد يوسف عليه السلام بذلك الإشارة والإيحاء للمخاطبين على أن الدين الذي أعتنقه يوسف ليس دين تعيين عينه له أحد من الناس أبوه أو ولي أمره أو سلطانه أو حكومته ولا هو دين تقليد قلد فيه الآباء والأجداد والأسلاف وإنما هو دين انتخاب انتخبه يوسف لنفسه بالدليل والبرهان واختاره بكامل إرادته عن تفهم واقتناع وفي هذا إرشاد إلي أنه يجب على الإنسان العاقل أن لا يجعل هذه المسألة الهامة في حياته مسألة التدين والاعتقاد مجرد عادة وتقليد ومحاكاة للآخرين وخاصة إذا كانوا منحرفين وإنما يجب عليه أن يستعمل عقله ليصل بنور الاستقلال الفكري إلي الملة الحقة والعقيدة الصحيحة.

ثالثاً: قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله فيه استجلاب للمخاطب وتلطف به من أجل أن يتحول ويترك الملة المنحرفة التي هو عليها ويسهل عليه الانقياد للملة الصحيحة فان الترك يتبادر إلي الذهن أنه يكون بعد الملابسة, الترك في اللغة يتبادر للذهن أنه إنما يكون بعد الملابسة بعد فعل الشيء ويوسف عليه السلام لم يقع أصلاً في ملة الوثنية والشرك حتى يتركها ومع ذلك استخدم لفظة الترك إني تركت ملة قوم وفي هذا تلطف مع المخاطب لأنه عليه السلام وضع نفسه في صفه ليكون ذلك أدخل بحسب الظاهر إلي الاقتضاء به كأنه يوحي إليهما ويوجههما ويقول لهما يجب أن تتركا هذه الملة المنحرفة كما تركتها أنا.

رابعاً: قوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله هذه أول غمزة لطيفة خفيفة رقيقة للملة التي يدين بها ذلك المجتمع الوثني ويدين بها الفتيان اللذان ينتميان لهذا المجتمع, مع كون تلك الملة ملة شرك ووثنية فان الفتيين يدينان بها تبعاً لمجتمعهما وتقليداً لأسلافهما فكأنما يريد يوسف عليه السلام أن ينبه أذهانهما إلي أن هذه الملة المنحرفة لا تستحق إلا الترك لمخالفتها للدليل والبرهان ولعدم وجود مصوغ لاعتناقها.

خامساً: المجتمع الذي تسوده الوثنية ويتفشى فيه الفساد الأخلاقي عادة ما تكون فيه الموازين مختلة وخاصة الموازين التي يتفاضل بها الناس, الموازين التي يفضل بها الإنسان على غيره فأراد يوسف عليه السلام بقوله: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله بعد قوله: ذلكما مما علمني ربي أي يبين لهما أن ما أختصه الله به من علم رباني وموهبة جليلة عظيمة لم يكن بسبب حسبه أو نسبه وإنما هو بسبب اعتقاده وعمله فالله تعالى لا ينظر إلي صور الناس وأشكالهم ولا يفضل بعضهم على بعض بأحسابهم وأنسابهم وإنما مقياس التفضيل عنده هو الاعتقاد الصحيح والعمل الصالح, هذه الآداب الرفيعة والأساليب البديعة ولغة الحوار والخطاب التي نستنبطها من هذه العبارة الوجيزة من الآية: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله تبين ما يجب على المسلم عندما يدعو الآخرين إلي ملة التوحيد, تبين لنا أنه يجب أن نستخدم أحسن المناهج والطرق وألطف الوسائل والأساليب لاستجلاب الناس إلي الخير وأن نتحاشى الفظاظة والغلظة وتنفير الناس عن الملة الصحيحة, قال تعالى لنبيه ومصطفاه: ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159]. فإذا كان هذا بالنسبة لسيد الخلق أجمعين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فقد ثبت في الحديث الصحيح أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال في ناحية منه فقام إليه الصحابة ليزجروه فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم: ((لا تزرموه)) أي لا تفزعوه ولا تهيجوه فلما فرغ الأعرابي من بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب أو بسجل أو بدلو من ماء فاهرق على بوله ثم قال للأعرابي: إن هذه المساجد لا تصلح شيء من هذا إنما هي لذكر الله والصلاة. وفي رواية أن الأعرابي قال: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ((لقد حجرت واسعاً)) (1)[1]. فرحمة الله واسعة وسعت الخلق أجمعين.

هذا اللين وهذا الرفق العجيب كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادته ودأبه دائماً في دعوته وفي تعليمه للناس, والرفق واللين هما من أحسن أساليب الدعوة والتعليم ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا دخل العنف في شيء إلا شانه, والدعوة الصحيحة تتوقف على الأسلوب الصحيح والمنهج الصحيح ففساد الأسلوب وفساد المنهج يؤديان إلي فساد الدعوة وإلي تضيع النتائج وفوات الأهداف, وإن من أحسن أساليب الدعوة هو الأسلوب غير المباشر فليست كل الأحوال يلائمها الأسلوب المباشر في الدعوة والتعليم بل هناك مقامات تتطلب مثل هذه الأساليب الرقيقة اللطيفة, روى الخلال رحمه الله في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عمارة رحمه الله قال: حضرت الحسن وقد دعي إلي عرس فجيء بجام "أي بقدح" من فضة عليه خبيز وطعام, ماذا يكون موقف الحسن وآنية الذهب والفضة قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الشرب فيها والأكل فيها, هذا منكر وهذا محرم ولكن المقام يستدعي الرفق واللين فماذا صنع الحسن قلب الخبيز والطعام على رغيف فأصاب منه أي فأكل من الطعام وهو على الرغيف وترك ذلك القدح من الفضة, قال عمارة: فقال رجل بجانبي لقد نهى هذا في سكوت. نهى عن هذا المنكر ولكن في سكون لأنه لا شك أن المدعوين رأوا ما فعل الحسن وهو إنسان محل قدوة وربما رآه أهل الضيافة فيكون بذلك قد بين لهم دون أن يلفظ بكلمة ودون أن يحدث أي ضجيج ودون أن يحرج أصحاب الضيافة أن الأكل في هذا القدح من الفضة لا يجوز. وهذا يذكرنا بأدب السبطين الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رأيا مرة رجلاً يتوضأ ولا يحسن الوضوء فقال أحدهما للأخر: تعالى أريك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. فتوضأ والرجل يسمع ويرى فبذلك علماه كيف كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يشعر ودون أن يحرجاه أو يجرحا مشاعره وهو أسن منهما وهما فتيان حدثان صغيران في السن رضى الله عنهما وأرضاهما. إننا بأمس الحاجة إلى مثل هذه الأساليب الرفيعة الرقيقة تلطفاً بالناس ورأفة بهم واستجلاباً لهم إلي الخير.

أما بعد: فان خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فان يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار وأعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن أدم أحبب ما شئت فانك مفارقه وأعمل ما شئت فانك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى على واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[2]، اللهم صلِّ وبارك على محمد وعلي آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلي آل إبراهيم انك حميد مجيد وأرضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) أصله في البخاري: ك: الوضوء (219).

(2) صحيح مسلم (408).

(1/314)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

القرآن والتفسير, القصص

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

27/11/1411

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الفَتَيان اللذان دخلا السجن مع يوسف عليه السلام وحالهما ؛ وحال قومهما – رحلة إبراهيم الخليل عليه السلام وإنجاء الله له من النار , وإنجاء أهله من جبّار مصر – دعوة الأنبياء واحدة وهي التوحيد – موقف اليهود من موسى وأنبيائهم وخيانتهم وغدرهم – التأكيد على الإيمان باليوم الآخر وأهميته – بعض الطوائف المنحرفة التي تزعم الإسلام , وهي لا تؤمن باليوم الآخر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلي الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:37-38].

يقول يوسف عليه السلام لرفيقيه في السجن إني أعرضت عن تلك الملة الوثنية لم أقتنع بها فلم أعتنقها أصلاً, والملة التي يشير إليها ملة وثنية قوم لا يؤمنون بالله كما يجب أشركوا معه آلهه أخرى وكانوا لا يعتقدون باليوم الآخر بيوم الدين ولا يؤمنون بالجزاء والبعث والحساب بعد الموت.

أولئك الوثنيون الذين عاصرهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام أجمعين, أولئك الوثنيون المقصودون هم سكان العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر في ذلك الوقت وكانوا وثنيين وهم القينيون والحيثيون والفرزيون والآراميون والكنعانيون واليبوسيون وهؤلاء هم سكان سوريا ولبنان وفلسطين في ذلك الوقت, والكلدانيون وهم سكان العراق والقبط وهم سكان مصر في ذلك الوقت, انحرفوا عن ملة التوحيد ووقعوا في الشرك والوثنية فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم أبا الأنبياء فدعا الكلدانيين سكان العراق إلي ملة التوحيد فكفروا وجحدوا وعزموا على إحراق إبراهيم الخليل وإلقائه في النار فنجاه الله منها بمعجزة باهرة ثم هاجر إبراهيم الخليل عليه السلام إلى فلسطين ومعه نبي الله لوط ما آمن معه إلا هو.

ورحل إبراهيم من فلسطين إلى مصر بأهله ليدعو أهلها إلي التوحيد فبدلاً من أن يستجيبوا إلى الملة الحنيفية أراد جبار مصر في ذلك الوقت السوء بأهل إبراهيم الخليل بزوجه سارة وكانت أجمل أهل زمانها وأحسنهم , فرد الله كيده وحمى عرض خليله ونبيه كلما مد الجبار يده إلي سارة زوج إبراهيم يبست يده وشلت فخاف منها الجبار وردها إلي زوجها معززة مكرمة بل وأخدمها هاجر, أهدى إليها جارية مصرية هي هاجر فلما رجعت سارة إلي إبراهيم الخليل وهو في أشد القلق قال لها: مهيم. قالت: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر.

ثم وهبت سارة تلك الجارية المصرية إلي زوجها إبراهيم الخليل عليه السلام لعله يرزق الولد فقد كانت سارة عاقراً لا تلد, فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل فغارت سارة منها فأمر الله خليله إبراهيم بأن يأخذ هاجر وابنها الرضيع إسماعيل ويرحل بهما إلى جزيرة العرب حيث وضعهما في تلك البقعة المباركة بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم المعظم بأمر من ربه عز وجل, ولكن بعد ذلك قدر الله وشاء فولدت سارة لإبراهيم إسحاق, وإسحاق هو أبو يعقوب, ويعقوب هو جد بني إسرائيل, فيعقوب هو نفسه إسرائيل. [1]

[1] انظر البداية والنهاية (1/141) وأصل القصة في البخاري كتاب الأنبياء (3179).وهؤلاء الأنبياء جميعاً إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب, وإسماعيل الذي هو جد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وجد العرب, هؤلاء الأنبياء جميعاً رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلي ملة التوحيد التي هي الإسلام, ولكن بني إسرائيل انحرفوا عن هذه الملة ووقعوا في الوثنية والشرك بل صار هذا حالهم دائماً ولذلك كثرت فيهم الأنبياء حتى يدعونهم إلى ملة التوحيد كلما انحرفوا عنها.

ثم جاء نبي الله موسى الكليم عليه السلام ولقي عنتاً ومشقة وتعباً شديداً في دعوة بني إسرائيل إلى التوحيد وتعليمهم عقيدة التوحيد, بل إنهم ونبي الله موسى عليه السلام وأخوه نبي الله هارون بين ظهرانيهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً فغضب عليهم نبي الله موسى ويأس منهم فدعا عليهم قائلاً: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين [المائدة:25]. فحكم الله علي بني إسرائيل بالذلة والمسكنة إلي يوم القيامة إلا بحبل من الله وبحبل من الناس.

اليهود اليوم يزعمون الانتماء إلي إبراهيم وإلي إسحاق ويعقوب الذي هو إسرائيل وينسبون دينهم المحرف المبدل إلي موسى وكل هذا كذب وزور وبهتان, فهؤلاء الأنبياء حاشا أن تكون هذه ملتهم ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين [آل عمران:67]. هؤلاء الأنبياء جميعاً وغيرهم من أنبياء الله ورسله دينهم واحد وملتهم واحدة وهي الإسلام, والإسلام هي الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه ووصى بنيه بها وكذلك يعقوب أو إسرائيل ملته الإسلام ووصى بنيه بها ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:132].

ولكن بني إسرائيل كعادتهم ودأبهم دائماً خانوا وغيروا وبدلوا, حرفوا وصية أبي الأنبياء إبراهيم وحرفوا وصية يعقوب الذي هو إسرائيل والذي ينتمون إليه اليوم زوراً وبهتاناً وقد كانت وصيتهم بالإسلام واتباع نبي آخر الزمان النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, بشرت به الأنبياء والمرسلون, بشر به موسى وعيسى ويجدون أوصافه مكتوبة بالتوراة والإنجيل, فأحبارهم وعلماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم خانوا الوصية وحرفوها وبدلوها, خانوا العهد وغدروا وكيف لا يخونون هذه الوصية وهم قد خانوا أنبياءهم وخانوا أنفسهم وكتبهم المنزلة علي أنبيائهم, حرفوا وغيروا التوراة والإنجيل وشروها بثمن بخس.

إن اليهود عاندوا ربهم وعصوه حتى لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل فأي حق بقي لهم بعد ذلك كله, لا حق لهم أبداً مما يزعمون, ليس لهم أي حق تاريخي ولا أي حق ديني بعد أن خانوا وغدروا وكفروا بالإسلام ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى, بعد أن قتلوا الأنبياء والمرسلين لا حق لهم أبداً, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين [البقرة:135].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: عقيدة اليوم الآخر التي أشار إليها يوسف الصديق عليه السلام والتي هي أحد الأركان الستة للإيمان التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها هي عقيدة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وموسى وعيسى وعقيدة سائر الأنبياء والمرسلين, وقد جاء بها إمامهم وخاتمهم سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذه آيات القرآن العظيم حافلة بالدعوة إلي الإيمان باليوم الآخر وأن الله يبعث من في القبور وينصب الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وسيجتاز الخلق الصراط وسيكون هناك الحساب ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, وهذه العقيدة بقيت منها بقايا في دين اليهود المحرف اليوم وفي دين النصارى إلا طوائف قليلة من اليهود لا يؤمنون باليوم الآخر ولا بالملائكة ومثلهم طوائف من المسلمين يدعون الإسلام ولكنهم مع ذلك يكفرون باليوم الآخر, لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجزاء والحساب ولا بالجنة والنار وهم طائفة من الروافض تسمى الخطابية وطائفة تسمى الإسماعيلية وطائفة تسمى البهرة والبهائية والنصيريون والدروز هؤلاء جميعاً لا يؤمنون باليوم الآخر, فيا ترى ما الفرق بينهم وبين أسلافهم الذين قالوا: أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغصون رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً [الإسراء:49].

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(1)[1]، اللهم صل وبارك على محمد وعلىآل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) صحيح مسلم (408).

(1/315)

رسالة الأنبياء (التوحيد)

-----------------------

التوحيد

أهمية التوحيد

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- بيان يوسف لصاحبيه في السجن براءته من الشرك وأهله 2- نجاة إبراهيم الخليل وزوجه من كيد الطواغيت 3- رِدّة بني إسرائيل عن التوحيد 4- وصية الأنبياء أقوامهم وذراريهم بتوحيد الله 5- عناد اليهود وكفرهم بالله 6- الإيمان باليوم الآخر 7- طوائف ضالة تُنكر اليوم الآخِر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله حكاية عن يوسف عليه السلام قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون

يقول يوسف عليه السلام لرفيقيه في السجن إني رغبت عن تلك الملة الوثنية لم أقنع بها فلم أعتنقها أصلاً والملة التي يشير إليها ملة وثنية، قوم لا يؤمنون بالله كما يجب، وأشركوا معه آلهة أخرى وكانوا لا يعتقدون باليوم الآخر بيوم الدين و لا يؤمنون بالجزاء والحساب والبعث بعد الموت، أولئك الوثنيون الذين عاصرهم إبراهيم الخليل أبو الأنبياء وإسحق ويعقوب ويوسف عليهم السلام أجمعين، أولئك الوثنيون المقصودون هم سكان العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر في ذلك الوقت وكانوا وثنيين وهم الفينيقيون والحثيون والأوربيون والكنعانيون والبييون، هؤلاء هم سكان سوريا ولبنان وفلسطين في ذلك الوقت، والكلدانيون وهم سكان العراق والقبط وهم سكان مصر في ذلك الوقت، انحرفوا عن ملة التوحيد ووقعوا في الشرك والوثنية، فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم أبا الأنبياء فدعا الكلدانيين سكان العراق إلى ملة التوحيد.

فكفروا وجحدوا وعزموا على إحراق إبراهيم الخليل وإلقائه في النار فنجاه الله منها بمعجزة باهرة، ثم هاجر إبراهيم الخليل عليه السلام، هاجر إلى فلسطين مع نبي الله لوط ما آمن معه إلا هو، ورحل إبراهيم من فلسطين إلى مصر بأهله ليدعو أهلها إلى التوحيد، فبدلاً من أن يستجيبوا إلى الملة الحنيفية أراد جبارها جبار مصر في ذلك الوقت، أراد السوء بأهل إبراهيم الخليل بزوجه سارة وكانت أجمل أهل زمانها وأحسنهم فرد الله كيده وحمى عرض خليله ونبيه، كلما مد الجبار يده إلى سارة زوج إبراهيم يبست يده وشلت، فخاف منها الجبار فردها إلى زوجها معززة مكرمة، بل أخدمها هاجر، أهدى إليها جارية مصرية هي هاجر، فلما رجعت سارة إلى إبراهيم الخليل وهو في أشد القلق سألها عن خبرها فقالت: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر: ثم أهدت سارة تلك الجارية المصرية إلى زوجها إبراهيم الخليل عليه السلام عله يرزق الولد، فلقد كانت سارة عاقراً لا تلد، فولدت هاجر لإبراهيم إسماعيل ، فغارت سارة منها، فأخذ إبراهيم هاجر وابنها الرضيع إسماعيل ورحل بهما إلى جزيرة العرب حيث وضعهما في تلك البقعة المباركة بواد غير ذي زرع حيث بيت الله المحرم المعظم بأمر من ربه عز وجل، ولكن بعد ذلك قدر الله وشاء فولدت سارة إسحاق، ولدت لإبراهيم إسحاق، وإسحاق هو أبو يعقوب، ويعقوب هو جد بني إسرائيل فيعقوب هو نفسه إسرائيل والأنبياء جميعاً إبراهيم واسحاق ويعقوب وإسماعيل الذي هو جد النبي محمد صلي الله عليه وسلم جد العرب، هؤلاء الأنبياء جميعاً رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى ملة التوحيد التي هي الإسلام .

ولكن بني إسرائيل انحرفوا عن هذه الملة ووقعوا في الوثنية والشرك بل صار هذا حالهم دائماً ولذلك كثرت فيهم الأنبياء حتى يدعونهم إلى ملة التوحيد كلما انحرفوا عنها، ثم جاء نبي الله موسى الكليم عليه السلام ولقي …مشقة وتعباً شديداً في دعوة بني إسرائيل إلى التوحيد وتعليمهم عقيدة التوحيد، بل إنهم ونبي الله موسى عليه السلام وأخوه نبي الله هارون بين ظهرانيهم عبدوا العجل واتخذوه إلهاً فغضب عليهم نبي الله موسى ويئس منهم فدعا عليهم قائلاً رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين فحكم الله على بني إسرائيل بالذلة والمسكنة إلى يوم القيامة إلا بحبل من الله وحبل من الناس، واليهود اليوم يزعمون الإنتماء إلى إبراهيم وإلى إسحاق ويعقوب ويزعمون الإنتماء إلى يعقوب الذي هو إسرائيل وينسبون دينهم المحرف المبدل إلى موسى وكل هذا كذب وزور وبهتان، فهؤلاء الأنبياء حاشا أن تكون هذه ملتهم ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين هؤلاء الأنبياء جميعاً وغيرهم من أنبياء الله ورسله دينهم واحد وملتهم واحدة هي الإسلام، والإسلام هي الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه ووصى بنيه بها و كذلك يعقوب أو إسرائيل ملته الإسلام ووصى بها بنيه .

ووصي بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ولكن بني إسرائيل كعادتهم ودأبهم دائماً خانوا وغيروا وبدلوا وحرفوا وصية أبي الأنبياء إبراهيم وحرفوا وصية يعقوب الذي هو إسرائيل والذي ينتمون إليه اليوم زوراً وبهتاناً.

وقد كانت وصيتهم تأمرهم باتباع الإسلام واتباع نبي آخر الزمان النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بشّرت به الأنبياء أجمعهم بشّر به موسى وعيسى ويجدون أوصافه مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل، فأحبارهم علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكن خانوا الوصية وحرفوها وبدلوها خانوا العهد وغدروا وكيف لا يخونون هذه الوصية وهم قد خانوا أنبياءهم أنفسهم وكتبهم المنزلة على أنبيائهم، حرفوا وغيروا التوراة والإنجيل وشروها بثمن بخس.

إن اليهود عاندوا ربهم وعصوه حتى لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل، فأي حق بقي لهم بعد ذلك كله ؟ لا حق لهم أبداً مما يزعمون، وليس لهم أي حق تاريخي ولا أي حق ديني، بعد أن خانوا وغدروا وكفروا بالإسلام، ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى بعد أن قتلوا الأنبياء والمرسلين لا حق لهم أبداً مما يزعمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .

اللهم صل على محمد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :

عقيدة اليوم الآخر التي أشار إليها يوسف الصديق عليه السلام، والتي هي أحد الأركان الستة للإيمان، التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها، وهي عقيدة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وموسى وعيسى وعقيدة سائر الأنبياء والمرسلين وقد جاء بها إمامهم وخاتمهم سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلي آله وصحبه وسلم.

فهذه آيات القرآن العظيم حافلة بالدعوة إلى الإيمان واليوم الآخر وأن الله يبعث من في القبور وينصب الموازيين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وسيجتاز الخلق الصراط وسيكون هناك حساب ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وهذه العقيدة بقيت منها بقايا في دين اليهود المحرف اليوم وفي دين النصارى إلا طوائف قليلة من اليهود لا يؤمنون باليوم الآخر ولا بالملائكة وهناك طوائف ممن يدعون الإسلام، طوائف من المسلمين يدعون الإسلام ولكنهم مع ذلك يكفرون باليوم الآخر، لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ولا بالجزاء و الحساب ولا بالجنة والنار هم طائفة من الروافض تسمى الخطابية وطائفة تسمى الإسماعيلية والبهائية والنصيريين والدروز هؤلاء جميعاً لا يؤمنون باليوم الآخر.

ترى ما الفرق بينهم وبين أسلافهم الذين قالوا: أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، عليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار، واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان، صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك الزنادقة والملحدين وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلهم هداة مهتدين واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين اللهم أصلح حال المسلمين، اللهم ردهم إلى دينك رداً حميداً، واجمع كلمتهم على الحق اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك وإعلاء كلمتك، اللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم وقوِ شوكتهم وأنزل السكينة عليهم وانصرهم على عدوك عدوهم إنك على كل شئ قدير.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا ربنا سميع قريب مجيب الدعوات .

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت.

اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم و اشكروه على نعمائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

(1/316)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

التوحيد, العلم والدعوة والجهاد

أهمية التوحيد, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

معالم ملة التوحيد – أنواع التوحيد – الكفر بالطاغوت أولاً – التوحيد وسورتي : ( الكافرون – الإخلاص )

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تعالى حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [يوسف:38].

هذه حلقة أخرى من دروس هذه السورة العظيمة نحاول فيها أن نتعمق أكثر في معاني هذه الآية الكريمة وكلام ربنا معجز يا له من كلام معجز لو كان البحر مدادا له ما نفدت معانيه ولا انتهت عجائبه ولو نفد البحر. فما هي الملة التي أشار إليها يوسف عليه السلام وبين أنها دينه ودين آبائه الأنبياء إنها ملة التوحيد ولذلك بادر يوسف الصديق عليه السلام وسارع إلى نفي الشرك نفيا قاطعا شاملا يقضي على سائر أنواعه صغيرها وكبيرها ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء أي شيء فهذا الأسلوب يفيد عموم النفي يفيد عموم النفي إما أن يكون النفي لسائر أنواع الشرك أي ما كان لنا أن نشرك بالله أي نوع من أنواع المشرك لا ملكا ولا جنيا ولا إنسيا ولا صنما وإما أن يكون النفي للوصف للمصدر أي ما يحق لنا أن يقع منا أي نوع من أنواع الإشراك فهذه الملة ملة التوحيد هي ملة الأنبياء جميعا الملة البيضاء النقية من شوائب الشرك والوثنية ولنتحدث اليوم عن بعض معالمها وأركانها الأساسية فقد ثبت عن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في سنة الفجر قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد (1)[1]وكذلك يقرأهما في سنة المغرب(2)[2] فكان صلى الله عليه وسلم يفتتح يومه بهاتين السورتين ويختتمه كذلك بهما فما هو السر في ذلك، السر في ذلك أن هاتين السورتين العظيمتين تضمتنا موجز عقيدة هذه الملة وجوهرها فعقيدة الإسلام بنيت على عقيدتين إحداهما نفي والأخرى إثبات أما النفي فتمثله قل يا أيها الكافرون فهذه السورة فيها البراءة من الشرك وأهله وفيها المفاصلة بين الموحدين والمشركين ولذلك سميت سورة البراءة من الشرك هذه السورة قل يا أيها الكافرون تضمنت رفض الشرك وتضمنت البراءة من أهل الشرك قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم [سورة الكافرون]. والنفي فيها تعلق بأمرين عجيبين تعلق بالفعل لا أعبد ما تعبدون وهذا السر فيه لنفي وقوع الفعل وحدوثه الذي هو الشرك وتعلق باسم الفاعل ولا أعبد ما تعبدون في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم وهذا السر فيه في نفي الوصف معنى ذلك كله أنه لا يحق لنا أن يقع معنا فعل الشرك ولا يحق لنا أن نتصف بوصف الشرك فهذه السورة العظيمة تمثل إذن الدعامة الأولى من دعائم هذه الملة والركن الأول من ركني هذه العقيدة عقيدة التوحيد ألا وهي دعامة النفي والبراءة وأهله وهذا النفي هو مضمون النصف الأول من كلمة التوحيد (لا إله) هذا هو النصف الأول من كلمة التوحيد الذي يتضمن النفي ولكن النفي وحده لا يكفي ولذلك جاءت الدعامة الثانية ألا وهي الإثبات الذي هو مضمون النصف الثاني من كلمة التوحيد إلا الله وهذه الدعامة الثانية تمثلها سورة الإخلاص قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [سورة الإخلاص]. فإلهنا الذي نعبده ولا يشاركنا في عبادته الكافرون يتصف بهذه الأوصاف فهو الإله الواحد الذي (لم يلد) فيكون له فرع (ولم يولد) فيكون له أصل وليس له كفوا أحد فيكون له شبيه أو نظير بل هو الصمد أي هو الذي جمع صفات الكمال كلها فهاتان السورتان انتظمتا نوعي التوحيد المطلوبين من كل مكلف الذين هما جوهر هذه الملة وجوهر هذه العقيدة ركني التوحيد أولهما توحيد المعرفة والإثبات الذي تضمنته سورة قل هو الله أحد وثانيهما توحيد الإرادة والقصد أو توحيد العبادة الذي تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون فلا بد من الإخلاص في التوحيد بكلا نوعيه وعلى كل مسلم يريد النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم أي سليم من الشرك على كل مسلم أن تستقر عقيدة التوحيد في قلبه لكن قبل ذلك لا بد أن يفرغ قلبه وينقي قلبه من شوائب الشرك والوثنية فالتخلية والتنقية قبل التحلية البراءة من الشرك أولا قبل التوحيد الكفر بالطاغوت أولا وقبل الإيمان قال تعالى: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها [البقرة:256]. من عجائب هذا القرآن أن معنى قوله تعالى حكاية عن يوسف الصديق عن نبيه يوسف ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء [يوسف:38]. نفس المضمون والمعنى في قوله: لا أعبد ما تعبدون وفي قوله: ولا أنا عابد ما عبدتم ففي قوله: لا أعبد ما تعبدون نفي لحدوث الفعل الذي هو الشرك وفي قوله: ولا أنا عابد ما عبدتم نفي للاتصاف بهذا الوصف الذي هو الإشراك فلا يحق لنا أبدا نحن عبيد الله وخلقه أن يحدث منا ويقع منا الشرك به سبحانه كما لا يحق لنا أن نتصف بوصف الإشراك فإن الشرك ظلم عظيم في حق الإله الواحد الأحد ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء أي شيء .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله واعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأطيعوه ولا تعصوه فإن من أطاعه سبحانه وتعالى نجا وسلم ومن عصاه فقد هوى وهلك.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(3)[1]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) مسلم كتاب صلاة المسافرين (726).

(2) سنن الترمذي (431)، النسائي (992)، ابن ماجة (1166).

(3) صحيح مسلم (408).

(1/317)

زينة المرأة المسلمة بين الطب والشرع

-----------------------

الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب

اللباس والزينة, المرأة

-----------------------

منصور الغامدي

الطائف

27/2/1420

أبو بكر الصديق

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

- طبيعة المرأة ومَيلها إلى التزيّن – ضرورة التوازن بين زينة الباطن والظاهر – مظاهر الإسراف في زينة الظاهر – حكم صبغ المرأة شعر رأسها – بعض المخالفات في زينة المرأة ( في الأظفار – في الحاجب )

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها الاخوة المسلمون:أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته، فما قل ولا ذل عبد اتقى الله وحفظ جوارحه عن الحرام .

أيها المسلمون: ومع آخر حلقة في سلسلة المرأة التي خضنا غمارها في أسابيع ماضية مضت، وهي عن زينة المرأة المسلمة ما تأتي فيها وما تذر .

أيها الاخوة الكرام: إن المرأة بطبيعتها تميل إلى حب التزين والتجمل وهذا من أصل فطرتها وتكوينها، قال تعالى: أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [الزخرف 18]وفي قراءة (أومن يَنشأ) وفي هذا العصر الذي كثرت فيه السهام الموجهة إلى صلاح المرة المسلمة وجمالها الباطن لكلي تعيش همّا جديدا في حياتها اسمه الموضة، فتضيع وقتا كبيرا وثمينا من أجل زينة الظاهر، وتبذر أموالا كثيرة، لمواكبة آخر ما أحدثته دور الموضة، وهكذا يراد للمسلمة أن تعيش مشغولة بتوافه الأمور متناسية العظيم منها:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح فيما فيه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

أيها الاخوة الكرام: إن المرأة لا تلام على حب الزينة والتزين، بل إن ذلك مطلوب منها شرعا، وهي مأمورة به بمثل قول النبي : ((إن ينظر إليها سرته))، ولو لا الزينة لما رغب رجل في امرأته، ولكن المطلوب في الزينة هو عدم المبالغة، والتوازن بين الاهتمام بالظاهر والاهتمام بالباطن، إلا أن كثيرا من نساء اليوم غلبن جانب الاهتمام بالمظهر على سواه .

أيها الاخوة الكرام: وإليكم أرقام مهولة لاستعمال أدوات الزينة الخاصة بالمرأة، ففي عام 1997م، أنفقت نساء الخليج حوالي ثلاث مليارات ريال على العطور فقط، وخمسة عشر مليون ريال على صبغات الشعر، وبلغت مبيعات أحمر الشفاه أكثر من ستمائة طن، فيما بلغت مبيعات طلاء الأظافر أكثر من خمسين طنا .

وإن الدارسين في معاهد وكليات الإعلام يعرفون جيدا أن نظريات الإعلام تركز على المرأة في إقناع المستهلك على شراء المنتج الجديد حتى في السلع التي لا تتعلق بالمرأة، ولا تجد حملات الإعلان الموجهة للمرأة صعوبة كبيرة في إقناع النساء باتخاذ قرار الشراء، فهذا المنتج يحقق التميز، وذاك يوفر التجاعيد، وهذا يمنع تقصف الشعر، وذاك يفتح البشرة إلى غير ذلك، وآخر تقاليع هذا التقليد إطلاق أسماء الفنانات وعارضات الأزياء على الماركات الجديدة .

أيها الأخ الموفق : ألم يأتك نبأ مساحيق التجميل، وما مكوناتها، إن أشهر ماركات مساحيق التجميل العالمية تصنع من أنسجة أجنة الإنسان الحية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يدخلها سنويا أربعة آلاف جنين عن طريق ما في الأجنة، لهذا الغرض ولغيره، وقد أثبتت بعض الأبحاث الحديثة التي أجرتها شركات مساحيق التجميل الكبرى في الغرب الفائدة القصوى لأنسجة أجنة الإنسان في صناعة مساحيق التجميل، ومن هنا بدأ الجريمة المقننة التي يتعاون في صناعة مساحيق مع الأطباء في إجهاض النساء، وسحب الجنين، وحفظه في أوعية خاصة تمهيدا لبيعه لشركات إنتاج الصابون الخاص بجمال البشرة، وشركات إنتاج المساحيق والكريمات التي تغذي البشرة .

وقد أعد الدكتور فلاديمير سكرتير عام اللجنة الدولية لحماية الطفل قبل الولادة بأمريكا، أعد تقريرا سريا عن تلك القضية، وقد أشار ضجة كبرى عرض شريط سينمائي بعنوان (الصيحة الصامتة)، أو بدأ الفيلم بعرض جنين سليم، ثم تصوير بالأشعة فوق الصوتية وهو لم يولد بعد، وينتهي بتقطيع أوصاله، وفصل رأسه عن جسده، وهو يسبح في السائل المحيط داخل الرحم بفعل آلة الإجهاض الحديثة (الجيلوتين) التي تعمل على تهشيمه تماما، وأوضح الشريط أن الجنين قد تعرض لآلام رهيبة حتى تمت عملية الإجهاض، كما أنه يعيش حالات الشعور بالألم حيث يتحرك بعيدا عن آلة الإجهاض التي تجلب له الموت، كما زادت ضربات القلب الصغير زيادة كبيرة عندما واجهه خطر الموت، ويصرخ بشدة مثل صرخة الغريق تحت الماء، لقد تحول الإنسان إلى وحش يقتل نفسه بنفسه لغرض المتاجرة والاحتيال .

ولم تكتف بعض الشركات بقتل الأجنة وعمل مساحيق التجميل منها، بل فكرت في الاستفادة من الحشرات لتصنيع مساحيق التجميل، وقد اعترفت شركة هندية باستعمالها الصراصير المطحونة لإضافة البروتين إلى كريمات الوجه.

هذه بعض الحقائق المثيرة المخجلة، التي تكشف القناع الذي يلبسه مُدعو المدنية والموضة.

أيها الفضلاء: لقد أطلق الأطباء صيحات التحذير من هذه المساحيق لأنها مجلبة لبعض الأمراض كحب الشباب، والشيخوخة المبكرة، ولها تأثير على الدم والكبد والكلى، ولها تأثير على البشرة عموما.

يقول الدكتور وهبه أحمد حسن أستاذ الأمراض الجلدية إن مكياج الجلد له تأثيره الضار، لأنه يتكون من مركبات معادن ثقيلة كالرصاص والزئبق، تذاب في مركبات دهنية كما أن بعض المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية، وكلها أكسيدات تضر بالجلد، وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية، أما لو استمر استخدام الماكياجات فإن لها تأثيرا ضارا على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى.

وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، عن حكم مساحيق التجميل فأجاب: المساحيق فيها تفصيل: إن كانت يحصل بها جمال و لكن لا تضر الوجه ولا تسبب شيئا فلا بأس، أما إن كانت تسبب شيئا فيه ضرر فإنها تمنع من أجل الضرر .

وفي الوقت الذي نرى فيه تزايد اوتهافتا في استخدام مستحضرات التجميل من نساء المسلمين، فإن الإحصاءات في الغرب تشير إلى انخفاض في مبيعات مستحضرات التجميل.

ورب قائلة تقول : إننا نستعمل هذه الأدوات والمساحيق منذ زمن ولم نصب بأذى، فالجواب على ذلك: أن الأضرار البدنية لهذه المواد قد لا يظهر أثرها في يوم وليلة أو شهر وشهرين، ولكن على المدى البعيد، وقد يطول وقد يقصر .

ومن مستحضرات التجميل إلى مستحضرات صبغ الشعر والإستشوار إذ أكد الأخصائيون والأطباء أن متاعب شعر المرأة له أكثر من سبب، أكثرها شيوعا: استخدام صبغة الشعر، وتمشيط الشرع بالاستشوار، واستخدام مثبتات الشعر، فهذه تؤدي إلى تدمير بصيلات الشعر، لما تحتويه هذه الأصباغ من مواد كيميائية ضارة بالشعر، وقد ذكر صبغ الشعر وبين أنه ربما تكون هناك علاقة بين استخدام مستحضرات صبغ الشعر وبين الإصابة ببعض أنواع السرطان، قام بهذه الدراسة الباحثون في المعهد القومي الأمريكي للسرطان .

أما حكم مثل هذه المستحضرات فقد قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان أما صبغ المرأة شعر رأسها، فإن كان شيبا فإنها تصبغه بغير السواد لعموم نهيه عن الصبغ بالسواد، وأما صبغ المرأة بشعر رأسها ليتحول إلى لون آخر، فالذي أرى أنه لا يجوز.

ويرى الشيخ ابن عثيمين أن هذه الأصباغ إن كانت متلقاة من الكفار والغرض منها التشبه بنسائهم فإنها محرمة لأن التشبه بالكفار محرم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد:

أيها الاخوة الفضلاء: ومما يخالف الفطرة في زينة النساء ما يفعله بعضهن من إطالة الأظافر، أو تركيب أظافر صناعية، وفي بحث علمي قامت به إحدى الجامعات، تمّ أخذ البقايا الموجودة، تحت أظفار الطلبة ووزعت هذه البقايا في أطباق خاصة في درجة حرارة الجسم، وفحصت الأطباق مجهريا، فكانت النتيجة وجود مئات من الأنواع المختلفة من الجراثيم الضارة الفتاكة في هذه البقايا كامنة منتظرة الدخول إلى جسم الإنسان وبخاصة عند تناول الطعام .

وقد يحتج البعض بأنه يعتني بأظفاره ويغسلها يوميا، وحجته مردودة بأن الشرع قد نهى عن إطالة الأظافر، وأيضا : فإن غسل الأظافر لا يفيد في تنظيفها من الجراثيم والأوساخ، لأن الماء لا يصل إلى ما تحت الأظافر، أما طلاء الأظفار فإن الأطباء يحذرون منه يقول أحد استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية، إن طلاء الأظفار بالمادة الكيميائية لها تأثيرها الضار على الأظفار، حيث إن هذه المدة تعزل الهواء وتمنع تبادل الرطوبة بين الظفر والجو وربما يؤدي كثرة استعمالها إلى أن تصاب الأظفار بالاصفرار، وتصبح هشة سهلة الكسر .

وقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأن تطويل الأظفار خلاف السنة، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((الفطرة خمس: الختان، والإستحداد، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقلم الأظافر))، ولا يجوز أن تترك أكثر من أربعين ليلة لما ثبت عن النبي أنه قال : (وقت لنا رسول الله في قص الشارب وقلم الظفر، ونتف الإبط وحلق العانة، أن لا نترك شيئا من ذلك أكثر من أربعين ليلة ) ولأن تطويلها فيه تشبه بالبهائم وبعض الكفرة .

وسئل الشيخ محمد ابن عثيمين عن حكم استعمال المناكير فقال: لا يجوز للمرأة أن تستعمل هذه الأصباغ إذا كانت تصلي، لأنها تمنع وصول الماء في الوضوء، وكل شيء يمنع وصول الماء فإنه لا يجوز استعماله للمتوضئ، أما إذا كانت لا تصلي لوجود مانع فلا حرج عليها إذا فعلته، إلا أن يكون هذا الفعل من خصائص نساء الكفار فإنه لا يجوز لما فيه من التشبه بهم .

أيها المسلمون: ومن الزينة التي فعلها بعض الناس هداهن الله نتف الحاجب واسمه في الشرع: النمص، يقول أحد الأطباء في ضرره إن إزالة شعر الحواجب ينشط الحلمات الجلدية، فتتكاثر خلايا الجلد وفي حالة توقف الإزالة، ينمو شعر الحواجب بكثافة ملحوظة .

يقول الشيخ عبد الله بن جبرين عن حكم النمص : لا يجوز القص من شعر الحواجب ولا حلقه ولا التخفيف منه ولا نتفه، ولو رضي الزوج فليس فيه جمال، بل تغيير لخلق الله وهو أحسن الخالقين، وقد ورد الوعيد في ذلك ولعن من فعله، وذلك يقتضي التحريم .

أيها المؤمنون : إن ربنا سبحانه رحيم بنا، فهو الذي كتب على نفسه الرحمة، ولم يأمر عباده إلا بما نفعهم، ولم ينههم ألا بما يضرهم فمتى سار الناس منضبطين بأوامر ربهم ساروا بخير وعاشوا بخير، كما أن المسلمين ينبغي عليهم أن يكونوا على مستوى من الوعي والفهم والتأكد من كل شيء يتعاملون به في حياتهم أو يستعمل لئلا يقعوا في المحاذير، والموفق من وفقه الله لإصلاح أهله وحفظهم من كل ما يؤذيهم في الظاهر والباطن .

اللهم اجعل حياتنا ومماتنا ونومنا ويقظتنا، وحركتنا وسكوننا لله رب العالمين لا شريك له .

ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله . .

(1/318)

المسيح الدجال

-----------------------

الإيمان

أشراط الساعة

-----------------------

منصور الغامدي

الطائف

7/1/1420

أبو بكر الصديق

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

- فتنة آخر الزمان والمخرج منها – من علامات الساعة الكبرى خروج الدجال ,وصفه - مكثه في الأرض ونزول عيسى بن مريم عليه السلام – كيفية النجاة من فتنة المسيح الدجال

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها الاخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى واتباع السنة والصبر عليها، فهي العاصم بإذن الله من فتن تموج كموج البحر .

أيها الاخوة الكرام: لقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأخبار وعلامات في آخر الزمان قبل قيام الساعة تكون مؤذنة بخراب العالم وانتهائه، وهي أخبار حق وصدق فيها دلائل النبوة وأمارات الرسالة .

ومن هذه العلامات الكبرى: خروج الدجال، وما أدراك ما الدجال، إنه منبع الكفر والضلال، وينبوع الفتن والأوحال، قد أنذرت به الأنبياء قومها وحذرت منه أمتها ونعتته بالنعوت الظاهرة، ووصفته بالأوصاف الباهرة، وحذر منه المصطفى وأنذر، ونعته لأمته نعوتا لا تخفى على ذي بصر .

والمسيح في اللغة يطلق على عيسى ابن مريم عليه السلام الصديق، والمسيح الدجال الضليل الكذاب، فخلق الله المسيحَين أحدهما ضد الآخر، فعيسى ابن مريم عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، والدجال مسيح الضلالة يفتن الناس بما يعطاه من الآيات. وسمي الدجال مسيحا، لأن إحدى عينيه ممسوحة، أو لأنه يمسح الأرض في أربعين يوما.

ومعنى الدجال أي : المموه الكذاب، وسمي الدجال دجالا، لأنه يغطي الحق بالباطل، أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيه عليهم، وقد خبره وكان وهو نبي هذه الأمة يتعوذ بالله من شر المسيح الدجال، وحث أمته على الاستعاذة من شره، قال رسول الله : ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال ))، ولخوفه على أمته من الدجال، ذكر لهم من خبره ما ذكره ليكونوا على بينة وليأخذوا للأمر عدته، عن النواس بن سمعان : ((ذكر رسول الله الدجال ذات عداة فخفض فيه ورفع، أي حقر من شأنه لكونه أعور، ولكونه لا يقدر على قتل أحد، ثم عظمه وفخمه لأجل فتنته، حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم ؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال عداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال غير ذلك: ((غير الدجال أخوفُني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطَط عينه طافئة، (ومعنى قطط أي: شديد) فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا )) قلنا يا رسول الله: وما لبثه في ؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة وما إسراعه في الأرض، قال: كالغيث استدبرته السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك)) وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من ذكره ويجلي أوصافه للناس: فعن صفاته لعنه الله ما جاء في حديث عبادة بن الصامت قال رسول الله : ((إن المسيح الدجال رجل، قصير، أفحج،( أي : بعيد ما بين الساقين) جعد أعور مطموس العين ليس بناتئة ولا جحراء، فإن أُلبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور)) ومعنى الجحراء: أي التي قد انخسفت فبقي مكانها غائرا كالحجر.

والدجال مكتوب بين عينيه كافر يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب ومن فتنته أن يكون معه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب : يكون معه جنة ونار، فجنته نار وناره جنته، وأن معه أنهار الماء، وجبال الخبز، ومن فتنته أنه يقول للأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك، فيقول : نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان : يا بني اتبعه فإنه ربك، وأما اتباعه فإن أكثرهم من اليهود والعجم والترك وأخلاط من الناس غالبهم الأعراب والنساء، روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة)). وفي حديث آخر ((يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة)) وأما كون أتباعه من النساء فلسرعة تأثرهن وغلبة الجهل عليهن، فقد قال : ((ينزل الدجال في هذه السبخة بمرِّقناة، وهو واد بالمدينة يأتي من الطائف، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء حتى إن الرجل يرجع إلى حميمه والى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطا، مخافة أن تخرج ))، ومحرم على الدجال دخول مكة والمدينة روى عن النبي أنه قال : ((يوم الخلاص وما يوم الخلاص قالها ثلاثا : فقيل له : وما يوم الخلاص، قال : يجئ الدجال فيصعد أُحدا فينظر المدينة فيقول له : أترون هذا القصر الأبيض هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا فأتي سبخة الحرف فيضرب رواقه ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج فذلك يوم الخلاص)) والناس يومئذ يفرون من الدجال في الجبال، قالت أم شريك : يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال : هم قليل : وخير الناس في ذلك الزمان أو من خيرهم رجل يخرج إلى الدجال من مدينة رسول الله فيقول للدجال :أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله حديثه : فيقول الدجال :أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في الأمر ؟ فيقولون :لا، فيقتله ثم يحييه فيقول : أي الرجل، والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه ))، وأكد ما أخبر به وأصحابه عن الدجال ما جاء في حدث تميم الداري عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت : فصليت مع رسول الله فلما قضى رسول الله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: ((ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم، قالوا : الله ورسوله أعلم قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافقه الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر، حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب كثيرا الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة قالوا: ومالجساسة قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدبر، فإنه إلى خبركم بالأشواق قال : لما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانه، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلتا الدبر، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا من أنت ؟ قد قدرتم على خبري فأخبروني من أنتم، قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم أي حين هاج، فلعب بنا الموج شهرا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، ثم قال : أخبروني عن نخل بيسان وهي مدينة بالأزرن بالغور الشامي، قلنا عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : سألتكم عن نخلها هل يثمر، قلنا له: نعم، قال : أما إنه يوشك ألا تثمر قال: أخبروني عن بحيرة طبرية ؟ قلنا عن أي شأنها تستخبر، قال : هل فيها ماء، قالوا : هي كثيرة الماء، قال : إن ماءها يوشك أن يذهب، قال : أخبروني عن عين زغر قالوا : عن أي شأنها تستخبر قال : هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين، قلنا، نعم هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها .

قال أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل ؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال أقاتله العرب، قلنا نعم، قال، كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم :قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم، قال : أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها أربعين ليلة )). . الحديث.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين له الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

وبعد :

فبعد الأربعين يوما المزلزلة للقلوب الضعيفة، والتي يعيث فيها مسيح الضلالة فسادا ينزل عيسى بن مريم عليه السلام إلى الأرض، ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق الشام وعليه مهرودتان، أي توبين مصبوغين بورش ثم زعفران، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رقعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، ويكون نزوله على الطائفة المنصورة إقامة الصلاة، ويصلي خلف أمير تلك الطائفة، فيطلب عيسى عليه السلام الدجال بباب لُد، ثم يأتي عيسى قوم عصمهم الله من الدجال فيمسح وجوههم وعدتهم بدرجاتهم في الجنة ولسائل أي يسأل، كيف النجاة من هذه الفتنة العظيمة، التي حذر منها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أقوامهم، أما النجاة من هذه الفتنة فهي بأمور منها :

أولا : الاعتصام بالقران الكريم، وسنة النبي و معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد حينئذ يعلم أن الدجال بشر يأكل ويشرب، وأنه أعور والله سبحانه منزه عن ذلك .

ثانيا : التعوذ من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة لما جاء في الحديث أن رسول الله كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم .

ثالثا : الفرار من الدجال والبعد عنه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات)).

رابعا: حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، لقوله عليه الصلاة والسلا:م ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال )).

ولكن أيها الاخوة الكرام : كيف السبيل إلى النجاة من فتنة الدجال وفينا من يترك الصلاة، ويتهاون فيها ويؤخرها، وفينا من يولي وجهه إلى السحرة والعرافين، ومنا من فتن بأمواله وأولاده عن ذكر الله تعال كيف النجاة لهؤلاء وغيرهم حينما يروا جنة ونارا وكنوزا وأتباعا كثرا مع الدجال، ويرون سماء تمطر وأرضا تنبت ووعد لهم بالجنة ونجاة من النار، إنه يجب علينا مراجعة أنفسنا، وأن نعود جميعا إلى الله، ونصطلح معه، فمن كان مع الله في الرخاء كان الله معه في الشدائد والخطوب.

(1/319)

المرأة بين جاهليتين

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

منصور الغامدي

الطائف

14/1/1420

أبو بكر الصديق

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

- أهمية موضوع المرأة وخطورته – المؤامرة على المرأة المسلمة – وضع المرأة قبل الإسلام ( الهند – الصين – اليهود – النصارى ) – المرأة في ظل الجاهلية الحديثة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها الاخوة الكرام: أجد من الأهمية أن أتحدث عن موضوع يهم كل إنسان فينا، وكل شخص فينا تربطه علاقات حميمة مع موضوعنا، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينفصل عنه كما أنه موضوع تساهل في النظرة إليه بجدية ثلة غير قليلة من الناس، واستغله فئة ماكرة فغدت تعيث فسادا .

إن موضوعنا يا عباد الله هو المرأة، نعم المرأة التي هي الأم والأخت ،البنت، والزوجة، فنحن محاطون بهذا المربع الصالح النافع، مما يجعلها مدار اهتمام المسلم .

أيها الاخوة الفضلاء : إن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة، والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل إنها نموذج الصبر والتضحية، إنها قبس في البيوت مضيء، وجوهرة تتلألأ .

ولكن لم يكن لأصحاب تيار الرذيلة والانحراف يد من نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها فأصبحت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها توجه المرأة وغدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المسلمة وتعريفها بمسؤولياتها وواجباتهم وتتباكى على حال المرأة المسلمة ، بل زوجة الرئيس الأمريكي أصبحت تقوم بدور التوجيه للمرأة المسلمة من أجل ذلك كان لا بد من الحديث عن المرأة التي شرفها الإسلام وأكرمها .

أيها الاخوة المسلمون : وبضدها تتميز الأشياء، لنقف على نافذة التاريخ، لننظر كيف كانت المرأة تعيش، وأي منزلة ترتقي، وما هو دورها في الحياة، قبل أن تشرق عليها شمس رسالة محمد التي نزل بها الروح الأمين من عند رب العالمين .

فنجد الهنود في شرائعهم أنه : ليس الصبر المقدر، والريح والموت، والجحيم، والسم والأفاعي، والنار أسوأ من المرأة، ولم يكن للمرأة عندهم حق الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، فإذا مات هؤلاء جميعا وجب أن تنتمي إلى رجل من أقارب زوجها وهي قاصرة، طيلة حياتها، ولم يكن لها حق بعد وفاة زوجها، بل يجب أن تموت يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية على موقد واحد .

أما في الصين : فللرجل حق بيع زوجته كالجارية، وإذا ترملت المرأة الصينية أصبح لأهل الزوج الحق فيها كثروة، وللصيني الحق في أن يدفن زوجته حية .

والمرأة عند الغرب مباح الزواج منها سواء أكانت أما أو أختا أو عمة أو خالة، إن بنتا للأخ، أو بنتا للأخت .

أما اليهود فكانوا يعتبرون المرأة لعنة، لأنها أغوت آدم، وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس.

أما حال المرأة عند الأمم النصرانية: فقد قرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكبر عند الله من المتزوج وكان الفرنسيون في عام 586م، يعقدون مؤتمرا يبحثون فيها هل تعد المرأة إنسانا أم غير إنسانا، وهل لها روح أم ليس لها روح، وإذا كانت لها روح هي روح حيوانية أم روح إنسانية وإذا كانت روحا إنسانية، فهل على مستوى روح الرجل أم أدنى منها، ويعد المداولات والمشاورات قرروا أنها إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فحسب .

وتذكر بعض المصادر أنه قد شكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصا لتعذيب النساء ،و ذلك سنة خمسمائة، وألف من الميلاد، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار.

وكان القانون الإنجليزي حتى عام 1805م يبيح للرجل أن يبيع زوجته وقد حدد ثمن الزوجة لستة بنسات .

هكذا كانت المرأة تعيش الذل والاضطهاد والاحتقار والبخس والتعذيب عند الأمم قبل الإسلام.

وتعالى معي لنرى كيف كان حالها في ظل الجاهلية العربية، ما هو موقعها، وأي قدر لها في النفوس .

لم تكن المرأة تأخذ شيئا من الإرث، كانوا يقولون لا يرثنا إلا من يحمل السيف، ويحمي البيضة، وكانوا إذا مات الرجل وله زوجته وأولاد من غيرها كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه من غيره، فهو يعتبرها إرثا كبقية أموال أبيه .

ومن العادات القبيحة التي ذمها القرآن عادة وأد البنات قال تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ، فكانت بعض القبائل تئد البنات والأولاد خشية الفقر، وبضعهم يئدها خشية العار، أو ما عسى أن يصيبها من ذل أو سباء.

روي أن رجلا من أصحاب رسول الله كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله فقال له رسول الله : ((مالك تكون محزونا، فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفر الله وإن أسلمت، فقال له: أخبرني عن ذنبك، فقال : إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت بنت، فتشفعت لي امرأتي أن أتركها، فتركتها حتى كبرت، وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها، أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة، إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب، والحلي، فأخذت علي المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت إلى رأس البئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبت ماذا تريد أن تفعل بي فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها وأرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر، يا أبت قتلتني، فمكثت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله وأصحابه: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت . هذا هو حال المرأة في الجاهلية العربية، قبل الإسلام، منزوعة الرحمة من القلوب وعدت المرأة من سقط المتاع، قد ضلوا وما كانوا مهتدين .

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم . .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، صلوات ربي وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه أجمعين .

وبعد:

أيها الاخوة الكرام: لا يزال الحديث موصولا عن واقع المرأة في ظل ثقافات وأفكار بعيدة عن الإسلام، واسمحوا لي أن أقفز عبر سنين التاريخ القديم والأوسط لأنقل لكم بعض مشاهد الحياة التي تعيشها المرأة، لقد جاءت الحضارة الغربية ورفعت شعارات براقة شعار تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل، وعدم كبتها أو التحكم فيها، في ظل هذه الشعارات المزعومة خرجت المرأة من بيتها نعم، وتحررت من كل شيء لا يوافق هواها، فعاشت شقاء ولا يدانيه شقاء، واصطلت بنار هذه الحرية الشوهاء، المزعومة، لقد كتبت تقارير وإحصاءات، مذهلة عما تعانيه المرأة في الغرب فكان ما يلي:

لقد شاعت الفاحشة شيوعا لم يسبق له مثيل، فقد كان أول طوفان تحرير المرأة، لقد اكتسح الغرب التحرير، فلم يتعد مزاولة الفاحشة أجارنا الله وإياكم، مقصورة على دور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات و على قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب مع بناته، والأخ مع أخته، بل لقد أصبح ذلك في الغرب شائعا ومألوفا .

وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي أمريكا نسبة واحدة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها، فالمرأة تخون زوجها والرجل يخون زوجته مما أدى إلى الطلاق وتفكك الأسر وتبعثرها .

لقد غدت صورة الرجل في نظر المرأة أنه وحش مفترس يستأسد على من هو أضعف منه، إنه طفل، ويمكن أن يعتبر بطاقة للحصول على الرزق، كثير من النساء يبدين خوفهن، وقلقهن من الجانب العنيف في الرجال، وينظر الرجل إلى المرأة على أنها قطة متوحشة، يقول سلفستر ستالون :عندي كل الأسباب الوجيهة التي تجعلني أكره النساء .

أما الاغتصاب فإن معدله في الولايات المتحدة وحدها يزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفا .

أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة، والحرية، وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب، فإن أربعا وثلاثين بالمئة من النساء يفكرن في الانتحار، أما الأمراض التي ظهرت بسبب الفاحشة والشذوذ فقد انتشر الزهري، والسيلان وهما مرضان خيطران في قمة الأمراض الخطيرة في الغرب، وجاء دور الإيدز يقول جيمس باترسون مؤلف كتاب (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة): مئات الآلاف من الأمريكيين يكونون علاقات جنسية في كل ليلة من ليالي الأسبوع مع أشخاص يعتقدون أنهم مصابون بهذا المرض، ثم يقول : إن استقراء سريعا، لإحصائيات هذه الدراسة يشير إلى أن هناك ما نسبته، 2.2 مليون أمريكي على يقين بأنهم مصابون بمرض الإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون أنهم في خطر كبير من الإصابة بهذا المرض، ومعظم هؤلاء المصابين بالإيدز أو الذين هم في خطر كبير بالإصابة به هم أشخاص أسوياء وغير شاذين، فكم تكون النسبة بين الشاذين ؟

أخي الكريم: تأمل معي فظاعة الأرقام التي سوف أنقلها إلى سمعك عن العنف بوسائل متعددة ضد المرأة في أكثر البلاد حضارة في أمريكا، ثلثا حوادث الاعتداء بالضرب ضد النساء تصدر من أقاربهن والباقي من غير الأقارب .

28 ثمانية وعشرين من حالات الاعتداء الجسمي على النساء تصدر من الزوج والصديق، و35 من أقارب كالأخ ولأب.

بلغ عدد حالات الاعتداء على النساء عام 94م أكثر من 572 ألف حالة وعلى الرجال 49ألف حالة، وفي عام 1965م كان ملجأ واحدا في أمريكا للنساء المعتدي عليهن، أما في عام 1995م فقد ارتفع عدد الملاجئ إلى 1500ملجأ .

هكذا أيها الاخوة الكرام تعيش المرأة في ظل الجاهليات وإنه لشيء حتمي بسبب البعد عن الله، وهكذا تعيش المرأة المتحضرة المتحررة التي يسعى المنافقون والعلمانيون وأصحاب الشهوات أن نساؤنا وبناتنا حياة ضنكا كما عاشت، وأن تصطلي بنار البعد عن الإسلام، وأن تغدو معذبة محطمة تفكر في الانتحار كل يوم وتعاني صنوف القسوة كل ذلك باسم الحرية، والمساواة والتقدم والانفتاح والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً .

إنها الحرية العرجاء والتي ينادون بها، ويدعون إليها، يريدون إخراج المرأة من عفافها، من شرفها، من دينها، من مملكتها الأسرية، وجنتها الزوجية، مدعيين أنها في سجن وأن جلبابها هو خيمة سوداء ترتديها وأنها جاهلة ومتخلفة، ولن تعرف العلم حتى تلحق بركاب المرأة الغربية وتحذو حذوها: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً ، والحديث متصل بمشيئة الله عن تكريم الإسلام للمرأة في الخطبة القادمة .

(1/320)

أثر الإيمان في العبد

-----------------------

الإيمان, التوحيد

أهمية التوحيد, فضائل الإيمان

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- التوحيد دعوة جميع الأنبياء. 2- أثر الإيمان في حياة الصحابة في العفة والشجاعة والصدق

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد:

أيها الاخوة: إن الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له هو الهدف الأسمى للدعوة الإسلامية، التي حملها الموكب الكريم من الرسل عليهم الصلاة والسلام منذ آدم إلى أن ختموا بمحمد ، فكان الإسلام هو الكلمة التي رضيها الله لعباده وأمرهم بها قال الله تعالى عن نوح: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقوم يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين .[يونس:71-72] وقال عن إبراهيم عليه السلام: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .[البقرة:132] وقال تعالى عن الحواريين وعن عيسى عليه السلام: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إليه الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنّا مسلمون .[آل عمران:52]

وإذا تصفحنا آي الذكر الحكيم نجد الدعوة إلى التوحيد والإيمان والتنزيه لا تخلو منها سورة بل لا تكاد تخلو منها صفحة من الكتاب الكريم تصريحاً أو تلميحاً.

وكان هذا الإيمان حارسا لأمانة الإنسان وعفافه وكرامته بملك نفسه أمام المطامع والشهوات الجارفة، وفي الخلوة والحدة، حيث لا يراها أحد وفي سلطانه ونفوذه حيث لا يخاف أحدا.

وقد وقع في تاريخ الفتح الإسلامي من قضايا العفاف عند الغنم والثبات أمام مطامع المال، وأداء الأمانات إلى أهلها والإخلاص لله، وقع ما يعجز التاريخ البشري عن نظائره، وما ذاك إلا نتيجة رسوخ الإيمان ومراقبة الله واستحضار علمه في كل مكان وزمان.

فقد جاء في تاريخ الطبري أن المسلمين لما هبطوا المدائن وجمعوا الغنائم، أقبل رجل بحق معه، فدفعه إلى خازن الأموال، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، قالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا، أن للرجل شأنا، فقالوا من أنت؟ قال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا أخبر غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فاتبعه رجل حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.

وكأن هذا الإيمان بالله رفع رأسهم، وأقام صفحة عنقهم، فلن تحنى لغير الله أبدا، لا لملك جبار، ولا لحبر من الأحبار، وملأ قلوبهم وعيونهم بكبرياء الله تعالى وعظمته، فهانت وجوه الخلق، وزخارف الدنيا ومظاهر العظمة والفخفخة .

أرسل سعد قبل معركة القادسية ربعيّ بن عامر رسولا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه ربعي، وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر رستم اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأقنية الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب خشنة وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

ولقد بعث الإيمان بالآخرة في قلوب المسلمين شجاعة خارقة للعادة، وحنينا غربيا إلى الجنة واستهانة نادرة بالحياة، تمثلوا الآخرة وتجلت لهم الجنة بنعميها، كأنهم يرونها رأي العين، فطاروا إليها طيران حمام الزاجل لا يلوي على شيء.

تقدم أنس بن النضر يوم أحد، وانكشف المسلمون، فاستقبله سعد بن معاذ فقال أنس: يا سعد: الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فوجدنا به بضعا وثمانية ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فشوهوا جسده، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال يوم بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض ؟ قال نعم، قال : بخ بخ، فقال عليه السلام: ما يحملك على قول بخ بخ ؟ قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهم ثم قال : لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بها، ثم قاتل حتى قتل.

وجاء رجل من الأعراب إلى النبي فآمن به واتبعه، فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه، لما كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله شيئا فقسمه وقسم الأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى وكان عندئذ يرعى دوابهم فلما جاء دفعوا إليه نصيبه، فأخذه وجاء به إلى النبي فسأله عن هذا المال ؟ فقال : قسم قسمته لك، قال : ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا – حلقة – بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال عليه السلام: إن تصدق الله يصدقك – ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به إلى النبي وهو مقتول، فقال: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله، فصدقه)).

هذه أيها الاخوة المؤمنون: لمحات من الآثار الرائعة التي يتركها الإيمان في نفوس المؤمنين بعد أن يصوغ منهم رجالا أتقياء يعملون ويجاهدون وينكر الواحد منهم ذاته ليذكر اخوانه، وينسى نفسه ليذكر ربه ويرجوا ثوابه ،وصدق الله العظيم: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً .

-------------------------

الخطبة الثانية

إن الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أفضل وأزكى وأطيب ما صلى على أحد من خلقه .

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله . . . . .

وإن من هدي الرسول أنه لا يشرع في تطوع إذا أقيمت الصلاة – فعن أبي هريرة أن النبي قال : ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، وقد دخل رجل المسجد ورسول الله في صلاة الصبح فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله ، فلما سلم الرسول قال: يا فلان بأي الصلاتين اعتددت: بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟

ولما رأى النبي رجلا يصلي ركعتي الفجر حين أخذ المؤذن بالإقامة غمز النبي منكبه وقال: ألا كان هذا قبل هذا)).

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد . . . وأرض اللهم عن الأربعة الراشدين وعن الصحابة أجمعين.

الله انصر الإسلام والمسلمين، اللهم اعز دنيك وأعل رايتك، وانصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين .

اللهم إنا نسألك من الخير كله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علنا منه وما لم نعلم .

الله إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا وتجمع بها أمرنا وتزكي بها عملنا وتلهمنا بها رشدنا .

اللهم يا ذا الحبل الشديد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود، الله اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائك وحربا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك، اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان . . .

(1/321)

توحيد العبادة

-----------------------

التوحيد

الألوهية

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تناسق الكون دليل وحدانية الله. 2- توحيد الربوبية يستلزم بتوحيد الألوهية. 3- توحيد الألوهية دعوة الرسل والأنبياء. 4- أنواع العبادة مطلوبة في الموحد. 5- الحاكمية.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد : أيها الناس :

فاتقوا الله الذي عظمت قدرته وتجلت حكمته في هذا الخلق ، فقد اتجهت إرادة الله تعالى إلى هذا الوجود فأوجدته ، وأودعه سبحانه قوانينه التي يتحرك بها ، والتي تتناسق حركة أجزاءه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء ، ليكون هذا دليلا على وجود الله تعالى ووحدانيته وإفراده بالعبودية ، فكان ذلك بيانا للناس وبلاغا . . هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب .

وإذا كان الخلق كله لله سبحانه وتعالى ، فينبغي بداهة أن يكون الأمر كله لله إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر .

وبهذا يترتب توحيد الألوهية على توحيد الربوبية ، كما أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية ، كما سبق الحديث عن ذلك في خطبة سابقة .

لنتابع الكلام اليوم على توحيد الألوهية، ويقال له أيضا : توحيد العبودية . .وهو إفراد الله تعالى وحده بالعبادة ، بمعنى أن يعبد الله وحده لا يشرك معه بعبادته أحد من خلقه ، لأنه وحده المستحق لأن يعبد . وهذا التوحيد مبني على إخلاص العمل كله والتوجه به لله سبحانه وتعالى .

وهذا التوحيد : هو أول الدين وآخره ، وباطنه وظاهره ، وهو أول دعوة الرسل وآخرها ، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام جاؤوا إلى أممهم بهذه الدعوة وهذا التوحيد فقد قال الله تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ، وقال عن هود عليه السلام: وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .

وتكررت هذه الكلمة الطيبة على لسان أنبياء الله تعالى جميعا ، فقد ذكرها الله تعالى قاعدة عامة في دعوة جميع الرسل: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا (ثم أمر) فاعبدون ثم أمر الله تعالى نبينا محمدا بها فقال: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين .

وعندما بعث النبي معاذا قال له: ((إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله . . . .)) .

ولأهمية هذا النوع من التوحيد ، ولأنه هو لب دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ولأن نزاع المشركين إنما كان فيه لهذا كله جاءت العناية به في القرآن الكريم . فما من سورة إلا وقد جاء الحديث فيها عن هذا التوحيد نصا أو دلالة ، وسلك القرآن الكريم في بيان ذلك مسالك شتى ، فهو قد أمر به ، ثم ناقش شبهات المشركين ورد عليهم ، ومن خلال ذلك رسم الصورة الصحيحة الصادقة للتوحيد ، ثم ذكر الله تعالى في كتابه ما أعده لعباده المؤمنين من صور النعيم والثواب في الجنة لمن يحقق هذا التوحيد ، وبالمقابل رسم صورة قاتمة للعذاب الأليم الذي ينتظر من يخالف التوحيد .

وأما تحقيق هذا التوحيد فإنه يكون بالتوجه لله تعالى وحده وإفراده بكل أنواع العبادة ، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله .

ولكي يكون المسلم حريصا على هذا التوحيد ينبغي أن يعلم أن الله تعالى قد جعل العبادة أنواعا كلها ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى وحده :

فهناك عبادات اعتقادية ، وأساسها أن تعتقد أن الله تعالى هو الرب الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، له الخلق والأمر ، وبيده الضر والنفع ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، وأنه لا معبود بحق غيره ، وقد سبقت الدلائل على ذلك في الخطبة الماضية .

عبادات قلبية وهو التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله تعالى وحده ، فمنها المحبة التي لا تصلح إلا لله وحده ، فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله فهو مشرك، والله تعالى يقول: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله . ومنها التوكل ، فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . ومنها الخوف من إصابة مكروه أو ضر من أحد فإن الخوف والرهبة لا تكون إلا من الله تعالى فقد قال فإياي فارهبون وإن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو ، ومنها الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، كمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيا حصول مطلبه من جهتهم إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله .

عبادات لفظية وهي النطق بكلمة التوحيد فمن اعتقدها و لم ينطق بها لم يحقق توحيده ولم يحقن دمه ولا ماله ، وقد قال ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا أشهد .. )) .

ومنها عبادات بدنية : كالصلاة والركوع والسجود ، فهذا كله لا يكون إلا الله تعالى: فصل ربك وانحر يا أيها الذين أمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ، ومنها الصوم والحج والطواف ، حيث لا طواف إلا بالبيت العتيق وليطَّوفوا بالبيت العتيق .

عبادات مالية كإخراج جزء من المال زكاة أو صدقة امتثالا لأمر الله تعالى ، لو نستقصي الأمثلة لكل ما يدخل تحت هذه الأنواع الخمسة ، وإلا فهناك أيضا الدعاء فلا يقدر عليه إلا الله سواء( كات طلبا للشفاعة) أو غيرها ، وهناك النذر والذبح فلا يكونان إلا لله ، والاستعاذة لا تكون إلا بالله . . . وغيرها كثير.

فيا أخي المسلم : هذا هو سبيل النجاة وطريق الفوز فتمسك به واحذر الشيطان ووسوسته وحذار أن تستهين بأمر مما سبق ، فإن الإنسان قد يزل فيقع في الشرك وهو لا يدري .

اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وعقيدتها ، وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بها يا رب العالمين .

إن العبادات هي التلقي من الله في كل شأن من شؤون الحياة ، وكما نتلقى من الله شعائر التعبد، فنعبده سبحانه وتعالى بما تعبدنا به من صلاة وصيام وزكاة وحج ، كذلك نتلقى منه أمور حلالنا وحرامنا أي الشريعة التي تحكم أمور حياتنا في الصغيرة والكبيرة سواء ، لأن الله (تعالى تعبدنا) بتنفيذ شريعة كما تعبدنا بالصلاة والزكاة ، واعتبر التوجه في هذه أو تلك لغير الله شركا ، وقال عن الذين يفعلون ذلك ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله . ووصف سبحانه عن المشركين بأنهم آذوا الله لأنهم سجدوا لغيره وعبدوا آلهة من دونه وحرموا وحللوا لأنفسهم من دون الله .

وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/322)

وسائل المشركين في حرب الإسلام

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

السيرة النبوية, قضايا دعوية

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- ثبات الصحابة على الحق. 2- وسائل قريش في زحزحة المؤمنين عن الحق (الدعاية والإعلان – التعذيب – المقاطعة الاقتصادية – المقاطعة الاجتماعية – أنصاف الحلول). 3- بعض مساومات قريش لرسول الله ورفضه مداهنتهم.

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد :

أيها الاخوة المؤمنون: لا زلنا نعيش في ظلال السيرة النبوية والدعوة المحمدية التي صدع بها محمد ومما أن غرس محمد غرسة العقيدة في النفوس الطيبة حتى قامت الجاهلية كلها في وجه هذه الدعوة تريد أن تطفئ نورها وتوئدها في مهدها ، ولكن أنى لها ذلك وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها ونصرها ، أرأيت إلى ذاك الذي يتوجه نعمة الشمس ويريد إن يطفئ نورها بنفخة عليها من فمه ؟ هذا هو حال قريش مع الرسول رجال الطحالب الصغيرة التي تعوم على وجه الماء فتحاول أن توقف السفينة التي تمخر عباب البحر .

ومن ثم فعلى محمد أن يمضي في سبيل البلاغ ، وأن يجتاز ما يلقى أمامه من صعاب وعقبات ، وعلى المؤمنين برسالته أن ثبتوا ، فإنهم كالبنيان الشامخ الذرى ، لا يرتكز على سطح الأرض ، وإنما يرتكز على دعائم غائرة في الثرى ، وهي التي تحمل ثقله وترفع عمده.

وذاك كله جعل قريش يجن جنونها وتتخبط في سخائها وحقدها ، فتصب العذاب على المؤمنين صبا، وترمي هذه الدعوة بكل قوس في جعبتها ، فتلقي الشبهات حول الدعوة وحول صاحبها عليه الصلاة والسلام وتحاول أن تساوم صاحبها ، ولا تألو جهدا في صد الناس عند الدعوة ، ولم تترك سلاحا حتى استعملته كحرب الدعاية والإعلام . والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية، والتعذيب البدني والتآمر على المؤمنين والمداهنة وأنصاف الحلول .

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا ، ومن ذلك قوله تعالى: ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك مجنون . . . فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين .

فهم ليسوا أصحاب عقيدة يثبتون عليها ، إنهم على استعداد أن يدهنوا ويلينوا ويحافظوا على ظاهر الأمر كي يدهن لهم الرسول ويلين ، فيلتقي معهم في منتصف الطريق ، وما يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق والا في أخره ولا في أوله ولا أن يلتقيا في أي طريق ، وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان ، إن الهوة السحيقة بين الإسلام والجاهلية لا يمكن أن تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة .

ولقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي ليدهن لهم وتلين ، ويترك عيب آلهتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه هم في دينه حافظون ماء وجوههم أمام العرب ، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ، ولكن الرسول لم يساوم في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة ، وهو محاصر بدعوته ، وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون ، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه المشركين المتحيرين ، ولم يسكت عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو بعيد .

فقد روى ابن هشام في السيرة أن النبي لما بدأ قومه بالإسلام لم يبعدوا منه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعطموه وأجمعوا خلافه وعداوته ، وقام عمه أبو طالب بحمايته ومنعه منهم .

ومضى رسول الله لأمره لا يرده عنه شيء ، فلما رأت قريش ذلك ، مشى رجال من أشرافها إلى أبي طالب قائلين له : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه . .

ومضى رسول الله ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه واشتد الأمر بنيه وبينهم فمشوا ثانية لأبا طالب مهددين له أن يكف ابن أخيه عنهم أو ينازلوه حتى يهلك أحد الفريقين فعظم الأمر على أبي طالب وقال لمحمد : يا ابن أخي إن قومك قد جاوءني وقالوا لي كذا وكذا ، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ، فقال قولته المشهورة : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني . . . . .

وصورة ثالثة في مساومة المشركين لرسول الله عندما جاء عتبة بن ربيعة وقال : يا ابن أخي ، جلس أعرض عليك أمور لعلك تقبل منها بعضهما قال بعد ذلك الرسول صلى لله عليه وسلم : (( استمع . .)) بسم الله الرحمن الرحيم : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرأنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا في قلوبنا أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون. . ثم مضى يقرؤها عليه فلما سمعها عتبة أنصت ووضع يديه خلف ظهره معتمدا عليا ليسمع ثم انتهى رسول الله : فإن اعرضوا فقد أتذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود . فقام عتبة مذعورا ووضع يده على فم النبي يقول : أنشدك الله والرحم يا محمد . . وذلك مخافة أن يقع النذير وقام إلى قومه والوليد بن المغيرة يوما راح رسول الله فقالوا :لقد جاء أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . . وقال : إني سمعت قولا ، والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر وال بالكهانة ، يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأي فيه فاصنعوا ما بدا لكم ، ثم قال بعد نقاش مع قومه : إن محمدا ساحرا وإن هذا القرآن سحر وفيه أنزل الله تعالى قوله ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا أنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه صقر وما أدراك ما صقر لا تبقي ولا تذر .

وصورة أخرى من المداهنة عندما جاء عدد من أشراف مكة للنبي وهو يطوف بالكعبة ، قائلين له : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، ويأخذ كل منا بحظ من الخير ، فأنزل الله تعالى قل يا أيها الكافرون لا اعبدوا ما تعبدون . . . . .

فحسم الله سبحانه بذلك المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة ، وقال لهم الرسول ما أمره ربه أن يقول . .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/323)

دروس من سورة يوسف عليه السلام

-----------------------

التوحيد

الشرك ووسائله

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

خطر الشرك – غضب الرسول من أي مظاهر الشرك ( أمثلة ) – لا تأمن الشرك الشرك قد يخالط الإيمان – مراتب الدين ثلاثة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فما زلنا في بيان قوله تعالى حكاية عن نبيه يوسف عليه السلام: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء .

فهذا الأسلوب العربي المبين أفاد العموم فدخل في النفي سائر أنواع الشرك والمعنى: ما يحق لنا أن نشرك بالله أي نوع من أنواع الشرك ولأهمية هذا الذنب العظيم وخطورة شأنه ألا وهو الشرك بالله كان لا بد لنا أن نبينه بالتفصيل ولو طال بنا الحديث واستغرق جمعا متعددة فقد لبث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشرة سنة وجل اهتمامه وشغله تثبيت عقيدة التوحيد في نفوس أصحابه ونهي الناس عن الشرك حتى بعد هجرته إلى هذه المدينة الطيبة فقد كان حريصا صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى هذه المدينة الطيبة وبعد نزول الأحكام كان حريصا أيضا صلى الله عليه وسلم على التحذير من الشرك كان حريصا صلى الله عليه وسلم على نقاء عقيدة التوحيد في نفوس أصحابه ولذلك كان من أشد ما يغضبه صلى الله عليه وسلم أن يرى أي انتهاك لعقيدة التوحيد بالوقوع في مظهر من مظاهر الشرك: ((رأى رجلا وفي يده حلقة من صفر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ما هذه؟ قال الرجل: من الواهنة فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا فانبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا))(1)[1].

انظر أيها المسلم كيف غضب النبي صلى الله عليه وسلم من صنيع هذا الرجل وحكم عليه بعدم الفلاح فيما لو مات ولقي ربه وهو على هذه الحال وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا لشدة حرصه وعظيم عنايته على تنقية القلوب من سائر علائق الشرك وعلى تصفية العقائد من مظاهره من جميع مظاهره وهذا الحرص النبوي منطلق من تحذير الله تبارك وتعالى لعباده من تحذيره سبحانه وتعالى لعباده من الوقوع في الشرك فقد حكم سبحانه وتعالى على من وقع في هذا الذنب العظيم ولقيه على ذلك حكم عليه بسد باب المغفرة والرحمة أمامه وتحريم الجنة عليه قال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72]. وقال سبحانه وتعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:116]. وقال سبحانه لنبيه ومصطفاه والمعني والمقصود أمته: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن في الآخرة من الخاسرين [الزمر:65]. وقد وصف الله تعالى الشرك بأنه ظلم عظيم فقال جل من قائل حكاية عن عبده ووليه لقمان: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:13]. ووصف نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم الشرك بأنه (أكبر الكبائر)(2)[2] ولذا فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يأمن على نفسه حتى يسلم من سائر أنواع الشرك فيكون إيمانه حينئذ له أمنا ووقاية من عذاب الله قال سبحانه: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الأنعام:82] – أي لم يخلطوا إيمانهم بظلم – أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82]. وقد فسر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظلم هنا في هذه الآية بأنه الشرك ولذلك فالمؤمن إذن لا ينبغي أن يأمن على نفسه ويغتر بإيمانه حتى يسلم من سائر أنواع الشرك حينئذ له الأمن وله الهداية اللذان يقيانه من عذاب الله يوم القيامة.

وقد يقول قائل ولم تكلم قوما مؤمنين موحدين من أهل لا إله إلا الله لما تخاطبه في حديث الشرك لما تحدثهم في موضوع الشرك أيمكن أن يقع المؤمن في الشرك؟ أيمكن أن يجتمع الإيمان والشرك؟ فنقول: نعم إن الشرك قد يخالط الإيمان فيكدره ويضعفه ولا يبطله وفي بعض الأحيان يبطله وينقضه ولهذا قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف:106]. قال عروة رحمه الله دخل حذيفة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه (خيطا فقطعه) أو انتزعه ثم قال حذيفة: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، ولهذا قد يطلب من المؤمن أن يبايع الله تعالى على عدم الشرك ومعنى ذلك على أن يثبت على التوحيد ويبتعد عن شوائب الشرك قال سبحانه وتعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا [الممتحنة:12]. فوصفهن بوصف الإيمان قبل المبايعة وما ذاك إلا لأن مبايعة المؤمن على ترك الشرك تزيد إيمانه نقاء وتوحيده صفاء ومثل هذه الآية في هذا المعنى ما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا))(3)[3]، ها هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب بعض أصحابه بهذا الخطاب يطلب منهم أن يبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا مع ما نعلم من أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أكمل هذه الأمة بعد نبيها إيمانا وأنقاهم توحيدا وأصفاهم عقيدة ومع ذلك طلب منهم النبي المصطفى أن يبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا وهم في حاله الإيمان ومعنى ذلك يبايعونه على أن يثبتوا على التوحيد ويحذروا من الوقوع في الشرك ولذلك علينا جميعا أن نعلم أن أمر هذا الدين يمكن تصويره بثلاث دوائر الدائرة الأولى وهي دائرة صغيرة في قلب هذه الدوائر وهي دائرة الإحسان ثم تليها من بعدها دائرة واسعة كبيرة هي دائرة الإيمان ثم تليها من بعدها دائرة أوسع منها وأكبر هي دائرة الملة دائرة الإسلام فأما الدائرة الأولى وهي دائرة الإحسان فهي أعلى مقام في هذا الدين ولهذا لا يبلغها أي مؤمن حتى يحقق مرتبة المشاهدة والمراقبة الدائمة فأما إذا غفل عن ربه وأخل بهذه المرتبة مرتبة المراقبة الدائمة التي هي بمثابة المعاينة انتقل من دائرة الإحسان إلى المرتبة التي تليها وهي دائرة الإيمان وهذه المرتبة الثانية دائرة الإيمان أهلها من خواص المسلمين الذين استكملوا خصال البر وسلموا من الوقوع في الشرك كله بسائر أنواعه أصغره وأكبره وسلموا من كبائر الذنوب وسلموا من البدع ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))(4)[4]، فهذا هو المقصود أنه إذا وقع في كبيرة من كبائر الذنوب يخرج من هذه الدائرة دائرة الإيمان دائرة خواص المسلمين الذين استكملوا خصال البر وينتقل منها إلى الدائرة التي تليها ألا وهي دائرة الإسلام لأنه لا يزال من أهل الملة من أهل القبلة من أهل لا إله إلا الله لا يزال أصل الإيمان في قلبه صحيحا سليما وهو الإيمان بالأركان الستة لا يزال قائما بشهادة الإسلام وعباداته الطاهرة هذه الدائرة الثالثة هي دائرة الإسلام ودائرة الملة هي واسعة كبيرة تتسع حتى للعصاة من هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لأهل الكبائر تتسع حتى للمبتدعة ممن لم يقع في بدعة مكفرة تتسع حتى لمن وقع في الشرك الأصغر لا يخرج من هذه الدائرة دائرة الملة دائرة الإسلام التي هي آخر حدود الإسلام إلا من تورط في شيء من الشرك الأكبر أو وقع في شيء من البدع المكفرة المخرجة من الملة أو استحل شيئا من كبائر الذنوب أو وقع في غير ذلك من المكفرات الكبرى التي تخرج الإنسان من دائرة الملة هذا ما يأتي بيانه وتفصيله في الجمع الآتية إن شاء الله تعالى.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله واعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأطيعوه ولا تعصوه فإن من أطاعه سبحانه وتعالى نجا وسلم ومن عصاه فقد هوى وهلك واعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا))(5)[1] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) أحمد (4/445).

(2) البخاري (2654)، مسلم (87).

(3) البخاري: كتاب الإيمان (18)، ومسلم: كتاب الحدود (1709).

(4) البخاري: كتاب المظالم (2343).

(5) صحيح مسلم (408).

(1/324)

الأمانة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

مكارم الأخلاق

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الأمانة في الأخلاق التي تحفظ وحدة المجتمع. 2- الأمانة أعم في أداء المال إلى أصحابه. 3- شمول الأمانة جميع التكاليف والالترامات. 4- في الأمانات أمانة العقل بالجسم – الأماة في يد حكامها – الدين عند البشر – العلم عند العلماء. 5- نماذج للأمانة عند السلف.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

من الأخلاق الاجتماعية التي تدل على سمو المجتمع وتماسك بنيانه ، أن ينتشر بين أفراده: خلق الأمانة ، ومن بواعث الشكوى والقلق وازدياد الخصومات والجرائم أن تكثر الخيانة في الناس ، فلا يأمن صديق صديقه ، ولا زوج زوجه ، ولا أب ولده .

ولا أحد ينازع في أن الأمانة من ألزم الأخلاق للفرد والجماعة على السواء وليست هذه الأمانة قياما بحفظ المال الذي في نودعه عند الإنسان فحسب ، فإن هذا أضيق معاني الأمانة ، يقول الله: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً . وبديهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط ، فذلك ما لا يفيده نص الآية الكريمة ، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة العوالم كلها إلا الإنسان الذي أهّله الله لحمل هذه الأمانة والاتصاف بها فأصح تحديد لهذه الأمانة في الآية هو : التزام الواجبات الاجتماعية وأداؤها خير أداء كما شرعها الله سبحانه وتعالى للناس .

والإنسان وحده من بين هذه العوالم كلها هو الذي يستطيع أن يتحكم في ميوله وغرائزه فيخضعها لمقاييس الحق ويكون بين الناس وفيا بما التزم نحوهم من عهود ، عاملا على بث الطمأنينة في أوساطهم ، فإن نكل بعد ذلك الواجب كان خائنا للأمانة عاملا على الأذى ، ظالما لنفسه ولمجتمعه ، جاهلا بما تجره الخيانة عليه وعلى الناس من شر وفساد .

وعلى هذا . . أيها المؤمنون تكون الأمانة شاملة لقيام بجميع التكاليف والالتزامات الاجتماعية والأخلاقية :

فالعقل لدى الإنسان أمانة إن عمل بمقتضاه ونظم بالعلم والمعرفة وعمل فيه بطاعة الله كان مؤديا للأمانة خير أداء .

والجسم أمانة لديك فإن أنت غذيته وصححته ورفقت به ولم ترهقه كنت محسنا محافظا على الأمانة .

وزوجك وولدك ووالداك وكل من تشترك معهم في أواصر القربى ويلزمك حفظهم والنصح لهم هم أمانة عندك ، فإن رعيت حقوقهم وأسديت لهم الخير وأبعدت عنهم الأذى كنت قائما بالأمانة أحسن قيام: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً .

وحق المجتمع عليك في نشر الخير فيه وإشاعة الطمأنينة أمانة تلزم بالوفاء بها ، فإن لم تفعل كنت مسيئا إلى الناس خائنا للأمانة .

الأمة في أيدي المسؤولين والحاكمين أمانة ، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوها من نصح ورعاية وصيانة لكرامتها وحريتها أو أقاموها على شريعة الله : كانوا أمناء أوفياء ، ((الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته )) وإلا كانوا من أكثر الناس غشا وخيانة ((من بات غاشا لرعيته لم يجد رائحة الجنة)).

والدين أمانة في عنق علمائه ، إن بينوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس ما في الحياة من معنى كريم وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس .. .

والعلم أمانة في نفوس العلماء إن استعملوه في خير الإنسانية وكشفوا عن أسراره في هذا الكون بما يدل على قدرة الله كانوا أمناء أوفياء ، وإن استعملوه فيما يشيع الذعر ويشقي الأمم ويشجع الطغاة على العدوان والإجرام ونشر الفاحشة بين الناس ، كانوا خونة أشبه بالمجرمين يلحق بهم العار وتحقق عليهم اللعنة: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظأ مما ذكروا به .

والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف به والقيام عليه وأداء الحقوق الاجتماعية فيه كانوا أمناء أو فياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين وسفهاء مبذرين: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين . وهكذا.

أيها المؤمنون: نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها : من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعي وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم .

والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود ، سر سعادة الأمم ، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس .

سرقت امرأة عربية في عهد الرسول فجاء أهلها يتشفعون لدى الرسول ليسقط عنها العقوبة ووسطوا في ذلك أسامة ابن زيد فغضب عليه الصلاة السلام وقال: ((أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد ، أما والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )) فهذه هي أمانة الحاكم في تنفيذ القانون على الناس جميعا .

واستدان ابن عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري حين كان واليا على الكوفة أموالا من خزينة الدولة ليتاجر بها على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة ، واتجر ولد عمر فربح ، فبلغ ذلك عمر فقال له : إنك حين اشتريت أنقص لك البائعون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين ، ولما بعت زاد لك المشترون في الثمن لأنك ولد أمير المؤمنين ، فلا جرم أن كان للمسلمين نصيب فيما ربحت ، فقاسمه نصف الربح ، واسترد منه القرض وعنفه على ما فعل ، واشتد في العقاب على أبي موسى لأنه أسرف من أموال الدولة ما لا يصح أن يقع مثله ، وهذه أمانة الحاكم الذي يسهر على مال الأمة فلا يحابي فيه صديقا ولا قريبا .

ويذكر التاريخ أن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان من أكثر ملوك عصره توفيقا في الفتوح والنصر وكان نصيبه من الغنائم كبيرا جدا وقفه كله مدارس ومستشفيات ومساجد مما لا يزال بعض آثاره باقيا حتى اليوم ، ولم يترك لنفسه ولأولاده شيئا من ذلك حتى قالوا إنه حين مات ، مات وهو من أفقر الناس رحمه الله ، وهذه هي أمانة القائد الذي يأبى أن يتاجر بجهاده ، ويرضى بالله وجنته وثوابه بديلا .

ومر علي بن أبي طالب في المسجد فرأى واعظا يعظ الناس ، فقال له : أتعرف أحكام القرآن وناسخه ومنسوخه ، فقال : لا ، فقال علي ، هلكت وأهلكت ، ثم منعه من التحدث إلى العامة لئلا يفسد عليهم دينهم بجهله ، وهذه أمانة في صيانة العلم وحفظ عقائد الناس من أن يفسدها الجاهلون.

أيها الأخوة المؤمنون:

هذه بعض أحاديث الأمانة في مجتمع كانت فيه الأمانة خلقا بارزا يتعامل به الناس بعضهم مع بعض ، واليوم وقد ارتفعت الشكوى من انحسار هذا الخلق الكريم ، تخلى كثيرون عن أداء الأمانة التي كلفهم الله تعالى القيام بها ، فهل تجدون علاجا لذلك إلا أن يعود كل منا فيما جعله الله قيما عليه ومسؤولا عنه ، يعود إلى القيام بهذه الأمانة كاملة ، فيفيء كل منا إلى ربه ويرجع إلى ضميره ويذكر الجنة وما أعده الله للأولياء وفي أمانتهم من ثواب مقيم ، وما أعده الله للخائنين في وعهودهم من عذاب مقيم ، وإن ذلك ليسير على الله أحبا قلبه بتعاليم دينه السمحة واستمع إلى رسوله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).

فاللهم أحيي قلوبنا بنور معرفتك وأيقظ ضمائرنا بتعاليم شريعتك .

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم . . .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/325)

الحقوق الزوجية

-------------------------

الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة

-------------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- توزيع الإسلام للحقوق بين أفراد الأسرة. 2- حقوق الأفراد مبنية على الحب والعدل. 3- حقوق الزوج على زوجته. منها: أ- الطاعة. ب- مراعاة ظروف الزوج. ج- عدم الخروج إلا بإذنه. د- حفظه في ماله وعرضه.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

فإن من قدر له أن يحيط بوضع الأسرة في مجتمعنا ، وما تعانيه بعض الأسر من مشكلات نفسية واجتماعية وخلقية ، (ويقف) على ما يقدم إلى المحاكم من دعاوى الخصومة الزوجية أيقن أننا في أشد الحاجة إلى الاهتمام بوضع العائلة والأسرة والعلاقات بين أفرادها ، فإن اضطراب الحياة الزوجية عامل كبير من عوامل اضطراب الأوضاع في الأمة ، وهذه المشكلات إنما تنشأ عن التساهل في أحكام الشرع وعندما تخف رقابة الإنسان لربه تبارك وتعالى ، وعندها تحكم الفوضى والغموض : الحقوق والواجبات بين الزوجين .

فلو استقام الأمر بينهما على حب روحي كريم ، وعلى حق واضح صريح يعرفه كل منهما ويطبقه على نفسه ويطالب به نفسه قبل أن يطالب به الآخر ، لو حصل ذلك كله لارتفع المستوى الاجتماعي في البيت حيث تنعم الأسرة كلها بالأمن والسعادة والاستقرار .

ويوم أن كانت أمتنا المسلمة تقود ركب الإنسانية إلى الخير وتحمل مشعل الهداية إلى الشعوب، كانت في داخل بيوتها تنعم بما لا يعرف له التاريخ مثيلا من استقرار السعادة الزوجية وشمول الطمأنينة والحب والتعاون لجميع أفرادها ، ذلك لأن الإسلام وضع لكل من الزوجين والآباء والأبناء حدودا واضحة يتميز فيها حق كل فئة عن حق الفئة الأخرى ، وهي حقوق متكافئة منسجمة تؤدي إلى ملء القلوب بالحب ، وملء الحياة بالنعيم ، وملء المجتمع بالنسل الصالح الذي يبني ولا يهدم ، ويسمو ويرتفع ولا ينحدر .

وهذه الحقوق أقامها الإسلام على دعامتين من العدل والحب ، لا ينبع من الحياة إلا منهما ، ولا يستقيم شأن إلا بها ويتضح هذا من الغاية التي بينها الله تعالى من الزواج فقال: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .

وإذا كنتم قد قمتم بواجبكم أيها الأزواج ، إذ قمتم بواجبكم نحو زوجاتكم فيما أشرنا إليه في الخطب الماضية ، وينبغي أن تقوموا فعلا بها فهي أمر الله الشارع الحكيم فعندئذ يحق لكم اليوم أن تعرفوا حقوقكم أنتم، وأن تعرف كل زوجة واجبها اتجاه زوجها . .

فأول هذا الحقوق : طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف حسب ما يقرره الشارع الحكيم ، وهي طاعة تحتمها المصلحة المعنوية المشتركة بين كل شريكين متحابين متصافيين ، إنها ليست طاعة العبد لسيده ، ولا الذليل لمن يستعبده ، وإنما هي طاعة الأخ الصغير للأخ الكبير ، والزوجة غالبا ما تكون أصغر من الرجل سنا ، وهي القوامة التي يطلبها الإسلام من الزوجة لزوجها ، كما أشار الله تعالى إلي ذلك بقوله: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم .

وهذه الطاعة لها أثرها الكبير في استقامة الحياة وسعادة الأسرة ، بل هي سبب في دخول المرأة إلى جنة ربها تبارك وتعالى: (( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعة زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت)) .

وينبغي التنبيه على أن الطاعة في المعروف وفي غير معصية ، فلو أرادها على شرب حرام أو طعام حرام أو لباس لا يجوز أو اختلاط ، فلا تطعه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

ومن حق الزوج على زوجته أن ترعى شعوره فتبتعد عما يؤذيه من قول أو فعل أو قلق ، وأن تراعي ظروفه المالية ، ومكانته الاجتماعية ، وأن تقدر مسؤولياته في العمل خارج البيت فلا تضيق من ذلك ، ولا تكلفه من النفقات ما لا يطيقه ، وأن لا تستكثر من الطلب لئلا يلجئ إلى الكسب الحرام .

لقد كانت المرأة تقول لزوجها : إنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار وعندما اجتمعت أمهات المؤمنين لطلب النفقة ، اغتم لذلك واعتزلهن شهرا حتى نزل قوله تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالن أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً .

ومن حقوق الزوج أن توفر له زوجته : سكن النفس والطمأنينة في البيت بنظافة حبها ونظافة بيتها ، وأن تتزين له حين يقدم بما يقربها إليه ويزيد حبه لها رسوه وشوقه إليها ، وكانت المرأة توصي ابنتها بذلك عند الزواج كما أوصت امرأة ابنتها ، بنيه : إنك خرجت من العش الذي درجت فيه فصرت إلى فراش لم تعرفيه ، وقرين لم تألفيه ، فكوني له أرضا يكن لك سماء ، وكوني له مهادا يكن لك عمادا ، وكوني له أمة يكن لك عبدا ، ولا تلحفي عليه فيقلاك ، ولا تباعدي عنه فينساك ، إن دنا منك فاقربي إليه ، وإن نأى عنك فأبعدي عنه ، واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشمن منك إلا طيبا ، ولا يسمع إلا حسنا ولا ينظر إلا جميلا.

ومن حق الزوج على زوجته أن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وألا تبدي زينها في جانب كي يطمئن قلبه ، وتكن نفسه ، ومن وجه النبي إلا تخرج المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها ، فإن فعلت لعنتها الملائكة حتى تعود ، وأمر الله بغض النظر فقال: وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن .

ومن حقوق الزوج على زوجته أن تترك له وقتا يفرغ فيه لنفسه ولفكره ، فإن كان عابدا تركت له وقتا للعبادة وإن كان عالما تركت له وقتا لطب العلم ، وإن كان تاجرا وإن كان عاملا ، وهكذا ما لم يصل الأمر إلى حد (النفرة والجفاء) .

ومن حق الزوج أنها تحافظ على سمعته وكرامته وعرضه ، وأن تكون أمينة على ماله ، لا تأخذ منه إلا بالمعروف ، هذه بعض الحقوق التي للزوج على زوجته ، وهو نداء للزوجات ليسمعن له هنا أو ينقله الرجال إليهن: أيها الزوجات احرصن على سعادة أزواجكن واجعلن من بيوتكن جنات يأوي إليها الأزواج حتى يجدوا من قلوبكن وبشركن ونظافتكن وتعاونكن ، ومن قبل ومن بعد من فوقكن الله ومن تقواه التمسك بدينه ، (ما يجعل من هذا كله ما يحبب إلى أزواجكن لبيوتكن ونساءكن )، وحذار حذار من الغفلة والتفريط والتساهل في الحقوق التي شرعها الله تعالى .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/326)

أحكام تتعلق بالمرأة

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- دور المرأة في تدبير بيتها. 2- آداب خروج المرأة من بيتها. 3- التحذير من التبرج. 4- لباس المرأة.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الأخوة المؤمنون: لا يزال حدثينا موصولا بما سبق في الأسبوعين الفائتين عن الأسرة وتنظيمها وحقوق كل من الرجل والمرأة في هذه الأسرة ، ولقد جعلت المرأة في هذا التنظيم ربة البيت وسيدته ، وإذا كان على زوجها كسب الأموال لتدبير شؤون المنزل وقد رفع الإسلام عنها جميع الواجبات التي تتعلق بخارج البيت ، وذلك لأن الإسلام لا يحمد خروج المرأة من البيت وخير الهدي لها في الإسلام أن تلازم بيتها وتستقر فيه ، يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .

ومع ذلك فقد أباح الإسلام للمرأة الخروج لحاجة تقضيها لا مندوحة عنها ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن)). ومثل هذا الإذن منحه الرسول صلى لله عليه وسلم للنساء مراعاة للأحوال والضرورات وخمسة قيود وشروط :

أ-فقد حرم على المرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها لأنه القيم المسؤول ، فإذا خرجت دون إذن لعنتها ملائكة السماء حتى ترجع .

ب-وهذا الإذن لا يبيح ما حرم الله عز وجل عليها ولا يرفع عنها القيود والتكاليف التي وضعها الإسلام ، فلا يجوز لها أن تخرج إلا بلباس ساتر سابغ ليغطي جميع حجمها ولا يبدي منه شيئا ولا بضعه ، وألا تكون متعطرة متزينة ، ولا متشبهة بلباسها بالرجال ولا بالنساء الكافرات ، وأن تغض بصرها وتحفظ لسانها ومشيتها ، قال تعالى: قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ولا يضربن بخمورهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبناءهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذي لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن .

فهذه آيات الله تعالى وأحاديث النبي كثيرة في هذا المعنى لا يجوز للمرأة أن تخرج إلا بلباس ساتر لجميع جسدها لا يبدي جزءا منه ، ومنه نعرف حكم خروج المرأة بالثياب التي تبدي شيء من الصدر والثياب التي تصنع بنصف كم أو بلا أكمام ، حتى أنك لتجد أن من النادر أن ثوبا نسائيا يصنع بأكمام وكأن الله عز وجل قد حرم هذا على النساء .

وثاني الشروط في لباس المرأة ألا يكون زينة في نفسه ، فإنه إن كان كذلك كان هذا تبرجا حراما منهيا عنه لأنه يلفت أنظار الرجال إلى المرأة ، قال : (( ثلاثة لا يسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا ، وأمة أو عبد أبق فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده )).

ولذلك قال العلماء: من الأفعال التي تلعَْن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر الحريرية وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ، ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء وقال عنهن : (( اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء )).

ويشترط أن يكون لباس المرأة صفيقا ثخينا سميكا لا يشف ، لأن الستر لا يتحقق إلا بذلك وأما اللباس الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة ، وفي ذلك يقول : (( سيكون في أخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا . .)). ومن هذا تعلمون حكم الخروج بالثياب الرقيقة التي تباع في زماننا هذا ، تلك التي تبدي من الجسم أكثر مما تستره وتخفيه .

وبما يتصل بهذا أن يكون اللباس فضفاضا واسعا غير ضيق لئلا يصف جسم المرأة لأن الثوب للستر ولمنع الفتنة، وإذا كان ضيقا كان أدعى للفتنة .

ولا يجوز للمرأة أن تخرج متعطرة متبخرة في بدنها أو ثوبها لقوله عليه الصلاة والسلام : (( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية )) ، وعن زينب الثقفية (( إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا )) ، (( وأيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد فعل العشاء الآخرة )) . وقد مرت امرأة يوما بأبي هريرة وريحها تقصف ، فقال : يا أمة الجبار ، المسجد تريدين ؟ قالت نعم قال : وله تطيبت ؟ قالت نعم ، قال : فارجعي فاغسلي الطيب عنك ، فإني سمعت رسول الله يقول: (( ما من امرأة تخرج إلى المسجد تقصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل )).

فيا معشر المسلمين : إذا كان حراما على مريدة المسجد أن تتطيب وتتعطر وهي تريد أداء عبادة في المسجد فماذا يكون الحكم على من تريد الأسواق والشوارع وتمر بالرجال فيها ؟ أليست تكون بذلك ارتكبت إثما عظيما ومنكرا كبيرا وشرا كثيرا .

ويشترط في لباس المرأة ألا يكون شبيها بلباس الرجال لأنه عليه الصلاة والسلام: (( لعن الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل )). وقال: (( ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال )) .

ولا يجوز أن يكون اللباس مشابهاً للباس الكفار، وقد جاءت أحاديث كثيرة جدا في النهي عن التشبه بالكفار في اللباس أو الزينة وفي العبادة وغيرها. .

ولا يجوز أن يكون اللباس لباس شهرة يلبسه تفاخرا بالدنيا وزينتها أو لباسا خسيسا إظهارا للزهد (رياء) لقوله : (( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا)) .

تلكم أيها المؤمنون: شروط ينبغي أن تراعيها المرأة في لباسها عند الخروج وعند غير الخروج، ويستثنى من ذلك شرطان لا يلزمان المرأة وهي في بيتها : أن يكون ساترا ، أن يكون صفيقا ، أن يكون زينة .

نعم المرأة التي تلبس مسؤولة ، والرجل الذي يرضى والرجل الذي يشتري ، والرجل الذي يهوي ذلك وتشجيعه مسؤول عن هذا كله ، (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/327)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا دعوية

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

حكمة يوسف في الدعوة – ذم التقليد وخطره – المترفون والتقليد – مقامان أكد فيهما القرآن على الحجة والبرهان

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد قال الله تعالى حكاية عن نبيه يوسف الصديق عليه السلام: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:40].

في الآيات السابقة علي هذه الآية بينا كيف أن يوسف عليه السلام في محاورته مع صاحبيه استخدم أسلوباً في الدعوة غير مباشر تجلى فيه الأدب الرفيع في الخطاب الذي أبرز ملامحه احترام شخصية المخاطب والانتباه لنفسيته وتجنب مصادمته ببيان قبح حاله, وهنا يستمر عليه السلام بنفس الأسلوب فهو لا يخاطبهما مباشرة ولكنه يستخدم ضمير الجمع ما تعبدون من دونه فيحقق بذلك هدفين:

أولهما: بيان حال المجتمع كله.

ثانيهما: تجنب الاصطدام المباشر بالمخاطب.

فيوسف عليه السلام في محاورته مع صاحبيه عندما يريد أن يبين سوء حالهما وفساد اعتقادهما كان يلجأ إلى التعميم كما نرى هنا فهو يستخدم ضمير الجمع كما قلنا ليتجنب الاصطدام المباشر بالمخاطب لما قد يترتب على ذلك من تنفيره ففي هذا المقطع من الآية نلحظ شيئاً جديداً: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان , نلحظ في هذا الجزء من الآية شيئاً جديداً أنه عليه السلام ينعى عليهم التقليد والجمود على المورثات الباطلة التي لا تستند إلى برهان بل هي مجرد أعراف وتقاليد يجري فيها أفراد المجتمع على المحاكاة فبعضهم يحاكي فيها بعضاً وهكذا تجد وفي كل زمان أولئك الإمعات الذين يبررون مواقفهم وأفعالهم بقولهم : الناس كلهم يفعلون ذلك ويقلدون فيه أسلافهم من الأباء والأجداد ولذلك فإنك إذا دعوت الضالين المنحرفين منهم إلى الحق تمسكوا بما هم عليه وعاندوا الحق ويبررون موقفهم هذا بأن هذا ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم كابراً عن كابر أفتريد أنت الآن أن تغير ما مضى عليه جيل بعد جيل, وهكذا يخسر الضالون أنفسهم ويعاندون الحق ويرفضون الانقياد له بسبب التقليد الأعمى الذي يعطل الإنسان به ما وهبه الله من قوة عقلية وقدرة على التفكير وإدراك الأشياء, فإن الله تبارك وتعالى أودع في الإنسان قوة عقلية وقدرة على التفكير ليستخدم ذلك في إدراك الحق ومعرفته ومن ثم في اتباعه والانقياد له.

وأمر العقائد بالذات لا ينفع فيه التقليد والمحاكاة بل ما أضر الناس شيء في عقائدهم مثل التقليد الأعمى والجمود على المورثات فإن هذا ما منع الناس دائماً من اتباع الرسل ومن الاستجابة لأتباع الرسل ويتولى كل ذلك دائماً المترفون فإنهم يحثون دائماً على التقليد والجمود علي الأوضاع والمورثات حماية لمصالحهم وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف:23].

الدين يأمر الإنسان باستعمال عقله وينعى على الناس تعطيلهم لعقولهم واتباعهم لمن يعطل عقله, قال تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون [البقرة:170].

الدين يأمر الناس بأن يبنوا عقائدهم على الحجة والبرهان والعلم والبصيرة بما أنزل الله, الدين يأمر الناس بأن يعبدوا الله وحده ولكن عليه بأن يعبدوه على علم وعلى بصيرة, فإن التقليد في أمر العقائد لا ينفع أبداً بل يضر الناس وهو الذي منع الناس دائماً من اتباع الرسل ومن اتباع الحق ولذلك جرى في القرآن التنبيه بالبرهان في مقامين:

أولهما: عند بيان فساد اعتقاد أهل الكفر وأنه ليس مبنياً على برهان فكم من موضع قال فيه تبارك وتعالى لأهل الكفر: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [البقرة:111]. وتأملوا هذه الآية قال سبحانه وتعالى: ومن يدعُ مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه [المؤمنون:117]. يستحيل أن يكون هناك برهان على إله آخر مع الله فالشرك ليس عليه برهان فلماذا قيد بهذا الوصف واستخدم هذا الأسلوب لتنبيه الناس على أن أمر العقائد يجب أن يبنى على الحجة والبرهان وعلى العلم والبصيرة بما أنزل الله أما التقليد والمحاكاة فلا ينفع في ذلك.

ثانيهما: الذي جرى تنويه القرآن فيه بالبرهان عند بيان ما جاء به هذا الدين فإن هذا الدين جاء بالبرهان الواضح, هذا الدين لم يأتِ بمجموعة من الأسرار ومن الطلاسم ولا بالعقائد غير المفهومة لكنه جاء بالعقيدة الواضحة والشريعة السمحة ولذلك وصف القرآن الدين نفسه بأنه برهان وبأنه نور, قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً [النساء:174].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلي آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء))(1)[1] متفق عليه.

لماذا يكون الفقراء أكثر أهل الجنة كما أخبر بذلك الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:

أولاً: لأنهم مقلون متخففون من هذه الدنيا ليسوا كمن يقدم يوم القيامة وقد حمل كاهله أثقالاً جساماً وذنوباً وأوزاراً كباراً, أما الفقراء فمتخففون ولذلك فهم أحرى بالنجاة, أما كثرة المال وقوة الجاه والسلطان فإنها في الغالب إلا ما رحم الله تكون سبباً لغفلة الإنسان وطغيانه وبذلك تؤدي به إلي الهلكة, روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي أسماء أنه دخل علي أبي ذر الغفاري رضى الله عنه وهو بالربذة وعنده امرأة سوداء ليس عليها أثر للمحاسن ولا للخلوق أي للطيب, فقال أبو ذر رضي الله عنه ألا ترون إلى ما تأمرني به هذه السويداء: تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيت العراق مالوا علي بدنياهم وإن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة وإنا أن نأتي عليه وأحمالنا فيها اقتدار, أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن بأوقار ثقال(2)[2].

يريد رضي الله عنه أننا نجيء يوم القيامة متخففين من مسؤوليات الدنيا وأعبائها وبالتالي متخففين من ذنوبها وأوزارها ذلك أقرب للنجاة من أن نأتي بأوزار وأثقال.

ثانياً: الفقراء في الغالب أقرب إلى التواضع وإلى رقة القلب وقبول الحق بخلاف أولئك, بخلاف غليظي الأعناق متجبري القلوب الذين أفسدهم الترف وأفسدتهم المادية الطاغية, انظر إليهم في مكاتبهم الوفيرة كأنهم فراعنة وفي بيوتهم الفاخرة كأنهم أباطرة قد نسوا الله وغفلوا عنه وغلظت قلوبهم عن الحق لا يعيشون مع الناس ولا الناس معهم ولا يحبون الفقراء ولا المساكين ولا يلتفتون إلى المحتاجين, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق ومع ذلك كان يخالط الناس ويعيش معهم وبينهم ويجالس الفقراء والمساكين ويزورهم في بيوتهم ويحبهم, وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين))(3)[3]، والمسكنة هنا ليس معناها العجز والفشل والكسل والتواكل وإنما المراد بها التواضع لله تبارك وتعالى ولين الجانب ورقة القلب مع المؤمنين وخاصة مع الفقراء منهم.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(4)[4]، اللهم صلى وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبى السبطين على وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري كتاب بدء الخلق (3069).

(2) أحمد (5/159).

(3) الحاكم (4/322).

(4) صحيح مسلم (408).

(1/328)

جريمة الزنا

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- صورة من حقيقة المنادين بحقوق الإنسان في الغرب. 2- حواجز يضعها الإسلام في وجه الرذيلة قبل أن يعاقب بالحدود.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

أيها المسلمون :

منذ أيام شهدت بلاد النرويج إحدى البلاد الأسكندنافية ، قضية هي الأول من نوعها فقد استمعت المحكمة إلى دعوى ضد رئيسة منظمة العمل ضد أضرار الأجانب ، تلك التي جعلت غايتها الصد عن دين الله سبحانه وإثارة الشبهات والأباطيل حول أحكام الإسلام وتعاليمه ، زاعمة زعما كاذبا في العقوبات فيرفع السوط ليجلد الناس كلما أخطأ الواحد ، ويستبشعون هذه الأحكام التي أنزلها الله تعالى حفاظا على دين المؤمنين وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، وهذا كله صورة للصراع الأبدي بين الحق والباطل ، بين الإسلام والكفر: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى .

ويعنينا هنا أن نأخذ واحدة من تلك الشبهات تتصل بالحفاظ على العرض ، بعد أن كان حديثنا الفائت عن بشاعة تلك الجريمة الكبرى التي تقع على العرض جريمة الزنا .

والإسلام أيها المسلمون : لا يعتمد على العقوبة في إفساد مجتمعه النظيف الصالح ، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية من الوقوع في الجريمة، ويضيق الخناق على فرص الغواية وأسباب الفتنة ويقطع طريق الإثارة الجنسية مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة صغيرة كبيرة أو تقتضي المصلحة إغلاقه وتحوليه، هذا الطريق تجد عليه إشارات ولوحات تحذيرية تحذرك من السير فيه، وتوضع الحواجز الاصطناعية أمامك لتحول بينك وبين الوقوع في الخطر الأكيد، فإذا ما تجاوز السائق المتهور ذلك حق عندئذ أن توقع عليه العقوبة وتسجل المخالفة، ذاك هو نظام الإسلام ، إنه قبل أن يوقع عقوبة الجلد أو الرجم يضع الحواجز الكثيرة والأسلاك الشائكة التي تصد عن الجريمة ، ويفتح أمامك الطريق السهل النظيف المأمون ، وهذا ما نجده فيما شرعه الله سبحانه وتعالى للعالم والإنسان وبما يصلح هذا الإنسان: ألا يعلم من خلق . .

فقد حث القرآن الكريم على الزواج وأزال العقبات من طريقه ليُشبع الإنسانُ دافعه بطريق نظيف مشروع: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم .

ولا يجوز أن يقف الفقر وقلة ذات اليد عائقا دون الزواج: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . وقال : ((ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف والمكاتب يريد الوفاء )). ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )) فكان من ذلك هو الحاجز الأول أمام الجريمة .

والحاجز الثاني : ما فرضه رب العزة جل جلاله عن المؤمنات من الحجاب: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أزكى أدنى أن يعرفن فلا يؤذين .

ويضع حاجزا ثالثا : عندما يؤدب المسلم بآداب الدخول إلى البيوت ويوجب الاستئذان لئلا تقع عين الداخل على عورات البيوت فتهيج الفتنة: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون .

ويضع حاجزا ضخما عندما يأمر المؤمنين بغض البصر عما لا يحل لهم: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن . فالعين مفتاح القلب والنظر رسول الشهوة وبريد الزنا وقديما قال الشاعر:

كل الحوداث مبدأها من النظر ………… ومعظم النار من مستصغر الشرر

ولذك قال عليه السلام :(( العينان تزينان وزناهما النظر)) وحري بالمسلم أن يحفظ بصره فلا يتبع النظره النظرة فإنه أحق بهذا الخلق من الجاهلي الذي كان يقول:

أغض طرفي إن بدت لي جارتي ……حتى يوارى جارتي مأواها

كالعينين لا تلتقيان وحجاب ………ما بينهما قصير جدار

ومن باب أولى إذن أن يكون الاختلاط حراما وأن تكون الخلوة بالمرأة الأجنبية وخلوة المرأة بالرجل الأجنبي حراما ما لم يكن هناك محرم ، قال : (( لا تلجوا على الفتيات اللاتي يكون أزواجهن غائبين عنهن ، فإن الشيطان يجري في أحدكم مجرى الدم )) ، (( ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان)) ، وكان أشد احتياطا في هذا فعندما خرج يودع زوجة صفية ، قال لمن رآهما ، إنها زوجتي صفية ، وحتى في الصلاة لا يجوز لك الاختلاط وأنت في أماكن العبادة أقرب ما تكون إلى الله (( خير مساجد النساء قعر بيوتهن)) ، (( شر صفوف الرجال أخرها وشر صفوف النساء أولها )).

ثم يضع الإسلام حاجزا سادسا: فلا يجوز للمرأة أن تسافر ثلاثة أيام بلياليها إلا مع ذي رحم محرم حتى ولو كان السفر للحج ، ويحرم الإسلام مصافحة المرأة الأجنبية غير ذات المحرم ولمسها ، فيقول عليه الصلاة والسلام السلام : ((لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)) ، وما أباح أن يمس الرجل بيده جسد امرأة غير ذات محرم ، فكان يصافح الرجال عند البيعة ولا يصافح النساء ، فعن عروة أن عائشة أخبرته عن بيعة النساء قالت : (( ما مس رسول الله يد امرأة قط ، وكان يأخذ عليهن العهد بالكلام دون مصافحة ثم يقول اذهبي فقد بايعت))، وإذا خرجت المرأة من بيتها محتشمة بلباسها متحجبة بإيمانها وأخلاقها لا يجوز أن تهتك هذا برائحة عطرها وطيبها مما يلفت إليها أنظار الرجال كيف يؤذونها بأنوفهم وهي من تؤذيهم براحة عطرها . قال : (( لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة)) ، وقال عليه الصلاةو السلام: (( كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا )) وعن أبي هريرة : أنه لقيته امرأة شم منها ريح الطيب، فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين؟ قالت: نعم، قال: وله تطيبت؟ قالت نعم، قال فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله يقول: (( ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل )).

وماذا بقي بعد . ؟ إنها فتنة الصوت والتغنج أي الكلام والتكسر فيه: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً .

وحتى الزينة إن كان لها صوت كالخلخال في القدم لا يجوز إظهارها، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وما ذاك إلا لخطورة هذا في تحريك الفتنة والشهوة ، والإذن تعشق قبل العين أحيانا .

أما تطهير المجتمع من وسائل الإثارة وإشاعة الغنا والفجور ، فإنه يحتاج إلى فضل بيان لعل الله يوفق لإلقاء الضوء على عليه مرة أخرى .

تلك أيها المؤمنون أعظم الحواجز والموانع ، أمام جريمة الاعتداء على العرض ، إنها الإشارات التحذيرية فإذا ما تجاوزها إنسان وتخطاها فقد وجبت عليه عقوبة رادعة الله يعلم حكمتها وفائدتها في تطهير المجتمع الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، وبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم . . .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/329)

الحث على النكاح

-----------------------

فقه

النكاح

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أهمية الزواج. 2- أمر النصوص الشرعية بالنكاح. 3- التحذير من الرهبنة. 4- الحث على الزواج المبكر ووسائله. 5- الحث على تزويج الكفؤ ولو كان فقيراً.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .

فقد جعل الله الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة، ولذلك واجه الإسلام هذا الأمر بتيسير الزواج والمعاونة عليه مع تصعيب السبل الأخرى للمباشرة وإغلاقها نهائيا .

يقول الله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم

(1/330)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا دعوية

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

التوقيت المناسب للدعوة – صور من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - (إن الحكم إلا لله ) – الحكم نوعان – العلاقة بين الأفراد في الحكم والإفراد في العبادة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى: إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:40].

هذا الجزء من الآية يمثل مرحلة من مراحل الدعوة وأسلوباً من أساليب الحوار إنها مرحلة الجهر بالدعوة والأسلوب المباشر في الحوار فبعد كل تلك التمهيدات وأساليب الدعوة غير المباشرة التي استخدمها يوسف عليه السلام فيما مضى جاء هنا فجهر بدعوته وطرح فكرته التي يدعو إليها بشكل مباشر, إذ ليس من معاني الحكمة دائماً ولا من مقتضاها في كل وقت أن تخفي دعوتك ولا أن تغلف الفكرة التي تدعو إليها خلف الأقنعة وتلبسها شتى الألبسة فلابد في مرحلة ما أن تجهر بدعوتك وتبين الفكرة التي تدعو إليها بياناً واضحاً وبشكل مباشر ولكن بشرط أن تكون المرحلة مناسبة والفرصة مواتية وأن تكون قد هيأت المخاطب لتلقي ذلك أو وجدته مهيئاً, هذا ما ترشدنا إليه هذه الآية وما قبلها من الآيات في فن الدعوة وأسلوب الحوار ولغة الخطاب, فليس من الآداب الشرعية في الدعوة أن تلقي كلمتك كيفما اتفق وفي أي وقت تشاء أو تلقي كلمتك في وجه المخاطب كأنها حجر تشج رأسه بها وتهشم أنفه, ليس هذا من أسلوب الدعوة النبوية, دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء ولا من أسلوب دعوة أتباع الأنبياء, كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة(1)[1] أي لا يلقي عليهم الموعظة إلا في الوقت المناسب حيث يراهم مهيئين لسماعها وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينكر فعلاً فعله أحد من الناس أو قولاً قاله أحد من الناس يعرض ويلمح ولا يصرح, يقول ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.

ولكن ما هي تلك الحقيقة التي جهر بها يوسف عليه السلام وأراد بكل تلك المقدمات أن يصل إليها إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه هذا هو ما دعا إليه يوسف عليه السلام, الحكم لله وحده وهذا هو نفسه ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل هو نفسه ما جاء به الأنبياء والمرسلون جميعاً وهذا هو نفسه هو معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله, يقول تعالى: ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54]. فمن كان الخلق له كله وجب أن يكون الأمر له وحده, من كان هو الذي خلق الخلق وحده وهو الذي يدبر الخلق وحده لا يشاركه أحد في ذلك وجب أن يكون الأمر له وحده لا يشاركه أحد في ذلك, فالحكم كله لله تعالى والحكم نوعان حكم شرعي وحكم فعلي, أما الحكم الشرعي فهو أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها الوحي لبيان العبادة وبيان العقيدة ولتنظيم أحوال الناس فهذا الحكم الذي هو بمعنى التشريع هو لله وحده لا يحق لأحد سوى الله كائناً من كان أن يشرع للناس في أمر الدين شيئاً أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [الشورى:21].

وأما النوع الثاني من الحكم فهو الحكم الفعلي بمعنى القضاء والفصل والنفوذ فالرب سبحانه وتعالى يحكم بين عباده تارة في الدنيا وتارة في الآخرة, قال تعالى: واتبع ما يوحي إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين [يونس:109]. هذا هو الحكم في الدنيا بين المسلمين وبين غير المسلمين فينصر منهم من كان أقرب للعدل وإصلاح الأرض, وقال سبحانه وتعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون [البقرة:113]. هذا حكم الله بين عباده يوم القيامة في الآخرة يحكم بين اليهود والنصارى ويحكم بين الخلق أجمعين وهذا النوع من الحكم الذي هو الحكم الفعلي ينبه إلى حقيقة هامة هي سر كل شيء وهي أن من كان الحكم له وجب أن تكون العبادة له, من كان الحكم له وحده وجب أن تكون العبادة له وحده كما قال سبحانه ألا له الخلق والأمر فمادام هو الذي خلق وحده لم يشاركه أحد في ذلك ومادام هو الذي يدبر الخلق وحده لا يشاركه أحد في ذلك يجب أن يكون الأمر كله له وحده لا يشاركه أحد في ذلك, والأمر معناه الخضوع له والطاعة فيما أمر سبحانه وتعالى وهو أمر بأن تكون له العبادة له هذه الحقيقة هي سر التوحيد وهي جوهر الدين الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء والمرسلون جميعاً وهي حقيقة ما دعا إليه يوسف عليه السلام ولذلك بعد أن قال إن الحكم إلا لله, عقب علي ذلك بقوله: أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ثم وصف هذه الحقيقة بأنها هي الدين ذلك الدين القيم أي المستقيم الذي لا عوج فيه ولا نقص ولا خلل ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد فعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر))(2)[1] متفق عليه. وصدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , نحن الآن نعيش في حياة مادية جافة جامدة لا رحمة فيها ولا تعاطف ولا شفقة, حياة ينقلب فيها غالب الناس إلى تجار يعبدون الدرهم والدينار وهذه حياة أجنبية عنا وافدة علينا صدّرها إلينا القردة والخنازير فهم في بلادهم إذا كبر الإنسان وضعف وعجز لا يجد من يعطف عليه ويساعده حتى أبناؤه ينفضون من حوله لا مأوى ولا مكان للضعيف والعاجز والأرملة والمسكين عند القردة والخنازير إلا الملجأ وهذا الملجأ هو سجن المادية للإنسان الضعيف والسجن الذي تعده الحياة المادية للإنسان الضعيف, فالإنسان إذا ضعف لا يحتاج إلي أربعة جدران فحسب يقبع بينها وهذا الملجأ هو عنوان صارخ على الوحشية وحشية الإنسان الغربي الذي أصبح مجرداً من الشفقة والعواطف فسنحاول بإذن الله تعالى في كل خطبة أن نذكر طرفاً من الآداب الشرعية في مجال العلاقات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية حتى نقارن بذلك بين حياتنا كما يريدها الإنسان وبين الحياة المادية كما هي حياة القردة والخنازير وحتى نحذر المسلم من الوقوع في حبائل الحياة المادية التي لا رحمة فيها ولا تعاطف ولا شفقة, في هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضى الله عنه جعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الساعي على خدمة الأرملة والقيام بحاجة المسكين ونحو ذلك بمرتبة المجاهد في سبيل الله بل بمرحلة العابد الذي لا ينقطع عن العبادة يقوم الليل دائماً ولا يفتر ويصوم النهار دائماً ولا يفطر وهذا ينبه المسلم إلى أن ديننا كما يأمرنا بعبادة الله تبارك وتعالى فإنه يأمرنا بمساعدة الناس وفعل الخير لهم والقيام بحاجاتهم ومتطلباتهم وخاصة المحتاجين منهم فهذا بمرتبة ذلك, هذا بمرتبة عبادة الله تعالى فاتقوا الله يا مسلمون وانتبهوا إلى المحتاجين والضعفاء والأرامل والمساكين واليتامى, لا يكن في مجتمعكم أحد منهم لا يدري عنه أحد ولا يسأل عنه أحد فيكون مجتمعنا بذلك والعياذ بالله شر مجتمع, فعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه))(3)[2].

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(4)[3] اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري كتاب العلم (68).

(2) البخاري كتاب النفقات (5038).

(3) ابن ماجة: أبواب الأداب (3679). وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة ص297.

(4) صحيح مسلم (408).

(1/331)

الإسراء والمعراج

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ

السيرة النبوية, فضائل الأعمال

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- معنى الإسراء والمعراج. 2- تفاصيل رحلتي الإسراء والمعراج. 3- ما رآه رسول الله من أجزية بعض الأعمال. 4- الربط بين المسجدين الحرام والأقصى. 5- الحث على صلاة الجماعة.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المؤمنون :فقد أعظم لله تعالى المنة على البشرية عنما بعث محمدا صلى لله عليه وسلم ،وبدأ الرسول بالدعوة إلى لله ولكن دعاة الضلالة والجاهلية .

ولو رجعنا إلى بدايته مع قومه لرأينا صورة من صور الصراع بين الحق والباطل ، متمثلا بموقف قريش من دعوة محمد ورأينا الأحداث تتلاحق ، والاضطهاد الوثني يزداد عنفاً وشراسة ، ويزيده فتكا وإيلاما وفاة سندين بشريين للرسول ، هما : زوجه خديجة وعمه أبو طالب ، كما لم يستجب له أحد في رحلته إلى الطائف، وكأن إرادة الله كانت تعِد من وراء الظلام الدامس بالفجر القادم الذي لا ريب فيه: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله .

في هذا الفترة جاءت حادثة الإسراء والمعراج تثبيتا لرسول الله على طريق الدعوة ، وتكريما في أعقاب سنين طويلة من العمل والدعوة ، رفعه الله إلى قلب السماوات وأطلعه على جوانب الإعجاز الإلهي الباهر في الكون الكبير .

سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير . ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذا يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى .

ويقصد بالإسراء : تلك الرحلة العجيبة التي بدأت من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالمقدس ، ويقصد بالمعراج ما جاء بعدها من ارتفاع في أطباق السماوات حتى الوصول إلى مستوى تنقطع عنده علوم الخلائق ولا يعرف حقيقته أحد ثم العودة إلى المسجد الحرام ، في ليلة واحدة في ساعة واحدة ، ليري الله نبيه بعض آياته: لنريه من آياتنا الكبرى .

هذه الرحلة التي اختلف فيها الناس بين مصدق ومكذب ومؤمن وجاحد ، ومؤمن بالبعض وكافر ببعض ، لقد كانت رحلة بالروح والجسد معا ، وكذب بها بعض الناس لأنهم أرادوا أن تجول عقولهم العاجزة القاصية في كل شيء ، حتى في أمور الغيب ، فإن هذا العقل البشري لا يستطيع أن يحيط بكل ما في هذا الكون من أسرار ، وحسب العقل أن يقف مؤمناً أمام هذه الرحلة التي طوى لله فيها لنبيه الزمان والمكان ليريه من آياته الكبرى .

وقد حدث النبي عن رحلته تلك بالحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري وغيره بينما أنا في الحطيم إذا أتاني آت ، فشق ما بين هذه وهذه ، ثم استخرج قلبي ثم أتيت بإناء أو طشت من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ، ثم أتيت بالبراق ، يضع خطوه عند أقصا طرفه فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل حتى أتيت بيت المقدس ثم دخلت فصليت فيه بالأنبياء ركعتين ، ثم صعد بي جبريل إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل واستأذن ومعه رسول الله وصعد في السماوات العلى ورأى آدم عليه السلام ويحي وعيسى ويوسف وأدريس وهارون وموسى وإبراهيم . . كل منهم يستقبل الرسول بقوله : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، وفي طريقه قبل العروج أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من اللبن ، فاختار اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة . ثم علا حتى جاء سدرة المنتهى (ودنا الجبار رب العزة فتدلى ) ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمته في اليوم والليلة وطلب التخفيف من ربه ، بعد إشارة موسى عليه السلام ، فقال : يا رب خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا. . . فقال الجبار تبارك وتعالى : يا محمد ، إنه لا يبدل خمسون في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك .

وقد رويت أحاديث كثيرة عما رأى رسول الله من صور شتى لأجزية الصالحين والطالحين كأولئك الذين لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم ، أولئك الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ، وكذلك جزاء آكلي الربا وجزاء الزناة وآكلي أموال اليتامى ظلما .

وفي صبيحة اليوم التالي غدا رسول الله على قريش ، فأخبرهم الخبر ، فقال أكثر الناس هذا والله الأمر العجب ، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة ، أفيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة ؟ وذهب الناس إلى أبي بكر يخبروه بما قال صاحبه فقال : والله لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم في ذلك ؟ فوا الله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه !!.

بهذا أبعد مما تعجبون منه ، وأقبل على رسول الله وسأله : يا نبي الله أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس ؟ قال نعم ، قال يا نبي الله فصفه لي ، قال فرفع لي بيت المقدس حتى نظرت إليه ، ثم راح يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول : صدقت أشهد أنك رسول الله ، حتى إذا الرسول صلى لله عليه وسلم من وصفه ، التفت إلى صاحبه وقال : أنت يا أبا بكر الصديق .

وفي الإسراء والمعراج أيها الاخوة : نلمح أواصر القربى بين الأنبياء كلهم الذين أمرنا الله بالإيمان بهم جميعا وهم الذي بادلوا النبي التحيات والدعوات قائلين : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح .

وفي ليلة الإسراء والمعراج تأكدت الصفة الأولى لهذا الدين وهي أنه دين الفطرة ، وقد قال جبريل للرسول عندما شرب اللبن : هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك .

وفي الإسراء والمعراج تأكدت الطهارة والصلة بالله في فريضة الصلوات الخمس .

وفي ليلة الإسراء والمعراج ثم ذلك الربط بين أفراد الأمة المسلمة كلها عبر الرباط ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله .

وفي الإسراء والمعراج رأى النبي ورأى المؤمنين طرفا من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض جعلهم يؤمنون بقدرة الله تعالى ، وبذلك تبين إيمان الصادقين وغير الصادقين ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض . . . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد :

إن خير الكلام كلام الله . . . وإن هدي النبي الحث على صلاة الجماعة وتأكيد وجوبها وبيان فضلها .

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا ، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا صلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ما لم يحدث ، تقول : اللهم صل عليه اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة )) .

ولما أتى رجل أعمى إلى النبي يقول : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فرخص له النبي أن يصلي في بيته ولما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء في الصلاة ؟ قال: نعم قال : فأجب .

وفي حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول: (( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان ، فعليكم بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )).

وقال : ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)).

فالصلاة جماعة في المساجد فرض لا يجوز التخلف عنها إلا لعذر يجوز معه ترك الجماعة والجمعة .

فحافظوا أيها المسلمون على هذه الصلوات تنالوا الأجر والثواب وتخالفوا المنافقين الذين لا يعتادون المساجد ولا يرفعونها بذكر الله وبالصلاة .

(1/332)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا دعوية

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

دروس في أساليب الدعوة : 1- لغة الخطاب 2- رقة الأسلوب 3- التمهيد والتدرج 4- التدين عن علم وبصيرة 5- اجتناب الفظاظة والغلظة أهمية الأسلوب الصحيح في صحة الدعوة ( أمثلة )

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى: وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين [يوسف:42].

يوسف عليه السلام أدى أولاً واجب الدعوة مع صاحبيه في السجن ثم بعد ذلك قضى لهما حاجاتهما بأن فسر لكل واحد منهما الرؤيا التي رآها, فأما أحدهما فينجو من السجن والقتل وهو الذي رأى أنه يعصر خمراً وأما الآخر فيقتل وهو الذي رأى فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ولكن يوسف الصديق عليه السلام سعادته في استخدام الأساليب المهذبة الرفيعة الرقيقة لم يعين كل واحد منهما مباشرة شفقة منه علي الذي يقتل منهما فلجأ إلى أسلوب الإبهام أما أحدكما فيسقي ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه [يوسف:41]. لم يقل أما أنت يا فلان فسوف تصلب وتقتل لما في ذلك من مجابهة عنيفة قاسية مع المخاطب لكنه لجأ إلى هذا الأسلوب الرقيق المهذب الرفيع, وهذا هو ما نتعلمه من منهج الأنبياء, هذا الأدب الرفيع في الخطاب, هذا الأسلوب الرقيق في الحوار ولا نمل من الإلحاح إلى التنبيه إليه لما نرى من شدة حاجة الناس إليه ولما نرى من حاجة كثير من الذين يشتغلون بالدعوة وحاجة كثير ممن يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مثل هذا الأدب النبوي الرفيع في الخطاب والحوار والتعامل مع الناس.

بعد أن فرغ يوسف عليه السلام من هذا كله قال لصاحبه الذي ظن أنه ناج من السجن والقتل وأنه ستكون له حظوة عند الملك, قال له سراً دون أن يشعر الأخر اذكرني عند ربك, اذكر قصتي عند سيدك, ذكر الملك إذا صرت ذا حظوة عنده بمظلمتي وحاجتي في السجن لعله ينصفني من هذا الظلم, ولكن صاحب يوسف لم يكن وفياً كما توقع يوسف عليه السلام, هذا الصاحب الذي انعقدت بينه وبين يوسف المودة والألفة والصحبة عندما كان في ظل محنة السجن, سرعان ما نسي صاحبه عندما خرج من السجن وعاد إلى كنف الحياة المترفة مرة أخرى ولكن لا يلام يوسف على هذا السعي في سبيل رفع الظلم عن كاهله فإن هذا السعي وإن كان لم يثمر على الفور لكن الثمرة منه تحققت وإن كانت جاءت متأخرة فإن ذلك الساقي صاحب يوسف في السجن تذكر يوسف لما سمع الملك يقص رؤيته التي رآها على حاشيته ويطلب منهم تفسيرها وفي صنيع يوسف هذا وهو قوله: اذكرني عند ربك درسان عظيمان لنا:-

الدرس الأول: إن فعل الأسباب لابد منه واتخاذ الوسائل المادية الكفيلة بتحقيق المطلوب لابد منه وهذا أمر لا ينافي التوكل علي الله تبارك وتعالى بل هو من صميم التوكل فليس من التوكل على الله أن يستسلم الإنسان إلى ما هو فيه من محنة أو غيرها لا يفعل شيئاً ينتظر الفرج بلا سعي أو أن تمطر السماء عليه ذهباً بلا تعب, هذا لا يسمى توكلاً على الله, هذا يسمى فشلاً وعجزاً وكسلاً فانه بدون عمل وبدون فعل السبب لا يتحقق المطلوب حتى الإيمان وحده وإن كان قوياً صادقاً لا ينفع صاحبه إذا لم يقرنه بالعمل, فبالعمل تدرك مطلوبك الدنيوي والأخروي, هذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق وأفضلهم ومكانته عند الله تعالى لا تخفى ومع ذلك لم يتكل على ذلك ويترك فعل السبب ويترك العمل بل كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في فعل السبب ويجهد نفسه بالعمل ونأخذ مثالاً على ذلك في غزوة الأحزاب لما سمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأعداء يحشدون جنودهم وهم قادمون لغزو المدينة النبوية لإبادة المسلمين فيها وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, لم يتكل على مكانته عند الله تبارك وتعالى ولا اكتفى بالجلوس في المسجد ولا الدعاء بل بادر صلى الله عليه وسلم إلى فعل السبب واتخاذ الاحتياطات اللازمة فحفر الخندق حول المدينة وتحصن في المدينة هو والمسلمون, أجهد نفسه صلى الله عليه وسلم وأجهد المسلمون أنفسهم معه في غزو الخندق واتخاذ تلك الوسائل مع أنه صلى الله عليه وسلم هو نفسه في ذاته الشريفة معصوم بعصمة الله تبارك وتعالى محمي بحماية الإلهية خاصة لا يستطيع أي مخلوق أن يصل إليه بسوء, كيف وقد أنزل الله تعالى عليه والله يعصمك من الناس [المائدة:67]. ولكن هذا درس للأمة لتعلم أن العمل وفعل السبب شرط لحصول المطلوب.

الدرس الثاني: من أعجب الدروس وأنفسها أول ما أنزل من القرآن على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم جميعاً اقرأ باسم ربك [العلق:1]. اقرأ هذا أمر بفعل السبب أي افعل السبب الذي يوصلك للمطلوب وهو الهداية وهذا السبب هو العلم ولكن افعل هذا السبب مستعيناً بربك لا يدخل في روعك أنك تحصله بنفسك وبجهدك الذاتي أو بفعل السبب وحده فمهما اجتهدت ومهما فعلت السبب لا تحصل المطلوب إلا إذا أعانك ربك ووفقك, فقوله باسم ربك هذا أمر أخر بالتوكل على الله تعالى فهذان الأمران الإلهيان لا يفترقان: أمر بفعل السبب وأمر بالتوكل على الله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فالدرس الثاني من دروس قوله: اذكرني عند ربك فهو أن التوسل من الأسباب التي يشرع الإنسان في فعلها لتحقيق المطلوب ونقصد بالتوسل هنا ما يسميه الناس اليوم بالواسطة أو بالشفاعة وهذا أمر يعرفه القاصي والداني ويحتاج إليه الناس لقضاء حوائجهم وتحقيق مقاصدهم ولكن لا يكون هذا التوسل مباحاً ولا مشروعاً إلا إذا كان لجلب حق أو دفع مظلمة, أما ما يفعله كثير من الناس اليوم من اتخاذ الواسطة والشفاعة وسيلة لأكل حقوق الآخرين وظلمهم والاعتداء عليهم أو وسيلة لتعطيل المصالح العامة والاعتداء عليها فإنه حرام على الشافع وعلى المشفوع له وعلى المشفوع عنده, كل أطراف هذه القضية يشتركون في إثمها, قال تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها [النساء:85]. ولما شفع حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه أسامة بن زيد شفع عند رسول الله للمرأة المخزومية التي سرقت فحكم بقطع يدها, شفع لها لكي لا تقطع يدها غضب عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ووبخه قائلاً: ((أتشفع في حد من حدود الله والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت رسول الله سرقت لقطعت يدها))(1)[1]. هذا معناه اعتدال الموازين وانضباط القوانين الشرعية بحيث يسري حكمها على كل أحد في المجتمع بلا تفريط ولا محاباة ولا خلل ولا تقصير, في مثل هذا المجتمع المثالي الذي كان يرعاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفي مثل المجتمع المثالي الذي كان يرعاه الخلفاء الراشدون الأربعة من بعده لا يحتاج إلى الواسطة إلا نادراً, فإن هذه الظاهرة ظاهرة الواسطة إنما تتفشى في المجتمع وتشتد حاجة الناس إليها عندما تختل موازين العدالة فيه, عندما لا تسري الأحكام على كل أحد, عندما لا تكون هناك محاباة وتفريق وظلم وخلل وتقصير, فيوسف عليه السلام دخل السجن مظلوماً ولبث فيه مهملاً لا يسأل عنه أحد ولم يحدث له هذا إلا في مجتمع نخر فيه الفساد واستحكم فيه الظلم, يقول بعض الناس الذين يمكنهم أن ينفعوا الناس بالشفاعة لهم والتوسط لهم لدى من بيده الحل والعقد لقضاء حوائجهم المشروعة المباحة يمتنع عن ذلك ويتحجج بأنه لا يريد أن تتفشى هذه الظاهرة في المجتمع وهذا من قلة فقههم فإن هذا لا يقال إلا في مجتمع مثالي كالمجتمع الذي وصفناه حيث لا يكون هناك خلل ولا تقصير ولا ظلم ولا محاباة ولكننا اليوم لا نعيش في مثل هذا المجتمع المثالي, إننا لا نعيش في عهد كعهد العمرين أو أحدهما ولذلك لا يقال إن الناس لا يحتاجون إلى من يتوسط لهم ومن يشفع لهم بل ما أشد حاجتهم اليوم إلى الشفاعة الحسنة, ما أشد حاجتهم اليوم إلى اذكرني عند ربك .

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[2]، اللهم صلِّ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري: كتاب الأنبياء (3288).

(2) صحيح مسلم (408).

(1/333)

الوصية المكذوبة

-----------------------

قضايا في الاعتقاد

البدع والمحدثات

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- مؤامرات أعداء الإسلام لا حدّ لها. 2- حفظ الله لهذا الدين. 3- الجهل بالدين سلاح من أسلحة الأعداء. 4- الوصية المكذوبة المنسوبة للشيخ أحمد. 5- بعض ما جاء في الوصية من كذب ودجل.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

أيها المؤمنون : فما أكثر ما يواجه الإسلام من مؤامرات ومكائد يدبرها له الأعداء في الداخل والخارج ، فمنذ ألف سنة أو تزيد ، واليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ، يكيدون للإسلام ويضعون المخططات ويدبرون المؤامرات لكسر شوكة الإسلام ومكافحة دعوته ودحر المسلمين في كل مكان ، ولكن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين عندما تكفل بحفظ مصدره الأول : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . وتكفل بالعزة والنصر للمؤمنين إذا وفوا بما شرط الله تعالى عليهم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ويبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون به شيئا .

وعندئذ تبوء كل أساليب المكر والخداع والكفر تبوء بالفشل والخذلان: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين .

ومن أشد ما يبتلى به هذا الدين : أعداء ماكرون يكيدون له ، وأتباع من المسلمين الغافلين الجاهلين الذين يقعون فريسة الجهل والمؤامرات والشعوذة والكيد ، فيظنون أنهم يقومون بخدمة هذا الدين وبطاعة رب العالمين وهم الذي يصح فيهم قوله تعالى: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين زين لهم الشيطان السوء والكذب فرأوه عملا حسنا، أفمن زين له سوء عمله فرأه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء .

أقول هذا أيها المؤمنون: لأني رأيت بدعة وضلالة وهي لون من ألوان الكيد لهذا الدين والانحراف بالمسلمين عند فهمه كما أراد الله ، نجمت منذ سنوات ، ثم ماتت ، وعادت هذه الأيام لتظهر مرة أخرى من جديد ، وما كنت أظن أن مؤمنا أو عاقلا يصدق بها ، تلك هي الوصية المنسوبة إلى من أسموه الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم رسول الله أراها بين يدي طلابنا في المدارس، وبين يدي الاخوة في غير المدارس وهم ينسخونها أو يطبعونها ويقومون بتوزيعها ليفوزوا بالأجر والمغنم ويبتعدوا عن الكفر والخسران ، بزعمهم أو بزعم الكذاب الأفاك الذي اخترع تلك الوصية ، وخلاصة هذه الوصية التي تقع في صفحة كبير أو صفحتين صغيرتين كما رأيتهما أنه رأى النبي في نومه بعد أن كان قرأ القرآن فأخبره أنه مات في هذا الأسبوع اربعون ألفا من الناس متية جاهلية ، وأن رسول الله خجلان من أفعال الناس القبيحة وأنه لم يقدر أن يقابل ربه ولا الملائكة ، ثم ذكر بعض ما وقع فيه من المعاصي ، وذكر بعد ذلك أن الساعة أصبحت قريب ، وأنه يجب على كل مسلم أن يوزع هذه الوصية (25) ورقة ليزيل الله عنه الغم والهم يوسع الله رزقه ويحل مشاكله ، ويضرب أمثلة على أناس فعلوا ذلك فربحت تجارتهم في الهند وفي أوربا ، وأن واحدة كذب بها فمات ابنه .

وهذا الوصية مخترعة مكذوبة لا أصل لها ، فإن هو هذا الشيخ الذي اسمه أحمد ويحمل مفاتيح الحرم النبوي اليوم .

وحتى لو كان هناك شيخ أحمد وغيره ، فإن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من المنامات والأحلام ولكنها تستمد من كتاب الله وسننة نبيه .

ولقد قال صاحب تلك الوصية كذبا وافتراء على رسول الله ، ولقد حذر الرسول من ذلك (( منذ كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )).

وقد جعل صاحب الوصية كتابتها أفضل من القرآن وكتابته عندما زعم أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل بني الله له قصرا في الجنة أو وسع عليه في رزقه وفرج عنه الهم ، والكل يعلمون أن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد لم يحصل له هذا افضل إذا لم يعمل بالقران الكريم .

ومن لم يكتب القرآن لم يحرم من شفاعة النبي فكيف يحرم منها من لم يكتب هذه الوصية المكذوبة .

ومن الذي أعلم صاحب الوصية أن مائة وستين ألفا يموتون كل جمعة على غير دين الإسلام ، وهذا من علم الغيب ، ثم أليس هناك غير مسلمين يموتون كل يوم .

ومن الأمور التي تدل أيضا على كذب تلك الوصية قوله فيها: إن من كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه ، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية .

وهذا كله أيها الناس لا يحصل لمن يكتب القرآن فكيف يحصل لمن كتب الكذب ، وقد ربط الله تعالى الرزق وكسب المال لسبب حثنا عليه وأمرنا به وهو السعي والعمل الطيب الحلال في مناكب الأرض ، وأما المغفرة ومحو الذنوب فإنما تكون الطاعة لله تعالى واتباع سنة نبيه وبالاستغفار والتوبة والإنابة والرجوع إلى الله تعالى.

أما موت إن من لم يكتبها ولم يوزعها : فإن الله سبحانه وتعالى قد حدد الآجال والأعمار لكل الناس ومن الذي أدراه أن الميت مات لهذا السبب ولم يكن لسبب غيره ، ألسنا نرى الموت كل يوم في هذه الحياة ؟ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا .

أما أن من يكتبها فيسود وجهه في الدنيا والآخرة : فإن هذا من أعظم الكذب الذي يدحضه واقع الناس اليوم فهذه الملايين أو الآلاف من الذين لم يكتبوها أو لم يطلعوا عليها أصلا لم تسود وجوههم في الدنيا ، وما في الآخرة فالأمر غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى .

وأما قوله : إن من يصدق بها ينجو من عذاب النار ، ومن كذب بها كفر ، فإن هذا يعني أن صاحب الوصية جاء بشرع جديد أو وحي جديد يجب على الناس أن يؤمنوا به ويكون بذلك قد كذب الله تعالى الذي أخبرنا أنه قد أكمل الدين لهذه الأمة وأنه سبحانه وتعالى هو وحده الذي يشرع ويحلل ويحرم: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .

إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه .

فيا أيها المؤمنون: احذروا هذه المفتريات وتلك الدسائس وحذار أن يزين لكم شياطين الجن والإنس الباطل ويجيبوه إليكم فترضوه وتتبعوه، فتتركوا بذلك دينكم وسنة نبيكم .

أما ما ذكره صاحب الوصية المزعومة، أو قال: ما أملاه الشيطان على من كتب هذه الوصية من الأمور المنكرة التي نجدها واقعة في المجتمع ، فإن هذا أمر وقع لا يحتاج إلى هذا الوصية وما أكثر ما حذرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من المنكرات والإثم والبغي والحرام وما أكثر ما جاءت أحاديث النبي تزجر عن تلك الكبائر والذنوب ولكن هذا هو شأن أهل الباطل يمزجون الحق بالباطل والشر بالخير ليلبسوا على الناس دينهم ويزينوا لهم الباطل والشر ، نسأل الله أن يعصمنا منه وأن يقينا شر الشياطين وفتن الضالين وزيغ الزائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/334)

إصرار المشركين على محاربة الدعوة

-----------------------

سيرة وتاريخ

السيرة النبوية

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- ثبات رسول الله على دعوته وعدم استجابته لإغراءات قريش. 2- موقف قريش من الدعوة الإسلامية ورجالاتها. 3- تعذيب الصحابة في مكة. 4- مواقف الجاهلية عند العجز عن المقارعة بالحجة ، وصور ذلك.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

لقد رأينا أيها الاخوة موقفا من مواقف قومين بالنسبة للدعوة الإسلامية التي حمل لواءها محمد صلوات الله وسلامه عليه فحاولت أن تغريه بالمال والجاه ، وأن تأخذه بالعصبية والحمية ، وأن تحاول الحلول الوسط ، ولكنها لم تفلح في ذلك كله .

فقرر المشركون عندئذ ألا يألوا جهدا في محاربة الإسلام وإيذاء الداخلين فيه والتعرض لهم بألوان الإسلام والنكال والتعذيب .

ومنذ جهر رسول الله بالدعوة إلى الله وعالن قومه بضلال ورثوه عن آباءهم ، انفجرت مكة بمشاعر الغضب ، وطلت عشرة أعوام تعدُّ المسلمين عصاة ثائرين على نظامها ، فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم .

وصاحبت هذه الأحقاد المشتعلة حربا من السخرية والتحقير ، قصد بها تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية ، فكانوا يرمون النبي وصحابته بالتهم الهازلة والشتائم السفيهة وتألفت منهم عصابة للاستهزاء بالإسلام وأهله ، على نحو ما تفعل الصحافة المعارضة عندما تنشر عن الخصوم النكت اللاذعة والصور المضحكة للحط من مكانتهم لدى الناس ، فالرسول ينادي بالجنون: وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون .

أو ويوصف بالسحر والكذب: وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب . ويشيع ويستقبل بنظرات حاقدة وعواطف منفعلة: وإن يكد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون .

وكذلك كان حظ سائر المسلمين ، فهم في غدوهم ورواحهم محل التندر واللمز: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين وانقلبت هذه الحرب إلى تنكيل وسفك دم بالنسبة للمستضعفين من المؤمنين كما يغفل الضالون اليوم فيقولن عن المؤمنين متعصبون إرهابيين فمن ليست له عصبة تدفع عنه لا يعصمه من الهوان والقتل شيء ، بل يحبس على الآلام حتى يكفر أو يموت أو يسقط إعياء .

ومن هؤلاء عمار بن ياسر ، وهو من السابقين الأولين في الإسلام ، أسلم هو وأبوه وأمه ، فكان المشركون يخرجونهم إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها ، ويمر الرسول وهم يعذبون فيقول: (( صبرا آل ياسر . . .)) فمات ياسر في العذاب ، وأغلظت أمه سمية القول لأبي جهل فطعنها بحربة فكانت أول شهيدة وشددوا العذاب على عمار وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا ، ففعل فتركوه وجاء إلى الرسول وهو يبكي فقال: (( له ما راء يا عمار؟)) قال : شر يا رسول الله فأخبره ، فقال له: ((فإن عادوا فعد . .)) وفيه أنزل قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان .

ومنهم بلال بن رباح الحبشي الذي صبوا عليه العذاب صبا وهو لا يزيد على أن يقول: أحد أحد . .

ومنهم صهيب الرومي : أسلم فعذبته قريش عذابا شديدا ، ولما أراد الهجرة منعوه حتى تنازل لهم عن ماله كله، ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله .

ولم يكن هذا كله خاصا بالرجال: فإن المرأة المؤمنة قد نالها قسط كبيرا من هذا العذاب والاضطهاد فمنهن : لبينة . . كان عمر ليعذبها حتى تفتن ويدعها ويقول : إني لم أدعك إلا سآمة وكذلك كان يفعل مع زنيرة ، ومنهن الهندية ، وأم عنيس وغيرهن كثير .

واشتدت ضراوة قريش بالمستضعفين ، فذهب أحدهم وهو خباب بن الأرت إلى رسول الله وهو متوسدة بردة في ظل الكعبة فقال : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعوا لنا ، فقال : (( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتي بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأقساط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون )) نعم ، والله ليتمن الله هذا الأمر ، فماذا عسى أن يفعل محمد لأصحابه أكثر من هذا ، فالأمر ليس بيده ، ولكنه واثق بربه سبحانه أنه لن يضيعه ولن يضيع دينه ، وهو لم يجمع أصحابه على مغنم عاجل أو آجل ولم يمنيهم بالمناصب والأموال فحسبه أن أزال الغشاوة عن أبصارهم فأبصروا الحق ، ومسح الران عن قلوبهم فعرفت اليقين ، حسبه أن وصل البشر بربهم فربطهم بنسب عريق وسبب وثيق وكانوا من قبل حيارى محسورين ، إنه وازن للناس بين الخلود والغناء فآثروا الدار الآخرة الباقية على الدار الزائلة ، وخيرهم بين أصنام حقيرة وإله عظيم ، فازدروا الأوثان المنحوتة وتوجهوا لله الذي فطر السماوات والأرض ، وحسب محمد أن أوضح طبيعة المعركة بين الحق والباطل ليلزم أهل الحق حقهم فهو منصور ولو بعد حين: وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون .

ولو تساءل المرء عن سبب موقف قريش هذا لما يكيدون للحق ، لما يقابلون الكلمة الصادقة التي جاء بها محمد بهذا كله ، لو تساءل لوجد الجواب في سنة الله تعالى في خلقه في ذلك الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ .

فالله تعالى يقول عن إبراهيم وعد موقف قومه منه بعد أن عزوا عن مقارعة الحجة بالحجة قال: قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين . قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين .

وعندما رأى فرعون آيات ومعجزاته لموسى الذي جاءه بكلمة الحق: قال للملأ من حوله إن هذا الساحر عليه يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون .

وكذلك قال فرعون للسحرة أن أمنوا: قال فرعون أمنتم به قبل أن أذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في الدنية لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين . وكذلك حكى الله عنه قوله: قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون .

وحكى الله تعالى موقف قوم نوح منه: قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بين وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/335)

دروس من سورة يوسف

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة

الرؤى والمنامات, القرآن والتفسير

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

رؤيا الملِك – الفرق بين الرؤيا والأحلام – خطر حاشية السوء – بركة رأي العلماء الهدي النبوي في النوم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقال الله تعالى: وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين [يوسف:46].

تتحدث هاتان الآيتان من سورة يوسف عن رؤيا مناميه رآها الملك الذي كان يحكم مصر في عهد يوسف الصديق عليه السلام وقد جعل الله تعالى تلك الرؤيا سبباً لكشف الغمة وإزالة الكربة عن يوسف وسبباً لإخراجه من السجن, فإن ذلك الملك ويبدو من سياق الآيات أنه كان عاقلاً حكيماً محباً للعدل فأهمته تلك الرؤيا التي تكررت عليه بهيئتين مختلفين, فسأل حاشيته وطلب منهم تفسيرها ولكنهم لم يرووا غليل الملك وتخبطوا في الجواب وهنا دروس ولفتات ننبه السامعين إلى بعضها:

أولاً: من الأدب للإنسان أن يلجأ إلى من يأنس فيه العقل والعلم ليستفتيه, لا يجوز له أن يستفتي كل من هب ودب فإن العلم لا يؤخذ إلا من مصادره, ومن طلب العلم من غير مصادره هلك, وذلك الملك لم يسأل أي أحد إنما سأل علية القوم وصفوة مجتمعه, سأل حاشيته وحاشيته كانوا علية القوم بدليل أنه وصفهم بالملأ والملأ في لغة القرآن هم علية القوم وصفوتهم بل أكثر من ذلك يبدو أن حاشيته كانوا من العلماء والفقهاء من أهل ملته بدليل أنه طلب منهم الفتوى أفتوني والفتوى معناها بيان العلم وليس بيان كل أحد يسمى فتوى بل بيان الفقيه وحده هو الذي يسمى فتوى, وقد أرشدنا القرآن إلي هذا الأدب الرفيع فأمرنا أن نطلب العلم والفتوى من أهلهما فقال سبحانه وتعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [الأنبياء:7]. وأهل الذكر هم العلماء وأولو الأمر في القرآن الكريم هم العلماء, ما أشد حاجة الناس إليهم فحاجة الناس إلى العلماء أشد من حاجتهم إلى الشمس والهواء والطعام والماء فهم من ضروريات الحياة لا يستغني عنهم أحد كائن من كان لا الرعاة ولا الرعية ولا الخواص ولا العوام, ومن ظن في نفسه أن يستغني عن العلماء فقد هلك لأن إرث الأنبياء الذي به قوام الحياة هو عند العلماء فهم ورثة الأنبياء.

ثانياً: فإن حاشية هذا الملك مع كونهم صفوة ذلك المجتمع ومع كونهم من علماء تلك الملة إلا أنهم لأمر ما ولسر لم تبينه الآيات لم يقدموا جواباً شافياً للملك بل تخبطوا في الفتوى وتسرعوا في الجواب فحكموا أولاً بأن تلك الرؤيا التي رآها هي من قبيل أضغاث الأحلام أي أباطيلها وتخاليطها وأضغاث الأحلام عادة تكون من حديث النفس أو من وسوسة الشيطان بخلاف الرؤيا الصادقة فهي حق وهي جزء من بضع وستين أو بضع وسبعين جزءاً من النبوة, ولكن أولئك الحاشية بعد أن جزموا أولاً ببطلان تلك الرؤيا عادوا فاحترزوا لأنفسهم خوفاً من عواقب الأمور فبينوا جهلهم بتفسير الأحلام وتعبير الرؤى وهكذا تتحكم مختلف الدواعي الشريرة والنوايا السيئة ويتحكم تغليب الأهواء والمصالح الذاتية على الحاشية حتى ولو كانوا من العلماء فبدلاً من أن يحاولوا الإصلاح ويبدوا النصح ويبينوا الحقائق بدلاً من ذلك يحجبون الحقائق عن الحاكم ويحرمونه من النصح ولا يحاولون الإصلاح بل أكثر من ذلك قد يقفون عقبة في وجه أهل الإصلاح ويزيفون الأمور للحاكم ويقلبون له الحق باطلاً والباطل حقاً, يزينون له كل شيء يوهمونه أن كل شيء على ما يرام وأن الناس في خير حال لا يشتكون من أية مشكلة ولا ينقصهم أي شيء حتى لو كانوا لا يجدون الماء الذي يشربون ولا الطعام الذي يأكلون ولا يجد الشباب منهم ما يتزوجون ولا يجدون ما يتوظفون ومع ذلك يحجبون عنهم كل هذه الحقائق, جوقة النفاق وحاشية السوء, انهم غشاوة علي بصر الحاكم وبصيرته وهم والله من أشد المصائب العامة التي تحل بالمجتمع ضرراً وفساداً وإفساداً ولذلك فجهود أهل الإصلاح مع أهل الحكم تصبح كمن ينفخ في قربة مقطوعة ما لم يتخلص المجتمع من مثل هذه الحواشي السيئة من جوقات النفاق ويطهر المجتمع من رجسهم ومن خبثهم ونفاقهم, لو أن الحاشية سلمت من النوازع الشريرة ومن النوايا السيئة ومن عبادة الأهواء والمصالح الذاتية, لو أن الحاشية حاولوا الإرشاد والنصح إذاً لوجدوا فرصاً عظيمة لذلك يقدمون فيها المشورة السديدة التي تعود على الناس وعلى المجتمع بالنفع والخير العميم كما حدث هنا في هذه القصة القرآنية العظيمة, فتلك الرؤيا التي رآها ذلك الملك كانت صادقة علي الرغم من زعم حاشية السوء أنها رؤيا باطلة بل كانت رؤيا حق, كانت إشارة ربانية وتحذير رباني لذلك المجتمع بعواقب مريرة ومحن اقتصادية ستحل بهم قريباً.

واهتبل يوسف الصديق عليه السلام هذه الفرصة فلم يكتف فقط بتفسير الرؤيا وتعبيرها لهم بل انتهز الفرصة وأسدى لهم النصح وحاول الإصلاح وقدم المشورة السديدة بل اقترح عليهم برنامجاً اقتصادياً متكاملاً يتلافون ببركته شر تلك المحن المقبلة عليهم, بينما تلك الحاشية الفاشلة وقفت عاجزة عن الإصلاح, وقفت تمثل الفشل الذريع والعجز عن الإصلاح وهكذا فلله في خلقه شؤون يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: ففي الصحيحين عن البراء بن عازب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أوى أحدكم إلى مضجعه فليتوضأ وضوءه للصلاة وليضطجع على شقه الأيمن ثم ليقل: اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((ولتجعلهن آخر كلامك فإنك لو مت من ليلتك مت علي الفطرة))(1)[1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا هدى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نبينه بمناسبة الكلام عن الأحلام والرؤى فإنها تتعلق بحالة المنام وهذا هو الهدي النبوي في هذه الحالة:

أولاً: أن يقدم المسلم على النوم وهو متطهر متوضئ وضوءه للصلاة.

ثانياً: أن يضطجع على شقه الأيمن فهذه أفضل هيآت النوم فهناك هيآت أخرى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقد رأى النبي رجلاً منبطحا على وجهه فقال: إن هذه ضجعة لا يحبها الله.

ثم بعد ذلك فلنعلم جميعاً أن النوم أخو الموت بل هو أحد نوعي الوفاة فالله يتوفى الأنفس حين موتها ولذلك شرع للإنسان أن يذكر الله تعالى في هذه الحالة وأن يقدم على هذا الموت الأصغر بهذا الدعاء الذي جمع بين الإسلام والإيمان, فالإسلام في قوله: ((أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك)) هذا هو الإسلام فان الإسلام معناه الاستسلام الكامل لله تعالى في جميع الأحوال والإنسان في جميع أحواله لا يخلو من حالين من حال الرغبة أو حال الرهبة, إما هو يسعى لجلب المصالح لنفسه وهذه هي الرغبة وإما هو يسعى لدفع المضار عن نفسه وهذه هي حال الرهبة, رغبة ورهبة إليك ,فالإسلام هو الاستسلام الكامل لله تعالى في كل أحوالك وأن تعلم أنه لا نجاة من الله إلا إليه ولا ملجأ من الله إلا إليه.

وأما الإيمان ففي قوله: ((آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت)) وهذان يتضمنان الإيمان بكل الأركان الستة فمن آمن بما أنزل الله آمن بكل ما جاء فيما أنزل الله ومن آمن بمن أرسله الله صلى الله عليه وسلم فلقد آمن بكل ما أخبر به وأمر به وزجر عنه فهذا هو الإيمان بالأركان الستة.

فإذا مات الإنسان وهو نائم علي هذا الدعاء فقد مات على الفطرة أي مات على ملة الإسلام, ملة التوحيد فالرجاء عظيم في نجاته يوم لا ينفع مال ولا بنون, قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنفال:162]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن يتمثل المسلم الإسلام في سائر أحواله ويحقق التوحيد في سائر أحواله في تقلباته في نومه وفي يقظته.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[2]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبى السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) البخاري كتاب الوضوء (244).

(2) صحيح مسلم (408).

(1/336)

شروط كلمة التوحيد

-----------------------

التوحيد

أهمية التوحيد, شروط التوحيد

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- التوحيد جزاؤه الجنة. 2- شروط كلمة التوحيد (العلم – اليقين – القبول – الانقياد – الصدق - المحبة – الاخلاص).

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

أيها المؤمنون : فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً .

واعلموا أيها المؤمنون:

أن الله سبحانه وتعالى قد ربط الأمور بنتائجها والأسباب بمسبباتها ، وجعل لكل غاية سبيلا وطريقا وإذا كان المسلم يرجوا دائما رحمة الله ويطمع في جنته الغالية ، فإن ذلك لن يتحقق بمجرد الأماني والدعوات فإن الله سبحانه وتعالى قال: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به وقد جعل الله تعالى كلمة التوحيد والإيمان سبيلا موصلا إلى جنة الخلد والرضوان ، فعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله يقول: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار )) وعن أبي ذر أن رسول الله قال: (( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة )).

ولكن قد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة ، ويغتر بكلمة يديرها على لسانه ، يظنها مفتاحا للجنة ، بمجرد نطقها بلسانه ، غافلا عن أن لها شروطا ينبغي أن تتحقق ومستلزمات ينبغي أن نعمل بمقتضاها ، لتكون عندئذ مفتاحا صالحا لفتح أبواب الجنة ، وقد سئل يوما التابعي الجليل وهب بن منبه رحمه الله : أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ فقال: بلى ، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت مفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.

أليست هذه قاعدة عامة يا معشر المسلمين إنه إذا تحقق الشرط تحقق المشروط ، ودخول الجنة بكلمة التوحيد مشروط بجملة من الشروط ، إذا تحققت كلها كانت هذه الكلمة سبيلا إلى الجنة ، وإلا فإنها لن تكون كذلك ، إذ عدم تحقيق هذه الشروط فيه ترك لكثير من الأوامر التي جاء بها الرسول .

ولعل هذه الشروط تكون واضحة بما نشير إليه عنها ، فاحرص يا أخي المسلم عليها وتحقق بها لئلا تقف أمام باب الجنة فترد ولا يفتح لك .

1-إن لكل شيء حقيقة ولكل كلمة معنى ، فينبغي عليك أولا أن تعلم معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله . . تعلم ذلك يقينا منافيا للجهل ، إذ يراد بها نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها لله وحده ، ولذلك قال سبحانه: فاعلم أنه لا إله إلا الله ، وقال : (( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).

2-ويكتمل هذا الشرط بشرط آخر هو اليقين الذي ينافي الشك ، ومعنى ذلك أن تستيقن يقينا جازما لا يداخله أي شك أو تردد بمدلول كلمة التوحيد ، لأنها لا تقبل شكا ولا ارتيابا ولا ظنا، فقد جعل الله تعالى هذا اليقين علامة على الإيمان فقال: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون .

3-وإذا علمت وتيقنت فينبغي أن يكون لهذا العلم أثره ، فيدفعك إلى القبول لما تقتضيه هذه الكلمة وتطلبه منك بالقلب واللسان، فمن رد هذه الكلمة ولم يقبلها كبرا أو حسدا فإنه يكون كافرا ، فقد قال الله تعالى عن الكفار: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون . أما المؤمنون الذين قبلوها فلهم النجاة عند الله وعداً منه ولا يخلف الله وعده: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين .

4-والشرط الرابع : الانقياد لما تطلبه منا من الطاعة والالتزام انقيادا تاما ، وذلك هو المحل الحقيقي والمظهر العمل للإيمان ، ويحصل هذا يا أخي المسلم بأن يعمل بما فرضه الله عليك وأن تترك ما حرمه الله تعالى عليك ، وعندئذ يتحقق الإيمان ، فقد أقسم الله تعالى بذلك فقال فلا وربك . . . وقال : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )).

5-والشرط الخامس : أن يقولها الإنسان صادقا من قلبه ، ليبتعد بذلك عن الكذب والنفاق ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ولا يطابق هذا ما في قلوبهم: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . وفي الصحيحين من حديث معاذ : ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار )).

6-وأما الشرط السادس فهو المحبة ، بأن يحب المرء هذه الكلمة والعمل بمقتضاها ، ويحب أهلها المطيعين بها والعاملين بها ، ومن أحب شيئا من دون الله فقد جعله ندا لله وشريكا: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله . ومتى استقرت هذه الكلمة عقيدة في القلب فإنه لا يعدلها شيء فقد قال : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار )). ولو رجعنا إلى تاريخ الصحابة وحياتهم لوجدنا أروع الأمثلة على ذلك ، أبو بكر في دفاعه عن رسول الله ، وعلي في فدائه للرسول ، وخبيب بن عدي ، حتى قال أبو سفيان : ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدا محمدا .

7-وتلك الشروط كلها لا تنفع وحدها ما لم يتحقق سبب القبول عند الله تعالى وهو الإخلاص لله تعالى أي صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية القلب والعمل بصالح النية عن كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه ، وقد تواردت الآيات في ذلك، فمن كان يرجو لقاء ربه .

وفي الحديث عن عتبان بن مالك عن النبي قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل )).

فاحرص يا أخي المسلم : على كلمة التوحيد بشروطها تلك ، واحذر من كل ما ينافيها ، فإن ما ينافيها يوقع في الشرك قد يكون أخف من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وقولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/337)

النفاق وأنواعه

-----------------------

الإيمان

نواقض الإيمان

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- صفات المنافقين كما وردت في القرآن الكريم. 2- صور من النفاق. 3- أنواع النفاق وحكم كل منها.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

فما أعظم خسارة أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أولئك الذين يظنون أنهم قادرون أن يخادعوا الله والذين آمنوا ، ولكنهم لضلالتهم وغفلتهم لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .

أولئك هم المنافقون الذين كشف الله حقيقتهم في القرآن الكريم وتحدث عنهم حديثا مستفيضًا رأينا بعض ملامحه في الأسبوع الفائت ، وتعرفنا على خطورة النفاق والمنافقين ونشأتهم وكفرهم .

ولخطورتهم تحدث الله تعالى عنهم كثيرا وبين صفاتهم وأخلاقهم :

1-فهم الذين في قلوبهم مرض ، بل النصيب الأكبر من مرض القلب وفساده من حظ أولئك المنافقين: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً .

2-وهم الذين يتحاكمون إلى الطاغوت ويتركون حكم الله سبحانه مع أنهم يزعمون الإيمان بالله ورسوله: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً .

3-وهم الكاذبون الذين يتخذون أيمانهم الكاذبة ستارا لإخفاء كفرهم على الناس: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون .

4-وهم الذين يعيبون المؤمنين ويسخرون منهم ولا يرضيهم منهم شيء وهم الذين يغدرن ولا يوفون بالعهد: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون .

5-ثم هم الذين يفسدن في الأرض: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .

إنه نموذج للمنافق الشرير ، ذلك اللسان الذي يعجبك منه منظره ويسوؤك مخبره ، يتحدث كأنه خلاصة الطهر والنقاء والإخلاص والخير ، ولكنه امتلأ في إهابه خصومة وفسادا ، يسعى لإهلاك كل ما في الحياة من خير وأعجب ما فيه أنه عندما يفسد يزعم أنه يصلح ، وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون .

بل إنهم يتظاهرون أمام الناس بأنهم على حق وأن غيرهم من المؤمنين على باطل فيقولون قولة فرعون المشرك الوثني الذي ادعى الألوهية وقال للقوم أنا ربكم الأعلى ، الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، ولكنه يزعم أنه يريد المحافظة على الدين لئلا يفسده النبي موسى وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر الأرض الفساد .

إنها والله نكتة طريفة ، فاقع لونها ، فهل هناك أطرف وأعجب من أن يدعي فرعون عن موسى أنه يريد أن يبدل الدين ، وإنها لتتكرر في كل زمان ومكان .

ولذلك يزدادون في الفساد ويقيمون عليه عندما يتخذون وسائل ظاهرها الخير ليجعلوها مركزا التآمر على المسلمين والإضرار بهم ، فقد قال الله تعالى عنهم: والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاَ بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون .

وقد أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة في أعقاب مؤامرة دبرها المنافقون ، فقد كان هنالك رجل من الخزرج اسمه أبو عامر الراهب الفاسق كان قد تنصر في الجاهلية وقرأ كتب القوم.

ولا يزال مسجد الضرار يتخذ صورا شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين في صور ظاهرها الدعوة للإسلام والحرص عليه وباطنها لسحق الإسلام وتشويهه ، فلم يكن عجبا أن ينفق القرآن جهدا كبيرا لبيان حقيقة أولئك المنافقين وصفاتهم ليعرفهم المسلمون بسلوكهم وواقعهم: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم .

هذا العدو قاتلهم الله أنى يؤفكون ؟

وليس النفاق نوعا واحدا أو درجة واحدة ، بل هو نوعان اثنان :

أما الأول منهم وهو أخطر النوعين ، ذاك هو نفاق الاعتقاد ، الذي يخلد صاحبه في النار بل يجعله في الدركات السفلى من النار ، وذلك بأن يظهر صاحبه الإيمان وهو في الحقيقة على الكفر الباطن ، وقد يقر بوجود الله ويؤمن به ، ولكنه لا يرى متابعة الرسول عليه السلام وتصديقه فيما أخبر به ، وعلى هذا النوع كان عبد الله بن أبي وطغمته من المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً . وقال: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً . وقال سبحانه آمرا محمدا عليه الصلاة و السلام ألا يصلي على أحد مات منهم أبدا ،لأنهم كفار مرتدين ، فقال: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .

والنوع الثاني : هو الذي لا يخرج الإنسان من الدين ، ولكنه من أكبر الذنوب والمعاصي ، وهو النفاق والعملي ، ومن أمثلته هذا النفاق الرياء ، ومنهم الكذب والغدر وعدم الوفاء بالوعد لقول النبي فيما رواه أبو هريرة : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان)).

فاحذروا النفاق والمنافقين وخداعهم ، واحذروا التخلق بأخلاقهم فإنه خطر عظيم وجر إلى الكفر والخسران والبوار ، ولخطورتهم الشديدة شن الله تعالى عليهم حملة كبيرة ، وتحدث عنهم حديثا مستفيضا ليبين حقيقتهم أمام المسلمين وليحذروهم ، كان لا بد من أكثر من حديث عن هؤلاء المنافقين وصفاتهم ومواقفهم ، أرجو الله أن يوفق لذلك ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/338)

صراع الخير والشر

-----------------------

سيرة وتاريخ

السيرة النبوية

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تعرض الصحابة لصنوف الأذى من قريش. 2- أمر رسول الله بالهجرة إلى الحبشة. 3- قريش تشكوا الصحابة إلى النجاشي. 4- جعفر يجهر بالدعوة في بلاط النجاشي.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :

إن من سنة الله في هذا الكون أن يَجد الخير والشر والحق والباطل ، وهما في صراع دائم لا يفتر ولا ينقطع وإن أهل الباطل والضلال يبتكرون من الوسائل ما يمكنهم من أذى المسلمين ومضايقتهم ، فقد رأينا زعماء قريش لم يكتفوا بمواقف الصد والمعارضة والتحدي والنظري ، بل إن بُغاتهم قد يجاوزوا ذلك إلى إيقاع الأذى على المسلمين وفتنتهم عن الإسلام إلى الكفر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .

ونظر رسول الله إلى أصحابه فكانوا بين أمرين :

إما أن يظلوا يتعرضون للأذى وقد تخون بعضهم أعصابهم فيضطرون إلى الارتداد .

وإما أن يصبروا حتى يودي الصبر بحياتهم تحت التعذيب ، وما ذاك إلا لأنهم أمنوا بالله: وما نقموا إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ، وكان لابد من عمل ينقذ به عليه الصلاة والسلام القلة المؤمنة من الصحابة ويدفع عنهم الأذى ، ويهيئ لهم المكان الآمن الذي يأمنون فيه من عدوان الباطل ، وما كان هذا ليتنافى مع الصبر والتضحية فيما كان هذا التفكير إلا بعد الصبر والتوكل على الله :

قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .

وكانت هذه الآية الكريمة إذ تأمن الله تعالى لأولئك المؤمنين الصادقين البررة المعذبين المضطهدين بالهجرة فقال لأصحابه: ((لو خرجتم إلى الحبشة ، فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه )).

فخرج المسلمون على دفعتين الأولى أحد عشر رجلا وأربع نساء ، والثانية ثلاثة وثمانون رجلا وثماني عشرة امرأة ، فيهم المستضعفون والذين لا يجدون من القوم نصرة ، وفيهم أبناء الأسر الكبيرة من قريش الذين يجدون لهم من زعامة أبائهم سندا ونصيرا ، فكان خروجهم ضربة عنيفة لقريش وكبريائها وجحودها ، وإحباطا لجهودها وإغراء لعامة الناس بالهجرة ، وحل المسلمون ضيوفا كراما على أصحمة النجاشي : فآواهم وأكرمهم ، ولما علمت قريش بذلك ساءها الأمر وبعثت وفد مكونا من عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص ، بعثتهما بهدايا وتحف إلى النجاشي ليرد المسلمين على المشركين ، قالوا للنجاشي : أيها الملك : إن ناسا من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردهم إليهم فهم أعلم بهم .

ورأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية ، وسماع أطرافها جميعا ، فبعث إلى أصحاب محمد وسألهم فتكلموا وقد أجمعوا على الصدق ، وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب فقال: أيها الملك : كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ، فصدقناه واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا إلى عبادة الأوثان ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين دينك ، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك. ولما وشى المشركون بالمسلمين فذكروا للنجاشي أنهم يقولون في عيسى غير ما يعتقده النجاشي سأل جعفر : هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم ، فقرأ عليه من سورة مريم حتى وصل إلى قوله تعالى: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً .

فبكى النجاشي وأساقفته ، وأخذ عودا من الأرض وقال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل قدر هذا العود ، ثم قال لهم: اذهبوا فأنتم آمنون بأرض من سبكم غرم ، ثم قال للوفد المشرك ، لو أعطيتموني جبلا من ذهب ما سلمتهم إليكما ، ثم أمر فردت عليهم هداياهما ، ورجعا يجران أذيال الخيبة والفشل والخذلان .

وكتب الله لأولئك المؤمنين بعد النصر والتمكين والأجر: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذي صبروا وعلى ربهم يتوكلون .

أما لماذا كانت الهجرة إلى الحبشة بالذات ولم تكن إلى بلد غيرها ؟

فلعل سر الاختيار أيها الاخوة ،لأن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، كما وصفه النبي وكذلك تيسر السفر إليها في تلك الظروف التي كانت تحيط بهم ، وكما أنه سيمت بصلة إلى ما كان موقف حسنٍ لبعض أهل الكتاب من النصارى الذين وقفوا موقفا إيجابيا من الدعوة الإسلامية .

وقد يكون مما يخطر بالبال: أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية ذلك الأمل في وجود مجال للدعوة فيها، ولعل فيما روي عن إسلام النجاشي وغيره من الأحباش ووفادة لبعضهم على النبي مسلمين مستطلعين ، ما يستأمن به على صحة هذا المخاطر ، إذ يرى أثر الفجاج لهذه الدعوة في هائل الديار: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/339)

يوم النصر للمجاهدين الأفغان

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القتال والجهاد, المسلمون في العالم

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تحقق النصر بعد الصبر والتكاتف 2- سقوط فلسطين بيد اليهود إحباط يعيشه المسلمون 3- دور الجهاد في تفكك الاتحاد السوفيتي 4- موقف المنظمات الفلسطينية من الجهاد الأفغاني 5- دعوة لجعل المعركة مع اليهود معركة عقائدية 6- فضل الجهاد وضرورة الإعداد

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تبارك وتعالى: ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [العنكبوت:6].

هذا اليوم هو يوم المجاهدين الأفغان، نشاركهم بهجتهم وفرحتهم ونهنئهم ونهنئ أنفسنا وجميع المسلمين بهذا الظفر وهذا النصر الذي أحرزته قضيتهم، تلك القضية التي أشغلت المسلمين وأهمتهم أكثر من ثلاث عشرة سنة، التي لقيت منهم التأييد الكبير والتعاون والتكاتف خاصة في هذه البلاد مهبط الوحي ومركز الحرمين الشريفين وموئل الإيمان ومحرزه – فقد لقيت هذه القضية كغيرها من القضايا الإسلامية التأييد والدعم الواضح الكبير، ولقد كان لوعي إخواننا الأفغان وصبرهم وإصرارهم على القتال وشدة بأسهم في النزال أكبر الأثر في نجاح قضيتهم. والفضل أولا وأخيرا لله تبارك وتعالى الذي من على المسلمين بهذا النصر، وبرجوع اللاجئين إلى ديارهم وبقيام دولة الإسلام تحكم شريعة الله فيهااليوم يوم الدروس والعبر من هذا الظفر:

فأولا: هذا أول نصر نذوق طعمه نحن المسلمين في هذا العصر، نحن أبناء هذا الجيل الذي عشنا في عصر الهزائم، اعتدنا على الهزائم والنكسات، لم نذق طعم النصر أبدا حتى كاد اليأس والإحباط يستوليان على النفوس وحتى نسينا طعم النصر. فلقد شهدنا سقوط المسجد الأقصى وكيف؟ هكذا بالتقسيط في عام 48 بتاريخ النصارى، القدس في يد اليهود إخوان القردة والخنازير، وفي سنة 67 سقط النصف الثاني من القدس. وهذا الظفر الذي نعيش في أجوائه اليوم هو أول ظفر نذوق طعمه وإن كان طعما فيه شيء من المرارة، وإن كان ظفرا لم يسلم من بعض المنغصات والمكدرات، ولكنه على أية حال يعد من الانتصارات.

ثانيا: هذا الظفر إنما تحقق ببركة الجهاد ورفع راية الجهاد والتمسك بشعار الإسلام الذي رفع لواءه إخواننا المجاهدون الأفغان وصبروا عليه حتى آخر لحظة، هذه بركات الله أكبر، فانظروا إلى أي شيء انتهت الله أكبر، إلى الظفر، إلى سقوط أعتى دولة على وجه الأرض – الاتحاد السوفيتي – فلا شك أن جهاد الأفغان الإسلامي قد عجل بانهيار هذا الصنم الأحمر، ولما سقطت تلك الدولة، سقط ذنبها في كابول، وهذه عادة الأذناب، ماذا تفعل الأذناب إذا سقطت الرؤوس أو تخلت عنها؟

وفي هذا الظفر وهذا النصر الإسلامي المؤزر للجهاد والمجاهدين درس بليغ لأولئك الذين يريدون تحرير بلادهم المغتصبة بالمفاوضات. وهم مثخنون بالجراح يعرجون من كثرة الهزائم، منظمات الترقيع والتوقيع التي تريد تحرير فلسطين بالمفاوضات وتناضل ضد العدو المغتصب من الفنادق والقاعات. تلك المنظمات، منظمات العدل والخيانة، التي كادت من قريب أن تقطع اليد التي كانت تمدها بالعون والتأييد، التي تنكرت للإسلام والمسلمين وتركت أكثر من مليار مسلم وراءها ظهريا وشوهت قضيتهم الأولى، قضية المسجد الأقصى.

تلك المنظمات من أعجب العجب أنها وقفت ضد الجهاد الأفغاني مناصرة لذلك الصنم الأحمر – منظمات الغدر والخيانة يريدون أن يحرروا المسجد الأقصى باسم البعث الملحد وباسم القومية العفنة وباسم العلمانية الكافرة.

ولقد قالوا ذات يوم: إنهم لا يقاتلون باسم الدين، لا يريدون تحرير فلسطين والمسجد الأقصى باسم الدين، فليهنؤوا إذن بالهزائم تلو الهزائم والنكسات بعد النكسات.

أبشري بطول السلامة يا إسرائيل إن كان هؤلاء الذين يناضلون وهم الذين يريدون تحرير فلسطين، فهم لا يحاربون باسم الإسلام عدوا يحاربهم باسم التوراة وباسم أرض الميعاد وباسم إسرائيل – نبي الله يعقوب الذي هو منهم براء.

هذا درس لهؤلاء، أن الجهاد هو وحده الطريق، الطريق إلى الظفر، ولكِ الله يا فلسطين، لك الله يا مسجدنا الأقصى الأسير، إن موعدك ليس مع هؤلاء، إن موعدك مع أولئك المجاهدين الفلسطينيين الحقيقيين حينما ينبعثون ويرجعون إلى الله أكبر، سيحرروك بعون الله وحوله وقوته، ثم بعون المسلمين في أقصى الأرض، فهذه هي مهمتهم تحرير ثالث مسجد من اليهود الذين دنسوا حرمات ذلك المسجد حتى الثمالة.

ثالثا: إننا لنضع أيدينا على قلوبنا شفقة على هذا الظفر الذي حققه إخواننا الأفغان خشية أن يضيع، لأن الأعداء متربصون وقد عودنا هؤلاء الأعداء على سرقة الثمار والسطو على النتائج، فما لم ينالوه بقوة السلاح وما عجزوا عن نيله في ساحة القتال، فإنهم ينالونه بالمكر والخداع والمناورات السياسية. إنهم يستغلون مشاكلنا نحن المسلمين ونقاط الضعف فينا أسوأ استغلال ونحن في قمة فرحتنا بهذا الظفر، نرى الإذاعات الأجنبية يكشفون كل العيوب والنقائص حتى نظن أن هؤلاء المجاهدين سيأكل بعضهم بعضا، فتعال نلهج إلى ربنا بالدعاء، فإن الدعاء في الأيام المباركة، ويوم الجمعة منها، وفي المساجد المقدسة، ومسجد قباء وهذه المدينة منها، الدعاء في مثل ذلك هو من أعظم ما ندعم به إخواننا المجاهدين، فلنلهج بالدعاء إلى ربنا أن يلهم هؤلاء المجاهدين من أمرهم رشدا، اللهم ألهمهم من أمرهم رشدا وشد أزرهم ووحد كلمتهم وانزع الغل من صدورهم واجعلهم إخوانا تحت لواء الإسلام متفقين متكاتفين.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تكفل الله لمن خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله لا ينهزه إلا الجهاد في سبيله أو تصديق كلمته – أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة))(1)[1] متفق عليه.

نعم هي إحدى الحسنيين، إما الظفر وأن يعود المجاهد إلى دياره غانما منتصرا وإما الجنة. فإن من استشهد وهو يجاهد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله دخل الجنة وسلم من النار. قال سيدنا رسول الله: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد مسلم أبدا))(2)[2].

فالجهاد أقرب طريق إلى الظفر، والاستشهاد في سبيل الله أسرع طريق إلى الجنة، فلو علم المسلمون ما في الجهاد من فوائد ما شغلوا عنه أبدا. فالجهاد وحياة الجهاد فيها المنعة والقوة والعزة بينما حياة الخمول والاستسلام للشهوات فيها الذلة والقهر والهوان الشديد.

وهما حالتان لا يجوز للمسلم أن يخلو من إحداهما، لابد للمسلم أن يكون في إحدى هاتين الحالتين، إما الجهاد وإما الاستعداد للجهاد، والاستعداد للجهاد من الجهاد بل أهم مراحل الجهاد ويكون ذلك بنشر العلم بين الناس وبث الوعي وتصحيح الأفكار والعقائد ودعوة المسلمين إلى دينهم وشريعتهم.

فعلى المسلمين أن يعرفوا كلمة الله قبل أن ينفروا إلى الجهاد، فإنهم إن أخطأوا منهج الجهاد وطريقته فقد تذهب الدماء هدرا وتضيع الجهود هباء منثورا. فإما الجهاد وإما الاستعداد للجهاد.

__________

(1) البخاري كتاب الخمس (2955).

(2) أحمد (2/256)، ابن ماجة في أبواب الجهاد (2774)، وصححه الألباني.

(1/340)

التوحيد وأقسامه

-----------------------

التوحيد

أهمية التوحيد

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- عبادة الله هي الغاية من خلق الإنسان. 2- أقسام التوحيد 3- توحيد الربوبية. 4- استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فما خلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وما أرسل رسله وأنزل كتبه إلا ليقوم الناس بالحق، فالله تعالى هو الحق، وخلق خلقه بالحق لغاية وحكمة، فالله تعالى منزه عن الباطل، منزه عن العبث .

وهذا الإنسان ليس بدعا بين المخلوقات، فلم يخلقه الله تعالى عبثا، ولم يتركه سدى، وإنما خلقه ليكون خليفة في هذه الأرض، يعمرها وفق منهج الله تعالى، فيحقق بذلك غاية وجوده التي قال الله تعالى فيها: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .

فقد أمر الله تعالى الخلق أن يعبدوه وأن يفْرِدوه بالعبادة والتوحيد، وهذا هو ما جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام للدعوة إليه، منذ عهد نوح إلى أن ختموا بنبينا محمد .

وهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، مبناه على أن الله تعالى واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وواحد في ألوهيته وعبادته، لا ند له ولا شريك.

وقل إن شئت يا أخي المسلم، إن التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

وهذه الأقسام الثلاثة متلازمة، لا ينفك قسم منها عن الآخر، فتوحيد الربوبية، وكذلك توحيد يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية هو مقتضى توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الأسماء والصفات، والى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم . فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق العبادة لأنه هو الخالق وحده، ولذلك فمن أتى بنوع واحد من هذه الأنواع للتوحيد، ولم يأت بالأخرى، فإنه لم يأت بما أتى به على الوجه المطلوب، وعندئذ لا ينتج أثره المطلوب.

ولعله من الخير أن نخص كل نوع من هذه الأنواع بخطبة، بادئين بتوحيد الربوبية :

وتوحيد الربوبية هو اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى وحده هو خالق العباد ورازقهم، وهو محييهم ومميتهم، وأنه سبحانه وتعالى النافع الضار، والمتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، والأمر كله له سبحانه بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

فالله سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق، ومنذ البدء أخرج الله تعالى الحي من الميت . والخلق هو المعجزة التي لا يدري سرها أحد فضلا عن أن يملك صنعها أحد: إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون .

وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق، فكيف يكونون شركاء له في الربوبية والألوهية، فالمخلوق لا يكون خالقا ولا يكون أبدا شريكا للخالق، فهو وحده الذي يتوجه إليه بالعبادة: ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل . يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب . ولهذا أثره في النفس، فإن المؤمن لن يخاف من أحد ، ولن يكون جبانا.

وإذا تفرد الله تعالى بالخلق، فهو من ثم متفرد بالملك له ما في السماوات وما في الأرض: وقل الحمد الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .

ومن ثم فالله سبحانه هو رازق العباد وهو متكفل بذلك: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ، وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ، ومرّ معنا قصة الأصمعي مع الأعرابي: قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون .

وأما النفع والضر فهو كله بيد الله فهو النافع الضار، ولا يملك العباد لأنفسهم شيئا من ذلك: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ، ولن يجلب نفعا ولن يدفع ضرا عن أحد إلا الله: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، وفي وصية الرسول لابن عباس :واعلم أن الأمة ولو اجتمعوا. . . .

وكم تكون عظيمة خسارة أولئك الذين يعبدون آلهة من دون الله لا تنفع ولا تضر، وكم تكون سخيفة عقولهم ومخرفة نفوسهم وفطرتهم: و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون .

والله سبحانه وتعالى هو الذي يستجيب دعاء العبد، دون وساطة فهو قريب مجيب: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ، فمن الواجب أن يتجه المرء بالدعاء إلى الله تعالى وحده: وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين .

والله سبحانه وتعالى هو الذي يغيث عبده المضطر عندما يلجأ إليه، وعجيب أمر هذا الإنسان فإنه لا يذكر الله إلا في ساعة العسر والشدة، ولا يعود إلى فطرته إلا في ساعة الكربة، وأكثر ما يكون العبد تذكرا لله عندما يقع في الشدائد، ولكنه بعد ذلك ينسى الله تعالى في السراء بعد أن يكتب له النجاة من الضراء: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق .

ويقول تعالى: أمن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون .

وإذا أيقن المؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع الذي بيده الأمر كله، فينبغي أن يتجه إلى الله تعالى وحده بالعبادة، فإن توحيد الربوبية يستلزم ويقتضي توحيد العبودية، واسمعوا إلى قول الله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشاً . . ينبغي أن يتوجه المرء بالعبادة أيا كانت إلا لله سبحانه الذي فطر السماوات والأرض: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، ومن هذه المشكاة جاء دعاء النبي : ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)).

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/341)

الجار وحقوقه

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

عثمان بن جمعة ضميرية

الطائف

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- دعوة الإسلام للتماسك والتآخي بين المسلمين. 2- أمر القرآن بالإحسان إلى الجار. 3- حقوق الجار كما فصلتها السنة. 4- التحذير من الإساءة إلى الجيران.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فإن المسلمين في نظر الإسلام بنيان واحد، لبناته أبناء هذه الأمة، وكل لبنة في هذا البنيان تكون دعما لأخواتها تشد البناء وتقيمه، بمقدار ما تكون قوية متماسكة، مرتبطة ارتباطا وثيقا وبثبات الإسلام كيان واحد تمده بالحياة روح واحدة هي روح الإيمان التي لا تعرف لونا أو أرضا أو لسانا، ولقد كانت نظرة الإسلام العلمية في هذا الجانب نظرة واقعية، فعالج في أبناء هذه الأمة أسباب الضعف والتفكك، ودعاها إلى الأخذ بوسائل القوة، وجاءت تشريعاته من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات تؤكد هذا المعنى في الأمة وتجمعها على كلمة سواء، وكان أهم ما عني : حق الجوار ورعاية حرماته والتعاون معه قال الله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام .

والقرآن الكريم يفرض على المسلمين الإحسان إلى الجار قريبا كان أو بعيدا، وقد سلكه في سلك واحد مع عبادة الله وبر الوالدين والأقربين: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب الجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم .

فمن حق الجار على جاره أن يكون له في الشدائد عونا، وفي الرخاء أخاً يَأْسى لما يؤذيه، ويفرح لما يسره ويرضيه، ويأخذ بيده إذا أظلمت في وجهه الحياة، ويرشده إذا ضل أو أخطأ الطريق، ويهيئه إذا أصابه خير، ويبصره إذا ظلم، ويدفع عنه الأذى، فعن معاوية بن حيدة قال : قلت يا رسول الله : ما حقه ؟ قال: ((إن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقثار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)).

وقد بالغ الإسلام في تحذير أولئك الذين يرعون حق الجار حين أعلن أن المسلم الذي لا يهتم بشأن جاره ولا يحسن بإحسان، قد جافى خلقه الإيمان: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)).

والإحسان إلى الجار برهان قوي على الإيمان بالله ودليل عملي على صدقه، قال : ((اتق الله تكن أبعد الناس وأرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما)) وقد عظم حرمة الجار أكثر من غيره فقد سأل رسول الله عن الزنا فقال: حرام حرمه الله ورسوله فقال: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزن بامرأة جاره)).

وقد توعد رسول الله أولئك الذين يسؤون إلى جيرانهم حيث قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره))، ((فليحسن إلى جاره))، ((وخير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)).

والمسلم يحرص على المعاملة الطيبة لجيرانه ليكون ذلك سبيلا إلى الجنة ويبعد عن السوء لئلا يحجب عن رحمة الله، فقد روى الإمام أحمد: ((أن النبي قيل له: يا رسول الله إن فلانة،صوامة قوامة غير أنها تؤذي جيرانها، هي في النار، . .)) ولشدة عناية الرسول بحق الجار قال : ((ما زال جبريل يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).

وهذا الجار أيها المسلمون ليس الذي يلاصقك في المنزل أو يكون إلى جانبك في العمل أو السفر فحسب، بل إن الجيران يكونون به شيئا : ففيه أنس وحشتهم، وراحة بالهم، واستقرار حياتهم، وبه الأمن على كل مرتخص وغال عندهم، إنه غناهم حين يفتقرون، وأنهم حين يستوحشون و (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) .

فما أجمل أن يتخلق المسلمون بهذا الخلق، ويأخذوا أنفسهم بهذا المبدأ ويستنوا بسنة أكرم الخلق فيكونوا مع جيرانهم الأخيار الأطهار الذين يرجى نفعهم ويؤمن شرهم .

وإن من الواجب أن نأخذ أنفسنا بهذه التعاليم خصوصا ما كان متعلقا بالجار، فالفرد بجانبه آخر، والأسرة بجنبها أخرى، والأمة بجانبها أمم، حقٌ على كل أن يمد يده للمظلوم حتى ينتصر، وللفقير حتى يغنى، وللعاجز حتى يتقوى، وللمخطئ حتى يثوب إلى الصواب، وبذلك يربط الإسلام بين أبنائه ويجمع كلمتهم على الحق وتكتب لهم عندئذ الكرامة، ويكونون بحق أتباع محمد صلوات الله عليه، ويكونون الأمة الثابتة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة أو خير الناس.

فاتقوا الله عباد الله وقوموا أنفسكم واعملوا صالحا يكن لكم: يوم لا ينفع مال ولا بنون . . .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/342)

دروس من سورة يوسف عليه السلام ( التمكين ) – الربا

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, الكبائر والمعاصي

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

عاقبة حميدة للصابرين – تمكين يوسف – طلب الوزارة بين المشروع والممنوع خطبة 2: مصائب الربا : 1- لعنة الله 2- جهنم 3- ذنب عظيم 4- محق البركة 5- رد الدعاء 6- الجدب "

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقال الله تبارك وتعالى: وقال ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم [يوسف:54].

هذه بداية مرحلة جديدة في قصة يوسف عليه السلام، وطويت مرحلة، فلم يعد للقصة بعد ذلك أي ذكر للعزيز وامرأته فهنا مرحلة مطوية، هي مرحلة المحنة والابتلاء وفيها تجلى صبر يوسف وإصراره على عدم المعصية، وتجلى فيها عقله وحكمته وحسن تصرفه وتدبيره – وانتهت تلك المرحلة وطويت وجاءت المرحلة الجديدة، مرحلة التمكين، تتمثل فيها العاقبة الحميدة للمتقين وعناية الله تعالى وحمايته للصابرين، ونصرته لعباده الصالحين – وها هو يوسف يخرج من جوف المحنة وظلمات السجن معززا مكرما عظيم المكانة في القلوب، فها هو الملك نفسه يستخلفه لنفسه لما رأى من أمانته وعفته وموهبته وإخلاصه، فإن الغالب على أحوال الناس أن من كان منهم صاحب موهبة وخبرة يكون بلا أمانة وإخلاص وإن من كان منهم ذا تقوى وورع يكون بلا موهبة وخبرة، وأما إذا تواجدت الصفتان في شخص واحد فيكون نادرا. ولذلك استخلص الملك يوسف عليه السلام لنفسه وعزم على الاستفادة منه والاستعانة به، من خبرته وأمانته ولقد كان في أمس الحاجة إليه، فغالب الحاشية والموظفين منافقون ومرتشون سراقون.

ويبدو أنه كان ملكا حكيما وإن كان وثنيا كافرا، ومن عقله عرف قيمة هذا الشخص فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين أي لما كلمه وسمع منه، وقد كان يسمع عنه واشتد شوقه إليه وليس من رأى كمن سمع، فلما شاهده زادت هذه الشخصية كبرا وعظمة في نفسه. فاختار يوسف المالية، خزائن الأرض، ولكنه ما اختار ذلك إلا بعد أن رأى عزم الملك على توليته، فلا يقال كيف طلب الوزارة لنفسه ونحن نعلم أن طلب الإمارة منهي عنه في شريعتنا، ومن طلب الإمارة أو المناصب لا يولى إياها في شريعتنا، ولكن يوسف ما طلب هذه المسؤولية الشائكة إلا بعد أن عرض عليه الملك ذلك. إنه اختيار مدروس، فإن يوسف كان على علم بما ينتظر هذا المجتمع من كوارث نتيجة للفساد في هذا المجتمع من نهب ورشوة وفرض إثاوة وغير ذلك من أسباب مما يؤدي إلى انهيار الدول.

واختياره ذلك يدل على أنه عليه السلام لم ينظر لهذا المنصب نظرة رجل مهتم بالمنصب والمغنم ولكن نظرة رجل صاحب رسالة يريد الإصلاح، لذلك نظر إلى ذلك التمكين الذي عرض عليه – فاختار أصعب منصب وأشق مهمة في هذا المجتمع وهو التصدي للفساد وخاصة الفساد الاقتصادي الذي نخر في المجتمع.

وهكذا يجب أن يكون لنا في ذلك القدوة وخاصة أصحاب المراتب القيادية فإن المنصب والوظيفة ليست فرصة للنهب والسرقة والاختلاس، بل إنها مهمة وأمانة كلفت بها، فيجب أن تنظر إليها نظرة إصلاح.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

فإن الربا يجر على المجتمع المصائب الآتية:

اللعنة الإلهية أو الطرد من رحمة الله عز وجل، أعلن ذلك الصادق الأمين حينما قال في الحديث الذي نوهنا به سابقا ((لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه))(1)[1] فجميع من عمل به مطرودون من رحمة الله والعياذ بالله.

آكل الربا ومن يتعامل به حجز لنفسه مكانا في جهنم، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل جسد نبت عن السحت فالنار أولى به))(2)[2].

كل من أكل الربا أو تعامل به فقد أتى بابا من أعظم أنواع الكبائر، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((درهم من ربا يأكله الرجل أشد من ست وثلاثين زنية))(3)[3].

من أكل الربا أو تعامل به فقد حكم على ماله بالمحق والهلاك والدمار ونزع البركة ولا يغرنه الاستدراج والإمهال إذا كثرت أمواله الربوية: يمحق الله الربا ويربي الصدقات [البقرة:276].

فإنه يعاتب بألا يستجاب دعاؤه وألا تستجاب استغاثته، فإن الإنسان ضعيف تعرض له كوارث ونكبات فيحتاج إلى ربه، ولا يجد في كثير من الأحيان بل كل الأحيان، لا يجد إلا الدعاء، فإذا حرم من الاستجابة فهذا من أشد العقوبات. قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب رجل أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له))(4)[4]، أي لا يستجاب له أبدا. فاحذر أكل الحرام وأعظم الحرام هو الربا. وقد قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا سعد أطب مكسبك تجب دعوتك))(5)[5].

ومن أعظم المصائب التي تحل على المجتمع بشؤم أهل الربا والمتعاملين بها أن يحل بهم العذاب فيؤخذون بالسنين – أي بحبس المطر والغيث – فلولا دعاء المساكين ورجاء الفقراء والمساكين وبكاء الأطفال الذين لا يعقلوا ورغاء البهائم ما نزل المطر، ولكن الله رحيم وببركة هؤلاء ينزل المطر.

فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب))(6)[6].

أما بعد: فإن أفضل الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

__________

(1) مسلم كتاب المسافاة (1598).

(2) حلية الأولياء (1/31).

(3) أحمد (5/225)، صححه الألباني اسناده في المشكاة (2/859).

(4) مسلم كتاب الزكاة (1015).

(5) عزاه الهيثمي في المجمع للطبراني في الصغير ، وقال : (وفيه من لم أعرفهم) (10/294).

(6) أحمد (4/205). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...