65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الخميس، 18 مايو 2023

كتاب: الأصول في النحو الجزء الثاني تأليف: محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي 316هـ

ج2

كتاب: الأصول في النحو
الجزء الثاني

تأليف:  محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي

316
هـ

دراسة وتحقيق:
عبد الحسين الفتلي
الناشر:
مؤسسة الرسالة لبنان - بيروت
**************.
16
باب تمييز المقادير
الأصول في النحو
ج / 1 ص -307- باب تمييز المقادير:
المقدرات بالمقادير على ثلاثة أضرب: ممسوح, ومكيل, وموزون. أما ما كان منها على معنى المساحة, فقولهم: ما في السماء قدر راحة سحابًا, جعل قدر الراحة شيئا معلومًا نحو: ما يمسح به ما في الأرض وكل ما كان في هذا المعنى فهذا حكمه. وأما ما كان على معنى الكيل فقولهم: عندي قفيزان برا وما أشبه ذلك. وأما ما كان على معنى الوزن فقولهم: عندي منوان سمنًا وعندي رطل زيتًا. فالتمييز إنما هو فيما يحتمل أن يكون أنواعًا, ألا ترى أنك إذا قلت: عندي منا ورطل وأنت تريد: مقدار منا ومقدار رطل لا الرطل والمن1 اللذين2 / 352 يوزن بهما جاز أن يكون ذلك المقدار من كل شيء يوزن من الذهب والفضة والسمن والزيت, وجميع الموزونات, وكذلك الذراع يجوز أن يكون مقدار الذراع من الأرضين والثياب ومن كل ما يمسح, وكذلك القفيز والمكيل يصلح أن يكال به الحنطة, والشعير والتراب وكل ما يكال. فأما قولهم: لي مثله رجلًا فمشبه بذلك لأن المثل مقدار فذلك الأصل ولكنهم يتسعون في الكلام فيقولون: لي مثله رجلًا وهم يريدون: في شجاعته وغنائه أو غير ذلك. فإذا قلت: لي مثله زيدًا فذلك على بابه إنما يريد: مثل شيء في وزنه وقدره والهاء في مثله حالت بين مثل وبين زيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "المنا".
2
في الأصل "الذي".
=============.

ج / 1 ص -308- أن تضيفه إليه, وكذلك النون في "منوان" فنصبته كما نصبت المفعول لما حال الفاعل بينه وبين الفعل. ولولا المضاف, والنون لأضفته إليه, لأن كل اسم يلي اسمًا ليس بخبر له, ولا/ 353 صفة ولا بدل منه فحقه الإِضافة, وسيتضح لك ذلك في باب الخفض إن شاء الله.
ومثل ذلك: عليه شعر كلبين دينًا فالشعر مقدار وكذلك: لي ملء الدار خيرًا منك, ولي ملء الدار أمثالك؛ لأن خيرًا منك وأمثالك نكرتان1 وإن شئت قلت: لي ملء الدار رجلًا وأنت تريد: رجالًا وكل مميز مفسر في المقادير والأعداد وغيرها. "فمن" تحسن فيه إذا رددته إلى الجنس تقول: لي مثله من الرجال, وما في السماء قدر راحة من السحاب, ولله دره من الرجال, وعندي عشرون من الدراهم, ومنه ما تدخل فيه "من" وتقره على إفراده كقولك: لله دره من رجل.
قال أبو العباس -رحمه الله: أما قولهم: حسبك بزيد رجلًا, وأكرم به فارسًا, وحسبك يزيدٍ من رجل, وأكرم به من فارس, ولله دره من شاعر, وأنت لا تقول: عشرون من درهم ولا هو أفره من عبد, فالفصل بينهما: أن الأول كان يلتبس فيه التمييز بالحال فأدخلت2 / 345 "من" لتخلصه للتمييز, ألا ترى أنك لو قلت: أكرم به فارسًا وحسبك به خطيبًا لجاز أن تعني في هذه الحال, وكذلك إذا قلت: كم ضربت رجلًا وكم ضربت من رجل. جاز ذلك لأن "كم" قد يتراخى عنها مميزها. وإذا قلت: كم ضربت لم يدر السامع أردت: كم مرةً ضربت رجلًا واحدًا أم: كم ضربت من رجل فدخول "من" قد أزال الشك. ويجوز أن تقول: عندي رطل زيت وخمسة أثواب, على البدل لأنه جائز أن تقول: عندي زيت رطل, وأثواب خمسة فتوخوها على هذا المعنى, وجائز الرفع في: لي مثله رجل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "نكرة".
2
انظر: المقتضب 3/ 34-35.
===.======
ج / 1 ص -309- تريد: رجل مثله, فأما الذي ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير فقولك: ويحه رجلًا, ولله دره رجلًا, وحسبك به رجلًا, قال العباس بن مرداس:

ومرة يحميهم إذا ما تبدَّدوا ويطعنهم شزرًا فأبرحتَ فارسا1

قال سيبويه: كأنه قال: فكفى بك فارسًا, وإنما يريد: كفيت فارسًا2 / 355 ودخلت هذه الباء توكيدًا, ومن ذلك قول الأعشى:

فأَبْرَحْتَ رَبًّا وَأْبرَحْتَ جَارًَا3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 299 على نصب "فارس" على التمييز للنوع الذي أوجب له فيه المدح، والمعنى: فأبرحت، أي: بالغت وتناهيت في الفروسية، وأصل أبرحت من البراح وهو المتسع من الأرض المنكشف، أي: تبين فضلك بتبيين البراح من الأرض وما نبت فيه. فإذا تبددت الخليل، أي: تفرقت للغارة، ردها وحمي منها. والشزر: الطعن في جانب، فإن كان مستقيما فهو من اليسر. والشزر أشد منه لأن مقاتل الإنسان فيه جانبيه. وقد استشهد به: على أن الكوفيين قالوا: أن "أفعل" بدون من صيغ التعجب.
وانظر المقتضب 2/ 151، ورواه: ومرة يرميهم إذا ما تبدوا.. والأصمعيات/ 237، الأغاني 14/ 315، والخزانة 3/ 518، وشروح سقط الزند 1/ 248. والديوان تحقيق د. يحيى الجبوري/ 71.
2
انظر الكتاب 1/ 199.
3
من شواهد سيبويه 1/ 299، على نصب "ربا وجارا" على التمييز، والمعنى: أبرحت من رب ومن جار، أي: بلغت غاية الفضل في هذا النوع. وأراد بالرب الملك الممدوح، وكل من ملك شيئا فهو ربه. يشير إلى ابنته التي تحدث عنها تقول له وقد حزم أمره على الرحلة لممدوحه، أي أب كنت لي أعتز برعايته، وأي جار كنت أجد الأنس في قربه.
وضبط صاحب اللسان تاء الفاعل في "أبرحت" بالكسر بناء على أن هذا خطاب لابنته ولكن الرواية في الديوان تدل على أنه من ابنته له، وكذا فعل ابن السراج.
وانظر: نوادر أبي زيد/ 55، والتهذيب 5/ 19، وشرح الحماسة 3/ 1263، والحماسة/ 334، وجمهرة الأمثال للعسكري 1/ 205، والفاخر للمفضل بن سلمة / 214، وشروح سقط الزند 1/ 248. والجمهرة 1/ 16، وارتشاف الضرب/ 244، والديوان/ 49.

ج / 1 ص -310- ومثله: أكرم به رجلًا. وإذا كان في الأول ذكر منه حسن أن تدخل "من" توكيدًا لذلك الذكر تقول: ويحه من رجل, ولله در زيد من فارس, وحسبك به من شجاع ولا يجوز: عشرون من درهم, ولا هو أفرههم من عبد؛ لأنه لم يذكره في الأول ومعنى قولهم: ذكر منه, أن رجلًا هو الهاء في ويحه. وفارس هو زيد, والدرهم ليس هو العشرون والعبد ليس هو زيد, ولا الأفره, لأن الأفره خبر زيد.

=======================.

17
الأصول في النحو

ج / 1 ص -311- باب تمييز الأعداد:
اعلم: أن الأعداد كالمقادير تحتاج إلى ما يميزها كحاجتها. وهي تجيء على ضربين: منها ما حقه الإِضافة إلى المعدود وذلك ما كان منه يلحقه التنوين ومنها ما لا يضاف, وهو ما كان فيه نون أو بني اسم منه مع اسم فجعلا بمنزلة اسم واحد. أما المضاف فما كان منها من الثلاثة إلا العشرة فأنت تضيفه/ 356 إلى الجمع الذي بني لأدنى العدد نحو: ثلاثة أثوب وأربعة أفلس وخمسة أكلب وعشرة أجمال. فأفعل وأفعال مما بني لأقل العدد1 وأقل العدد هو العشرة فما دونها ذلك أن تدخل في المضاف إليه الألف واللام؛ لأنه يكون الأول به معرفة فتقول: ثلاث الأثواب وعشرة الأفلس. ومن ذلك مائة وألف؛ لأن المائة نظير عشرة لأنها عشر عشرات والألف نظير المائة لأنه عشر مئات.
قال أبو العباس -رحمه الله-: ولكنك أضفت إلى المميز: لأن التنوين غير لازم في المائة, والألف والنون في عشرين لازمة؛ لأنها تثبت في الوقف وتثبت مع الألف واللام, فإذا زدت على العشرة شيئًا جعل مع الأول اسمًا واحدًا وبنيا على الفتح, ويكون في موضع عدد فيه نون, وذلك قولك: أحد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
إذا كان المذكر من ذوات الثلاثة كانت له أبنية تدل على أقل العدد: أفعل، وأفعال وأفعلة وفعلة، وهذان الأخيران لم يذكرهما ابن السراج نحو: أحمرة وأقفرة وأجربة، وفعلة نحو: صبية، وغلمة، وفتية.



ج / 1 ص -312- عشر درهمًا, وخمسة عشر دينارًا, ويدلك على أن عشر قد قامت مقام التنوين قولهم: اثنا عشر درهمًا, ألا ترى أن عشر قد عاقبت النون فلم تجتمعا فهذا1 / 357 على ذلك إلى تسعة عشر, فإذا ضاعفت أدنى العقود وهو عشرة كان له اسم من لفظه ولحقته الواو والنون والياء والنون, نحو: عشرون وثلاثون, إلى تسعين والذي يبين به هذه العقود لا يكون إلا واحدًا نكرة, تقول: عشرون ثوبًا وتسعون غلامًا, فإذا بلغت المائة تركت التنوين وأضفت المائة إلى واحد مفسر ووجب ذلك في المائة لأنها تشبه عشرة وعشرين أما شبهها بعشرة فلأنها عشر عشرات فوجب لها من هذه الجهة الإِضافة, وأما شبهها بعشرين وتسعين فلأنها العقد الذي يلي تسعين, فوجب أن يكون مميزها واحدًا, فأُضيفت إلى واحد لذلك إلا أنك تدخل عليه الألف واللام إن شئت. لأن الأول يكون به معرفة, وكذلك ألفَ حكمهُ حكمُ مائة وتثنيتها فتقول: مائة درهم وألفا درهم وقدْ جاءَ بعضُ هذا منونًا منصوبًا ما بعده في الشعر, قال الربيع:

إذَا عاشَ الفَتى مائتين عامًا فقد ذهبَ البشاشةُ والفَتاءُ2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب 2/ 168.
2
من شواهد الكتاب 1/ 293، ونسبه سيبويه إلى الربيع بن ضبع الفزاري 1/ 106، ثم عاد في 1/ 293 فنسبه إلى يزيد بن ضبة. وذكر المسرة بدلا من البشاشة في الشطر الثاني. والشاهد فيه إثبات النون في "مائتين" ضرورة ونصب ما بعدها بها وكان الواجب حذفها وخفض ما بعدها إلا أنها شبهت للضرورة بالعشرين، ونحوها مما يثبت نونه ونصب ما بعدها بها. وصف الشاعر هرمه وذهاب مسرته ولذته وكان قد عمر نيفا على المائتين فيما يروي. ومعنى: ذهب: أودى وانقطع، والفتاء: المصدر من الشباب ممدود. يقال أنه لفتى بين الفتاء كقولك بين الشباب.
وانظر: المقتضب 2/ 169، ورواه المبرد: ذهب اللذاذة، ومجالس ثعلب/ 332، وشرح السيرافي 2/ 35، والمخصص لابن سيدة 15/ 38، وأمالي القالي 3/ 214، ومقاييس اللغة 4/ 474. والمعمرين للسجستاني/ 7 واللسان "فتا" وأمالي السيد المرتضى 1/ 155، وأدب الكاتب لابن قتيبة /95, والخزانة 3/ 306.



ج / 1 ص -314- قال/ 358 سيبويه وثلاث: وأما تسع مائة وثلاث مائة فكان حقه مائتين أو مئات ولكنهم شبهوه بعشرين وأحد عشر1. وقال: اختص هذا إلى تسع مائة ثم ذكر: أنهم قد يختصونَ الشيءَ بما لا يكون لنظائرهِ, فذكَر: لدُن وغدوة وما شعرت به شعرة, وليت شعري والعَمْرُ, والعُمْرُ, ولا يقولون إلا لعمرك في اليمين, وذكر مع ذلك أنه قد جاء في الشعر الواحد يراد به الجمع2 وأنشد:

في حَلقُكُم عَظمٌ وقَد شَجِينَا3

يريد في حلوقكم. وقال آخر:

كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا فإنَّ زمانَكم زَمَنٌ خَمِيصُ4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
نص الكتاب 1/ 107 وأما ثلاث مائة إلى تسع مائة فكان ينبغي أن يكون مئين أو مئات، ولكنهم شبهوه بعشرين وأحد عشر حيث جعلوا ما يبين به العدد واحد لأنه اسم لعدد كما أن عشرين اسم لعدد.
2
انظر: الكتاب 1/ 107.
3
من شواهد سيبويه 1/ 107. وهو عجز بيت تكملته:
لا تنكر القتل وقد سبينا... في حلقكم...
والشاهد فيه: وضع الحلق موضع الحلوق. وصف: أنهم قتلوا من قوم كانوا قد سبوا من قومه، ويقول: لا تنكروا قتلنا لكم وقد سبيتم منا ففي حلوقكم عظم بقتلنا لكم وقد شجينا نحن أيضا، أي: غصصنا بسببكم لم سبيتم منا، وهذا نسبه الأعلم: إلى المسيب بن زيد مناة الغنوي، وانظر المقتضب 2/ 172، وابن يعيش 6/ 22، والخزانة 3/ 379 والمخصص 1/ 31.
4
من شواهد سيبويه 1/ 108، وضع البطن في موضع البطون. وصف شدة الزمان وكلبه فقال: كلوا في بعض بطونكم ولا تملئوها حتى تعتادوا ذلك وتعفوا عن كثرة الأكل وتقنعوا باليسير فإن الزمان ذو مخمصة وجدب والخميص: الجائع. الصفة للزمن، والمعنى لأهله. وتعفوا مجزوم بجواب الأمر. والبيت من الأبيات الخمسين التي لا يعرف قائلها.
وانظر: معاني القرآن 2/ 102، والمقتضب 2/ 172، والمحتسب 2/ 87، والمخصص لابن سيدة، وأمالي ابن الشجري 1/ 311 والمفصل للزمخشري/ 123 والصاحبي/ 180، والخزانة 3/ 379.

==========================. 18

الأصول في النحو

ج / 1 ص -315- باب كم:
اعلم: أن لـ"كم" موضعين: تكون في أحدهما استفهامًا وفي الآخر خبرًا, فأما إذا كانت استفهامًا فهي فيه بمنزلة: عشرين وما أشبهه من الأعداد التي فيها/ 359 نون تنصب ما يفسرها, تقول: كم درهمًا لك, كما تقول: أعشرون درهمًا لك, أثلاثون درهمًا لك, فينتصب الدرهم بعد "كم" كما انتصب بعد عشرين وثلاثين؛ لأن "كم" اسم ينتظمُ العدد كلهُ وخص الاستفهام بالنصب ليكون فرقًا بينه وبين الخبر لأن العدد على ضربين: منه ما يضاف إلى المعدود, ومنه ما لا يضاف كما ذكرنا, فجعلت "كم" في الاستفهام بمنزلة ما لا يضاف منه وذلك نحو: خمسة عشر, وعشرين, فخمسة عشر أيضًا بمنزلة اسم منون, ألا ترى أنه لا يضاف إلى ما يفسره فإذا قلت: كم درهمًا لك فإنما أردت: كم لك من الدراهم كما أنك لما قلت: عشرون درهمًا إنما أردت: عشرون من الدراهم ولكنهم حذفوا "من" استخفافًا كما قالوا: هذا أول فارس في الناس, وإنما يريدون: هذا أول الفرسان.
قال الخليل: إن كم درهمًا لك أقوى من قولك: كم لك درهمًا, وذلك أن قولك: أعشرون1 / 360 لك درهمًا أقبح إلا أنها في "كم" عربية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الكتاب 1/ 291، قال سيبويه: وزعم -يعني الخليل: أن كم درهما لك، أقوى من: كم لك درهما. وإن كانت عربية جيدة.



ج / 1 ص -316- جيدة, وذلك قبيح في عشرين, إلا أن الشاعر قد قال1:

على أنني بعد ما قد مضى ثلاثونَ للهجرِ حولًا كميلا

واعلم: أن "كم" لا تكون إلا مبتدأة في الاستفهام والخبر, ولا يجوز أن تبنيها على فعل, وأنها تكون فاعلة في المعنى ومفعولة ومبتدأة وظرفًا, كما يكون سائر الأعداد في التقدير لا يجوز أن تقول: رأيت كم رجلًا, فتقدم عليها ما يعمل فيها. فأما كونها فاعلة فقولك: كم رجلًا أتاني وأما كونها مفعولة فقولك: كم رجلًا ضربت وأما كونها مبتدأة فقولك: كم دانقًا دراهمك.
واعلم: أنه لك ألا تذكر ما تفسر به "كم" كما جاز لك ذلك في العدد تقول: كم درهم لك, فالتقدير: كم قيراطًا درهم لك, ولا تذكر القيراط،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 292 وذكر بعده هذا البيت:

يذكرنيك حنين العجول ونوح الحمامة تدعو هديلا

فقد فصل بين الثلاثين والحول بالمجرور ضرورة، فجعل سيبويه هذا تقوية لما يجوز في كم من الفصل عوضا لما منعته من التصرف في الكلام بالتقديم والتأخير لتضمنها معنى الاستفهام والتصدير بها لذلك، والثلاثون ونحوها من العدد لا تمنع من التقديم والتأخير. والكميل: الكامل، والعجول من الإبل: الواله التي فقدت ولدها بذبح أو موت أو هبة، وقيل: الناقة التي ألقت ولدها قبل أن يتم بشهر أو شهرين. ونوح الحمامة. صوت تستقبل به صاحبها لأن أصل النوح التقابل. والهديل: تجعله العرب مرة فرخا ومرة الطائر نفسه ومرة ثالثة الصوت، فيكون مفعولا مطلقا على الأخير، ومعنى البيتين: لم أنس عهدك على بعده، وكلما حنت عجول أو صاحت حمامة رقت نفسي. فذكرتك، وخبر "أنني" يذكرنيك والبيت ينسب للعباس بن مرداس.
وانظر: المقتضب 3/ 55. ومجلس تعلب/ 492، وشرح السيرافي 3/ 18 والإنصاف/ 308، والمغني/ 633، وابن يعيش 4/ 130، والمسلسل/ 370 والعيني 4/ 489، والخزانة 1/ 573، وديوان العباس بن مرداس/ 136، تحقيق الدكتور يحيى الجبوري.
ج / 1 ص -317- وتقول: كم غلمانك والمعنى كم/ 361 غلامًا غلمانك, ولا يجوز إلا الرفع في غلمانك لأنه معرفة. ولا يكون التمييز بالمعرفة, فكأنك قلت: أعشرون غلمانك, وأما كونها ظرفًا فقولك: كم ليلة سرت كأنك قلت: أعشرين ليلة سرت, وكم يومًا أقمت كأنك قلت: أثلاثين يومًا أقمت, فكم عدد.
والعدد: حكمه حكم المعدود الذي عددته به. فإن كان المعدود زمانًا فهو زمان, وإن كان حيوانًا فهو حيوان. وإن كان غير ذلك, فحكمه حكمه. ولا يجوز: كم غلمانًا لك, كما لا يجوز: أعشرون غلمانًا لك.
قال: وحكى الأخفش: أن الكوفيين يجيزونه1, وإذا قلت: كم عبد الله ماكث "فكم" ظرف, فكأنك قلت: كم يومًا عبد الله ماكث فكم أيام, وعبد الله يرتفع بالابتداء كما ارتفع بالفعل حين قلت: كم رجلًا ضرب عبد الله وتقول: كم غلمان لك, فتجعل "لك" صفة لهم2 والمعنى: كم غلامًا غلمان لك.
قال سيبويه: وسألته -يعني الخليل- عن قولهم: على كم جذع بيتك مبني3 / 362 فقال: القياس والنصب وهو قول عامة الناس. يعني نصب جذع. قال: فأما الذين جروا فإنهم أرادوا معنى: "مِن" ولكنهم حذفوا ههنا تخفيفًا على اللسان. وصارت "على" عوضًا منها4, أما "كم" التي تكون خبرا فهي في الكثير نظيره: "رُبَّ" في التقليل, إلا أن "كم": التي اسم, ورب: حرف وهي في الخبر بمنزلة اسم لعدد غير منون نحو: مائتي درهم, فهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أجاز الكوفيون جمع تمييز "كم" الاستفهامية نحو: كم شهودا لك.. والذي أوهم الجمع عنده يحمل على الحال عند سيبويه، انظر الكتاب 1/ 292، وشرح الألفية لابن الناظم/ 290.
2
الكتاب 1/ 292، ونص سيبويه: وإن شئت قلت: كم غلمان لك "فتجعل غلمان" في موضع خبر "كم" وتجعل لك صفة لهم.
3
انظر: الكتاب 1/ 293.
4
انظر: الكتاب 1/ 293.



ج / 1 ص -318- مضافة وذلك قولك: كم غلام لك قد ذهب, جعلوها في الاستفهام بمنزلة: عشرين وفي الخبر بمنزلة: ثلاثة, تجر ما بعدها ولا تعمل "كم" في الخبر إلاّ فيما تعمل فيه "رب" في اسم نكرة لا يجوز أن تدخل فيه الألف واللام كما فعلت ذلك في مائة الدرهم وما أشبهها, ولا تعمل إلا في نكرة نصبت أو خفضت فتقول: كم رجل قد لقيت, وكم درهم قد أعطيت. وإن شئت قلت: كم رجال قد لقيت, وكم غلمان قد وهبت, فيجوز الجمع إذا كانت خبرًا, ولا يجوز إذا كانت استفهامًا أن تفسر/ 363 بجميع. وتقول العرب: كم رجل أفضل منك, تجعله خبر "كم" وحكى ذلك: يونس عن أبي عمرو1, وكم تفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المنكور, كما قلت: عشرون درهمًا أو بجمع منكور نحو: ثلاثة أثواب. وهذا جائز في التي تقع في الخبر. فأما التي في الاستفهام فلا يجوز فيها إلا ما جاز في العشرين2, وناس من العرب يعملونها في الخبر كعملها في الاستفهام فينصبون كأنهم يقدرون التنوين ومعناها منونة وغير منونة سواء. وبعض العرب ينشد:

كَمْ عمةً لَكَ يَا جَريرُ وخَالةً فَدْعَاءُ قَدْ حلَبَتْ عليَّ عِشَارِي3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 293.
2
انظر: الكتاب 1/ 293.
3
من شواهد الكتاب 1/ 253، 293.
والمبرد يرى أن "كم" استفهامية في البيت، وتوجيه ذلك بأن الاستفهام ليس على معناه الحقيقي، ولكنه على سبيل التهكم والسخرية. فكأنه يقول لجرير: أخبرني عن عدد عماتك وخالاتك اللاتي حلبن على عشارى. فقد ذهب عني عددها. وكم: مبتدأ، خبرها: جملة "قد حلبت" وأفرد الضمير مراعاة للفظ "كم".
والفدع: إعوجاج في رسغ اليد من كثرة الحلب أو في رسغ الرجل من كثرة الرعي. والعشار: جمع عشراء وهي الناقة الحامل في شهرها العاشر.
والبيت للفرزدق في هجاء جرير.
وانظر: المقتضب 3/ 58، والموجز لابن السراج/ 44، وشرح السيرافي 3/ 19، والجمل للزجاجي/ 148، وابن يعيش 4/ 133، وشرح الكافية للرضي 2/ 93، والمغني 1/ 202، والنقائض/ 33، والديوان/ 451.



ج / 1 ص -319- وهم كثير منهم الفرزدق, وهذا البيت ينشد على ثلاثة أوجه: رفع ونصب وخفض, فإذا قلت: كم عمة فعلى معنى: رُبَّ, فإن قلت: كم عمةً فعلى وجهين: على ما قال سيبويه في لغة من ينصب في الخبر, وعلى الاستفهامِ1, فإن قلتَ: كم عمةٌ فرفعتَ أوقعتَ "كم" على الزمان فقلت: كم يومًا عمة/ 364 لك وخالة قد حلبت عليّ عشاري, أو كم مرة ونحو ذلك.
واعلم: أنك إذا قلت: كم عمة فلست تقصد إلى واحدة بعينها. وكذلك إذا نصبت. فإن رفعت لم يكن إلا واحدة؛ لأن التمييز يقع واحدة في موضع الجميع. فإذا رفعت فإنما المعنى: كم دانقًا هذا الدرهم الذي أسألك عنه, فالدرهم واحد لأنه خبر وليس بتمييز, وإذا فصلت بين كم وبين الاسم وبشيء استغنى عليه السكون, أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يجعلونها بمنزلة اسم منون, وانصب لأنه قبيح أن تفصل بين الجار والمجرور قال زهير:

تَؤُمُّ سَنانًا وكَمْ دُونَهُ من الأرضِ مُحدوْدِبًا غَارُهَا2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 394.
2
من شواهد سيبويه 1/ 295. على فصل "كم" من المجرور بها ونصبه على التمييز لقبح الفصل بين الجار والمجرور. والغار: هنا الغائر من الأرض والمطمئن، وجعله محدودبا لما يتصل به من الأكمام ومتون الأرض. وقيل في الغائر: غار، كما قيل في الشائك شاك. وفي السائر سار. وصف ناقة له فقال: تؤم سنانا، هذا الممدوح على بعد المسافة بينها وبينه.
وانظر: المحتسب 1/ 138، وشرح السيرافي 3/ 19، والمفصل للزمخشري/ 181، وابن يعيش 4/ 129، والإنصاف/ 173، وشواهد الألفية للعاملي/ 408، ولم يوجد في ديوان زهير المطبوع.



ج / 1 ص -320- وإن شئت رفعت فجعلت: كم مرارًا وأنشد سيبويه:

كَمْ بِجُودٍ مقرفٍ نَالَ العُلى وكَرِيمٍ بخلهُ قد وضَعَهْ1

يفصل بين كم وبين مقرف بالظرف, وأجاز في مقرف الرفع والنصب2 / 265 أيضًا على ما فسرنا.
واعلم: أنك إذا قلت: كم من درهم عندك, فلا يجوز أن تقول: عندك عشرون من درهم. وقد أجروا مجرى "كم" في الاستفهام فنصبوا قولهم: له كذا وكذا درهمًا, كأنهم قالوا: له عدد ذا دراهم. قال سيبويه: هو كناية للعدد بمنزلة فلان في الحيوان, وهو مبهم وصار ذا من كذا بمنزلة التنوين؛ لأن المجرور بمنزلة التنوين. قال! وكذلك كأين رجلًا قد رأيت, قال: زعم ذلك يونس. وكائن قد أتاني رجلًا, إلا أن أكثر العرب إنما تتكلم بها مع3 "من" قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَة}4, فإن حذفت "من" فالكلام عربي جيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 296، على جواز الرفع والنصب والجر في "مقرف" فالرفع على أن تجعل "كم" ظرفا ويكون لتكثير المرار وترفع المقرف، بالابتداء وما بعده خبر، والتقدير: كم مرة مقرف نال العلى. والنصب على التمييز لقبح الفصل بينه وبين "كم" في الجر. وأما الجر فعلى جواز الفصل. بين "كم" وما عملت فيه بالمجرور ضرورة.
وموقع "كم" في الموضعين رفع بالابتداء والتقدير كثير من المقرفين نال العلى بجوده.
والمقرف: النذل اللئيم الأب، يريد قد يرفع اللئيم بجوده, ويتضع الكريم الأب ببخله.
ونسب الشاهد إلى أنس بن زنيم وإلى عبد الله بن كويز، ولأبي الأسود الدؤلي وانظر: المقتضب 3/ 61، وشرح السيرافي 3/ 19، وابن يعيش 4/ 132، والإنصاف 192.
2
انظر: الكتاب 1/ 296.
3
انظر: الكتاب 1/ 297.
4
الحج: 48.



ج / 1 ص -321- مسائل من هذه الأبواب:
تقول: عندي رطل زيتًا ورطل زيت, فمن نصب فعلى التمييز, ومن خفض أضاف, ومن رفع اتبع, وكل هذا جائز في المقادير, وكذلك: بيت تبنٍ وجرة زيتٍ, فإن قلت: شاة لحمٍ وجبة خز فالإِضافة؛ لأنك لم ترد: مقدار شاة لحمًا, ومقدار جبة خزا, فإن أردت هذا المعنى جاز/ 366 النصب, وتقول: عندي زق عسل سمنًا, تضيف الأول وتنصب الثاني تريد: مقدار زق عسل سمنا, ولا يجوز عندي ملء زق عسلًا سمنًا إلا في بدل الغلط خاصة, لأنه لا يكون عندك ملء زق سمنًا وملؤه عسلًا, لأنه من أيهما امتلأ فقد شغله عن الآخر, ومن ذلك قوله جل وعز: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}1 و{مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا}2 ويجوز: ملءُ الأَرضِ ذَهبٌ في غير القرآن. وتقول: عندي رطلان زيتًا والرطلان زيتًا ورطلا زيت, ولا يجوز: الرطلا زيت, لأنه لا يجمع بين الألف واللام والإِضافة, وكان الكسائي يضيفه ويدخل الألف واللام في كل ما كان مفسرًا ويجيز أيضًا: الرطل الزيت, والرطل الزيت والخمسة الأثواب والخمسة الأثواب فإذا قال: رجل السوء وزن السبعة لم يجز أن تدخل عليه الألف واللام, لإن إضافته صحيحة, والبصريون يأبون إدخال الألف واللام في جميع هذا, والفراء أيضًا يأباه إلا مع الضارب الرجل/ 367 والحسن الوجه, وقد مضى تفسير هذا. فإذا قلت: ماء فرات وتمر شهرير, ورطب بَرْنِيّ3 قضيبا عوسج4, ونخلتا برني, فكان ليس بمقدار معروف مشهور, فكلام العرب الخفض والاختيار فيه الإِضافة أو الإِتباع ولا يجوز فيه التمييز إذ لم يكن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المائدة: 95.
2
آل عمران: 91.
3
البرني: ضرب من التمر أصفر مدور، وهو أجود التمر.
4
العوسج: شجر شاك نجدي له جناة حمراء واحدته عوسجة.



ج / 1 ص -322- مقدار. وتقول: كم مثله لك, وكم خيرًا منه لك, وكم غيره مثله لك انتصب "غير" بكم وانتصب المثل, لأنه صفة له ومثله وغيره نكرة, وإن كانا مضافين إلى معرفة وقد ذكر هذا.
ولم يجز يونس والخليل: كم غلمانًا لك؛ لأنك لا تقول: أعشرون غلمانًا لك إلا على وجه: لك مائة بيضًا وعليك راقود خلا, فإن أردت هذا المعنى قلت: كم لك غلمانا, ويقبح أن تقول: كم غلمانا لك1, لأن: لك سبب نصب: غلمان, ولا يجوز أن يتقدم عليها كما لم يجز: زيد قائمًا فيها, وقد بينا: أن العامل إذا كان معنى لم يجز أن يتقدم مفعوله عليه.
وتقول: كم أتاني لا رجل ولا رجلان وكم عبد لك/ 368 لا عبد ولا عبدان فهذا محمول على "كَمْ" وموضعُها مِنَ الإِعرابِ لا على ما تعملُ فيهِ كم كأنك قلت: عشرونَ أتوني لا رجلٌ ولا رجلان2 ولو قلت: كم لا رجل ولا رجلين في الخبر والاستفهام كان غير جائز. وتقول: كم منهم شاهد على فلان إذا جعلت شاهدًا خبرًا "لكم" وكذلك هو في الخبر أيضًا تقول: كم مأخوذ بك إذا أردت أن تجعل: مأخوذًا بك في موضع "لك" إذا قلت: كم لك؛ لأن "لك" لا تعمل فيه "كم" ولكنه مبني عليها3 -خبر لها- وتقول: كم رجل قد رأيته أفضل من زيد لأنك جعلت "أفضل" خبرًا عن "كم" لأن "كم"اسم مبتدأ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 2/ 292. وقد ذكر سيبويه: عشرون ثيابا، بدلا من: أعشرون غلمانا.
2
في الكتاب 1/ 296 وتقول: كم قد أتاني لا رجل ولا رجلان، وكم عبد لك لا عبد ولا عبدان، فهذا محمول على ما حمل عليه "كم" لا على ما عمل فيه "كم" كأنك قلت: لا رجل أتاني ولا رجلان ولا عبد ولا عبدان وذاك لأن "كم" تفسر ما وقعت عليه من العدد بالواحد المذكور كما قلت: عشرون درهما، أو بجمع فتكون نحو: ثلاثة أثواب.
3
انظر: الكتاب 1/ 297.



ج / 1 ص -323- فأما "رُبَّ" إذا قلت: رُب رجل أفضل منك فلا يكون لها خبرٌ, لأنها حرف جر, وكم: لا تكون إلا اسمًا وتقول: كم امرأة قد قامت, ولا يجوز أن تقول: كم امرأة قد قمن, لأن المعنى: كم من مرة امرأة قد قامت. فإن كانت "امرأة" مميزة فقلت: كم امرأة قد قامت, جاز أن تقول: قامت وقمن لجعل الفعل مرة على لفظ المفسر ومرة على معنى "كم" وقال/ 369 الله جل وعز: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا}1 فردوه إلى معنى "كم" وقال جل ثناؤه: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا}2 فجاء على لفظ المفسر فإدخالك "من" وإخراجها واحد لأنك تريد التفسير. وتقول: كم ناقة لك وفصيلَها وفصيلُها نصبًا ورفعًا من رفع اتبع ما في لك ومن نصب اتبع الناقة, وإنما جاز في فصيلها النصب وهو مضاف إلى الضمير لأن التأويل: وفصيلا لها كما قيل: كل شاة وسخلتها بدرهم, فالتأويل وسخلة لها, كما قالوا: رُب رجل وأخيه والمعنى: وأخ له, فإذا قلت: كم ناقة وفصيلها لك فلا يجوز في الفصيل إلا النصب كأنك قلت: كم ناقة وكم فصيل ناقة لك وتقول: كم رجلًا قد رأيت وامرأة على لفظ "رجل" ويجوز: ونساءه لأن المعنى: رجال لكل رجل امرأة, والفراء يقول: كم رجلًا قد رأيت ونساءه, وكم رجل قد رأيت ونسائه ويقول: تأويل "رجل" جمع فلا أرد عليه بالتوحيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
النجم: 26.
2
الأعراف: 4 دخول "من" في الآيتين الكريمتين مع "كم" الخبرية كثير وذلك لموافقته جرا للمميز المضاف إليه. أما مميز "كم" الاستفهامية فقد أنكر بعض النحويين جره "بمن" في نظم ولا نثر ويرد على ذلك بقوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}.
قال أبو حيان في البحر المحيط 2/ 127: "من" آية تمييز "لكم" ويجوز دخول "من" على تمييز "كم" الاستفهامية والخبرية سواء وليها أم فصل عنها، والفصل بينهما بجملة وبظرف وبمجرور جائز على ما قرر في النحو. وانظر: الكشاف 2/ 128، وشرح الكافية 2/ 91، والمغني 2/ 109-110.



ج / 1 ص -324- قال أبو بكر: ويجوز عندي: كم رجلًا رأيت ونساءهم/ 370 لأن المعنى: كم رجالًا رأيت ونساء لهم. وتقول: كم زيد قائم, وبكم ثوبك مصبوغ تريد: كم مرة أو ساعة زيد قائم, وما أشبه ذلك. وبكم درهمًا أو دينارًا ثوبك مصبوغ وما أشبه ذلك.
قال الفراء: إذا قلت: عندي خمسة أثوابًا, فهو أشبه شيء بقولك: مررت برجل حسن وجهًا.
قال أبو بكر: وليس هو عند أصحابنا1 كذلك, لأن وجهًا عندهم منصوب بأنه مشبه بالمفعول؛ لأن حسن يشبه اسم الفاعل. وقد مضى ذكر هذا. والنصب في قولهم: خمسة أثوابًا شاذ, إنما يجوز مثله في ضرورة شاعر.
وقال أحمد بن يحيى2 -رحمه الله: كل منصوب على التفسير فقد جعل ما قبله في تأويل الفعل, ولذلك قلت: عندي خمسة وزنًا وعددًا فجعلت لها مصدرًا. فتأويله عندي ما يعد به الدرهم خمسة وكذلك في كل التفسير ترده تقديره إلى أن تقدره الفعل: فإن قال قائل: فأنت تقول: ما/ 371 أحسنك من الرجال وما أحسنك من رجل فيثبتهما إذًا فيه فرق إذا قلت: ما أحسنك من الرجال فإنما تريد: أنتَ حَسَنٌ مِن بينهم ومِن جماعتِهم وإذا قلتَ: مِنْ رجل ففيها مَذاهب.
أما مذهب أبي العباس محمد بن يزيد -رحمه الله- فيقول: فصلوا بين الحال والتمييز, وقد مضى ذكر ذلك. وقال غيره: تكون "من" هنا لابتداء الغاية كأنك قلت: ما أحسنك من أول أحوالك يوصف بها الرجل إلى غاية النهاية ومذهب آخر أن تكون "من" تبعيضًا للجنس المميز برجل رجل كأنك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أي: البصريون، لأنهم يرون أن الصفة المشبهة تعمل عمل اسم الفاعل.
2
أحمد بن يحيى: أبو العباس الملقب بثعلب، كبير نحاة الكوفة في عصره، مات سنة "291هـ" وترجمته مستوفاة في: إنباه الرواة 1/ 138، وطبقات الزبيدي/ 155، ونزهة الألباء/ 293، ومعجم الأدباء 5/ 102.



ج / 1 ص -325- قلت: ما أحسنك من الرجال إذا ميزوا رجلًا رجلًا, فجعلت رجلًا موحدًا ليدل على تمييز الرجال بهذا الإِفراد وكذلك: ما أحسنك من رجلين. كأنك قلت: من الرجال إذا ميزوا رجلين رجلين. والقياس على مذهب الكسائي: عندي الخمسة الألف الدرهم, فيجعل الخمسة مضافة إلى الالف, والألف مضافة إلى الدرهم, وذا عندنا لا يجوز, وتقول على مذهبهم: عندي الخمسة/ 372 العشر الألْف الدرهم, فتفتح الخمسة والعشر, وتنصب الألْف على التفسير وتضيفه إلى الدرهم. وهذا لا يجوز لما قدمنا ذكره. وتقول: عندي عشرون رجلًا صالحًا وعندي عشرون رجلًا صالحون ولا يجوز: صالحين على أن تجعله صفة رجل, فإن كان جمعًا على لفظ الواحد جاز فيه وجهان: تقول: عندي عشرون درهمًا جيادًا وجياد, من رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه المفسر وهذا البيت ينشد على وجهين:

فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبةً سُودًَا كَخَافِيَةِ الغُرَابِ الأَسْحمِ1

يروى: سود وتقول: عندي ثلاث نسوة وعجوزان, وشابة وعجوزين وشابة. ترده مرة على ثلاث ومرة على نسوة وإذا قلت: خمستك أو خمسة أثوابك لم تخرج منه مفسرًا؛ لأنه قد أضيف وعلم. ويجيز البغداديون: خمسة دراهمك, ودرهمك ينوي في الأول الإِضافة وهذا إنما يجوز عندي مثله في ضرورة الشاعر قالوا/ 373: وقد سمع: برئت إليك من خمسة وعشري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من نصب "سود" ورفعها، على الصفة والتمييز، ويروى: خلية موضع حلوبة، فلا شاهد فيه حينئذ والخلية أن يعطف على الحوار ثلاث من النوق ثم يتخلى الراعي بواحدة منهن فتلك الخلية، والحلوبة: التي يحتلبون فهي محلوبة وفيه الشاهد، فإن "فعولا" إذا كان بمعنى مفعول جاز فيه لحاق التاء وحذفها، فإن كان بمعنى فاعل لم يجز فيه إلا حذف التاء، تقول: امرأة صبور وشكور، وشذ من ذلك قولهم: عدوة، فهو مؤنث عدو. قال سيبويه: شبهوا عدوة بصديقة. وانظر: شرح المفصل لابن يعيش 3/ 55، وشعراء النصرانية/ 810، والعيني 4/ 487، والعيني 4/ 487، والخزانة 3/ 310. والديوان/ 216، وشرح الديوان/ 144، والمعلقات السبع 165.



ج / 1 ص -326- النخاسين قالوا: ولا يجوز مع المكنى, وتقول: عندي خمسةٌ وزنًا, تنصب وترفع, من نصب فعلى المصدر, ومن رفع جعله نعتًا. كأنه قال: خمسة موزونة وإذا قالوا: عندي عشرون وزن سبعة, نصبوا ورفعوا مثل ذلك, وكذلك إن أدخلوا الألف واللام قالوا: عندي العشرون وزنُ السبعة, ووزنَ السبعة, النصب والرفع, وكان الأخفش يجيز: كم رجلًا عندك وعبيده, يعطف "عبيده" على المضمر الذي في "عندكَ" ويرفعهُ قال: ولو قلت: كَمْ رجلًا وعبيدهُ عندك على التقديمِ والتأخير جاز, كأنك قلت: كم رجلًا عندك وعبيده قال الشاعر:

ألا يَا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقِ عَلَيْكِ وَرَحْمَة اللهِ السَّلامُ1

وقال يزيدُ بنُ الحكم الثقفي:

جَمَعْتَ وَبُخلًا غِيَبةً ونَمِيمَةً ثَلاَثَ خِصَال لَسْتَ عَنْها بِمُرْعَوي2

قال: وقد فسروا الآية في كتاب الله جل وعز: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه قوله "ورحمة" عطف على الضمير المستكن في "عليك" الراجع إلى "السلام" لأنه في التقدير: السلام حصل عليك، فحذف "حصل" ونقل ضميره إلى "عليك" واستتر فيه، ولو كان الفعل محذوفا مع الضمير لزم العطف بدون المعطوف عليه، وروي الشطر الثاني: برود الظل شاعكم السلام، وحينئذ فلا شاهد فيه.
وذات عرق: موضع بالحجاز وميقات أهل العراق للإحرام بالحج. وقوله: نخلة كناية عن المرأة، وأصل هذه الكناية أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: نهى الشعراء عن ذكر النساء في أشعارهم لما في ذلك من الفضيحة.
والبيت للأحوص، وانظر: الخصائص 2/ 386، والجمل للزجاجي 159، ومجالس ثعلب 239، وأمالي ابن الشجري 1/ 180، والمغني 1/ 395.
2
الشاهد فيه على ما في البيت قبله من العطف، وقد أجاز ابن جني في الخصائص: تقديم المفعول معه على المعمول لمصاحبة المصاحب متمسكا بهذا البيت. والأصل: جمعت غيبة وفحشا، والأولى المنع رعاية لأصل الواو، والشعر ضرورة، ويروى: ثلاث خلال لست عنها بمرعوي، وكذلك خصال ثلاث لست عنها بمرعوي. والغيبة: عدوان الجواب، والغيبة: أن يتكلم الإنسان خلف إنسان بما يغمه لو سمعه، والنميمة: إفساد الكلام وتزينه بالكذب، ومرعوي يقال: ارعوى عن القبح: رجع عنه... والشاعر يعاتب ابن عمه. وانظر: الخصائص 2/ 383، وأمالي ابن الشجري 1/ 177، والقالي 1/ 67، والتصريح 1/ 344، والهمع 1/ 220 والأشموني 2/ 137، والعيني 3/ 86، والخزانة 1/ 496.



ج / 1 ص -327- وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}1 والصابئون [كذلك] وتقول: كم يسرك أن لك درهمًا. فتنصب الدرهم وتعني: درهمًا واحدا, ولو قلت: كم يسرك أن لك من "درهم" لم يجز لأن "أن" لا اسم لها, وكذلك لو قلت: كم درهمًا يسرك أن لك, لم يجز وتصحيح المسألة: كم يسرك أنه لك من درهم, تريد: كم من درهم يسرك أنه لك وتقول: كم تزعم أن إلى زيد درهمًا قد دفع, تنصب درهمًا "بأن" ودرهم ههنا واحد, وكم مرار تريد: كم مرة تزعم, وتقول: كم عندك قائمًا رجلًا, تنصب "قائمًا" على الحال, وتجعل خبر "كم" "عندك" وهو قبيح؛ لأنك قد فصلت بين "كم" وبين ما عملت فيه, وتقول: كم مالك إلا درهمان, إذا كنت تستقله وكم عطاؤك إلا خمسون كأنك قلت: كم درهمًا مالك إلا درهمان وكم درهمًا عطاؤك إلا خمسون, فهذا في الاستقلال كقول القائل: هل الأمير إلا عبد الله, وهل الدنيا إلا شيء زائل/ 375 وتقول: كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان, وكم خمسة عشرة إلا خمستان, وكم رجلًا أصحابك إلا خمسون, إذا كنت تستقل عددهم, ويكون ما بعد إلا تفسيرًا "لكم" وترفعه إذا كانت "كم" رفعًا, وتنصب إذا كانت "كم" نصبًا وتجره إذا كانت "كم" جرا يقول: كم ثلاثة وجدت ستة إلا ثلاثين, وبكم درهمًا أرضك إلا ألف, وكذلك: كم ثلاثة ستة إلا ثلاثتان, وكم عشرون خمسة إلا أربع خمسات. هذا على الاستثناء تجعل ما بعد إلا بدلًا من "كم" كأنك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المائدة: 69 عطف "الصابئون" على موضع اسم "إن" قبل تمام الخبر وهو قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.



ج / 1 ص -328- قلت: هل بشيء أرضك إلا ألف, وهل شيئًا وجدت ستة إلا ثلاثين فاعتبر هذا بهذا.
قال أبو بكر: قد فرغنا من ذكر المرفوعات والمنصوبات وذكرنا في كل باب من المسائل مقدارًا كافيًا فيه دربة للمتعلم ودرس للعالم بحسب ما يصلح في هذا الكتاب؛ لأنه كتاب أصول ونحن نفرد كتابًا لتفريع الأصول ومزج بعضها ببعض ونسميه كتاب الفروع ليكون فروع هذه الأصول, إن أخر الله في الأجل وأعان/ 376, وإذا فرغنا من الرفع والنصب فلنذكر الضم والفتح اللذين يضارعانهما إن شاء الله.
ذكر الاسم المضموم والمفتوح اللذين1 يضارعان المعرب:
اعلم: أن الضم الذي يضارع الرفع هو الضم الذي يطرد في الأسماء ولا يخص اسمًا بعينه, كما أن الفعل هو الذي يرفع الأسماء, ولا يخص اسمًا بعينه وهذا الضرب إنما يكون في النداء, وأما الفتح الذي يشبه النصب فما كان على هذا المنهاج مطردًا في الأسماء ولا يخص اسمًا بعينه, وهذا الضرب إنما يكون في النفي "بلا" وسنذكر كل واحد منهما في بابه, إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "الذين".









=======================.



19



















الأصول في النحو

ج / 1 ص -329- باب النداء:
الحروف التي ينادى بها خمسة1: يا, وأيا, وهيا, وأي, وبالألف, وهذه ينبه بها المدعو, إلا أن أربعة غير الألف يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخى عنه أو للإِنسان المعروض أو النائم المستثقل/ 377, وقد يستعملون هذه التي للمد في موضع الألف, ولا يستعملون الألف في هذه المواضع التي يمدون فيها, ويجوز أن تستعمل هذه الخمسة إذا كان صاحبك قريبًا مقبلًا عليك توكيدًا وإن شئت حذفتهن كلهن استغناء إلا في المبهم والنكرة فلا يحسن أن تقول: هذا وأنت تريد: يا هذا ولا رجل وأنت تريد: يا رجل ويجوز حذف: يا, من النكرة في الشعر. والندبة يلزمها: يا ووا, "ووا" يخص بها المندوب. وأصل النداء تنبيه المدعو ليقبل عليك وتعرض فيه الاستغاثة والتعجب والمدح والندبة وسنذكر ذلك في مواضعه, والأسماء المناداة تنقسم على ثلاثة أضرب: مفرد ومضاف ومضارع للمضاف بطوله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الكتاب 1/ 325: فأما الاسم غير المندوب فينبه بخمسة أشياء: بيا، وأيا، وهيا، وأي، والألف، نحو قولك: أحار بن عمرو، إلا أن الأربعة غير الألف قد يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتهم للشيء المتراخى عنهم أو للإنسان المعرض عنهم، الذين يرون أنه لا يقبل عليهم إلا باجتهاد...



ج / 1 ص -330- شرح الأول:
وهو الاسم المفرد في النداء, الاسم المفرد ينقسم على ضربين: معرفة ونكرة, فالمعرفة: هو المضموم في النداء, والمعرفة المضمومة في النداء على ضربين:
إحداهما/ 378: ما كان اسمًا علمًا قبل النداء, نحو: زيد وعمرو فهو على معرفته.
وضرب كان نكرة فتعرف بالنداء نحو: يا رجل أقبل, صار معرفة بالخطاب وأنه في معنى: يا أيها الرجل.
فهذان الضربان هما اللذان يُضَمّان في النداء تقول: يا زيد, ويا عمرو, ويا بكر, ويا جعفر, ويا رجل أقبل, ويا غلام تعال. فأما: يا زيد فزيد وما أشبهه من المعارف معارف قبل النداء, وهو في النداء معرفة كما كان, ولو كان تعريفه بالنداء لقدر تنكيره قبل تعريفه, ويحيل قول من قال: أنه معرفة بالنداء فقط, إنك قد تنادي باسمه من لا تعلم له فيه شريكًا, كما تقول: يا فرزدق أقبل, ولو كنت لا تعرف أحدًا له مثل هذا الاسم ولو لم يكن عرف أن هذا اسمه فيما تقدم لما أجابك إذا دعوته به. ومن قال إذا قلت: يا زيد, أنه معرفة بالنداء1, فهذا الكلام من وجه حسن ومن وجه قبيح عندي, أما حسنة: فأن/ 379 يعني: أن أول ما يوضع الاسم ليعرف به الإِنسان أنه ينادى به فيقول له أبوه أو من سماه مبتدأ: يا فلان, وإذا كرر ذلك عليه, علم أنه اسمه, ولولا التكرير أيضًا ما علم, فمن قال: أن الاسم معرفة بالنداء أي: أصله أنه به صار يعرف المسمى, فحسن, وإن كان أراد: أن التعريف الذي كان فيه قد زال وحدث بالنداء تعريف آخر, فقد بينا وجه الإِحالة فيه ويلزم قائل هذا القول شناعات أخر عندي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب 4/ 205.



ج / 1 ص -331- وأما قولك: يا رجل. فهذا كان نكرة لا شك فيه قبل النداء, وإنما صار باختصاصك له وإقبالك عليه في معنى: يا أيها الرجل, فرفع وإنما ادعى من قال: أن: يا زيد معرفة بالنداء1 لا بالتعريف الذي كان له. قيل: إنه وُجِد الألف واللام لا يثبتان مع "يا" في التعريف في التثنية, ألا ترى أنك تقول يا زيدان أقبلا ولولا "يا" لقلت: الزيدان إذا أردت التعريف, وإنما حذفت الألف واللام استغناء "بيا" عنهما, إذ كانتا آلة للتعريف, كما حذفنا/ 380 من النكرة في النداء أيضًا. ووجدنا ما ينوب عنهما فليس ينادي شيءٌ مما فيه الألف واللام إلا الله عز وجل2.
قال سيبويه: وذلك من أجل أن هذا الاسم لا تفارقه الألف واللام وكثر في كلام العرب3.
وأما الاسم النكرة الذي بقي على نكرته فلم يتعرف بتسمية ولا نداء فإذا ناديته فهو منصوب, تقول: يا رجلًا أقبل ويا غلامًا تعال, وكذلك إن قلت: يا رجلًا عاقلًا تعالى, فالنكرة منصوبة وصفتها أو لم تصفها, ومعنى هذا أنك لم تدع رجلًا بعينه, فمن أجابك فقد أطاعك, ألا ترى أنه يقول: من هو وراء حائط ولا يدري من وراءه من الناس: يا رجلًا أغثني, ويا غلامًا كلمني, كما يقول: الضرير يا رجلًا خذ بيدي فهو ليس يقصد واحدًا بعينهِ بَل من أخذَ بيدهِ فهو بغيتُهُ قال الشاعر:

فيا رَاكِبًا إما عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ نَدامَايَ مِنْ نَجْرَان أنْ لا تَلاقِيا4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يرد على المبرد، انظر: المقتضب 4/ 205.
2
لأن الألف واللام إنما يدخلان للتعريف والنداء تعريف لأنك لا تنادي إلا من قد عرفته، فكرهوا الجمع بين تعريفين وأما الألف واللام في اسم الله تعالى فمن نفس الاسم.
3
انظر: الكتاب 1/ 309.
4
من شواهد سيبويه 1/ 312. على نصب "راكب" لأنه منادى منكور إذ لم يقصد به راكبا بعينه. وإنما التمس راكبا من الركبان يبلغ قومه تحيته، ولو أراد راكبا بعينه لبناه على الضم ولم يجز تنوينه ونصبه لأنه ليس بعده شيء نكرة يكون من وصفه. والراكب: راكب الإبل، ولا تسمي العرب راكبا على الإطلاق إلا راكب البعير والناقة والجمع ركبان. عرضت: بمعنى أتى العروض، وهي مكة والمدينة وما حولهما. وبمعنى: تعرضت وظهرت، وبمعنى: بلغت العرض، وهي جبال نجد. والندامى: جمع ندمان بمعنى نديم، وهو المشارب، وإنما قيل له: ندمان من الندامة، لأنه إذا سكر تكلم بما يندم عليه، وقيل: المنادمة مقلوبة من المدامنة، وذلك إدمان الشراب ويكون النديم والندمان أيضا: المجالس والمصاحب على غير الشراب. ونجران: مدينة بالحجاز من شق اليمن والبيت لعبد يغوث الحارثي. وانظر: المقتضب 4/ 204، وشرح السيرافي 3/ 44، والخصائص 2/ 448، والمفضليات/ 156، والأغاني 15/ 72، وأمالي القالي 3/ 132، وذيل الأمالي/ 52، ومعجم البلدان 5/ 266، وابن يعيش 1/ 127.



ج / 1 ص -332- وإنما أعربت النكرة ولم تبن لأنها لم تخرج عن بابها إلى/ 381 غير بابها كما خرجت المعرفة, فإن قال قائل: ما علمنا أن قولهم: يا زيد مبني على الضم وليس بمعرب مرفوع1 قيل: يدل على أنه غير معرب أن موضعه نصب, والدليل على ذلك أن المضاف إذا وقع موقع المفرد نصب, تقول: يا عبدَ الله, وأن الصفة قد تنصب على الموضع تقول: يا زيدُ الطويلُ فلو كانت الضمة إعرابًا لما جاز أن تنصبه إذا أضفناه, ولا أن تنصب وصفه, لكنا نقول: أنه مضموم, مضارع للمرفوع ويشبهه من أجل أن كل اسم متمكن يقع في هذا الموضع يضم فأشبه من أجل ذلك المرفوع "بقام" يعني الفاعل؛ لأن كل اسم متمكن يلي "قام" فهو مرفوع, فلهذا حسن أن تتبعه النعت فتقول: يا زيدٌ الطويل كما تقول: قام زيد الطويل, يا زيد وعمرو, فتعطف كما تعطف على المرفوع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
علل المبرد في المقتضب 4/ 204 "بناء المنادى بقوله" فإن كان المنادى واحدا مفردا معرفة بني على الضم، ولم يلحقه التنوين، وإنما فعل ذلك به لخروجه عن الباب، ومضارعته ما لا يكون معربا، وذلك أنك إذا قلت: يا زيد، ويا عمرو فقد أخرجته من بابه لأن حد الأسماء الظاهرة أن يخبر بها واحد عن واحد غائب والمخبر عنه غيرها فتقول: قال زيد، فزيد غيرك وغير المخاطب، ولا تقول: قال زيد وأنت تعنيه، أعني: المخاطب، فلما قلت: يا زيد - خاطبته بهذا الاسم فأدخلته في باب ما لا يكون إلا مبنيا نحو: أنت وإياك والتاء في قمت.



ج / 1 ص -333- وينبغي أن تعلم: أن حق كل منادى النصب. من قبل أن قولك: يا فلان ينوب عن قولك: أنادي/ 382 فلانًا؛ لأن قولك: "يا" هو العمل بعينه وأنه فارق سائر الكلام. لأن الكلام لفظ يغني عن العمل, وهذا العمل فيه هو اللفظ. فإن قلت: ناديت زيدًا بعدَ قولِكَ: يا زيد وهو مثل قولِكَ: ضربت زيدًا, بعدَ علمِكَ ذلكَ به, فتأملْ هذا فإنه منفرد به هذا الباب.
وأما السبب الذي أوجب بناء الاسم المفرد فوقوعه موقع غير المتمكن, ألا ترى أنه قد وقع موقع المضمرة والمكنيات والأسماء إنما جعلت للغيبة لا تقول: قام زيد وأنت تحذف زيدًا عن نفسه, إنما تقول: قمت يا هذا فلما وقع زيد وما أشبهه بعد "يا" في النداء موقع أنت والكاف وأنتم وهذه مبنيات لمضارعتها الحروف بُني, وسنبين أمر المبنيات في مواضعها. وبني على الحركة في النداء لأن أصله التمكن ففرق بينه وبين ما لا أصل له في التمكن فأما تحريكه بالضم دون غيره فإنهم شبهوه بالغايات نحو قبل وبعد إذ كانت تعرب بما يجب لها من الإِعراب/ 383 إذا أضفتها وهو النصب والخفض دون الرفع, وتقول: جئت قبلك ومن قبلك فلما حذف منها الاسم المضاف إليه بني الباقي على الضم, وهي الحركة التي لم تكن له قبل البناء, فعلم أنها غير إعراب. فقالوا: جئتك من قبل ومن بعد ومن علُ يا هذا, فكذلك هذا المنادى لما كان مضافهُ منصوبًا ضم مفرده, ألا ترى أنك تقول: يا عبد الله فتنصب, فإن لم تضف قلت: يا عبد ويا غلام فضممت فكذلك التقدير في كل مفرد, وإن كنت لم تفرد عن إضافة فهذا تقديره.
واعلم: أن لك أن تصف زيدًا وما أشبهه في النداء وتؤكده وتبدل منه وتعطف عليه بحرف العطف وعطف البيان. أما الوصف فقولك: يا زيد الطويلُ والطويلَ فترفع على اللفظ وتنصب على الموضع1, فإن وصفته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذا إذا كان مفردا، فيجوز فيه الرفع والنصب.



ج / 1 ص -334- بمضاف نصبت الوصف لا غير1 لأنه لو وقع موقع زيد لم يكن إلا منصوبًا تقول: يا زيد ذا الجمة/ 384 وكذلك إن أكدته تقول: يا زيد نفسُهُ ويا تميم كلكُم ويا قيس كلكُم. فأما يا تميم أجمعون, فأنت فيه بالخيار, إن شئت رفعت وإن شئت نصبت, حكم التأكيد حكم النعت, إلا أن الصفة يجوز فيها النصب على إضمار "أعني" ولا يجوز في أجمعين ذلك, وأما البدل فقولك: يا زيد زيدٌ الطويلَ, ويا زيد أخان؛ لأن تقدير البدل أن يقوم الثاني مقام الأول فيعمل فيه ما عمل في الأول فقولك: يا زيد أخانا كقولك: يا أخانا.
واعلم: أن عطف البيان كالنعت سواء, لا يلزمك فيه طرح التنوين كما لا يلزمك في النعت طرح الألف والام, تقول: يا زيدٌ زيدًا فتعطفُ على الموضعِ, ويا زيدٌ زيدٌ وأمر البدل وعطف البيان سنذكرهما مع ذكر توابع الأسماء وهذا البيت ينشد على ضروب:

إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا لَقَائِلٌ: يا نَصْرُ نَصْرًَا نَصْرَا 2

فمن قال: يا نصر نصرًا, فإنه جعل المنصوبين تبيينًا للمضموم وهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه: إنه من قال: يا زيد الطويل فنصب المنادى ثم وصفت النعت بمضاف نحو: "ذو الجمة" وجب عليه أن ينصب الوصف، لأنه لمنصوب، نحو قولك: يا زيد الطويل ذا الجمة. وانظر: الكتاب 1/ 308.
2
من شواهد سيبويه 1/ 304 على نصبه "نصرا" نصرا حملا على موضع الأول لأنه في موضع نصب، ولو رفع حملا على لفظ الأولى لجاز، كما تقول: يا زيد العاقلُ والعاقلَ.
والأسطار: جمع سطر وهو الخط، ونصر: هو نصر بن سيار عامل بني أمية في آخر دولتهم على خراسان، وفي رواية: يا نصر نضر نصرا بالضاد المعجمة في الثاني، وهو صاحب نصر، ولا معنى لذكره بين الأول والثالث إلا أن يعرب خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هذا نضر، في رواية أخرى: يا نصر نصرا برفع الثاني والأول.
وانظر: المقتضب 4/ 208، وشرح السيرافي 3/ 33، والخصائص 1/ 340، والمغني 2/ 434، وابن يعيش 3/ 72، وملحقات ديوان رؤبة/ 174.



ج / 1 ص -335- الذي يسميه النحويون عطف البيان, وسأفرق لك/ 385 عطف البيان من البدل في موضعه, ومجرى العطف للبيانِ مجرى الصفةِ فأجريا على قولك: يا زيد الظريفَ وتقديرهُ: يا رجل زيدًا أقبل على قول من نصب الصفة. وينشد:

يا نَصْرُ نَصْرا1

جعلهما تبيينًا وأجرى أحدهما على اللفظ والآخر على الموضع كما تقول: يا زيدٌ الظريف العاقلُ ولو نصبت "العاقل" على "أعني" كان جيدًا, ومنهم من ينشده:

يا نَصْرُ نَصْرُ نَصْرا2

فجعل الثاني بدلًا من الأول, وتنصب الثالث على التبيين فكأنه قال:

يا نَصْرُ نصرُ نَصْرا3.

وأما العطف فقولك: يا زيد وعمرو أقبلا, ويا هند وزيد أقبلا, ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
نصر الأول روي فيه وجهان: ضمه. ونصبه.
2
ونصر الثاني: روي بأربعة أوجه: ضمه، ورفعه منونا، ونصبه، وجره:
3
نصر الثالث: روي فيه وجه واحد وهو النصب. وتوجيه هذه الروايات:
أ- ضم الأول مع رفع الثاني على أن يكون الثاني عطف بيان على اللفظ عند سيبويه. انظر الكتاب جـ1/ 305، وعند الرضي: هو توكيد لفظي، وضعف البيان والبدل بقوله: لأن البدل وعطف البيان يفيدان ما لا يفيده الأول من غير معنى التأكيد، والثاني فيما نحن فيه لا يفيد إلا التأكيد.
ب- ضم الأول مع نصب الثاني عطف بيان على المحل أو توكيد أو نصب بتقدير: أعني. أو مصدر بدل من فعل الأمر أو مصدر أريد به الدعاء.
جـ- نصب الأول وجر الثاني على إضافة الأول إلى الثاني، كما تقول: حاتم الجود أو طلحة الخير. وإعراب نصب الثالث أن يكون عطف بيان أو توكيدا على المحل إذا ضم نصر الأول أو هو منصوب على المصدرية.
وانظر: شرح الكافية 1/ 125، وشرح المفصل 2/ 3. المقتضب 4/ 209.



ج / 1 ص -336- يجوز عطف الثاني على الموضع لما ذكرناه في باب العطف وهو أن حكم الثاني حكم الأول لأنه منادى مثله وكل مفرد منادى فهو مضموم. وقد قالوا على ذلك: يا زيد والحرث لما دخلتِ الألفُ واللامُ "ويا" لا تدخل عليهما, فاعلم وإنما يبنى الأولُ لأنه منادى مخاطب باسمه, وعلة/ 386 الثاني وما بعده كعلة الأول لا فرقَ بينهما في ذلك, ألا ترى أنهم:
يقولون: يا عبدَ الله وزيدٌ فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولولا ذلك لم يجز, قال جميع ذلك ابن السراج, أيضًا فإن عطفت اسمًا فيه ألف ولام على مفرد فإن فيه اختلافًا.
أما الخليل وسيبويه والمازني: فيختارون الرفع, يقولون: يا زيدٌ والحارثُ أقبلا1, وقرأ الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز: "يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرُ"2. وأما أبو عمرو وعيسى ويونس وأبو عمر الجرمي فيختارون النصب3, وهي قراءة العامة. وكان أبو العباس يختار النصب في قولك: يا زيد والرجلُ ويختار الرفع في الحارث إذا قلت: يا زيدٌ والحارثُ؛ لأن الألف واللام في "الحارث" دخلت عنده للتفخيم, والألف واللام في الرجل دخلتا بدلًا من "يا" لأن قولك: النضر والحارث, ونصر وحارث بمنزلة4 ومثل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب جـ1/ 305.
2
سبأ: 10، القراءة برفع "والطير" من الشواذ. انظر: النشر جـ2/ 349، والإتحاف/ 358.
3
قال الفراء: والطير منصوبة على جهتين: إحداهما أن تنصبها بالفعل بقوله: ولقد آتينا داود منا فضلا وسخرنا له الطير، فيكون مثل قولك: أطعمته طعاما وماء، تريد؛ وسقيته ماء. فيجوز ذلك، والوجه الآخر بالنداء لأنك إذا قلت: يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت لأنه إنما يدعي: بيا أيها، فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته فنصب. وقد يجوز رفعه على أن يتبع ما قبله. ويجوز رفعه على "أوبي أنت والطير" أي: بالعطف على الضمير المرفوع في قوله: "أوبي" انظر: معاني القرآن، 1/ 355.
والمقتضب 4/ 212.
4
المقتضب 4/ 212-213.



ج / 1 ص -337- ذلك اختلافهم في الاسم المنادى إذا لحقه التنوين اضطرارًا في الشعر, فإن الأولين يؤثرون رفعه 1 / 387 أيضًا ويقولون: هو بمنزلة مرفوع لا ينصرف يلحقه التنوين فيبقى على لفظه وأبو عمرو بن العلاء وأصحابه يلزمون النصب ويقولون هو بمنزلة قولك: مررت بعثمان يا فتى, فإذا لحقه التنوين رجع إلى الخفض2. فإن كان المنادى مبهمًا, فحكمه حكم غيره, إلا أنه يوصف بالرجل وما أشبهه من الأجناس وتقول: يا أيها الرجل أقبل, فيكون "أي" ورجل كاسم واحد "فأي" مدعو والرجل نعت له, ولا يجوز أن يفارقه نعته؛ لأن "أيا" اسم مبهم ولا يستعمل إلا بصلة, إلا في الجزاء والاستفهام فلما لم يوصل أُلزم الصفة لتبينه كما كانت تبينه الصلة. و"ها" تبينه وكذلك إذا قلت: يا هذا الرجل, فإذا قلت: يا أيها الرجل لم يصلح في "الرجل" إلا الرفع؛ لأنه المنادى في الحقيقة و"أي" مبهم متوصل إليه به. وكذلك: يا هذا الرجل إذا جعلت هذا سببًا إلى نداء الرجل, ولك أن تقيم الصفة مقام الموصوف فتقول: / 388 يا أيها الطويل ويا هذا القصير كقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}3 فإن قدرت الوقف على هذا ولم تجعله وصلة إلى الصفة وكان مستغنيًا بإفرادهِ كنت في صفته بالخيار: إن شئت رفعت وإن شئت نصبت كما كان ذلك في نعت زيد فقلت: يا هذا الطويلُ والطويلَ.
وأما "أي" فلا يجوز في وصفها النصب لأنها لا تستعمل مفردة فإن وصفتَ الصفةَ بمضافٍ فهو مرفوع لأنك إنما تنصب صفة المنادى فقط.
قال الشاعر:

يا أيُّها الجَاهِلُ ذو التَّنَزِّي4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب 4/ 213.
2
هذا نص المبرد في المقتضب 4/ 213.
3
يوسف: 88.
4
من شواهد سيبويه 1/ 308. قال الأعلم: ولو نصب "ذو التنزي" على البدل من "أي" أو إرادة النداء على معنى: "ويا ذا التنزي" لجاز.
وروى ابن الشجري هذا الشاهد بالنصب "ذا التنزي" وجعله على استئناف نداء وذكر بعده:

لا توعدني حية بالنكز.

والتنزي: تسرع الإنسان إلى الشر، ويقال: نكزته الحية نكزا إذا ضربته بفيها، ولم تنهشه ونسب هذا الرجز لرؤبة بن العجاج وهو مطلع أرجوزة في ديوانه.
وانظر: المقتضب 4/ 218، وأمالي ابن الشجري 2/ 300، والعيني 4/ 219، وديوان رؤبة/ 63.



ج / 1 ص -338- فوصف "الجاهل" وهو صفة بـ"ذو" ويجوز النصب على أن تجعله بدلًا من "أي" فتقول: يا أيها الجاهل ذا التنزي, ولا يجوز أن تقول: هذا أقبل وأنت تناديه تريد: يا هذا كما تقول: زيد أقبل وأنت تريد يا زيد ولا: رجل أقبل؛ لأن هذين نعت لأي, فإن جاء في الشعر فهو جائز ولك أن تسقط "يا" فتقول: زيد أقبل وإنما قبح إسقاط حرف النداء من هذا/ 389 ورجل لأنهما يكونان نعتًا لأي فلا يجمع عليها حذف المنعوتِ وحرفُ النداءِ فاعلم.
فأما قولهم: اللهُّم اغفر لي, فإنَّ الخليل كان يقول: الميم المشددة في آخرهِ بدل من "يا" التي للنداء لأنهما حرفان مكان حرفين1.
قال أبو العباس: الدليل على صحة قول الخليل: أن قولك: اللهم لا يكون إلا في النداء لا تقول: غفر اللهم لزيد ولا: سخط اللهم على زيد كما تقول: سخط الله على زيد وغفر الله لزيد وإنما تقول: اللهم اغفر لنا اللهم اهدنا وقال: فإن قال الفراء: هو نداء معه "أم" قيل: له فكيف تقول: اللهم اغفر لنا, واللهم أمنا بخير فقد ذكر "أم" مرتين قال: ويجب على قوله أن تقول: يا اللهم لأنه: يا الله أمنا ولا يلزم ذلك الخليل: لأنه يقول الميم بدل من يا2.
وإذا وصفت مفردًا بمضاف لم يكن المضاف إلا منصوبًا تقول: يا زيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 310.
2
انظر: المقتضب 4/ 239.



ج / 1 ص -339- ذا الجمة, فأما: يا زيد الحسن الوجه, فإن سيبويه: يجيز الرفع والنصب في الصفة, لأن معناه عنده الانفصال فهو كالمفرد في التقدير, لأن حسن1 / 390 الوجه بمنزلة حسن وجههُ, فكما أنه يجيز: يا زيد الحَسَنُ والحسنَ فكذلك يفعل إذا أضاف, لأنه غير الإِضافة يعني به, وأنشد:

يا صَاحِ يا ذَا الضَّامِرِ العَنسِ2

يريد: يا ذا الضامرة عنسُه وتقول: يا زيدٌ أو عبد الله, ويا زيدُ أو خالدُ وقال سيبويه: أو, ولا في العطفِ على المنادى بمنزلة الواو3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 307.
2
هذا صدر بيت عجزه:
والرحل ذي الأقتاب والحلس
وهو من شواهد سيبويه 1/ 306 على وصف "ذا" بما فيه الألف واللام، والضامر رفع وإن كان مضافا إلى العنس لأن إضافته غير محضة إذ التقدير: يا ذا الذي ضمرت عنسه، والعنس: الناقة الشديدة، وأصل العنس: الصخرة في الماء قيل لها ذلك لصلابتها. وذهب الكوفيون إلى أن الرواية: يا صاح يا ذا ضامر العنس، يخفض الضامر، ويضيفون "ذا" إلى الضامر ويجعلونه مثل: يا ذا الجمة، وتكون "ذو" بمعنى: صاحب: وهي التي تتغير فتكون في الرفع بالواو وفي النصب بالألف وفي الجر بالياء.
والرحل: كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، والأقتاب: جمع قتب، رحل صغير على قدر السنام، وروي: الأقتاد جمع قتد، وهو خشب الرحل، والحلس: كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله، والبيت كما نسبه سيبويه إلى خزر بن لوذان السدوسي، ونسبه صاحب الأغاني إلى خالد بن المهاجر. وانظر: المقتضب 4/ 223، ومجالس ثعلب /333، 513، وشرح السيرافي 3/ 38، وأمالي ابن الشجري 2/ 32، 322، والخصائص 3/ 302، والأغاني 15/ 13.
3
انظر: الكتاب 1/ 305، قال سيبويه: وتقول: يا زيد وعمرو ليس إلا، أنهما قد اشتركا في النداء في قوله: يا، وكذلك: يا زيد وعبد الله، ويا زيد لا عمرو، ويا زيد أو عمرو، لأن هذه الحروف تدخل الرفع في الآخر، كما دخل في الأول.



ج / 1 ص -340- شرح الاسم المنادى الثاني وهو المضاف:
اعلم: أن كل اسم مضاف منادى, فهو منصوب على أصل النداء الذي يجب فيه -كما بينا- تقول: يا عبدَ الله أقبل, ويا غلامَ زيد افعل, ويا عبدَ مرة تعال, ويا رجل سوء تُبْ, المعرفة والنكرة في هذا سواء, وقال عز وجل: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}1.
وذكر سيبويه: أن ذلك منصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره2.
وقال أبو العباس: أن "يا" بدل من قولك: أَدعو أو أُريد لا أنك تخبر أنك تفعل, ولكن بها علم أنك قد أوقعت فعلًا, يا عبد الله وقع دعاؤك بعبد الله فانتصب على 3 / 391 أنه مفعول تعدى إليه فعلك, فإن أضفت المنادى إلى نفسك فحكم كل اسم تضيفه إلى نفسك أن تحذف إعرابه وتكسر حرف الإِعراب وتأتي بالياء التي هي اسمك فتقول: يا غلامي وزيدي, فإذا ناديت قلت: يا غلام أقبل, لا تثبت "ياء" الإِضافة كما تثبت التنوين في المفرد تشبيهًا به, وثبات الياء فيما زعم يونس في المضاف لغة, وكان أبو عمرو يقول: "يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ"4. وقد يبدلون مكان الياء الألف لأنها أخف عليهم نحو: يا ربا تجاوز عنا, ويا غلاما لا تفعل, فإذا وقفت قلت: يا غلاماُه, وعلى هذا يجوز: يا أَباه ويا أُماه.
قال سيبويه: وسألت الخليل عن قولهم: يا أبه, ويا أبةِ لا تفعل, ويا أبتاه, ويا أُمتاه فزعم الخليل: أن هذه الهاء مثل الهاء في عمة وخالة, وزعم: أنه سمع من العرب من يقول: يا أمة لا تفعلي ويدلك على أن الهاء بمنزلة الهاء في عمة أنك تقول في الوقت: يا أمةْ ويا أبه كما تقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الأحقاف: 31.
2
انظر: الكتاب 1/ 303.
3
انظر: المقتضب 4/ 202.
4
الزمر: 16، وانظر: الكتاب 2/ 316.



ج / 1 ص -341- يا خالة, إنما يلزمون هذه في النداء1 / 392 إذا أضفت إلى نفسك خاصة, كأنهم جعلوها عوضًا من حذف الياء, قال: وحدثنا يونس: أن بعض العرب يقول: يا أم لا تفعلي, ولا يجوز ذلك في غيرها من المضاف.
وبعض العرب يقول: يا ربُّ اغفر لي, ويا قومُ لا تفعلوا, فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت: يا غلام غلامي, ويابن أخي, فتثبت الياء لأن الثاني غير منادى, فإنما تسقط الياء في الموضع الذي يسقط فيه التنوين وقالوا: يابن أُم, ويابن عم, فجعلوا ذلكَ بمنزلة اسمْ واحدٍ لكثرته في كلامهم2.
قال أبو العباس -رحمه الله: سألت أبا عثمان عن قول من قال: يابن أم لا تفعل, فقال: عندي فيه وجهان: أحدهما أن يكون أراد: يابن أمي فقلب الياء ألفًا فقال: يابن أما ثم حذف الألف استخفافًا من "أما" كما حذف الياء من "أمي". ومثل ذلك: يا أبة لا تفعل, والوجه الآخر أن يكون: ابن عمل في أُم عمل خمسة عشر فبني/ 393 لذلك قلت: فلم جاز في الوجه الأول قلب الياء ألفًا؟ فقال: يجوز في النداء والخبر وهو في النداء أجود قلت: وأمّ؟ قال: لأن النداء يقرب من الندبة وهو قياس واحد وذلك قولك: وا أماه قلت: فنجيزه في الخبر في الشعرِ؟ فقالَ: في الشعر وفي الكلام جيدٌ بالغ, أقول: هذا غلاما قد جاء فأقلبها؛ لأنَّ الألف أخف من الياء. وقد قال الشاعر:

وقَدْ زَعَمُوا أنِّي جَزِعْتُ علَيهِمَا وهَلْ جَزَعٌ إن قُلْتَ: وا بأباهما3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 317.
2
انظر: الكتاب 1/ 317، و1/ 318.
3
الشاهد فيه قلب "الياء" من "أبي" ألفا، لأن الألف أخف من الياء، والمعنى: بأبي هما. وفي النوادر: أنه لا مرأة جاهلية من بني سعد. وانظر: النوادر/ 115، وابن يعيش 2/ 12، والحماسة/ 44.



ج / 1 ص -342- يريد: وا بأبي هما. وأنشد سيبويه لأبي النجم:

يا بنتَ عَمَّا لا تلومِي واهْجَعِي1

فإن أضفت اسمًا مثنى إليك: نحو عبدين وزيدين قلت: يا عبدي ويا زيدي ففتحت الياء من قبل أن أصل الإِضافة إلى نفسك الفتح, تقول: هذا بني وغلامي يا فتي, ثم تسكن إن شئت استخفافًا فلما التقى ساكنان في عبدي واحتجت إلى الحركة رددت ما كان للياء إليها فإذا صغرت ابنًا فقلت بني, ثم أضفته إلى نفسك قلت: يا بني أقبل, ولم تكن هذه الياء كياء التثنية؛ لأن هذه حرف/ 394 إعراب كما يتحرك دال عبدٍ, تقول: هذا بني كما تقول: هذا عبد, فإذا أضفتهما إلى نفسك كسرت حرف الإِعراب إرادة للياء, وكان الأصل في: يا بني أن تأتي بياء بعد الياء المشددة فحذفتها واستغنيت بالكسر عنها وتقول: يا زيد عمرو ويا زيد زيد أخينا ويا زيد زيدنا.
قال سيبويه, وزعم الخليل ويونس: أن هذا كله سواء وهي لغة للعرب جيدة, وذلك لأنهم قد علموا: أنهم لو لم يكرروا الاسم كان الأول نصبًا لأنه مضاف فلما كرروه تركوه على حاله2 قال الشاعر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 318، على إبدال الألف من الياء في قوله: ابنة عما كراهة لاجتماع الكسرة والياء مع كثرة الاستعمال. وجعل الاسمين اسما واحدا. ويروى: يا ابنة عمي لا تلومني... والهجوع: النوم بالليل خاصة. وبعد الشاهد:

لا يخرق اللوم حجاب مسمعي

وأراد بابنة عمه زوجته أم الخيار التي ذكرها في شعره بقوله:

قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع

يقول لها: دعي لومي على صلع رأس فإنه كان يشيب لو لم يصلع. وانظر: المقتضب 4/ 252، وشرح السيرافي 3/ 50، والخصائص 1/ 252، والنوادر/ 19، وأمالي ابن الشجري 1/ 8، وابن يعيش.
2
انظر: الكتاب 1/ 314-315، والنص كما يلي: زعم الخليل ويونس: أن هذا كله سواء، وهي لغة للعرب جيدة وذلك لأنهم قد علموا أنهم لو لم يكرروا الاسم صار الأول نصبا، فلما كرروا الاسم توكيدا تركوا الأول على الذي كان يكون عليه ولم يكرروا.



ج / 1 ص -343- يا تيمَ تَيمَ عَدِيٍّ لا أَبَا لَكُمُ لا يَلْقَيَنَّكُم في سَوأةٍ عُمَرُ1

وإن شئت قلت: يا تيم تيمَ عدي2, ويا زيد زيدَ أخينا, فكل اسمين لفظهما واحد والآخر منهما مضاف فالجيد الضم في الأول والثاني منهما منصوب, لأنه مضاف, فإن شئت كان بدلًا من الأول وإن شئت كان عطفًا عليه, عطف البيان والوجه الآخر نصب الأول بغير تنوين لأنك/ 395 أردت بالأول: يا زيد عمرو فأما أقحمت الثاني توكيدا للأول, وأما حذفت من الأول المضاف استغناء بإضافة الثاني, فكأنه في التقدير: يا زيد عمرو, زيد عمرو, ويا تيم عدي تيم عدي.
واعلم: أن المضاف إذا وصفته بمفرد وبمضاف مثله لم يكن نعته إلا نصبًا؛ لأنك إن حملته على اللفظ فهو نصب والموضع موضع نصب, فلا يزال ما كان على أصله إلى غيره وذلك نحو قولك: يا عبدَ الله العاقلَ, ويا غلامنا الطويلَ, والبدل يقوم مقام المبدل منه, تقول: يا أخانا زيد أقبل, فإن لم ترد البدل وأردت البيان قلت: يا أخانا زيدًا أقبل, لأن البيان يجري مجرى النعت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 26، و2/ 214، على الرفع والنصب في "تيم" والأجود الرفع لأنه لا ضرورة فيه. لا أبا لكم: الغلظة في الخطاب وأصله أن ينسب المخاطب إلى غير أب معلوم شتما له واحتقارا. وإنما استعملها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب. لا يلقينكم: من الإلقاء، وهو الرمي. وروي: لا يوقعنكم. والسوأة: الفعلة القبيحة، أي: لا يوقعنكم عمر في بلية ومكروه لأجل تعرضه لي. أي: امنعوه من هجائي فإنكم قادرون على كفه. والبيت لجرير في هجاء عمر بن لجأ. وانظر: المقتضب 4/ 229، والكامل/ 563، والخصائص 1/ 345، وابن الشجري 2/ 83. وابن يعيش 2/ 10، 105، و3/ 21، والديوان/ 285.
2
لأنه لا ضرورة فيه ولا حذف ولا إزالة شيء عن موضعه.

ج / 1 ص -344- شرح الثالث: وهو الاسم المنادى المضارع للمضاف لطوله.
إذا ناديت أسمًا موصولًا بشيء هو كالتمام له فحكمه حكم المضاف إذ كان يشبهه في أنه لفظ مضموم إلى لفظ هو تمام الاسم الأول ويكون معرفة ونكرة وذلك قولك: يا خيرًا من زيد أقبل. ويا ضاربًا رجلًا ويا عشرون رجلًا/ 396 ويا قائمًا في الدار, وما أشبهه, جميع هذا منصوب, إذا أقبلت على واحد فخاطبته وقدرت التعريف, وإن أردت التنكير فهو أيضا منصوب, وقد كنت عرفتك أن المعارف على ضربين: معرفة بالتسمية ومعرفة بالنداء. وقال الخليل: إذا أردت النكرة فوصفت أو لم تصف فهي منصوبة؛ لأن التنوين لحقها فطالت فجعلت بمنزلة المضاف لما طال نصب ورد إلى الأصل كما تفعل ذلك بقبل وبعد1, وزعموا: أن بعض العرب يصرف قبلًا فيقول: ابدأ بهذا قبلا, فكأنه جعلها نكرة, وأما قول الأحوص:

سَلامُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ2

فإنما لحقه التنوين كما لحق ما لا ينصرف. وكان عيسى بن عمر يقول: يا مطرًا, يشبهه بيا رجلًا, قال سيبويه: ولم نسمع عربيا يقوله, وله وجه من القياس إذا نون فطال كالنكرة, فالتنوين في جميع هذا الباب كحرف في وسط الاسم وكذلك: لو سميت رجلًا: بثلاثة وثلاثين, لقلت: يا ثلاثة وثلاثين أقبل, وليس بمنزلة قولك 3 / 397 للجماعة: يا ثلاثة وثلاثون, لأنك أردت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 311.
2
من شواهد سيبويه 1/ 313. على تنوين "مطر" وتركه على ضمه لجريه في النداء على الضم واطرد ذلك في كل علم مثله. فأشبه المرفوع غير المنصرف في غير النداء فلما نون ضرورة وترك على لفظه كما ينون الاسم المرفوع الذي لا ينصرف فلا يغيره التنوين من رفعه.
ومطر هو من سلف الشاعر، وانظر: المقتضب 4/ 214، ومجالس ثعلب/ 92، 239، 542، وشرح السيرافي 2/ 46، وأمالي ابن الشجري 1/ 341، والإنصاف/ 311، والأغاني 14/ 61، 62، والمحتسب 2/ 93.
3
انظر: الكتاب 1/ 313.



ج / 1 ص -345- في هذا: يا أيها الثلاثة والثلاثون, ولو قلت أيضًا وأنت تنادي الجماعة: يا ثلاثة والثلاثين لجاز الرفع والنصب في الثلاثين كما تقول: يا زيد والحارث والحارثَ, ولكنك أردت في الأول: يا من يقال له ثلاثة وثلاثون1. وإن نعت الاسم المفرد بابن فلان أو ابن أبي فلان, وذكرت اسمه الغالب عليه وأضفته إلى اسم أبيه أو كنيته فإن الاسمين قد جعلا بمنزلة اسم واحد؛ لأنه لا ينفك منه ونصب لطوله, تقول: يا زيدَ بن عمرو كأنك قلت: يا زيد عمرو, فجعلت زيدًا وابنًا بمنزلة اسم واحد ولا تنون زيدًا, كما لم تكن تنونه قبل النداء إذا قلت: رأيت زيد بن عمرو فإن قلت: يا زيد ابن أخينا ضممت الدال من "زيد" لأن ابن أخينا نعت غير لازم, وكذلك: يا زيد ابن ذي المال ويا رجل ابن عبد الله؛ لأن رجلًا اسم غير غالب, فمتى لم يكن المنادى/ 398 اسمًا غالبًا, والذي يضيف إليه ابنا سما غالبًا, لم يجز فيه ما ذكرنا من نصب الأول بغير تنوين, وإذا قلت: يا رجل ابن عبد الله, فكأنك قلت: يا رجل يابن عبد الله, وعلى هذا ينشد هذا البيت:

يا حكمَ بنَ المنذرِ بن الجَارُود2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب للمبرد 4/ 225، وابن يعيش 1/ 128.
2
من شواهد الكتاب 1/ 313، على بناء "حكم" على الفتح اتباعا لحركة الابن، لأن النعت والمنعوت كاسم ضم إلى اسم مع كثرة الاستعمال وهو مشبه في الاتباع بقولهم: يا تيم تيم عدي... والرفع في "حكم" أقيس لأنه اسم مفرد نعت بمضاف، فقياسه أن يكون بمنزلة قولهم: يا زيد ذا الجمةِ:
ونسب هذا الرجز في الكتاب إلى رجل من بني الحوماز، ونسبه الجوهري إلى رؤبة، وبعده:

سرادق المجد عليك ممدود

والرواية في الديوان: أنت الجواد ابن الجواد المحمود.
مدح المنذر بن الجارود العبدي ابن عبد القيس، وكان أحد ولاة البصرة لهشام بن عبد الملك، وسمي جده الجارود، لأنه أغار على قوم فاكتسح أموالهم، فشبه بالسيل الذي يجرد ما يمر به. وانظر: المقتضب 4/ 232، وابن يعيش 2/ 5، والكامل/ 263، طبعة ليبسك، والتصريح 2/ 169، والعيني 4/ 210، وديوان رؤبة/ 172، ذكر على أنه مما نسب إليه.



ج / 1 ص -346- ولو قلت: يا حكمُ بنُ المنذر كان جيدًا وقياسًا مطردًا, وكان أبو العباس -رحمه الله- يقول: إن نصب: يا حسن الوجه لطوله لا لأنه مضاف؛ لأن معناه: حسن وجههُ1.
قال أبو بكر: والذي عندي أنه نصب من حيث أضيف, فما جاز أن يضاف ويخفض ما أضيف إليه, وإن كان المعنى على غير ذلك, كذلك نصب كما ينصب المضاف لأنه على لفظه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال المبرد: وقولك: يا حسن الوجه، إذا لم ترد النكرة، إنما معناه: يا أيها الحسن، فهو وإن كان مضافا في تقدير: يا حسنا وجهه. إذا أردت: يا أيها الحسن وجهه. وانظر: المقتضب 1/ 326.



ج / 1 ص -347- باب ما خص به النداء من تغيير بناء الاسم المنادى والزيادة في آخره والحذف فيه:
أما التغيير, فقولهم: يا فسقُ ويا لكعُ, عدل عن فاعل إلى فعيل للتكثير والمبالغة كما عدل: عمر عن عامر, ولم يستعمل فسق إلا في النداء وهو معرفة فيه ويقوى/ 399 أنه كذلك ما حكى سيبويه عن يونس: أنه سمع من العرب من يقول: يا فاسقُ الخبيثُ1 فلو لم يكن فاسق عنده معرفة ما وصفه بما فيه الألف واللام, وكذلك: يا لَكاعِ ويا فَساقِ ويا خَباثِ معدول عن معرفة, كما صارت جَعَارِ اسمًا للضبع, وكما صارت: حذام ورقاش اسمًا للمرأة, وجميع ذلك مبني على الكسر؛ لأنك عدلته من اسم معرفة مؤنث غير منصرف وليس بعد ترك الصرف إلا البناء, فبني على كسر؛ لأن الكسرة والتاء من علامات التأنيث. ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله, فإن لم ترد العدل قلت: يا لكعُ, ويا لكعاءُ, وأما ما لحقه الزيادة من آخره فقولهم: يا نومان ويا هناه, وقال بعض المتقدمين في النحو: يا هناه2 هو فعال في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 311.
2
في الكتاب 1/ 33 يا هناه، ومعناه: يا رجل، وفي 1/ 311 ومن هذا النحو أسماء اختص بها الاسم المنادى لا يجوز منها شيء في غير النداء نحو: يا نومان، ويا هناه، ويا فل: وقال المبرد في المقتضب 4/ 235: واعلم: أن للنداء أسماء يخص بها، فمنها قولهم: يا هناه أقبل، ولا يكون ذلك في غير النداء، لأنه كناية للنداء. وانظر: أمالي الشجري 2/ 101.



ج / 1 ص -348- التقدير وأصله هن, فزيد هذا في النداء وبني هذا البناء. ويلزم قائل هذا القول أن يقول في التثنية: يا هنانان أقبلا, ولا أعلم أحدًا يقول هذا.
قال الأخفش: تقول: يا هناه/ 400 أقبل, ويا هنانيه أقبلا, و[يا]1 هنوناه أقبلوا. وإن شئت قلت: يا هن, ويا هنان أقبلا, ويا هنون أقبلوا وإن أضفت إلى نفسك لم يكن فيه إلا شيء واحد يأتي فيما بعده قال أبو بكر: والمنكر من ذا تحريك الهاء من هناه, وإلا فالقياس مطرد كهاء الندبة وألفها. وقال أيضًا الأخفش: تقول: يا هنتاه2 أقبلي, ويا هنتانيه أقبلا, ويا هناتوه أقبلن. وتقول للمرأة بغير زيادة يا هنت أقبلي ويا هنتان أقبلا ويا هنات أقبلن, وتقول في الإِضافة: إليك: ياهن3 أقبل ويا هني أقبلا ويا هني4 أقبلوا. وللمرأة في الإِضافة يا هنت أقبلي ويا هنتي أقبلا وللجمع: يا هنات5 أقبلن وتزاد في آخر الاسم في النداء الألف التي تبين بالهاء في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيدًا أو تندب هالكًا؛ لأن المندوب في غاية البعد/ 401 وللندبة باب مفرد نذكره بعون الله تعالى.
تقول: يا زيداه, إذا ناديت بعيدًا, هذا إذا وقفت على الهاء وهي ساكنة, وإنما تزاد في الوقف لخفاء الألف كا تزاد لبيان الحركة في قولك غلاميه, وما أشبه ذلك. إذا وصلت ألف النداءِ بشيءٍ أغنى ما بعدَ الألف من الهاءِ فقلت: يا زيدا أقبل, ويا قوما تعالوا.
فأما لام الاستغاثة والتعجب فتدخل على الاسم المنادى من أوله وهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت "يا" لأن المعنى يحتاجها.
2
يجوز هنا في هنتاه الكسر والضم.
3
يجوز يا هن: بالضم والفتح والكسر، فمن كسر النون قال: الكسرة تدل على الياء وتخلفها، ومن فتحها قال: أردت الندبة، يا هناه، ومن ضمها قال: أعطيت المفرد المنادى ما يستحق من الإعراب وأجود الوجوه الكسر.
4
تفتح النون في التثنية وتكسر في الجمع.
5
بكسر التاء وبغير ياء.



ج / 1 ص -349- لام الجر فتخفضهُ, ولذلكَ أيضًا بابٌ يذكر فيه إلا أنها تزادُ إذا أردت أن تسمع بعيدًا, وأما ما حذفُ من آخره في النداء فقولهم في فلان: يا فل أقبل.
وذكر سيبويه أن: هناه ونومان وفل أسماء اختص بها النداء. وقال: قول العرب: يا فل أقبل, لم يجعلوه اسمًا حذفوا منه شيئًا يثبت في غير النداء ولكنهم بنوا الاسم على حرفين وجعلوه بمنزلة دم والدليل1 على/ 402 ذلك أنه ليس أحد يقول: يا فلا. فإن عنوا امرأة قالوا: يا فلة, وإنما بني على حرفين؛ لأن النداء موضع تخفيف ولم يجز في غير النداء؛ لأنه جعل اسمًا لا يكون إلا كناية لمنادى نحو: يا هناه ومعناه. يا رجل. وأما فلان. فإنما هو كناية عن اسم سمي به المحدث عنه خاص غالب قال: وقد اضطر الشاعر فبناه على هذا المعن,ى قال أبو النجم:

في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فلانًا عن فُلِ2

قوله في لجة أي: في كثرة أصوات, ومعناه: أمسك فلانًا عن فلان,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 311. و1/ 33.
2
من شواهد سيبويه 1/ 333 على استعمال "فل" مكان "فلان" في غير النداء، ضرورة واستشهد به مرة ثانية 2/ 122، على أن "فل" أصله "فلان" فإذا صغر رد إلى أصله وهذا الرجز لأبي النجم العجلي، وقبل الشاهد:

تدافع الشيب ولم تقتل في لجة....

واللجة: بفتح -اللام وتشديد الجيم- اختلاط الأصوات في الحرب شبه تزاحمها ومدافعة بعضها بعضا بقوم شيوخ في لجة وشر يدفع بعضهم بعضا، فيقال: أمسك فلانا عن فلان، أي: أحجز بينهم، وخص الشيوخ، لأن الشباب فيهم التسرع إلى القتال، أي: هي في تزاحم ولا تقاتل كالشيوخ.
وانظر: المقتضب 4/ 238، والصاحبي/ 194، وشرح السيرافي 3/ 67، ومعجم مقاييس اللغة 4/ 477، والشعر والشعراء/ 586، والجمهرة لابن دريد 2/ 25، والأغاني 9/ 74، وأمالي ابن الشجري 2/ 101.



ج / 1 ص -350- فأما ما حذف آخره للترخيم فله باب وإنما أخرجنا "فل" عن الترخيم لأنه لا يجوز أن يرخم اسم ثلاثي فينقص في النداء ولم يكن منقوصًا في غيرِ النداءِ؛ ولأنَّه ليس باسم علمٍ, وللترخيمِ بابٌ يفرد به, إن شاء الله.



ج / 1 ص -351- باب اللام التي تدخل في النداء للاستغاثة والتعجب:
اعلم: أن اللام التي تدخل للاستغاثة هي/ 403 لام الخفض وهي مفتوحة إذا أدخلتها على الاسم المنادى, كأن المنادى كالمكنى. وقد بينا هذا فيما مضى فانفتحت مع المنادى كما تنفتح مع المكنى ألا ترى أنك تقول: لزيد ولبكر فتكسر. فإذا قلت: لك وله فتحت, وقد تقدم قولنا في أن المبني كالمكنى؛ فلذلك لم يتمكن في الإِعراب وبني فتقول: يا لبكر ويا لزيد ويا للرجال ويا للرجلين1 إذا كنت تدعوهم وقال أصحابنا2: إنما فتحتها لتفصل بين المدعو والمدعو إليه. ووجب أن تفتحها لأن أصل اللام الخافضة إنما كان الفتح فكسرت مع المظهر ليفصل بينها وبين لام التوكيد3, ألا ترى أنك تقول: إن هذا لزيد إذا أردت: إن هذا زيد, فاللام هنا مؤكدة/ 404 وتقول: إن هذا لِزيد إذا أردت أنه في ملكه. ولو فتحت لالتبسا, فإن وقعت اللام على مضمر فتحتها على أصلها فقلت: أن هذا لك, وإن هذا لأنت؛ لأنه ليس هنا لبس, وتقول: يا للرجال للماء, ويا للرجال للعجب, ويا لزيد للخطب الجليل, قال الشاعر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "يا لرجلين" بلام واحدة.
2
أي: البصريون.
3
قال: المبرد 4/ 254: فأما قولنا: فتحت على الأصل فلأن أصل هذه اللام الفتح, تقول: هذا له: وهذا لك. وإنما كسرت مع الظاهر فرارا من اللبس. لأنك لو قلت: إنك لهذا وأنت تريد لِهذا - لم يدر السامع أتريد لام الملك أم اللام التي للتوكيد.



ج / 1 ص -352- يا لَلِّرجَالِ لِيوْمِ الأربعاءِ أما يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهى طَربا1

وقال آخر:

تَكَنَّفَني الوُشَاةُ فَأَزْعَجُوني فَيا للناسِ لِلواشي المُطَاعِ2

فالذي دخلت عليه اللام المفتوحة هو المدعو, والمستغاث به, والذي دخلت عليه اللام المكسورة هو الذي دعي له ومن أجله.
واعلم: أنه لا يجوز أن تقول: يا لزيدٍ لمن هو قريب منك ومقبل عليك. وذكر سيبويه: أن هذه اللام التي للاستغاثة بمنزلة الألف التي تبين بها في الوقف إذا أردت أن تسمع بعيدًا, فإن قلت: يا لزيد3 / 405 ولعمرو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه: فتح لام المستغاث به، وكسر لام المدعو له.
والبيت من قصيدة غزلية لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي، وفي معجم البلدان 1/ 111، لما ولي الحسن بن زيد المدينة منع عبد الله بن مسلم بن جندب أن يؤم الناس في مسجد الأحزاب فقال له: أصلح الله الأمير، لِمَ منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي قبل؟ قال: ما منعك إلا يوم الأربعاء. ثم ذكر القصيدة، وذكر ثعلب هذه القصيدة في مجالسه، وانفرد المبرد بنسبة الشاهد للحارث بن خالد، وانظر: المقتضب 4/ 256، ومجالس ثعلب/ 474-475. والكامل للمبرد/ 601، طبعة ليبسك، وروايته: ينفك يبعث، والإنصاف/ 265، وأسرار العربية/ 290، والعيني 4/ 96، والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 168، وكتاب منازل الحروف/ 51.
2
من شواهد سيبويه 1/ 319، على فتح اللام الأولى من "الناس" لأنهم مستغاث بهم وكسر الثانية لأنه مستغاث من أجله.
وتكنفني الوشاة: أي: أحاط بي الوشاة. جمع واش. من وشى به: إذا سعى، وأزعجوني: أقلقوني وإنما وصفه بالمطاع، لأنه أراد به أباه ومن يحذو حذوه في الإشارة بالكلام مثل: أمه وعشيرته والبيت لقيس بن ذريح المحاربي وقد تزوج "بلبنى بنت الحباب الكعبية" بعد أن هام بها واشتغل بها عن كل شيء، فصعب ذلك على أبيه وأشار إليه بالطلاق فلم يقبل...
وانظر: شرج المفصل 1/ 131، وشرح السيرافي 3/ 51، والكامل للمبرد/ 601، طبعة ليبسك، والعيني 4/ 259، ونسبه لحسان بن ثابت، والموجز لابن السراج/ 49.
3
انظر: الكتاب 1/ 320.

ج / 1 ص -353- كسرت اللام في "عمرو" وهو مدعو لأنه يسوغ في المعطوف على المنادى ما لا يسوغ في المنادى. ألا ترى أن الألف واللام تدخل على المعطوف على المنادى, ويجوز فيه النصب, وإنما يتمكن في باب النداء ما لصق "بيا" يعني بحرف النداء.
وأما أبو العباس -رحمه الله- فكان يقول في قولهم: يا لزيد ولعمرو, إنما فتحت اللام في "زيد" ليفصل بين المدعو والمدعى إليه فلما عطفت على "زيد" استغنيت عن الفصل لأنك إذا عطفت عليه شيئًا صار في مثل حاله1 وقال الشاعر:

يَبْكِيكَ نَاءٍ2 بَعِيدُ الدارِ مُغتَربٌ يا لَلْكُهُولِ ولِلشُّبان لِلْعِجبِ3

وأما التي في التعجب فقول الشاعر:

لَخُطَّابُ لَيْلَى يا لبُرثُنَ مِنْكُمُ أَدَلُّ وأمضى مِنْ سُليكِ المقانبِ4

وقالوا: يا للعجب ويا للماء لما رأوا عجبًا أو رأوا ماء كثيرًا, كأنه يقول:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب: 40/ 255.
2
في الأصل "نائي" بالياء.
3
الشاهد فيه على أن لام المستغاث المعطوف تكسر إن لم تعد معه "يا" وذلك في قوله "وللشبان" والنائي: البعيد النسب.
ولم ينسب هذا البيت لقائل معين، وانظر: المقتضب 4/ 256، والصاحبي/ 85، والكامل/ 602، والموجز لابن السراج/ 49، وشرح السيرافي 3/ 52، ورواه: "يبكيه" بهاء الغائب والجمل للزجاجي/ 180، والهمع 1/ 180، والعيني 4/ 257.
4
من شواهد سيبويه 1/ 319 على دخول لام الاستغاثة على "برثن" تعجبا منهم لا مستغيثا بهم، وكانوا قد دخلوا امرأته وأفسدوها عليه، فقال لهم هذا متعجبا من فعلهم. والسليك: هو مقاعس من بني سعد بن مناة من بني تميم، وإنما شبههم به في حذقهم وقدة حيلتهم في الفساد والمقانب: جماعات الخيل، واحدها مقنب.
ونسب البيت لفرار الأسدي، وانظر: شرح السيرافي 3/ 52، وابن يعيش 1/ 131، والأشباه والنظائر 3/ 142، ورواه صاحب اللسان في "قنب": على الهول أمضى من سليك المقانب.



ج / 1 ص -354- تعال/ 406 يا عجب, وتعال يا ماء, فإنه من أيامك وزمانك وأبانك ومثل ذلك قولهم: يا للدواهي أي: تعالين فإنه لا يستنكر لكن لأنه من أحيانكن, وكل هذا في معنى التعجب, والاستغاثة فلا يكون موضع "يا" سواها من حروف النداء نحو: أي وهيا وأيا. وقد يجوز أن تدعو مستغيثًا بغير لام فتقول: يا زيد وتتعجب كذلك كما أن لك أن تنادي المندوب ولا تلحق آخره ألِفًا؛ لأن النداء أصل لهذه أجمع وقد تحذف العرب المنادى المستغاث به مع "يا" لأن الكلام يدل عليه فيقولون: يا للعجب, ويا للماء, كأنه قال: يا لقوم للماء, ويا لقوم للعجب, وقال أبو عمرو قولهم: يا ويل لك, ويا ويح لك, كأنه نبه إنسانًا ثم جعل الويل له1 ومن ذلك قول الشاعر:

يَا لعنَةُ الله والأقوامِ كُلِّهِمِ والصالحينَ على سِمَعانَ مِن جَارِ2

فيا/ 407 لغير اللعنة ولغير الويل كأنه قال: يا قوم لعنة الله على فلان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 320.
2
من شواهد سيبويه: 1/ 320، على حذف المنادى وإبقاء حرف النداء. أي: يا قوم لعنة الله. وسمعان: اسم رجل يروى -بفتح السين وكسرها- والفتح أكثر وكلاهما قياس، فمن كسرها كان كعمران وحطان، ومن فتحها، كان كقحطان ومروان. ولم ينسب هذا البيت لقائل معين.
وانظر: الكامل/ 601، وشرح السيرافي 3/ 52، والمفصل للزمخشري/ 48، وأمالي ابن الشجري 1/ 325، وابن يعيش 2/ 24، والمغني 1/ 414.



ج / 1 ص -355- باب الندبة:
الندبة تكون بياء أو بواو ولا بد من أحدهما وتلحق الألف آخر الاسم المندوب إن شئت وإن شئت ندبت بغير ألف والألف أكثر في هذا الباب قال سيبويه: لأن الندبة كأنهم يترنمون فيها1 ومن شأنهم أن يزيدوا حرفًا إذا نادوا بعيدًا ولا أبعد من المندوب فإذا وقفوا قالوا: يا زيداه واعمراه فيقفون على هاء لخفاء الألف فإن وصلوا النداء بكلام أسقطوا الهاء وإذا لم تلحق الألف قلت: وا زيد, ويا بكر, والألف تفتح ما قبلها مضموما كان أو مكسورا تقول: وا زيد فتضم, فإن أدخلت الألف قلت: وا زيداه, فإن أضفت إلى اسم ظاهر غير مكنى قلت: وا غلام زيد فإن أدخلت الألف قلت وا غلام زيداه وحذفت التنوين لأنه لا/ 408 يلتقي ساكنان.
قال سيبويه: ولم يحركوها يعني التنوين في هذا الموضع لأن الألف زيادة فصارت تعاقب التنوين وكان أخف عليهم2, فإن أضفت إلى نفسك, قتل وازيدِ فكسرت الدال فإن أدخلت الأل, قلت: وا زيداه يكون إذا أضفته إلى نفسك وإذا لم تضفه سواء ومن قال: يا غلامي قال: وا زيدياه فيحرك الياء في لغة من أسكن الياء للألف التي بعدها لأن الألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 221.
2
انظر: الكتاب 1/ 322.



ج / 1 ص -356- قال أبو العباس: ولك في وا غلامي في لغة من أسكن الياء وجهان: أن تحرك الياء لدخول الألف, فتقول: واغلامياه, وأن تسقطها لالتقاء الساكنين فتقول: وا غلاماه كما تقول جاء غلام العاقل فتحذف الياء فأما من كان يحرك الياء قبل الندبة, فليس في لغته إلا إثباتها مع الألف, تقول: وا غلاماه1 وذكر سيبويه: أنه يجوز/ 409 في الندبة: وا غلاميه فيبين الياء بالهاء كما هي في غير النداء2, فإن أضفت إلى مضاف إليك قلت: وا غلام غلامي, فإن أدخلت الألف قلت: وا غلام غلامياه, لا يكون إلا ذلك؛ لأن المضاف الثاني غير منادى, وقد بيناه لك فيما تقدم. وكذلك وانقطاع ظهرياه لا بد من إثبات الياء, وإذا وافقت ياء الإِضافة الياء الساكنة في النداء لم يجدوا بدا من فتح ياء الإِضافة ولم يكسر ما قبلها كراهية للكسرة في الياء ولكنهم يفتحون3 ياء الإِضافة ويجمعون على ذلك لئلا يلتقي ساكنان. فإذا ناديت فأنت في إلحاق الألف بالخيار أيضًا, وذلك قولك: وا غلامياه ووا قاضياه ووا غلاميَّ في تثنية غلام ووا قاضيَّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب 4/ 270، ونص المقتضب هو كما يلي: ومن رأى أن يثبت الياء ساكنة فيقول: يا غلامي أقبل، فهو بالخيار: إن شاء الله: وا غلامياه فحرك لالتقاء الساكنين وأثبت الياء لأنها علامة. وكانت فتحتها ههنا مستخفة، لفتحه الياء في القاضي ونحوه للنصب. وإن شاء حذفها لالتقاء الساكنين، كما تقول: جاء غلام العاقل. وم رأي أن يثبتها متحركة قال: وا غلامياه ليس غير.
انظر: الانتصار لابن ولاد 154-157.
2
انظر: الكتاب 1/ 321 وهذا رأي الخليل وليس رأي سيبويه. قال: وزعم الخليل: أنه يجوز في الندبة: وا غلاميه من قبل أنه قد يجوز أن أقول: وا غلامي فأبين الياء كما أبينها في غير النداء.
3
قال سيبويه واعلم: أنه إذا وافقت الياء الساكنة ياء الإضافة في النداء لم تحذف أبدا ياء الإضافة ولم يكسر ما قبلها كراهية للكسرة في الياء, ولكنهم يلحقون يا الإضافة وينصبونها لئلا ينجزم حرفان.
انظر: الكتاب 1/ 322، والمقتضب 4/ 272.



ج / 1 ص -357- وإن وافقت ياء الإِضافة ألفًا لم تحرك الألف وأثبتوا الياء وفتحوها لئلا يلتقي ساكنان, وأنت أيضًا بالخيار في إلحاق الألف وذلك قولك/ 410: وا مثناي ووا مثناه. فإن لم تضف إلى نفسك قلت: وا مثناي وتحذف الألف الأولى لئلا يلتقي ساكنان, ولم يخافوا التباسًا فإن كان الاسم المندوب مضافًا إلى مخاطب مذكر قلت: وا غلامك يا هذا, فإن ألحقت ألف الندبة قلت: وا غلامكاه وإن ثنيت قلت: وا غلامكاه وإن جمعت قلت: وغلامكموه فقلبت ألف الندبة واوًا كيلا يلتبس بالتثنية, وتقول للمؤنث: وا غلامكية. وكان القياس الألف لولا اللبس وفي التثنية وا غلامهماه والمذكر والمؤنث في التثنية سواء وتقول في الجمع: وا غلامكناه وتقول في الواحد المذكر الغائب, وا غلامهوه وللاثنين وا غلامهماه, وللجميع وا غلامهموه وللمؤنث: وا غلامهاه وفي التثنية: وا غلامهاه وللجميع وا غلامهناه, فإن كان المنادى مضافًا إلى مضاف نحو: وانقطاع ظهره "91/ 411" قلت في قول من قال: مررت بظهرهوه قيل: وانقطاع ظهرهوه وفي قول من قال: بظهرهي قال: وانقطاع ظهرهيه2.
وقال قوم من النحويين: كل ما كان في أخره ضم أو فتح وكسر, ليس يفرق بين شيء وبين شيء جاز فيه الإِتباع والفتح وغير الإِتباع مثل قطام تقول: وا قطاميهْ ويا قطاماه ويقولون: يا رجلانية ويا رجلاناه ويا مسلموناه ويقولون: يا غلام الرجلية والرجلاه, فإذا كانت الحركة فرقًا بين شيئين مثل: قمتُ وقمتَ فالإِتباع لا غير نحو: وا قيامًا قمتوه وقمتاه وقمتيه وقد مر تثنية المفرد وجمعه في النداء في "هن" فقس عليه.
واعلم: أن ألف الندبة لا تدخل على الصفة ولا الموصوف إذا اجتمعا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 323، والمقتضب 4/ 274.
2
انظر: الكتاب 1/ 323.



ج / 1 ص -358- نحو وا زيد الظريف والظريفَ, لأن الظريف غير منادى1 وليس هو بمنزلة المضاف والمضاف إليه, لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد وأنت في الصفة/ 412 بالخيار إن شئت وصفت وإن شئت لم تصف, وهذا قول الخليل.
وأما يونس فيلحق الألف الصفة ويقول: وا زيد الظريفاه2, ولا يجوز أن تندب النكرة وذلك: وا رجلاه ويا رجلاه ولا المبهم, لا تقول: وا هذاه, قال سيبويه: إنما ينبغي أن تتفجع بأعرف الأسماء ولا تبهم3, وكذلك قولك: وا مَن في الداراه في الفتح وذكر يونس: أنه لا يستقبح: وا من حفر زمزماه؛ لأن هذا معروف بعينه4.
وقال الأخفش: الندبة لا يعرفها كل العرب وإنما هي من كلام النساء5, فإذا أرادوا السجع وقطع الكلام بعضه من بعض أدخلوا ألف الندبة على كلام يريدون أن يسكتوا عليه, وألحقوا الهاء لا يبالون أي كلام كان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الكتاب 1/ 323، هذا باب ما لا تلحقه الألف التي تلحق المندوب، وذلك قولك: وأزيد الظريف والظريف، وزعم الخليل: أنه منعه من أن يقول: الظريفاه أن الظريف ليس بمنادى...
2
انظر: الكتاب 1/ 323-324.
3
انظر: الكتاب 1/ 324. ونص سيبويه هو: ألا ترى أنك لو قلت: وا هذاه كان قبيحا، لأنك إذا ندبت فإنما ينبغي لك أن تفجع بأعراف الأسماء وأن تخص فلا تبهم، لأن الندبة على البيان.
4
انظر الكتاب 1/ 324. نسب ابن السراج هذا القول إلى يونس وهو عند سيبويه قول الخليل لأنه قال: وزعم أنه لا يستقبح: وا من حفر زمزماه، لأن هذا معروف بعينه، والمقصود بـ"زعم" هو الخليل لا يونس.
5
قال ابن يعيش: واعلم: أن الندبة لما كانت بكاء ونوحا بتعداد مآثر المندوب وفضائله وإظهار ذلك ضعف وخور، ولذلك كانت في الأكثر من كلام النسوان لضعفهن عن الاحتمال وقلة صبرهن وجب أن لا يندب إلا بأشهر أسماء المندوب وأعرفها لكي يعرفه السامعون.
وانظر: شرح المفصل 2/ 14.



ج / 1 ص -359- باب الترخيم:
الترخيم حذف أواخر الأسماء المفردة الأعلام تحقيقًا ولا يكون ذلك إلا/ 413 في النداء, إلا أن يضطر شاعر, ولا يكون في مضاف إليه, ولا مضاف ولا في وصف ولا اسم منون في النداء, ولا يرخم مستغاث به, إذا كان مجرورًا؛ لأنه بمنزلة المضاف ولا يرخم المندوب هذا قول سيبويه1, والمعروف من مذاهب العرب.
والترخيم يجري في الكلام على ضربين: فأجود ذلك أن ترخم الاسم فتدع ما قبل آخره على ما كان عليه وتقول في حارث: يا حار أقبل فتترك الراء مكسورة كما كانت. وفي مسلمة: يا مسلم أقبل وفي جعفر: يا جعف أقبل تدع الفتحة على حالها, وفي يعفر: يا يعف أقبل وفي برثن: يا برث أقبل, تترك الضمة على حالها, وفي هرقل أقبل تدع القاف على سكونها والوجه الآخر أن تحذف من أواخر الأسماء وتدع ما بقي اسمًا على حياله نحو: زيد وعمرو فتقول: في حارث يا حار وفي جعفر يا جعفُ أقبل/ 414 وفي هرقل: يا هرق أقبل. وكذلك كل اسم جاز ترخيمه فإن كان آخر الاسم حرفان زيدا معا حذفتهما؛ لأنهما بمنزلة زيادة واحدة, وذلك قولك: في عثمان: يا عثم وفي مروان يا مرو أقبل وفي أسماء يا أسم أقبلي وكذلك كل ألفين للتأنيث نحو: حمراء وصفراء وما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 330.



ج / 1 ص -360- أشبه ذلك. إذا سميت به, وكذلك ترخيم رجل يقال له: مسلمون تحذف منه الواو والنون وكذلك رجل اسمه مسلمان قال سيبويه: فأما رجل اسمه بنون فلا يطرح منه إلا النّون لأنك لا تصير اسمًا على أقل من ثلاثة أحرف1 ومن قال: يا حار قال: يا بني فإن رخمت اسما آخره غير زائد إلا أن قبل آخره حرفًا زائدًا وذلك الزائد واو ساكنة قبلها ضمة أو ياء ساكنة قبلها كسرة أو ألف ساكنة حذفت الزائد مع الأصلي وشبه بحذف الزائد ولم يكن ليحذف/ 415 الأصل, ويبقى الزائد, وذلك قولك في منصور: يا منص أقبل, تحذف الراء وهي أصل وتحذف الواو وهي زائدة, وفي عمار يا عمَّ أقبل وفي رجل اسمه عنتريس: يا عنتر أقبل فإن كان الزائد الذي قبل حرف الإِعراب متحركًا ملحقًا كان أو زائدًا جرى مجرى الأصل.
فأما الملحق فقولك في قَنَّور: يا قنو أقبل, وفي رجل اسمه هبينح2 يا هبي أقبل لأن هذا ملحق بسفرجل وسنبين لك هذا في موضعه من التصريف إن شاء الله.
وأما الزائد غير الملحق فقولك في رجل سميته بحولايا, وبردرايا, يا حولاي أقبل ويا بردراي أقبل3, لأن الحرف الذي قبل آخره متحركًا فأشبهت الألف التي للتأنيث الهاء التي للتأنيث فحذفت الألف وحدها كما تحذف الهاء وحدها؛ لأن الهاء بمنزلة اسم ضم إلى اسم ولا يكون ما قبلها/ 416 إلا مفتوحًا والهاء لا تحذف إلا وحدها, كان ما قبلها أصليا أو زائدًا أو ملحقًا أو منقوصًا وحذف الهاء في ترخيم الاسم العلم أكثر في كلام العرب من الترخيم فيما لا هاء فيه, وكذلك إن كان اسمًا عاما غير علم,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 338.
2
انظر: الكتاب 1/ 339.
3
قال سيبويه 1/ 339 هذا باب تكون الزوائد فيه أيضا بمنزلة ما هو من نفس الحرف، وذلك قولك في رجل اسمه حولايا أو بردرايا: يا بردراي أقبل، ويا حولاي أقبل، من قبل أن هذه الألف لو جيء بها للتأنيث والزيادة التي قبلها لازمة لها تقعان معا لكانت الياء ساكنة.



ج / 1 ص -361- والعلم قولهم في سلمة: يا سلم أقبل, تريد يا سلمة, وقالت الجهنية في هوذة بن علي الحنفي وكان كسرى أقطعه وتوَّجَهُ بتاج:

يا هَوذَ ذَا التاَّجِ إنَّا لا نَقُولُ سَوَى يا هَوذَ يا هَوذَ إما فَادحٌ دَهَمَا1

وأما العام فنحو قول العجاج:

جَارِيَ لاَ تسْتَنْكِرِي عَذِيرِي2 .................................


ًٍــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه: ترخيم "هوذ" من هوذة على لغة من ينتظر.
والهوذ: القطاة الأنثى وبها سمي الرجل هوذة.
والمعنى: إنا لا ندعو عند الملمات المفاجئة إلا هوذ ذا التاج. وهوذة: هو ابن علي الحنفي صاحب اليمامة كما ذكره الزبيدي شارح القاموس.
وانظر: شجر الدر لأبي الطيب/ 75، والأصمعيات/ 41، وارتشاف الضرب/ 288.
2
من شواهد الكتاب 1/ 325، و1/ 330، والشاهد فيه حذف حرف النداء ضرورة وهو اسم منكور قبل النداء لا يتعرف إلا بحرف النداء، وإنما يطرد الحذف في المعارف. ورد المبرد على سيبويه جعله الجارية نكرة وهو يشير إلى جارية بعينها فقد صارت معرفة بالإشارة. قال الأعلم: ولم يذهب سيبويه إلى ما تأوله المبرد عليه من أنه نكرة بعد النداء إنما أراد أنه اسم شائع في الجنس نقل إلى النداء وهو نكرة، وكيف يتأول عليه الغلط في مثل هذا وهو قد فرق بين ما كان مقصودا بالنداء من أسماء الأجناس وبين ما لم يقصد قصده ولا اختص بالنداء من غيره بأن جعل الأول مبنيا على الضم بناء زيد وغيره من المعارف وجعل الآخر معربا بالنصب وهذا من التعسف الشديد والاعتراض القبيح. والعذير هنا الحال، وكان يحاول عمل حلس لبعيره فهزئت منه فقال لها هذا وبعده:
سيري وإشفاقي على بعيري
أي: لا يستنكر عذيري وإشفاقي على بعيري وسيري عني واذهبي. ويقال أراد بالعذير ههنا: الصوت لأنه كان يرجز في عمله لحلسه فأنكرت عليه ذلك.
وانظر: المقتضب 4/ 260، وأمالي ابن الشجري 2/ 88، وابن يعيش 2/ 16، والعيني 4/ 277، والخزانة 1/ 283، وشرح المعلقات للتبريزي/ 48. وشرح الحماسة 4/ 180، والديوان.



ج / 1 ص -362- أي: حالي, وأما ما كان منقوصًا وكان مع الهاء على ثلاثة أحرف فقولهم: يا شاء ادجني1.
قال أبو علي2: إذا وصلت سقطت همزة الوصل فالتقت الألف وهي ساكنة مع الراء مع ادجني وهي ساكنة أيضًا فحذفت الألف لالتقاء الساكنين/ 417 ووليت الشين المفتوحة الراء, وإذا وقفت قلت: يا أدجني مثل أقبلي فلم يحذف الألف رخم شاة ويا ثبت أقبلي تريد: ثبة وناس من العرب يثبتون الهاء فيقولون: يا سلمة أقبلي, يقحمون الهاء ويدعون الاسم مفتوحا على لفظ الترخيم, والذين يحذفون في الوصل الهاء إذا وقفوا قالوا: يا سلمهْ ويا طلحهْ لبيان الحركة, ولم يجعلوا المتكلم بالخيار في حذف الهاء عند الوقف, والشعراء إذا اضطروا حذفوا هذه الهاء في الوقف؛ لأنهم إذا اضطروا يجعلون المدة التي تلحق القوافي بدلًا منها قال ابن الخَرِع:

وكَادَتْ3 فَزَارَةُ تَشَقَى بِنَا فَأَوْلَى فَزَارَةَ أَوْلى فَزَارا4

والضم جائز في البيت, وكذلك إن رخمت اسمًا مركبًا من اسمين قد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "ارجني" بالراء، وليس صحيحا، إذ هو "ادجني" من دجن في بيته إذا لزمه وبه سميت دواجن البيت وهي ما ألف من الشاء وغيرها، والواحدة: داجنة.
2
أبو علي تلميذ ابن السراج وليس من المعقول أن ينقل عنه. ربما كان هذا من عمل النساخ.
3
رواه سيبويه بلا واو، ولا يستقيم الوزن.
4
من شواهد الكتاب 1/ 331، رخم فزارة ووقف عليها بالألف عوضا من الهاء لأنهم إذا رخموا ما فيه الهاء ثم وقفوا عليه ردوا الهاء للوقف فلما لم يمكنه رد الهاء ههنا جعل الألف عوضا منها.
يقول: كدنا نوقع بفزارة فتشقى بنا لولا فرارهم وتحصنهم منا. ويقال للرجل إذا أفلت: وقد كاد يعطب أولى له، وهي كلمة وعيد وتهديد فلذلك قال: فأولى فزارة أولى، أي: أولى لك يا فزارة.
وانظر: الصاحبي/ 194، وشرح السيرافي 3/ 67.



ج / 1 ص -363- ضم أحدهما إلى الآخر, فحكم الثاني حكم الهاء في الحذف وذلك. نحو: حضرموت, ومعدي كرب, ومارسرجس/ 418 ومثل رجل سميته بخمسة عشر تحذف الثاني وتبقي الصدر على حاله فتقول: يا حضر أقبل ويا معدي أقبل ويا خمسة أقبل1 قال سيبويه: وإن وقفت قلت: يا خمسهْ بالهاء, وإنما قال ذلك لأن تاء التأنيث لا ينطق بها إلا في الوصل. فإذا وقفت عليها وقفت بالهاء ومما شبه بحضرموت: عمرويه زعم الخليل: أنه يحذف الكلمة التي ضمت إلى الصدر فيقول: يا عمر أقبل قال: أراه مثل الهاء لأنهما كانا بائنين فضم أحدهما إلى الآخر2.
واعلم: أن من قال: يا حار, فإنه لا يعتد بما حذف ويجعل حكم الاسم حكم ما لم تحذف منه شيئًا. فإن كان قبل الطرف حرفًا يعتل في أواخر الأسماء وينقلب أعل وقلب نحو: رجل سميته بعرقوة إن رخمت فيمن قال يا حار قلت: يا عرقي أقبل, ولم يجز أن تقول: يا عرقو؛ لأن الاسم لا يكون آخره/ 419 واوًا قبلها حرف متحرك وهذا يبين في التصريف, ومن قال: يا حار فإنما يجعل الراء حرف الإِعراب, ويقدره تقدير ما لا فاء فيه, فيجب عليه أن لا يفعل ذاك إلا بما مثله في الأسماء فمن رخم اسمًا فكان ما بيقى منه على مثال الأسماء فجائز وإن كان ما يبقى على غير مثال الأسماء فهو غير جائز وكذلك إن كان قبل المحذوف للترخيم شيء قد سقط لالتقاء الساكنين فإنك إذا رخمت وحذفت رجع الحرف الذي كان سقط لالتقاء الساكنين نحو: رجل سميته "بقاضون" كان الواحد "قاضي" قبل الجمع فلما جاءت واو الجمع سقطت الياء لالتقاء الساكنين فإن رخمت "قاضين" وهو في الأصل قلت: يا قاضي, فرجع ما كان سقط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذا رأي الخليل، انظر: الكتاب 1/ 341... مثل: حضرموت، ومعدي كرب، وبخت نصر، ومارسرجس ومثل رجل اسمه: خمسة عشر ومثل: عمرويه، فزعم الخليل: أنه يحذف الكلمة التي ضمت إلى الصدر رأسا.
2
انظر: الكتاب 1/ 341.



ج / 1 ص -364- لالتقاء الساكنين1 وشبيه بهذا وقفك على الهاء إذا رخمت رجلًا اسمه: خمسة عشر؛ لأن التاء إنما جلبها الوصل فلما زال/ 420 الوصل رجعت الهاء, وكذلك إن كنت أسكنت حرفًا متحركًا للإِدغام في حرف مثله وقبله ساكن فحذفت الأخير للترخيم فإنك ترد الحركة لالتقاء الساكنين, وذلك قولك لرجل اسمه "راد" يا رادِ أقبل2 إذا رخمت وفي محمارٍّ أقبل؛ لأن الأصل: رادد ومحمارر, وأما مفر فإذا سميت به ورخمته قلت: يا مفر أقبل ولم تحرك الراء لأن ما قبلها متحرك وأما محمر إذا كان اسم رجل فإنك إذا رخمته تركت الراء الأولى مجزومة لأن ما قبلها متحرك فقلت: يا محمر أقبل ولقائل أن يقول: هلاَّ رددت الحركة فقلت: يا محمرُ أقبل, إذ كان الأصل محمررًا كما رددت الياء في "قاضي" فالجواب في ذلك: أنك إنما رددت الياء في "قاضي" لأنك لم تبن الواحد على حذفها كما بنيت "دم" على الحذف ومحمر لم تلحق الراء الأخيرة بعد أن تم بالأولى ولم يتكلم بأصله.
فإن كان آخر الاسم حرفًا مدغمًا بعد الألف/ 421 وأصل الأول منهما السكون, أعني الحرفين المدغم أحدهما في الآخر حركته إذا رخمته بحركة ما قبله وذلك نحو: اسحارّ يا هذا تقول: يا اسحار فتحركه بحركة أقرب المتحركات منه. وكذلك تفعل بكل ساكن احتيج إلى حركته من هذا الضرب. قال رجل من أزد السراة:

ألا رُبَّ مَوْلُودٍ وليَسْ لَه أبٌ وذي وََلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أبوانِ3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الكتاب 1/ 340 هذا باب ما إذا طرحت منه الزائدتان اللتان بمنزلة زيادة واحدة رجعت حرفا وذلك قولك في رجل اسمه قاضون، يا قاضي أقبل وفي رجل اسمه ناجي، يا ناجي أقبل، أظهرت الياء لحذف الواو والنون.
2
انظر: الكتاب 1/ 340.
3
من شواهد سيبويه 1/ 341، 2/ 258، على سكون اللام في "يلده" وفتح الدال فإنه أراد كسر اللام وسكون الدال، فسكن المكسورة تخفيفا فالتقى ساكنان فحرك الدال بحركة أقرب المتحركات منه وهي الفتحة لأن الياء مفتوحة، ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن غير حاجز حصين.
وأراد بالمولود الذي لا أب له: عيسى عليه السلام، وبذي الولد الذي لم يلده أبوان: آدم عليه السلام. وفيه شاهد على إتيان رب للتقليل، وفيه رواية:

عجبت لمولود وليس له أب.

قيل إنه لعمرو الحبني، وانظر: شرح السيرافي 3/ 77، والخصائص 2/ 333، وابن يعيش 4/ 48، والمغني 1/ 144، والخزانة 1/ 397، والعيني 3/ 354.



ج / 1 ص -365- ففتحَ الدالَ بحركةِ الياءِ لما احتاجَ إلى تحريكها؛ لأن الفتحة قريبةٌ مِنها, وأسحارٌ اسم وقع مدغمًا آخره وليس لرائه الأولى نصيب في الحركة.
واعلم: أن الأسماء التي ليست في أواخرها هاء أن لا يحذف منها أكثر, قال سيبويه: وليس الحذف لشيء من هذه الأسماء ألزم منه لحارث ومالك وعامر, قال: وكل اسم خاص رخمته في النداء فالترخيم فيه جائز وإن كان في هذه الأسماء الثلاثة أكثر1 / 422 وكل اسم على ثلاثة أحرف لا يحذف منه شيء إذا لم يكن آخره الهاء لأن أقل الأصول ثلاثة, فإنما يرخم من الأربعة وما زاد؛ لأن ما بقي في الأسماء على عدته. والفراء يرخم من ذلك ما كان محرك الثاني نحو: قدم وعضد وكتف إذا سمي به رجلًا وقال: إن من الأسماء ما يكون على حرفين كدم ويد ولم يجز أن تقول في بكر: يا بك أقبل؛ لأنه لا يكون اسم على حرفين ثانيه ساكن إلا مبهمًا نحو من وكم, وليس من الأسماء اسم نكرة ليس في آخره هاء تحذف منه شيء إذا لم يكن اسمًا غالبًا إلا أنهم قد قالوا: يا صاح أقبل وهم يريدون: يا صاحب وذلك لكثرة استعمالهم هذا الحرف والفراء إذا رخم: قمطر, حذف الطاء مع الراء لأنها حرف ساكن, والنحويون على خلافه في حذف الطاء, وما أشبهها من السواكن الواقعة ثالثة, ويجيز الفراء في حمار: يا حما أقبل, يصير مثل رضا. وفي سعيد: يا سعي يصير/ 423 مثل عمي ولا يجيز: يا ثمو في ثمود؛ لأنه ليس له في الأسماء نظير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 335.



ج / 1 ص -366- واعلم: أن الشعراء يرخمون في غير النداء اضطرارًا, فمن ذلك قول الأسود بن يعفر:

أَوْدَى ابنُ جَلْهُمَ عَبَّادٌ بِصِرْمَته إنَّ ابْنَ جُلْهَمَ أمسى حَيَّةَ الوادي1

أراد: جُلهمه والعربَ يسمون الرجل جُلهمه والمرأة جُلهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 344 على قولهم: جلهم وأنه إذا أراد أمه جلهم فلا ترخيم فيه على هذا، لأن العرب سمت المرأة جلهم، والرجل جلهمة بالهاء، وكذا جرى استعمالهم للاسمين، وإن كان أراد أباه فقد رخم.
والصرمة: القطعة من الإبل ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وأودى بها: ذهب بها، وقوله: أمسى حية الوادي: أي: يحمي ناحيته ويتقي منه كما يتقي من الحية الحامية لواديها المانعة. والوادي: المطمئن من الأرض.
وانظر: شرح السيرافي 3/ 80، والإنصاف/ 195، واللسان "جلهم" والخزانة 1/ 374.



ج / 1 ص -367- باب مضارع للنداء:
اعلم: أن كل منادى مختص, وأن العرب أجرت أشياء لما اختصتها مجرى المنادى كما أجروا التسوية مجرى الاستفهام, إذ كان التسوية موجودة في الاستفهام وذلك قولهم: أما أنا فأفعل كذا وكذا أيها الرجل, أو: نفعل نحن كذا وكذا أيها القوم. واللهم اغفر لنا أيتها العصابة.
قال سيبويه: أراد أن يؤكذ لأنه اختص إذ قال: إنه, لكنه أكد كما تقول لمن هو مقبل عليك كذا كان الأمر يا فلان1, ولا يدخل في هذا الباب/ 424 لأنك لست تنبه غيرك. ومن هذا الباب قول الشاعر:

إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَنْتَمي لأَبٍ عنْهُ ولا هُوَ بالأَبْناءِ يَشرِيناَ2

نصب بني مختصا على فعل مضمر كما يفعل في النداء نحو "أعني" وما أشبه ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
ونص الكتاب 1/ 326: أراد أن يؤكد لأنه اختص حين قال: أنا، ولكنه أكد، كما تقول: للذي هو مقبل عليك بوجهه مستمع منصت كذا كان الأمر يا أبا فلان توكيدا.
2
الشاهد فيه: نصب "بني" على الاختصاص والتقدير "أعني".
وقوله: إنا بني نهشل: يعني نهشل بن دارم بن مالك بن تميم. ومن قال: إنا بنو نهشل جعل "بنو" خبر "إن" ومن قال: "بني" فإنما جعل الخبر أن تبتدر في البيت الذي يلي الشاهد وهو:

إن تبتدر غاية يوما لمكرمة تلق السوابق منا والمصلينا

ونسب هذا الشاهد المبرد في الكامل إلى رجل يكنى أبا مخزوم من بني نهشل بن دارم، وهو بشامة بن حزن النهشلي. ونسبها صاحب الحماسة لبعض بني قيس بن ثعلبة. وانظر: الكامل/ 65، طبعة ليبسك، والحماسة 1/ 97، والاقتضاب للبطليوسي/ 318، وعيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 190 والشعر والشعراء 2/ 638، وكتاب الفاخر للمفضل بن سلمة/ 177، ورواه: لا ندعى لأب، والعيني 3/ 370، والخزانة 3/ 510.



ج / 1 ص -368- مسائل من هذا الباب:
تقول: يا هذا الطويلُ أقبل, في قول من قال: يا زيدُ الطويلُ, ومن قال: يا زيدُ الطويلَ قال: يا هذا الطويلَ, وليس الطويل بنعت لهذا ولكنه عطف عليه وهو الذي يسمى عطف البيان؛ لأن هذا وسائر المبهمات إنما تبينُ بالأجناس, ألا ترى أنكَ إذا قلت: جاءني زيدٌ فخفت أن يلتبس الزيدان على السامع أو الزيود قلت: الطويل وما أشبه لتفصل بينه وبين غيره ممن له مثل اسمه وإذا قلت: جاءني هذا, فقد أومأت له إلى واحد بحضرتك, وبحضرتك أشياء كثيرة, وإنما ينبغي لك أن تبين له عن الجنس الذي أومأت له إليه لتفصل ذلك عن جميع ما بحضرتك من الأشياء/ 425, ألا ترى أنك لو قلت له: يا هذا الطويلُ وبحضرتك إنسان ورمح وغيرهما لم يدر إلى أي شيء تشير. وإن لم يكن بحضرتك إلا شيء طويل واحد وشيء قصير واحد فقلت: يا هذا الطويل جاز عندي؛ لأنه غير ملبس, والأصل ذاك وأنت في المبهمة تخص له ما يعرفه بعينه وفي غير المبهمة تخص له ما يعلمه بقلبه. وتقول في رجل سميته بقولك: زيد وعمرو يا زيدًا وعمرًا أقبل تنصب لطول الاسم, ولو سميته: طلحة وزيدًا لقلت: يا طلحة وزيدًا أقبل, فإن أردت بطلحة الواحدة من الطلح قلت: يا طلحةً وزيدًا أقبل؛ لأنك سميته بها منكورة ولم تكن جميع الاسم فتصير معرفة, إنما



ج / 1 ص -369- هي في حشو الاسم كما كانت فيما نقلتها عنه وتقول: يا زيدُ الظريفَ, على أصلِ النداء عند البصريين1, وقال الكوفيون: يراد بها يا أيها الظريفَ, فلما لم يأت "بيا أيها", نصبته, وربما نصبوا المنعوت بغير تنوين/ 426 فأتبعوه نعته وينشدون:

فَما كَعْبُ بنُ مَاَمَة وابنُ سُعدى بأَجْودَ مِنْكَ يا عُمر الجَوادا2

والنصب عند الكوفيين في العطف على "أيها" كما كان في النعت فلما لم يأتي "يا أيها" نصب, ويجيزون: يا عبد الله وزيدًا, ويقولون: يا أبا محمدٍ زيدٌ أقبل وهو عند البصريين بدل وهو عند الكوفيين من نداء ابن. وإذا قلت: زيدًا فهو عند الكوفيين نداء واحد ويسميه البصريون عطف البيان, ويجيز الكوفيون: يا أيها الرجلُ العاقلَ على تجديد النداء, كذا حكي لي عنهم, ويجيز البصريون: يا رجلًا, ولا يجيز الكوفيون ذاك إلا فيما كان نعتًا نحو قوله:

فيَا رَاكِبًَا إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ نَدَاماي مِنْ نَجْرَانَ أنْ لا تلاقيا3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال المبرد في المقتضب 3/ 207، وإن نعت مفردا بمفرد فأنت في النعت بالخيار إن شئت رفعته، وإن شئت نصبته، تقول: يا زيدُ العاقلُ أقبل، ويا عمرُ الظريفُ هلم، وإن شئت قلت: العاقلَ، والظريفَ، أما الرفع فلأنك أتبعته مرفوعا.
2
الشاهد فيه: نعت المنادى المفرد منصوبا بغير ابن عند الكوفيين، وأوله المانعون بالقطع، أي: إنه مفعول لفعل محذوف.
وكعب بن مامة هذا من إياد، وكان من أجواد العرب المشهورين حتى ضرب به المثل في ذلك وهو الذي آثر رفيقه بالماء فنجا ومات هو عطشا. وابن سعدى، هو أوس بن حارثة بن لام الطائي أجود الأجواد أيضا الذين ضرب بجودهم المثل... وعمر المذكور: هو ابن عبد العزيز بن مروان المشهور بالعدل والديانة. والبيت من قصيدة لجرير يمدح بها عمر المذكور.
وانظر: المقتضب 4/ 208، والكامل/ 132، والمفضليات للأنباري/ 449، وأمالي ابن الشجري 1/ 307، والعيني 4/ 254، والتصريح 2/ 169.
3
مر تفسير هذا البيت ص403.



ج / 1 ص -370- ولا يكادون يحذفون "يا" من النكرة ويقولون: وا زيدُ في النداء ويقولون: وأ أي زيد.
قال أبو العباس: إنما قالوا: هذا ابنمٌ, ورأيت ابنمًا, ومررت بابنمٍ, فكسروا/ 427 ما قبل الميم إذا انكسرت وفعلوا ذلك في الضم والنصب؛ لأن هذه الميم زيدت على اسم كان منفردًا منها, وكان الإِعراب يقع على آخره, فلما زيدت عليه ميم1 أُعربت الميم إذ كانت طرفًا, وأُعربت ما قبلها إذ كانت تسقط فرجع الإِعراب إليه, وقولك وقد يخفف الهمز فتقول: مُرْ فيقع الإِعراب على الراء, فلذلك تبعت الهمزة وكذلك إذا قلت: يا زيدَ بنَ عمرو, جعلتهما بمنزلة واحدة اسم واحد واتبعت الدال حركة ابن فهو مثل ابنم, وقال في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. لا يجوز: اللهم اغفر لهم أيتها العصابة. وقال: قلت لأبي عثمان2: ما أنكرت من الحال للمدعو؟ قال: لم أنكر منه إلا أن العرب لم تدع على شريطة, لا يقولون: يا زيد راكبًا, أي: ندعوك في هذه الحال ونمسك عن دعائك ماشيًا؛ لأنه إذا قال: يا زيد فقد وقع الدعاء على كل حال. قال: قلت: فإنه إن احتاج/ 428 إليه, راكبًا ولم يحتج إليه في غير هذه الحال, فقال: يا زيد راكبًا, أي: أريدك في هذه الحال, قال: ألست قد تقول: يا زيد دعاء حقا؟ قلت: بلى, قال: علام تحمل المصدر؟ قلت: لأن قولي: يا زيد كقولي3: أدعو زيدًا فكأني قلت: أدعو دعاء حقا قال: فلا أرى بأسًا بأن تقول على هذا: يا زيد قائمًا وألزم القياس. قال أبو العباس: ووجدت أنا تصديقًا لهذا قول النابغة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "ميما" بالنصب.
2
هذه المسألة ذكرها ابن الأنباري في الإنصاف/ 186، والبغدادي في الخزانة 1/ 285.
3
في الأصل "محقق لي" وهو تصحيف.



ج / 1 ص -371- قَالت بنو عامرٍ خَالوا بني أسَد يا بُؤْسَ لِلَجْهِل ضَرَّارًا لأقوامِ1

وقال الأخفش: لو قلت: يا عبد الله صالحًا, لم يكن كلامًا. وقال أبو إسحاق يعني الزيادي2: كان الأصمعي3: لا يجيز أن يوصف المنادى بصفة البتة مرفوعة ومنصوبة.
وقال أبو عثمان لا أقول: يا زيد وخيرًا من عمرو أقبلا, إذا أردت بخير من عمرو المعرفة, لأني أدخل الألف واللام إذا تباعد المنادى من حرف النداء كما أقول: يا زيد والرجل أقبلا/ 429 ولكن أقول: يا زيد والأخير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 346 -على إقحام اللام بين المضاف والمضاف إليه في قوله: يا بؤس للجهل- توكيدا للإضافة. خالوا: من خاليته، يقال: خاليته مخالاة وخلاء. فمعناه: أخلوا من حلفهم وتاركوهم. وهذه اللام من الاسم بمنزلة الهاء من طلحة، لأن الاسم على حاله قبل أن تلحق. وهذه اللفظة تأتي بها العرب على جهة التضعيف والتأييس من الأمر.
ومعنى البيت: أن بني عامر أضر بهم في عرضهم علينا مقاطعة بني أسد، وما أبأس الجهل على صاحبه وأضر له.
وانظر: الشعر والشعراء/ 95، والأغاني 1/ 78، وشرح السيرافي 3/ 36، والخصائص 3/ 106، وشرح الحماسة/ 1483، والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 77، وشعراء النصرانية/ 710، والموشح للمرزباني/ 44, والإنصاف/ 186، والديوان/ 71.
2
الزيادي: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر عبد الرحمن بن زياد بن أبيه، قرأ الكتاب على أبي عمر الجرمي وأتمه على المازني. مات سنة: "249هـ" ترجمته في مراتب النحويين لأبي الطيب/ 75، وأخبار النحويين البصريين/ 67، ومعجم الأدباء 1/ 158.
3
هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي من تلاميذ أبي عمرو بن العلاء، أخذ عن خلف الأحمر أيضا وروى عنه شعر جرير، ويقرر الخطيب البغدادي أنه كان دون أبي زيد في النحو والقواعد، توفي سنة 216هـ وقيل سنة 215هـ أو 217هـ ترجمته في تاريخ بغداد جـ10/ 410، وطبقات الزبيدي رقم 94، ونزهة الألباء/ 150، وبغية الوعاة/ 313، وإنباه الرواة جـ2/ 197، ومراتب النحويين/ 57.



ج / 1 ص -372- أقبلا ويا زيد ويا خيرًا من عمرو أقبلا, إذا أردت حرف النداء كان ما بعده معرفة. ولم يجئ معه الألف واللام, كما تقول: يا خيرًا من زيد العاقل أقبل فتنصب العاقل؛ لأنه صفة له, وكذلك: يا زيد ويا أخير أقبلا, وقال أبو عثمان: أنا لا أرى أن أقول: يا زيد الطويل وذا الجمة إن عطفت على زيد, والنحويون جميعًا في هذا على قول.
قال: وأرى إن عطفت "ذا الجمة" على "الطويل" أن أرفعه كما فعلت في الصفة, والنحويون كلهم يخالفونه ولا يجيزون إلا نصب ذي الجمة, وهذا عنده كما تقول: يا زيدُ الطويلُ ذو الجمة, إذا جعلته صفة للطويل. وإن كان وصفًا لزيد أو بدلًا منه نصبته, وكان أبو عثمان يجيز يا زيد أقبل على حذف ألف الإِضافة, لأنه يجوز في الإِضافة: يا زيدِ, أردت: يا زيدي فأبدلت من الياء ألفًا. وعلى هذا قرئ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ}1, و{يَا قَوْمِ/ 430 لا أَسْأَلُكُمْ}2: قال: ومن زعم أنه على حذ ألف الندبة فهذا خطأ؛ لأن من كان من العرب لا يلحق الندبة ألفًا فهي عنده نداء, فلو حذفوها لصارت بدلًا على غير جهة الندبة. وقال أبو العباس: لا أرى ما قال أبو عثمان في حذف الألف إذا جعلتها مكان ياء الإِضافة. صوابًا نحو: يا غلامًا أقبل لا يجوز حذف الألف لخفتها كما تحذف الياء إذا قلت: يا غلامِ أقبل.
وقال: يا أبت. لا يجوز عندي إلا على الترخيم كما قال سيبويه مثل: يا طلحة أقبل3 وقال: زعم أبو عثمان أنه يجيز: يا زيد وعمرًا أقبلا, على الموضع كما أجاز: يا زيدُ زيدًا أقبل, فعطف زيد الثاني على الموضع عطف البيان, وأهل بغداد يقولون: يا الرجلُ أقبل, ويقولون: لم نر موضعًا يدخله التنوين يمتنع من الألف واللام وينشدون:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
مريم: 42.
2
هود: 51.
3
انظر: الكتاب 1/ 333.



ج / 1 ص -373- فَيا الغُلامَانِ اللَّذَانِ فَرّا إيَّاكُما أن تُكْسِبانا شَرّا1

وقال أبو عثمان: سألت/ 431 الأخفش كيف يرخم طيلسان فيمن كسر اللام على قولك: يا حار؟ فقال: يا طيلس أقبل, قلت: أرأيت فيعل اسمًا قط في الصحيح إنما يوجد هذا في المعتل نحو: سيد وميت. قال: فقال: قد علمت أني قد أخطأت, لا يجوز ترخيمه إلا على قولك: يا حار, قال: وكان الأخفش لا يجوز عنده ترخيم حُبلوى اسم رجل فيمن قال: يا حار؛ وذلك لأنه يلزمه أن يحذف يائي النسب ويقلب الواو ألفًا لانفتاح ما قبلها, فيقول: يا حُبلى فتصير ألف فعلى منقلبة, وهذا لا يكون أبدًا إلا للتأنيث. فلهذا لا يجوز؛ لأن ألف التأنيث لا تكون منقلبة أبدًا من شيء, وهذا البناء لا يكون للمذكر أبدًا, وقال: كان الأخفش يقول: إذا رخمت سفيرج اسم رجل في قول من قال: يا حار. فحذفت الجيم لزمك أن ترد اللام التي حذفتها لطول الاسم وخروجه من/ 432 باب التصغير فتقول: يا سفيرلُ أقبل؛ لأنه لما صار اسمًا على حياله فحذفت الجيم على أن يعتد بها وتجعله بمنزلة "قاضون" اسم رجل إذا قلت: يا قاضي, الياء التي كانت ذهبت لالتقاء الساكنين لما حذفت ما حذفت من أجله.
قال أبو العباس: وليس هذا القول بشيء. ووجه الغلط فيه بينِّ, وذلك لأنك لم تقصد به إلى سفرجل فتسميه به ولا هو منه في شيء, إنما قصدت إلى هذا الذي هو سفيرج ولا لام فيه فهو على مثال ما يرخم فرخمته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذا البيت شائع في كتب النحو، ولم يعرف له قائل ولا ضميمة, وخرجه ابن الأنباري في الإنصاف على حذف المنادى وإقامة صفته مقامه قال: والتقدير فيه: فيا أيها الغلامان. وهذا قليل بابه في الشعر. وإياكما تحذير: وأن تكسبانا، أي: من أن تكسبانا، وماضيه: أكسب يتعدى إلى مفعولين، يقال: كسبت زيدا مالا وعلما. أي: أنلته.
وانظر: المقتضب 4/ 243، والإنصاف/ 188، وأمالي ابن الشجري 2/ 182، وابن يعيش 2/ 9، وأسرار العربية/ 230.

ج / 1 ص -374- بعد أن ثبت اسمًا, ألا ترى أنك تقول: في تصغير سفرجل: سفيرج وسفيريج للعوض, ولو سميته: سفيريج لم يجز أن تقول فيه: سفرجل, واسمه سفيريج؛ لأنك لست تقصد إلى ما كان يجوز في سفرجل, وكذلك فرزدق. لو سميته بتصغيره فيمن قال: فريزد, لم يجز في اسمه أن تقول: فريزق/ 433 وإن كان ذلك يجوز في تصغير فرزدق لأنك سميته بشيء بعينه فلزمه. وتقول: يا زيد وعمرو الطويلين والطويلان, لأنه بمنزلة قولك: يا زيد الطويل, وتقول يلا هؤلاءِ وزيدُ الطوالُ, لأن كله رفع والطوال عطف عليهم, ولا يجوز أن يكون صفة لافتراق الموصوفين, وتقول: يا هذا ويا هذان الطَّوالُ وإن شئت قلت: الطَّوالُ لأن هذا كله مرفوع, والطوال عطف عليهم ههنا, وليس الطوال بمنزلة: يا هؤلاء الطوال؛ لأن هذا يقبح من جهتين: من جهة أن المبهم إذا وصفته بمنزلة اسم واحد فلا يجوز أن تفرق بينه وبينه, والجهة الأخرى أن حق المبهم أن يوصف بالأجناس لا بالنعوت, وتقول: يا أيها الرجلُ وزيدُ الرجلين الصالحين تنصب ولا ترفع من قبل أن رفعهما مختلف وذلك أن زيدًا على النداء/ 434 والرجل نعت "لأي" وتقول في الندبة: يا زيدُ زيداه, ويا زيدًا زيداه, وقوم يجيزون: يا زيدًا زيداه, وقوم يجيزون: يا زيدًا يا زيداه, ويا زيداه يا زيداه, وقد مضى تفسير ما يجوز من ذا وما لا يجوز, وقالوا: من قال يا هناهُ ويا هناهِ بالرفع والجر, من رفع توهم أنه طرف للاسم ويكسر لأنه جاء بعد الألف. والتثنية: يا هنانيه, ويا هناناه ويا هنوتاه في الجمع, وهنتاه في المؤنث وهنتانيه في التثنية وهنتاناه, ويا هناتوه في الجمع لا غير, والفراء لا ينعت المرخم إلا أن يريد نداءين, ونعت المرخم عندي قبيح كما قال الفراء من أجل أنه لا يرخم الاسم إلا وقد علم ما حذف منه وما يعني به. فإن احتيج إلى النعت للفرق فرد ما سقط منه أولى كقول الشاعر:

أضمرَ بن ضمرةَ ماذا ذكر تَ من صرمةٍ أخذتْ بالمرار1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه حذف ياء بالنداء، والأصل: يا ضمر يا بن ضمرة. وضمرة: هو أبو بطن من العرب، وضمرة بن ضمرة أحد رجال العرب معروف وهو صاحب خطاب النعمان، وله حديث. وكان اسمه شق بن ضمرة فسماه النعمان ضمرة، والصرمة: القطعة من الإبل. والمرار: موضع. وهو لسبرة بن عمرو الأسدي الفقعسي. وانظر: النوادر لأبي زيد/ 155، والجمهرة لابن دريد 2/ 366، ورواه: من صرمة أخذت بالمغار، والاشتقاق/ 17، ومعاني القرآن 2/ 416.



ج / 1 ص -375- أراد/ 435: يا ضمر يابن ضمرة. والكوفيون يجيزون: يا جرجر في جرة, وفي حولايا يا حول, فيحذفون الزوائد كلها, وهذا إخلال بالاسم. يسقطون فيه ثلاثة أحرف فيها حرف متحرك ولا نظير لهذا في كلام العرب, ويقولون للمرأة: يا ذات الجمة أقبلي, ويا ذواتي الجمم للاثنين, وللجماعة يا ذوات الجمم, بكسر التاء وقد يقال: يا ذواتي الجمة, ويا ذوات الجمة.
قال أبو بكر: وذلك أن ذات إنما هي ذاة, فالتاء زائدة للجمع, وإنما صارت الهاء في الواحدة تاء حين أضفتها ووصلتها بغيرها. وتقول: يا هذا الرجلُ. والرجلَ أقبل, ويا هذان الرجلان والرجلين, مثل: يا زيد الظريفُ والظريفَ, النصب على الموضع والرفع على اللفظ, وتقول: يا أخوينا زيد وعمرو, على قولك: يا زيد وعمرو, يعني البدل.
وقال الأخفش: وإن شئت قلت: زيد وعمرو على التعويض كأنك قلت أحدهما زيد والآخر عمرو.
قال أبو بكر: هذا عندي إنما يجوز/ 346 إذا أراد أن يخبر بذلك بعد تمام النداء. وتقول: يا أيها الرجلُ زيدٌ, لأن زيدًا معطوف على الرجل عطف البيان يجري عليه كما يجري النعت للبيان, ولو جاز أن لا تنون زيدًا لجاز أن تقول: يا أيها الجاهلُ ذا التنزي1.
على النعت وإنما هو ذو التنزي, وتقول: يا أيها الرجلُ عبدُ الله, تعطف على الرجل عطف البيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يشير إلى الرجز الذي مر شرحه/ ص: 411.



ج / 1 ص -376- قال الأخفش: ولو نصبت كان في القياس جائز إلا أن العرب لا تكلم به نصبًا, ولكن تحمله على أن تبدله من "أي"؛ لأن "أي" في موضع نصب على أصل النداء, وقال: إذا رخمت رجلًا اسمه شاة قلت: يا شا أقبل, ومن قال: يا حارُ فرفع قال: يا شاةُ أقبل فرد الهاء الأصلية؛ لأنه لا يكون الاسم على حرفين أحدهما ساكن إلا مبهمًا1, وقال: تقول في شية على ذا القياس يا وشي أقبل, وفي دية: يا ودي/ 437 أقبل فترد الواو في أوله؛ لأنها ذهبت من الأول لأن الأصل: وديت ووشيت وإنما ردت الواو؛ لأن مثل: شيء لا يكون اسما. وذلك أن الاسم لا يكون على حرفين أحدهما ساكن قال: وتكسر الواو إذا رددتها لأن الأصل وشية, كما قالت العرب: وجهة لما أتموا: وقالوا: ولدة, والكوفيون وقوم يجيزون: يا رجل قام ويقولون: إن كان تعجبًا نصبت كقولك: يا سيدًا ما أنت من سيد, ويكون مدحًا كقولك: يا رجلًا لم أرَ مثله, وكذلك جميع النكرات عندهم وتقول: يا أيها الرجل, ويا أيها الرجلان, ويا أيها الرجال, ويا أيها النساء على لفظ واحد, والاختيار في الواحدة في المؤنث يا أيتها المرأة, وإذا قلت: يا ضاربي فأردت به المعرفة كان مثل: يا صاحبي وغلامي ويجوز عندي أن تقول: يا ضاربِ أقبل كما تقول: يا غلامِ أقبل, فإن أردت/ 438 غير المعرفة لم يجز إلا إثبات الياء وتقول: يا ضاربي غدًا وشاتمي؛ لأنك تنوي الانفصال وتقول: يا قاضي المدينة, لك أن تنصبهما ولك أن ترفع الأول وتنصب الثاني والكوفيون يجيزون نصب الأول بتنوين؛ لأنه يكون خلفًا وما لا يكون خلفًا فلا يجوز في الأول عندهم التنوين مثل: يا رجلُ رجلنا, لا يجيزون النصب في الأول وقالوا: كل ما كان يكون خلفًا فلك الرفع بلا تنوين والنصب بتنوين ويقولون: يا قائمًا أقبل ويا قائمُ أقبل, ويجيزون أن يؤكد ما فيه وينسق عليه ويقطع منه كما يصنع بالخلف ويجيزون: يا رجلُ قائمًا أقبل على نداءين وإن شئت كان في الصلة ويجيزون: يا رجلُ قائمٌ أقبل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أي: ضميرا.



ج / 1 ص -377- ينوون فيها الألف واللام. ويحكون عن العرب: يا مجنونُ مجنونُ أقبل, ويجيزون: يا أيها الذي قمت أقبل/ 439 ويا أيها الذي قام أقبل وهو جائز ولا يجيزونه في من وكذا ينبغي ويقولون: يا رجلًا قمت أقبل, ويا رجلُ قمت أقبل, والفراء إذا خاطب رفع لا غير, ويقولون: يا قاتلَ نفسك ويا عبدَ بطنك وهذا جائز قال أحمد بن يحيى1: لو أجزت الرفع لم يكن خطأ قال: وكذلك: يا ضاربنا ولا شاتمنا يختار النصب مع كل ما ظهرت إضافته قال: ويجوز في القياس الرفع وأنت تنوي الألف واللام. فإذا كان لا يجوز فيه الألف واللام لم يجز إلا النصب مثل: يا أفضل منا, ويا أفضلنا, ويا غلام زيد ويا غلام رجل, إنما يجوز الرفع في القياس مع ضارب زيدٍ, وحسن الوجهِ وقال: أما مثلنا وشبهنا فالنصب لا غير.
وقال الأخفش: تقول: إذا نسبت رجلًا إلى حباري2 وحبنطي3 قلت: حباريُّ وحبنطيُّ فإذا رخمت لم ترد الألف, وكذلك إذا نسبت إلى مرمى فقلت: مرميُّ لم/ 440 ترد الألف لو رخمته لأن هذا لم يحذف لالتقاء الساكنين ولو كان حذف لالتقاء الساكنين لبقي الحرف مفتوحًا فكان يكون: حباريُّ وحبنطيُّ قال: وإن شئت قلت: إني أرد الألف وأقول ذهب لاجتماع الساكنين ولكنهم كسروا لأنهم رأوا جميع النسب يكسر ما قبله قال: ومن قال: احذفه على أني أبنيه بناء قال: لا أحذفه لاجتماع الساكنين وجب عليه أن لا يرد في: ناحي وقاضي, إذا نسب إلى ناحية وقاضٍ وقال: إذا سميت رجلًا حبلاوي أو حمراوي إذا رخمته فيمن قال: يا حارُ, فرفع همزت لأنها واو صارت آخرًا فتهمزها وتصرفها في المعرفة والنكرة لأنها الآن ليست للتأنيث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أي: ثعلب من أئمة نحاة الكوفة، وقد مرت ترجمته صفحة: 370 من الأصل.
2
حبارى: طائر يقع على الذكر والأنثى، واحدها وجمعها سواء.
3
حبنطي: وهو الممتلئ غيظا أو بطنة.



ج / 1 ص -378- قال أبو بكر: وجميع ما ذكرت من المسائل فينبغي أن تعرضه على الأصول التي قدمتها فما صح في القياس فأجزه وما لم يصح فلا تجزه وإنما أذكر/ 441 لك قول القائلين كيلا تكون غريبًا فيمن خالفك, فإن الحيرة تقارن الغربة وقد ذكرنا الضم الذي يضارع الرفع ونحو نتبعه الفتح الذي يشبه النصب, إن شاء الله.









======================.



20



















الأصول في النحو

ج / 1 ص -379- باب النفي بلا:
الفتح الذي يشبه النصب هو ما جاء مطردًا في الأسماء النكرات المفردة ولا تخص اسمًا بعينه من النكرات إذا نفيتها "بلا" وذلك قولك: لا رجل في الدار ولا جارية فأي اسم نكرة ولي "لا" وكان جوابًا لمن قال: هل من غلام فهو مفتوح, فإن دخلت "لا" على ما عمل بعضه في بعض من معرفة أو نكرة لم تعمل هي شيئًا إنما تفتح الاسم الذي يليها إذا كانت قد نفت ما لم يوجبه موجب. فأما إذا دخلت على كلام قد أوجبه موجب فإنها لا تعمل شيئًا وإنما خولف بها إذا كانت تنفي ما لم يوجب, وكل منفي فإنما ينفى بعد أن كان موجبًا/ 442 وأنت إذا قلت: لا رجل فيها إنما نفيت جماعة الجنس, وكذلك إذا قلت: هل من رجل؟ لم تسأل عن رجل واحد بعينه, إنما سألت عن كل من له هذا الاسم, ولو أسقطت "من" فقلت: هل رجل؟ لصلح لواحد ولجمع فإذا دخلت "من" لم يكن إلا للجنس.
واعلم: أن "لا" إذا فتحت ما بعدها فقد يجيء الخبر محذوفًا كثيرًا, تقول: لا رجل ولا شيء تريد في مكان أو زمان, وربما لم يحذف, خالفت ما وليس ألا ترى أن "ما" تنفي بها ما أوجبه الموجب و"ليس" كذلك وهما يدخلان على المعارف و"لا" في هذا الموضع ليست كذلك وقد اختلف النحويون في تقديرها اختلافًا شديدًا فقال سيبويه: "لا" تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين ونصبها لما بعدها كنصب "إنَّ" لما بعدها وترك التنوين لما



ج / 1 ص -380- تعمل فيه لازم لأنها جعلت وما تعمل فيه بمنزلة اسم واحد نحو: خمسة عشر وذلك لأنه لا يشبه ما ينصب وهو الفعل1 / 443 ولا ما أجرى مجراه لأنها لا تعمل إلا في نكرة "ولا" ما بعدها في موضع ابتدء فلما خولف بها عن حال أخواتها خولف بلفظها كما خولف بخمسة عشر ولا تعمل إلا في نكرة كما أن: رُبَّ لا تعمل إلا في نكرة فجعلت وما بعدها كخمسة عشر في اللفظ وهي عاملة فيما بعدها كما قالوا: يابن أم فهي مثلها في اللفظ وفي أن الأول عامل في الثاني و"لا": لا تعمل إلا في نكرة من قبل أنها جواب فيما زعم الخليل كقوله: هل من عبد أو جارية؟ فصار الجواب نكرة كما أنه لا يقع في هذه المسألة إلا نكرة2. "فلا" وما عملت فيه في موضع ابتداء كما أنك إذا قلت: هل من رجل؟ فالكلام بمنزلة اسم مبتدأ والذي يبني عليه في زمان أو مكان هو الخبر ولكنك تضمره, وإن شئت أظهرته.
قال أبو العباس محمد/ 444 بن يزيد: فإن قال قائل: فهل يعمل في الاسم بعضه؟ فالجواب في ذلك: بلغني أنك منطلق إنما هو بلغني انطلاقك "فإن" عاملة في الكاف وفي منطلق وكذلك موقعها مفتوحة أبدا, وكذلك "أن" الخفيفة هي عاملة في الفعل وبه تمت اسمًا, فكذلك "لا" عملت عنده فيما بعدها وهي وما بعدها بمنزلة اسم. قال: والدليل على أن "لا" وما عملت فيه اسم أنك تقول: غضبت من لا شيء وجئت بلا مال, كما قال3:
حَنَّتْ قلُوصي حينَ لا حِينَ محن4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 345 وقال المبرد في المقتضب: فأما ترك التنوين فإنما هو لأنها جعلت وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر. المقتضب 4/ 357.
2
انظر: الكتاب 1/ 345.
3
انظر: المقتضب 4/ 358.
4
من شواهد الكتاب 1/ 358 و2/ 53، فقد نصب "حين" بلا، وإضافة حين الأولى إلى الجملة، وخبر "لا" محذوف والتقدير: حين لا حين محن لها، أي: حنت في غير وقت الحنين، وحنينها: صوتها شوقا إلى أصحابها والمعنى: أنها حنت إليهم على بعد منها، قال الأعلم: ولو جر "الحين" على إلغاء "لا" لجاز.
والقلوص: الناقة الفتية.
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها ولا تتمة لها.
وانظر: المقتضب 4/ 358، وشرح السيرافي 3/ 95، وأمالي ابن الشجري 1/ 239، والحجة لأبي علي 1/ 123، والخزانة 2/ 93.



ج / 1 ص -381- فجعلها اسمًا واحدًا, فالموضع موضع نصب نصبته "لا" وسقوط التنوين, لأنه جعل معها اسمًا واحدا, والدليل على ذلك: أنه إن اتصل بها اسم مفرد سقط منه التنوين وصار اسمًا واحدًا وموضع الاسم بأسره موضع رفع كما كان موضع ما هو جوابه كذلك.
وأما الكسائي: فإنه يقول/ 445: النكرات يبتدأ بأخبارها قبلها لئلا يوهمك أخبارها أنها لها صلات, فلما لزمت التبرئة الاسمَ وتأخر الخبر أرادوا أن يفصلوا بين ما ابتدئ خبره وما لا يكون خبره إلا بعده فغيروه من الرفع إلى النصب لهذا, ونصبوه بغير تنوين لأنه ليس بنصب صحيح إنما هو مغير كما فعلوا في الندءا حين خالفوا به نصب المضاف فرفعوه بغير تنوين ولم يكسروه فيشبه ما أُضيف إليه.
وقال الفراء: إنما أخرجت "لا" من معنى غير إلى "ليس" ولم تظهر ليس ولا إذا كانت في معنى "غير" عمل ما قبلها فيما بعدها كقولك: مررت برجل لا عالم ولا زاهد و"لا" إذا كانت تبرئة كان الخبر بعدها ففصلوا بهذا الإِعراب بين معنيين. وفي جميع هذه الأقوال نظر, وإنما تضمنا في هذا الكتاب الأصول والوصول إلى الإِعراب, فأما عدا ذلك من/ 446 النظر بين المخالفين فإن الكلام يطول فيه ولا يصلح في هذا الكتاب, على أنا ربما ذكرنا من ذلك الشيء القليل.



ج / 1 ص -382- ذكر الأسماء المنفية في هذا الباب:
واعلم: أن المنفي في هذا الباب ينقسم أربعة أقسام: نكرة مفردة غير موصوفة, ونكرة موصوفة, ونكرة مضافة, ومضارع للمضاف.
أما الأول: وهو النكرة المفردة:
فنحو ما خبرتك من قولك: لا رجل عندي, ولا رجل في الدار, ولا صاحب لك و {لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ}1, ولا صنع لزيد, ولا رجل ولا شيء, تريد: لا رجل في مكان ولا شيء في زمان وتقول: لا غلامَ ظريفٌ في الدار. فقولك: ظريف خبر, وقولك: في الدار, خبر آخر, وإن شئت جعلته لظريف خاصة, ومن ذلك قول الله عز وجل: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّه}2. وقال: {الم, ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}3 وأما قول الشاعر:

لا هَيثَم الليلَة للمَطِّي4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
التوبة: 118.
2
هود: 43. اليوم: خبر عاصم وإن كان جثة، إذ المعنى: لا وجود عاصم، ومن أمر الله: خبر مبتدأ محذوف، أي: العصمة المنفية من أمر الله.
3
البقرة: 1-2.
4
لتأويل هذا الرجز بالمنكر وجهان: إما أن يقدر مضاف هو مثل: فلا يتعرف بالإضافة، لتوغله في الإبهام، وإنما يجعل في صورة النكرة ينزع اللام، وإن كان المنفي في الحقيقة هو المضاف المذكور الذي لا يتعرف بالإضافة إلى أي معرفة كان، وإما أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الخلة كأنه اسم جنس موضوع لإفادة ذلك المعنى.
وهيثم: اسم رجل كان حسن الحداء للإبل، وقيل جيد الرعي، وقيل: هو هيثم بن الأشتر وكان مشهورا بين العرب بحسن الصوت في حدائه. وكان أعرف أهل زمانه بالبيداء والفلوات.
وهذا من شواهد سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. وانظر: الكتاب 1/ 354، والمقتضب 4/ 374، وشرح السيرافي 3/ 92، وأمالي ابن الشجري 1/ 139، وابن يعيش 2/ 103، والمفصل للزمخشري/ 222.



ج / 1 ص -383- فإنه جعله نكرة أراد لا مثل هيثم, ومثل ذلك: لا بصرَ لكم. وقال ابن الزبير الأسدي:

أَرَى الحَاجَاتِ عِنْدَ أبي خُبَيْبٍ نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ1

أراد: ولا مثل أمية فإن ثنيت المنفي "بلا" قلت: لا غلامين لك ولا جاريتين, لا بدّ من إثبات النون في التثنية والجمع الذي هو بالواو والنون, قد تثبت في المواضع التي لا يثبت فيها التنوين, بل قد يثنى بعض المبنيات بالألف والنون, والياء والنون. نحو: هذا والذي. تقول: هذان, واللذان.
قال أبو العباس: وكان سيبويه والخليل يزعمان: أنك إذا قلت: لا غلامين لك, أن غلامين مع "لا" اسم واحد, وتثبت النون كما تثبت مع الألف واللام في تثنية ما لا ينصرف وجمعه نحو: هذان أحمران وهذان المسلمان2, وقال: وليس القول عندي كذلك؛ لأن الأسماء المثناة والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع ما قبلها3 / 448 اسمًا واحدًا, لم يوجد ذلك كما لم يوجد المضاف, ولا الموصول مع ما قبلهما بمنزلة اسم واحد4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 355، على أن التقدير: ولا أمثال أمية في البلاد.
وأبو خبيب: كنية عبد الله بن الزبير بن العوام وكان يرمى بالبخل، وكان إذا هجي كني بأبي خبيب.
ونكدن: من باب فرح، فهو نكدا، إذا تعسر، ونكد العيش: اشتد، يقال: نكد زيد جارية عمرو إذا منعه إياها. والبيت في هجاء عبد الله بن الزبير.
وانظر: المقتضب 4/ 362، وشرح السيرافي 3/ 92، وأمالي ابن الشجري 1/ 239، والمفصل للزمخشري/ 77، وابن يعيش 2/ 102، والأغاني 1/ 8 و12/ 71، ونسبه إلى فضالة بن شريك.
2
انظر: الكتاب 1/ 348-349.
3
انظر: المقتضب 4/ 366.
4
انظر: المقتضب 4/ 366 وهذا ما علل به المبرد إعراب المثنى وجمع المذكر السالم في باب "لا" وقد ذكر رأي المبرد وتعليله هذا ابن يعيش 2/ 106 وعقب عليه بقوله: وهذا إشارة إلى عدم النظير وإذا قام الدليل فلا عبرة بعدم النظير.



ج / 1 ص -384- الثاني: النكرة الموصوفة:
اعلم: أنك إذا وصفت النكرة في هذا الباب فلك فيها ثلاثة أوجه:
الأول منها: وهو الأحسن, أن تجري الصفة على الموصوف, وتنون الصفة, وذلك قولك: لا رجل ظريفًا في الدار, فتنون لأنه صفة, ويكون قولك: في الدار, هو الخبر, وحجة من فعل هذا أن النعت منفصل من المنعوت مستغنٍ عنه, وإنما جيء به بعد أن مضى الاسم على حاله, فإن لم تأتِ به لم تحتج إليه.
والوجه الثاني: أن تجعل المنفي ونعته اسمًا واحدا1, وتبنيه معه فتقول: لا رجلَ ظريفَ في الدار بنيت رجل مع ظريف, وحجة من رأى أن يجعله مع المنعوت اسمًا واحدًا أن يقول: لما كان موضع/ 449 يصلح فيه بناء الاسمين اسمًا واحدًا كان بناء اسم مع "اسم" أكثر وأفشى من بناء اسم مع حرف فإن قلت: لا رجل ظريفًا عاقلًا, فأنت في النعت الأول بالخيار فأما الثاني: فليس فيه إلا التنوين؛ لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسمًا واحدًا2, وكذلك المعطوف, لو قلت: لا رجل وغلامًا عندك لم يصلح في "غلام" إلا التنوين من أجل واو العطف؛ لأنه لا يكون في الأسماء مثل حضرموت اسمًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 1/ 351، اعلم: أنك إذا وصفت المنفي، فإن شئت نونت صفة المنفي، وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنون وذلك قولك: لا غلام ظريفا لك، ولا غلام ظريف لك، فأما الذين نونوا فإنهم جعلوا الاسم ولا بمنزلة اسم واحد، وجعلوا صفة المنصوب في هذا الموضع بمنزلته في غير النفي. وأما الذين قالوا: لا غلام ظريف لك فإنهم جعلوا الموصوف والوصف بمنزلة اسم واحد.
2
في الكتاب 1/ 351، فإذا قلت: لا غلام ظريفا عاقلا لك، فإن في الوصف الأول بالخيار، ولا يكون الثاني إلا منونا، من قبل أنه لا تكون ثلاثة أشياء منفصلة اسم واحد.
وفي المقتضب 4/ 367 إن قلت: لا رجل ظريفا عاقلا، فأنت في النعت في الأول بالخيار، فأما الثاني: فليس فيه إلا التنوين، لأنه لا يكون ثلاثة أشياء اسما واحدا.



ج / 1 ص -385- واحدًا إذا كانت بينهما واو العطف.
والتكرير والنعت: بمنزلة واحدة تقول في النعت: لا رجل ظريف لك, والتكرير على ذلك يجري تقول: لا ماءَ ماءً باردًا, وإن فصلت بين الموصوف والصفة بشيء لم يجز في الصفة إلا التنوين, وذلك قولك: لا رجل اليوم ظريفًا, ولا رجل فيها عاقلًا, من قبل أنه لا يجوز لك/ 450 أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد, وقد فصلت بينهما كما أنه لا يجوز لك أن تفصل بين: عشر وخمسة, في خمسة عشر.
والوجه الثالث: أن تجعل النعت على الموضع فترفع لأن "لا" وما علمت فيه في موضع اسم مبتدأ فتقول: لا رجلَ ظريفَ, فتجري "ظريف" على الموضع فيكون موضع اسم مبتدأ والخبر محذوف, وإن شئت جئت بخبر فقلت: "لك" أو عندك كما بينت لك فيما تقدم, قال الشاعر:

ورَدَّ جَازِرُهُم حَرْفًا مُصَرَّمةً ولا كَرِيمَ مِن الوِلْدَانِ مَصْبُوحُ1

والنعت على اللفظ أحسن, وكذلك إذا قلت: لا ماءَ ماءً باردًا, وإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 356 على رفع "مصبوح" على أنه خبر "لا" لأنها وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ، ويجوز أن يكون مصبوح نعتا لاسمها محمولا على الموضع، ويكون الخبر محذوفا لعلم السامع، تقديره: موجود.
والجازر: الذي ينحر الذبائح. والحرف: الناقة الضامر. وقيل: القوية الصلبة شبهت بحرف الجبل وهو ناحية منه. والمصرمة: المقطوعة اللبن لعدم الرعي، والمصبوح: المسقى صباحا، وهو شرب الغداة، يقول: هم في جدب فاللبن عندهم متعذر لا يسقاه الولد الكريم النسب فضلا على غيره لعدمه، فجازرهم يرد عليهم من المرعى ما ينحرون للضيف.
والشاهد كما نسبه الأعلم والعيني لرجل جاهلي من بني النبيت، ونسبه الزمخشري لحاتم الطائي وهو موجود في ديوانه.
وانظر: المقتضب 4/ 370، والموجز لابن السراج/ 53، وشرح السيرافي 3/ 93، وشعراء النصرانية/ 109، والمفصل للزمخشري/ 89، وابن يعيش 2/ 107، والعيني 2/ 369، وشواهد الألفية للعاملي/ 127، والديوان/ 39.



ج / 1 ص -386- شئت قلت: لا ماءَ ماءٌ باردٌ, فإن جعلت الاسمين اسما واحدا قلت: لا ماءَ ماءَ باردٌ, جعلت ماء الأول والثاني اسمًا واحدًا وجعلت "بارد" نعتًا على الموضع. ومن ذا قول العرب: لا مالَ لهُ قليلٌ ولا كثيرٌ.
قال سيبويه: والدليل على أن "لا رجل" في موضع اسم "مبتدأ" في لغة تميم قول العرب من أهل الحجاز: لا رجلَ 1 / 451 أفضل منك, والعطف في هذا الباب على الموضع كالنعت, فمن ذلك قول الشاعر وهو رجل من مذحج:

هَذا -لَعَمْرُكُم- الصَّغَارُ بَعْينِه لا أُمَّ لي إِنْ كَانَ ذاكَ ولا أَبُ2

والأجود أن تعطِفَ على اللفظ فتقول: لا حولَ ولا قوةٌ, هذا إذا جعلت لا الثانية مؤكدة للنفي ولم يقدر أنك ابتدأت النفي بها, فإن قدرت ذلك كان حكمها حكم الأول فقلت: لا حولَ ولا قوةَ, وإن شئت عطفت على الموضع كما خبرتك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
نظر: الكتاب 1/ 345.
2
القطعة التي منها هذا الشاهد اختلف في قائلها، فنسبها سيبويه 2/ 161، و1/ 352، إلى رجل من مذحج وفسره في ص/ 162 بأنه هنى بن أحمر الكناني وكذلك نسبه الآمدي في المؤتلف والمختلف ونسبه البغدادي لضمرة بن جابر ولغيره أيضا.
والشاهد فيه: عطف الأب بالرفع مراعاة لمحل "لا" مع اسمها ويجوز أن تكون "لا" الثانية عاملة عمل ليس فيكون لكل من "لا" الأولى والثانية خبر يخصها، لأن خبر الأولى مرفوع وخبر الثانية منصوب، كما يجوز أن تكون "لا" مهملة وأب مبتدأ خبره محذوف. والصغار: الذل، وهو خبر هذا وفصل بينهما بالجملة القسمية التي حذف خبرها وجوبا. بعينه: الباء زائدة في لفظ التوكيد وكان تامة وجواب الشرط محذوف.
وانظر: الخزانة 1/ 244، وانظر: المقتضب 4/ 371، وشرح السيرافي 3/ 90، والمفصل للزمخشري/ 233، وابن يعيش 2/ 110، والعيني 2/ 239، والخزانة 1/ 344، ورواه البغدادي: هذا وجدكم الصغار بعينه، والمؤتلف والمختلف/ 215.



ج / 1 ص -387- باب ما يثبت فيه التنوين والنون من الأسماء المنفية:
فإن ثنيت فلا بد من النون تقول: لا غلامين ولا جاريتين, تثبت النون هنا كما تثبت في النداء, والأسماء المبنية فيها ما يبنى وتثبت فيه النون, وإن كان المفرد مبنيا, ألا ترى أنك تثني هذا فتقول: هذان وهذين, وكذلك: اللذان واللذين. وتقول: لا غلامين ظريفين لك, ولا مسلمين صالحين لك, ولا عشرين درهمًا لك, ونظير هذه/ 452 النون التنوين إذا لم يكن منتهى الاسم, وصار كأنه حرف قبل آخر الاسم وهو قولك: لا خيرًا منه ولا حسنًا وجهه لك, ولا ضاربًا زيدًا لك؛ لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الاسم فقبح أن يحذفوا قبل أن ينتهوا منتهى الاسم.
وقال الخليل: كذلك: لا آمرًا بالمعروف لك, إذا جعلت "بالمعروف" من تمام الاسم وجعلته متصلًا به, كأنك قلت: لا آمرًا معروفًا لك. وإن قلت: لا آمر بمعروف لك, فكأنك جئت بمعروف بعد ما بنيت على الأول كلامًا1.
الثالث: نكرة مضافة:
التنوين يسقط من كل مضاف في هذا الباب, وغيره فإذا نصبت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب جـ1/ 350.



ج / 1 ص -388- مضافًا وأعملت "لا" نصبته ولا بد من أن يكون ذلك المضاف نكرة؛ لأن "لا" لا تعمل في المعارف, والمضاف ينقسم في هذا الباب على قسمين: مضاف لم يذكر معه لام الإِضافة, ومضاف ذكرت معه لام الإِضافة/ 453.
فأما المضاف المطلق, فقولك: لا غلامَ رجلٍ لك, ولا ماءَ سماءٍ في دارك, ولا مثلَ زيدٍ لك, وإنما امتنع هذا أن يكون اسمًا واحدًا مع "لا" لأنه مضاف والمضاف لا يكون مع ما قبله اسمًا واحدًا, ألا ترى أنّكَ لا تجد اسمين جعلا اسمًا واحدًا, وأحدهما مضاف, إنما يكونان مفردين: كحضرموت وبعلبك, ألا ترى أن قوله: يابن أم, لما جعل "أم" مع ابن اسمًا واحدًا حذف ياء الإِضافة, وقال ذو الرمة:

هيَ الدَّار إذْ ميٌّ لأهلكِ جيرَةٌ لَيَاليَ لا أمثالَهَنَ لَياليا1

فأمثالهن نصب بـ"لا".
وأما القسم الآخر المنفي بلام الإِضافة:
فالتنوين والنون تقع في هذا الموضع كما وقع مما قبله لما أضفته وذلك قولهم: لا أبًا لك, ولا غلام لك:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 352 وقد نصب أمثالهن بلا، لأن المثل نكرة وإن كان مضافا إلى معرفة ونصب لياليا على التبيين لأمثالهن على مثال قولك: لا مثلك رجلا، فرجل تبيين للمثل على اللفظ، ولو حمل على المعنى لجاز, ويجوز نصب "لياليا" على التمييز كما تقول: لا مثلك رجلا. على تقدير: لا مثلك من رجل وفي نصبه على التمييز قبح لأن حكم التمييز أن يكون واحدا يؤدي عن الجميع.
يقول: هذه الدار كانت لمية دارا زمن المرتبع وتجاور الأحياء، وفضل تلك الليالي لما نال فيها من التنعيم بالوصال واجتماع الشمل.
والبيت في مدح: بلال بن أبي بردة. وانظر: المقتضب 4/ 364، وشرح السيرافي 3/ 91، وابن يعيش 2/ 103، وشرح الكافية للرضي 1/ 245.



ج / 1 ص -389- وقال الخليل: إن النون إنما ذهبت للإِضافة, ولذلك لحقت الألف الأب التي لا تكون إلا في الإِضافة, وإنما كان ذلك من قبل أن العرب قد تقول: لا أباك, في1 / 454 موضع: لا أبالك, ولو أردت الإِفراد: لا أبَ لزيد, فاللام مقحمة ليؤكد بها الإِضافة كما وقع في النداء: يا بؤس للحرب2 هذا مقدار ما ذكره أصحابنا3.
ولقائل أن يقول: إذا قلت: أنّ قولهم: لا أبالك تريد به: لا أباك, فمن أين جاز هذا التقدير والمضاف إلى كاف المخاطب معرفة والمعارف لا تعمل فيها لا؟ قيل له: إن المعنى إذا قلت: لا أبالك الانفصال كأنك قلت: لا أبًا لك فتنون لطول الاسم وجعلت "لك" من تمامه وأضمرت الخبر ثم حذفت التنوين استخفافًا وأضافوا وألزموا اللام لتدل على هذا المعنى فهو منفصل بدخول اللام وهو متصل بالإِضافة. وإنما فعل في هذا الباب وخصوه كما خصوا النداء بأشياء ليست في غيره. وإنما يجوز في اللام وحدها أن تقحم بين المضاف والمضاف إليه/ 455 لأن معنى الإِضافة معنى اللام, ألا ترى أنك إذا قلت: غلام زيد فمعناه: غلام لزيد, فدخول اللام في هذا يشبه قولهم: يا تيمَ تيمَ عَدي4 أكد هذه الإِضافة بإعادة الاسم, كما أكد ذلك بحرف الإِضافة, فكأنه قد أضافه مرتين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 345-346.
2
يريدان اللام زائدة بين المضاف والمضاف إليه. قال المبرد في الكامل 7/ 147: "يا بؤس للحرب"، أراد: يا بؤس الحرب، فأقحم اللام توكيدا، "ويا بؤس الحرب" جزء من قصيدة حماسية لسعد بن مالك:

يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط فاستراحوا

وانظر: الكتاب 1/ 346 عند قوله: يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام، والخزانة 1/ 224.
3
يريد: البصريين.
4
يشير إلى قول الشاعر:

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم...

في باب النداء. وقد مر شرحه ص419.



ج / 1 ص -390- والشاعر قد يضطر فيحذف اللام ويضيف قال:

أبا المَوَتِ الذي لا بُدَّ أنِّي مُلاقٍ لا أباك تُخوِّفيني1

وقال الآخر:

فقدْ ماتَ شَمَّاخٌ وماتَ مُزوِّدٌ وأيُّ كريمٍ -لا أباكَ- مُخَلَّدُ2

فإن قال: لا مسلمين صالحين لك, فوصف المنفي قبل مجيئك "بلك" لم يكن بد من إثبات النون من قبل أن الصالحين نعت للمنفي, وليس بمنفي, وإنما جاء التخفيف في النفي.
الرابع: المضارع للمضاف:
المضارع للمضاف في هذا الباب ما كان عاملًا فيما بعده, كما أن المضاف عامل فيما بعده فهو منصوب, كما أن المضاف منصوب وما بعده من تمامه كما أن المضاف من تمام الأول, إلا أن التنوين يثبت فيه ولا يسقط منه/ 456 لأنه ليس منتهى الاسم فصار كأنه حرف قبل آخر الاسم. فالتنوين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه: أن: "لا أبالك" أصله الإضافة، وزيدت اللام بين المضاف والمضاف إليه، فإذا حذفت اللام رجع إلى أصله من الإضافة.
وتخوفيني: الأصل: تخوفينني، فحذفت إحدى النونين، فقيل الأولى، وقيل الثانية. والشاهد لأبي حية النميري، ونسب إلى الأعشى ولم يوجد في ديوانه.
وانظر: المقتضب 4/ 375، والكامل/ 313، والخصائص 1/ 345، وشرح الحماسة 2/ 501، وأمالي ابن الشجري 1/ 362، وابن يعيش 2/ 105.
2
من شواهد سيبويه 1/ 36. والشاهد فيه: كالذي قبله، والشماخ والمزرد: أخوان شقيقان، وصحابيان وشاعران، ولكل منهما ديوان مطبوع، وقد طبع قريبا ديوان: مزرد بن ضرار، في بغداد.
والبيت لمسكين الدارمي، ذكر فيه: حال الشعراء المتقدمين وأنهم ذهبوا ولم يبق منهم أحد، وانظر: المقتضب 4/ 375، والكامل/ 313، وشرح السيرافي 3/ 86، وابن يعيش 2/ 105.



ج / 1 ص -391- هنا والنون يثبتان إذا كان المنفي عاملًا فيما بعده, فهو وما عمل فيه بمنزلة اسم واحد, فمن ذلك قولهم: لا خيرًا منه ولا حسنًا وجهه لك ولا ضاربًا زيدًا لك؛ لأن ما بعد حسن وضارب وخير صار من تمام الاسم. فجميع هذا قد عمل فيما بعده, ومثل ذلك قولك: لا عشرين درهمًا لك, لولا درهم لجاز أن تقول: لا عشرين لك, وعشرون عملت في درهم فنصبته وقال الخليل: كذلك: لا آمرًا بالمعروف لك. إذا جعلت بالمعروف من تمام الاسم وجعلته متصلًا به كأنك قلت: لا آمرًا معروفًا لك, وإذا قلت: لا آمر بمعروف فكأنك جئت بمعروف بنيت على الأول كلاما كقولك: لا آمر في الدار, ثم جئت بمعروف تبيينًا بعد أن تم الكلام وتقول: لا آمر يوم الجمعة لك, إذا نفيت جميع الآمريين1 / 457, وزعمت: أنه ليسوا له يوم الجمعة, فإن أردت أن تنفي الآمرين يوم الجمعة خاصة قلت: لا آمر يوم الجمعة لك جعلت يوم الجمعة من تمام الاسم فصار بمنزلة قولك: لا آمرًا معروفًا لك. ولو قلت: لا خير عند زيد, ولا آمر عنده, لم يجز إلا بحذف التنوين؛ لأنك لم تصله بما يكمله اسمًا ولكنه اسم تام فجعلته مع "لا" اسمًا واحدًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 350، وهذا الكلام الذي قاله الخليل كرره ابن السراج، في هذه الصفحة حرفيا بعد أن ذكره/ 472، ولعل هذا من عمل تلاميذه الذين يكتبون عنه.



ج / 1 ص -392- باب ما إذا دخلت عليه "لا" لم تغيره عن حاله:
هذا الباب ينقسم على ثلاثة أقسام: اسم معرفة, واسم منفي بلا, بعده اسم منفي بلا, وهما جواب مستفهم قد ثبت عنده أحد الشيئين, واسم قد عمل فيه فعل أو هو في معنى ذلك.
أما الأول: فالاسم المعرفة:
وقد عرفتك أن "لا" لا تنصب المعارف فإن عطفت معرفة منفية على نكرة وقد عملت فيها لم تعملها في المعرفة, وأعملتها في النكرة/ 458 وذلك قولك: لا غلام لك ولا العباس لك, ولا غلامَ لك ولا أخوةٌ لك.
قال سيبويه: فأما من قال: كل نعجة وسخلَتها بدرهم, فينبغي أن يقول: لا رجلَ لك وأخًا له1, ولا يحسن أن تدخل "لا" على معرفة مبتدأة غير معطوفة على كلام, فقد تقدم فيه "لا" فإن كررت, لا جاز. فأما الذي لا يجوز فقولك: لا زيد في الدار؛ لأن هذا موضع "ما" إلا أن يضطر شاعر فيرفع المعرفة ولا يثني "لا" قال الشاعر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 356، وقال المبرد في المقتضب 4/ 379: ومثله: كل رجل في الدار وزيد فله درهم، وكل رجل في الدار وعبد الله لأكرمنهم، لأنه لا يجوز: كل عبد الله، فعطف على كل نفسها.



ج / 1 ص -393- بَكَتْ حَزَنًا واسترجعت ثمَّ آذَنَتْ ركائبُها أن لا إلينا رُجوعها1

فأما الذي يحسن ويجوز فقولك: لا زيد في الدار ولا عمرو, ولما ثنيت حسن.
الثاني: الاسم المنفي بلا وبعده اسم منفي أيضًا بلا:
وهذا الصنف إنما يجيء على لفظ السائل إذا قال: أغلام عندك أم جارية/ 459 إذا ادعى أن عنده أحدهما, إلا أنه لا يدري: أغلام هو أم جارية فلا يحسن في هذا إلا أن تعيد "لا" فتقول: لا غلام عندي ولا جارية, وإذا قال: لا غلام فإنما هو جواب لقوله: هل من غلام, ولم يثبت أن عنده شيئًا فعملت لا فيما بعدها, وإن كان في موضع ابتداء, ومن ذلك قول الله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}2.
وقال الشاعر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من أبيات سيبويه 1/ 355، الخمسين التي لا يعرف قائلها على عدم تكرير "لا" للفصل بينها وبين اسمها ووقوع المعرفة بعدها للضرورة.
وفي الاسترجاع هنا قولان: أحدهما أنه من الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. وثانيهما: أنه طلب الرجوع من الرحيل لكراهية فراق الأحبة، وهو الأقرب إلى المعنى.
وآذنت: أشعرت وأعلمت. وركائبها: جمع ركيبة وهي الراحلة التي تركب.
وأن: مفسرة. ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف. وفي الكتاب: بكت جزعا، لا بكت حزنا كما رواه ابن السراج. وقد يكون تصحيفا من الناسخ إذ أبدل الحاء جيما. وانظر: المقتضب 4/ 361، ورواه المبرد:

قضت وطرا واسترجعت...

وهذا أقرب إلى المعنى لأنها طلبت الرجوع بعد أن قضت وطرا على فراق الأحبة.
وشرح السيرافي 3/ 93، وأمالي ابن الشجري 2/ 225، والمفصل للزمخشري/ 238، وابن يعيش 2/ 112.
2
آية: 38 سورة البقرة. وقراءة: لا خوفَ بفتح الفاء ليعقوب في جميع القرآن وفي النشر 2/ 211 قرأ يعقوب: لا خوف عليهم.. حيث وقعت بفتح الفاء وحذف التنوين. وقرأ الباقون بالرفع والتنوين. وانظر: الإنصاف ص/ 134، والبحر المحيط جـ1/ 169 وجـ2/ 88.

ج / 1 ص -394- ومَا صَرَمْتُكِ حَتَّى قُلْتِ مُعْلِنَةً لاَ نَاقَةٌ ليَ في هذا ولا جَمَلُ1

وكذلك إذا فصلت بين "لا" والاسم بحشو, لم يحسن, إلا أن تعيد الثانية؛ لأن جعل جواب إذا عندك أم ذا, فمن ذلك قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}2. ولا يجوز: لا فيها أحد, إلا على ضعف, فإن تكلمت به لم يكن إلا رفعًا لأن "لا" لا تعمل إذا فصل بينها وبين الاسم رافعة ولا ناصبةً, ومعنى قولي: رافعةً إذا أعملت عملَ/ 460 ليسَ تقول: لا أحدٌ أفضلَ منكَ في قولِ مَنْ جعلهَا كـ"ليس".
الثالث: وهو ما عمل فيه فعل أو كان في معنى ذلك:
اعلم: أن هذا يلزمك فيه تثينة "لا" كما لا تثنى لا في الأفعال وذلك قولك: لا مرحبًا ولا أهلًا, ولا كرامةً ولا مسرةً ولا سقيا, ولا رعيا, ولا هنيئًا ولا مريا, لأن هذه الأسماء كلها عملت فيها أفعالٌ مضمرة, فالفعل مقدر بعد "لا" كأنك قلت: لا أكرمك كرامةً ولا أسرك مسرةً, فعلى هذا جميع هذه الأسماء وما لم يجز أن يلي "لا" من الأفعال, لم يجز أن يليها ما عمل فيه ذلك الفعل, لا يجوز أن تقول: لا ضربًا وأنت تريد الأمر لأنه لا يجوز: لا أضرب إنما تدخل على الدعاء إذا كان لفظه لفظ الخبر وأضربه على ذلك نحو: لا سقيا ولا رعيا كأنك قلت: لا سقاه الله ولا رعاه,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 354 على تكرار "لا" مع رفع اسمها ولو نصب على إعمالها لجاز والرفع أكثر لأنها جواب لمن قال: ألك في ذا ناقة أو جمل. فقيل له: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، فجرى ما بعدها في الجواب مجراه في السؤال.
يقول: ما عمل على فراقها حتى تبرأت منه وجفته وأعلنت بذلك، وضرب قوله: لا ناقة لي في هذا ولا جمل مثلا لبراءتها منه وقطعها له. وهذا مثل سائر في هذا المعنى. والبيت للراعي النميري.
وانظر: مجالس ثعلب/ 35، وروايته: وما هجرتك.. والموجز لابن السراج/ 54، وابن يعيش 2/ 11، والعيني 4/ 477.
2
الصافات: 47.

ج / 1 ص -395- وكذلك إذا ولي "لا" مبتدأ في معنى الدعاء لم/ 461 تعمل فيه كما لم تعمل فيما بني على الفعل, ومعناه الدعاء, وذلك قولهم: لا سلام عليكم.
قال سيبويه: قولهم: لا سواء إنما دخلت ههنا؛ لأنها عاقبت ما ارتفعت عليه, ألا ترى أنك لا تقول: هذان لا سواء فجاز هذا كما جاز: لاها الله ذا حين عاقبت فلم يجز ذكر الواو1 -يعني أن قولهم: لا سواء أصله: هذان لا سواء وهذان مبتدأ ولا سواء خبرهما كما تقول: هذان سواء, ثم أدخلت "لا" للنفي وحذفت "هذان" وجعلت "لا" تعاقب "هذان" وقال أبو العباس: وقول سيبويه: ألا ترى أنك لا تقول: هذان لا سواء أي: لا تكاد تقول, ولو قلته جاز2. وقالوا: لا نولك أن تفعل جعلوه معاقبًا لقولك لا ينبغي وصار بدلًا منه.
واعلم: أنه قبيح أن تقول: مررت برجل لا فارسٍ حتى تقول: ولا شجاع وكذلك: هذا زيد فارسًا, لا/ 462 يحسن حتى تقول: لا فارسًا ولا شجاعًا وذلك أنه جواب لمن قال: أبرجل شجاع مررت أم بفارس, ولقوله: أفارس زيد أم شجاع, وقد يجوز على ضعفه في الشعر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 357.
2
انظر: الكتاب 1/ 357.



ج / 1 ص -396- باب لا النافية إذا دخلت عليها ألف الاستفهام:
الألف إذا دخلت على "لا" جاز أن يكون الكلام استفهامًا, وجاز أن يكون تمنيًا, والأصل الاستفهام فإذا كان استفهامًا محضًا فحالها كحالها قبل أن يلحقها ألف الاستفهام, وذلك قولك: ألا رجلَ في الدار إلا غلامَ أفضلْ منك, ومن قال: لا رجلَ قائمٌ في الدار, قال: ههنا ألا رجل قائم في الدار وكذلك من نون ومن رفع, ثم رفع ههنا, وقال الشاعر:

حَارِ بن كعبٍ ألا أَحْلاَمَ تَزْجُرُكُم عَنَّا وأَنْتُم مِن الجُوف الجماخيرِ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
استشهد سيبويه 1/ 325 بما بعده وهو قوله:

لا عيب بالقوم من طول ولا عظم جسم البغال وأحلام العصافير

حار: مرخم حارث، وجاء على لغة من ينتظر، والأحلام: جمع حلم بالكسر وهو العقل. والجوف: جمع أجوف وهو الواسع الجوف. ورواية المبرد حار بن عمرو. والجماخير: جمع جمخور -بضم الجيم وسكون الميم- العظيم الجسد، القليل العقل والقوة. ألا أحلام: لا نافية للجنس والهمزة للاستفهام الإنكاري، وأحلام اسم "لا" والجملة خبرها والبيت مطلع قصيدة لحسان بن ثابت في هجاء بني الحارث بن كعب المذحجي.
وانظر: المقتضب 4/ 233، والحجة لأبي علي 1/ 229، وشرح السيرافي 2/ 192، وأمالي ابن الشجري 2/ 80، والديوان/ 48، طبة ليدن.



ج / 1 ص -397- فإذا دخلها مع الاستفهام معنى التمني, فإن النحويين مختلفون في رفع الخبر ويجرون ما سواه على ما كان عليه/ 463 قبل.
فأما الخليل وسيبويه1 والجرمي وأكثر النحويين فيقولون: ألا رجل أفضل منك, ولا يجيزون رفع: أفضل وحجتهم في ذلك أنهم قالوا: كنا نقول: لا رجل أفضل منك, فيرفع لأن "لا" ورجل في موضع ابتداء, وأفضل: خبره فهو خبر اسم مبتدأ وإذا قلت متمنيًا: ألا رجل أفضل منك فموضعه نصب وإنما هو كقولك: اللهم غلامًا, أي: هب لي غلامًا, فكأنك قلت: ألا أعطي ألا أصيب فهذا مفعول.
وكان المازني وحده يجيز فيه جميع ما جاز في النافية بغير الاستفهام فتقول: ألا رجل أفضل منك, وتقول فيمن جعلها كليس: ألا أفضل منك, ويجريها مجراها قبل ألف الاستفهام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه: ومن قال: لا غلام أفضل منك، لم يقل: في ألا غلام أفضلَ منك، إلا بالنصب، لأنه دخل فيه معنى التمني وصار مستغنيا عن الخبر كاستغناء اللهم غلاما. ومعناه اللهم هب لي غلاما. والكتاب 1/ 359، وانظر: المقتضب 4/ 382. قال المبرد: فإن دخلها معنى التمني فالنصب لا غير في قول سيبويه والخليل وغيرهما إلا المازني وحده. تقول: ألا ماء أشربه وعسلا، وتنون عسلا كما في قولك: لا رجل وغلاما في الدار.. وكان المازني يجري هذا مع التمني مجراه قبل ويقول: يكون اللفظ على ما كان عليه وإن دخله خلاف معناه، ألا ترى أن قولك: غفر الله لزيد، معناه الدعاء ولفظه لفظ: ضرب فلم يغير لما دخله من المعنى وكذلك قولك: علم الله لأفعلن، لفظه لفظ: رزق الله ومعناه القسم فلم يغيره. وانظر: المقتضب 4/ 383.
وكان أبو عمر الجرمي يخالف المازني في هذه المسألة. واحتج ببعض ما ذكره سيبويه فقال: أنه لم يجز في ألا، التي للتمني ما جاز في "لا" من رفع الصفة على الموضع بنحو: لا رجل أفضل منك، لأن موضع النفي للابتداء, ولما دخله معنى التمني زال الابتداء، لأنه قد تحول إلى معنى آخر وصار في موضع نصب، كما لا يجوز في: "ليت"، ولعل، وكان من الحمل على الموضع ما جاز في: إن ولكن، فلذلك زعم: أنه لا يجوز: ألا ماء ولبن، كما تقول في المنفي. الانتصار/ 196.



ج / 1 ص -398- واعلم: أن "لا" إذا جعلت كـ"ليس" لم تعمل إلا في نكرة ولا يفصل بينها وبينَ ما عملت فيهِ لأنها تجري رافعة مجراها ناصبة. وأما قول الشاعر/ 464.

ألا رجلًا جَزاهُ اللَّهُ خَيرًا يَدُلُّ على محصَلة تَبيتُ1

فزعم الخليل: أنه أراد: الفعل وأنه ليس لـ"لا" ههنا عمل, إنما أراد ألا ترونني2, وأما يونس فكان يقول: إنما تمنى ولكنه نوّن مضطرًا3 وكان يقول في قول جرير:

فلا حَسَبًا فَخَرْتَ بهِ لِتَيِمِ ولا جَدا إذا ذُكِرَ الجُدودُ4

إنما نوّن مضطرًا, وكذا يقول أبو الحسن الأخفش.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 359 على نصب رجل وتنوينه، لأنه حمله على إضمار فعل وجعل: ألا حرف تحضيض, والتقدير: ألا ترونني رجلا ولو جعلها: ألا التي للتمني لنصب ما بعدها بغير تنوين.
وأراد بالمحصلة: المرأة التي تحصل الذهب من تراب المعدن وتخلصه منه وطلبها للمبيت إما للتحصيل أو للفاحشة. والبيت لعمرو بن قعناس المراري. وانظر: شرح السيرافي 3/ 96، ونوادر أبي زيد/ 56، والسيوطي/ 77، وابن يعيش 2/ 101، والعيني 2/ 366، والخزانة 1/ 459 و2/ 112.
2
انظر: الكتاب 1/ 359.
3
انظر: الكتاب 1/ 359.
4
من شواهد الكتاب 1/ 73 واستشهد به سيبويه على نصب الحسب بإضمار فعل، والفعل المقدر هنا واصل إلى المفعول بذاته في معنى الفعل الظاهر، والتقدير: ولا ذكرت حسبا فخرت به. يخاطب عمر بن لجأ وهو من تميم، فيقول: لم تكسب لهم حسبا يفخرون به ولا لك جد شريف تعول عليه عند ازدحام الناس للمفاخر والحسب: الكرم وشرف الإنسان في نفسه وأخلاقه، والجد: أبو الأب. وقيل: الجد: هنا الحظ، أي: ليس لتيم حظ في علو المرتبة والذكر الجميل. وانظر: شرح السيرافي 2/ 7، والمفصل للزمخشري/ 51، وابن يعيش 1/ 109، والخزانة 1/ 447 والديوان/ 165.



ج / 1 ص -399- ومن قال: لا رجلَ ولا امرأةٌ لم يقل في التمني إلا بالنصب, وعلى مذهب أبي عثمان يجوز الرفع كما كان قبل دخول الألف.
كان أبو عثمان يقول: اللفظ على ما كان عليه وإن كان دخله خلاف معناه, ألا ترى أن قولك: غفر الله لزيد معناه الدعاء ولفظه لفظ ضرب فلم يغير لما دخله في المعنى. وكذلك: حسبكَ رفعٌ بالابتداء إن كان معناه النهي.



ج / 1 ص -400- باب تصرف "لا":
لـ"لا" في الكلام/ 465 مواضع وجملتها النفي ومواضعها تختلف فتقع على الأسماء نحو قولك: ضربت زيدًا لا عمرًا, وجاءني زيدٌ لا أخوه, وتقع على الأفعال في القَسَم وغيره, تقول: لا يخرج زيد وأنت مخبر ولا ينطلق عبد الله, ويكون للنهي في قولك: لا ينطلق عبد الله ولا يخرج زيد, وتجزم بها الفعل فيكون بحذاء قولك في الأمر: ليخرج عبد الله, ولتقم طائفة منهم معك1. وقد تكون من النفي في موضع آخر وهو نفي, قولك: إيتِ وعمراً, فإذا أردت نفي هذا قلت: لا تأت زيدًا وعمرًا, لم يكن هذا نفيه على الحقيقة لأنه إن أتى أحدهما لم يعصه لأنه نهاه عنهما جميعًا فإن أراد أن تمتنع منهما معًا فنفي ذلك: لا تأت زيدًا ولا عمرًا, فمجيئها ههنا لمعنى انتظام النهي بأمره لأن خروجها إخلال به. ويقع بعدها في القسم الفعل الماضي في/ 466 معنى المستقبل وذلك قولك: والله لا فعلت, إنما المعنى: لا أفعل؛ لأن قولك في القسم: لا أفعل إنما هو لما يقع, فأما قولهم: لا أفعل نفي لقولك: لأفعلنَّ ولذلك يجوز أن تحذف "لا" وأنت تريد النفي وجائز أن تقول: لا قام زيد ولا قعد عمرو تريد الدعاء عليه. وهذا مجاز. وحق هذا الكلام أن يكون نفيًا لقيامه وقعوده فيما مضى. وقال الله عز وجل: {فَلا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
النساء: 102 والآية هي: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} بالفاء لا بالواو.



ج / 1 ص -401- اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}1. ومن هذا قول النبي, صلى الله عليه وسلم: "أرأيت من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهل" أي: من لم يأكل ولم يشرب يعني الجنين. فإذا قلت: والله أفعل ذاك, فمعناه: لا أفعل, فلو قلت: والله أقوم تريد: لأقومنَّ كان خطأ؛ لأنها حذفت استخفافًا لاستبداد الإِيجاب باللام والنون, ولهذا موضع آخر يذكر فيه, ويكون في موضع/ 467 "ليس" وقد مضى ذكرها, وقد تكون "لا" مؤكدة كما كانت "ما" في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}2 و"مما خطاياهم"3. فمن ذلك قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}4.. إنما هو: فأقسم, يدلك على ذلك قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}5.. وكذلك قال المفسرون في قوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}6 إنما هو: أُقسم, فوقع القسم على قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}7. قال أبو العباس: فقيل لهم في عروض ذلك: أن الزوائد من هذا الضرب إنما تقع بين كلامين أو بعد كلام كقولك: جئتك لأمرٍ ما, فكان من جوابهم: أن مجاز القرآن كله مجاز سورة واحدة بعد ابتدائه, وأن بعضه متصل ببعض, فمن ذلك قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ}8. وقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}9, وإنما هو:
لا تستوي الحسنة والسيئة, ومعناه ينبئك عن ذلك/ 468 إنما هو: لا تساوي الحسنة السيئة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
البلد: 10, 11، والآية: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ, فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}.
2
آل عمران: 159.
3
نوح: 25 قال شعيب: قرأ أبو عمرو بن العلاء المازني البصري: "مما خطاياهم" مثل قضاياهم، وقرأ الباقون: "خطيئاتهم".
4
المعارج: 40.
5
الواقعة: 76.
6
القيامة: 1.
7
القيامة: 17.
8
الحديد: 29. وانظر: الكتاب 2/ 306. والمقتضب 1/ 47.
9
فصلت: 34.



ج / 1 ص -402- مسائل من باب "لا":
تقول: لا غلامين ولا جاريتي لك, إذا جعلت الآخر مضافًا ولم تجعله خبرًا له. وصار الأول مضمرًا له كأنك قلت: لا غلامين في ملكك ولا جاريتي لك, كأنك قلت: ولا جاريتك في التمثيل.
قال سيبويه: ولكنهم لا يتكلمون به -يعني بالمضمر- واختص "لا" بهذا النفي, وإن شئت قلت: لا غلامين ولا جاريتين لك, إذا جعلت "لك" خبرًا لهما وهو قول أبي عمرو. وكذلك لو قلت: لا غلامين لك, وجعلت "لك" خبرًا.
فإذا قلت: لا أبالك, فههنا إضمار مكان ولكنه يترك استخفافًا واستغناء. وتقول: لا غلامين ولا جاريتين لك, وغلامين وجاريتين لك, كأنك قلت: لا غلامين ولا جاريتين في مكان كذا وكذا. فجاء "بلك" بعدما بني على الكلام الأول في مكان كذا وكذا, كما قال: لا يدين بها لك1 / 469 حين صيره كأنه جاء "بلك" بعدما قال: لا يدين بها في الدنيا لك, وقبيح أن تفصل بين الجار والمجرور فتقول: لا أخا هذين اليومين لك قال سيبويه: وهذا يجوز في ضرورة الشعر لأن الشاعر إذا اضطر, فصل بين المضاف والمضاف إليه. قال الشاعر2:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 347-348 هذا الكلام بالتفصيل.
2
من شواهد الكتاب 1/ 92 و1/ 347، على المفصل بين المضاف والمضاف إليه للضرورة، والأصل: كأن أصوات أواخر الميسِ.
ولإيغال الابتعاد، يقال: أوغل في الأرض: إذا أبعد فيها. أوغل في الأمر إذا دخل فيه بسرعة. والضمير للإبل في بيت قبله.
والآواخر: جمع آخرة، بوزن: فاعلة، وهي آخر الرحل. وهي العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب ويقال فيه مؤخر الرحل. وقيل: يجوز فتح الخاء فيه أيضا. والميس بفتح الميم: شجر يتخذ منه الرحال والأقتاب، وإضافة أواخر إليه، كإضافة خاتم فضة.
والفراريج: جمع فروجة: وهي صغار الدجاج، يريد أن رحالهم جدد وقد طال سيرهم، فبعض الرحل يحك بعضا فتصوت مثل أصوات الفراريج من شدة السير واضطراب الرحل، ومن إيغالهن: من هنا للتعليل. والشاعر هو ذو الرمة.
وانظر: المقتضب 4/ 376، وشرح السيرافي 1/ 246، والموشح/ 185، والخصائص 2/ 304، والإنصاف/ 433. وابن يعيش 1/ 301، و2/ 108، وشرح الحماسة 3/ 1083، والخزانة 2/ 250، وشروح سقط الزند 4/ 1573، والديوان/ 76.



ج / 1 ص -403- كأنَّ أصواتَ مِنْ إيغالهنَّ بِنَا أواخرِ الميسِ أصواتُ الفراريج

ومن قال: كم بها رجل فأضاف فلم يبال الفتح قال: لا يدري بها لك ولا أخا يوم الجمعة لك, ولا أخا فاعلم لك, والجر في: "كم" بها وترك النون في: لا يدي بها لك, قول يونس. واحتج بأن الكلام لا يستغني ورد ذلك عليه سيبويه بأن قال: الذي يستغني به الكلام والذي لا يستغني قبحهما واحد إذا فصلت بين الجار والمجرور, وتقول: لا غلامَ وجاريةً فيها لأن "لا" إنما تجعل وما تعمل فيه اسمًا إذا كانت إلى جنب الاسم, لكنك يجوز أن تفصل بين/ 470 خمسة وعشر في قولك: خمسة عشر, كذلك لا يجوز أن تفصل بين "لا" وبين ما بني معها, وتقول: لا رجلٌ ولا امرأةٌ يا فتى. إذا كانت "لا" بمنزلتها في "ليس" مؤكدة للنفي حين تقول: ليس لك رجل ولا امرأة, قال رجل من بني سليم وهو أنس بن العباس:

لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً اتَّسَعَ الفَتْقُ على الراَّتِقِ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من سيبويه 1/ 349 على نصب المعطوف وتنوينه على إلغاء "لا" الثانية وزيادتها لتأكيد النفي والتقدير: لا نسب وخلة اليوم:
ويروى:

لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع

وانظر: الجمهرة لابن دريد 2/ 373، ونسبه لنصر بن سيار وشرح الحماسة 2/ 967، وأمالي القالي 3/ 73، وارتشاف الضرب/ 186، وابن يعيش 2/ 101، والمؤتلف والمختلف/ 127، ومجمع الأمثال للميداني 1/ 160.

ج / 1 ص -404- وتقول: لا رجل ولا امرأة فيها، فتعيد "لا" الأولى كما تقول: ليس عبد الله وليس أخوه فيها، فيكون حال الآخرة كحال الأولى، وتقول: لا رجل اليوم ظريفا، ولا رجل فيها عاقلا، إذا جعلت "فيها" خبرًا ولا رجلَ فيك راغبًا, من قبل أنه لا يجوز لك أن تجعل الاسم والصفة بمنزلة اسم واحد. وقد فصلت بينهما. وتقول: لا ماء سماء باردًا, ولا مثله عاقلًا. من قبل أن المضاف لا يجعل مع غيره بمنزلة خمسة عشر, فإذا قلت: لا/ 471 ماء ولا لبن ثم وصفت اللبن فأنت بالخيار في التنوين وتركه فإن جعلت الصفةَ للماء لم يكن إلا منونًا؛ لأنُه لا يفصل بين الشيئينِ اللذينِ يجعلان بمنزلة اسم واحد.
وحكى سيبويه عن العرب: لا كزيد أحدًا تنون؛ لأنك فصلت بين "لا" و"أحد" وحكى سيبويه عن العرب: لا كزيد أحد, ولا مثله أحد, فحمله على الموضع والموضع رفع, وإن شئت حملته على "لا" فنونته ونصبته وإن شئت قلت: لا مثلَهُ رجلًا على التمييز كما تقول: لي مثله غلامًا, قال ذو الرمة:

هِيَ الدَّارُ إذْ مَيَّ لأهْلِكِ جِيرَةٌ لَيالِيَ لا أَمْثَالُهُنَّ لَيَاليَا1

قال سيبويه: وأما قول جرير:

لا كالعَشِيَّةِ زائرًا ومَزُورا2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
مر تفسير ص/ 473.
2
من شواهد الكتاب 1/ 353، على نصب "زائرا" لأن العيشة ليست بالزائر وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائرا، وقال: الأعلم: ولا يحسن في هذا رفع الزائر لأنه غير العشية بمنزلة: لا كزيد رجل، لأن زيدا من الرجال. ويجوز الرضي: أن يكون زائرا تابعا بتقدير مضاف. فالأصل: كزائر العشية. والعشي: قيل ما بين الزوال إلى الغروب وقيل: هو آخر الليل. وقيل: بعد صلاة المغرب إلى العتمة، وأراد الشاعر بالزائر: نفسه، وبالمزور: من يهواه. وصدر البيت:

يا صاحبي دنا المسير فسيرا لا كالعشية....

وانظر: المقتضب 2/ 152، ومجالس ثعلب/ 321، وشرح السيرافي 3/ 91، وابن يعيش 2/ 114. وشرح الرضي على الكافية 1/ 343، والديوان 290.



ج / 1 ص -405- فلا يكون إلا نصبًا من قبل أن العشية ليست بالزائر وإنما أراد: لا أرى كالعشية زائرًا كما تقول: ما رأيت كاليوم رجلًا, فكاليوم كقولك: في اليوم. لأن الكاف ليست باسم/ 472 وفيه معنى التعجب كما قال: تالله رجلًا وسبحان الله رجلًا, إنما أراد: تالله ما رأيت رجلًا, ولكنه يترك إظهار الفعل استغناء. وتقول: لا كالعشية عشية ولا كزيد رجل. لأن الآخر هو الأول؛ ولأن زيدًا رجل وصار: لا كزيد كأنك قلت: لا أحد كزيد ثم قلت: رجل كما تقول: لا مال له قليل ولا كثير على الموضع, قال امرؤ القيس:

ويلمها في هَوَاء الجَوِّ طَالِبة ولا كهذا الذي في الأْرضِ مَطْلُوبُ1

لأنه قال: ولا شيء لهذا ورفع على الموضع. وإن شئت نصبت على التفسير كأنه قال: لا أحد كزيد رجلًا.
قال سيبويه: ونظير: لا كزيد في حذفهم الاسم قولهم: لا عليك, وإنما يريدون: لا بأس عليك ولا شيء عليك, ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه2. ومن قال: لا غلامٌ ولا جارية3 قال: أغلام وألا جارية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 353 و2/ 172.
رفع مطلوب حملا على موضع الكاف، لأنها في تأويل مثل وموضعها موضع رفع وهو بمنزلة: لا كزيد رجل، ولو نصب حملا على اللفظ أو على التمييز لجاز.
وصف عقابا تتبع ذئبا لتصيده فتعجب منها في شدة طلبها ومنه في سرعته، وشدة هروبه، وأراد: ويل أمها فحذف الهمزة لثقلها ثم اتبع اللام حركة الميم.
وانظر: شرح السيرافي 3/ 91، وابن يعيش 2/ 114، والعمدة لابن رشيق/ 1، والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 16، والخزانة 2/ 113، والديوان/ 227.
2
انظر: الكتاب 1/ 354.
3
جملة زائدة في الأصل حذفتها وهي "قال: لا غلام ولا جارية".



ج / 1 ص -406- إنما دخلت في النفي لا في المعطوف عليه. ألا تراك تقول في النداء: يا بؤس للحرب1, ولا تقول: يا بؤس زيد وبؤس الحرب, فالنفي كالنداء وكذلك إذا قلت: لا غلامي لك ولا مسلمي لك, إن كانت لا الثانية نافية غير عاطفة جاز إسقاط النون وإن كانت عاطفة لم يجز إلا إثبات النون فتقول: لا غلامين لك ولا مسلمين لك. وناس يجيزون أن تقول: لا رجلٌ ولا امرأةَ, وهو عندي جائز على قبح؛ لأنك إذا رفعت فحقه التكرير, وتقول: لا رجل كان قائمًا ولا رجل ظننته قائمًا, إن جعلت كان وظننت: صلة لرجل, أضمرت الخبر, وإن جعلتهما خبرين لم تحتج إلى مضمر. وقوم يجيزون: لا زيدَ لك, ولا يجيزون لا غلامَ الرجل لك إلا بالرفع, ويجيزون: لا أبا محمد لك, ولا أبا/ 474 زيد لك. يجعلونه بمنزلة اسم واحد ولا يجيزون: لا صاحب درهم لك؛ لأن الكنية بمنزلة الاسم. ويقولون: عبد الله يجري مجرى النكرة إذ كانت الألف واللام لا يسقطان منه.
وقال الفراء: جعل الكسائي: عبد العزيز وعبد الرحمن بمنزلة عبد الله وإسقاط الألف واللام يجوز نحو قولك: عبدَ عزيز لك. وقالوا: الغائب من المكنى يكون مذهب نكرة نحو قولك: لا هو ولا هي؛ لأنه يوهمك عددًا, وإن شئت قضيت عليه بالرفع والنصب فإن جعلته معرفة جئت معه بما يرفعه وحكوا: إن كان أحدٌ في هذا الفخ ولا هو يا هذا وكذلك: هذا وهذان عندهم, ويقولون: لا هذين لك ولا هاتين لك وكذلك ذاك لأنه غائب. وجميع هذه الأشياء التي تخالف الأصول التي قدمتها لك لا تجوز في القياس ولا هي مسموعة من الفصحاء.
وتقول: لا رجل أخوك ولا رجل عمك لا يجوز في أخيك وعمك إلا الرفع. وقد حُكي: أنّ كلام العرب أنْ يُدخِلوا: هو مع المفرد/ 475 فيقولون: لا رجل هو أخوك ولا رجل هو عمرو, ويقولون: لا بنات لك كما تقول: لا مسلمي لك. وتقول: ألا رجلًا زيدًا أو عمرً,ا تريد: ألا أحدَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 345-346.



ج / 1 ص -407- رجلًا يكون زيدًا أو عمرًا ويجوز أن يكون بدلًا من رجل فإذا جاءت أو مع "ألا" فهو طلب.
وتقول: لا رجل في الدار لا زيدٌ ويدخل عليها ألف الاستفهام فتقول: ألا رجل في الدار ألا زيد. وتقول: ألا رجل ألا امرأةٌ يا هذا. وتقول: ألا ماء ولو باردًا, وهو عند سيبويه: قبيح. لأنه وضع النعت موضع المنعوت1 فلو قلت: ألا ماء ولو باردًا لكان جيدًا. وذلك يجوز إلا أنك تضمر بعد "لو" فعلًا ينصب ماء. وكأنك قلت: ولو كان ماءً باردًا. فإذا جئت بلو كان ما بعدها أحسن, قال أحمد بن يحيى ثعلب: كان يقال: متى كان ما بعد "لو" نعتًا للأول نصب ورفع ومتى كان غير نعت رفع/ 476 هذا قول المشايخ. وقال الفراء: سمعت في غير النعت الرفع والنصب. وإذا قال: ألا مستعدي الخليفة أو غيره, وألا معدي الخليفة أو غيره, فالرفع كأنك بينت فقلت: ذاك الخليفة أو غيره أو هو الخليفة أو الخليفة هو أو غيره. والنصب على إضمار "يكون" كأنك قلت: يكون الخليفة. أي: يكون المعدي الخليفة أو غيره. وقوم يجيزون: ألا قائل قولًا, ألا ضارب ضربًا, وهذا عندي لا يجوز إلا بتنوينٍ لأنه قد أعملَ في المصدر فطالَ, وقد مضى تفسير هذا.
ويجوز أن تقول: لا قائل قول, ولا ضارب ضرب, فتضيف إلى المصدر. وتقول: لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة؛ لأنك قلت: لا خير في خير بعده النار ولا شر في شَرٍّ بعده الجنة, ويجوز أن تكون هذه الباء دخلت لتأكيد النفي كما تدخل في خبر "ما" وليس, فتكون زائدة كأنك/ 477 قلت: لا خير خير بعده النار ولا شر شرٍّ بعده الجنة فإن جعلت الهاء راجعة إلى خبر الأول الذي مع "لا" قلت: لا خير بعدهُ النار خير. فصار قولكَ: بعد النار جملة نعت بها: لا خير والنار مبتدأ وبعده:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 116.



ج / 1 ص -408- خبره والجملة صفة لخير, كما تقول: لا رجلَ أبوه منطلق في الدارِ فرجل: منفي وأبوه: منطلق مبتدأ وخبر. والجملة بأسرها صفة لرجل قال أبو بكر: وقد ذكرنا الأسماء المرفوعات والمنصوبات وما ضارعها بجميع أقسامها وبقي الأسماء المجرورة ونحن نذكرها إن شاء الله.











=====================.



21



















الأصول في النحو

ذكر الجر والأسماء المجرورة:
الأسماء المجرورة تنقسم قسمين: اسم مجرور بحرف جر, أو مجرور بإضافة اسم مثله إليه, وقولي: جر وخفض بمعنى واحد.
ذكر حروف الجر:
حروف الجر تصل ما قبلها بما بعدها فتوصل الاسم بالاسمِ والفعلَ بالاسم ولا يدخل حرف/ 478 الجر إلا على الأسماء كما بينا فيما تقدم, فأما إيصالها الاسم بالاسم فقولك: الدار لعمرو, وأما وصلها الفعل بالاسم فقولك: مررت بزيد فالباء هي التي أوصلت المرور بزيد.
وحروف الجر, تنقسم قسمين:
فأحد القسمين: ما استعملته العرب حرفًا فقط ولم يشترك في لفظهِ الاسم ولا الفعل مع الحرف ولم تجره في موضع من المواضع مجرى الأسماء ولا الأفعال.
والقسم الآخر: ما استعملته العرب حرفًا وغير حرف.
فالقسم الأول: وهو الحرف التي استعملته حرفًا فقط على ضربين: فالضرب الأول منها: أُلزم عمل الجر, والضرب الثاني: غير ملازم لعمل الجر. فأما الحروف الملازمة لعملِ الجرِّ: فمن وإلى وفي والباء واللام.
ولِرُبَّ: باب يفردُ به لخروجها عن منهاجِ أخواتِها وأنا مُبيّن معنى حرفٍ حرفٍ منها.



ج / 1 ص -409- أما "من": فمعناها/ 479: ابتداء الغاية. تقول: سرت من موضع كذا إلى موضع كذا. وفي الكتاب: من فلان إلى1 فلان. إنما يريد: ابتداؤه فلان. وسيبويه يذهب إلى أنها تكون لابتداء الغاية في الأماكن2 وتكون للتبعيض نحو قولك: هذا من الثوب. وهذا منهم تقول: أخذت ماله, ثم تقول: أخذت من ماله فقد دلت على البعض3.
قال أبو العباس: وليس هو كما قال عندي؛ لأن قوله: أخذت من ماله, إنما ابتداء غاية ما أخذ, فدل على التبعيض من حيث صار ما بقي انتهاء له والأصل واحد. وكذلك: أخذت منه درهمًا وسمعت منه حديثًا, أي: أول الحديث, وأول مخرج هذه الدراهم وقولك: زيد أفضل من عمرو4 وإنما ابتدأت في إعطائه الفضل من حيث عرفت فضل عمرو فابتداء تقديمه هذا الموضع فلم يخرج من ابتداء الغايةِ. وقال في وقتٍ آخرَ: مِنْ تكون/ 480 على ثلاثة أضرب لابتداء الغاية كقولكَ: خرجت مِنَ الكوفة إلى البصرة وللتبعيض كقولك: أخذت من ماله. والأصل يرجع إلى ابتداء الغاية لإنك إذا قلت: أخذت من المال فأخذك إنما وقع ابتداؤه من المال5. ويكون لإِضافة الأنواع إلى الأسماء6 كقول الله تعالى: {إنَّمَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في كتاب سيبويه 2/ 307، وتقول إذا كتبت كتابا من فلان إلى فلان..
2
انظر: الكتاب 2/ 307 ويرى الكوفيون: أن "من" تكون للابتداء في الزمان أيضا. انظر: الإنصاف/ 328.
3
انظر: الكتاب 2/ 307.
4
انظر: المقتضب 1/ 44 و4/ 136. وقال سيبويه 2/ 307. وكذلك هو أفضل من زيد إنما أراد أن يفضله على بعض ولا يعم، وجعل زيدا الموضع الذي ارتفع منه أو سفل منه. وقد غلط المبرد سيبويه في هذا الموضع وذلك موجود في الانتصار/ 313-316.
5
انظر: المقتضب 4/ 136 و1/ 44.
6
نص المبرد هنا غير موجود في المقتضب ولا في الكامل.



ج / 1 ص -410- إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}1. وكقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً}2, أي: من هؤلاء الذين آمنوا واجتنبوا الرجس من الأوثان. فقولك: رجس جامع للأوثان وغيرها. فإذا قلت: من الأوثان فإنما معناه الذي ابتداؤه من هذا الصنف, قال: وكذلك قول سيبويه: هذا باب علم ما الكلم من العربية3؛ لأن الكلم يكون عربيا وعجميا, فأضاف النوع وهو الكلم إلى اسمه الذي يبين به ما هو وهو العربية وتكون زائدة/ 481 قد دخلت على ما هو مستغن من الكلام إلا أنها تجر لأنها حرف إضافة نحو قولهم: ما جاءني من أحد, وما كلمت من أحد, وكقوله عز وجل: {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}4 إنما هو: خير, ولكنها توكيد وكذلك: ما ضربت من رجل, إنما هو: ما ضربت رجلًا فهذا موضع زيادتها إلا أنه موضع دلت فيه على أنه للنكرات دون المعارف ألا ترى أنك تقول: ما جاءني من أحد, وما جاءني من رجل ولا تقول: ما جاءني من عبد الله. لأن رجلًا في موضع الجمع, ولا يقع المعروف هذا الموضع لأنه شيء قد عرف بعينِه ألا ترى أنك تقول: عشرون درهمًا ولا تقول: عشرون الدرهم وقال سيبويه: إذا قلت: ما أتاني من رجل أكدت بمن لأنه موضع تبعيض فأراد أنه لم يأته بعض الرجال والناس, وكذلك: ويحه من رجل إنما أراد أن يجعل التعجب من بعض الرجال 5 / 482 وكذلك: لي ملؤه من عسل وقال كذلك: أفضل من زيد. إنما أراد أن يفضله على بعض ولا يعم, وجعل زيدًا الموضع الذي ارتفع منه أو سفل منه في قولك: شر من زيد, وكذلك إذا قال: أخزى الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المائدة: 90.
2
المائدة: 9.
3
انظر: الكتاب 1/ 2.
4
البقرة: 105 في البحر المحيط 1/ 340 من زائدة. والتقدير: خير من ربكم...
5
انظر: الكتاب 2/ 307.



ج / 1 ص -411- الكاذبين مني ومنك, إلا أن هذا وأفضل لا يستغني عن "من" فيهما, لأنها توصل الأمر إلى ما بعدها, وقال: وتقول: رأيته من ذلك الموضع فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الابتداء1.
وأما "إلى" فهي للمنتهى2 تقول: سرت إلى موضع كذا, فهي منتهى سيرك, وإذا كتبت من فلان إلى فلان فهو النهاية, فمن الابتداء وإلى الانتهاء, وجائز أن تقول: سرت إلى الكوفة وقد دخلت الكوفة, وجائز أن تكون بلغتها ولم تدخلها؛ لأن "إلى" نهاية فهي تقع على أول الحد, وجائز أن تتوغل في المكان ولكن تمتنع من مجاوزته لأن النهاية غاية/ 483 قال أبو بكر: وهذا كلام يخلط معنى "من" بمعنى "إلى" فإنما "إلى" للغاية و"من" لابتداء الغاية, وحقيقة هذه المسألة: أنك إذا قلت: رأيت الهلال من موضعي "فمن" لك وإذا قلت: رأيت الهلال من خلال السحاب "فمن" للهلال, والهلال غاية لرؤيتك, فكذلك جعل سيبويه "من" غاية في قولك: رأيته من ذلك الموضع وهي عنده ابتداء غاية إذا كانت "إلى" معها مذكورة أو منوية فإذا استغنى الكلام عن "إلى" ولم يكن يقتضيها جعلها غاية ويدل على ذلك قوله: ما رأيته مذ يومين فجعلتها غاية كما قلت: أخذته من ذلك المكان فجعلته غاية ولم ترد منتهى أي: لم ترد ابتداء له منتهى3. أي: استغنى الكلام دون ذكر المنتهى وهذا المعنى أراد, والله أعلم وهذه المسألة ونحوها إنما/ 484 تكون في الأفعال المتعدية نحو: رأيت وسمعت وشممت وأخذت. تقول: سمعت من بلادي الرعد من السماء, ورأيت من موضعي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 307-308.
2
قال سيبويه 2/ 310: وأما إلى فمنتهى لابتداء الغاية، تقول: من كذا إلى كذا. ويقول الرجل إنما أنا إليك، إنما أنت غايتي.
وقال المبرد: في المقتضب 4/ 139، أما "إلى" فإنما هي للمنتهى، ألا ترى أنك تقول: ذهبت إلى زيد وسرت إلى عبد الله، ووكلتك إلى الله.
3
انظر: الكتاب 2/ 308 و2/ 310.



ج / 1 ص -412- البرق من السحاب, وشممت من داري الريحان من الطريق "فمن" الأولى للفاعل و"من" الثانية للمفعول, وعلى هذا جميع هذا الباب, لا يجوز عندي غيره, إنما جاز هذا لأن للمفعول حصة مِن الفعل كما للفاعل. وبعض العرب يحذف الأسماء مع "من" وقد ذكرنا بعض ذلك فيما قد مضى, قال الله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}1: والتأويل عند أصحابنا2: وما منا أحد إلا له. والكوفيون يقولون إن "مَنْ" تضمر مع "من" وفي التأويل عندهم: إلا مَنْ له مقام/ 485 وما كان بعده شيء لم يسم غاية, قال سيبويه: "إلى" منتهى لابتداء الغاية يقول: مِنْ كذا إلى كذا. ويقول: الرجل: إنما أنا إليك أي: أنت غايتي وتقول: قمت إليه فتجعله منتهاك من مكانك3.
"
في": وفي معناها الوعاء. فإذا قلت: فلان في البيت, فإنما تريد: أن البيت قد حواه وكذلك: المال في الكيس فإن قلت: في فلان عيب, فمجاز واتساع؛ لأنكَ جعلتَ الرجل مكانًا للعيب يحتويه وإنما هذا تمثيل بذاك, وكذلك تقول: أتيتُ فلانًا وهو في عنفوان شبابه أي: وهو في أمرهِ ونهيهِ فهذا تشبيه وتمثيل, أي: أحاطت بهِ هذه الأمور قال4: وإن اتسعت في الكلام فإنما تكون كالمثل يجاءُ به يقارب الشيء وليس مثله5.
"
الباء": معناه الإِلصاق6 فجائز أن يكون معه استعانة, وجائز لا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الصافات/ 64، وانظر: الكشاف 1/ 312، والبحر المحيط 3/ 392، قال الزجاج: وحذف أحد لأنه مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو: ما قام إلا زيد، ومعناه: ما قام أحد إلا زيد. وانظر المغني 1/ 166.
2
أي: البصريون.
3
انظر: الكتاب 2/ 310.
4
أي: سيبويه. انظر: الكتاب 2/ 308.
5
انظر: الكتاب 2/ 308, وانظر: المقتضب 4/ 139.
6
قال المبرد في المقتضب 4/ 142، وأما الباء فمعناه الإلصاق بالشيء. وذلك قولك: مررت بزيد، والباء ألصقت مرورك بزيد، وكذلك لصقت به. وانظر: المقتضب 1/ 39.



ج / 1 ص -413- يكون, فأما الذي معه استعانة فقولك: كتبت بالقلم/ 486 وعمل الصانع بالقيدوم1. والذي لا استعانة معهُ فقولك: مررتُ بزيدٍ, ونزلت بعبد الله. وتزاد في خبر المنفي توكيدًا نحو قولك: ليس زيد بقائم, وجاءت زائدة في قولك: حسبك بزيد, وكفى بالله شهيدًا, وإنما هو كفى الله.
قال سيبويه: باء الجر إنما هي للإِلزاق والاختلاط وذلك قولك: خرجت بزيدٍ ودخلت به وضربته بالسوط, ألزقت ضربك إياه بالسوط, فما اتسع من هذا الكلام فهذا أصله2.
"
اللام": اللام: لام الإِضافة قال سيبويه: معناها الملك والاستحقاق, ألا ترى أنك تقول: الغلام لك, والعبدُ لكَ, فيكون في معنى: هو عبدٌ لكَ وهو أخ لكَ فيصير نحو: هو أخوك فيكون هو مستحقا لهذا, كما يكون مستحقا لما يملك, فمعنى هذا اللام معنى إضافة الاسم3.
وقال أبو العباس: لام الإِضافة تجعل الأول لاصقًا بالثاني4 / 487 ويكون المعنى: ما يوجد في الأول تقول: هذا غلام لزيد وهذه دار لعبدِ الله,
فأما تسميتهم إياها لام الملك فليس بشيء إذا قلت: هذا غلام لعبد الله, فإنما دللت على الملك من الثاني للأول, فإذا قلت: هذا سيد لعبدِ الله دللت بقولك على أن الثاني للأول. وإذا قلت: هذا أخ لعبدِ الله, فإنما هي مقاربة وليس أحدهما في ملك الآخر.
ولام الاستغاثة: هي هذه اللام إلا أن هذه تكسر مع الاسم الظاهر وتلك تفتح وقد مضى ذكر ذلك في حد النداء. فلام الإضافة حقها الكسر إلا أن تدخلها على مكنى5 نحو قولك: له مال, ولك, ولهم, ولها فهي في جميع ذلك مفتوحة وهي في الاستغاثة كما عرفتك مفتوحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
القيدوم: قيدوم الرجل قادمته.
2
انظر: الكتاب 2/ 304.
3
انظر: الكتاب 2/ 304.
4
انظر: المقتضب 4/ 143 و1/ 39 وص/ 354 و2/ 37.
5
أي: ضمير، وهو من اصطلاحات الكوفيين.



ج / 1 ص -414- قال سيبويه: إنما أردت أن تجعل ما يعمل في المنادى مضافًا إلى بكر1 / 488 باللام, يعني بذلك الفعل المضمر الذي أغنت عن إظهاره "يا" وقد مضى تفسير هذا. فهذه الحروف التي للجر كلها تضيف ما قبلها إلى ما بعدها. فإذا قلت: سرتَ مِن موضع كَذا, فقد أضفتَ السير إلى ما بعدها, فإذا قلت: مررت بزيد, فقد أضفت المرورَ إلى زيد بالباء. وكذلك إذا قلت: هذا لعبدِ الله, فإذا قلت: أنتَ في الدار, فقد أضفتَ كينونتك في الدار إلى الدار "بفي" فإذا قلت: فيك خصلة سوء فقد أضفت إليه الرداءة "بفي" فهذه الحروف التي ذكرت لك تدخل على المعرفة والنكرة والظاهر والمضمر فلا تجاوز الجرَّ.
واعلم: أن العرب تتسع2 فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني فمن ذلك: الباء تقول: فلان بمكة وفي مكة3, وإنما جازا معًا لأنك إذا قلت: فلان/ 489 بموضع كذا وكذا. فقد خبرت عن اتصاله والتصاقه بذلك الموضع, وإذا قلت: في موضع كذا فقد خبرت "بفي" عن احتوائه إياه وإحاطته به, فإذا تقارب الحرفان فإن هذا التقارب يصلح لمعاقبة, وإذا تباين معناهما لم يجز, ألا ترى أن رجلًا لو قال: مررت في زيد أو: كتبت إلى القلم, لم يكن هذا يلتبس به, فهذا حقيقة تعاقب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 209.
2
البصريون يرون أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض قياسا على حروف الجزم، وأحرف النصب، فإنها هي الأخرى لا يجوز فيها ذلك. وما أوهم ذلك عندهم: إما مؤول تأويلا يقبله اللفظ كما قيل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}، أن "في" ليست بمعنى: "على" ولكن شبه المصلوب لتمكنه من الجذع بالحال في الشيء، وإما على تضمن الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف، وإما على إنابة كلمة عن أخرى، لذا نرى سيبويه يكرر في باب حروف الجر عبارة: فهذا أصله وإن اتسعت، وانظر: الكتاب 1/ 310.
3
وتجيء الباء بمعنى "في" كقوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي: في يدك.



ج / 1 ص -415- حروف الخفض, فمتى لم يتقارب المعنى لم يجز وقد حكي: كنت بالمال حربًا وفي المالِ حَربًا, وهو يستعلي الناسَ بكفهِ وفي كفهِ. وقال في قولِ طرفة:

وإنْ يَلْتقِ الحَيُّ الجَمِيعُ تلاقني إلى ذِرْوَةِ البَيت الكَرِيمِ المُصَمد1

إنَّ "إلى" بمعنى "في" ولا يجوز أن يدخل حرف من هذه التي ذكرت على حرف منها فلا يجوز أن تدخل الباء على "إلى" ولا اللام على "مِنْ" ولا "في" على "إلى" ولا شيئًا/ 490 منها على آخر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه: استعمال "إلى" بمعنى في والصمد: القصد، والفعل صمد يصمد، والتصميد مبالغة الصمد. يقول: إن اجتمع الحي للافتخار تلاقني أنتمي وأعتزي إلى ذروة البيت الشريف، أي: إلى أعلى الشرف، يريد أنه أوفاهم حظا من الحسب وأعلاهم سهما من النسب، وقوله: تلاقني، يريد: أعتزي "إلى" فحذف الفعل لدلالة الحرف عليه. ويروى: إلى ذروة البيت الرفيع: وانظر أمالي ابن الشجري 2/ 268، والاقتضاب للبطليوسي/ 243، والخزانة 3/ 594، وشرح الأنباري/ 192، والمعلقات السبع للزوزني/ 67، والديوان/ 25.



ج / 1 ص -416- باب رُبَّ:
رُبَّ: حرف جر, وكان حقه أن يكون بعد الفعل موصلًا له إلى المجرور كأخواته إذا قلت: مررت برجل وذهبت إلى غلام لك, ولكنه لما كان معناه التقليل1 وكان لا يعمل إلا في نكرة فصار مقابلًا "لكم" إذا كانت خبرًا فجعل له صدر الكلام كما جعل "لكم" وآخر الفعل والفاعل, فموضع رُبَّ وما عملت فيه نصبٌ, كما أن موضع الباء ومن وما عملنا فيه نصب إذا قلت: مررت بزيد وأخذت من ماله. ويدل على ذلك أن "كم" يُبنى عليها, ورُبَّ: لا يجوز ذلك فيها, وذلك قولهم: كم رجل أفضل منك, فجعلوه خبرًا "لكم" كذلك رواه سيبويه عن يونس عن أبي عمرو بن العلاء: أن العربَ تقوله2, ولا يجوز أن تقول: رُبَّ رجل أفضل منك, ولا يجوز أن تجعله/ 491 خبرًا لِرُب كما جعلته خبرًا "لكم" ومما يتبين أن رُبَّ حرف وليست باسم "ككم". أن "كم" يدخل عليها حرف الجر ولا يدخل على رُبَّ تقول: بكم رجل مررت, وإنك تولي "كم" الأفعال ولا توليها رُبَّ.
قال أبو العباس: رُبَّ تنبئ عما وقعت عليه أنه قد كان وليس بكثير,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
لم ينص سيبويه صراحة على أن "رب" تفيد التكثير أو التقليل وإنما ذكر أن "كم" في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه "رب" لأن المعنى واحد، وهذا يحتمل تفسيرات كثيرة, ربما يكون أحد هذه التفسيرات أنها تفيد التكثير.
2
انظر: الكتاب 1/ 293.



ج / 1 ص -417- فلذلك لا تقع إلا على نكرة ولأن ما بعدها يخرج مخرج التمييز تقول: رب رجل قد جاءني فأكرمته ورب دار قد ابتنيتها وأنفقت عليها, وقال في موضع آخر: رب معناها الشيء يقع قليلًا ولا يكون ذلك الشيء إلا منكورًا؛ لأنه واحد يدل على أكثر منه ولا تكون رب إلا في أول الكلام لدخول هذا المعنى فيها1.
وقال أبو بكر: والنحويون كالمجتمعين على أن رُبَّ جواب إنما تقول: / 492 رُبَّ رجل عالمٍ, لمن قال: رأيت رجلًا عالمًا, أو قدرت ذلك فيه فتقول: رُبَّ رجل عالم, تريد: رُبَّ رجل عالم قد رأيتُ, فضارعت أيضًا حرف النفي إذا كان حرف النفي يليه الواحد المنكور وهو يراد به الجماعة. فهذا أيضًا مما جعلت له صدرًا.
واعلم: أن الفعل العامل فيها أكثر ما يستعمله العرب محذوفًا؛ لأنه جواب وقد علم فحذف, وربما جيء به توكيدًا وزيادة في البيان فتقول: رُبّ رجل عالم قد أتيت, فتجعل هذا هو الفعل الذي تعلقت به "رُبَّ" حتى يكون في تقديره: برجلٍ عالمٍ مررت, وكذلك إذا قال: رُبَّ رجل جاءني فأكرمته, وأكرمته, فههنا فعل أيضًا محذوف, فكأنه قال له قائل: ما جاءك رجل فأكرمته وأكرمته فقلت: رُبَّ رجل جاءني فأكرمته وأكرمته أي: قد كنت فعلت ذاك فيكون/ 493 جاءني وما بعده صفة رجلٍ, والصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد, والكلام بعدُ ما تم, فإن لم تضمر: قد فعلت وما أشبه ذلك وإلا لم يجز فإذا قال: ما أحسنت إليّ. قلت: رُبَّ إحسان قد تقدم إليك مني, فكأنك قلت: قد فعلت من إحسان إليك قد تقدم. فإن قال قائل: لِمَ لزم الصفة؟ قيل: لأنه أبلغ في باب التقليلِ لأن رجلًا قائمًا أقل من رجل وحده, فخصت بذلك, والله أعلم.
وكذلك لو قلتَ: رُب رجل جاهل ضربت, إن جعلت: ضربتُ هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: المقتضب 4/ 139-140.



ج / 1 ص -418- العامل في رب. فإن جعلته صفة أضمرت فعلًا نحو ما ذكرنا. فصار معنى الكلام: رُبَّ رجل جاهل ضربت قد فعلت ذاك.
واعلم: أنَّهُ لا بد للنكرة التي تعمل فيها "رُبَّ" من صفة, إما اسم وإما فعل, لا يجوز أن تقول: رُبَّ رجل وتسكت حتى تقول: رُبَّ رجل صالح أو تقول: رجل يفهم ذاك/ 494 ورب حرف قد خولف به أخواته واضطرب النحويون في الكلام فيه. وهذا الذي خبرتك به ما خلص لي بعد مباحثة أبي العباس -رحمه الله- وأصحابنا المنقبين الفهماء وسأخبرك ما قال سيبويه والكوفيون فيه, قال سيبويه: إذا قلت: رُب رجل يقول ذاك فقد أضفت القول إلى الرجل بِرُب1, وكذلك يقول مَنْ تابعه على هذا القول, إذا قال: رُب رجل ظريف, قد أضافت رُب الظريف إلى رجل, وهذا لا معنى له؛ لأن اتصال الصفة بالموصوف يغني عن الإِضافة. وأما الكوفيون ومن ذهب مذهبهم فيقولون: رب وضعت على التقليل2 نحو: ما أقل من يقول ذاك, وكم وضعت على التكثير نحو قولك: ما أكثر من يقول ذاك, وإنما خفضوا "لكم" لأن مِن تصحبها, تقول: كم من رجل ثم تسقط من وتعمل فكذلك/ 495: رُبَّ وإن لم تر "من" معها كما قال: ألا رجل ومن رجل, وهم يريدون: أمَا من رجل وحكي عن الكسائي أو غيره من القدماء: أن بعض العرب يقول: رُبَّ رجل ظريف فترفع ظريفًا, تجعله خبرًا "لرُب" ومن فعل هذا فقد جعلها اسمًا, وهذا إنما يجيء على الغَلط والتشبيه, وفي رب لغات: رُبَّ ورُبُّ يا هذا, ومن النحويينَ من يقولُ: لو سكنت جازَ: ورُبْتَ.
واعلم: أن رُبَّ تستعملُ على ثلاثة وجوه3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 209.
2
انظر: ارتشاف الضرب/ 842، والهمع 2/ 25.
3
في الأصل: "جهات".



ج / 1 ص -419- فالوجه الأول: هو الذي قد ذكرت من دخولها على الاسم الظاهر النكرة1 وعملها فيه وفي صفته الجر.
والوجه الثاني: دخولها على المضمر على شريطة التفسير, فإذا أدخلوها على المضمر نصبوا الاسم الذي يذكرونه للتفسير بعد المضمر, فيقولون: رُبَّه رجلًا, والمضمر ههنا كالمضمر في "نعم" إذا قلت: نعم رجلًا/ 496 زيد, إلا أن المضمر في "نعم" مرفوع لأنه ضمير الفاعل وهو مع رُبَّ مجرور, وإنما جاز في رُبّ وهي لا تدخل إلا على نكرة من أجل أن المعنى تؤول إلى نكرة, وليس هو ضمير مذكور, وحق الإِضمار أن يكون بعد مذكور ولكنهم ربما خصوا أشياء بأن يضمروا فيها على شريطة التفسير وليس ذلك بمطرد في كل الكلام, وإنما يخصون به بعضه فإذا فعلت ذلك نصبت ما بعد الهاء على التفسير فقلت: ربُه رجلًا وهذه الهاء على لفظ واحد وإن وليها المذكر أو المؤنث أو الإثنان أو الجماعة موحدة على كل حال2.
الوجه الثالث: أن تصلها فتستأنف ما بعدها وتكفها عن العمل فتقول: ربما قام زيد وربما قعد, وربما زيد قام, وربما فعلت كذا3, ولما كانت رب إنما تأتي لما مضى فكذلك ربما لما وقع بعدها الفعل/ 497 كان حقه أن يكون ماضيًا, فإذا رأيت الفعل المضارع بعدها فثم إضمار كان, قالوا: في قوله: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}4, أنه لصدق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذا ما نص عليه سيبويه وابن السراج، ولكن بعضهم أجاز جرها لما فيه الألف واللام في الشعر كقول الشاعر: ربما الجامل المؤبل فيهم.
بخفض "الجامل"، وصفته، وانظر: الكتاب 1/ 270، وشرح الرماني 2/ 144.
2
حكي عن الكوفيين: مطابقة الضمير لمميزه، فيقولون: ربها امرأة، وربهما امرأتين ورجلين، وربهم رجالا وربهن نساء. وانظر: تسهيل الفوائد/ 212.
3
إذا كفت "رب" بما عن العمل صارت كحرف الابتداء، يقع ما بعدها الجملة والفعل.
4
الحجر: 2.



ج / 1 ص -420- الوعد كأنه قد كان كما قال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ}1. ولم يكن, فكأنه قد كان لصدق الوعد. ولا يجوز: رُبَّ رجل سيقوم, وليقومن غدًا2, إلا أن تريد: رُبّ رجل يوصف بهذا تقول: رب رجل مسيء اليوم ومحسن غدًا أي: يوصف بهذا ويجوز: ربما رجل عندكَ فتجعل: "مَا" صلة ملغاة.
واعلم: أنّ العربَ تستعملُ الواوَ مبتدأة بمعنى: "رُبَّ" فيقولون: وبلد قطعتُ يريدونُ ورُبَّ3 بلد وهذا كثير.
وقال بعض النحويين: أن الواو التي تكونَ معَ المنكراتِ ليست بخلف من "رُبَّ" ولا كم وإنما تكون مع حروف الاستفهام فتقول: وكم قد رأيت {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ}4, يدل على التعجب ثم تسقط/ 498 كم وتترك الواو, ولا تدخل مع رُبَّ, ولو كانت خلفًا مِن "كم" لجازَ أن يدخلَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
سبأ: 51.
2
قال أبو حيان في الارتشاف/ 851: أن العامل في رب يكون ماضيا في الأكثر، ويجوز أن يكون حالا ومستقبلا، وهذا قليل في كلامهم، وإنما يوقعونها على الماضي. ثم اعتذر عن قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِين...} ثم قال: ومع هذا يحسن أن يقال في الكلام: رأيت الرجل يفعل ما يخاف منه، ربما يندم، وربما يتمنى أن لا تكون فعلت. قال أبو حيان: وهذا كلام عربي حسن. ومثله قال الفراء. انظر: الارتشاف/ 852.
3
أجاز سيبويه: حذف "رب" وإبقاء عملها، قال: وليس كل جار يضمر، لأن المجرور داخل في الجار فصار عندهم بمنزلة حرف واحد، فمن ثم قبح، ولكنهم قد يضمرونه ويحذفونه فيما كثر في كلامهم، لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعماله أحوج. ثم ذكر قول العنبري:

وجداء ما يرجى بها ذو قرابة لعطف وما يخشى السماة ربيبها

قال: سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب، وانظر: الكتاب 2/ 294. إشارة إلى أن بعض العرب ينصب هذا النوع على الفعل الذي بعده، لكنه يرى أنه مجرور "برب" المحذوفة وهو القياس.
4
آل عمران: 101 وتكملة الآية: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}.



ج / 1 ص -421- عليها النسق كما فعلَ بواوِ اليمينِ, وهي عندي: واو العطفِ وهذا أيضًا مما يدل على أن رب جواب وعطف على كلام.

مسائل من هذا الباب:
تقول: رُبَّ رجل قائم وضارب, وَرُبَّ رجل يقوم ويضرب. وتقول: رب رجل قائم نفسه وعمرو, ورب رجل قائم ظريفًا فتنصب على الحال من "قائم" وتقول: رب رجل ضربته وزيدًا ورب رجل مررت به, فتعيد الباء؛ لأن المضمر المجرور لا ينسق عليه بالاسم الظاهر, وتقول: رب رجل قائم هو وزيد, فتؤكد ما في "قائم" إذا عطفت عليه ويجوز أن تقولَ: رب رجل قامَ وزيدٌ, فتعطف على المضمر من غير تأكيد وتقول: رب رجل كان قائمًا, وظننته قائمًا, ففي "كان" ضمير رجل وهو اسمها وقائمًا/ 499 خبرها. وكذلك: الهاء في "ظننته" ضمير رجل وهو مفعولها الأول. وقائمًا مفعولها الثاني وإذا قلت: رب رجل قد رأيت ورب امرأة, فالاختيار أن تعيد الصفة فتقول: ورب امرأة قد رأيت؛ لأنك قد أعدت رُب, وقد جاء عن العرب إدخال "رُبَّ" على "مِنْ" إذا كانت نكرة غير موصولة إلا أنها إذا لم توصل لم يكن بُد من أن توصف؛ لأنها مبهمة حكي عنهم: مررت بمن صالح, ورب من يقوم ظريف, وقال الشاعر.

يَا رُبَّ مَنْ تَغْتَشُّه لَكَ نَاصِحٍ ومُؤتَمَنٍ بالغَيْبِ غَيْرِ أَمِينِ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 271 على تنكير "من" ووصفها بناصح، وتغتشه في موضع الوصف، يقول: قد ينصح الإنسان ويتولاه من يظن به الغش. وقد يغشه ويغتابه من يأمنه ويثق به. وتغتشه تظن به الغش والخديعة. ومؤتمن: تراه أمينا ناصحا.
وانظر: شرح الرماني 2/ 144، وروايته: ألا رب من تغتشه.. بدلا يا رب كرواية سيبويه واللسان غشش رواه: أيا رب من تغتشه.. والهمزة زائدة، إذ لا يستقيم معها الوزن، فالبيت من الكامل، وإذا زيدت الهمزة فلا يكون من هذا الوزن، ولم يعرف قائل هذا البيت.



ج / 1 ص -422- وتدخل رُب على مثلكَ وشبهكَ إذ كانتا لم تتصرفا بالإِضافة وهما نكرتان في المعنى. وتقول: رب رجل تختصم وامرأة وزيد, ولا يجوز الخفض لأنه لا يتم إلا باثنين, فإن قلتَ: رب/ 500 رجلين مختصين وامرأتين جازَ لكَ الخفض والرفع, فتقول: وامرأتان وامرأتين, أما الخفض: فبالعطفِ على "رجلين" والرفع: بالعطف على ما في مختصمين, ولو قلت: رُبَّ رجلين مختصمين هما وامرأتان فأكدت, ثم عطفتَ لكان أجود حكي عن بعضهم: أنه يقول: إذا جاءَ فعل يعني بالفعلِ اسمَ الفاعل بعد النعتِ رفعَ نحو قولك: رب رجل ظريف قائم, والكلام الخفض, وزعم الفراء: أنهم توهموا "كم" إذ كانوا يقولون: كم رجلًا قائمٌ. وتقول: رب ضاربكَ قد رأيت, ورب شاتمك لقد لقيت؛ لأن التنوين في تَينكَ يريد ضارب لكَ وإن قلت: ضاربكَ أمس لم يجز لأنه معرفة. والأخفش يعترض بالأيمان فيقول: رُبَّ -وَالله- رجل قد رأيت, ورُبَّ/ 501 رجل قد رأيت, وهذا لا يجوزُ عندنا لأنّ حروف الجر لا يفصل بينَها وبينَ ما عملت فيهِ1 وسائر النحويين يخالفونَه.
وحكى الكوفيون: ربه رجلًا قد رأيت وربهما رجلين وربهم رجالًا, وربه رجالًا, وربهن نساء وربَه نساء2 مَنْ وحَد. فلأنه كناية عن مجهول ومَن لم يوحد فلأنه رد كلام كأنه قال: له ما لك جوار؟ فقال: ربهن جوار قد ملكت.
وكان الكسائي يجيز: رب مَنْ قائم على أنَّهَ استفهام ويخفض "قائمًا" والفراء يأباه؛ لأن كل موضع لم تقعه المعرفة لم يستفهم بمن فيه.
والضرب الثاني: من حروف الجر وهو ما كان غير ملازم للجر. وذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يرى سيبويه أن الفصل بين الجار والمجرور أمر قبيح، لأنهما بمنزلة كلمة واحدة، وانظر: الكتاب 1/ 295.
2
انظر: التسهيل لابن مالك/ 52.



ج / 1 ص -423- حتى والواو. فواو القسم وهي بدل من الباء1 وأبدلت لأنها من الشفة مثلها.
والتاء: تستعمل في القسم في الله عز وجل, وهي بدل من الواو, والتاء قد تبدل من الواوِ في مواضع/ 502 ستراها وقد خصوا القسمَ بأشياء, ونحن نفرد بابًا للأسماء المخفوضة في القسم وأما الواو التي تقع موقع رب فقد مضى ذكرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه: والواو التي تكون للقسم بمنزلة الباء، وذلك قولك: والله أفعل. الكتاب 2/ 145.



ج / 1 ص -424- باب حتى:
حتى: منتهى لابتداء الغاية بمنزلة "إلى" إلا أنها تقع على ضربين: إحداهما: أن يكون ما بعدها جزءًا مما قبلها وينتهي الأمر به. والضرب الآخر أن ينتهي الأمر عنده ولكنها قد تكون عاطفة وتليها الأفعال. ويستأنف الكلام بعدها ولها تصرف ليس "لإِلى", و"لإِلى" أيضًا مواقع لا تقع "حتى" فيها.
فأما الضرب الأول: وهو ما ينتهي به الأمر, فإنه لا يجوز: أن يكون الاسم بعد حتى إلا من جماعة كالاستثناء, لا يجوز: أن يكون بعد واحد ولا اثنين؛ لأنه جزء من جماعة وإنما يذكر لتحقير أو تعظيم أو قوة أو ضعف وذلك قولك: ضربتُ القومَ حتى زيدٍ فزيد من/ 503 القوم وانتهى الضرب به فهو مضروب مفعول, ولا يخلو أن يكون أحقر من ضربت أو أعظمهم شأنًا وإلا فلا معنى لذكره, وكذلك المعنى إذا كانت عاطفة كما تعطف الواو تقول: ضربتَ القومَ حتى عمرًا. فعمرو من القوم به انتهى الضرب. وقدمَ الحاج حتى المشاة والنساء. فهذا في التحقير والضعف وتقول: ماتَ الناسُ حتى الأنبياء والملوكُ, فهذا في التعظيم والقوة, ولك أن تقول: قامَ القومُ حتى زيد جر وإن كان في المعنى: جاء؛ لأنك انتهيت بالمجيء إليه بحتى, فتقدير المفعولِ وقد بينا فيما تقدم أن كل فعل معه فاعلُه تعدى بحرف جر إلى اسم فموضعه نصب
قال أبو بكر: والأحسن عندي في هذا إذا أردت أن تخبرَ عن زيد بفعله أن تقول/ 504: القوم حتى زيد, فإذا رفعت فحكمه حكم الفاعل في أنه لا



ج / 1 ص -425- بد منه, فإذا خفضت فهو كالمنصوب الذي يستغني الفاعل دونه وأما قول الشاعر:

أَلْقَى الصَّحِيفةِ كَيْ يُخَفِّف رَحْلَهُ والزَّادَ حتَّى نَعلَه أَلْقَاهَا1

فلك فيه الخفض, والرفع والنصب, فالخفض: على ما خبرتكِ به والنصب فيه وجهان: فوجه أن يكون منصوبًا "بألقى" ومعطوفًا على ما عمل فيه "ألقى" ويكون ألقاها توكيدًا. والوجه الثاني: أنْ تنصبه بفعل مضمر يفسره "ألقاها" والرفع على أن يستأنفَ بعدها, والمعنى ألقى ما في رحله حتى نعله هذه حالها, وإذا قلت: العجب حتى زيد يشتمني فالمعنى: العجب لسبِّ الناس إياي حتى زيد يشتمني. قال الفرزدق:

فيا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْب تَسُّبني كأنَّ أباها نَهْشلٌ أو مُجَاشِعٌ2

فإذا قلت: مررتُ بالقوم حتى زيدٍ فإن أردتَ العطف/ 505 فينبغي أن تعيد الياء لتفرق بين ما انجر بالباء وبين ما انجر "بحتى".
الضرب الثاني: المجرور بحتى: وهو ما انتهى الأمر عنده, وهذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 50 على مجيء "حتى" عاطفة بنصب "نعله" وعلى مجيئها ابتدائية برفع "نعله" وفيه وجود قرينة هي "ألقاها" تقتضي دخول ما بعد "حتى" في مضمون الحكم قبلها. والبيت: ينسب للمتلمس أو لأبي مروان النحوي، وفيه إشارة إلى قصة المتلمس وطرفة حين كتب لهما عمرو بن هند كتابين. وانظر: الموجز لابن السراج/ 57 والجمل للزجاجي/ 81، ومعجم الأدباء 19/ 146، وابن يعيش 8/ 19.
2
من شواهد الكتاب 1/ 413 على دخول "حتى" على الجملة الاسمية، لأنها إذا كانت حرف ابتداء تقع على الجمل الفعلية والاسمية معا، وتفيد معنى الغاية، إما في التحقير أو التعظيم.
هجا الشاعر كليب بن يربوع: رهط جرير، وجعلهم من الضعة بحيث لا يسابون مثله لشرفه، ونهشل ومجاشع رهط الفرزدق وهما ابنا دارم.
وانظر: المقتضب 2/ 41، والمغني 1/ 114، والخزانة 4/ 141، والسيوطي/ 4 والديوان/ 517.



ج / 1 ص -426- الضرب لا يجوز فيه إلا الجر لأن معنى العطف قد زال وذلك قولك: إن فلانًا ليصوم الأيام حتى يوم الفطر, فانتهت "حتى" بصوم الأيام إلى يوم الفطر, ولا يجوز أن تنصب "يوم الفطر" لأنه لم يصمه فلا يعمل الفعل فيما لم يفعله, وكذلك إذا خالف الاسم الذي بعدها ما قبلها نحو قولك: قام القوم حتى الليل فالتأويل: قام القوم اليومَ حتى الليلِ. واعلم: أنك إذا قلت: سرتُ حتى أدخلها فحتى على حالها في عمل الجر وإن كان لم يظهرْ هنا "وإن وصلتها" اسم وقال سيبويه: إذا قلت: سرت حتى أدخلها فالناصب للفعل ههنا هو الجار للاسم إذا كان غاية1.
فالفعل إذا كان غاية منصوب والاسم كان غاية جر/ 506 وهذا قول الخليل2. وقال سيبويه: إنها تجيء مثل كي التي فيها إضمار "أن" وفي معناها وذلك قولك: كلمتك حتى تأمر لي بشيء3: قال سيبويه: لحتى في الكلام نحو ليس لإِلى تقول: إنما أنا إليك أي: أنت غايتي ولا تكون حتى ههنا4. وهي أعم من "حتى" تقول: قمت إليه فجعلته منتهاك من مكانك, ولا تقول: حتاه وغير سيبويه يجيز: حتاه وحتاك في الخفض5, ولا يجيزون في النسق؛ لأن المضمر المتصل لا يلي حرف النسق, لا تقول: ضربت زيدًا وك يا هذا, ولا قتلت عمرًا وه, إنما يقولون في مثل هذا: إياك وإياه, والقول عندي ما قال سيبويه: لأنه غير معروف اتصال حتى بالكاف وهو في القياس غير ممتنع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 413 وهذا على مذهب البصريين. أما الكوفيون فيرون: أن حتى تنصب بنفسها لقيامها مقام الناصب.
2
انظر: الكتاب 1/ 413.
3
انظر: الكتاب 1/ 413.
4
انظر: الكتاب 2/ 310.
5
كان المبرد يرى إضافة ما منع سيبويه إضافته إلى المضمر في هذا الباب، ولا يمنع منها إذا كان ما بعد حتى منصوبا، حتى إياه، وإذا كان مرفوعا حتى هو، وإذا كان مجرورا: حتاه وحتاك. انظر: المقتضب 2/ 7.



ج / 1 ص -427- مسائل من هذا الباب:
تقول: ضربتُ القومَ حتى زيدًا وأوجعتُ, تنصب لأنك جئت بحرف نسق على الأول وكذلك/ 507: ضربت القوم حتى زيدًا, ثم أوجعت, وقال قوم: النصب في هذا لا غيرَ لأنكَ جئتَ بحرف نسق على الأولِ, تريد حتى ضربت زيدًا وأوجعت وثم أوجعت.
قال أبو بكر: وهذا عندي على ما يقدر المتكلم أن قدر الإِيجاع لزيد, فالنصب هو الحسن, وإذا كان الإِيجاع للقوم جاز عندي النصب والخفض, وتقول: ضربتُ القومَ حتى زيدًا أيضًا وحتى زيدًا زيادة, وحتى زيدًا فيما أظن؛ لأن هذه دلت على المضمر: كأنك قلت: حتى: ضربت زيدًا فيما أظن. وحتى ضربت زيدًا أيضًا, فإن جعلت: "فيما أظن" من صلة الأول خفضت, كأنك قلت: ضربتُ القومَ فيما أظن حتى زيد وتقول: أتيتكَ الأيامَ حتى يومِ الخميس, ولا يجوز: حتى يوم؛ لأنه لا فائدة فيه, وكذلك لو قلت: صمتُ الأيامَ إلا يومًا, فإن وقت ما بعد إلا وما بعد "حتى" حسن وكانت فيه فائدة فقلت/ 508: صمتُ الأيامَ إلا يومَ الجمعة, وحتى يومِ الجمعةِ.
وقال قوم: إن أردت مقدار يوم جاز فقلت على هذا: أتيتكَ الأيامَ حتى يومٍ. وقالوا: فإن قلت: أتيتك كل وقت حتى ليلًا. وحتى نهارًا, وكان الأول غير موقت والثاني غير موقت نصبت الثاني كما نصبت الأول وكان الخفض قبيحًا.
وقال أبو بكر: وجميع هذا إنما يراعي به الفائدة واستقامة الكلام صلحا فيه فهو جائز. ونقول: ضربتُ القومَ حتى إن زيدًا لمضروب. فإذا أسقطت اللام, فإن كانت "إن" مع ما بعدها بتأويل المصدر فتحتها, قال سيبويه: قد عرفت أموركَ حتى إنك أحمقُ, كأنه قال: حتى حمقَك وقال: هذا قول الخليل1, فهذا لأن الحمق جاء بتأويلِ المصدر وقد مضى تفسير ذا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 473 والنص: وتقول قد عرفت أمورك حتى إنك أحمق، كأنك قلت: عرفت أمورك حتى حمقك، وصفت "إن" في هذا الموضع. هذا قول الخليل.



ج / 1 ص -428- وتقول: ضربتُ القوم حتى كان زيد مضروبًا وضربتُ القوم حتى لا مضروبَ صالحًا فيهم/ 509 جاز في هذا كما جاز الاستئناف والابتداء بعدها, فلما جاز الابتداء جاز ما كان بمنزلة الابتداء وتقول: لا آتيكَ إلى عشر مِنَ الشهرِ. وحتى عَشر من الشهر؛ لأنكَ تترك الإِتيانَ من أول العشرِ إلى آخر هذه فتقع هنا "حتى" وإلى ولا تقول: آتيكَ حتى عشر, إلا أن تريد: آتيكَ وأواظب على إتيانك إلى عشر. وتقول: كتبتُ إلى زيد, ولا يجوز حتى زيد لأنه ليس هنا ما يستثنى منه زيد على ما بينت لك فيما تقدم.
وقوم يجيزون: ضربتُ القومَ حتى زيدًا فضربت, إن أردتَ كلامين, وقالوا: يجوز فيه الخفض والنصب, والاختيار عندهم الخفض قالوا: وإن اختلف الفعل أدخل في الثاني الفاء ولم تسقط وخفض الأول نحو قولك: ضربتُ القومَ حتى زيدٍ فتركت, ولا يكون ضربت القومَ حتى تركت زيدًا.
وتقول: جَلسَ حتى إذا تهيأ أمرنا قام, وأقام حتى ساعة تهيأ أمرنا قطع علينا, وانتظر حتى يوم شخصنا مضى معنا/ 510 فيوم وساعة مجروران وإذا في موضع جر, وهذا قول الأخفش لأن قولك: جلسَ حتى ساعة تهيأ أمرنا ذهب إنما قولك: ذهبَ جواب لتهيأ وحتى واقع على الساعةِ وهي غاية له. وتقول: انتظر حتى إن قسم شيء أخذته منه, فقولكَ: أخذت منه راجع إلى قسَم, وهو جوابه وقعَ الشرط والجواب بعدها كما استؤنف ما بعدها وكما وقعَ الفعل والفاعلَ والابتداء والخبر. وتقول: اقم حتى متَى تأكلْ تأكلْ معنا. وأقم حتى أينا يخرج تخرج معه, فأي مبتدأه لأنها للمجازاة, وكذلك: أجلس حتى أي يخرج تخرج معه.
وقال الأخفش: يقول لكَ الرجل: ائتني فتقول: إما حتى الليل فلا, وإما حتى الظهر فلا وإما إلى الليل فلا, ولا يحسن فيه إلا الجر, وقال تقول: كل القوم حتى أخيك/ 511 وهو الآن غاية, وذلك أنه لا بد لكلِ القومِ من جر, وتقول: كل القوم حتى أخيك فيها لأنك أردت: كل القوم فيها حتى أخيك. وتقول: كل القومِ حتى أخيكَ ضربت. وقالَ الأخفش في كتابه الأوسط: إن قومًا يقولون: جاءني القوم حتى أخوكَ, يعطفونَ الأخ على



ج / 1 ص -429- "القوم" وكذلك: ضربت القومَ حتى أخاكَ قال: وليس بالمعروفِ. وتقول: ضربت القومَ حتى زيدٍ ضربته على الغاية ولو قلت: حتى زيدٍ مضروب, فجررت زيدًا, لم يكن كلامًا؛ لأن مضروبًا وحده لا يستغني؛ لأنه اسم واحد كما استغنى ضربته فعل وفاعل وهو كلام تام.









====================.



22



















الأصول في النحو

ج / 1 ص -430- باب الأسماء المخفوضة في القسم:
أدوات القسم والمقسم به خمس: الواو والباء والتاء واللام ومن, فأكثرها الواو ثم الباء وهما يدخلان على محلوف, تقول: والله/ 512 لأفعلن وبالله لأفعلن فالأصل الباء كما ذكرت لك, ألا ترى أنك إذا كنيت عن المقسم به رجعت إلى الأصل فقلت: به آتيكَ ولا يجوزوه لا آتيكَ, ثم التاء وذلك قولك: تالله لأفعلن, ولا تقال مع غير الله, قال الله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}1, وقد تقول: تالله وفيها معنى التعجب, وبعض العربِ يقول في هذا المعنى فتجيء باللامِ ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى التعجب, وقال أُمية بن عائِذ:

للِه يَبْقَى عَلَى اَلأيَّامِ ذُو حَيَدٍ بِمُشْمَخِرٍ بهِ الظيَّانُ والآسُ2

يريد والله: لا يبقى, إلا أن هذا مستعمل في حال تعجب. وقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الأنبياء: 57
2
من شواهد سيبويه 2/ 144، على دخول اللام على اسم "الله" في القسم بمعنى التعجب. والحيد -بفتح الحاء- مصدر: وهو إعوجاج يكون في قرن الوعل. ويروى -بكسر الحاء- وفسر بأنه جمع حيدة وهي العقدة في قرن الوعل. وقيل: هو مصدر حاد يحيد حيدا بالسكون فحركه للضرورة، ومعناه الروغان. وروي: ذو جيد بالجيم، وهو جناح مائل من الجبل، وقيل: يريد به الظبي. والمشمخر: الجبل الشامخ العالي، والباء بمعنى "في" والظيان: ياسمين البر. والآس: نقط من العسل يقع من النحل على الحجارة. لا النافية حذفت من "يبقى" وهو حذف قياس، لأن المضارع وقع جوابا للقسم، ونسبه غير سيبويه وابن السراج إلى مالك بن خالد الخزاعي. ولعبد مناة الهذلي، ولأبي زبيد الطائي.
وانظر: المقتضب 2/ 324، وابن يعيش 9/ 98، والمفصل للزمخشري/ 345، وأمالي الشجري 1/ 369، والخزانة 2/ 361، والمخصص لابن سيده 13/ 111، وديوان الهذليين 3/ 2، والصاحبي/ 86.



ج / 1 ص -431- يقول بعض العرب: للِه لأفعلنَ. ومن العرب من يقول: مِن ربي لأفعلنَ ذاك ومن ربي إنك لا شر كذا حكاه سيبويه وقال: ولا يدخلونها في غير "ربي" ولا تدخل الضمة في "مِنْ" إلا ههنا1.
وقال الخليل: جئتُ بهذه الحروفِ لأنكَ تضيف حلفك/ 513 إلى المحلوف به كما تضيف به بالباء إلا أن الفعلَ يجيء مضمرًا, يعني أنك إذا قلت: واللِه لأفعلنَ وباللِه لأفعلنَ, فقد أضمرتَ: أحلف وأقسم, وما أشبهه, مما لا يتعدى إلا بحرفٍ والقسم في الكلام إنما تجيء به للتوكيد وهو وحده لا معنى له, لو قلت: والله وسكت أو بالله ووقفت لم يكن لذلك معنى حتى تقسم على أمر من الأمور, وكذا إن أظهرتَ الفعل وأنت تريد القسم فقلت: أَشهدُ باللِه وأُقسم بالله, فلفظه لفظ الخبر إلا أنه مَضمر بما يؤكده.
ويعرض في القسم شيئان: أحدهما: حذف حرف الجر والتعويض أو الحذف فيه بغير تعويض. فأما ما حذف منه حرف الجر وعوض منه فقولهم: أي ها اللِه ثبتت ألفَ ها؛ لأن الذي بعدها مدغم, ومن العرب من يقول: أي هَللهِ فيحذف الألف التي بعد الهاء قال سيبويه: فلا يكون في المقسم به ههنا/ 514 إلا الجر لأن قولهم "ها" صار عوضًا من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفًا على اللسان, ألا ترى أن الواو لا تظهر ههنا. ويقولون: أي هَا اللِه ذا, فأما لقولهم: ذا, فذكر الخليل: أنه المحلوف عليه, كأنه قال: أي والله للأمر هذا فحذف الأمر لكثرة استعمالهم وقدم "ها" كما قدم قوم: ها هو ذا وها أنذا قال زهير:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 2/ 145.



ج / 1 ص -432- تَعْلَمَنْ هَا لَعَمْرِ اللِه ذا قَسَمًا فاقْصِدْ بذَرْعِكَ واْنُظْر أينَ تَنْسِلِكُ1

ومن ذلك ألف الاستفهام قالوا: اللِه ليفعلنَ فالألف عوض من الواو ألا ترى أنك لا تقول: أو اللِه.
وقال سيبويه: ومن ذلك ألف اللام وذلك قولهم: أفاللِه لتفعلنَ: وقال: ألا ترى أنك إن قلت: أفوالله لم تثبت هذا قول سيبويه2, وللمحتج لسيبويه أن يقول: إن الألف كما جعلت عوضًا قطعت وهي لا تقطع مع الواو/ 515.
الثاني: ما يعرض في القسم وهو حذف حرف الجر بغير تعويض. اعلم: أن هذا يجيء على ضربين: فربما حذفوا حرف الجر وأعملوا الفعل في المقسم فنصبوه. وربما حذفوا حرف الجر وأعملوا الحرف في الاسمِ مضمرًا. فالضربُ الأول قولك: اللِه لأفعلنّ وقال ذو الرمة:

ألا رَُبَّ مِنْ قَلْبِي لَه اللَّه نَاصِحٌ ومَنْ قَلْبُه لي في الظِّبَاءِ السَّوانِحِ3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
استشهد به سيبويه 2/ 145 على الفصل بين "ها" التنبيه و"ذا" بالقسم واستشهد به 2/ 150 على التوكيد بالنون الخفيفة.
والبيت روي بروايتين: أقدر من بابي ضرب وقتل بمعنى: قدر. واقصد بذرعك الباء بمعنى "في" وقسما: مصدر مؤكد لما قبله لأن معناه: أقسم. تعلمن: بمعنى ملازم للأمر.
وذرع الإنسان: طاقته -واقصد بذرعك- مثل أورده الميداني، وقال عنه: يضرب لمن يتوعد، أي: كلف نفسك ما تطيق، والذرع: عبارة عن الاستطاعة، كأنه قال: اقصد الأمر بما تملكه أنت لا بما يملكه غيرك، أي: توعد بما تسعه قدرتك.
وانظر: المقتضب 2/ 323، ومجمع الأمثال 2/ 92، والخزانة 4/ 208 و2/ 475، والديوان/ 175.
2
انظر: الكتاب 2/ 145.
3
من شواهد الكتاب 2/ 144 على نصب اسم الله عز وجل لما حذف حرف الجر وأوصل إليه الفعل المقدر والتقدير: أحلف بالله، ثم حذف الجار فعمل الفعل فنصب.
والسوانح من الظباء: ما أخذ عن ميامن الرامي فلم يتمكنه رميه حتى ينحرف له فيتشاءم به. ومن العرب من يتيمن به لأخذه عن الميامن فيجعله مشوما، وضرب به المثل في انحراف مية عنه ومخالفة قلبها وهواها لقلبه وهواه. ويروى: ومن هو عندي في الظباء السوانح.
وانظر: ابن يعيش 9/ 102، وشرح السيرافي 4/ 232، والمفصل للزمخشري/ 347، وانظر ديوان ذي الرمة/ 664، مما نسب إليه.



ج / 1 ص -433- وقال الآخر:

إِذَا ما الخُبْزُ تَأدُمهُ بِلَحْمٍ فَذَاكَ أَمَانةَ اللِه الثَرِيدُ1

أراد: وأمانة الله. ووالله, فلما حذف أعمل الفعل المضمر, ولكنه لا يضمر ما يتعدى بحرف جر. وتقول: أي اللَه لأفعلنّ, ومنهم مَن يقول: أي اللَه لأفعلنَ فيحرك أي بالفتح لالتقاء الساكنين, ومنهم من يدعها على سكونها, ولا يحذفونها لأن الساكن الذي بعدها/ 516 مدغم. والضرب الثاني: وهو إضمار حرفِ الجر وهو قول بعضِ العرب: الله لأفعلن.
قال سيبويه: جازَ حيثُ كثر في كلامهم فحذفوه تخفيفًا كما حذف رُبَّ قال: وحذفوا الواو كما حذفوا اللامين من قولهم: لاه أبوك, حذفوا لام الإِضافة واللام الأخرى ليخفوا الحرف على اللسان وذلك ينوون قال: وقال بعضهم: لهي أبوك فقلب العين وجعل اللام ساكنة إذا صارت مكان العين كما كانت العين ساكنة وتركوا آخر الاسم مفتوحًا كما تركوا آخر "أين" مفتوحًا وإنما فعلوا ذلك به لكثرته في كلامهم, فغيروا إعرابه كما غيروه2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 2/ 144، على نصب أمانة بإضمار فعل، ويقال: وضعه النحويون. تأدمه: تخلطه. ولم يعرف قائل هذا البيت، وقد روى رفع الأمانة على الابتداء محذوف الخبر، وانظر: شرح السيرافي 3/ 225، والمفصل للزمخشري/ 348، وابن يعيش 9/ 102.
2
انظر: الكتاب 2/ 144-145.



ج / 1 ص -434- واعلم: أنه يجيء كلام عامل بعضه في بعض: إما مبتدأ وخبر وإما فعل وفاعل, ومعنى ذلك القسم فالمبتدأ والخبر قولك: لعَمَر الله لأفعلن/ 516 وبعض العرب يقول: وأيمُن الكعبة وأيمُ الله فقولك: لعَمَرَ الله اللام: لام الابتداء وعمر الله: مرفوع بالابتداء. والخبر محذوف كأنه قال: لعَمَر الله المقسم به وكذلك: أيم الله. وأيمن. وتقول: العرب: عليّ عهد الله لأفعلن. فعهد مرتفعة وعليّ مستقر لها, وفيها معنى اليمين وزعم يونس: أن ألف أيم موصولة وحكوا: أيم وإيم وفتحوا الألف كما فتحوا الألف التي في الرجل وكذلك أيمن قال الشاعر:

فَقَالَ فَرِيقُ اَلْقومِ لمَّا نَشَدتُهم نَعَمْ وفريقٌ ليَمنُ اللِه ما نَدري1

وأما الفعل والفاعل فقولهم: يعلمُ الله لأفعلن وعلمَ الله لأفعلنَ فإعرابه كإعراب: يذهبُ زيد والمعنى: واللِه لأفعلن. قال سيبويه: وسمعنا فصحاءَ العربِ يقولون في بيت امرئ القيس:

فَقُلْتُ يَمِينَ اللِه أبرح قَاعِدًَا ولو قَطَّعُوا رَأسي لَدَيْكِ وأوصالي2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 2/ 147، و2/ 273، على حذف الوصل من "أيمن". ونشدتهم: سألتهم. وصف أنه تعرض لزيارة من يحب فجعل ينشد ذودا من الإبل ضلت له مخافة أن ينكر عليه مجيئه وإلمامه.
وبين البصريين والكوفيين خلاف في كلمة "أيمن" وهل هي مفردة أو جمع؟ وقد عقد ابن الأنباري في الإنصاف مسألة لهذا الخلاف/ 246-249. والبيت كما نسبه الأعلم لنصيب.
وانظر: المقتضب 1/ 228 و2/ 90، وشرح السيرافي 4/ 234، وشرح ابن يعيش 9/ 92، والهمع 2/ 40، والدرر اللوامع 2/ 44.
2
من شواهد سيبويه 2/ 147 على رفع "يمين الله" بالابتداء وحذف الخبر. وروى: يمين الله مرفوعا كذلك. فالرفع على الابتداء والخبر محذوف. وأما النصب فعلى أن أصله: أحلف بيمين الله، فلما حذف الباء وصل فعل القسم إليه بنفسه، ثم حذف فعل القسم وبقي منصوبا. والأوصال: المفاصل. وقيل مجتمع العظام. المفرد مفصل -بكسر الواو وضمها- كل عظم لا ينكسر ولا يختلط بغيره.
وانظر: معاني القرآن 2/ 54، والمقتضب 2/ 326، ورواه المبرد: ولو ضربوا رأسي. والخصائص 2/ 284. وشرح السيرافي 4/ 234، والديوان وفيه القصيدة 105.



ج / 1 ص -435- قال: جعلوه بمنزلة أيمن الكعبةِ, وأَيم الله1, وقالوا: / 518 تتلقى اليمين بأربعة أحرف من جوابات الأيمان في القرآن وفي الكلام, مَا ولا وإن واللامُ فأما: ما فتقول: واللِه ما قامَ. وما يقوم وما زيد قائمًا. ولا تدخل اللام على "ما" لأن اللامَ تحقيق وما نفي فلا يجتمعان. قال وقول الشاعر:

لما أغفلت شُكركَ فاصْطَنِعْنِي فَكَيْفَ ومِنْ عَطائِكَ جُلُّ مالي2

فإنه توهم الذي والصلة. وأما: لا, فتقول: والله لا يقوم. وتلغي "لا" من بين أخواتها جوابات الأيمان فتقول: واللِه أقوم إليكَ أبدًا تريد: لا أقوم إليكم أبدًا. فإذا قلت: واللِه لا قمت إليك أبدًا تريد: أقوم جاز وإن أردت: المضي كان خطأ فأما "إن" فقولك: واللِه إن زيدًا في الدار, وإنكَ لقائم وقوله عز وجل: {حم?, وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ, إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}3 قال الكسائي: إنا أنزلنا استئناف/ 519 وحم والكتابُ كأنه قال: حق والله. وقال الفراء: قد يكون جوابًا.
وأما اللام فتدخل على المبتدأ والخبر. فتقول: واللِه لزيد في الدارِ, هذه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 2/ 147.
2
الشاهد فيه: دخول لام الابتداء على "ما" النافية حملا لها في اللفظ على "ما" الموصولة الواقعة مبتدأ. فهو محمول في اللفظ على نحو قولك: لم تصنعه حسن. ولم يعرف قائل هذا البيت. وانظر: المغني 2/ 857، وكتاب منازل الحروف للرماني/ 51، تحقيق الدكتور مصطفى جواد.
3
الدخان: 1-3.



ج / 1 ص -436- التي تدخل على المبتدأ والخبر. وأما التي تدخل على الأفعال: فإن كان الفعل ماضيًا قلت: والله لقد فعلَ وكذلك: واللِه لفيكَ رغبت.
وأما اللام التي تدخلُ على المستقبلِ فإن النونينِ: الخفيفةَ والثقيلةَ يجيئان معها نحو: والله ليقومنَّ ولتقومَنْ يا هذا ولهما باب يذكران فيه.

مسائل من هذا الباب:
تقول: وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ فثم: بمنزلة الواو وتقول: واللِه ثم اللِه لأفعلن وبالله ثُم اللِه لأفعلن. وإن شئت قلتَ: واللَه لآتينكَ ثم الله لأضربنكَ, وإن شئت قلت: واللِه لآتينكَ لأضربنكَ.
قال سيبويه: وهذه الواو بمنزلة الواو التي في/ 520 قولك: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ خارج1, يعني أن الواو في قولك: وعمرو خارج عطفتَ جملةً على جملة كأنك قلت: باللِه لآتينكَ. الله لأضربنكَ مبتدأ ثم عطفت هذا الكلام على هذا الكلام, فإذا لم تقطع جررت قلت: وإلا لآتينكَ, ثم واللِه لأضربنكَ صارت بمنزلة قولك: مررت بزيدٍ ثم بعمروٍ وإن قلت: واللِه لآتينكَ ثم لأضربنك الله, لم يكن إلا النصبُ لأنه ضم الفعل إلى الفعل, ثم جاء بالقسم على حدته2. وإذا قلت: واللِه لآتينكَ ثم اللِه, فإنما أحد الاسمين مضموم إلى الآخر وإن كان قد أخر أحدهما ولا يجوز في هذا إلا الجر لأن الآخر معلق بالأول لأنه ليس بعده محلوف عليه.
قال سيبويه: ولو قالَ: وحقِّكَ وحقِّ زيدٍ, على وجهِ الغلطِ والنسيانِ جازَ3, يريدُ بذلكَ أنهُ لا يجوز لغير4 كساه/ 512 من عري5 وسقاه من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 2/ 146.
2
في الكتاب 2/ 146: ثم جاء بالقسم له على حدته ولم يحمله على الأول.
3
انظر: الكتاب 2/ 146.
4
هنا: ساقط من الكتاب.
5
ساقط قبل هذا الكلام. وانظر: الكتاب 2/ 308.



ج / 1 ص -437- العيمة, فهذا يبن أنها في هذا الموضع حرف لأنهم أجمعوا على أن "من" حرف وعن أيضًا لفظة مشتركة للاسم والحرف.
قال أبو العباس: إذا قال قائل: على زيدٍ نزلت وعن زيدٍ أخذت1, فهما حرفان يعرف ذلك ضرورة لأنهما أوصلا الفعل إلى زيد كما تقول: بزيدٍ مررت. وفي الدار نزلت وإليكَ جئت, فهذا مذهب الحروف وإذا قلت: جئت من عن يمينهِ, فعن اسم ومعناها ناحية, وبنيت لمضارعتها الحروف. وأما الموضع الذي هي فيه اسم فقولهم: مَن عن يمينكَ لأن "من" لا تعمل إلا في الأسماء. قال الشاعر:

فَقُلْتُ اجْعَلِي ضَوْءَ الفَرَاقِدِ كُلَّها يَمِينًا ومهوى النَّجْمِ مِن عَن شِمَالِكَ2

وأما كاف التشبيه فقولك: أنت كزيدٍ ومعناها معنى/ 522: مثل, وسيبويه يذهب إلى أنها حرف3. وكذلك البصريون, ويستدلون على أنه حرف بقولك: جاءني الذي كزيدٍ كما تقول: جاءني الذي في الدارِ ولو قلتَ: جاءني الذي مثل زيدٍ لم يصلح إلا أن تقول: الذي هو مثل زيدٍ, حتى يكون لهذا الخبر ابتداء ويكون راجعًا في الصلة إلى الذي فإن أضمرته: جاز على قبح وإذا قلت: جاءني الذي كزيدٍ لم تحتج إلى هو, ومما يدلك على أنها حرف مجيئها زائدة. والأسماء لا تقعَ موقعَ الزوائدِ, إنما تزاد الحروف, قالَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال المبرد في المقتضب 1/ 46. وقد يكون اللفظ واحدا ويدل على اسم وفعل، نحو قولك: زيد على الجبل يا فتى، وزيد علا الجبل، فيكون "على" فعلا ويكون حرفا خافضا والمعنى قريب.
2
الشاهد فيه: أن "عن" اسم لدخول حرف الجر عليها إذ إن حرف الجر لا يدخل على مثله. والبيت لذي الرمة بن غيلان. وانظر: أسرار العربية لابن الأنباري/ 102، وشروح سقط الزند 2/ 539، والديوان/ 429.
3
انظر: الكتاب 2/ 304، قال: وكاف الجر التي تجيء للتشبيه وذلك قولك: أنت كزيد، بينما يرى المبرد: أنها بمعنى مثل، قال في المقتضب 4/ 140: وأما الكاف الزائدة فمعناها: التشبيه، نحو: عبد الله كزيد، وإنما معناه مثل زيد.



ج / 1 ص -438- الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}1. فالكاف زائدة لأنه لم يثبت له مثلًا تبارك وتعالى عن ذلك والمعنى: ليس مثله شيء. وقد جاءت في الشعر واقعةً موقع مثل موضوعةً موضعها قال الشاعر:

وَصَالِيَاتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْن1 أراد كمثل ما

وقال الآخر:

فصيروا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأكُول3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشورى: 11 "وفي البحر المحيط 7/ 510" تقول العرب: مثلك لا يفعل كذا يريدون به المخاطب، كأنهم إذا نفوا الوصف عن مثل الشخص كان نفيا عن الشخص وهو من باب المبالغة.. فجرت الآية في ذلك على نهج كلام العرب من إطلاق المثل على نفس الشيء. وانظر المغني 1/ 153 وسر صناعة الإعراب: 1/ 291-292.
2
من شواهد الكتاب 1/ 13 في باب ما يحتمل الشعر. وفي 1/ 203 على أن الكاف اسم بمعنى مثل. و2/ 331 على بقاء الهمزة في المضارع للضرورة.
والصاليات: أراد بها الأثافي. لأنها صليت بالنار، أي: أحرقت حتى اسودت، والأثافي: جمع أثفية وهي الحجارة التي ينصب عليها القدر.
والمعنى: لم يبق من هذه الديار التي خلت من أهلها غير رماد القدر، وغير حجارة القدر. وقال البغدادي: هو من بحر السريع. وربما حسب من لا يعرف العروض أنه من الرجز وهو لخصام المجاشعي.
وانظر: المقتضب 4/ 97، وشرح السيرافي 1/ 260، والخصائص 2/ 368 والموجز لابن السراج/ 58، والمحتسب 1/ 186، والتصريف للمازني 2/ 184.
3
من شواهد سيبويه 1/ 203، على أن الكاف بمعنى "مثل" قال الأعلم: وجاز الجمع بين "مثل" والكاف جوازا حسنا لاختلاف لفظهما مع ما قصده من المبالغة في التشبيه ولو كرر المثل لم يحسن. وقيل: إن الكاف فيه زائدة، فكأنه قال: فصيروا مثل عصف مأكول. والعصف: بقل الزرع أو الزرع الذي أكل حبه وبقي نبته.
ونسب إلى حميد الأرقط وإلى رؤبة بن العجاج وهو في ديوانه مما نسب إليه، وقبله:

ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول

وانظر: المقتضب 4/ 141، وسر صناعة الإعراب 1/ 296، وشرح الكافية للرضي 2/ 319، وديوان رؤبة/ 181.



ج / 1 ص -439- فإضافته مثل إلى الكاف يدل على أنه قدرها اسمًا. وهذا إنما جاءَ على ضرورة الشاعر.
وذكر سيبويه: أنه لا يجوز الإِضمار معها إذا قلت: أنت كزيدٍ, لم يجز أن تكني عن زيدٍ. استغنوا بمثل وشبه فتقول: أنتَ مثلُ زيدٍ وقال: مثل ذلك في حتى ومذ.
وقال أبو العباس: فأما الكاف وحتى فقد خولف فيهما قال: وهذا حَسن والكاف أشد تمكنًا فأما امتناعهم من الكاف ومذ وحتى فلعلةٍ واحدة. يقولون: كل شيء من هذه الحروف غير متمكن في بابه لأن الكاف تكون اسمًا وتكون حرفًا فلا تضيفها إلى المضمر مع قلة تمكنها وضعف المضمر إلا أن يضطر شاعر. ومنذ تكون اسمًا/ 524 وتكون حرفًا. وحتى تكون عاطفة وتكون جارة, فلم تعط نصيبها كاملًا في أحد البابين وقال: الكاف معناها معنى مثل, فبذلك حكم أنها اسم لأن الأسماء إنما عرفت بمعانيها, وأنت إذا قلت: زيد كعمروٍ أو زيد مثل عمروٍ فالمعنى واحد فهذا باب المعنى. قال: وأما اللفظ فقد قيل في الكلام والأشعار ما يوجب لها أنها اسم. قال الأعشى:

أَتَنْتَهُونَ ولَنْ يَنهَى ذَوِي شَططٍ كالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيه الزَّيْتُ والفتل2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر: الكتاب 1/ 203.
2
من شواهد الكتاب 1/ 203 وهو مخصوص بالضرورة قال: إلا أن ناسا من العرب إذا اضطروا في الشعر جعلوها بمنزلة: مثل، والكاف يجيء اسما في الاختيار عند ابن جني قال في سر صناعة الإعراب: فأما قوله: ولن ينهى ذوي شطط كالطعن، فلو حملته على إقامة الصفة مقام الموصوف لكان أقبح. لأن الكاف في بيت الأعشى هي الفاعلة في المعنى. والفاعل لا يكون إلا اسما صريحا محضا وهم على إمحاضه اسما محافظة من جميع الأسماء. والشطط. الجور والظلم. والفتل: جمع فتيلة، أراد: الحراجة. والمعنى: لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن نافذ إلى الجوف يغيب فيه الزيت والفتل.
وانظر: المقتضب 4/ 141، وسر صناعة الإعراب 1/ 185، وشرح السيرافي 1/ 72، والحيوان للجاحظ 3/ 466، وروايته: لا تنتهون. والكامل/ 44، وأمالي ابن الشجري 2/ 229، والخصائص 2/ 386، والغيث المنسجم 1/ 52، والديوان/ 58.



ج / 1 ص -440- فالكاف هي الفاعلة, فإن قال قائل: إنما هي نعتُ, قيل له: إنما يخلف الاسم ويقوم مقامه ما كان اسمًا مثله نحو: جاءني عاقل ومررت بظريف, وليس بالحسن1.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني -إن شاء الله-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هنا ينتهي الجزء الأول: ويلاحظ أن سقطا لا يعرف مقداره بعدد الصفحات.











================.



23



















الأصول في النحو

ج / 1 ص -441- فهرس:
مقدمة 5
ابن السراج 9
أخلاقه ومكانته العلمية 11
أساتذته 12
تلاميذه 13
وفاته 15
آثاره 16
مذهب ابن السراج النحوي 20
كتاب الأصول 21
منهج ابن السراج 22
تأثره بمن سبقه 24
المسائل التي تفرد بها ابن السراج 25
زمن تأليف كتاب الأصول 28
تسمية الكتاب 28
منهج التحقيق 29
نسخ الكتاب 32
الكلام 36
شرح الاسم 36



ج / 1 ص -442- الحروف 37
شرح الفعل 38
شرح الحرف 40
باب مواقع الحروف 42
ذكر ما يدخله من هذه الثلاثة وما لا يتغير منها 43
باب الإعراب والمعرب والبناء والمبني 45
ذكر العوامل من الكلم الثلاثة: الاسم والفعل والحرف 51
تفسير الأول: وهو الاسم 52
تفسير الثاني: وهو الفعل 54
تفسير الثالث: وهو العامل من الحروف 54
القسم الثاني من الحروف 55
القسم الثالث من الحروف 55
ذكر الأسماء المرتفعة 58
شرح الأول: وهو المبتدأ 58
شرح الثاني: وهو خبر المبتدأ 62
شرح الثالث من الأسماء المرتفعة. وهو الفاعل 72
شرح الرابع من الأسماء المرتفعة: وهو المفعول الذي
لم يسم من فعل به 76
شرح الخامس: وهو المشبه بالفاعل في اللفظ 81
ذكر الفعل الذي لا يتصرف 98
مسائل من فعل التعجب 98
باب نعم وبئس 111
مسائل من نعم وبئس 117
باب الأسماء التي عملت عمل الفعل 122
شرح الأول: وهو اسم الفاعل والمفعول 122
مسائل من هذا الباب 125



ج / 1 ص -443- شرح الثاني: وهو الصفة المشبهة باسم الفاعل 130
مسائل من باب الصفة المشبهة 132
شرح الثالث: وهو المصدر 137
شرح الرابع: وهو ما كان من الأسماء التي سموا الفعل بها 141
مسائل من باب أسماء الفعل 143
ذكر المعرفة: المكنى، والمبهم، والعلم، والمنقول، والأسماء المشتقة 148
ذكر الأسماء المنصوبات 158
شرح الأول: وهو المفعول المطلق 159
مسائل من باب المفعول المطلق 162
شرح الثاني: وهو المفعول به 169
مسائل من باب المفعول به 172
باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين 177
مسائل من باب الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين 182
باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين 187
مسائل من باب الفعل الذي يتعدى إلى ثلاثة مفعولين 188
شرح الثالث: وهو المفعول فيه 190
مسائل من باب المفعول فيه 194
ذكر المكان 197
مسائل من باب الظروف 201
شرح الرابع من المنصوبات: وهو المفعول له 206
شرح الخامس: وهو المفعول معه 209
القسم الثاني من الضرب الأول من المنصوبات وهو المشبه بالمفعول 212
ذكر ما كان المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى 213
ذكر ما شبه بالمفعول والعامل فيه فعل حقيقي 213
مسائل من هذا الباب 216
باب التمييز 222
مسائل من باب التمييز 225



ج / 1 ص -444- الضرب الثاني: مما يكون المنصوب فيه هو المرفوع في المعنى 228
الضرب الثالث: الذي العامل فيه حرف جامد غير متصرف 229
مسائل من باب الحروف المشبهة بالفعل 244
باب كسر ألف إن وفتحها 262
ذكر أن المفتوحة 265
ذكر المواضع التي تقع فيها أن وإن المفتوحة والمكسورة 270
مسائل في فتح ألف إن وكسرها 273
ذكر ما يكون المنصوب فيه في اللفظ غير المرفوع
والمنصوب بعض المرفوع وهو المستثنى 281
هذا باب ما جاء من الكلم في معنى إلا 284
باب الاستثناء المنقطع من الأول 290
مسائل من باب الاستثناء 295
باب تمييز المقادير 307
باب تمييز الأعداد 311
باب كم 315
مسائل من أبواب الأعداد والمقادير وكم 321
ذكر الاسم المضموم والمفتوح اللذين يضارعان المعرب 328
باب النداء 329
شرح الاسم المنادى المضاف 340
باب ما خص به النداء من تغيير بناء الاسم المنادى والزيادة
في آخره والحذف فيه 347
باب اللام التي تدخل في النداء للاستغاثة والتعجب 351
باب الندبة 355
باب الترخيم 359
باب مضارع للنداء 367
مسائل من باب النداء 368



ج / 1 ص -445- باب النفي بلا 379
ذكر الأسماء المنفية في هذا الباب 382
باب ما يثبت فيه التنوين والنون من الأسماء المنفية 387
باب ما إذا دخلت عليه "لا" لم تغيره عن حاله 392
باب لا النافية إذا دخلت عليها ألف الاستفهام 396
باب تصرف "لا" 400
مسائل من باب "لا" 402
ذكر الجر والأسماء المجرورة 408
ذكر حروف الجر 408
باب "رب" 416
مسائل من باب "رب" 421
باب حتى 424
مسائل من باب حتى 427
باب الأسماء المخفوضة في القسم 430
مسائل من باب حروف الخفض 436









===============.

24



















الأصول في النحو

ج / 2 ص -5- المجرور* بالإِضافة:
القسم الثاني من الأسماء المجرورة من القسمة الأولى وهو المجرورة بالإِضافة:
الإِضافة على ضربين: إضافة محضة، وإضافة غيرُ محضة.
والإِضافة المحضة تنقسم إلى قسمين: إضافة اسم إلى اسم غيرِه بمعنى اللام وإضافةِ اسم إلى اسم هو بعضُه بمعنى "من".
أما التي بمعنى اللام فتكون في الأسماء والظروف. فالاسم نحو قولِك: غلامُ زيدٍ ومالُ عمرٍو وعبدُ بكرٍ وضَرْبُ خالدٍ وكل الدراهمِ، والنكرة إذا أُضيفت إلى المعرفة صارت معرفةً نحو: غلام زيدٍ ودار الخليفةِ والنكرة تُضاف إلى النكرة وتكون نكرةً نحو: راكب حمارٍ فأما مثل وغير وسوى فإنهن إذا أُضفن إلى المعارف لم يتعرفن لأنهن لم يُخصِّصن شيئًا بعينه.
وأما الظروف فنحو: خَلْفَ، وقُدامَ, ووراءَ، وفوقَ, وما أشبهه، تقول: هو وراءك وفوق البيت وتحت السماء وعلى الأرض.
الإِضافةُ المحضةُ لا تجتمع مع الألف واللام، ولا تجتمع أيضًا الإِضافةُ والتنوينُ ولا يجتمع الألفُ واللامُ والتنوينُ.
الثاني: المضاف بمعنى "من" وذلك قولك: هذا بابُ ساجٍ وثوبُ خَزٍّ وكساءُ صوبٍ وماءُ بحرٍ، بمعنى: هذا بابٌ من ساجٍ وكساءٌ من صوفٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
هذه الزيادة من كتاب الموجز للمصنف نفسه.



ج / 2 ص -6- الضرب الثاني: الإِضافة التي ليست بمحضة. الأسماء التي أُضيفتْ إليها إضافةً غير محضة أربعة أضرب:
الأول: اسم الفاعل إذا أضفته وأنت تريد التنوينَ نحو: هذا ضاربُ زيدٍ غدًا وهو بمعنى يضرب.
والثاني: الصفةُ الجاري إعرابُها على ما قبلها، وهي في المعنى لما أُضيفتْ إليه، نحو: مررت برجلٍ حسنِ الوجهِ المعنى: حسنٌ وجهُه.
شرح الثالث1: وهو إِضافة أفعلِ إلى ما هو بعضٌ له:
إذا قلت: "زيدٌ أفضل القوم" فقد أضفته إلى جماعة هو أحدهم، تزيد صفته على صفتهم وجميعهم مشتركون في الصفة، تقول: عبد الله أفضل العشيرة، فهو أحد العشيرة وهمْ2 شركاءُ في الفضل والمفضل من بينهم يزيدُ فضلُه على فضلهم، ويَدُلُّك على أنه لا بد من أن يكون أحد ما أضيف إليه أنك لو قلت: زيد أفضل الحجارة لم يجز، فإن قلت: الباقون أفضل الحجارة، صلُحَ، وأفضل هذه لا تثنى ولا تجمعُ ولا تؤنثُ وهي "أفضل" التي إذا3 لم تضفها صَحِبَتْها "منك" تقول: فلان خيرٌ منك، وأحسنُ منكَ.
وقد اختلف الناس في الاحتجاج لتركيب اِفعلَ في هذا الباب وجمعِه وتأنيثِه، فقال بعضهم: لأن تأويل هذا يرجع إلى المصدر، كأنه إذا قال: قومك أفضل أصحابنا قد قال: فضلُ قومِك يزيدُ على فضلِ سائِر أصحابنا، وإذا قلت: هو أفضلُ العشيرة فالمعنى أنَّ فضلَه يزيدُ على فضلِ كل واحدٍ من العشيرة وكذلك إذا قلت: زيدٌ أفضلُ منك، فمعناه: فضلُهُ يزيدُ على فضلك4 فجعلنا موضعَ: يزيدُ فضله، أفضل، تضمن معنى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذه بداية نسخة تركيا المرقمة "1077" وفيها سقط كما يبدو من هذا العنوان.
2
في الأصل "وهما".
3
في الأصل "يمنعها".
4
في الأصل "فضله".



ج / 2 ص -7- المصدرِ والفعلِ جميعًا وأضفناه إلى القوم وما أشبههم، وفيهم أعداد المفضولين؛ لأنك كنت تذكر الفضلَ مرتين، إذا أظهرت "يزيدُ" فتجعل فضلًا زائدًا على فضل زائدٍ، فصار الذي جمع هذا المعنى مضافًا وقال آخرون: "أفعل" إنما لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لأنه مضارع للبعض الذي يقع للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع بلفظ واحد1، وقال الكوفيون -وهو رأيُ الفراءِ- أنه إنما وُحِّد أفعلُ، هذا لأنه أُضيفَ إلى نفسه، فجرى مجرى الفعلِ، وجرى المخفوضُ مجرى ما يُضَمَّنُ في الفعل، فكما لا يثنى ولا يُجمع الفعلُ فكذا لا يثنى هذا ولا يجمع.
قال أبو بكر: وأشبه هذه الاحتجاجات عندي بالصواب الاحتجاجُ الأول، والذي أقوله في ذا أن "أفعلُ" في المعنى لم يثن ولم يجمع لأن التثنيةَ والجمعَ إنما تلحق الأسماءَ التي تنفرد بالمعاني "وأفعلُ" اسم مركب يدل على فعلٍ وغيرِه فلم يجز تثنيته وجمعه، كما لم يجز تثنية الفعل ولا جمعه لما كان مركبًا يدل على معنى وزمان، وإنما فعلت العرب هذا اختصارًا للكلام وإيجازًا، واستغناءً بقليل اللفظ الدال على كثير من المعاني، ولا يجوز تأنيثه لأنك إذا قلت: هندُ أفضل منكَ، فكان المعنى هندُ يزيد فضلُها على فضلكَ2، فكان أفعلُ ينتظم معنى الفعلِ والمصدرِ، والمصدرُ مذكر، فلا طريق إلى تأنيثه وإنما وقع "أفعل" صفةً من حيثُ وقع "فاعل" لأن فاعل في معنى "يفعل" وقد فسر أبو العباسِ معنى "منكَ" إذا قلت: زيد أفضل من عمرٍو، أنه ابتداءُ فضلِه في الزيادة من عمرٍو، وقد تقدم هذا في ذكرنا معنى "مِن" ومواضِعها من الكلام، فقولُك3: زيدٌ أفضلُ "منكَ" وزيد أفضلكما،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال المبرد: تقول: هذا أفضل من زيد، وهذه أفضل من زيد، فيكون "أفعل" للمؤنث والمذكر والاثنين والجمع على لفظ واحد. انظر المقتضب 1/ 128.
2
في الأصل "فضله".
3
قال المبرد: ولا يضاف "أفعل" إلى شيء إلا وهو بعضه، كقولك: الخليفة أفضل بني هاشم. المقتضب 3/ 38.



ج / 2 ص -8- في المعنى سواء، إلا أنك إذا أتيت "بمنك" فزيدٌ منفصلٌ ممن فضلته عليه، وإذا أَضفتَ فزيدٌ بعض ممن فضلته عليه1, فإن أردت "بأفعلَ" معنى فاعل ثنيتَ وجمعتَ، وأنَّثت فقلت: زيدٌ أفضلُكم، والزيدانِ أفضلاكم، والزيدونُ أفضلوكم وأفاضلكُم وهند فُضلاكم، والهندانِ فُضلياكم والهنداتُ فُضلياتِكم وفضلُكم، وإذا قلت: زيد الأفضل، استغنى عن "من" والإِضافة وعلم أنه قد بانَ بالفضل، فهو عند بعضهم إذا أُضيف على معنى "من" نكرةٌ وهو مذهبُ الكوفيين وإذا أُضيف على معنى اللام معرفةٌ، وفي قول البصريين هو معرفةٌ بالإِضافة على كل حال إلا أنْ يضاف إلى نكرة.
الرابع: ما كان حقه أن يكون صفة للأول:
فإنْ يكُ من الصفة وأُضيفَ إلى الاسم وذلك نحو: صلاة الأولى، ومسجدُ الجامعِ، فمن قال هذا فقد أزال الكلام عن جهته؛ لأن معناه النعت وحده الصلاةُ الأولى والمسجدُ الجامعُ، ومن أضاف فجواز إضافتهِ على إرادة: هذه صلاةُ الساعةِ الأولى وهذا مسجدُ الوقتِ الجامعِ أو اليومِ الجامعِ، وهو قبيحٌ بإقامته النعتَ مقام المنعوت، ولو أراد به نعت الصلاة والمسجد كانت الإِضافة إليهما مستحيلة لأنك لا تضيف الشيء إلى نفسه لا تقولُ: هذا زيدٌ العاقلِ، والعاقلُ هو زيدٌ، وهذا قول أبي العباس, رحمه الله.
وسئل عن قولهم: جاءني زيدٌ نفسُه، ورأيت القومَ كلَّهم، وعن قول الناس: بابُ الحديدِ ودارُ الآخرةِ، وحقُّ اليقينِ وأشباه ذلك فقال: ليس من هذا شيء أضيف إلا قد جُعلَ الأول من الثاني بمنزلة الأجنبي، فإضافته راجعة إلى معنى اللام، ومن فأنت قد تقول: له نفسٌ وله حقيقةٌ والكل عقيب البعض فهو منسوب إلى ما يتضمنه الشيء فقد صار الاجتماعُ فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر المقتضب 1/ 44.



ج / 2 ص -9- كالتبعيض؛ لأنه محيط بذلك البعضِ الذي كان منسوبًا إليه، ألا ترى أنك لو قلتَ: اخترت من العشرةِ ثلاثةً، لكانت إضافةُ ثلاثةٍ إلى العشرة بعضًا صحيحًا فقلتَ: أضفتُ بعضَها، فإذا أخذتها كلَّها فالكل إنما هو محيط بالأجزاء المتبعضة وكل جزء منه ما كانت إضافته إلى العشرة جائزة، فصار الكل الذي يجمعها إضافته إلى العشرة؛ لأنه اسم لجميع أجزائها، كما جاز أن يضاف كل جزء منها إليها، فقيل له: أفلسنا نرجُع إلى أنه إذا اجتمعت الأجزاء صار الشيء المجزئ هو كل الأجزاء وصار الشيء هو الكل، والكل هو الشيء، فقال: لا؛ لأن الكل منفردًا لا يؤدي عن الشيء كما أن البعضَ منفردًا لا يؤدي عن المبعض دون إضافته إليه، فكذلك الكلُّ الذي جمع التبعيض وليس الكل هو الشيء المجزئ إنما الكل اسم لأجزائه جميعًا المضافة إليه، فصار هو بأنه اسمٌ لكل جزءٍ منها في الحكم بمنزلتها في إضافتها إلى المجزئ.
قال أبو بكر: وهذا القول الذي قالهُ حَسنٌ، ألا ترى أنك لا تقول: رأيتُ زيدًا كلهُ، ولا توقع الكلَّ إلا على ما كان يجوز فيه التبعيض، وسُئل عن قولهم: دار الآخرة لِمَ لَمْ نقل الآخر؟ فقال: لأن أول الأوقات الساعة، فأكثر ما يجوز في هذا التأنيث كقولهم، ذات مرةٍ، ولو جرى بالتذكير كانَ وجهًا، فما جرى منه بالتأنيث حمل على الساعة ألا ترى أنه يسمى يوم القيامة الساعة لأن الساعةَ أولُ الأوقاتِ كلِّها، وأما النفس فهي بمنزلة حقيقة الشيء، وكذلك عينه أما أسماؤه الموضوعة عليه الفاصلة بينه وبين خبرِهِ فلا يجوز إضافة شيء منها إلى شيء ألا ترى أن رجلًا اسمه وهو شاب أو شيخ لا يجوز أن تقول: زيد الشابِ فتضيف، ولا زيد الشيخ، ولا شيخُ زيدٍ، ولا شابُّ زيد؟ فقيل له: وقد رأينا العلماءَ إذا لُقبَ الرجلُ بلقبٍ ثم ذكر لقبه مع اسمه، جاز أن تضيف اسمه إلى لقبه، كقولك: زيد رأسٍ، وثابتُ قطنة ولا تجد بين ثابت وقطنة، إذا كان قد عُرفا فرقًا؟ فقال: اللقب مما يشتهر به الاسم حتى يكون هو الأعرفُ، ويكون اسمه لو ذكر على أفراده مجهولًا، فصار اللقب علمًا، والاسم مجرورًا إليه كالمقطوع عن المسمى؛ لأن الملقب إنما



ج / 2 ص -10- يراد بلقبه طرح اسمه، وقد كانت تسميتهم أن يسمى الشيء بالاسم المضاف إلى شيء كقولك: عبدُ الدارِ، وعبدُ اللهِ فجعلوا الاسم مع لقبه بمنزلة ما أضيف ثم سمي به، وكان اللقب أولى بأن يضاف الاسم إليه؛ لأنه صار أعرف من الاسم وأصل الإِضافة تعريف كقولك: جاءني غلام زيدٍ فالغلام يتعربُ بزيد فلذلك جعل الاسم مضافًا إلى اللقب.
ومن الإِضافة التي ليست بمحضة إضافة أسماء الزمان إلى الأفعال والجمل، ونحن نفرد بابًا لذلك إن شاء الله.



ج / 2 ص -11- باب إضافة الأسماء إلى الأفعال والجمل:
اعلم: أن حق الأسماء أن تضاف إلى الأسماء، وأن الأصل والقياس أن لا يضاف اسم إلى فعل، ولا فعل إلى اسم، ولكن العرب اتسعت في بعض ذلك فخصت أسماء الزمان بالإِضافة إلى الأفعال؛ لأن الزمان مضارعٌ للفعل؛ لأن الفعل له بنى, فصارت إضافة الزمان إليه كإضافته إلى مصدره لما فيه من الدليل عليهما1، وذلك قولهم: أتيتكُ يوم قام زيدٌ، وأتيتُك يوم يقعدُ عمرو، فإذا أضفت إلى فعل معرب، فإعراب الاسم عندي هو الحسنَ، تقول: هذا يوم يقومُ زيد2، وقوم يفتحون "اليوم"، وإذا أضفته إلى فعل مبني جاز إعرابه وبناؤه على الفتح، وأن يُبنى مع المبني أحسنُ عندي من أن يُبنى مع المعرب، وهذا سنعيد ذكره في موضع ذكر الأسماء المبنية إن شاء الله.
وقال الكوفيون: تُضاف الأوقات إلى الأفعال وإلى كل كلام تم وتفتح في موضع الرفعِ3 والخفض والنصب، فتقول: أعجبني يومَ يقومُ، ويوم قمتُ، ويوم زيدٌ قائمٌ، وساعةَ قمت، ويجوز عندهم أن يعرب إذا جعلته بمنزلة إذ وإذا كأنك إذا قلت: يوم قامَ زيدٌ, إذا قام زيد، وإذا قلت: يوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذه المسألة ذكرها السيوطي في الأشباه والنظائر 2/ 87 عن ابن السراج في الأصول.
2
في سيبويه 1/ 460 "هذا يوم يقوم زيد، وآتيك يوم يقوم ذاك". وانظر المقتضب 3/ 177.
3
انظر: ارتشاف الضرب/ 278.



ج / 2 ص -12- يقوم زيد قلت: إذا يقوم, ولك أن تضيف أسماء الزمان إلى المبتدأ وخبره، كقولك: أتيتكَ زمنَ زيدٌ أميرٌ1، كما تقول: إذا زيد أميرٌ، والأوقات التي يجوز أن يفعل فيها هذا ما كان حينًا وزمانًا، يكون في الدهر كله لا يختص منه به شيءٌ، دون شيء كقولك: أتيتك حين قام زيد, وزمن قامَ، ويوم قام، وساعة قام، وعامَ وليلة وأزمان وليالي قام، وأيام قام, ويفتح في الموقتات كقولك: شهر قامَ وسنة قام وقالوا: لا يضاف في هذا الباب شيء له عدد مثل يومين، وجمعه، ولا صباحَ ولا مساءَ, وأما ذو تسلم2 وآية يفعل، فقال أبو العباس: هذا من الشواذ، قالوا: أفعلُه بذي تسْلم، وآية يقوم زيد، فأما آية فهي علامة والعلامة تقع بالفعل وبالاسم، وإنما هي إشارة إلى الشيء فجعله لك علمًا لتوقَع فعلك بوقوعه، وأما بذي تسْلم فإنه اسم لم يكن إلا مضافًا فاحتمل أن يدخل على الأفعال، والتأويل: بذي سلامتُكَ، وفيه معنى الذي فصرفه إلى الفعل، وليس بقياس عليه.
قال أبو بكر: وللسائل في هذا الباب أن يقول: إذا قلت: آتيكَ يوم تقوم فإنها بمعنى، يوم قيامك فلِمَ لا تنصب الفعل بإضمار "أنْ" كما فعل باللام فإن الإِضافة إنما هي في الأسماء، فالجواب في ذلك أنَّ أنْ لا تصلح في هذا الموضع، لو قلت: أجيئك يوم أن يقوم زيد لم يجز؛ لأن هذا موضع يتعاقب المبتدأ والخبر والفاعل فيه، ويحسن أن يقع موقع اسم إذ وإذا وجميع ذلك لا يصلح مع "أنْ" وليس كل موضع يقع فيه المصدر تصلح فيه "أنْ" ألا ترى أنك إذا قلت: ضربًا زيدًا لم يقع هذا الموضع "أنْ تضرب".
وحكى الكوفيون: أن العرب تضيف إلى "أنّ وأنْ" فتقول: أعجبني يوم أنّكَ محسنٌ ويوم أن تقوم، ومن أجاز هذا فينبغي أن يجيز: يوم يقوم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال المبرد 3/ 177: "تقول: جئتك يوم زيد أمير، وأتيتك يوم قام زيد".
2
في سيبويه 1/ 461: "ومما يضاف أيضًا إلى الفعل قوله: لا أفعل بذي تسلم، ولا أفعل بذي تسلمان، ولا أفعل بذي تسلمون. المعنى: لا أفعل بسلامته، وذو مضافة إلى الفعل".



ج / 2 ص -13- فينصب، ولا يجوز أن يبنى اليوم لأنه قد أضافه إضافة صحيحة، وأظن أن الفراء كان ربما أجازه وربما لم يجزه، أعني أنْ يعرب "يومَ" أو يبنيه وكان يقيسه على قوله:

هل غير أنْ كثر الأشد وأهلكت حربُ الملوكِ أكاثر الأقوام1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
استشهد العروضيون بهذا البيت على الخرم بعد الوقص، وروي: غير أن كثر. انظر المعيار في أوزان الأشعار/ 51، والبارع لابن القطاع الصقلي/ 8.

مسائل من هذه الأبواب:
تقول: "هذا معطي زيد أمس الدراهم" بعد الإِضافة أضفتَ "الدراهمَ" قال أبو العباس: وليس كذلك لأنك أعملت فيها "معطي" هذه التي ذكرنا، ولكن جاءت الدراهم بعد الإِضافة فحملت في النصب على المعنى، لأنك ذكرت اسمًا يدل على فعل ولا موضع لما بعده إذا كان قد استغنى بالتعريف فحملته على المعنى الذي دل عليه ما قبله، وكذلك لو قلت: هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ وعمرًا, لجاز والوجه الجر؛ لأنهما شريكان في الإِضافة، ولكن الحمل على المعنى يحسن إذا تراخى ما بين الجار والمجرور، ومن ذلك حمل على جعل الليل سكنًا قول الله عز وجل: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}1 لأن الاسم دل على ذلك، ولو قال قائل: "مررت بزيد وعمرو" لجاز لأن "بزيدٍ" مفعول والواصل إليه الفعل بحرف في المعنى كالذي يصل إليه الفعل بذاته، لأن قولكَ: "مررت بزيدٍ" معناه أتيت زيدًا إلا أن الجر الوجه للشركة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الأنعام: 96 وقراءة: "وجاعل" من السبعة أيضًا في النشر2/ 36، قرأ الكوفيون "وجعل" بفتح العين من غير ألف وبنصب اللام من الليل, وقرأ الباقون بالألف وكسر العين ورفع اللام وخفض "الليل". وانظر: الإتحاف/ 214، والبحر المحيط 4/ 186.



ج / 2 ص -14- وقولك: خشنت بصدره، وصدر زيد، وهو إذا نصبت في هذا الموضع أحسن من قولك: مررتُ بزيدٍ وعمرٍو، لأن قولك: "خشنت" يجوز فيه حذف الباء ولا يجوز في: "مررتُ بزيدٍ" حذفها.
وتقول: "عبد اللهِ الضاربُ زيدًا" جميع النحويين على أن هذا في تقدير: الذي ضرب زيدًا، ولم يجيزوا الإِضافة، وزعم الفراء: أنه جائز في القياس على أن يكون بتأويل: "الذي هو ضارب زيدٍ" وكذا حكم: "زيدٌ الحَسنُ الوجهِ" عنده أن يكون تأويله، الذي هو حسن الوجه، وقد ذكرنا أصول هذا وحقائقه فيما تقدم، وتقول عبد الله الحسنُ وجهًا، ولا يجوز: الحسنُ وجهٍ لأنه يخالف سائر الإِضافات، وأما أهل الكوفة فيجوز في القياس عندهم إلا أنهم يقولون: "الوجهُ" مفسرٌ وإذا دخل في الأول ألف ولام دخل في مفسره عندهم، ومن قولهم: خاصة العشرون الدرهم والخمسة الدراهم والمائة الدرهم ولا يجوزُّ هذا البصريون1؛ لأنه نقض لأصول الإِضافة، والبصريون يقولون: خمسةُ الدراهم، ومائة الدرهم فيدخلون الألف واللام في الثاني، ويكون الأول معرفًا به على سبيل الإِضافة ويقولون: العشرون درهمًا والخمسةَ عشر درهمًا، فيدخلون الألف واللام في الأول فيكون معرفًا، يقرون الثاني على حده في النكرة.
وقيل لأبي العباس رحمه الله: ألستم تقولون: عبد الله الضاربهُ، والضاربك والضاربي فتجمعون على أن موضع الكاف والهاء خفض؟ قال: بلى، قيل له: فهذا يوجبُ الضاربُ زيدٍ، لأن المكنى على حد الظاهر، ومن قولك أنت خاصة: إن كل من عمل في المظهر، جائز أن يعمل في المضمر، وكذلك ما عمل في المضمر جائز أن يعمل في المظهر، فقال: نحو قول سيبويه: إن هذه الحروف يعني حروف الإِضمار قلَّتْ وصارت بمنزلة التنوين؛ لأنها على حرف، كما أن التنوين حرف، فاستخفوا أن يضيفوا إليها الفاعل، لأنها تصير في الاسم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الإنصاف/ 176-177 "شرح هذه المسألة ابن الأنباري".



ج / 2 ص -15- كبعض حروفه، وحكَى لي عنه بعدُ أنه قال: "الضاربَهُ" "الهاء" في موضع نصب؛ لأن لا تنوين ههنا، تعاقبه الهاء والضارباه "الهاء" في موضع خفض فإذا أردت النصب أثبت النون بناء على الظاهر، وبه اختلف الناس في المضمر فأما الظاهر فلا أعلم أحدًا يجيزه الخفض إلا الفراء وحكى لنا عنه أنه قال: وليس منْ كلام العرب، إنما هو قياس، ويقول: أعجبني يوم قام زيدٌ ويوم قيامِكَ، نسقت بإضافة محضة على إضافة غير محضة، فإن قلت: أعجبني يوم قمته فرددت إلى "يومٍ" ضميرًا في "قامَ" لم تجز الإِضافة قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}1، والمضافُ إلى غير محضٍ لا يؤكد ولا ينعت. ومن الكوفيين من يجيز تأكيده.
وقال الأخفش: في قول العرب: اذهبْ بذي تَسلم وإنما هو اذهب لسلامتِكَ2 أي: اذهب وأنت سالم، كما تقول: قام بحمقة وقام بغصة وخرج بطلعته أي خرج وهو هكذا وهذا في موضع حال، قال: وإن شئت قلت: معناه معنى سلمكَ اللّهُ وجاء في لفظ ما لا يستغنى وحده، ألا ترى أنك [تقول]3: زيد بسلامته، كما تقول: زيد سلمهُ اللّهُ ولا تقول: إنك بذي تَسلم وتقول: إنك مسلمك الله إلا أن تدعو له فإن دعوت لم يحسن حتى تجيء له بخبر لأن لا بد لها من خبر وقد خرج مسلمك الله من أن يكون خبرًا وقال: تقول: هذه تمرة قريثاء يا هذا، وإن شئت قلت: كريثاء وهما لغتان وتمرتا كريثاء، إذا أردت الإِضافة وهاتان تمرتان قريثاء4 إذا أردت النعت، وهذه تمرة دقلة وتمرتان دقلتان إذا نعت وتمرتا دقل إذا أضفت، وتقول: هذه تمرة إذاذة، وتمرتان إذاذتان، وتمرتا إذاذ، قال: وليس شيء من الأجناس يثنى ويجمع إذا وصف به إلا التمر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
البقرة: 281.
2
في سيبويه 1/ 461: "قوله: لا أفعل بذي تسلم.. المعنى: لا أفعل بسلامتك".
3
زيادة يقتضيها السياق.
4
قريثاء وكريثاء: نوع من التمر الأسود, وهو أطيب تمر بسرًا.



ج / 2 ص -16- قال أبو بكر: والذي عندي أن كل جنس اختلف ضروبه جاز أن يثنى ويجمع إذا أردت ضربين منه أو أكثر, وتقول: هذا رجلٌ حَسنُ وجه الأخ جميلهُ، فتضمنُ الوجهَ لأنك قد ذكرته وتقول هذانِ رجلان حسنا الوجوهِ جميلاها1 تضيف "الجميلين" إلى الوجوه، وإنما قلت: جميلاها فأنثت؛ لأن الوجوه مؤنثة، وتقول: هذا رجلٌ أحمرُ الجاريةِ لا أسودها، فقلت: أحمر وإنما الحمرةُ للجارية لأنك تُجري التأنيث والتذكير على الأول وعطِفت الأسود على الأحمر وأضفت الأسود إلى الجارية كما أضفت الأحمرَ إليها، وتقول: هذانِ رجلانِ أحمرا الجارية لا أسوداها, وهولاء رجال حمرُ الجواري لا سودُها تجعل التثنية والجمع والتأنيث والتذكير على الأول، وتقول: هذا رجلٌ أبيضُ بطنِ الراحة، لا أسوَدُه وإنما قلت: لا أسوده لأن البطنَ مذكرٌ وتقول: هذان رجلان أبيضا بطون الراح لا أسوداها وإنما قلت: الراحُ لأنه جمع جماعة الراحة، وقلت: بطونُ لأن كل شيئين من شيئين فهو جماعةٌ وتقول هؤلاء رجالٌ حمر بطون الراح لا سودها وأجاز الأخفش: هذان أخواك أبيضُ بطوح الراح لا أسوديها، وقال: لأن أخويكَ معرفة وأبيض بطون الراح نكرةٌ، وقال: تقول: هذه جاريتُك بيضاءَ بطن الراحة لا سوداءهُ، لأنك أضفت إلى البطن وهو مذكر ونصبت بيضاء وسوداء لأنه نكرةٌ وهؤلاء رجال بيض بطون الراح لا سودها، لأن هذا نكرةٌ وصف بنكرةٍ وتقول: هذا رجل أحمر شرك النعلين إذ جعلت الشراكين من النعلين وإن شئت لم تجعلهما من النعلين، فقلت: هذا رجل أحمر شراكي النعلين، وتقول: هاتان حمراوا الشراك لا صفراواها وإن شئت: حمراوا الشراكين لا صفراواهما وتقول: مررتُ بنعلك المقطوعتي إحدى الأذنين ومررت برجل مقطوع إحدى الأذنين ولا تقول: مررت برجلينِ مقطوعي إحدى الآذان لأن "إحدى" لا تثنى ولا تجمع وتقول: مررت برجل مكسور إحدى الجانبين ولا تقولُ: مررتُ برجلينِ مكسوري أحد الجنوب لأنه يلزمك أن تثني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "جميلاه" وهو خطأ.



ج / 2 ص -17- "أحدًا" لأن جنب كل واحدٍ منهما مكسور، ولا يجوز تثنية أحدٍ ولا إحدى، لأن موضع أحدٍ، وإحدى من الكلام في الإِيجاب أن يدلا على أن معهما غيرهما ألا ترى أنك إذا قلت: إحداهما أو أحدهم فليس يكون إلا مضافًا لا بد من أن يكون معه غيره فلو ثنيت زال هذا المعنى وكذلك "كِلا وكلتا" لا يجوز أن يثنى ولا يجمع لأنهما يدلان على اثنين فلو ثنيا لزال ما وضعا له ولو قلت: مررتُ برجلين مكسوري أحد الجنوب، وأنت تريد أن أحدهما مكسور الجنب جاز على قبح؛ لأن تأويله: مررتُ برجلينِ مكسور أحد جنوبهما.
قال الأخفش: ولو قلت: أي النعال المقطوعة إحدى الآذان نعلك وواحدة منهن المقطوعة إحدى الأذنين لجاز على قبحه وقال: ألا ترى أنك لو قلت: ضربت أحد رءوس القوم وإنما ضربت رأسًا واحدا لكان كلامًا ولو قلت: قطعتُ إحدى آذان هؤلاء القوم وإنما قطعت أذنًا واحدة لجاز وتقول: هذا رجلٌ لا أحمر الرأس فأقول: أحمره ولا أسوده فأقول: أسود ومررت برجلينِ لا أحمري الرءوس فأقول: أحمراهُما ولا أسوديهما فأقول: أسوداها ومررتُ برجالٍ لا حمرُ الرءوسِ فأقول: حُمرها ولا سودها فأقول: سودها ومررت بامرأةٍ لا حمراء الرأس فأقول: حمراوة ولا سوداية, فأقول: سودايةً، ونصبت "أقول" في كل هذا لأنها بالفاء وهو جواب النفي ورفعت ما بعد القول؛ لأن ما بعد القول لا يقع إلا مرفوعًا وعطفت قولًا وما بعده على الذي قبله وكذلك: مررت بامرأتين لا حمراوي الرءوس فأقول: حمراواهما ولا سوداويهما، فأقول: سوداواها وتقول: هذه امرأة أحمر ما بين عينيها لا أسود, ترفعُ "بين" إذا جعلت "ما" لغوًا، لأنك جعلت الصفة "للبين" فرفعته بها، كما ترفع بالفعل.
وقلت: أسود ولم تصف لأنك لم تضف الأول، وكذلك تقول: هاتان امرأتان أحمر ما بينَ عينيهما لا أسود، فإن جعلت "ما" بمنزلة "الذي" ولم تجعلها زائدة وجعلتها في موضع رفع فرفعتهما بأحمر، نصبت البينَ لأنه



ج / 2 ص -18- ظرفٌ فإن أضفت أحمر ونقلت إلى العينين قلت إذا، جعلت "ما" لغوًا قلت1: هذه امرأةٌ حمراءُ ما بينَ العينين لا سودائه، وهذا رجل أحمرُ ما بينَ العينين لا أصفره لما أضفت أحمر إلى ما بين, وأضفت أصفر إلى ضميره وتقول: هذان رجلان أحمرا ما بينَ الأعين لا أصفراه وهؤلاء رجال حمرُ ما بينَ الأعين لا صفره إذا ألغيت "ما" فإن جعلت "ما" بمنزلة "الذي" جعلتها في موضع جر وأضفت إليها الصفة، وجعلت "بين" ظرفًا "لما" فقلت: هاتان امرأتان حمراوا ما بينَ الأعين لا صفراواه، فهذه الهاء التي في قولك: لا صفراواه "لما" فكأنك قلت: هاتان امرأتانِ حمراوا الذي بين الأعينِ.
واعلم أنه من قال: مررت برجلٍ حسنٍ الوجهَ، [قال: مررت برجل أحمرَ الوجهُ]2؛ لأن أحمر لا ينصرف ومن قال: مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بدًّا من أن يضيف جميلًا إلى مررت برجل حسن الوجه جميله لم يجد بدًّا من أن يضيف جميلًا إلى ضمير الوجه فكذلك: مررت برجل أحمر الوجه لا أصفره لم يجد بدًّا من أن يضيف أصفر إلى ضمير الوجه وإذا أضافه انجر ويشبه هذا مررت برجل ضاربٍ أخاكَ لا شاتمِه لا تجد بدًّا من أن تقول: لا شاتمهِ لأنك تجيء بالاسم المفعول فإذا جئت بالاسم المفعول به في هذا الباب مضمرًا لم تكن الصفة إلا مضافة إليه نحو: هذان ضاربان غدًا فلذلك قلت: أصفره فصرفت "أصفر" لأنك أضفته ولم تجعله يعمل كعمل الأول، لأن المضمر والمظهر يختلفان في هذا الباب، ألا ترى أنك تقول: مررت بنسوةٍ ضوارب زيدًا لا قواتله تجر الآخر وتفتح ضوارب؛ لأنك أردت معنى التنوين، ويدلك على ذلك أنك تقول: مررت برجلين أحمرين الوجوه ولا أصفريها ولا يجوز بوجه من الوجوه أصفرنيها فإن قلت: لِمَ لا أقول: لا أصفرين لأن لَم أضف الأول فلا أضيف الآخر فلأن الأول قد وقع على شيء حين صار كالمفعول به، فلا بد من أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أظنها زائدة.
2
أضفت هذه الجملة؛ لأن السياق يقتضيها.



ج / 2 ص -19- الثاني أيضًا له مفعولٌ. نجزت الأسماء المرفوعاتُ والمنصوباتُ والمجروراتُ، وسنذكر توابعها في إعرابها إن شاء الله.









===============.

25





















الأصول في النحو

هذه توابع الأسماء في إعرابها:
التوابع خمسة: التوكيد والنعت وعطف البيان والبدل والعطف بالحروف، وهذه الخمسة: أربعة تتبع بغير متوسط، والخامس وهو العطف لا يتبع إلا بتوسط حرف، فجميع هذه تجري على الثاني ما جرى على الأول من الرفع والنصب والخفضِ.
شرح الأول: وهو التوكيد.
التوكيد يجيء على ضربين، إما توكيد بتكرير الاسم، وإما أن يؤكد بما يحيط به.
الأول: وهو تكرير الاسم:
اعلم: أنه يجيء على ضربين، ضرب يعاد فيه الاسم بلفظه, وضرب يعاد معناه، فأما ما يعاد بلفظه فنحو قولك: رأيت زيدًا زيدًا, ولقيت عمرًا عمرًا, وهذا زيدٌ زيدٌ, ومررت بزيدٍ زيدٍ, وهذا الضرب يصلح في الأفعال والحروف والجمل وفي كل كلام تريد تأكيده، فأما الفعل فتقول: قام عمرو, قامَ, وقم قمْ, واجلس اجلسْ, قال الشاعر:

ألا فَاسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثَمَّتَ اسْلَمِي ثَلاثُ تَحيَّاتٍ وإنْ لم تكلَّمِي1

وأما الحروف فنحو قولك: في الدار زيدٌ قائمٌ فيها, فتعيد فيها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه جواز تأكيد الجملة تأكيدًا لفظيًّا كما يجوز تأكيد المفرد كذلك، والجملة مستقبلة كما هو ظاهر. وتكلمي أصله: تتكلمي بتاءين فحذف إحداهما, ولم أعثر على قائل هذا البيت. وانظر: ابن يعيش 3/ 39، وشرح الحماسة 3/ 1374.



ج / 2 ص -20- "توكيدًا" وفيك زيدٌ راغِبٌ فيك, وقال الله عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا}1، إلا أن الحرف إنما يكرر مع ما يتصل به لا سيما إذا كان عاملًا، وأما الجملُ فنحو قولك: قام عمرو قام عمرو, وزيدٌ منطلقٌ زيد منطلقٌ، والله أكبر الله أكبر، وكل كلام تريد تأكيده فلك أن تكرره بلفظه.
الثاني: الذي هو إعادة المعنى بلفظٍ آخر نحو قولك: مررتُ بزيدٍ نفسهِ، وبكم أنفسكم، وجاءني زيدٌ نفسُه، ورأيت زيدًا نفسَهُ، ومررت بهم أنفسِهم, فحق هذا أن يتكلم به المتكلم في عقب شك منه ومن مخاطبه فتقول: مررت بزيدٍ نفسِه كما تقول: مررت بزيدٍ لا أشك, ومررت بزيد حقًّا لتزيل الشك فإذا قلت: قمت نفسُك فهو ضعيف لأن النفس لم تتمكن في التأكيد؛ لأنها تكون اسمًا تقول: نزلتُ بنفس الجبلِ، وخرجت نفسه، وأخرج الله نفسه، فلما وصلتها الاسم المضمر في الفعل الذي قد صار كأحد حروفه فأسكنت له ما كان في الفعل متحركًا, ضعف ذلك من حيث ضعف العطف عليه. فإن أكدته ظهر ما يجوز أن تحمل النفس عليه فقلت: قمتَ أنتَ نفسُكَ وقاموا هم أنفسُهم فإن أتبعته منصوبًا أو مجرورًا حسنٌ؛ لأن المنصوب والمجرور لا يغيران الفعل تقول: رأيتكم أنفسكم ومررت بكم أنفسِكم ومررتُ بكم أنفسِكم وتقول: إن زيدًا قامَ هو نفسُه فتؤكد المضمر الفاعل المتصل بالمكنى المنفصل وتؤكد المكنى المنفصل بالنفس كالظاهر. والمضمر المتصل يؤكد بالمضمر المتصل وللمكنيات باب يذكر فيه, فإن قلت: إن زيدًا قامَ نفسُه فحملتَهُ على المنصوب جاز وكذلك: مررت بهِ نفسِه ورأيتُك نفسَك لأن المنصوب والمجرور المضمرين لا يغيرُ لهما الفعل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هود: 108.



ج / 2 ص -21- الضرب الثاني في التأكيد وهو ما يجيء للإِحاطة والعموم:
تقول: جاءني القومُ أجمعون، وجاءني القومُ كلهُم، وجاءوني أجمعون وكلهم, وإن المال لكَ أجمع أكتع، ترفع إذا أردت أن تؤكد ما في "لك" وإذا أردت أن تؤكد المال بعينه نصبت وكذلك: مررتُ بدارك جمعاء كتعاء أو مررت بنسائك جمع كتع1. ولا يجوز بزيدٍ أجمع، ولا بزيدٍ كله وإنما يجوز ذلك فيما جازت عليه التفرقة, وأجمعون وما تصرف منها، وكل إذا كانت مضافة إلى الضمير وجميعهن يجرين على كل مضمر إلا أجمعين لا تكون إلا تابعة, لا تقول: رأيت أجمعين ولا مررت بأجمعين, لا يجوز أن يلي رافعًا ولا ناصبًا ولا جارا فلما قويت في الإتباعِ تمكنت فيه, وصلح ذلك في "كُلٍّ" لأنها في معنى "أجمعين" في العموم وذلك قولك: إن قومك جاءوني أجمعون ومررت بكم أجمعين فمعناها العموم وذلك مخالف لمعنى نفسه وأنفسهم؛ لأن أنفسهم وأخواتها تثبت بعد الشك فإذا قلت: مررتُ بهم كلِّهم فهو بمنزلة "أجمعين" ومررت بهم جميعهم, وتقول: مررت بدارك كلها ولا تقول: مررت بزيدٍ كله ولو قلت: أخذت درهمًا أجمع لم يجزْ لأن درهمًا نكرة وأجمع معرفة2 كما لا يجوز: مررت برجلٍ الظريف إلا على البَدلِ ولا يجوز البدل في "أجمعَ" لأنه لا يلي العوامل, ولكن يجوز: أخذت الدرهم أجمع وأكلت الرغيف كله.
فأما قولهم: مررت بالرجلِ كُلِّ الرجلِ، فقال أبو العباس: معناه: مررت بالرجل المستحقِّ لأن يكون الرجلَ الكاملَ لأنك [لا]3 تقول ذاك إلا وأنت تريد حزمه ونفاذه أو جبنه وشجاعتَهُ، وما أشبه ذلك، فإذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 5.
2
قال المبرد في المقتضب 3/ 342، وأجمع لم يكن نكرة وإنما هو معرفة ونعت, فإذا سميت به صرفته في النكرة.
3
أضفت كلمة "لا" لأن المعنى يحتاجها.



ج / 2 ص -22- [قلت]1: مررت بالرجلِ كل الرجلِ، فهو كقولك: مررت بالعالمِ حقِّ العالمِ, ومررت بالظريف حقِّ الظريفِ, ولو قلت على هذا: مررت بزيدٍ كل الرجل لم يجز إلا ضعيفًا، لأن زيدًا اسم علم وليس فيه معنى تقريظ ولا تخسيس وكذلك: مررت برجلٍ كلِّ رجلٍ وبعالم حق عالمٍ وبتاجر خيرِ تاجرٍ فجميع هذا ثناء مؤكد وليس بنعت يخلص واحدًا من آخر ولو قلت: زيدٌ كلُّ الرجلِ فجعلته خبرًا صَلُحَ لأنه ليس بتأكيد لشيء ولكنه ثناءٌ خالص كما تقول: زيدٌ حقٌّ العالمِ وزيد عينُ العالم لأنك لو قلت: مررت بزيدٍ حَقِّ العالمِ لم يكن هذا موضعه وتقول: مررت بالرجلين كليهما ومررت بالمرأتين كلتيهما ولك أن تجري ثلاثتهم وأربعتَهم مجرى كلهم فتقول: مررت بهم ثلاثتهم ولك أن تنصب كما تنصب "وحدَهُ" في قولك: مررت برجلٍ وحدَهُ وكذلك المؤنث: مررت بهن ثلاثَتِهن وأربعَتهن ولك أن تقول: أتينني ثلاثتهن وأربعتهن نصبًا ورفعًا قال الأخفش: فإذا جاوزت العشرة لم يكن إلا مفتوحًا إلى العشرين، تقول للنساء: أتينني ثماني عشرهن وللرجال: أتوني ثمانية عشرهم وأما نصبكَ "وحدَهُ" فعلى المصدر كأنك قلت: أوحدَتُه إيحادًا فصار وحده كقولك: إيحادًا كأنك قلت: أفردتهُ إفرادًا وتقول: إنَّ المالَ لكَ أجمع أكتعُ إذا أردت أن تؤكد ما في "لكَ". وأما "كُلهم" فالأحسن أن تكون جامعين وقد يجوز أن تلي العوامل وتقول إن القومَ جاءوني كلهُم وكلهم: النصب إذا أكدت "القومَ" والرفع إذا أكدت الفاعلين المضمرين في "جاءوني" ويجوز أن تقول: إن قومَك كلهُم ذاهبٌ يحسن عند الخايل أن يكون مبتدأً بعد أن تذكر "قومَك" فيشبه التوكيد لأن التوكيد لا يكون إلا جاريًا على ما قبله ويجوز أيضًا قومكَ ضربت كلهم لهذه الإِضافة الواقعة في "كُلِّ" فصار معاقبًا "لبعضهم" كقولك: ضربتُ بعضهم وهو على ذلك ضعيف والصواب الجيد: قومك ضربتهم كلهم لأن المعنى معنى "أجمعينَ" في العموم والتأكيد فأما قوله عز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت كلمة "قلت" لإيضاح المعنى.



ج / 2 ص -23- وجل: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}1 فالنصب على التوكيد للأمر، والرفع على قولك: إن الأمر جميعه لله2.
واعلم: أنه لا يجوز أن تقول: مررت بقومِكَ إما بعضهم وإما أجمعينَ، وإما كلهُم وإما بعضهم لأن أجمعينَ لا تنفرد، ولكن تقول: إما بهم كلهم وإما بهم أجمعينَ فإن قلت: مررت بقومكَ إما كلهم وإما بعضهم جاز على قبحٍ فأما ما يؤكد به "أجمعون" من قولك: جاءني قومُكَ أجمعون أكتعونَ ونحوه فإنما هو مبالغة ولا يجوز أن يكون أكتعون قبل "أجمعين" وكذلك سائر هذه التوكيدات نحو قولك: ويلة وعولة وهو جائعُ نائعُ وعطشان نطشان وحسن بسن وقبيح شقيح وما أشبه هذا إلا يكون المؤكِّدُ قبل المؤكَّدِ وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى "كلهم" فأما النكرة فلا يجوز أن تؤكدُ بنفسه ولا أجمعينَ ولا كلهم لأن هذه معارف فإن أكدت بتكرير اللفظ بعينه لم يمتنع أن تقول: رأيتُ رجلًا رجلًا وأصبتُ درةً درة فأما قولهم: "مررت برجلٍ كلِّ رجلٍ" فإنما هذا على المبالغة في المدح كأنك قلت: مررت برجلٍ كاملٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
آل عمران: 154.
2
أي: على الابتداء.

الثاني من التوابع وهو النعتُ:
النعت ينقسم بأقسام المنعوتِ في معرفته ونكرتِه، فنعتُ المعرفةِ معرفةٌ، ونعت النكرةِ نكرةٌ والنعت يتبع المنعوت في رفعه ونصبه وخفضه، وأصل الصفة أن يقع للنكرةِ دون المعرفةِ، لأن المعرفةَ كان حقها أن تستغني بنفسها، وإنما عرض لها ضرب من التنكير فاحتيج إلى الصفة، فأما النكرات فهي المستحقة للصفات لتقرب من المعارف، وتقع بها حينئذٍ الفائدة، والصفة: كل ما فرق بين موصوفين مشتركين في اللفظ، وهي تنقسم على خمسة أقسام:



ج / 2 ص -24- القسم الأول: حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه.
الثاني: فعلٌ للموصوف يكون به فاعلًا هو أو شيء من سببهِ.
الثالث: وصفٌ ليس بعمل ولا بحليةٍ.
الرابع: وصفٌ ينسبُ إلى أبٍ أو بلدة أو صناعة أو ضرب من الضروبِ.
الخامس: الوصفُ "بذي" التي في معنى صاحبٍ لا بذو التي في معنى "الذي".
شرح الأول: وهو ما كان حلية للموصوف تكون فيه أو في شيء من سببه نحو الحلية:
نحو الزرقة والحمرةِ، والبياضِ والحول، والعور، والطول والقصر والحسنِ والقبح وما أشبهُ هذه الأشياء، تقول: مررت برجل أزرق وأحمرَ وطويل وقصير وأحول وأعور وبامرأة عوراء وطويلة زرقاء وبرجلٍ حَسَنٍ وبامرأة حسنَةٍ فجميعُ هذه الصفات قد فرقت لك بين الرجلِ الأزرق وغيره والأحمر وغيره والرفع والنصب مثل الخفضِ، والرجل والجمل والحجرُ في الوصف سواء إذا وصفتهنَّ بما هو حليةٌ لهن، فأما الموصوف بصفة ليست له في الحقيقة وإنما هي لشيء من سببه، وإنما جرت على الاسم الأول لأنها تفرق بينه وبين منْ له اسم مثل اسمِه، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حَسنٍ أبوهُ ومضيت إلى رجلٍ طويل أخوهُ وقد تقدم ذكر الصفة التي تجري على الموصوف في الإِعرابِ إذا كان لشيءٍ من سببه عورض بها وقلنا: إنه إنما يجري على الاسم منها ما كان مشبهًا باسم الفاعل مما تدخله الألف واللام أو يثنى ويجمع بالواو والنون ويذكّر ويؤنث.
شرح الثاني من النعوت:
وهو ما كان فعلًا للموصوف يكون به فاعلًا أو متصلًا بشيءٍ من سببه وذلك نحو "قائمٍ" وقاعدٍ، وضاربٍ ونائمٍ، تقول: مررت برجلٍ قائمٍ،



ج / 2 ص -25- وبرجلٍ نائمٍ، وبرجل ضاربٍ، وهذا رجلٌ قائمٌ ورأيت رجلًا قائمًا، فهذه صفة استحقها الموصوف بفعله، لأنه لما قام وجب أن يقالَ له: قائمٌ ولما ضَرَبَ، وجب أن يُقال له: ضاربٌ، وكذلك جميع أسماء الفاعلينَ على هذا، نحو: مكرم, ومستخرج، ومدحرج، كثرت حروفُه أو قلت ولهذا حَسُنَ أن توصف النكرة بالفعل فتقول: مررتُ برجلٍ ضَرب زيدًا وبرجلٍ قامَ وبرجلٍ يضربُ لأنه ما قيل له ضاربٌ إلا بعد أن ضَربَ أو يضربُ في ذلك الوقت أو يكون مقدرًا للضربِ لأن اسم الفاعل إنما1 يجري [مجرى]2 الفعل، فجميع هذا الذي ذكرت لك -من أسماء الفاعلين- يجري على الموصوفات التي قبلها فيفصل بين بعض المسميات وبعضٍ إذا أخلصتها نحو: مررتُ برجلٍ ضاربٍ وقاتلٍ ومكرمٍ ونائمٍ وكذلك إن كانت لما هو من سبب الأول نحو قولك: مررت برجلٍ ضاربٍ أبوه وبرجلٍ قائم أخوهُ ورأيت رجلًا ضاربًا أخوه عمرًا وهذا رجلٌ شاكر أخوه زيدًا ولك أن تحذف التنوين -وأنت تريده- من اسم وتضيف فتقول: مررت [برجل]3 ضاربِ زيدٍ غدًا، وبرجلِ قاتلِ بكرٍ الساعةَ، وقد بينت ذا فيما تقدم, وكذا إن كان الفعل متصلًا بشيءٍ من سبب الأول تقول: مررت برجلٍ ضاربٍ رجلًا أبوه وبرجلٍ مخالطِ بدنَه داءٌ ولك أن تحذف التنوين كما حذفت فيما قبله فتقول: مررت برجلٍ ضاربِ رجلٍ أبوهُ وبرجلِ مخالطِ بدنه داءٌ.
وحكى سيبويه عن بعض المتقدمين من النحويين أنه كان [لا]4 يجيز إلا النصب في: مررتُ برجلٍ مخالطٍ بدنه داءٌ فينصبون "مخالطَ" وردَّ هذا القول وقال: العمل الذي لم يقع والعمل والواقع الثابت في هذا الباب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل: "إما".
2
أضفت كلمة "مجرى" لإيضاح المعنى.
3
أضفت كلمة "رجل" لإيضاح المعنى.
4
أضفت كلمة "لا" لأن المعنى يستقيم بها.



ج / 2 ص -26- سواءٌ، قال: وناس من النحويين يفرقون بين التنوين وغير التنوين، ويفرقون إذا لم ينونوا بين العمل الثابتِ الذي ليس فيه علاجٌ يرونَهُ نحو الآخذِ واللازم والمخالطِ، وبين ما كان علاجًا نحو الضاربِ والكاسر فيجعلون هذا رفعًا على كل حال ويجعلون اللازم ما أشبههُ نصبًا إذا كان واقعًا فإن جعلت ملازمهُ وضاربه وما أشبه هذا لما مضى صار اسمًا ولم يكن إلا رفعًا، تقول: مررتُ برجلٍ ضاربهُ زيدٌ أمسِ، وبرجلٍ ضارب أبيه عمرو أمس ورأيتُ رجلًا مخالطه داءٌ أمسِ1.
شرح الثالث: من النعوت وهو ما كان صفة غير عمل وتحلية:
وذلك نحو العقلِ والفهمِ، والعلم والحزنِ، والفرحِ, وما جرى هذا المجرى، تقول: مررتُ برجلٍ عالم وبرجل عاقلٍ ورجل عالمٍ أبوهُ، وبرجل ظريفةٍ جاريتُهُ فجميع هذه الصفات وما أشبهها وقاربها فحكمها حكمٌ واحدٌ، وقياسُها قياسُ ضاربٍ وقائمٍ في إعرابها إذا كانت متصرفةً كتصرفها.
شرح الرابع: وهو النسب:
إذا نسبت إلى أبٍ أو بلدةٍ أو صناعةٍ أو ضربٍ من الضروب جرى مجرى النعوت التي تقدم ذكرها، وذلك قولك: مررتُ برجلٍ هاشمي، وبرجلٍ عربيٍّ منسوب إلى الجنس وكذلك عجمي وبرجلٍ بزازٍ وعطارٍ, وسراج وجمّال ونجار فهذا منسوبٌ إلى الأمور التي تعالج وبرجلٍ بصري، ومصري، وكوفي وشامي فهذا منسوب إلى البلد وتقول: مررتُ برجلٍ دارعٍ ونابلٍ أي: صاحبُ درعٍ وصاحبُ نبلٍ، وكذلك برجلِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 226-228.



ج / 2 ص -27- فارسٍ، فجميع هذه الأشياءُ إنما صارت صفاتٍ بما لها من معنى الصفةِ، وسنبين النسب في بابه، فإنه حدٌّ من النحو كبير -إن شاء الله- فأما أبٌ وأخٌ وابنٌ وما جرى مجراهن، فصفاتٌ ليست منسوبة إلى شيءٍ، وهي أسماءٌ أوائل في أبوابها و[لا]1، يجوز أن تنسب إليها كنسب هاشمي المنسوب إلى هاشم ولا كعطارِ المنسوب إلى العطرِ ولا دارع المنسوب للدرعِ.
شرح الخامس: وهو الوصفُ بذي:
وذلك نحو: مررتُ برجلٍ ذي إبلٍ وذي أدبٍ وذي عقل وذي مروءة، وما أشبه ذلك، ويفسر بأن معناه "صاحبٌ" ولا يكون إلا مضافًا ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر وإذا وصفت به نكرةً أضفته إلى نكرةٍ وإذا وصفت به معرفةً أَضَفْتَ إلى الألف واللام ولا يجوز أن تضيفه إلى زيدٍ وما أشبههُ وتقول للمؤنث "ذاتِ" تقول: مررتُ بامرأةٍ ذات جمالٍ وإذا ثنيت قلت: مررت برجلينِ ذوي مالٍ وهذان رجلانِ ذوا مالٍ وهاتانِ امرأتان ذواتا مالٍ وهؤلاء رجالٌ ذوو مالٍ ونساء ذوات مالٍ فأما "ذو" التي بمعنى "الذي" فهي لغةُ طيءٍ فحقها أن يوصفَ بها المعارف.
ذكر الصفات التي ليست بصفات محضة:
هذه الصفات التي ليست بصفات محضة في الوصف يجوز أن تبتدأ كما تبتدأ الأسماء، ويحسن ذلك فيها وهي التي لا تجري على الأول إذا كانت لشيءٍ من سببه، وهي تنقسم ثلاثة أقسام: مفردٍ، ومضافٍ، وموصولٍ.
فالأول: المفرد نحو قولك: مررتُ بثوبٍ سبعٍ، وقول العرب: أخذَ بنو فلانٍ من بني فلانٍ إبلًا مائةً. وقال الأعشى:

لئن كنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قامةً ورقيتَ أسبابَ السماءِ بسلمِ2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت "لا" لإيضاح المعنى.
2
من شواهد سيبويه 1/ 231 "أجرى فيه الثمانين على الجب نعتًا له؛ لأنها تنوب مناب طويل وعميق ونحوه، فكأنه قال: في جب بعيد القعر طويل، يقول هذا ليزيد بن مسهر الشيباني متوعدًا له بالهجاء والحرب، لا ينجيك مني بعدك وضرب رقيه في السماء وهويه تحت الأرض مثلًا، والأسباب الأبواب؛ لأنها تؤدي إلى ما بعدها، وكل ما أدى إلى غيره فهو سببه، وأصل، السبب الحبل؛ لأنه يوصل إلى الماء، ونحوه مما يبعد مرامه، وانظر: ابن يعيش 2/ 74.



ج / 2 ص -28- ومررتُ بحيةٍ ذراعٍ، فإذا قلت: مررت بحيةٍ ذراعٌ طولها رفعت "الذراع" وجعلت ما بعد "حيةٍ" مبتدأً وخبرًا وكذلك مررت بثوب سبعٌ طوله, ومررت برجلٍ مائةٌ إبلُه.
قال سيبويه: وبعض العرب يجره كما يجر الخزَّ حين تقول: مررت برجلِ خَزٍّ صُفَتُه1، وهو قليل: كما تقول: مررت برجل أسد أبوهُ، إذا كنت تريد أن تجعله شديدًا ومررت برجلٍ مثل الأسد أبوهُ إذا كنت تشبهه فإن قلت: مررت بدابةٍ أسدٌ أبوها، فهو رفعٌ لأنك إنما تخبر أن أباها هذا السبعُ قال: فإن قلت: مررت برجلٍ أسدٌ أبوهُ على هذا المعنى رفعت لأنك لا تجعل أباه خلقته كخلقة الأسد ولا صورته هذا لا يكون ولكنه يجيء كالمثل ومن قال: مررتُ برجلٍ أسدٌ أبوهُ قال: مررت برجلٍ مائةٌ إبلُه وزعم يونس: أنه لم يسمعهُ من ثقةٍ2 ولكنهم يقولون: هو نارٌ جُمْرة لأنهم قد يبنون الأسماء على المبتدأ ولا يصفون بها فالرفع فيما كان بهذه الحال الوجه قال: ومن قال: مررتُ برجلٍ سواءٍ والعدمُ كان قبيحًا حتى تقول: هو والعدمُ لأن في "سواءٍ" اسمًا مضمرًا مرفوعًا، كما تقول: مررتُ بقومٍ عربٍ أجمعونَ، فارتفع "أجمعونَ" على مضمرٍ في "عَربٍ"3 في النيةِ، فالعدم هنا معطوف على المضمر الثاني المضاف وذلك قولهم: مررتُ برجلٍ أي رجلٍ, وبرجلٍ أيما رجلٍ, وبرجل أبي عشرةٍ، وبرجلٍ كُلِّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 230-231.
2
انظر الكتاب 1/ 231.
3
انظر الكتاب 1/ 232.



ج / 2 ص -29- رجلٍ، وبرجل مثلِكَ، وغيرك وبرجلٍ أفضلَ رجلٍ وما أشبههُ، فجميع هذا يجري على الموصوف في إعرابه في رفعه ونصبه وجره إذا أخلصتها له فإن جعلت شيئًا من هذه الصفات رافعًا لشيء من سببه لم يجز أن تصف به الأول، ولا تجريه عليه، ورفعته فقلت: مررت برجلٍ أبو عشرةٍ أبوه وبرجلٍ أفضلَ رجلٍ أبوه وبرجلِ مثلكَ أخوهُ وبرجل غيركَ صاحبُه, وكلُّ ما ورد عليك من هذا النحو فقسهُ عليه.
الثالث: النعت الموصول المشبه بالمضاف:
وإنما أشبه المضاف لأنه غير مستعمل إلا مع صلته، وذلك نحو: أفضل منكَ وأب لكَ وأخ لكَ وصاحبٌ لكَ فجميع هذه لا يحسن أن تفردها من صلاتها لو قلت: مررت برجلٍ أبٍ وبرجلٍ أخٍ لك وبرجلٍ خيرٍ وبرجل شَرٍّ لم يجز حتى تقول: مررتْ برجلٍ أبٍ لك وبرجل أخٍ لك وبرجل خيرٍ منكَ فجميع هذه إذًا أخلصتها للموصوف ولم تعلقها بشيءٍ من سببه أجريتها على الأول فقلت: هذا رجلٌ خيرٌ منكَ وصاحبٌ لكَ وأبٌ لكَ ورأيت رجلًا خيرًا منكَ وأبًا لكَ ومررت برجلِ خيرٍ منكَ وأبٍ لكَ فإن علقتها بشيء من سببه رفعت وغلبت عليها الاسمية فقلت: مررت برجلٍ أبٍ لكَ أبوهُ وبرجلٍ صاحبٍ لكَ أخوه وبرجلٍ خير منه أبوه ترفع جميع هذا على الابتداء والخبر والجر لغة، وليست بالجيدة وتقول: ما رأيت رجلًا أبغضَ إليه الشرُّ منهُ إليه، وما رأيتُ آخر [أحسن]1 في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ فإنما جرى: "أبغضُ وأحسنُ" على "رجلٍ" في إعرابه. وإن كان قد وقع بهما الشر والكحلَ، لأن الصفة في المعنى له، وليس هنا موصوفٌ غيره لأنه هو المبغضُ للشر وهو الحسنُ بالكحلِ فلهذا لم يشبه: مررت برجلٍ خيرٍ منهُ أبوهُ لأن أباه غيره وليس له في الخبر الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت كلمة "أحسن" لإيضاح المعنى.



ج / 2 ص -30- في "أبيهِ" نصيبٌ وقد تخفضُ العرب هذا الكلام فتقول: ما رأيتُ رجلًا أحسن في عينه الكحل من زيدٍ، وما رأيت أبغضَ إليه الشرُّ منهُ فإذا فعلوا هذا جعلوا الهاء التي كانت في "منهُ" للمذكرِ المضمرِ وكانت للكحلِ والشرِّ وما أشبههما, قال الشاعر:

مَرَرْتُ عَلَى وادي السِّبَاعِ ولا أَرَى كَوَادي السِّبَاعِ حِينَ يُظْلمُ وَادِيا

أقلَّ بهِ رَكْبٌ أَتَوْهُ تئيةً وأخوْفَ إلاّ ما وقى الله ساريا1

قال سيبويه: إنما أراد: أقلَّ به الركب تئيةً منهم ولكنه حذف ذلك استخافًا كما تقول: أنت أفضلُ، ولا تقولُ من أحدٍ، وتقول: الله أكبرُ، ومعناه: أكبر من كلِّ كبير وكلِّ شيءٍ. وكما تقول: لا مالَ ولا تقول لك2.
واعلم: أن ما جرى نعتًا على النكرة فإنه منصوبٌ في المعرفة على الحال وذلك قولك: مررتُ بزيدٍ حسنًا أبوهُ ومررتُ بعبد الله ملازمكَ وما كان في النكرة رفعًا غير صفةٍ فهو في المعرفة رفعٌ فمن ذلك قولهُ عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}3 لأنك تقول: مررت برجلٍ سواءٌ محياهُ ومماتهُ وتقول: مررت بعبد الله خير منهُ أبوهُ، ومن أجرى هذا على الأول في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 233 على قوله: "أقل به ركب" وحذفه تمام الكلام اختصارًا لعلم السامع والتقدير: أقل به ركب أتوه منهم بوادي السباع، فجرى في الحذف مجرى قولهم: الله أكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء. والبيتان لسحيم بن وثيل، يقول: وافيت هذا الوادي ليلًا وهو وادٍ بعينه فأوحشني لكثرة سباعه، فرحلت عنه ولم أمكث فيه لوحشته، والتئية: الثابت والماكث، ورفع الركب "بأقل" والمعنى: ولا أرى كوادي السباع واديًا أقل به الركب الآتوه تئية منهم بوادي السباع. وانظر منهج السالك/ 134, وارتشاف الضرب/ 373, وشواهد الألفية للعاملي/ 302, وشرح شواهد ابن عقيل/ 167.
2
انظر الكتاب 1/ 233.
3
الجاثية: 21



ج / 2 ص -31- النكرة نصبه هنا على الحال، فقال: مررت بعبدِ اللهِ خيرًا منهُ أبوهُ، وهي لغةٌ رديئةٌ1، وقد يكون حالًا ما لا يكون صفةً، لأن الحال زيادة في الخبر فأشبهت خبر المبتدأ الذي يجوزُ أن يكون صفةً ويجوز أن يكون اسمًا, والصفة ما كانت تفرق بين اسمين، والحال ليست تفرق بين اسمين, وقد يجوز أن يكون من اسم لا شريكَ له في لفظه ولكنها تفرق بين صاحبِ الفعل فاعلًا كان أو مفعولًا وبين نفسه في وقتهن فمما استعملوه حالًا ولم يجز أن يكون صفةً.
قولهم: مررتُ بزيد أسدًا شدة، قال سيبويه: إنما قال النحويون: مررتُ برجلٍ أسدًا شدةً وجرأةً، إنما يريدون: مثل الأسد وهذا ضعيفٌ قبيحٌ لأنه لم يجعل صفةً، إنما قاله النحويون تشبيهًا بقولهم: مررتُ بزيدٍ أسدًا شدةً، وقد يكون خبرًا ما لا يكون صفةً2 واعلم أنهم ربما وصفوا بالمصدر نحو قولك: رجلٌ عدلٌ وعلم، فإذا فعلوا هذا فحقه أن لا يثنى ولا يجمع، ولا يذكّر ولا يؤنث والمعنى إنما هو ذو عَدلٍ فإن ثنى من هذا شيءٌ فإنما يشبه بالصفة إذا كثر الوصف به والنكرة توصف بالجمل وبالمبتدأ والخبر والفعل والفاعلِ، لأن كلَّ جملة فهي نكرةٌ، لأنها حديثٌ وإنما يحدث بما لا يعرف ليعيدهُ السامع فيقول: مررتُ برجلٍ أبوهُ منطلقٌ فرجل صفته مبتدأ وخبره وتقول: مررتْ برجلِ قائمٌ أبوهُ فهذا موصوف بفعل وفاعلٍ ولا يجوز أن تصف المعرفة بالجمل لأن الجملَ نكراتٌ والمعرفة لا توصف إلا بمعرفةٍ فإذا أردت ذلك أتيت "بالذي" فقلت: مررتُ بزيدٍ الذي أبوهُ قائمٌ، وبعمروٍ الذي قائمٌ أبوهُ.
ذكر وصف المعرفة:
وهو ينقسم بأقسام المعارف إلا المضمر فإنه لا يوصف به، وأقسام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 233.
2
انظر الكتاب 1/ 233.



ج / 2 ص -32- الأسماء المعارف خمسةٌ، العلم الخاصُ والمضاف إلى المعرفةِ، والألف واللام، والأسماء المبهمةُ والإِضمار. فالموصوف منها أربعٌ:
الأول: وهو العلم الخاص: يوصف بثلاثة أشياء بالمضاف إلى مثله، وبالألف واللام نحو: مررتُ بزيدٍ أخيكَ والألف واللام نحو: مررتَ بزيدٍ الطويلِ وما أشبه هذا من الإِضافة والألف واللام. وأما المبهمة فنحو: مررتُ بزيدٍ هذا وبعمروٍ ذاكَ والمرفوع والمنصوب في أتباع الأول كالمجرورِ.
الثاني: المضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء، بما أضيف كإضافته، وبالألف واللام والأسماء المبهمةُ وذلك مررتُ بصاحبِكَ أخي زيدٍ ومررتُ بصاحبِكَ الطويلِ ومررتُ بصاحبِكَ هذا.
الثالث: الألف واللامُ: يوصف بالألف واللامِ، وربما أضيف إلى الألف واللامِ، لأنه بمنزلة الألف واللامِ وذلك قولكَ مررتُ بالجميلِ النبيلِ، ومررت بالرجلِ ذي المالِ.
الرابع: المبهمةُ: توصف بالأسماء التي فيها الألفُ واللامُ، والصفات التي فيها الألف واللامُ جميعًا.
قال سيبويه: وإنما وصفت بالأسماء1 لأنها والمبهمة كشيءٍ واحدٍ. والصفات التي فيها الألف واللام هي بمنزلة الأسماء في هذا الموضع وليست بمنزلة الصفاتِ في زيدٍ وعمروٍ، يعني أنك إذا قلت: هذا الطويل، فإنما تريد: الرجل الطويل أو الرمح الطويل أو ما أشبه ذلك، لأن هذا مبهم يصلح أن تشير به إلى كل ما بحضرتك فإذا ألبس على السامع فلم يدر إلى الرجل تشير أم إلى الرمح وجب أن تقول: بهذا الرجلِ أو بهذا الرمحِ فالمبهم يحتاج إلى أن يميز بالأجناسِ عند الإِلباس، فلهذا صار هو وصفتُه بمنزلة شيءٍ واحدٍ، وخالف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 221.



ج / 2 ص -33- سائر الموصوفات؛ لأنها لم توصف بالأجناس، وإنما يجوز أن تقول بهذا الطويلِ، إذا لم يكن بحضرتكَ طويلانِ فيقع لبسٌ، فأما إذا كان شيئانِ طويلانِ لم يجز إلا أن تذكر الاسم قبل الصفة وهذا المعنى ذكره النحويون مجملًا وقد ذكرته مفصلًا واعلم أن صفة المعرفة لا تكون إلا معرفةً كما أن صفة النكرةِ لا تكون إلا نكرةً ولا يجوز أن تكون الصفةُ أخص من الموصوفِ ألا ترى أنك إذا قلت: مررتُ بزيدٍ الطويلِ فالطويلُ أعم من زيد وحدُه والأشياء الطوال كثيرة وزيدٌ وحدُه أخص من الطويل وحده فإن قال قائل: فكان ينبغي إذا وصفت الخاص بالعامِ أن تخرجه إلى العموم؟ قيلَ له: هذا كانَ يكونُ واجبًا لو ذكرَ الوصف وحدهُ، فقلت: مررتُ بالطويلِ لكانَ لَعمري أعم من زيدٍ ولكنك إذا قلت: بزيدِ الطويلِ كان مجموع ذلك أحسن من زيدٍ وحده ومن الطويل وحده ولهذا صارت الصفة والموصوف كالشيء الواحد.
واعلم: أنه لك أن تجمع الصفة وتفرق الموصوف إذا كانت الصفة محضة، ولم تكن اسما وصفت به مبهمًا. ولك أن تفرق الصفة وتجمع الموصوف في المعرفة والنكرة فتقول: مررتُ بزيدٍ وعمروٍ وبكرٍ الطوال تجمع النعت وتفرق المنعوت وتقول: مررتُ بالزيدينِ الراكبِ والجالسِ والضاحكِ فتجمع الاسم وتفرق الصفة, ولكن المفرق يجب أن يكون بعدد المجموع وليس لك مثل هذا في المبهم لا يجوز أن تقول: مررتُ بهذينِ: الراكع والساجد، وأنت تريد الوصف؛ لأن المبهم اسم وصفته اسم فهما اسمان يبين أحدهما، الآخر فقاما مقام اسم واحد ولا يجوز أن يفرقا، لا يثني أحدهما ويفرد الآخر، بل يجب أن يكون مناسبًا له في توحيده وتثنيته وجمعه ليكون مطابقًا له، لا يفصل أحدهما عن الآخر.

مسائل من هذا الباب:
تقول: إن خيرهم كلهم زيدٌ، وإن لي قبلكم كلكم خمسين درهمًا وإن خيرهما كليهما أخوك، لا يكون "كلَيهما" من نعت "خيرٍ" لأن خيرًا واحدٌ.



ج / 2 ص -34- وتقول: جاءني خيرُهما كليهما راكبًا، وإن خيرهما كليهما نفسه زيد، فيكون "نفسُه" من نعت "خيرٍ" وتقول: جاءني اليوم خيرهما كليهما نفسُه، وقال الأخفش: أن عبدَ الله ساجٌ بابُهُ منطلقٌ فجعل "ساجٌ بابُه" في موضع نصب على الحال لأَنه كان صفة للنكرة.
وتقول: مررتُ بحسنٍ أبوهُ تريد: رجلٌ حَسن أبوه وبأحمرَ أبوهُ، ولا يجوز: رأيت ساجًا بابُهُ تريد: رأيت رجلًا ساجًا بابُه.
وتقول: مررتُ بأصحابٍ لكَ أجمعونَ أكتعونَ لأن في "لَكَ" اسمًا مضمرًا مرفوعًا, ومررتُ بقومٍ ذاهبينَ أجمعونَ أكتعونَ، لأن في "ذاهبين" اسمًا مرفوعًا مضمرًا، وكذلك: مررت بدرهمٍ أجمع أكتع ومررت بدارٍ لك جمعاءَ كتعاءَ ومررت بنساءٍ لكَ جمع كتع ولا يجوز أن تكون هذه الصفة للأول لأن الأول نكرة وتقول: مررت بالقوم ذاهبينَ أجمعينَ أكتعينَ إذا أكدت القومَ فإن أجريته على الاسم المضمر في "ذاهبين" رفعت فقلت: أجمعونَ أكتعونَ.
وتقول: مررت برجلٍ أيما رجلٍ، وهذا رجلٌ أيما رجلٍ، وهذان رجلانِ أيما رجلينِ وهاتان امرأتانِ أيتما امرأتين ومررت بامرأتين أيتما امرأتينِ و"ما" في كل هذا زائدة وأضفت أيًّا وأية إلى ما بعدها.
وتقول: مررت برجل حسبكَ من رجلٍ, وبامرأة حسبكَ من امرأة, وهذه امرأةٌ حسبك من امرأةٍ، وهاتان امرأتان حسبك من امرأتين وتقول: هذا رجلٌ، ناهيكَ من رجلٍ وهذه امرأة، ناهيتك من امرأةٍ فتذَكر "ناهيًا" وتؤنثه لأنه اسم فاعل ولا تفعل ذلك في "حسبكَ" لأنه مصدر وتقول في المعرفة: هذا عبد الله حسبكَ من رجل وهذا زيد أيما رجلٍ فتنصب "حسبكَ" وأيما على الحال. وهذا زيدٌ ناهيكَ من رجلٍ وهذه أمة الله أيتما جاريةٍ.
وتقول: مررت برجلين لا عطشاني المرأتين، فأقول: عطشاناهما ولا ريانيهما، فأقول: رياناهما وتقول: مررت برجال لا عطاش النساء فأقول:



ج / 2 ص -35- عطاشهن ولا روائهن، فأقول: رواؤهن، وإنما قلت: رواء لأنه فعال من رويت. وتقول: هاتان امرأتان عطشيا الزوجين لا ريياهما وتقول هؤلاء نساءٌ لا عطاش الأزواج، فأقول: عطاشهم، ولا رواؤهم، فإذا جمعت: ريّا، وريان، فهو على فعال.
وتقول: مررت برجل حائضٍ جاريتُه، ومررت بامرأة خصي غلامُها، ولو قلت: مررت برجلِ حائض الجارية لقَبحَ لأنك إن أدخلت الألف واللام جعلت التأنيث والتذكير على الأول فأنت تريد أن تذكر حائضًا لأن قبله رجلًا والحائض لا يكون مذكرًا أبدًا، وقال بعضهم: هذا كلام جائز لأن "حائضًا" مذكر في الأصل، وقد أُجيز، مررت بامرأة خصي الزوجِ، لأن خصيًا فعيلٌ مما يكون فيه مفعولُه فهذا يكون للمذكر والمؤنث سواء ولا يجوز: مررت برجلٍ عذر الجاريةِ إذا كان الجارية، عُذرًا وكذلك: مررت بامرأة محتلمة الزوجِ لأن محتلمًا مما لا يكون مؤنثًا وكذلك: مررت بامرأةٍ آدر1 الزوجِ، ولا يجوز: مررت برجلٍ أعْفلَ المرأةِ؛ لأن أعفل مما لا يكون في الكلام2.
ومن قال: مررت برجل كفاكَ به رجلًا، قال للجميع: كفاكَ بهم، وللاثنين: كفاكَ بهما، لأن اسم الفاعل هو الذي بعد الباء، والباءُ زائدةٌ وفي هذا لغتان: منهم من يجريه مجرى المصدر فلا يؤنثه ولا يثنيه ولا يجمعه، ومنهم من يجمعه فعلًا، فيقول: مررت برجل هدكَ من رجلٍ، وبامرأةٍ هدتك3 من امرأة، وإن أردت الفعل في "حسبكَ" قلت: مررت برجل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
آدر: الأدرة -بالضم- نفخة في الخصية.
2
يقال: عفلت المرأة عفلًا فهي عفلاء, والعفلة: بضارة المرأة، ولا يكون بالأبكار ولا يصيب المرأة إلا بعد أن تلد، وقال ابن دريد: العفل في الرجال غلظ يحدث في الدبر وفي النساء غلظ في الرحم.
3
انظر الكتاب 2/ 210 "وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقولون: مررت برجل هدك من رجل وبامرأة هدتك من امرأة". وقال ابن يعيش 3/ 50: "وأما هدك، فهو من القوة. يقال: فلان يهد على ما لم يسم فاعله: إذا نسب إلى الجلادة، والكفاية, فالهد بالفتح للرجل القوي. وإذا أريد الذم والوصف بالضعف كسر وقيل: هدك".



ج / 2 ص -36- حسبكَ من رجلٍ، وبرجلين أحسباك من رجلينِ, وبرجال أحسبوكَ, وتقول: مررت برجلين ملازماهما رجلانِ أمسِ كما تقول: برجلين عبداهما رجلانِ ومررت برجل ملازموهُ رجالٌ أمسِ؛ لأن ملازمه هذا اسم مبتدأ، لأنه بمنزلة غلام إذا كان لما مضى وقد بينا ذا فيما تقدم فإذا كان اسمًا صار مبتدأً ولا بدّ من أن يكون مساويًا للخبر في عدته كما تقول: الزيدانِ قائمانِ وغلاماك منطلقانِ وتقول: مررت برجلٍ حسبكَ ومررت بعبد الله حسبكَ فيكون حالًا فإذا قلت: حسبك يلزمكَ فحسبك, مرتفع بالابتداء والخبر محذوف, وهذا قول الأخفش وغيره من النحويين.
وقال أبو العباس, رحمه الله: الخبر محذوف لعلتين: إحداهما: أنك لا تقول "حسبَك" إلا بعد شيء قد قاله أو فعله، ومعناه: يكفيك أي: ما فعلت وتقديره: كافيكَ لأن حسبكَ اسم, فقد استغنيت عن الخبر بما شاهدت مما فعل قال: وكذلك أخوات حسبك نحو "هدكَ". والوجه الآخر: في الاقتصار على حسبٍ بغير خبرٍ, إن معنى الأمر لما دخلها استغنت عن ذلك كما تستغني أفعال الأمر تقول: حسبُكَ ينم الناسُ كما تقول: اكففْ ينم الناسُ وكذلك "قدكَ" و"قطكَ" لأن معناهما حسبك إلا أن حسبك معربة, وهاتان مبنيتان على السكون يعني: قَدْ وقَطْ، وتقول: حسبكَ درهمانِ فأنت تجريه مجرى يكفيك درهمانِ وتقول: إن حسبك درهمانِ.
قال الأخفش: إذا تكلمت "بحسب" وحدها -يعني إذا لم تضفها- جعلتها أمرًا وحركت آخرها لسكون السين، تقول: رأيت زيدًا حسب يا فتى، غير منون، كأنك قلت: حسبي أو حسبكَ فأضمر هذا فلذلك لم ينون لأنه أراد الإِضافة. وقال: تقول: حسبُكَ وعبد اللهِ1 درهمان، على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
على أن عبد الله مفعول معه أو مفعول به بإضمار "يحسب" وهو الصحيح؛ لأنه لا يعمل في المفعول معه إلا ما كان من جنس ما يعمل في المفعول به، وجواز جره قيل: بالعطف، وقيل: بإضمار "حسب" أخرى وهو الصواب، ورفعه بتقدير حسب، فحذفت وخلفها المضاف إليه، وانظر المغني/ 619-620 تحقيق مازن المبارك.



ج / 2 ص -37- معنى يكفيك وعبد الله درهمانِ، فإن جررت فهو جائز وهو قبيح، وقبحه أنك لا تعطف ظاهرًا على مضمر مجرور, وأنشدوا:

إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا فَحَسْبُكَ والضَّحَّاك سَيْفٌ مُهَنَّدُ1

فمنهم من ينصب "الضحاكَ" ومنهم من يجر ومنهم من يرفع، فإن أظهرت قلت: حسب زيدٍ وأخيهِ درهمانِ، وقبح النصب والرفع؛ لأنك لم تضطر إلى ذلك وتقول مررت برجل في ماءٍ خائضهُ هُوَ لا يكون إلا هو, إذا أدخلت الواو لأنك قد فصلت بينه وبين ماء وتقول: مررت برجلٍ معهُ صقْرٌ صائدٌ وصائد بهِ, كما تقول: أتيتَ على رجلٍ ومررت بهِ قائمًا إن حملته على الرجل جررت, وإن حملته على "مررت بهِ" نصبت, وتقول: نحن قومٌ ننطلق عامدونَ وعامدينَ إلى بلد كذا وتقول: مررت برجلٍ معه بازٌ قابض على آخر وبرجل معه جبةٌ لابس غيرها ولابسًا2 إن حملته على الإِضمار الذي في "معهُ" وتقول: مررت برجل عندهُ صقرٌ صائدٍ ببازٍ وصائدًا, إن حملته على ما في "عندَه" من الإِضمار، وكأنك قلت: عندَه صقرٌ صائدًا ببازٍ, وتقول: هذا رجلٌ عاقلٌ لبيبٌ، لم تجعل الآخر حالًا وقع فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه جواز الرفع في "الضحاك" والنصب والجر، على أنه مضاف إلى "حسب" وكانت هنا فعل تام.
والهيجاء: الحرب. وانشقت العصا: تفرقت الجماعة ونسب هذا البيت في ذيل الأمالي إلى جرير ولم يوجد في ديوانه.
وانظر: معاني القرآن 1/ 417، والسمط/ 899، وذيل الأمالي/ 140، والمغني/ 622، تحقيق الدكتور مازن المبارك، والسيوطي 2/ 900, وكتاب الغريب لعيسى بن إبراهيم الربعي/ 106, والأمالي لأبي علي القالي 2/ 262, وكتاب إيضاح شواهد الإيضاح/ 118.
2
في الأصل "وإن" والواو زائدة.



ج / 2 ص -38- الأول، ولكنك سويت بينهما في الإِجراء على الاسم، والنصب فيه جائز ضعيفٌ.
قال سيبويه: وإنما ضعف؛ لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان لم يكن واحد منهما قبل صاحبه1، وقد يجوز في سعة الكلام، وتقول: مررت برجلٍ معه كيسٌ مختوم عليهِ، الرفع الوجهُ؛ لأنه صفة الكيس والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائمًا وهذا رجلٌ ذاهبًا, وتقول: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائدًا به غدًا تريد: مقدرًا الصيد به غدًا، ولولا2 هذا التقدير ما جاز هذا الكلامُ، وتقول: مررتُ برجلٍ معهُ امرأةٌ ضاربتُه فهذا بمنزلة معه كيسٌ مختومٌ عليهِ, فإن قلت: مررت برجلٍ معه امرأةٌ ضارِبها جررت ونصبت على ما فسر3. وإن شئتَ وصفت المضمر في "ضاربها" في النصب والجر فقلت: مررت برجلٍ معهُ امرأةٌ ضاربها هُوَ أو ضاربها هُو, فإن شئت جعلت "هو" منفصلًا فيصير بمنزلة اسم ليس من علامات الإِضمار, فتقول: مررت برجلٍ معه امرأةٌ ضاربها "هُوَ" كأنك قلت: معه ضاربها زيدٌ وتقول: يا ذا الجاريةُ الواطئَها أبوه كما تقول يا ذا الجارية الواطئَها زيدٌ والمعنى: التي وطئَها زيدٌ, وتقول: يا ذا الجاريةُ الواطئَها أبوهُ فجعل بها "الواطئَها" صفة "ذا" المنادى.
ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجاريةُ الواطئُها زيدٌ، من قبل أن "الواطئَها" من صفة المنادى فإذا لم يكن هو الواطئ ولا أحد من سببه؛ لم يكن صفة له كما لا يجوز: يا عبد اللهِ الواطئ الجارية زيدٌ فلم يجز هذا كما لم يجز: مررتُ بالرجل الحسنِ زيدٌ, وقد يجوز أن تقول: مررتُ بالرجل الحسنِ أبوهُ وتقول: يا ذا الجاريةِ الواطئُها هُو, جعلت "هُو" منفصلًا كالأجنبي, لا يجوز حذفه وإن شئت نصبته كما تقول: يا ذا الجاريةِ الواطئَها تجريه على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 242.
2
في الأصل "ولو" ولا يستقيم المعنى.
3
الجر على أنها نعت سببي، والنصب على الحال.



ج / 2 ص -39- المنادى، فإن قلت: يا ذا الجاريةِ الواطئَها، وأنت تريد: الواطئَها هُو, لم يجز أن تطرح "هُوَ" كما لا يجوز بالجاريةِ الواطئها هو أو أنت حتى تذكرهما فإن ذكرتهما جاز, وليس هذا كقولك: مررت بالجاريةِ التي وطئَها أو التي وطئتُها؛ لأن الفعل يضمر فيه وتقع فيه علامة الإِضمار وقد فسرت هذا فيما تقدم, وإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعًا إذا لم يوصف به شيء غير الأول, وذلك قولك: يا ذا الجارية الواطئَها, ففي هذا إضمار "هُوَ" وهو اسم المنادى، والصفة إنما هي للأول المنادى.
قال سيبويه: ولو جاز هذا لجازَ: مررت بالرجلِ الآخذيهِ، تريد: أنتَ, ولجاز: مررت بجاريتِكَ راضيًا عنها1، تريد: أنْتَ ويقبح أن تقول: رُبَّ رجلٍ وأخيهِ منطلقينِ، حتى تقول: وأخٍ لهُ, وإذا قيل: والمنطلقين, مجروران من قبل أنّ قوله: وأخيهِ في موضع نكرة, والمعنى: وأخٍ لَهُ, والدليلُ على أنه نكرةٌ دخول "رُبَّ" عليه, ومثل ذلك قول بعض العرب: كُلُّ شاةٍ وسخلتِها2, أي: وسخلةٍ لَها، ولا يجوز ذلك حتى تذكر قبله نكرة, فيعلم أنك لا تريد شيئًا بعينه, وأنشد سيبويه في نحو ذلك:

وأيُّ فَتى هَيْجَاءَ أنْتَ وَجَارِها إذا ما رجَالٌ بالرِّجَالِ استقَّلتِ3

فلو رفع لم يكن فيه معنى: أي جارها، الذي هو في معنى التعجب، والمعنى: أي فتى هيجاءَ, وأي جارٍ لها أنْتَ، قال الأعشى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 244.
2
انظر الكتاب 1/ 244, وانظر شرح الرماني 2/ 45.
3
من شواهد سيبويه 1/ 244 على عطف "جارها" على "فتى" والتقدير: أي فتى هيجاء أنت، فجارها نكرة لأن أيًّا إذا أضيفت إلى واحد لم يكن إلا نكرة؛ لأنه فرد الجنس.
والهيجاء: الحرب. وأراد بفتاها القائم بها المبلى فيها، وبجارها: المجير منها الكافي لها، واستقلت: نهضت، ولم ينسب سيبويه الشاهد إلى قائل معين.



ج / 2 ص -40- وكم دُونَ بيتِكَ منْ صَفْصَفٍ ودَكْدَاكِ رمْلٍ وأعقادِهَا1

ووَضْعِ سِقاءٍ وأحْقابِهِ وحَلِّ حُلوسٍ وأغْمادِهَا

فجميع هذا حجة: لرب رجل وأخيه، وهذا المضافُ إلى الضمير لا يكون وحده منفردًا نكرة, ولا يقع في موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يشغل به "رُبَّ" نكرة ثم يعطف عليه ما أضيف إلى النكرة، وتقول: هذا رجلٌ معهُ رجل قائمينِ, فهذا ينتصب؛ لأن الهاء التي في معهُ [معرفةٌ]2 وانتصابه عندي بفعلٍ مضمر، ولا يجوز نصبه على الحال لاختلاف العاملين؛ لأنه لا يجوز أن يعمل في شيء عاملان, وتقول: "فوق الدار رجل وقد جئتُكَ برجلٍ آخر عاقلينِ مسلمينِ" فتنصب بفعل آخر مضمر وتقول: "اصنع ما سرَّ أخاكَ وما أحب أبوك الرجلانِ الصالحانِ" فترفع على الابتداء، وتنصب على المدح, كقول الخرنق:

لا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذِينَ هُمُ سَمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزْرِ

النَّازِلِينَ بكُلِّ مُعْتَرَكٍ والطَّيِّبُونَ مَعاقِدَ الأُزْرِ3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه أيضًا 1/ 245 على إضافة: أعقادها وأحقابه وأغمادها وحملها كلها وهي مضافة إلى الضمائر على الأسماء المجرورة "بمن" وهي أسماء منكورة لوقوعها موقع المنصوب على التمييز.
وصف بعد المسافة بينه وبين الممدوح الذي قصده ليستوجب بذلك جائزته.
والصفصف: المستوي من الأرض الذي لا ينبت، يريد: الفلاة، والدكداك: الرمل المستوي. والأعقاد: جمع عقد، وهو المنعقد من الرمل المتراكم. ووضع السقاء: حطه على الراحلة. وأغمادها: شدها تحت الرحل.
2
أضفت كلمة "معرفة" لتوضيح المعنى.
3
من شواهد سيبويه 1/ 104 و1/ 146 على قطع النازلين والطيبين من الموصوف وحملهما على إضمار الفعل والمبتدأ، لما قصد بهما من معنى المدح دون الوصف.
والعداة: الأعداء، جمع عاد، والجزر: جمع الجزور، وهي الناقة التي تنحر وسكنت زاي الجزر للتخفيف.
وصفت قومها بالظهور على العدو نحر الجزور للأضياف والملازمة للحرب والعفة عن الفواحش، فجعلت قومها سمًّا لأعدائهم يقضي عليهم، وآفة للجزر لكثرة ما ينحرون منها.
وانظر الكامل/ 454, والمحتسب 2/ 198, والتمام في تفسير أشعار هذيل 209, والحماسة البصرية 1/ 227, وأمالي ابن الشجري 2/ 158, ومعاني الفراء 1/ 105، والإنصاف/ 249, والعيني 3/ 603, والخزانة 1/ 301, والديوان/ 29: تحقيق الدكتور نصار.

ج / 2 ص -41- وسيبويه يجيزُ نصب: هذا رجل مع امرأةٍ قائمين على الحال, ويجيزُ: مررت برجلٍ مع امرأةٍ منطلقينِ على الحال أيضًا, ويحتج بأن الآخر قد دخل مع الأول في التنبيه والإِشارة, وأنك قد جعلت الآخر في مرورك فكأنك قلت: هذا رجل وامرأة, ومررت برجلٍ وامرأةٍ, وتجعل1 ما كان معناهما واحدًا على الحال.
وإذا كان معنى ما بينهما يختلف فهو على "أعني" والقياس المحض يوجب إذا اختلف عاملان في اسمين أو أكثر من ذلك لم يجز أن تثنى صفتهما ولا حالهما؛ لاختلاف العاملين اللذين عملا في الاسمين, وكيف يجوز أن يفترقا في الموصوفين ويجتمعا في الصفة, ولكن يجوز النصب بإضمار شيء ينتظم المعنيين يجتمعان فيه.
واعلم: أنه لا يجوز أن تجيز وصف المعرفة والنكرة، كما لا يجوز وصف المختلفين.
وزعم الخليل: أن الرفعين أو الجرين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع, وذلك قولك: "هذا رجلٌ وفي الدار آخر كريمينِ" لأنهما2 لم يرتفعا من جهة واحدة. وشبه بقوله: هذا لابنِ إنسانينِ عندنا كرامًا، فقال: الجر ههنا مختلف ولم يشرك الآخر فيما جر الأول، ومثل ذلك: هذا جارية أخوي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 246.
2
انظر الكتاب 1/ 247.



ج / 2 ص -42- ابنينِ لفلان كرامًا؛ لأن أخوي ابنينِ، اسم واحد والمضاف إليه الآخر منتهاه، ولم يأت بشيء من حروف الإِشراك, ومثل ذلك: هذا فرس أخوي ابنيك العقلاء الحلماء؛ لأن هذا في المعرفة مثل ذلك في النكرة, ولا يجوز إلا النصب على "أعني" ولا يكون الكرام العقلاء صفة للأخوين والابنين, ولا يجوز أن يجري وصفًا لما انجر من وجهين، كما لم يجز فيما اختلف إعرابه.
وقال سيبويه: سألت الخليل عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوهُ أنفسهما فقال: الرفع على هُما صاحباي أنفسهُما والنصب على "أعنيهما" ولا مدح فيه؛ لأنه ليس مما يمدح به, وقال: تقول: هذا رجلٌ وامرأة1 منطلقان, وهذا عبد اللهِ وذاكَ أخوك الصالحانِ؛ لأنهما ارتفعا من وجه وهما اسمان بنيا على مبتدأَين وانطلق عبد اللهِ ومضى أخوك الصالحان؛ لأنهما ارتفعا بفعلين معناهما واحد. والقياس عندي أن يرتفعا على "هُما" لأن الذي ارتفع به الأول غير الذي ارتفع به الثاني. ولكن إن قدرت في معنى التأكيد، ورفعت عبد اللهِ بالعطف من الفعل جازت عندي الصفة، ولا يجوز من: عبد اللهِ وهذا زيدٌ الرجلينِ الصالحينِ، رفعت أم نصبت؛ لأنك لا تثني إلا على من أثبته وعرفته فلذلك لم يجز المدح في ذا, ولا يجوز صفتهما لأنك من يعلم ومن لا يعلمُ فتجعلهما بمنزلة واحدةٍ.
قال أبو العباس في قولهم: ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه الكحلُ منهُ في عين زيدٍ، وما رأيت رجلًا أبغض إليه الشر منهُ إلى زيدٍ: قد علمنا أن الاختيار: مررت برجلٍ أحسنَ2 منه أبوهُ، ومررت برجلٍ خير منه زيدٌ، فما باله لم يجز الرفع في قوله: أحسنُ في عينه الكحلُ، وأبغض إليه الشر، فقال: الجواب في ذلك: أنه إن أراد أن يجعل الكحل الابتداء كان الاختيار،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في أصل سيبويه 1/ 247 وامرأته، وهو خطأ؛ لأن امرأته معرفة ورجلًا نكرة، ولا يجوز ذلك.
2
أكثر العرب يوجب رفع "أحسن" في ذلك على أنه خبر مقدم، و"أبوه" مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع خفض نعت لرجل. وانظر التصريح 2/ 106.



ج / 2 ص -43- ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه منه في عين زيدٍ الكحل، تقديره: ما رأيتُ رجلًا الكحل أحسن في عينه منه في عين زيدٍ, وما رأيت رجلًا الكحل في عينه أحسنُ منهُ في عينِ زيدٍ، كل1 جيد، كما تقول: زيدٌ أحسنُ في الدار منه في الطريق, وزيدٌ في الدار أحسن منهُ في الطريقِ، فتقدم في الدار لأنه ظرف، والتفضيل إنما يقع بأفعل فإن أردت أن يكون "أحسنُ" هو الابتداء فمحالٌ؛ لأنك تضمر قبل الذكر2؛ لأن الهاء في قولك: "منه" هي الكحل ومنه متصلة "بأفعلَ" لأن "أَفعلَ" للتفضيل فيصير التقدير: ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه منهُ في عينِ زيدٍ الكحلُ, فتضمر الكحل قبل أن تذكره؛ لأن الكحل الآن خبر الابتداء، وإن قدمت الكحل فقلت, على أن ترفع "أحسنَ" بالابتداء: ما رأيتُ رجلًا أحسن في عينه الكحلُ منه في عينِ "زيدٍ" فهو أردأ؛ وذلك لأنه خبر الابتداء وقد فصلت بين "أحسنَ" وما يتصل به وليس منهما في شيء؛ فلذلك لم يجز على هذه الشريطة, إلا أن الجملة على مثل قولك: مررت برجلٍ خيرٌ منهُ أبوهُ3، فتقول: ما رأيت رجلًا أحسنُ في عينه الكحلُ منه في عين زيدٍ, فترفع الكحلَ "بأحسنَ" ويقع "منهُ" بعده فيكون الإِضمار بعد الذكر وتقديره: ما رأيت رجلًا يحسنُ الكحل في عينه كحسنهِ في عينِ زيدٍ، فالمعرفة والنكرة في هذا واحد إذا كان الفعل للثاني ارتفع به معرفة كان أو نكرة, وإن كان للأول والثاني معرفة بطل, وإن كان الثاني نكرة انتصب على التمييز, وذلك قولك: ما رأيت رجلًا أحسنَ وجهًا من زيدٍ ولا رأيتُ رجلًا أكرمَ حسبًا منهُ؛ لأن أكرم وأحسن للأول لأن فيه ضميره, فإن جعلته للثاني رفعته به ورددت إلى الأول شيئًا يصله بالثاني، كما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر المقتضب 3/ 248-249.
2
في المقتضب 3/ 249: فإن أخرت الكحل فقلت: ما رأيت أحسن في عينه منه في عين زيد الكحل وأنت تقدر أن "أحسن" هو الابتداء، كان خطأ لما قدمت من ضمير الكحل قبل ذكره.
وانظر: الكتاب 1/ 232.
3
أي: إن خيرًا تعرب خبرًا مقدمًا، و"أبوه" مبتدأً مؤخرًا.



ج / 2 ص -44- تقول: رأيتُ رجلًا حسَن الوجهِ؛ لأن حَسن الوجه "لرجلٍ" فإن جعلته لغيره قلت: رأيتُ رجلًا حسنَ الوجهِ أخوهُ وحسن الوجهِ رجلٌ عندهُ, فإن قلت: ما رأيت قومًا أشبه بعضُ ببعضٍ من قومِكَ, رفعت البعض لأن "أشبَه" له وليس لقومٍ؛ لأن المعنى: ما رأيت قومًا أشبه بعضُهم ببعضٍ كما ذكر ذلك سيبويه في قوله: مررتُ بكُلٍّ صالحًا وببعضٍ قائمًا أنه محذوف من قولك: بعضُهم وكلهم, والمعنى يدل على ذلك, ألا ترى أن تقديره: ما رأيتُ قومًا أشبَهَ بعضُهم بعضًا, كما وقع ذلك في "قومِكَ" وتقول: ما رأيت رجلًا أبر أبٍ لهُ بأُم من أخيكَ؛ لأن الفعل للأب ووضعت الهاء في "لَهُ" إلى الرجل فلم يكن في "أُمٍّ" ضمير؛ لأن الأب قد ارتفع به فإن لم يرد هذا التقدير, قلت: ما رأيتُ رجلًا أبَر أبًا بأُمٍّ من زيدٍ كما تقول: ما رأيت رجلًا أحسنَ وجهًا من زيدٍ, وكذلك: ما رأيت رجلًا أشبه وجهٍ لهُ بقفًا من زيدٍ, فإن حذفت له قلت: ما رأيت رجلًا أشبه بقفًا من زيدٍ؛ لأن في "أشبَه" ضمير رجل.
وأما قولهم: "ما من أيامٍ أحبَّ إلى اللهِ فيها الصومُ منه في عَشْرِ ذي الحجةِ"1، ولكنه لما قال في الأول "إلى اللهِ" لم يحتج إلى أنْ يذكر "إليه" لأن الرد إلى واحدٍ وليس كقولك: زيدٌ أحب إلى عمرو منه إلى خالدٍ؛ لأنك رددت إلى اثنين فلا تحتاج إلى أن تقول: زيدٌ عندي أحسن من عمرٍو عندي؛ لأن الخبر يرجع إلى واحد فأما قولهم: ما مِن أيامٍ أحب إلى اللهِ فيها الصومُ منه في عَشْرِ ذي الحجةِ فإنما هو بمنزلة: ما رأيت رجلًا أحسنَ في عينه الكحلُ منهُ في عينِ زيدٍ فقولُه: فيها بمنزلة قولهِ: في عينهِ وإنما أضمرت الهاءَ [في]2 "فيها" وفي عينِه لأنك ذكرت الأيام وذكرت رجلًا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 232, والمقتضب 3/ 250, وجعل الأشموني هذا حديثًا، والرواية في كتب الحديث: البخاري والترمذي وسنن ابن ماجه وسنن النسائي ليس فيها "أحب" رافعًا للاسم الظاهر.
2
أضفت "في" لتوضيح المعنى.



ج / 2 ص -45- وكذلك قلت: اللّهُ عز وجلَّ: ما رأَيت أيامًا أحب إليه فيها الصوم، لأضمرته في "إليهِ" ومنه للصوم، كما كان للكحلِ، وأما قولُهُ: إلى اللهِ فتبيينٌ لأحب، وأحسن لا يحتاج إلى ذلك، ألا ترى أنك تقول: زيد أحسن من عمرٍو، فلا تحتاج إلى شيء، وتقول: زيد أحب إلى عمرٍو منكَ، فقولك: إلى عمرٍو كقولك: إلى الله في المسألة الأولى، ولو قلت: ما رأيتُ رجلًا أحسن في عينه الكحلُ عند عمرٍو منهُ في عينِ أخيكَ كان بمنزلة ذلك؛ لأن قولك عندَ عمرٍو قد صار مختصرًا كقولك: إلى اللهِ في تلك المسألةِ وأما قولهم: ما رأيت رجلًا أبغضَ إليه الشرُّ من زيدٍ, وما رأيت رجلًا أحسنَ في عينه الكحل من زيدٍ, فإنما هو مختصر من الأول, والمعنى: إنما هو الأول لا أنك فضلت الكحل على زيدٍ ولكنك أخبرت أن الكحل في عين زيدٍ أحسنُ منه في غيرها, كما أردت في الأول, ولكنك حذفت لقلة التباسه وليست "مِنْ" ههنا بمنزلتها في قولك: ما رأيتُ رجلًا أحسنَ من زيدٍ؛ لأنكَ هنا تخبر أنك لم ترَ من يتقدم زيدًا وأنت في الأول تخبر أنك لم ترَ من يعمل الكحل في عينه عمله في عين زيدٍ, فتقديره: ما رأيت رجلًا أحسنَ كحلًا في عينٍ من زيدٍ, لما أضمرت رجلًا في "أحسَن" نصبت كحلًا على التمييز ليصح معنى الاختصار.

الثالث من التوابع: وهو عطف البيان.
اعلم: أن عطف البيان كالنعت والتأكيد في إعرابهما وتقديرهما، وهو مبين لما تجريه عليه كما يبينان، وإنما سمي عطف البيان ولم يقل أنه نعت؛ لأنه اسم غير مشتق من فعل، ولا هو تحلية، ولا ضرب من ضروب الصفات فعدل النحويون عن تسميته نعتًا.
وسموه عطف البيان لأنه للبيان، جيء به وهو مفرق بين الاسم الذي يجري عليه وبين ما له مثل اسمه نحو: رأيتُ زيدًا أبَا عمرٍو, ولقيت أخاكَ بكرًا.



ج / 2 ص -46- والفرق بين عطف البيان والبدل أن عطف البيان تقديره النعت التابع للاسم الأول، والبدل تقديره أن يوضع موضع الأول, وتقول في النداء إذا أردت عطف البيان: يا أخانا زيدًا1، فتنصب وتنون؛ لأنه غير منادى، فإن أردت البدل قلت: يا أخانا زيدُ, وقد بينت هذا الباب في النداء ومسائله، وستزداد بيانًا في باب البدل إن شاء الله2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال المبرد في المقتضب 4/ 220: ومن قال: يا زيد الطويل، قال: يا هذا الطويل، وليس بنعت لهذا، ولكنه عطف عليه، وهو الذي يسمى عطف البيان.
2
ذكر باب النداء في الجزء الأول.

الرابع من التوابع: وهو عطف البدل.
البدل على أربعة أقسام: إما أن يكون الثاني هو الأول أو بعضه، أو يكون المعنى مشتملًا عليه أو غلطًا، وحق البدل وتقديره أن يعمل العامل في الثاني كأنه خالٍ من الأول، وكان الأصل أن يكونا خبرين، أو تدخل عليه واو العطف، ولكنهم اجتنبوا ذلك للبس.
الأول: ما ابتدلته من الأول وهو هُو: وذلك نحو قولك: مررتُ بعبد الله زيدٍ، ومررت برجلٍ عبد الله، وكان أصل الكلام: مررت بعبد الله ومررت بزيدٍ أو تقول: مررتُ بعبد اللهِ وزيدٍ, ولو قلت ذلك لظن أن الثاني غير الأول؛ فلذلك استعمل البدل فرارًا من اللبس وطلبًا للاختصار والإِيجاز، ويجوز إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة والمضمر من المظهر والمظهر من المضمر، البدل في جميع ذلك سواء. فأما إبدال المعرفة من النكرة فنحو قول الله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}1 فهذا إبدال معرفة من نكرة، فتقول على هذا: مررت برجلٍ عبد اللهِ، وأما إبدال النكرة من المعرفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشورى: 52-53, والآية: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ}.
وانظر الكتاب 1/ 224.



ج / 2 ص -47- فنحو قولك: مررت بزيدٍ رجلٍ صالحٍ كما قال الله عز وجل: {بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}1، فهذا إبدال نكرة من معرفة، وأما إبدال الظاهر من المضمر فنحو قولك: مررتُ بهِ زيدٍ وبهما أخويك, ورأيت الذي قامَ زيدٌ، تبدل زيدًا من الضمير الذي في "قام" ولا يجوز أن تقول: رأيتُ زيدًا أباهُ والأب غير زيدٍ؛ لأنك لا تبينه لغيره.
الثاني: ما أبدل من الأول وهو بعضه: وذلك نحو قولك: ضربتُ زيدًا رأسَهُ2، وأتيتُ قومَكَ بعضَهم، ورأيتُ قومَكَ أكثَرهم، ولقيت قومكَ ثلاثَتهم, ورأيت بني عمِّكَ ناسًا منهم, وضربت وجوهها أولها قال سيبويه: فهذا يجيء على وجهيِن3: على أنه أراد أكثَر قومِكَ، وثلثي قومكَ، وضربتُ وجوهَ أولِها، ولكنه ثنى الاسم تأكيدًا، والوجه الآخر: أن يتكلم فيقول: رأيتُ قومَكَ ثم يبدو أن يبين ما الذي رأى منهم, فيقول: ثلاثتَهم، أو ناسًا منهم، ومن هذا قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}4 والمستطيعونَ بعضُ الناسِ.
الثالث: ما كان من سبب الأول: وهو مشتمل عليه نحو: سُلبَ زيدٌ ثوبَهُ وسرق زيد مالُه؛ لأن المعنى: سُلبَ ثوب زيد, وسرق مالُ زيدٍ, ومن ذلك قول الله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}5 لأن المسألة في المعنى عن القتال في الشهر الحرام، ومثله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}6، وقال الأعشى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
العلق: 15، 16، والآية: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ....} وانظر الكتاب 1/ 260، و1/ 198.
2
أردت أن تبين موضع الضرب، فصار كقولك: ضربت رأس زيد.
3
انظر الكتاب 1/ 75.
4
آل عمران: 97، وانظر الكتاب 1/ 75-76.
5
البقرة: 217، وانظر الكتاب 1/ 75.
6
البروج: 4، وانظر المقتضب 4/ 297.



ج / 2 ص -48- لَقدْ كَانَ في حَوْل ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تفضى لَبَانَاتُ ويسأْمُ سائِمُ1

وقال آخر:

وذَكَرَتْ تَقْتُدَ بَرْدَ مَائِهَا وعَتَكُ البولِ على أنسائِها2

الرابع: وهو بدل الغلط والنسيان: وهو البدل الذي لا يقع في قرآن ولا شعرٍ، وذلك نحو قولهم: مررتُ برجلٍ حمارٍ، كأنه أراد أن يقول: مررتَ بحمار فغلط فقال: برجلٍ أو بشيءٍ.
واعلم: أن الفعل قد يبدل من الفعل وليس شيء من الفعل يتبع الثاني الأول في الإِعراب إلا البدل والعطف, والبدل نحو قول الشاعر:

إنَّ على اللهِ أنْ تُبايعا تُؤخذَ كُرهًا أو تجيء طائعا3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 423 على رفع الفعل "يسأم" واستشهد به المبرد على بدل الاشتمال كذلك فعل المصنف. ثويته: الأصل: ثويت فيه، فحذف حرف الجر واتصل الضمير بالفعل، والثواء: الإقامة، اللبانات: الحاجات. وانظر المقتضب 4/ 297، و1/ 27, وأمالي ابن الشجري 1/ 363, وابن يعيش 3/ 65, والديوان/ 177.
2
من شواهد سيبويه 1/ 75، على نصب برد مائها على البدل من "تقتد" لاشتمال الذكر عليها. وصف ناقة بعد عهدها بورود الماء لإدمانها السير في الفلاة، فيقول: ذكرت برد ماء تقتد وهو موضع بعينه وأثر بولها على أنسائها ظاهر بين لخثارته. وإذا قل ورودها للماء خثر بولها وغلظ واشتدت صفرته، وعتك البول أن يضرب إلى الحمرة.
ويروى: وعبك البول, وهو اختلاطه بوبرها وتلبده به والأنساء: جمع نسأ, وهو عرق يستبطن الفخذ والساق. والبيت لجبر بن عبد الرحمن. وانظر: الجمهرة 2/ 21.
3
من شواهد الكتاب 1/ 78، على حمل "تؤخذ على تبايع؛ لأنه مع قوله تجيء تفسير للمبايعة إذ لا تكون إلا أحد الوجهين من إكراه أو طاعة". وأراد بقوله الله: القسم. والمعنى: إن على والله، فلما حذف الجار نصبت.
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها. وانظر المقتضب: 2/ 63, والخزانة 2/ 373, ومنهج السالك 26, وشواهد الألفية للعاملي/ 347, وشرح شواهد ابن عقيل/ 179.

ج / 2 ص -49- وإنما يبدل الفعل من الفعلِ إذا كان ضربًا منه نحو هذا البيت, ونحو قولك: إن تأتني تمشي أمشي معكَ؛ لأن المشيَ ضرب من الإِتيان, ولا يجوز أن تقول: إن تأتي تأكل آكلْ معكَ؛ لأن الأكل ليس من الإِتيان في شيء.

مسائل من هذا الباب:
تقول: بعتُ متاعَك أسفلَهُ قبلَ أعلاهُ، واشتريتُ متاعَك بعضَهُ أعَجلَ من بعضٍ، وسقيت إبلَك صغارها أحسن من سقي كبارها، ودفعت الناس بعضَهم ببعضٍ، وضربت الناسَ بعضَهم قائمًا وبعضَهم قاعدًا، وتقول: مررت بمتاعِكَ بعضِه مرفوعًا، وبعضِه مطروحًا، كأنك قلت: مررت ببعضِ متاعِكَ مرفوعًا وببعض مطروحًا؛ لأنك مررتَ به في هذه الحال، وإذا كان صفة للفعل لم يجز الرفع, وتقول: بعتُ طعامَكَ بعضه مكيلًا وبعضَهُ موزونًا إذا أردت أن الكيل والوزن وقعا في حال البيع، فإن رفعت فإلى هذا المعنى، ولم يكن متعلقًا بالبيع فقلت: بعتُ طعامَك بعضهُ مكيلٌ وبعضهُ موزونٌ، أي: بعته وهو موجود كذا, فيكون الوزن والكيل قد لحقاه قبل البيع وليسا بصفة للبيع, وتفهم هذا بأن الرجل إذا قال: بعتُكَ هذا الطعامَ مكيلًا وهذا الثوب مقصورًا, فعليه أن يسلمه إليه مكيلًا ومقصورًا, وإذا قال: بعتُكَ وهو مكيل فإنما باعه شيئًا موصوفًا بالكيل ولم يتضمنه البيع، تقول: خَوفتُ الناسَ ضعيفَهم وقويهم، كأنك قلت: خوفت ضعيفَ الناسِ وقويهم, وكان تقدير الكلام قبل أن ينقل فعل إلى "فَعَلتُ" خافهُ الناس ضعيفُهم وقويهم, فلما قلت: خَوَّفتُ صار الفاعلُ مفعولًا وقد بينت هذا فيما



ج / 2 ص -50- تقدم. ومثل ذلك ألزمت الناس بعضهم بعضًا، كان الأصل: لزمَ الناسُ بعضهم بعضًا، فلما قلت: ألزمتُ صار الفاعل مفعولًا، وصار الفعل يتعدى إلى مفعولين، وتقول: دفعتُ الناس بعضهم ببعضٍ على قولكَ: دفع الناسُ بعضُهم بعضًا فإذا قلت: دفعَ صار ما كان يتعدى لا يتعدى إلا بحرف جر فتقول: دفعَ الناسُ بعضهم ببعضٍ وتقول: فضلتُ متاعَكَ أسفلَهُ على أعلاه كأنه في التمثيل: فَضل متاعُكَ أسفلهُ على أعلاه، فلما قلت: فضَّلتُ صار الفاعل مفعولًا، ومثله: صككتُ الحجرينِ أحدهما بالآخرِ, كان التقدير: اصطك الحجرانِ أحدهما بالآخرِ، فلما قلت: صككتُ، صار الفاعل مفعولًا، ومثل ذلِكَ: "ولولا دفاعُ* اللهِ الناسَ بعضَهُم ببعضٍ"1 والمعنى: لولا أن دفعَ الناسُ بعضهُم ببعضٍ، ولو قلت: دفعَ الناسُ بعضهم بعضًا لم يحتج إلى الباء؛ لأنه فعل يتعدى إلى مفعول، قلت: دفَع اللّهُ الناسَ واستتر في الفعلِ عمله في الفاعل، لم يجز أن يتعدى إلى مفعول ثانٍ إلا بحرفِ جرٍّ، فعلى هذا جاءت الآيةُ؛ ولذلك دخلت الباء وتقول: عجبتُ من دفعِ الناسِ بعضهم بعضًا، إذا جعلت الناس فاعلين كأنك قلت: عجبت من أن دفع الناسُ بعضَهم بعضًا فإن جعلت الناس مفعولين قلت: عجبت من دفعِ الناسِ بعضِهم ببعضٍ؛ لأن المعنى: عجبتُ من أنْ دفَع الناسُ بعضهم ببعضٍ وتقول: سمعتُ وقع أَنيابهِ بعضِها فوقَ بعضٍ, جرى على قولك: وقعت أنيابهُ بعضُها فوقَ بعضٍ, فأنيابُه هنا فاعلةٌ وتقول: عجبتُ من إيقاعِ أنيابهِ بعضِها فوقَ بعضٍ جرًّا, فأنيابه هنا مفعولةٌ قامت مقام الفاعل, ولو قلت: أوقعت أنيابُه بعضُها فوقَ بعضٍ لقلت: عجبتُ من إيقاعي أنيابَهُ بعضَها فوقَ بعضٍ فنصبت أنيابَه, وتقول: رأيتُ متاعك بعضَهُ فوقَ بعضٍ إذا جعلت "فوقَ" في موضع الاسم المبني، على المبتدأ, وجعلت المبتدأ بعضهُ كأنك قلت: رأيتُ متاعَكَ بعضهُ أجود من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
البقرة: 251، وانظر الكتاب 1/ 76.
*
قال شعيب: هي قراءة نافع، وقرأ الباقون: {وَلَوْلا دَفْعُ} حجة القراءات ص140.



ج / 2 ص -51- بعضٍ، فإن جعلت "فوقَ" وأجودها حالًا نصبتَ "بعضَهُ" وإن شئت قلت: رأيت متاعَك بعضه أحسنَ من بعض فتنصبُ "أَحسنَ" على أنه مفعول ثانٍ وبعضه منصوب بأنه بدلٌ من متاعِكَ.
قال سيبويه: والرفع في هذا أعرف، والنصب عربي جيدٌ1، فما جاء في الرفع: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}2. ومما جاء في النصب: "خلقَ اللّهُ الزرافةَ يديها أطول من رجلِيها" قال: حدثنا يونس أن العرب تنشد هذا البيت لعبدة بن الطبيب:

فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُه هُلْك وَاحِدٍ ولكنهُ بُنيانُ قَوْمٍ تَهَدَّما3

وقال رجل من خثعم أو بجيلة:

ذَرِيني إنَّ أَمركِ لَنْ يُطاعَا وما ألفيتِني حِلْمي مُضَاعا4

وتقول: جعلتُ متاعَكَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ، كما قلت: رأيتُ متاعَك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 77.
2
الزمر: 60، وانظر الكتاب 1/ 77.
3
من شواهد سيبويه 1/ 77، على رفع "هلك واحد" ونصبه على جعل هلكه بدلًا من قيس، أو مبتدأ أو خبره فيما بعد.
رثى الشاعر: قيس بن عاصم المنقري وكان سيد أهل الوبر من تميم, فيقول: كان لقومه وجيرته مأوًى وحرزًا، فلما هلك تهدم بنيانهم وذهب عزهم.
وانظر: شرح المفصل لابن يعيش 3/ 65.
4
من شواهد سيبويه 1/ 78 على حمل الحلم على الضمير المنصوب بدلًا منه لاشتمال المعنى عليه، يخاطب عاذلته على إتلافه ماله، فيقول: ذريني من عذلك فإني لا أطيع أمرك، فالحلم وصحة التمييز والفعل يأمرني بإتلافه في اكتساب الحمد ولا أضيع، والبيت من قصيدة لعدي بن زيد العبادي.
وانظر: الهمع 2/ 172, والدرر اللوامع 2/ 165, والمفصل لابن يعيش 3/ 65، ومعاني الفراء 2/ 73، وشواهد الألفية للعاملي 345, وشرح شواهد ابن عقيل للجرجاوي/ 178.



ج / 2 ص -52- بعضَهُ فوقَ بعضٍ، وأنتَ تريد رؤية العين، وتنصب "فوقَ" بأنه وقع موقع الحال, فالتأويل: جعلت ورأيتُ متاعك بعضهُ مستقرًّا فوقَ بعضٍ أو راكبًا فوق بعضٍ أو مطروحًا فوق بعضٍ أو ما أشبه هذا المعنى "ففوقَ" ظرف نصبه الحال وقام مقام الحال كما يقوم مقام الخبر في قولك: زيدٌ فوقَ الحائِط إذا قلت: رأيتُ زيدًا في الدار, فقولك "في الدارِ" يجوز أن يكون ظرفًا لرأيت ويجوز أن يكون ظرفًا لزيدٍ, كما تقول: رميتُ من الأرضِ زيدًا على الحائِط فقولك: على الحائِط، ظرف يعمل فيه استقرار زيدٍ, كأنكَ قلت: رميتُ من الأرضِ زيدًا مستقرًّا على الحائِط, ونحو هذا ما جاء في الخبر: كتب عمر إلى أبي عبيدة بالشام: الغوثَ الغوثَ وأبو عبيدة وعمر -رحمه اللّهُ- كتب إليه من الحجاز، فالكتاب لم يكن بالشام ولك أن تعدي "جعلتَ" إلى مفعولين فتقول: جعلتُ متاعَكَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ, فتجعل "فوقَ بعضٍ" مفعولًا ثانيًا كما يكون في "ظننتُ" متاعَكَ بعضَه فوقَ بعضٍ "فجعلتُ" هذه إذا كانت بمعنى "علمتُ" تعدت إلى واحد مثل "رأيتُ" إذا كانت من رؤية العين، وإذا كانت جعلتُ ليست بمعنى علمتُ وإنما تكلم بها عن توهم أو رأيٍ أو قولٍ كقول القائل: جَعلتُ حسني قبيحًا وجعلتُ البصرةَ بغدادَ وجعلت الحلالَ حرامًا, فإذا لم ترد فجعلت العلاج والعمل في التعدي بمنزلة "رأيتُ" إذا أردت بها رؤية القلب ولم ترد رؤية العين ولك أن تعدي "جعلتُ" إلى مفعولين على ضرب آخر على أن تجعل المفعول الأول فاعلًا في الثاني, كما تقول: أَضربتُ زيدًا عمرًا تريد: أنك جعلتَ زيدًا يضربُ عمرًا فيكون حينئذٍ قولك: فوقَ بعضٍ مفعول مفعولٍ, وموضعه نصب تعدى إليه الفعل بحرف جرٍّ؛ لأنك إذا قلت: مررت بزيدٍ فموضع هذا نصب وهذا نحو: صُكَّ الحجرانِ أحدهما بالآخرِ, فإذا جعلت أنت أحدهما يفعل بالآخر قلت: صككتُ الحجرين أحدهما بالآخر ولم يكن بُدٌّ من الباء لأن الفعل متعدٍّ إلى مفعولٍ واحدٍ, فلما جعلت المفعول في المعنى فاعلًا احتجت إلى مفعول، فلم يتصل الكلام إلا بحرف جرٍّ، وقد بينت ذا فيما تقدم وأوضحته، فهذه ثلاثة أوجهٍ في نصب "جَعَلْتُ"



ج / 2 ص -53- متاعَكَ بعضَهُ على بعضٍ، وهي النصب على الحال، والنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ، والنصب على أنه مفعولُ مفعولٍ، فافهمهُ فإنه مشكل في كتبهم ويجوز الرفعُ فتقول: جعلت متاعَك بعضه على بعضٍ, وتقول: أبكيتَ قومكَ بعضهم على بعضٍ, فهذا كان أصله: بكى قومُكَ بعضُهم على بعضٍ, فلما نقلته إلى "أبكيتُ" جعلت الفاعل مفعولًا، وهو في المعنى فاعلٌ، إلا أنك أنت جعلتهُ فاعلًا وقولك: على بعضٍ لا يجوز أن يقع موقع الحال لأنك لا تريد أنّ بعضَهم مستقرٌّ على بعضٍ ولا مطروحٌ على بعضٍ, كما كان ذلكَ في المتاعِ, قال سيبويه: لم ترد أن تقول: بعضُهم على بعضٍ في عونٍ ولا أن أجسادَهم بعضًا على بعضٍ1، وقولك: بعضُهم، في جميع هذه المسائل منصوب على البدل, فإن قلت: حزنتُ قومك بعضُهم أفضلُ من بعضٍ، كان الرفع حُسنًا لأن الآخر هو الأول وإن شئت نصبت على الحال يعني "أفضلَ" فقلت: حَزنت قومَكَ بعضَهم أفضلَ من بعضٍ, كأنك قلت: حَزنت بعضَ قومِكَ فاضلين بعضهم.
قال سيبويه: إلا أن الأعرف والأكثر إذا كان الآخر هو الأول أن يبتدأ، والنصب عربي جيد2 وتقول: ضُربَ عبد اللهِ ظهرُه وبطنُهُ، ومُطرنا سهلنا وجبلنا، ومطرنَا السهل والجبل، وجميع هذا لك فيه البدل, ولك أن يكون تأكيدًا كأجمعينَ لأنك إذا قلت: ضُرب زيدٌ الظهرُ والبطنُ, فالظهر والبطن هما3 جماعة زيدٍ وإذا قلت: "مطرنا" فإنما تعني: مطرت بلادُنا, والبلاد يجمعها السهل والجبل.
قال سيبويه: وإن شئت نصبت فقلت: ضُربَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ، ومطرنا السهل والجبل، وضُرب زيد ظهرهُ وبطنهُ4، والمعنى: حرف الجر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 79.
2
انظر الكتاب 1/ 79.
3
في الأصل: "هو".
4
انظر الكتاب 1/ 79.



ج / 2 ص -54- وهو "في" ولكنهم حذفوه قال: وأجازوا هذا كما أجازوا: دخلتُ البيتَ، وإنما معناه: دخلت في البيتِ والعامل فيه الفعل، وليس انتصابه هنا انتصاب الظروف، قال: ولم يجيزوا حذف حرف الجر في غير السهلِ والجبلِ، والظهر والبطنِ، نظير هذا في حذف حرف الجر: نُبئت زيدًا، تريد: عن زيدٍ، وزعم الخليل أنهم يقولون: مطرنا الزرع والضرع، وإن شئت رفعت على البدل على أن تصيره بمنزلة أجمعينَ1، توكيدًا.
قال سيبويه2: إن قلت: ضُربَ زيد اليدُ والرجلُ، جاز أن يكون بدلًا، وأن يكون توكيدًا, وإن نصبته لم يحسن، والبدل كما قال جائزٌ حَسنٌ، والتوكيد عندي يَقْبُحُ إذا لم يكن الاسم المؤكدُ هو المؤكدُ, واليد والرجل ليستا جماعة زيدٍ وهو في السهلِ والجبلِ عندي يحسنُ لأن السهلَ والجبلَ هما جماعة البلادِ، وكذلك البطنُ والظهرُ، إنما يراد بهما3 جماعة الشخص، فإن أراد باليد والرجل أنه قد: ضُربت جماعة، واجتزأ بذكر الطرفين في ذلك جاز.
قال: وقد سمعناهم يقولون: ضربتهم4 ظهرًا وبطنًا، وتقول: ضربت قومَك صغيرهم وكبيرهم على البدل، والتأكيد جميعًا فإن قلت: أو كبيرهم لم يجز إلا البدل وتقول: زيد ضربتهُ أخاكَ فتبدل "أخاك" من الهاء؛ لأن الكلام الأول قد تم وقد خبرتك: أن البدل إنما هو اختصار خبرين فإن قلت: زيدٌ ضربتُ أخاكَ إيّاهُ لم يجز لأن الكلام الأول ما تم فإن قلت: مررتُ برجلٍ قائمٍ رجل أبوهُ، فجعلت أباه بدلًا من رجل، لم يجز لأنه لا يصلح أن تقول: مررت برجلٍ قائمٍ أبوهُ وتسكت ولا يتم بذلك الكلام, فإن قلت: مررتُ برجلٍ قائمٍ زيدٍ أبوهُ فقد أجازه الأخفش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 79.
2
انظر الكتاب 1/ 79.
3
في الأصل: "به".
4
في سيبويه 1/ 80: مطرتهم.



ج / 2 ص -55- على الصفة، وقال: لأن قولك: أبوه من صفة زيدٍ، فصار كأنه بعض اسمه، ولو كان بدلًا من زيدٍ لم يكن كلامًا، ونظير هذا: مررتُ برجلٍ قائمٍ رجلٌ يحبهُ, وبرجلٍ قائمٍ زيدٌ الضاربه.

الخامس من التوابع: وهو العطف بحرف:
حروف العطف عشرة أحرف يتبعنَ ما بعدهن ما قبلهن من الأسماء والأفعال في إعرابها.
الأول: [الواو]1 ومعناها إشراك الثاني فيما دخل فيه الأول وليس فيها دليل على أيهما كان أولًا نحو قولك: جاء زيدٌ وعمرٌو، ولقيت بكرًا وخالدًا، ومررت بالكوفةِ والبصرةِ، فجائز أن تكون البصرة أولًا، وجائز أن تكون الكوفةُ أولًا، قال الله عز وجل: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}2 والركوع قبل السجود.
الثاني: الفاء. وهي توجب أن الثاني بعد الأول، وأن الأمر بينهما قريبٌ، نحو قولك: رأيتُ زيدًا فعمرًا، ودخلت مكةَ فالمدينةَ3، وجاءني زيدٌ فعمرٌو، ومررت بزيدٍ فعمرٍو، فهي تجيء لتقدم الأول واتصال الثاني فيه.
الثالث: ثُمَّ. وثم مثل الفاء، إلا أنها أشد تراخيًا، وتجيء لتعلم أن بين الثاني والأول مهلة، تقول: ضربتُ زيدًا ثم عمرًا، وجاءني زيدٌ ثم عمرٌو، ومررت بزيدٍ ثم عمرٍو.
الرابع: أو. ولها ثلاثة مواضع، تكون لأحد الشيئين بغير تعيينه عند

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت "الواو" لإيضاح المعنى، وانظر الموجز/ 65.
2
آل عمران: 43.
3
في سيبويه 2/ 304 وإنما جئت بالواو لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما، وليس فيه دليل على أن أحدهما قبل الآخر، وانظر سيبويه أيضًا 1/ 219.



ج / 2 ص -56- شك المتكلم، أو قصده أحدهما، أو إباحة وذلك قولك: أتيت زيدًا أو عمرًا، وجاءني رجلٌ أو امرأةٌ هذا إذا شك, فأما إذا قصد بقوله أحدهما، فنحو: كُلِ السمكَ أو اشربِ اللبنَ، أي: لا تجمعهما, ولكن اختر أيهما شئت, وكقولك: أعطني دينارًا أو اكسني ثوبًا, والموضع الثالث الإِباحة1، وذلك قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، وائت المسجد أو السوق، أي: قد أذنت لك في مجالسة هذا الضرب من الناسِ, وعلى هذا قولُ الله عز وجلَ: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}2.
الخامس: إما. وإما في الشك والخبر بمنزلة "أو" وبينهما فصل، وذلك أنك إذا قلت: جاءني زيدٌ أو عمرٌو وقع الخبر في "زيدٍ" يقينًا حتى ذكرت "أو" فصار فيه وفي عمرٍو شك و"إما" تبتدئ به شاكًّا, وذلك قولك: جاءني إما زيدٌ وإما عمرٌو أي: أحدهما, وكذلك وقوعها للتخيير3، تقول: اضرب إما عبد الله وإما خالدًا، فالآمر لم يشك ولكنه خير المأمور كما كان ذلك في "أو" ونظيره قول الله عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}4 وكقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}5.
السادس: "لاَ". وهي تقع لإخراج الثاني مما دخل فيه الأول، وذلك قولك: ضربتُ زيدًا لا عمرًا، ومررت برجلٍ لا امرأةٍ6، وجاءني زيدٌ لا عمرٌو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في سيبويه 1/ 489 "تقول: جالس عمرًا أو خالدًا أو بشرًا، كأنك قلت: جالس أحد هؤلاء، ولم ترد إنسانًا بعينه، ففي هذا دليل على أن كلهم أهل أن يجالس، كأنك قلت: جالس هذا الضرب".
2
الإنسان: 24.
3
أضفت كلمة "التخيير" لإيضاح المعنى.
4
الإنسان: 3.
5
سورة محمد "صلى الله عليه وسلم": 4.
6
في سيبويه 1/ 218 "ومن ذلك": مررت برجل لا امرأة، أشركت بينهما "لا" في الباء وأحقت المرور للأول وفصلت بينهما عند من التبس عليه فلم يدرِ بأيهما مررت.



ج / 2 ص -57- السابع: بلْ. ومعناها الإِضراب عن الأول، والإِثبات للثاني نحو قولك: ضربتُ زيدًا بلْ عمرًا, وجاءني عبد الله بلْ أخوهُ, وما جاءني رجلٌ بل امرأةٌ.
الثامن: لكنْ. وهي للاستدراك بعد النفي، ولا يجوز أن تدخل بعد واجب إلا لترك قصةٍ إلى قصةٍ "تامةٍ"، فأما مجيئها للاستدراك بعد النفي فنحو قولك: ما جاءني زيدٌ لكنْ عمرٌو, وما رأيت رجلًا لكن امرأة، ومررت بزيدٍ لكنْ عمرٍو، لم يجز1.
التاسع: أَمْ. وهي تقع في الاستفهام في موضعين: فأحدهما أن تقع عديلة الألف على معنى "أي" وذلك نحو قولك: أزيدٌ في الدار أم عمرٌو؟ وكقولك: أأعطيتَ زيدًا أم أحرمته؟ فليس جوابُ هذا لا، ولا "نَعَمْ" كما أنه إذا قال: أيهما لقيتَ أو أي الأمرين فعلت؟ لم يكن جواب هذا لا ولا "نعم" لأن المتكلم مدعٍ أن أحد الأمرين قد وقع، لا يدري أيهما هو فالجواب أن يقول: زيدٌ أو عمرٌو2، فإن كان الأمر على غير دعواه فالجواب: أن تقول: لم ألقَ واحدًا منهما، [أو كليهما]3، فمن ذلك قول الله عز وجل: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}4، ومثل ذلك: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ}5 فخرج هذا من الله مخرج التوقيف والتوبيخ، ومخرجه من الناس يكون استفهامًا، ويكون توبيخًا6، ويدخل في هذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل الجملة مسبوقة "بما" وقد حذفتها؛ لأنه لا مانع من الاستدراك بعد النفي، والذي يريده المصنف عدم التدارك بعد الإيجاب، ولكنها يثبت بها بعد نفي. وانظر الكتاب 1/ 216.
2
في سيبويه 1/ 482-483 هذا باب "أم" إذا كان الكلام استفهامًا. ويقع الكلام بها في الاستفهام على وجهين: على معنى: أيهم، وأيهما.
3
أضفت "أو كليهما" لإيضاح المعنى.
4
النازعات: 27.
5
الدخان: 37.
6
انظر المقتضب 3/ 287.



ج / 2 ص -58- الباب التسوية؛ لأن كل استفهام فهو تسوية, وذلك نحو قولك: ليتَ شعري أزيدٌ في الدارِ أمْ عمرٌو؟ وسواءٌ عليَّ أذهبت أم جئتَ فقولك: سواءٌ عليَّ تخبر أن الأمرين عندك واحدٌ وإنما استوت التسوية والاستفهام لأنك إذا قلتَ مستفهمًا: أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ فهما في جهلك لهما مستويان لا تدري أن زيدًا في الدار كما لا تدري أن عمرًا فيها, وإذا قلت: قد علمتُ أزيدٌ في الدار أم عمرٌو, فقد استويا عند السامع كما استوى الأولانِ عند المستفهم, وأي داخلة في كل موضع تدخل فيه أم مع الألف, تقول: قد علمتُ أيّهما في الدار, تريد أذَا أم ذَا, قال الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}1، وقال: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}2 فأي تنتظم معنى الألف مع أم جميعًا، وأما الموضع الثاني من موضعي "أمْ" فإن تكون منقطعة مما قبلها خبرًا كان أو استفهامًا, وذلك نحو قولك فيما كان خبرًا: إنَّ هذا لزيد أم عمرٌو يا فتى3، وذلك أنك نظرت إلى شخصٍ فتوهمته زيدًا فقلت [على]4 ما سبق إليك، ثم أدركك الظن أنه عمرو، فانصرفت عن الأول, فقلت: أم عمرٌو مستفهمًا، فإنما هو إضراب على معنى "بَلْ" إلا أن ما يقعُ بعد "بَلْ" يقينٌ وما يقع بعد "أمْ" مظنون مشكوك فيه, وذلك أنك تقول: ضربتُ زيدًا ناسيًا أو غالطًا ثم تذكر فتقول: بَلْ عمرًا مستدركًا مثبتًا للثاني تاركًا للأول فهي تخرج من الغلط إلى استثباتٍ ومن نسيان إلى ذكر و"أمْ" معها ظن أو استفهام وإضراب عما كان قبله ومن ذلك: هل زيدٌ منطلقٌ أم عمرٌو يا فتى قائمًا, أضرب عن سؤاله عن انطلاق زيد، وجعل السؤال عن عمرو، فهذا مجرى هذا، وليس على منهاج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الكهف: 19.
2
الكهف: 12.
3
في شرح الكافية للرضي 2/ 347 "المتصلة يليها المفرد والجملة بخلاف المنقطعة, فإنه لا يليها إلا الجملة ظاهرة الجزأين نحو: أزيد عندك أم عمرو، مقدرًا أحدهما، نحو: إنها إبل أم شاء، أي: أم هي شاء".
4
أضفت كلمة "على" لتوضيح المعنى.



ج / 2 ص -59- قولك: أزيدٌ في الدار أم عمرٌو، وأنت تريد: أيهما في الدار لأن "أَمْ" عديلة الألف ولا تقع "هَلْ" موقع الألف مع "أَمْ" وقد تدخل "أَمْ" على "هلْ". قال الشاعر:

أمْ هَلْ كَبيرٌ بكى1...

العاشر: حتى. تقول: ضربتُ القومَ حتىَّ زيدًا، وقد ذكرتها كيف تكون عاطفة فيما تقدم2 حين ذكرناها مع حروف الخفض وأفردنا لها بابًا, واعلم أن قومًا يُدخلون ليس في حروف العطف ويجعلونها كلا، وهذا شاذ في كلامهم، وقد حكى سيبويه أن قومًا يجعلونها "كَما" فيقولون: لَيس الطيبُ إلا المسكَ3.
واعلم: أن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض فإن وجدت ذلك في كلام فقد أُخرج أحدهما من حروف النسق، وذلك مثل قولهم: لم يقم عمرٌو ولا زيدٌ، الواو نَسقٌ و"لا" توكيد للنفي, وكذلك قولك: والله لا فعلتُ ثم والله لا فعلتُ, ثم نَسق والواو قَسمٌ، وحروف العطف لا يفرق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 487 على دخول "أم" المنقطعة على "هل" و"أم" المتصلة لا تدخل على أدوات الاستفهام، أما "أم" المنقطعة فتدخل عليها إلا ألف الاستفهام.
والشاهد جزء من صدر بيت وتكملته:

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته إثر الأحبة يوم البين مشكوم

المشكوم: المجزى، وقال الشجري: مشكوم: مثاب مجازى.
إثر الأحبة -بكسر الهمزة وسكون الثاء- وفتحها لغة.
البين: الفراق, وإثر ويوم متعلقان "ببكى".
والعبرة: الدمعة، أي: لم يشتفِ من البكاء؛ لأن في ذلك راحة والبيت مطلع قصيدة لعلقمة بن عبدة.
وانظر المقتضب 3/ 290, وأمالي ابن الشجري 2/ 334, وابن يعيش 8/ 153، والخزانة 4/ 516, والمفضليات/ 397, وشرح المفضليات للأنباري/ 786, وديوان علقمة/ 12.
2
ذكر ذلك في الجزء الأول.
3
انظر الكتاب 1/ 31.



ج / 2 ص -60- بينها وبين المعطوف بشيء مما يعترض بين العامل والمعمول فيه، والأشياء التي يعترض بها: الأيمانُ، والشكوكُ والشروطُ. وقد يجوز ذلك في "ثم وأو ولا" لأنها تنفصل وتقوم بأنفسها وقد يجوز الوقوف عليها فتقول: قامَ زيدٌ ثم والله عمرٌو وثم أظن عمرٌو و"لا" التي للعطف يصح أن تلي الماضي لأنه قد غلب عليه الدعاء وقد يجوز أن يكون مع الماضي بمنزلة "لَم" وذلك قولك: زيدٌ قامَ لا قعد, فيلتبس بالدعاء فإن لم يلتبس جاز عندي وقد جاءت "لا" نافية مع الماضي في غير خبر كما جاءت "لَم" وذلك قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى}1 وتقول: لم يقمْ زيدٌ ولم يقعد، ولا يجوز: ولا يقعدُ إلا أن ترفعه وكذلك: لن يقومَ زيدٌ ولا يقعدُ، بواوٍ وغير واوٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
القيامة: 31.



ج / 2 ص -61- باب العطف على الموضع:
الأشياء التي يقال: إن لها موضعًا غير لفظها على ضربين: أحدهما اسمٌ مفرد مبني، والضرب الآخر اسم قد عمل فيه عامل أو جعل مع غيره بمنزلة اسم، فيقال: إن الموضع للجميع، فإن كان الاسم معربًا مفردًا، فلا يجوز أن يكون له موضع؛ لأنا إنما نعترف بالموضع إذا لم يظهر [في]1 اللفظ الإِعراب، فإذا ظهر الإِعراب فلا مطلوب.
الضرب الأول:
وهو الاسم المضمر والمبني، وذلك نحو: هذا، تقول: إن هذا أخوكَ، فموضع "هذَا" نصب؛ لأنك لو جعلت موضع هذا اسمًا معربًا قلت: إن زيدًا أخوكَ فمن أجل هذا جاز أن تقول: إن هذا وزيدًا قائمان؛ ولهذا جاز أن تقول: يا زيدُ العاقلَ، فتنصب على الموضع، وإنما جاز الرفع على اللفظ لأنه مبني يشبه المعرب؛ لاطراده في الرفع، وقد بينت هذا في باب النداء، وليس في قولك "هذا" حركة تشبه الإِعراب فإذا قلت: يا زيد وعمرو فحكم الثاني حكم الأول؛ لأنه منادى فهو مضموم، وقد قالوا على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت "في" لإيضاح المعنى.



ج / 2 ص -62- ذلك: يا زيدُ والحارثُ، كما دخلت الألف واللام، و"يا" لا تدخل عليهما, ومن قال: إن موضع الاسم الذي عملت فيه "إنَّ" رفعٌ فقد غلط من قبل أن المعرب لا موضع له, ومن أجل أنه يلزمه أن يكون لهذا موضعان في قولك: إن هذا وزيدًا أخواكَ؛ لأن موضع زيدٍ عنده إذا قال: إن زيدًا, رفعٌ, فيلزمه أن يكون موضع "هذا" نصبًا ورفعًا.
الضرب الثاني:
ينقسم أربعة أقسام: جملة قد عمل بعضها في بعضٍ، أو اسم عمل فيه حرف, أو اسمٌ بني مع غيره بناء, أو اسم موصول لا يتمُّ إلا بصلته.
الأول: جملة قد عمل بعضها في بعض: اعلم أن الجمل على ضربين: ضربٍ لا موضع له وضرب له موضع. فأما الجملة التي لا موضع لها فكل جملة ابتدأتها، فلا موضع لها نحو قولك مبتدئًا: زيدٌ في الدار وعمرٌو عندكَ فهذه لا موضع لها.
الضرب الثاني: الجملة موقع اسم مفرد نحو قولك: زيدٌ أبوهُ قائمٌ، فأبوه قائم جملة موضعها رفع؛ لأنك لو جعلت موضعها اسمًا مفردًا نحو: منطلق لصلح, وكنت تقول: زيدٌ منطلقٌ فتقول على هذا: هندٌ منطلقةٌ وأبوها قائمٌ فيكون موضع أبوها "قائمٌ" رفعًا؛ لأنك لو وضعت موضع هذه الجملة "قائمةً" لكان رفعًا, فإن قلت: هندٌ أبوها قائمٌ ومنطلقةٌ جاز, والأحسن عندي أن تقدم "منطلقةً" لأن الأصل للمفرد، والجملة فرع ولا ينبغي أن تقدم الفرع على الأصل إلا في ضرورة شعرهم، وكذلك: مررت بامرأةٍ أبوها شريفٌ وكريمةٌ حقه أن يقول: بامرأةٍ كريمةٍ وأبوها شريفٌ؛ لأن الأصل للمفرد وإن وصفه مثله مفردا, وتقديم الجملة في الصفة عندي على المفرد أقبح منه في الخبر, إذا قلت: هندٌ أبوها كريمٌ وشريفةٌ؛ لأن أصل الصفة أن تكون مساوية للموصوف تابعة له في لفظها ومعرفتها ونكرتها، وليس الخبر، من



ج / 2 ص -63- المبتدأ بهذه المنزلة، فإذا قلت: زيدٌ أبوه قائمٌ، و[كريم]1 لزيدٍ لم يحسنْ؛ لأنه ملبس، يصلح أن يكون لزيدٍ وللأبِ, والأولى أن يكون معطوفًا على "قائمٍ" لما خبرتك فإن لم يلبس صلُحَ, وكذلك حق حروف العطف أن تعطف على ما قرب منها أولى.
القسم الثاني: اسم عمل فيه حرف.
هذا القسم على ضربين:
ضرب يكون العامل فيه حرفًا زائدًا للتوكيد سقوطه لا يخل بالكلام، بل يكون الإِعراب على حقه والكلام مستعمل.
والضرب الآخر أن يكون الحرف العامل غير زائد، ومتى أسقط لم يتصل الكلام بعضه ببعض.
فالضرب الأول: نحو قولك: لستَ بقائمٍ ولا قاعدٍ، الباء زائدة لتأكيد النفي, ولو أسقطتها لم يخلّ بالكلام واتصل بعضه ببعضٍ، فموضع "بقائمٍ" نصب لأن الكلام المستعمل قبل دخولها "لستَ قائمًا" فهذا لك أن تعطف على موضعه فتقول: "لستَ بقائمٍ ولا قاعدًا"، ومن ذلك: هل من رجلٍ عندك؟ وما من أحد في الدار، فهذا لك أن تعطف على الموضع لأن موضع "من رجلٍ" رفعٌ، وكذلك: خَشَّنتُ بصدره، وصدر زيدٍ2، ولو أسقطت الباء كان جيدًا فقلت: خَشنت صدره وصدر زيدٍ، وكذلك: كفى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت كلمة "كريم" لأن المعنى يقتضيها.
2
قال المبرد في المقتضب 4/ 73: "وإنما اختاروا إعمال الآخر؛ لأنه أقرب من الأول ألا ترى أن الوجه أن تقول: خشنت بصدرك وصدر زيد، فتعمل الباء؛ لأنها أقرب، وانظر الكتاب 1/ 37".



ج / 2 ص -64- بالله1، إنما هو: كفى الله، فعلى ذا تقول: كفى بزيدٍ وعمروٍ, ومن ذلكَ: إن زيدًا في الدار وعمرًا، ولو أسقطت "إنّ" لكان: زيدٌ في الدار وعمرٌو, فإن مع ما عملت فيه في موضع رفعٍ, وينبغي أن تعلم أنه ليس لك أن تعطف على الموضع الذي فيه حرف عامل إلا بعد تمام الكلام، من قبل أن العطف نظير التثنية والجمع ألا ترى أن معنى قولك: قامَ الزيدانِ إنما هو: قامَ زيدٌ وزيدٌ فلما كان العاملان مشتركين في الاسم ثُنيا ولو اختلفا لم يصلح فيهما إلا الواو, فكنت تقول: قامَ زيدٌ وعمرٌو, فالواو نظير التثنية وإنما تدخل إذا لم تكن التثنية, فلما لم يكن يجوز أن يجتمع في التثنية الرفع والنصب، ولا الرفع والخفض، ولا أن يعمل في المثنى عاملان، كذلك لم يجز في المعطوف والمعطوف عليه. فإذا تم الكلام عطفت على العامل الأول، وكنت مقدرًا إعادته وإن كنت لا تقيده في اللفظ لأنك مستغنٍ عنه, ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: إن زيدًا وعمرٌو منطلقان لما خبرتك به, ولأن قولك: "منطلقانِ" يصير خبرًا لمرفوع ومنصوب وهذا مستحيل، فإذا قلت: "إن زيدًا منطلق وعمرٌو" صَلُح؛ لأن الكلام قد تم ورفعت، لأن الموضع للابتداء وإن زائدةٌ فعطفت على موضع "إنّ" وأعملت الابتداء وأضمرت الخبر وحذفته اجتزاءً بأن الأول يدل عليه, فإن اختلف الخبران لم يكن بد من ذكره ولم يجز حذفهُ نحو قولك: إن زيدًا ذاهبٌ وعمرٌو جالسٌ؛ لأن "ذاهبًا" لا يدل على "جالس" فإذا تم الكلام فلك العطف على اللفظ والموضع جميعًا, وإذا لم يتم لم يجز إلا اللفظ فقط وكذلك لو قلت: "هَلْ من رجلٍ وحمارٍ موجودان" فإن قلت: وحمارٌ جاز كما تقول: إن عمرًا وزيدًا منطلقان, وكذلك إذا قلت: خشنت بصدره وصدر زيدٍ عطفت على "خشنت" ولم يعرج على الباء2 وجاز؛ لأن الكلام قد تم، فكأنك قد أعدت: خشنت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في كتاب الله العزيز: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} النساء: 79.
2
جعل ابن جني في الخصائص 2/ 278 "خشن" مما يتعدى بنفسه تارة، وبحرف الجر أخرى مثل جاء، ومعنى: خشنت صدره: أوغر صدره وأغضبه. وانظر: المقتضب 4/ 73.



ج / 2 ص -65- ثانية، فالفرق بين العطف على الموضع والعطف على اللفظ أن المعطوف على اللفظ كالشيء يعمل فيهما عامل واحد؛ لأنهما كاسم واحد والمعطوف على المعنى يعمل فيهما عاملان, والتقدير تكرير العامل في الثاني إذا لم يظهر عمله في الأول, وتصير كأنها جملة معطوفة على جملة وكل جملتين يحذف من أحدهما شيء ويقتصر بدلالة الجملة الأخرى على ما حذف, فهي كالجملة الواحدة ونظير هذا قولهم: ضربتُ وضربني زيدٌ, اكتفوا بذكر زيد عن أن يذكروا أولًا إلا أن هذا حذف منه المعمول فيه، وكان الثاني دليلًا على الأول، وذاك حذف العامل منه إلا أن حذف العامل إذا دل عليه الأول أحسن مع العطف؛ لأن الواو تقوم مقام العامل في كل الكلام.
الضرب الآخر: أن يكون الحرف العامل غير زائد، وذلك نحو قولك: مررتُ بزيدٍ وذهبتُ إلى عمرٍو ومُرَّ بزيدٍ وذهب إلى عمرو، فتقول: إن موضع "بزيدٍ" في: "مررتُ بزيدٍ" منصوب، وموضع إلى عمرو في: ذهبت إلى عمرو نصب، وموضع بزيد في: "مر بزيدٍ" رفع، وإنما كان ذلك لأنك لو جعلت موضع: "مررتُ" ما يقارب معناه من الأفعال المتعدية لكان زيد منصوبًا نحو: أتيتُ زيدًا, ولو أسقطت الباء في قولك: مررت بزيدٍ لم يجز؛ لأن الأفعال التي هي غير متعدية في الأصل لا تتعدى إلا بحرف جر، وقد بينت فيما تقدم صفة الأفعال المتعدية والأفعال التي لا تتعدى, فتقول على هذا إذا عطفت على الموضع: مررتُ بزيدٍ وعمرًا وذهبتُ إلى بكرٍ وخالدًا ومُرَّ بزيدٍ وعمروٍ، كأنك قلت: وأتى عمرٌو، وأتيتُ عمرًا، ودل "مررتُ" على "أتيتُ" فاستغنيت بها وحذفت, قال الشاعر:

جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهم أو مِثْل أسرةِ مَنظورِ بن سيارِ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 86 و1/ 48 "على حمل الاسم المعطوف على موضع الباء وما عملت فيه؛ لأن معنى قوله: جئتني بمثل بني بدر: هاتني مثلهم، فكأنه قال: هات مثل بني بدر أو مثل أسرة منظور والبيت لجرير يخاطب الفرزدق فيفخر عليه بسادات قيس، لأنهم أخواله، وبنو بدر من فزارة وفيهم شرف قيس بن عيلان وبنو سيار من سادات فزارة أيضًا، وفزارة من ذبيان من قيس، وأسرة الرجل: رهطه الأدنون إليه، واشتقاقه من أسرت الشيء إذا شددته وقويته".
لأن الإنسان يقوى برهطه على العدو ويعز, وانظر المقتضب 4/ 153 ورواه: جيئوا بمثل، والخصائص 2/ 278, وجمهرة الأنساب/ 258, وديوان جرير/ 312, ومعاني الفراء 2/ 22, والمحتسب 2/ 78, وابن يعيش 6/ 96.



ج / 2 ص -66- كأنه قال: أو هاتِ مثل أسرة منظور؛ لأنّ جئني بمثل بني بدرٍ، يدل على: هاتِ أو أعطني وما أشبه هذا.
القسم الثاني: اسم بني مع غيره.
وذلك نحو: خمسةَ عشرَ وتسعةَ عشرَ، فحكم هذا حكم المبني المفرد، تقول: إن خمسةَ عشرَ درهمًا ويكفيك خمسةَ دنانير وخمسةُ دنانير النصب على "إنَّ" والرفع على موضع "إنَّ" وقولك: لا رجل في الدار بمنزلةِ: خمسة عشر في البناء إلا أن "رجل" مبني يضارع المعرفة فجاز لك أن تقول: لا رجلَ وغلامًا لكَ فتعطف عليه لأن "لا" تعمل في النكرة عمل "إنّ" فبنيت مع "لا" على الفتح الذي عملته "لا" ومنعت التنوين؛ ليدل منع التنوين على البناء لأنه اسم نكرة منصوبٌ متمكنٌ ودل على ذلك قولهم: لا ماءَ ماءَ باردًا لك, ألا تراهم بنوا ماء مع ماءٍ فعلمت بذلك أن هذا الفتح قد ضارعوا به المبني وأشبه خمسة عشر وكان هو الدليل على أن "لا" مبنية مع النكرة المفردة إذا قلت: لا ماءَ لك وقد بينت هذا في باب النفي1، فلهذا جاز أن تقول لا رجل وغلامًا لك على اللفظ، ولا رجل وغلامٌ لك على موضع "لا" ويدل على بناء رجل في قولك: لا رجلَ أنه لا يجوز أن تقول: لا رجلَ وغلامُ لكَ فلو لم يعدلوا فتحة النصب إلى فتحة البناء [لما]2 جاز؛ لأنّ الواو تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول، ولو وجدنا في كلامهم اسمًا نكرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الجزء الأول/ 441 وما بعدها.
2
أضفت "لما" لأن المعنى يحتاجها.



ج / 2 ص -67- متمكنًا ينصب بغير تنوين لقلنا: إنه منصوب غير مبني، فكما تقول: إن المنادى المفرد بني على الضم كالمعرب المرفوع، تقول في هذا: إنه معرب كالمبني المفتوح؛ ولهذا لا يجوز أن ينعت الرجل على الموضع1، فيرفع لأن موضع "رجلٍ" نصبٌ؛ لأنه لو كان موضعه مضافًا ما كان إلا نصبًا؛ فلهذا قلنا: إنه بني على التقدير الذي كان له وموضع "لا" مع رجلٍ رفعٌ موضعُ ابتداءٍ كما كانت إن مع ما عملت فيه, إلا أن النحويين أجازوا: لا رجلَ ظريفٌ وقالوا: رفعناه على موضع: لا رجل وإنما جاز هذا مع "لا" ولم يجز مع "أن" لأن "لا" مع رجلٍ بمنزلة اسم واحد وليست "إنَّ" مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد, لو قلت: إن زيدًا العاقلُ منطلقٌ لم يجز وقد ذكرت هذا في باب إنّ ويدلك أيضًا على أن "لا" مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل بين "لا" والاسم ومتى فعلت ذلك لم يكن إلا الرفع، وذلك قولك: لا لك مالٌ, ولا تقول: لا لكَ مالَ، لأن "لكَ" قد منع البناء وقد حكي عن بعضهم: لا رجلَ وغلامَ لك فحذف التنوين من الثاني وشبهه بالعطف على النداء وهذا شاذٌّ لا يعرج عليه وإنما حكمنا على "لا" أنها نصبت في قولك: لا رجلَ لقولهم: لا رجلَ وغلامًا لكَ, وأنه يجوز أن تقول: لا رجل وغلامًا منطلقان, فلو لم تكن "لا" نصبت لم يجز أن تعطف على رجل منصوبًا, فهذا الفرق بين "لا" رجلَ وخمسة عشَر. وقد عرفتك من أين تشابها ومن أين افترقا, وأما عطف المفرد على المفرد في النداء فلا يجوز أن تعطفه على الموضع لو قلت: يا زيدُ وعمرًا لم يجز من قبل أن زيدًا إنما بني؛ لأنه منادى مخاطب باسمه. والصلة التي أوجبت البناء في زيدٍ هي التي أوجبت البناء في عمرٍو وهُما في ذلك سواءٌ, ألا ترى أنهم يقولون: يا عبد الله وزيدٌ فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة، ولولا ذلك لما جاز وليس مثل هذا في سائر ما يعطف عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل: الموضوع.



ج / 2 ص -68- القسم الرابع: وهو ما عطف على شيء موصول لا يتم إلا بصلته.
وذلك قولك: ضربت الذي في الدارِ وزيدًا عطفت على الذي مع صلتها ولو عطفت على الذي مفردًا، لم يجز ولم يكن اسمًا معلومًا، وكذلك "مَن" إذا كانت بمعنى الذي تقول: ضربتُ مَن في الدار وزيدًا, ومثل ذلك "مَا" إذا كانت بمعنى "الذي" تقول: أخرجتُ ما في الدار وزيدًا, فالذي ومَنْ وما مبهمات لا تتم في الإِخبار إلا بصلات، وما يوصل فيكون كالشيء الواحد "أن" مع صلتها تكون كالمصدر نحو قولك: يعجبني أن تقوم, فموضع أن تقوم رفع لأن المعنى: يعجبني قيامُك وكذلك إن قلت: كرهتُ أن تقومَ، فموضع أن تقوم نصب1، وعجبت مِنْ أن تقومَ خَفضٌ, فتقولُ على هذا: عجبتُ من أن يقومَ زيدٌ وقعودِكَ، تريد: من قيامِ زيدٍ وقعودِك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أي: إنه مفعول به، على تقدير: كرهت قيامك.



ج / 2 ص -69- باب العطف على عاملين:
اعلم: أن العطف على عاملين، لا يجوز من قبل أن حرف العطف إنما وضع لينوب عن العامل، ويغني عن إعادته، فإن قلت: قامَ زيدٌ وعمرٌو فالواو أغنت عن إعادة "قام" فقد صارت ترفع كما يرفع قامَ, وكذلك إذا عطفت بها على منصوب نحو قولك: إن زيدًا منطلقٌ وعمرًا فالواو نصبت كما نصبت "إنَّ" وكذلك في الخفض إذا قلت: مررت بزيدٍ وعمروٍ, فالواو جرت كما جرت الباء فلو عطفت على عاملين أحدهما يرفع والآخر ينصب, لكنت قد أحلت؛ لأنها كان تكون رافعةً ناصبة في حال قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن تقول: مَرَّ زيدٌ بعمروٍ وبكرٌ خالدٍ, فتعطف على الفعل والباء ولو جاز العطف على عاملين لجاز هذا واختلفوا إذا جعلوا المخفوض يلي الواو, فأجاز الأخفش1 ومن ذهب مذهبه: مَرَّ زيدٌ بعمرٍو وخالدٌ بكرٍ، واحتجوا بأشياء منها قول الشاعر:

هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمورَ بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا

فَلَيْسَ بآتِيكَ مَنْهِيُّهَا ولاَ قَاصِرٍ عَنْكَ مأمورُهَا2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر المقتضب 4/ 195, وشرح الكافية 1/ 299, وابن يعيش 3/ 27, والمغني 2/ 101.
2
من شواهد سيبويه 1/ 31 على جواز النصب في الخبر المعطوف على خبر "ليس" وإن كان الآخر أجنبيًّا؛ لأن "ليس" تعمل في الخبر مقدمًا ومؤخرًا لقوتها، وقال ابن هشام في المغني: ومما يشكل على مذهب سيبويه قوله: هون عليك؛ لأن "قاصر" عطف على مجرور الباء، فإن كان مأمورها عطفًا على مرفوع "ليس" لزم العطف على معمول عاملين، وإن كان فاعلًا بقاصر لزم عدم الارتباط بالمخبر عنه، إذ التقدير حينئذ: فليس منهيها بقاصر عنك مأمورها.
والبيتان للأعور الشني, وكان الخليفة عمر "رضي الله عنه" كثيرًا ما يتمثل بالبيتين، وهو على المنبر.
وانظر: المقتضب 4/ 196, والمغني 1/ 128 و2/ 101, والسيوطي/ 146, والأشباه والنظائر 4/ 12, وشرح السيرافي 1/ 420.



ج / 2 ص -70- وقال النابغة:

فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ لَنَا أنْ نَرُدَّها صِحَاحًا ولا مستنكرًا أن تُعقَّرا1

وما يحتجون به:
ما كل سوداءَ تمرةً، ولا بيضاءَ شحمةً، فعطف على كُل وما، ومن ذلك:

أَكُلَّ امرِئٍ تَحْسَبِينَ امرأً ونَارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نَارَا2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 32 قال الأعلم: فرد قوله: ولا مستنكرًا على قوله "بمعروف" وجعل الآخر من سبب الأول؛ لأن الرد ملتبس بالخيل، وكأنه والعقر متصل بضميرها، فكأنه اتصل بضمير الرد حيث كان من الخيل... فتقدير البيت: فليس بمعروفة خلينا ردها صحاحًا ولا مستنكر عقرها، لما ذكر من التباس الرد بالخيل، فكأنه من الخيل, والبيت للنابغة الجعدي من قصيدة قالها حينما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنشده إياها.
وانظر: المقتضب 4/ 194، والخزانة 1/ 513، واللآلئ/ 247، وأمالي المرتضى 1/ 267، وجمهرة أشعار العرب/ 303، وديوان النابغة/ 73.
2
من شواهد سيبويه 1/ 33 أراد: "وكل نار" فحذف لما جرى من ذكر كل مع تقديمه المجرورين وحصول الرتبة في آخر الكلام، واتصال المجرور بحرف العطف لفظًا ومعنى... فسيبويه يحمله على حذف مضاف تقديره: وكل نار إلا أنه حذف، ويقدرها موجودة، والأخفش يحمله على العطف على عاملين فيخفض نارًا بالعطف على امرئ المخفوض بكل، وينصب نارًا بالعطف على الخبر.
والبيت لأبي دواد الإيادي حارثة بن الحجاج من إياد بن نزار, شاعر قديم من شعراء الجاهلية. وانظر المحتسب 2/ 281، وأمالي ابن الشجري 1/ 196, ومفاتيح العلوم: 69، والكامل/ 163، وابن يعيش 3/ 27، ومشكل إعراب القرآن 489.



ج / 2 ص -71- ومذهب سيبويه في جميع هذه أن لا يعطف على عاملين، ويذكر أن في جميعها تأويلًا يرده إلى عمل واحد، ونحن نذكر ما قاله سيبويه في باب "ما"1 تقول: ما أبو زينب ذاهبًا ولا مقيمةٌ أُمها، ترفع لأنك لو قلت: ما أبو زينبَ مقيمةً أمها لم يجز؛ لأنها ليست من سببه ومثل ذلك قول الأعور الشني: هَوّنْ عليكَ فأنشد البيتين ورفَع, ولا قاصر عنك مأمورها, وقال: لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي ومعنى كلامه أنه لو كان موضع ليس "ما" لكان الخبر إذا تقدم في "ما" على الاسم لم يجز إلا الرفع, لا يجوز أن تقول: ما زيدٌ منطلقًا ولا خارجًا معنٌ, فإن جعلت في "خارجٍ معن" شيئًا من سبب زيدٍ جاز النصب، وكان عطفًا على الخبر لأنه يصير خبرًا لزيدٍ لأنه معلق بسبب له، فكذلك لو قلت: فما يأتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنك مأمورها غير قولك منهيها، ثم قال: وجَرهُ قومٌ فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي هو الأمور؛ لأنه من الأمور وهو بعضُها فأجراه [وأنثه]2 كما قال جرير3:

إذا بَعْضُ السِّنين تَعرَّقتْنا كَفَى الأيتام فَقْد أَبي اليتيمِ4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 31.
2
زيادة من سيبويه، انظر الكتاب 1/ 31-32.
3
في الأصل: حديث ولا معنى لها.
4
من شواهد سيبويه 1/ 25 و1/ 32 على تأنيث تعرقتنا فعل بعض لإضافته إلى السنين, ولأنه أراد سنة، فكأنه قال: إذا سنة من السنين تعرقتنا.
عنى بالبيت هشام بن عبد الملك، فيقول: إذا أصابتنا سنة جدب تذهب المال قام للأيتام مقام آبائهم. وأراد أن يقول: كفى الأيتام فقد آبائهم، فلم يمكنه، فقال: فقد أبى اليتيم؛ لأنه ذكر الأيتام أولًا، ولكنه أفرد حملا على المعنى، لأن الأيتام هنا اسم جنس فواحدها ينوب مناب جمعها، كان المقام مقام الإضمار فأتى بالاسم الظاهر.
وانظر المقتضب 4/ 198، وابن يعيش 5/ 96، والفائق للزمخشري 3/ 137، والمذكر والمؤنث لابن الأنباري/ 318، والخزانة 2/ 167، وديوان جرير/ 507.



ج / 2 ص -72- فصار تأويل الخبر ليس: بآتيك الأمور ولا قاصرٌ بعضها، فجعل: بعض الأمور أمورًا وكذلك احتج لقول النابغة في الجر فقال: يجوز أن تجر وتحمله على الرد لأنه من الخيل يعني في قوله: أن تردَها.... لأن "أن تردهَا" في موضع ردهَا، كما قال ذو الرمة:

مَشَيْنَ كَمَا اهتزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهتْ أَعَاليها مَرَّ الرِّياحِ النَّواسِمِ1

كأنه قال: تسفهتها الرياح، فهذا بناء الكلام على الخيل وذلك ردَّ إلى الأمور وقال: كأنه قال: ليس بآتيكَ منهيها وليست بمعروفة ردها حين كان من الخيلِ والخيلُ مؤنثةٌ فأنثَ وهذا مثل قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا [خَوْفٌ]2 عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}3 أجرى الأول على لفظ الواحد والآخر على المعنى، هذا مثله في أنه تكلم به مذكرًا ثم أنث، كما جمع وهو في قوله: ليس بآتيتكَ منهيها، كأنه قال: ليس بآتيتكَ الأمور، وفي ليس بمعروف ردَها، وكأنه قال: ليست بمعروفةٍ خيلنا صحاصًا قال: وإن شئت نصبت فقلت: ولا مستنكرًا ولا قاصرًا4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 23، 25 على اكتساب المضاف التأنيث وكذلك استشهد به المبرد في المقتضب. وتسفهت: تحركت. والنواسم التي تهب بضعف. وصف نساء فقال: إذا مشين اهتززن في مشيهن وتثنين فكأنهن رماح نصبت فمرت عليها الرياح فاهتزت وتثنت، وخص النواسم لأن الزعازع الشديدة تعصف ما مرت به وتغيره. ويروى: مرضى الرياح، يريد الفاترة. ولا شاهد فيه، على هذه الرواية، وذكر المبرد في الكامل عن بعضهم أن البيت مصنوع، وأن الصحيح فيه مرضى الرياح النواسم. وانظر المقتضب 4/ 197, والخصائص 2/ 417, وشرح السيرافي 1/ 322, ومعجم المقاييس 3/ 79, وشرح ابن عقيل/ 291, والمذكر والمؤنث لابن الأنباري/ 318, والمحتسب 1/ 237، والكامل للمبرد/ 313 طبعة أوروبا, والديوان/ 116 ورواية الديوان: رويدًا كما اهتزت.
2
خوف، ساقطة من الآية.
3
البقرة: 112 وانظر الكتاب 1/ 33.
4
انظر الكتاب 1/ 33.



ج / 2 ص -73- قال أبو العباس1: قال الأخفش: وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه، يعني في الجر؛ لأنه يجوز عند العطف، وأن يكون الثاني من سبب الأول وأنكر ذلك سيبويه لأنه عطف على عاملين على السين والباء فزعم أبو الحسن: أنها غلط منهُ وأن العطف على عاملين جائز نحو قول الله عز وجل في قراءة بعض الناس: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ}2، فجر الآيات وهي في موضع نصب، ومثل قوله: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}3 عطف على خبر "إنّ" وعلى "الكل".
قال أبو العباس: وغلطَ أبو الحسن في الآيتين جميعًا ولكن قوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}4 وابتدأ الكلام: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}5، {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ}6 بعد هذه الآية، وإن جرَّ آيات فقد عطف على عاملين وهي قراءة عطف على "إن" و"في" قال: وهذا عندنا غير جائز7؛ لأن الذي تأوله سيبويه بعيدٌ وقال: لأن الرد غير الخيل والعقرُ راجع إلى الخيل فليس بمتصل بشيء من الخيل ولا داخل في المعنى, وقال: أما قوله: فليس بآتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنكَ مأمورها فهو أقرب قليلًا وليس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر المقتضب 4/ 195.
2
الجاثية: 4، قرأ حمزة والكسائي {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ} {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ} بالخفض فيهما، وقرأ الباقون بالرفع فيهما. انظر حجة القراءات ص658, وغيث النفع/ 236، والنشر2/ 371, والإتحاف/ 389, والبحر المحيط 8/ 43.
3
سبأ: 24.
4
الجاثية: 5.
5
الجاثية: 3.
6
الجاثية: 5, وانظر "ت" 14.
7
انظر المقتضب 4/ 195، وهذه الآية موجودة والتي قبلها غير موجودة.



ج / 2 ص -74- منه لأن المأمورَ بعضها والمنهي بعضها، وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور، وقال: وليس يجوزُ الخفض عندنا إلا على العطف على عاملين فيمن أجازه.
وأما قولُهم: ما كلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمة, فقال سيبويه: كأنكَ أظهرت كُلَّ مضمرٍ فقلت: ولا كُلَّ بيضاء1، فمذهب سيبويه أنَّ "كُلَّ" مضمرة هنا محذوفة وكذلك:

أُكَلَّ امْرِئٍ تَحْسَبِينَ امرأً ونَارٍ تَوقَّدُ بالليلِ نَارا2

يذهب إلى أنه حذف "كُلُّ" بعد أن لفظ بها ثانية، وقال: استغنيت عن تثنيةِ "كلِّ" لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب قال: وجاز كما جازَ في قوله: ما مثلُ عبد اللَّهِ يقول ذاكَ ولا أخيهِ وإن شئت قلت: ولا مثلَ أخيهِ فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه وتفريقُه أن تقول: ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاك ولا أخيه يكرهُ ذاكَ قال: ومثلُ ذلك: ما مثلُ أخيكَ ولا أبيكَ يقولانِ ذلكَ3، فلما جاز في هذا جاز في ذاك.
وأبو العباس -رحمه الله- لا يجيزُ: ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاكَ، ولا أخيهِ يكرهُ ذاكَ والذي بدأ به سيبويه الرفعُ في قولكَ: ما كُلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمةٌ، والنصب في "ونارًا"4 هو الوجه، وهذه الحروف شواذ، فأما من ظنَّ أن من جَر آياتٍ5 في الآية فقد عطف على عاملين فغلطٌ منهُ، وإنما نظير ذلك قولك: إنَّ في الدار علامةً للمسلمين والبيتِ عَلامةً للمؤمنينِ, فإعادة علامة تأكيد وإنما حسنت الإِعادة للتأكيد لما طال الكلام، كما تعاد "إن" إذا طال الكلام، وقد ذكرنا هذا في باب إنَّ وأنَّ، ولولا أنا ذكرنا التأكيد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 33.
2
مر تفسيره/ ص71.
3
انظر الكتاب 1/ 33.
4
يشير إلى قول الشاعر: ونار توقد في الليل نارا.
5
يشير إلى قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ}.



ج / 2 ص -75- وأحكامه فيما تقدم لذكرنا ههنا منه طرفًا، كما أنك لو قلت: إنَّ في الدار الخيرَ والسوق والمسجدَ والبلدَ الخير, كان إعادته تأكيدًا وحسُن لما طال الكلام فآياتٌ الأخيرةُ هي الأولى, وإنما كانت تكون فيه حجة لو كان الثاني غير الأول حتى يصيرا1 خبرين وأما من رفع وليست "آيات" عنده مكررة للتأكيد فقد عطف أيضًا على عاملين نصب أو رفع؛ لأنه إذا قال: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}2، فإذا رفع فقد عطف "آياتٍ" على الابتداء واختلافًا على "في" وذلك عاملان, ولكنه إذا قصد التكرير رفع أو نصب فقد زال العطف على عاملين فالعطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموعٍ من العرب, ولو جاز العطف على عاملين لجاز على ثلاثة وأكثر من ذلك, ولو كان الذي أجاز العطف على عاملين أي شاهد عليه بلفظ غير مكرر نحو: "إنَّ في الدار زيدًا والمسجدَ عمرًا" وعمرٌو غيرُ زيدٍ لكان ذلك له شاهدًا على أنه إنْ حكى مثله حاكٍ ولم يوجد في كلام العرب شائعًا فلا ينبغي أن تقبله وتحمل كتاب الله عز وجل عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل: "بصير".
2
الجاثية: 3، 4، 5 على التوالي.



ج / 2 ص -76- باب مسائل العطف:
نقول: مررتُ بزيدٍ أنيسِكَ وصاحبِكَ فإن قلت: مررت بزيدٍ أخيك فصاحبِك، والصاحب زيدٌ لم يجز وتقول: اختصم زيدٌ وعمرٌو ولا يجوز أن تقتصر في هذا الفعل وما أشبهه على اسم واحد؛ لأنه لا يكون إلا من اثنين ولا يجوز أن يقع هنا من حروف العطف إلا الواو1 لا يجوز أن تقول: اختصم زيدٌ فعمرٌو لأنك إذا أدخلت الفاء وثم اقتصرت على الاسم الأول؛ لأن الفاء توجب المهلة بين الأول والثاني وهذا الفعل إنما يقع من اثنين معًا وكذلك قولك: جمعت زيدًا وعمرًا ولا يجوز أن تقول: جمعت زيدًا فعمرًا وكذلك المال بين زيدٍ وعمروٍ ولا يجوز: بين زيدٍ فعمرٍو وتقول: زيدٌ راغبٌ فيك وعمرٌو تعطف "عمرًا" على الابتداء فإن عطفت على "زيدٍ" لم يكن بُد من أن تقول: زيدٌ وعمرٌو راغبانِ فيكَ فإن عطفت عمرًا على الضمير الذي في "راغبٍ" قلت: "زيدٌ راغبٌ هو وعمرو فيكَ" فإن عطفت على ابتداء والمبتدأ لم يجز أن تقول: زيد راغبٌ وعمرو فيك لأن "فيك" معلقة براغب فلا يجوز أن تفصل بينهما وقد أجازوا تقديم حرف النسق في الشعر فتقول على ذاك: قامَ وزيدٌ عمرٌو وقامَ ثُمَّ زيدٌ وعمرو وتقول: زيدٌ وعمرو قاما ويجوز: زيد وعمرو قامَ فحذف "قامَ" من الأول اجتزاءً بالثاني وتقول: زيدٌ ثم عمرو قامَ وزيد فعمرٌو قامَ وقد أجازوا التثنية،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
لأن الواو تشرك الثاني فيما دخل فيه الأول.



ج / 2 ص -77- فتقول: زيدٌ فعمرو قاما وزيد ثم عمرو قاما ولا يجيزون مع "أو ولا" إلا التوحيد لا غير نحو زيدٍ لا عمرٍو قامَ وزيد أو عمرو قامَ لا يجوز أن تقول: زيدٌ لا عمرٌو قاما لأنك تخلط من قام بمن لم يقم وكذلك لو قلت قَاما لجعلت القيام لهما إنما هو لأحدهما ومن أجاز: لقيتُ وزيدًا عمرًا لم يجز ذلك في المخفوض لا تقول: مررت وزيدٍ بعمروٍ تريد: مررت بعمروٍ وزيد لأنه قد قدم المعطوف على العامل وإنما أجازوا للضرورة أن يقدم معمولٌ فيه على معمولٍ فيه والعامل قبلهما وذا ليس كذلك وقد حلت بينه وبين ما نسقته عليه بغيره وهو الباء.
وأجاز قوم: قام ثم زيد عمرٌو، ولا يجيزون: إن وزيدًا عمرًا قائمانِ لأن "إنَّ" أداة. ويجيزون: "كيف وزيدٌ عمرٌو" ويقولون: كلُّ شيءٍ لم يكن يرفع لم يجز أن يليه الواو نحو: "هل وزيد عمرو قائمانِ" محال وإنما صار العطف إذا لم يكن قبله ما يرفع أقبح لأنه يصير مبتدأً وفي موضع مبتدأ وليس أحد يجيز مبتدأً: وزيدٌ عمرٌو قائمانِ يريد: عمرو وزيد قائمان وإن بمنزلة الابتداء فلذلك قبح أيضًا فيها وتقول: زيدٌ رغبَ فيكَ وعمرٌو وزيد فيكَ رغبَ وعمرٌو فإن أخرجت "رغب" على هذا لم يجز: أن تقول: زيدٌ فيكَ وعمرٌو رغبَ لأنك قد فصلت بين المبتدأ وخبره بالمعطوف وقدمت ما هو متصل بالفعل وفرقت بينهما بالمعطوف أيضًا وتقول: أنت غير قائمٍ ولا قاعدٍ تريد: وغير قاعد لما في "غير" من معنى النفي وتقول: أنت غير القائم ولا القاعد تريد: غير القاعد كما قال الله عز وجل: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}1 ولم يجئ هذا في المعرفة، لا يستعملون "لا" مع المعرفة العلم في مذهب "غير" لا يجوز: أنت غيرُ زيدٍ ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الفاتحة: 7. قال ابن خالويه في إعراب ثلاثين سورة/ 32: "غير" نعت للذين والتقدير: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}, غير اليهود؛ لأنك إذا قلت: مررت برجل صادق غير كاذب، فغير كاذب هو الصادق، وانظر المحيط 1/ 28.



ج / 2 ص -78- عمروٍ1 تقول: زيدٌ قام أمس ولم يقعدْ، ولا يجوز: زيد قامَ ويقعدُ، وإنما جاز مع "لم" لأنها مع عملت فيه في معنى الماضي، ولا يجوز أن تنسق على "لن ولم" بلا مع الأفعال لا تقول: لم يقم عبد الله لا يقعد وكذلك: لن يقوم عبد الله لا يقعدُ يا هذا لأن "لا" إنما تجيء في العطف لتنفي عن الثاني ما وجب للأول وتقول: ضربتُ عمرًا وأخاهُ وزيدٌ ضربتُ عمرًا ثم أخاه وزيدٌ ضربت عمرًا أو أخاهُ وقوم لا يجيزون من هذه الحروف إلا الواو فقط ويقولون: لأن الواو بمعنى الاجتماع فلا يجيزون ذلك مع ثم وأو لأن مع "ثم وأو" عندهم فعلًا مضمرًا فإن قلت: "زيدٌ ضربت عمرًا وضربتُ أخاهُ" لم يجز: لأن الفعل الأول والجملة الأولى قد تمت ولا وصلةٌ لها بزيد وعطفت بفعل آخر هو المتصل لسببه وليس لأخيه في "ضربتُ" الأولى وصلةٌ فإن أردت بقولك: وضربتُ إعادة للفعل الأول على التأكيد جازَ ومن أجاز العطف على عاملين قال: زيدٌ في الدار والبيت أخوهُ وأمرتُ لعبد الله بدرهمٍ وأخيه بدينارٍ لأن دينارًا ليس إلى جانب ما عملت فيه الباء وحرف النسق مع الأخِ ولا يجوز أيضًا أمرتُ لعبد الله بدرهمٍ ودينارٍ أخيهِ لأن أخاهُ ليس إلى جانب ما عملت فيه اللام وحرف النسق مع دينارٍ وتقول: ضربتُ زيدٌ وعمرًا ويجوز أن ترفع عمرًا وهو مضروب فتقول: ضربتُ زيدًا وعمرٌ تريد: وعمرو كذلك وإنما يجوز هذا إذا علم المحذوف ولم يلبس وتقول: هذان ضاربٌ زيدًا وتاركهُ لأن الفعل لا يصلح هنا لو قلت: هذانِ يضربُ زيدًا ويتركهُ لم يجز وإنما جاز هذا في "فاعلٍ" لأنه اسم فإذا قلت: هذانِ زيدٌ وعمرٌو لم يجز إلا بالواو لأن الواو تقوم مقام التثنية والجمع.
واعلم: أنه لا يجوز عطف الظاهر على المكني المتصل المرفوع حتى تؤكده نحو: قمتُ أنا وزيدٌ وقامَ هُو وعمرٌو قال الله عز وجل: {اذْهَبْ أَنْتَ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
لأن "غيرًا" لا تكون إلا نكرة عند المصنف، وغيره يقول: تكون معرفة في حال، ونكرة في حال، وانظر البحر المحيط 1/ 28.



ج / 2 ص -79- وَرَبُّكَ فَقَاتِلا}1, فإن فصلت بين الضمير وبين المعطوف بشيءٍ حسنَ، نحو: ما قمتُ ولا عمرٌو، ويجوز أن تعطف بغير تأكيد ولا يجوز عطفُ الظاهر على المكنى المخفوض نحو: مررت به وعمروٍ إلا أن يضطر الشاعر وتقول: أقْبَل إن قيلَ لك الحقُّ والباطل إذا أمرت بالحقِّ: أردت: أقْبَل الحقَّ إن قيلَ لك هُو والباطلُ.
قد ذكرنا جميع هذه الأسماء المرفوعة والمنصوبة والمجرورة وما يتبعها في إعرابها، وكنت قلت في أول الكتاب أن الأسماء تنقسم قسمين: معربٍ ومبنيٍ فإن المعرب ينقسم قسمين: منصرفٍ وغير منصرفٍ وقد وجب أن يذكر من الأسماء ما ينصرفُ وما لا ينصرف ثم نتبعهُ المبنياتِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المائدة: 24.









=========================.



26

















الأصول في النحو

ذكر ما ينصرف من الأسماء وما لا ينصرف:
اعلم: أن معنى قولهم اسم منصرف أنه يراد بذلك إعرابه بالحركات الثلاث والتنوين والذي لا ينصرف لا يدخله جرٌ ولا تنوينٌ، لأنه مضارعٌ عندهم للفعل، والفعل لا جرَّ فيه ولا تنوين وجر ما لا ينصرف كنصبه، كما أن نصب الفعل كجزمه، والجر في الأسماء نظير الجزم في الفعل لأن الجر يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال، وإنما منع ما لا ينصرف الصرف لشبهه بالفعل كما أعرب من الأفعال ما أشبه الاسم فجميعُ ما لا ينصرف إذا أُدخلت عليه الألف واللام أو أُضيف جُرَّ في موضع الجَرِّ وإنما فُعل به ذلك؛ لأنه دخل عليه ما لا يدخل على الأفعال وما يؤمن معه التنوين، ألا ترى أن الألف واللام لا يدخلان على الفعل وكذلك الأفعال لا تضاف إلى شيءٍ وأن التنوين لا يجتمع مع الألف واللام والإِضافة وأصول الأسماء كلها الصرف وإنما في بعضها ترك الصرف وللشاعر إذا اضطر أن يصرف جميع ما لا ينصرف، ونحن نذكر ما لا ينصرف منها ليعلم ما عداها منصرفٌ.



ج / 2 ص -80- الأسباب التي تمنع الصرف تسعة:
متى كان في الاسم اثنان منها أو تكرر واحد في شيء منها منع الصرف وذلك وزن الفعل الذي يغلب على الفعل والصفة، والتأنيث الذي يكون لغير فرق والألف والنون المضارعة لألفي التأنيث، والتعريف والعدل، والجمع والعجمة وبناء الاسم مع الاسم كالشيء الواحد.
الأول: وزن الفعل:
فما جاء من الأسماء على أفعل أو يفعلُ، أو تَفعل، أو نَفعل، أو فَعل ويفعلُ، وانضم معه سبب من الأسباب التي ذكرنا لم ينصرف، فأفعل نحو أحمرَ وأصفرَ وأخضرَ لا ينصرف لأنه على وزن أَذَهَبُ وأعلمُ، وهي صفات فقد اجتمع فيها علتان وأحمدُ اسم رجل لا ينصرف، لأنه على وزن أذْهبُ فهو معرفةٌ ففيه علتان فإنْ نكرته صرفته تقول: مررتُ بأحمدَ يا هذا وبأحمدٍ آخر وأعصرُ اسم رجلٍ لا ينصرف لأنه مثل أقَتل وكذلك إن سميته بتنضب، وترتب1 وتألبَ، فأما تولبُ، إذا سميت به فمصروف2، لأنه مثل جعفر، فإن سميت على هذا رجلًا بيضربَ قلت: هذا يضربُ قد جاءَ ومررت بيضربَ ورأيت يضرب وكذلك: تضربُ ونضربْ واضربُ وإن سميته بفَعَلَ قلت: هذا ضَربَ قَد جاءَ، ورأيتُ ضربَ*، وإن سميته بضربَ صرفته لأنه مثل حَجرٍ وجَملٍ وليس بناؤه بناء يخص الأفعال، ولا هي أولى به من الأسماء بل الأسماء والأفعال فيه مشتركة، وهو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
ترتب: هو الشيء الثابت.
2
انظر سيبويه 2/ 3، وأما ما جاء مثل تولب ونهشل فهو عندنا من نفس الحرف مصروف حتى يجيء أمر يبينه.
*
منع ذلك من الصرف هو رأي عيسى بن عمر، انظر الكتاب 2/ 7.



ج / 2 ص -81- كثير فيهما جميعًا، وإن سميتَ رجلًا بنرجس لم تصرفهُ، لأنه على مثال نَصربُ، وليس في الأسماء شيء على مثال فَعْلِلَ ولو كان فيها فَعْلِلٌ لصرفنا نرجسَ إذا سمينا به. أما نهشل1 اسم رجل فمصروفٌ؛ لأنه على مثال "جَعْفَر" وليس هو تفعلُ إنما هو فَعْلَلٌ ولكن لو سميت رجلًا بتذهبُ لتركت صرفه فقلت: هذا تذهبُ ورأيتُ تذهبَ ومررتُ بتذهبَ وجميع هذه إذا نكرتها صرفتها تقول: مرتُ بتغلبَ وتغلبٍ آخر لأنه قد زالت إحدى العلتين. وهي التعريف فإن سميت بقام عمرُو حكيت فقلت: هذا قامَ عمرٌو ورأيت قامَ عمرو وكذلك كل جملة يسمى بها نحو: تأبَّط شرًّا تقول هذا تأبَّط شرًّا وكذلك إذا سميته "بقاما" قلت: هذا قاما ورأيت قاما ومررت بقاما وهذا، قاموا ورأيتُ قاموا ومررت بقاموا وإن سميت "بقام" وفي قام ضمير الفاعل حكيته فقلت: هذا قام قد جاء ومررتُ بقام يا هذا تدعه على لفظه لأنك لم تنقله من فعل إلى اسم إنما سميت بالفعل مع الفاعل جميعًا رجلًا فوجب أن تحكيه فأما إن سميت "بقام" ولا ضمير فيه فهو مصروفٌ لأنه مثل بابٍ ودارٍ وقد نقلته من الفعل إلى الاسم ولو كان فعلًا لكان معه فاعلٌ ظاهر أو مضمرٌ وكذلك لو سميت بقولك: زيدٌ أخوكَ لقلت هذا زيد أخوكَ قد جاءَ ورأيت أخوكَ ومررت بزيدٌ أخوكَ تحكي الكلام كما كان فإن سميت رجلًا "بضربتُ" ولا ضمير فيه قلت: هذا ضَربه فتقف عليه بهاءٍ لأن الأسماء المؤنثة من هذا الضرب إذا وقفت عليها أبدلت التاء هاءً تقول: هذا سلمةُ قد جاءَ فإذا وقفت قلت: سلمهْ وكذلك "ضربتُ" إذا سميت بها خرجت عن لفظ الأفعال ولزمها ما يلزم الأسماء، وليست التاء في "ضربت" اسمًا ولو كانت اسمًا لحكى، وقد ذكرنا فيما تقدم أن هذه التاء إنما تدخل في فعل المؤنث لتفرق بينه وبين فعل المذكر، وإذا سميت "بضربتُ" وفيها ضمير الفاعلة، حكيت، فقلت: هذا ضربتُ قد جاءَ، ورأيت ضربتُ ومررت بضربت لأن فيه ضميرًا، ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
النهشل: الشيخ الكبير والأنثى نهشلة, والنهشل أيضًا الذئب.



ج / 2 ص -82- أظهرت لقلت: ضَرَبَت هِي، وكل اسم صار علمًا لشيءٍ وهو على مثال الأفعال في أوله زياداتها لا تصرفه فإن سميت بأضرب أو أقبل قطعت الألف ولم تصرفه فقلت: هذا أضرب قد جاء وأذهب وأقبل قد جاء لأن ألف الوصل إنما حقها الدخول على الأفعال وعلى الأسماء الجارية على تلك الأفعال نحو: استضرب استضرابًا وانطلق انطلاقًا فأما الأسماء التي ليست بمصادر جاريةٍ على أفعالها فألف الوصل غير داخلة عليها وإنما دخلت في أسماء قليلة نحو ابنٍ وامرئٍ واستٍ وليس هذا بابُها وإن سميت رجلًا "بتضاربَ" صرفته لأنه ليس على مثال الفعل فتقول: هذا تضاربُ قد جاءَ ومررت بتضاربٍ فإن صغرته وهو معرفة قلت: تُضَيرِبُ فلم تصرفه لأنه قد ساوى تصغير "تَضرِب" وأنت لو سميت رجلًا "بتضربَ" ثم صغرته وأنت تريد المعرفة لم تصرفه.
وأفعل منك لا يصرف نحو: أفضل منك وأظرفَ منكَ لأنه على وزن الفعل وهو صفة فإن زال وزن الفعل انصرف ألا ترى أن العرب تقول: هو خيرٌ منك وشرٌ منكَ لما زال بناء "أَفعلَ" صرفوه فإن سميت بأفعلَ مفردًا أو معها "منكَ" لم تصرفها على حال وأما أجمعُ وأكتعُ فلا ينصرفان لأنهما على وزن الفعل وهما معرفتان لأنهما لا يوصف بهما إلا معرفة فإن ذكرتهما صرفتهما وإن سميت رجلًا ضربوا فيمن قال: أكلوني البراغيثُ قلت: هذا ضربونَ قد جاءَ من قبل أن هذه الواو ليست بضمير فلما صار اسمًا صار مثل "مسلمونَ" والاسم لا يجمع بواو ولا نونٍ معها، ومن قال مسلمين قالت: ضَربينَ وكذلك لو سميت "بضَربا" قلت: ضربانِ قد جاءَ فيمن قال: أكلوني البراغيثُ ومن قال: مسلمينَ وعشرينَ لم يقل في مسلمات مسلمينَ؛ لأن ذاك لما صار اسمًا لواحدٍ شبه بعشرينَ ويبرينَ.
الثاني: الصفة التي تتصرف.
وذلك نحو: أفعلَ الذي لَهُ فَعْلاءُ، نحو أحمرَ وحمراءَ، وأصفرَ وصفراءَ، وأعمى وعمياءَ وأحمرُ لا ينصرف لأنه على وزن الفعل، وهو



ج / 2 ص -83- صفةٌ، وحمراءُ لا تتصرفُ لأن فيها ألف التأنيث وهي مع ذلك صفة، ولو كان ألف التأنيث وحدها في غير صفةٍ لم تنصرف، ونحن نذكر ذلك في باب التأنيث والصفة لا تكون معرفة إلا بالألف واللام وكل بناء دخلته الألف واللام فهو منصرفٌ ومتى صارت الصفة اسمًا فقد زال عنها الصفة فأما قائمةٌ وقاعدةٌ وما أشبه ذلك إذا وصفت بها فهو منصرفٌ، لأن هذه الهاء إنما دخلت فرقًا بين المذكر والمؤنث وهي غير لازمةٍ فهي مثل التاء في الفعل إذا قلت: ضربتُ وضربتَ وإنما يعتد بالتأنيث الذي لم يذكر للفرق وأجازوا مثنى وثلاثَ ورباعَ غير مصروفٍ وذكر سيبويه أنه نكرةٌ1 وهو معدولٌ فقد اجتمع فيه علتان وإذا حقرت ثُناء وأحادَ صرفته لأنك تقول: أُحَيْدٌ، وثُنيٌّ فيصير مثل حُمَيرٍ فيخرج إلى مثال ما ينصرف.
الثالث: التأنيث:
والمؤنث على ضربين: ضرب بعلامةٍ، وضرب بغير علامة، فأما المؤنث الذي بالعلامة فالعلامةُ للتأنيث علامتان2: الهاءُ والألفُ, فالأسماء التي لا تنصرف مما فيها علامة فنحو: حَمْدَة اسم امرأة وطلحةَ اسم رجل، لا ينصرفان لأنهما معرفتان، وفيهما علامة التأنيث فإن نكرتهما صرفتهما تقول: مررت بحمدَة وحَمْدةٍ أخرى وبطلحةَ وطلحةٍ آخرَ، وكل اسم معرفة فيه هاء التأنيث فهو غير مصروف فأما ألف التأنيث فتجيء على ضربين: ألف مفردة نحو بُشرى وحبلَى وسكرى وألف قبلها ألف زائدة نحو صحراء وحمراءَ وخُنْفَساءَ، وكل اسم فيه ألف التأنيث ممدودةً أو مقصورة فهو غير مصروف معرفة كان أو نكرة، فإن قال قائل فما العلتان اللتان أوجبتا ترك صرف بُشرى، وإنما فيه ألف للتأنيث فقط؟ قيل: هذه التي تدخلها الألف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 15.
2
هكذا في الأصل وفي العبارة ركاكة, والمراد: فللتأنيث علامتان.



ج / 2 ص -84- يبنى الاسم لها وهي لازمة وليست كالهاء التي تدخل بعد التذكير، فصارت للملازمة والبناء كأنه تأنيث آخر وتضارع هذه الألفُ الألفَ التي تجيء زائدةً للإِلحاق إذا سميت بما يكون فيه وذلك نحو: ألف ذِفْرَى وعَلْقَى فيمن قال: عَلْقاةٌ وحَبنَطى1، فإن سميت بشيءٍ منها لم تصرفه؛ لأنها ألفٌ زائدةٌ كما أن ألف التأنيث زائدة وقد امتنع دخول الهاء عليها في المعرفة وأشبهت ألف التأنيث لذلك. وحق كل ألف تجيء زائدةً رابعةً فما زاد أن يحكم عليها بالتأنيث حتى تقوم الحجة بأنها ملحقة لأن بابها إذا جاءت زائدةً رابعةً فما زاد فللتأنيث لكثرة ذلك واتساعه والإِلحاق يحتاج إلى دليل لقلته والدليل الذي تعلم به الألف الملحقة أن تنون وتدخل عليها هاءٌ نحو من جعل عَلقًى ملحقةً فنون وألحق الهاء فقال: عَلقاةٌ ولهذا موضع يبين فيه وإنما شبهت ألفُ حبَنَطْىَ بألف التأنيث، كما يثبت الألف والنون في عثمان بالألف والنون في غَضبْانَ لما تعرف عثمان وصار لا يدخله التأنيث، فإن صغرت عَلْقَى اسم رجل صرفته وإن سميت رجلًا بمعزَى لم تصرفه وإن صغرته لم تصرفه أيضًا لأنه اسمٌ لمؤنثٍ فأما من ذكر معزى فهو يصرفه وتَترى فيها لغتان كعَلْقَى فأما أرَطْى ومعْزى فليس فيه إلا لغة واحدة الإِلحاق والتنوين فإن سميت بهما لم تصرفهما كما ذكرت لك وإن سميت بعِلبَاء صرفته لأنه ملحقٌ بسرداحُ2، تقول عُليبى كما تقول: سُرَيْديحٌ ولو كانت للتأنيث لقلت عُلَبياءٌ. وأما التأنيث بغير علامةٍ فنحو: زينب وسعاد لا ينصرفان لأنهما اسمان لمؤنث وإن سميت امرأة باسمٍ على أربعة أحرف أصلية أو فيها زائدةٌ فما زاد لم يصرف لأن الحرف الرابع بمنزلة الهاء، لأن الهاء لا تكون إلا رابعةً فصاعدًا، إلا في اسم منقوص نحو ثُبَةٍ وكذلك إن سميت مذكرًا باسم مؤنث لا علامة فيه ولم تصرفه نحو رجل سميته بعناق وسعادَ وقالوا: إنّ أسماءَ اسم رجلٍ، إنما لم يصرف وهو جمع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
حبنطى: الكبير البطن.
2
سرداح: الناقة الطويلة.



ج / 2 ص -85- اسم على أفعال، وحق هذا الجمع الصرفُ؛ لأنه من أسماء النساء، فلما سمي به الرجلُ لم يصرف، ولو قال قائل: إنما هو فعلاءُ أرادوا أسماء وأبدلوا الواوَ همزةً كما قال في وسادةٍ إسادةٍ لكان مذهبًا فإن سميت مؤنثا باسم ثلاثي متحرك الأوسط فهو غير مصروف نحو: امرأة سميتَها بقدَمٍ فإن كان الثلاثي ساكن الأوسط نحو هنْدٍ ودَعْدٍ وجُمْلِ فمن العرب من يصرف لخفة الاسمِ1، وأنه أقل ما تكون عليه الأسماء من العدد والحركة، ومنهم من يلزم القياس فلا يصرف، فإن سميت امرأة باسم مذكرٍ -وإن كان ساكن الأوسط- لم تصرفه نحو زيدٍ وعمروٍ، لأن هذه من الأخف وهو المذكر إلى الأثقل وهو المؤنث فهذا مذهب أصحابنا2، وهو في هذا الموضع نظير رجلٍ سميته بسعادَ وزينبَ وجَيْئَلَ فلم تصرفه؛ لأنها أسماءٌ اختص بها المؤنث وهو على أربعةِ أحرف والرابع كحرف التأنيث، وإن سموا رجلًا بقَدَمٍ وخَشلٍ3 صرفوه وحقروهُ فقالوا: قُدَيمٌ.
الرابع: الألف والنون اللتان تضارعان ألفي التأنيث:
اعلم: أنهما لا يضارعان ألفي التأنيث إلا إذا كانتا زائدتين، زيدا معًا، كما زيدت ألفا التأنيث معًا، وإذا كانتا لا يدخل عليهما حرف تأنيث كما لا يدخل على ألفي التأنيث تأنيثٌ وذلك نحو سكرانَ وغضبانَ، لأنك لا تقول: سكَرانة ولا غضبانةٌ، إنما تقول: غَضْبَى، وسَكَرى فلما امتنع دخول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 22, والمقتضب 3/ 350.
2
أي: البصريون, قال سيبويه: فإن سميت المؤنث بعمرو أو زيد لم يجز الصرف، هذا قول أبي إسحاق وأبي عمرو فيما حدثنا يونس وهو القياس؛ لأن المؤنث أشد ملاءمة للمؤنث والأصل عندهم أن يسمى المؤنث بالمؤنث، كما أن أصل تسمية المذكر بالمذكر، وكان عيسى يصرف امرأة اسمها عمرو؛ لأنه أخف الأبنية.
انظر الكتاب 2/ 23, وانظر المقتضب 3/ 350-351.
3
الخشل: من معانيه الشيء الخشن والرديء من كل شيء، والحلى والمقل اليابس.



ج / 2 ص -86- حرف التأنيث عليهما ضارعا التأنيث وكذلك كل اسمٍ معرفةٍ في آخره ألفٌ ونونٌ، زائدتان زيدا معًا، فهو غير مصروفٍ وذلك نحو عثمانَ اسم رجلٍ لا تصرفه لأنه معرفة وفي آخره ألفٌ ونونٌ، وهما في موضع لا يدخل عليهما التأنيث لأن التسمية قد حظرت ذلك, فهذا مثل حَبَنْطَى وذِفْرى, إذا سميت بهما لما حظرت التسمية دخول الهاء أشبهت الألفُ ألفَ التأنيث، فلم تصرف في المعرفة، وصرف في النكرة, وكذلك عثمان غير مصروف في المعرفة, فإن نكرته صرفته؛ لأنه في نكرته كعطشانَ الذي له عطشى, وكذلك إن سميته بِعُريانَ، وسرحانَ وضُبعانَ لم تصرفه, فإن نكرته صرفته, وإن حقرت سرحان اسم رجلٍ صرفته فقلت: سُريحينٌ؛ لأنه ملحقٌ بسرداحَ في نكرته ولكنك إن حقرت عثمانَ فقلت: عُثيمانُ لم تصرفه وتركت الألف والنون على حالهما, كما فعلت بألفي التأنيث إذا قلت: حُمَيراءُ فعثمانُ مخالفٌ كسرحانَ، كأنه إنما بني هذا البناء في حال معرفته وهذا يبين في التصغير, وإن سميت بطحان من الطحنِ، وسمانَ1 من السمنِ وتبانَ2 من التبن، صرفت جميع ذلك، وإن سميت بدهقانَ من الدهقِ، لم تصرفه وإن سميته من التدهقن [صرفته]3. وكذلك شيطان إن كان من التشيطنِ صرفته، وإن كان من شَيَّطَ لم تصرفه، وقال سيبويه: سألتُ الخليل عن رُمّانَ، فقال: لا أصرفه وأحمله على الأكثر إذا لم يكن له معنى يعرف4 -يعني أنه إذا سمي لم يصرفه في المعرفة- لأنه لا يدري من أي شيءٍ اشتقاقه فحمله على الأكثر، والأكثر زيادة الألف والنون، قال: وسألته عن سَعْدانَ ومَرْجانَ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في اللسان: السمان: بائع السمن. الجوهري السمان: إن جعلته بائع السمن انصرف، وإن جعلته من السم لم ينصرف في المعرفة.
2
التبان -بالضم والتشديد: سروال صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين وفي اللسان: ورجل تبان يبيع التبن, وإن جعلته فعلان من التبن لم تصرفه.
3
أضفت كلمة "صرفته" لإيضاح السياق، وانظر الكتاب 2/ 11.
4
انظر الكتاب 2/ 11.



ج / 2 ص -87- فقال: لا أشكُّ في أن هذه النونَ زائدةٌ؛ لأنه ليس في الكلام مثل: سِرداح، ولا فَعْلالٍ إلا مضعفًا, ولو جاء شيء على مثال جَنْجَانَ لكانت النون عندنا بمنزلة نون مُرّان1، إلا أن يجيء أمرٌ يبين أو يكثر في كلامهم فيدعوا صرفه2، قال أبو العباس: صُرف جَنْجانُ لأن المضاعف من نفس الحرف بمنزلة خَضْخَاضٍ ونحوه، فأما غَوْغَاء فيختلف فيها, فمنهم من يجعلها كخَضْخاضٍ فيصرف ومنهم من يجعلها بمنزلة عوراء فلا يصرف.
الخامس: التعريف:
متى ما اجتمع مع التعريف التأنيث أو وزن الفعل أو العجمة أو العدل أو الألف والنون لم يصرف، فالتأنيث نحو طلحةَ وحَمْزة وزينبَ, اجتمع في هذه الأسماء أنها مؤنثات وأنها معارف, والألف والنون مثل عثمان, والعدل مثل عُمَر وسَحَر، ووزن الفعل مثل أحَمَد ويشكر، والعجمة نحو إبراهيم وإسماعيل ويعقوبَ, فجميع هذه لا تصرف لاجتماع العلتين فيها, فإن سميت بيعقوب وأنتَ تريد ذكر القبح3 صرفته، لأنه مثل يربوعَ4، فأما الصفة والجمع فإنهما لا يجتمعان مع التعريف بالتسمية؛ لأن الصفة إذا سمي بها زال عنها معنى الصفة والجمع لا يكون معرفة أبدًا إلا بالألف واللام، فإن سميت بالجمع الذي لا ينصرف رجلًا نحو: مساجد، لم تصرفه وقلت: هذا مساجدُ قد جاءَ إنما لم يصرف لأنه معرفة, وإنه مثالٌ لا يكون في الواحد فأشبه الأعجمي المعرفة، فإن صغرته صرفته فقلت: مُسَيجِدٌ، لأنه قد عاد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المران في اللسان: الرماح الصلبة اللدنة واحدتها: مرانة.
2
انظر الكتاب 2/ 12. وتكملة النص.. فيعلم أنهم جعلوها زائدة.
3
القبج: الحجل. انظر حياة الحيوان 2/ 340.
4
اليربوع: حيوان طويل الرجلين قصير اليدين، حياة الحيوان 2/ 339.



ج / 2 ص -88- البناء إلى ما يكون في الواحد مثله, وصار مثل مُييسِرٍ، وقال سيبويه: سَراويلُ واحدٌ أعرب وهو أعجمي وأشبه من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرةٍ, فهو مصروفٌ في النكرة1, وإن سميت به لم تصرفه، وإن حقرته اسم رجلٍ لم تصرفه؛ لأنه مؤنث مثل عَنَاق وعَنَاق إذا سميت به مذكرًا لم تصرفه, وأما شراحيل فمصروفٌ في التحقير، لأنه لا يكون إلا جمعًا وهو عربيٌّ, وقال الأخفش: الجمعُ الذي لا ينصرفُ إذا سميتَ بِه، إنْ نكّرتهُ بعد ذلك لم تصرفه أيضًا.
السادس: العدل:
ومعنى العَدْلِ أن يشتق من الاسم النكرة الشائع اسمٌ ويغير بناؤه، إما لإِزالة معنى إلى معنى وإما لأن يسمى به، فأما الذي عُدل لإِزالة معنى إلى معنى فمثنى وثلاث ورباع وأحادَ, فهذا عُدِلَ لفظه ومعناه, عُدِلَ عن معنى اثنين إلى معنى اثنين اثنين، وعن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى، وكذلك أحاد عُدِلَ عن لفظ واحد إلى لفظ أحاد, وعن معنى واحد إلى معنى واحد واحد, وسيبويه يذكر أنه لم ينصرف؛ لأنه معدول وأنه صفةٌ2، ولو قال قائلٌ: إنه لم ينصرف لأنه عُدل في اللفظ والمعنى جميعًا، وجعل ذلك لكان قولًا. فأما ما عُدل في حال لتعريف، فنحو عُمَرَ وزُفرَ وقثم, عُدلنَ عن عامرٍ، وزافرٍ, وقاَئمٍ3..... أما قولهم: يا فسقُ فإنما أرادوا: يا فاسقُ، وقد ذكر في باب النداء، وسحرُ إذا أردت سحر ليلتك فهو معدول عن الألف واللام4، فهو لا يصرف تقول: لقيتُهُ سَحَر يا هذا, فاجتمع فيه التعريف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 16.
2
انظر الكتاب 2/ 14-15. وهو رأي الخليل ويؤيده أبو عمرو بن العلاء.
3
مطموس في الأصل، وقدره نصف سطر.
4
انظر الكتاب 2/ 43، وأمالي ابن الشجري 2/ 250, وابن يعيش 2/ 41.



ج / 2 ص -89- والعدل عن الألف واللام، فإن أردت سحرًا من الأسحار صرفته وإن ذكرته بالألف واللام أيضًا صرفته, فأما ما عُدِلَ للمؤنث فحقه عند أهل الحجاز1 البناء؛ لأنه عُدل مما لا ينصرف، فلم يكن بعد ترك الصرف إلا البناء. ويجيء على "فَعالِ" مكسور اللام نحو حَذامِ وقَطامِ، وكذلك في النداء نحو: يا فساقِ ويا غَدارِ، ويا لكاعِ ويا خباثِ فهذا اسم الخبيث واللكعاء والفاسقة, وفَعالِ في المؤنث نظيرُ فُعَلٍ في المذكر, وقد جاء هذا البناء اسمًا للمصدر فقالوا: فَجارِ يريدونَ: فَجرةَ وبَدادِ يريدون: بددًا ولا مَساسِ يريدون: المسَّ ويجيء اسمًا للفعل نحو: مَناعَها أي: امنَعْهَا, وحَذارِ اسم احذر, ومما عُدل عن الأربعة: قَرْقَارِ يريدون: قَرقِرْ وعرعَارِ، وهي لعبة ونظيرها من الثلاثة: خراجِ أي اخرجوا وهي لعبة أيضًا, وجميع ما ذكر إذا سمي به امرأة فبنو تميم ترفعه وتنصبه وتجريه مجرى اسمٍ لا ينصرفُ2، فأما ما كان آخره راء فإن بني تميم وأهل الحجاز يتفقون على الحجازية3، وذلك: سَفارِ، وهو اسم ماءٍ وحضارِ اسم كوكبٍ، قال سيبويه: يجوزُ الرفع والنصب، قال الأعشى:

ومَرَّ دهرٌ عَلى وبَارِ فهَلكتْ جَهْرَةً وَبارُ4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 40, قال سيبويه: "وأما أهل الحجاز فلما رأوه اسمًا لمؤنث، ورأوا ذلك البناء على حاله لم يغيروه؛ لأن البناء واحد وهو ههنا اسم للمؤنث".
2
انظر الكتاب 2/ 40.
3
انظر الكتاب 2/ 41, والمقتضب 3/ 375.
4
من شواهد سيبويه 2/ 41 على إعراب "وبار ورفعها والمطرد فيما كان في آخره الراء أن يبنى على الكسر في لغة أهل الحجاز ولغة بني تميم؛ لأن كسرة الراء توجب إمالة الألف... وأعرب في لغة بني تميم فاضطر الأعشى فرفع لأن القوافي مرفوعة".
ووبار: اسم أمة قديمة من العرب العاربة هلكت، وانقطعت كهلاك عاد وثمود، وقال السهيلي: وبار: أمة هلكت في الرمل... وقال ابن الشجري: وبار: اسم إقليم تسكنه الجن مسخ أهله، وقيل: وبار موضع.
وانظر: المقتضب 3/ 376, وأمالي ابن الشجري 2/ 115، وابن يعيش 4/ 65 ومعجم البلدان 5/ 356, والعيني 4/ 359, والمخصص لابن سيده 17/ 67، وجمهرة أنساب العرب/ 462, والروض الأنف 1/ 14, وديوان الأعشى/ 281, والرواية فيه: ومرحد.



ج / 2 ص -90- وجمع هذا إذا سمي به المذكر لم ينصرف؛ لأن هذا بناءٌ بني للتأنيث، وحرك بالكسر لذلك، لأن الكسرة من الياء, والياءُ يؤنثُ بها, وهو متصرف في النكرة, ومنهم من يصرف رقاش وعَلابِ, إذا سمي به كأنهُ سمي بصباح, وإذا كان اسمًا على فعال لا يدري ما أصله بالقياس صرفه؛ لأنه لم يعلم له علةٌ توجبُ إخراجُه عن أصله، وأصل الأسماء الصرف وكل "فَعال" جائزٌ متى كانت من "فَعَل أو فعُلَ أو فعِلَ ولا يجوز من أفعْلتُ" لأنه لم يسمع من بنات الأربعة إلا قَرْقَار وعَرْعَارِ, وفَعالِ إذا كان أمرًا نصب بعده وليس يطرد "فَعالِ" إلا في النداء وفي الأمر.
السابع: الجمع الذي لا ينصرف:
وهو الذي ينتهي إليه الجموع، ولا يجوز أن يجمع، وإنما مُنع الصرف لأنه جمعُ جمع، لا جمع بعده، ألا ترى أن أكلُبًا جمع كَلْبٍ، فإن جمع أَكلُبًا قلت: أكالبُ فهذا قد جمع مرتين، فكل ما كان من هذا النوع من الجموع التي تشبه التصغير وثالثهُ ألفٌ زائدةٌ، كما أن ثالث التصغير ياءٌ زائدة وما بعده مكسور، كما أن ما بعد ثالث التصغير مكسور فهو غير منصرف، وذلك نحو: دراهم ودنانير, فدراهم في الجمع نظير دُريهم في التصغير، ودنانير نظير دُنينير, فليس بين هذا الجمع وبين التصغير إلا ضمة الأول في التصغير, وفتحة في الجمع, وإن ثالث التصغير ياءٌ وثالث هذا ألفٌ, فهذا الجمع الذي لا ينصرف. فإن أدخلت الهاء على هذا الجمع انصرف، وذلك نحو صياقلةٍ1؛ لأن الهاء قد شبهته بالواحد، فصار كمدائني لما نسبت إلى مدائن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
صياقلة: جمع صيقل وهو شحاذ السيوف.



ج / 2 ص -91- انصرف, وكان قبل التسمية لا ينصرف، ووقع الإِعراب على الباء, كما وقع على ياء النسب، فإن كان هذا الجمع فيما لامهُ ياء1 مثل جَوارٍ نونت في الجر والرفع؛ لأن هذه الياء تحذف في الوقت، في الجر والرفع, فعوضت النون من ذلك وإذا وقعت موضع النصب بنيت الياء ولم تصرف, وقلت: رأيت جواري يا هذا.
وقال أبو العباس, رحمه الله: قال أبو عثمان: كان يونس وعيسى وأبو زيد والكسائي ينظرون إلى جوار وبابه أجمع، فكل ما كان نظيره من غير المعتل مصروفًا صرفوه, وإلا لم يصرفوه وفتحوه في موضع الجر, كما يفعلون بغير المعتل يسكنونه في الرفع خاصةً، وهو قول أهل بغداد، والصرف الذي نحن عليه في الجر والرفع هو قول الخليل وأبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق، وجميع البصريين، قال أبو بكر: فأما الياء في "ثمانٍ" فهي "ياءُ نسبٍ" وكان الأصل ثمني مثل يمني, فحذفت إحدى الياءين وأبدلت منها الألف, كما فُعل ذلك بيمني حين قالوا: يَمانٍ يا هذا, وقد جعل بعض الشعراء ثماني لا ينصرف. قال الشاعر:

يَحْدو ثَماني مولعًا بلقاحِها2

وأما بخاتي3 فلا ينصرف لأن الياء لغير النسب، وهي التي كانت في بُختية وكذلك كُرسي وكَراسي، وقُمْري وقَماري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "فيما لامه جوار" وهو خطأ.
2
من شواهد سيبويه 2/ 17 على ترك صرف ثماني تشبيها لها بما جمع على زنة مفاعل, كأنه توهم واحدتها ثمنية كحذرية ثم جمع فقال: ثمان كما يقال: حذار في جمع حذرية، والمعروف في كلام العرب صرفها على أنها اسم واحد أتى بلفظ المنسوب نحو: "يمان" وهو صدر بيت عجزه: حتى هممن بزيغه الإرتاج.
وصف إبلا أولع راعيها بلقاحها حتى لقحت ثم حداها أشد الحداء ثم همت بإزلاق ما ارتجت عليه أرحامها من الأجنة والزيغ بها وهو إزلاقها وإسقاطها.
وانظر: الخزانة 1/ 74, وشواهد الألفية للعاملي/ 375.
3
بخاتي: جمع بختي، ككرسي، وفي اللسان: البخت والبختية دخيل في العربية أعجمي معرب وهي الإبل الخراسانية تنتج من عربية.



ج / 2 ص -92- الثامن: العجمة.
الأسماء الأعجمية الأعلام غير مصروفة إذا كانت العرب إنما أعربتها في حال تعريفها نحو: إسحاق، وإبراهيم, ويعقوب؛ لأن العرب لم تنطق بهذه إلا معارف ولم تنقلها من تنكير إلى تعريف، فأما [ما]1 أعربته العرب من النكرات من كلام العجم، وأدخلت عليه الألف واللام، فقد أجروه مجرى ما أصل بنائه له, وذلك نحو ديباجٍ وإبريسم ونيروز وفِرْنِد2 وزنجبيلَ، وشهريزَ، وآجر، فهذا كله قد أعربته العرب في نكرته وأدخلت عليه الألف واللام، فقالوا: الديباج والشهريزُ والنيروزُ والفِرنِدُ، فجميع هذا إذا سميت به مذكرًا صرفته، لأن حكمه حكم العربي, فإن كان الاسم العلمُ ثلاثيا صرفوه لخفته نحو نُوحٍ ولُوطٍ، ينصرفانِ على كل حالٍ3.
التاسع: الاسمان اللذان يجعلان اسمًا واحدًا.
والأول منهما مفتوح، والثاني بمنزلة ما لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة, وهو مشبه بما فيه الهاء لأن ما قبله مفتوحٌ، كما أن ما قبل الياء مفتوح وهو مضموم إلى ما قبله, كما ضمت الهاء إلى ما قبلها, وذلك نحو: حضرموت وبعلبكَ ورام هُرمز ومارسَرْجِس، ومنهم من يضيف ويصرف، ومنهم من يضيف ولا يصرف ويجعل كَرِبَ في "معدي كرب" مؤنثًا، ومنهم من يقول: معد يكرب يجعله اسمًا واحدًا4، إلا أنهم لا يفتحون الياء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أضفت كلمة "ما" لإيضاح المعنى. وانظر الموجز/ 73.
2
فرند: السيف وجوهره.
3
انظر الكتاب 2/ 19, وأما هود ونوح فتنصرفان على كل حال لخفتهما، والمقتضب 3/ 353.
4
انظر الكتاب 2/ 50, وأما معد يكرب ففيه لغات، منهم من يقول: معد يكرب فيضيف, ومنهم من يقول: معد يكرب ولا يصرف، يجعل كرب اسمًا مؤنثًا.



ج / 2 ص -93- ويتركونها ساكنةً, يجعلونها بمنزلة الياء في دردبيس1، وكذلك إذا أضافوا، يقولون: رأيت معدي كرب، يلزمون الياء الإسكان استثقالًا للحركةِ فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
دردبيس: الداهية، والشيخ والعجوز الفانية.

مسائل من هذا الباب:
قال أبو العباس: قال سيبويه: تصرفُ رجلًا سميته قيل أوردَ اللتين تقديرهما فُعِل، فقيل له: لم صرفتهما, وفعِلَ لا ينصرف في المعرفة لأنه مثال لا تكون عليه الأسماء؟ فقال: لما سكنت عيناهما ذهب ذلك البناءُ وصارا بمنزلة فُعْلٍ وفَعْلٍ قيل له: فكيف تزعم أنك إذا قلت لَقضْوُ الرجلُ ثم أسكنت على قول من قال في عَضُدٍ: عَضْدٌ قلت: لَقَضْو الرجل1، ولم ترد الياء وإن كانت الضمة قد ذهبت؛ لأنك زعمت تنويها, وأنك لم تبنها على "فعلٍ" ولكنك أسكنتها من "فَعْلٍ" فذلك البناء في نيتك, وكذلك تقول في "ضوءٍ" كما ترى إذا خففت الهمزة "ضَوٌ" فأثبت واوًا طرفًا وقبلها حركةٌ, ومثل هذا لا يكون في الكلام، فقلت: إنما جاز هذا لأن حركتها إنما هي حركة الهمز لأنها الأصل، فهي في النية وأشباه هذا كثير فَلمَ لَم تترك الصرف في قيل وَردَّ اللتين هُما فَعلَ؛ لأن الإِسكان عارض، والحركات في النية؟ قال: فالجواب في ذلك أنه حين قال: لَقَضْوَ الرجلُ فأسكن الضاد, إنما سكنها من شيءٍ مستعمل يتكلم به, فالإِسكان فيه عارضٌ؛ لأن قولهم المستعمل إنما هو لَقَضُوَ ثم يسكنون, وكذلك الهمزة المخففة إنما المستعمل إثباتها ثم تخفف استثقالًا فيقولون: ضَوٌ وقَضْو استخفافًا، وأما قيلَ، وَردَّ فلا يستعملُ الأصلُ منهما ألبتة، لا يقال: قَول ثم يخففُ ولا رَدُدَ, فهذا يجري مجرى ما لا أصل له إلا ما يستعمل، ولذلك قالوا في تصغير سماءٍ: سُمَيةٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في سيبويه 2/ 382 "ألا تراهم قالوا: لقضوا الرجل ثم قالوا: لقضو الرجل، فلما كانت مخففة مما أصله التحريك وقلب الواو لم يغيروا الواو، ولو قالوا: غزو وشقو لقالوا: لقضي...".



ج / 2 ص -94- لأن هذه الياء لا يستعمل إلا حذفها؛ فلذلك دخلت الهاء وصارت بمنزلة ما أصله الثلاثة، وقياس هذا القول أنك إذا سميت رجلًا: "ضَرَبَ" ثم أسكنت فقلت: ضَرْب لم تصرفه؛ لأن الأصل يستعمل, وإن أسكنت فقلت: "ضَرْبُ" التي هي فَعْلٌ ثم سميت بها مسكنة وجب أن تصرف لأن الأصل لم يقع في الاسم قط, وأنه لم يُسم به إلا مسكنًا, والدليل على ذلك أنهم إذا سموا رجلًا جيأَلَ1، ثم خففوا الهمزة قالوا: جمل ولم يصرفوه, وقال: سُئل التوزي وروي عن أبي عبيدة أنه يقال للفرس الذكرِ: لُكَعُ2, والأنثى لُكَعةُ، فهل ينصرف لُكَع على هذا القول؟ فالجواب في ذلك: أن لُكَعًا هذه تنصرف في المعرفة؛ لأنه ليس ذلك المعدول الذي يقالُ للمؤنث منه "لكاعِ" ولكنه بمنزلة: حُطَمٍ3، وإن كان حَطْمٌ صفةً؛ لأنه اسم ذكره من باب صُرَدٍ ونَغْرٍ فلم يؤخذ من مثال عامرٍ فيعدلُ في حالة التعريف إلى عُمَر ونحوه, وقال: الأسماء الأعجمية التي أعربتها العرب لا يجيءُ شيءٌ منها على هيئته وأنت إذا تفقدت ذلك وجدته في إبراهيم وإسحاق ويعقوبُ، وكذلك فرعونُ وهامانُ وما أشبهها؛ لأنها في كلام العجم بغير هذه الألفاظ, فمن ذلك أن إبراهيم بلغة اليهود منقوص الياء ذاهب الميم, وأن سارة لما أعربها نقصت نقصًا كبيرًا، وكذلك إسحاق والأسماء العربية ليس فيها تغييرٌ, ويبين ذلك أن الاشتقاق فيها غير موجودٍ ولا يكون في العربية نعتٌ إلا باشتقاقٍ من لفظه أو من معناه, ولو قال قائل: هل يجوز أن يصرف إسحاق كنت مشتركًا إن كان مصدر أسحق السفرُ إسحاقًا، تريد: أبَعَدَه إبعادًا فهو مصروفٌ لأنه لم يغير, والسحيقُ: البعيدُ, قال الله عز وجل: {أَوْ تَهْوِي بِهِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
جيئل: الضبع معرفة بغير ألف ولام، وهو غير معروف؛ لأنه اسم علم بمنزلة جعار.
2
في اللسان 10/ 199 قال أبو عبيد: اللكع عند العرب: العبد أو اللئيم.
3
رجل حطم، وحطمة: إذا كان قليل الرحمة للماشية يهشم بعضها ببعض، ويضرب مثلًا لوالي السوء. قال سيبويه 2/ 315: فالأسماء نحو: صرد, ونغر، وربع، والصفة نحو: حطم ولبد، قال الله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا}.



ج / 2 ص -95- الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}1 وإن سميته إسحاق اسم النبي -عليه السلام- تصرفه؛ لأنه قد غير عن جهته، فوقع في كلام العرب غير معروف المذهب، وكذلك يعقوب الذي لم يغير، وإنما هو اسم طائر معروف، قال الشاعر:

عَالٍ يُقَصّرُ دونَهُ اليعقوبُ2

فإذا سمينا بهذا صرفناه، وإن سميناه يعقوب اسم النبي -عليه السلام- لم تصرفه؛ لأنه قد غير عن جهته فوقع غير معروف المذهب، وإنما جاء في القرآن في مواضع من صرف عاد وثمود وسبأ، فالقول فيها أنها أسماء عربية وأن القوم عرب في أنفسهم، فقولُه عز وجل: {وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّس}3، وإنما هم آباء القبائل، كقولك: جاءتني تميم وعامر, إنما هو قبيلة تميم وقبيلة عامر، فحذف قبيلة كقولك: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}4 فأما عاد، فمنصرف اسم رجل على كل حال، لأن كل عجمي لا علامة للتأنيث فيه على ثلاثة أحرف فهو مصروف، وأما ثمودُ فهو فعول من الثَّمَدِ, وهو الماء القليل فمن صرفه جعله أبًا للحي والحي نفسه، وأما سبأ فهو جد بني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الحج: 31 وتكملة الآية: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
2
عجز بيت وصدره: ضحيان شاهقة يرف بشامه، ويروى الشطر الثاني:
نديان يقصر دونه اليعقوب.
والضحيان: البارز للشمس، وكان القياس في ضحيان ضحوان؛ لأنه من الضحوة، إلا أنه استخف بالياء, أي: إن الياء أخف من الواو.
وشاهقة: بقعة عالية. والبشام: نبت طيب الرائحة والطعم، يرف ويهتز خضرة وتلألؤا ونديان أصابه الندى.
واليعقوب: الظاهر فيه أنه ذكر العقاب، ومن فسره بذكر الحجل فقد أخطأ؛ لأن الحجل لا يعرف لها مثل هذا العلو في الطيران.
وانظر: الحيوان للجاحظ 5/ 145, واللسان 20/ 186 و2/ 113, والصحاح 10/ 186.
3
الفرقان: 38.
4
يوسف: 82.



ج / 2 ص -96- قحطان والقول فيه كالقول في ثمود وعاد، والأغلب فيه أنه الأب، والأكثر في القراءة: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة}1، و{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}2، وتقول: هو اسم امرأة وهي أمهم3 وليس هذا بالبعيد، قال النابغة الجعدي:

مِنْ سبأَ الحاضرينَ مأَرب إذْ يبنونَ من دونِ سيلهِ العَرِما4

مأرب: موضع, والعرمُ: هذا الذي يسمى السكر، والسكر فهو من قولك: سميته سكرًا, والسِّكْرُ: اسم الموضع وتقول: كل أفعل يكون وصفًا5، وكل أفعل يكون اسمًا، وكل أفعل أردت به الفعل [نصب أبدًا]6 لأنَّ "كل" لا يليها اسم علم إلا أن تريد كل أجزائه, فأما إذا وليها اسم مفرد يقوم مقام الجمع فلا يكون إلا نكرة, وقد بينتُ ذا فيما تقدم, وتقول: أفعل إذا [كان]7 وصفًا فقصته كذا، فتترك صرفه, كما تترك صرف أفعل إذا كان معرفة, وإنما صار معرفة لأنك إذا أردت هذا البناء فقط وهذا الوزن فصار مثل زيد الذي يدل على شيء بعينه, ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: الأفعل وإذا كان كذا, فقضيته كذا؛ لأنه لا ثاني له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
سبأ: 15.
2
النمل: 22.
3
انظر الكتاب 2/ 28، قال سيبويه: وكان أبو عمرو لا يعرف سبأ يجعله اسمًا للقبيلة.
4
من شواهد سيبويه 2/ 28، على ترك صرف سبأ حملا على معنى القبيلة والأم، ولو أمكنه الصرف على معنى الحي والأب لجاز، وقد قرئ بالوجهين.
ومأرب: أرض باليمن، والحاضر: المقيم على الماء، والمحاضر: مياه العرب التي يقيمون عليها، والعرم: جمع عرمة وهي السد، ويقال لها السكر والمسناة. انظر: الإنصاف 265, واللسان 15/ 290, والرواية: شرد بدل يبنون.
5
قال سيبويه في باب ما ينصرف من الأمثلة وما لا ينصرف: تقول: كل أفعل يكون وصفًا لا تصرفه في معرفة ولا نكرة. انظر الكتاب 2/ 5.
6
زيادة من سيبويه 2/ 5 لإيضاح المعنى.
7
أضفت كلمة "كان" للمعنى.



ج / 2 ص -97- فإن قلت: هذا رجل أفعل، فلا تصرفه لأنه موضع حكاية حكيت بها رجلًا أحمر كقولك: كلُّ أفعلَ زيدٌ، نصب أبدًا*، إذا مثلت به الفعل خاصة، وتقولُ: هذا رجل فعلان فتصرف؛ لأنه قد يكون هذا البناء منصرفًا إذا لم يكن له فعلى, فإن قلتُ فعلان إذا كان من قصته كذا فجئت به اسما لا يشركه غيره, لم تصرف وتقول: كل فَعْلَى أو فِعْلَى كانت ألفها لغير التأنيث انصرفت, وإن كانت الألف جاءت للتأنيث لم تنصرف لأن ما فيه ألف التأنيث لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وقال الأخفش: لو سميت رجلًا بخمسة عشر لقلت: هذا خمسةَ عشرَ قد جاء، وهذا خمسةَ عشر آخرَ, ومررت بخمسة عشر مقبلًا، وتقول: بلال أباذ. ومثل ذلك مائة دينار يعني إذا جعلت مائة مع دينار اسمًا واحدًا, قال أبو بكر: وما استعملته العرب مضافًا وعرف ذلك في كلامها فلا يجوز عندي أن يجعل المضاف والمضاف إليه بمنزلة خمسة عشر, من قبل أنهم قد فرقوا بين مائة دينار وخمسة عشر؛ لأن خمسة عشر, عددان فجعلا اسمًا واحدًا للمعنى وهما بمنزلة عشرة؛ لاختلاط العدد بعضه ببعض, ومائة دينار ليس كذلك؛ لأن دينارًا هو مفسر المعدود، والذي ذهب إليه الأخفش: أن مائة دينار إضافته غير إضافة حقيقية لأنه مميز وليس كإضافة صاحب دينار، ولا إضافة عبد الله, واعلم أن من أضاف معدي كرب وحضر موت يقول: هذا رامهرمز يا فتى فترفع "رام" ولا تصرف هرمز؛ لأنه أعجمي معرفة.
واعلم: أنه لا يصلح أن يجعل مثل: مدائن محاريب, ولا مثل: مساجد محاريب, ولا مثل: جلاجل سلاسل, اسمًا واحدًا مثل حضرموت؛ لأنه لم يجئ شيء من هذه الأمثلة, اسمان يكون منهما اسمًا واحدًا، فإن جاء فالقياس فيه أن يجعل كحضرموت، وأن ينصرف في النكرة، وقال الأخفش: إنما صرفته لأني قد حولته إلى باب ما ينصرف في النكرة، وخرج من حد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
هنا العبارة مضطربة في الأصل والتصحيح من كتاب سيبويه 2/ 6.



ج / 2 ص -98- البناء الذي لا ينصرف؛ لأني إنما كنت لا أصرفه لأنه على مثال لا يجيء في الواحد مثله1، وأنت الآن لا يمنعك البناء. ألا ترى أنك حين أدخلت في الجمع الهاء صرفته في النكرة نحو: صياقلة2 وجحاجحة، لما دخل في غير بابه قال: فإن قلت: ما بالي إذا سميت رجلًا بمساجد لم أصرفه في النكرة, قلت على بناء منعه من الصرف ولم يزل لذلك البناء حيث سميت به، وإذا سميته بمساجد محاريب وجعلته اسمًا واحدًا، فقد صغته غير الذي كان وبنيته بناء آخر، وكذلك لو سميت رجلًا بواحد حمراء، وواحدة بشرى أو رجل بيضاء، وأنت تريد أن تجعله اسمًا واحدًا مثل حضرموت, انصرف في النكرة؛ لأن الألف ليست للتأنيث في هذه الحال، ألا ترى أنك لو رخّمته حذفت الاسم الآخر ولم تكن تحذف الهاء، وينبغي في القياس إن بنيته أن تهمز فتقول: واحدة حمران ورجل بيضان؛ لأن الألف ليست للتأنيث عنده في هذه الحال, ولو أسميت امرأة ببنت وأخت لوجب أن يجريهما مجرى من أجرى جملًا وهندًا؛ لأن هذه التاء بدل من واو وأخت في التقدير كقفل, وبنت كَعِدْلٍ ولو كانت التاء تاء التأنيث لكان ما قبلها مفتوحًا, وكانت في الوقف هاء, وقوم لا يجرونها في المعرفة, فإن سميت رجلًا بهنة وقد كانت في هَنْتٍ ياء هذا قلت: هِنَه يا فتى, فلم تصرف وصارت هاء في الوقف وتقول: ما في يدك إلا ثلاثة, إذا أردت المعرفة والعدد فقط؛ لأنه اسم لا ثاني له, وهذا كما عرفتك في "أفعل" البناء الذي تريد به المعرفة, فإذا أردت ثلاثة من الدراهم وغير ذلك تنكر وصرفته, فأما إذا قلت: ثلاثة أكثر من اثنين وأقل من أربعة تريد هذا العدد فهو معرفة غير مصروف، ولا يجوز: رُبَّ ثلاثة أكثر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر المقتضب 3/ 345، فأما العجمة فقد زالت عنها بأنها قد أعربت إلا أن أبا الحسن الأخفش فإنه كان إذا سمى بشيء من هذا رجلًا أو امرأة صرفه في النكرة -وهو القياس عند المبرد- وكان يقول: إنما منعه من الصرف أنه مثال لا يقع عليه الحد.
2
صرف صياقلة وجحاجحة، وذلك لامتناعهما بالهاء من الصرف في المعرفة؛ لأنهما قد خرجا إلى مثل الواحد.



ج / 2 ص -99- من اثنين، ولو سميت امرأة بغلام زيدٍ لصرفت زيدًا؛ لأن الاسم إنما هو غلام زيدٍ، جميعًا, والمقصود هو الأول كما كان قبل التسمية، وكذلك: ذات عرق لأن الاسم "ذات" دون عرق, وكذلك أم بكر وعمرو، تجر بكرًا وعمرًا1 وكذلك أم أناس، وقوم لا يصرفون أم أناس؛ لأنه ليس بابن لها معروف، فصار اسمًا وينشدون:

وإلى ابن أُمِّ أُناسَ تَعمدُ2 ناقتي

واعلم: أن أسماء البلدان والمواضع ما جاء منها لا ينصرف، فإنما يراد به أنه اسم للبلدة والبقعة، وما أشبه ذلك، وما جاء منها مصروفًا فإنما يراد به البلد والمكان، ووقع هذا في المواضع؛ لأن تأنيثه ليس بحقيقي وإنما المؤنث في الحقيقة هو الذي له فرج من الحيوان، فمن ذلك: واسط3، وهو اسم قصر، ودابق وهو نهر، وهجر ذكر4، ومنى ذكر، والشام ذكر، والعراق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أي: إن بكرًا وعمرًا مصروفان في حالة فصلهما عن "أم".
2
من شواهد الكتاب 1/ 222، على إجراء ملك على ما قبله بدلًا منه وهو من بدل النكرة من المعرفة؛ لما فيه زيادة الفائدة. وقد ذكر سيبويه بيتين هما:

فإلى ابن أم أناس أرحل ناقتي عمرو فتبلغ حاجتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه عرفوا مواد مزبد لا ينزف

يمدح عمرو بن هند الملك، وأم أناس بعض جداته وهو من بني يشكر، ومعنى تزحف: تعيا وتكل, والموارد مناهل الماء المورودة، شبه بها عطاياه وجعله كالبحر المزبد لكثرة جوده. ومعنى ينزف: يستنفد ماؤه, ولم يعرف قائل هذين البيتين.
وانظر: الإنصاف 362، والهمع 2/ 127, والدرر اللوامع 2/ 165.
3
قال سيبويه 2/ 23: وأما واسط فالتذكير والصرف أكثر، وإنما سمي واسطًا؛ لأنه مكان وسط البصرة والكوفة، وانظر معجم البلدان 5/ 347.
4
قال سيبويه 2/ 23: هجر يؤنث ويذكر... وسمعنا من يقول:

كجالب التمر إلى هجر يا فتى



ج / 2 ص -100- ذكر، وأما ما يذكر ويؤنث فنحو: مصر1 وأضاخ وقباء2 وحراء3 وحجر4، وحنين، وبدر ماء وحمص، وجور, وماه: لا ينصرف5؛ لأن المؤنث من الثلاثة الأحرف الخفيفة إن كان أعجميا لم ينصرف؛ لأن العجمة قد زادته ثقلًا, وإنما صرفته ومن صرفه فلأنه معرفة مؤنث فقط لخفته في الوزن, فعادل في خفة أحد الثقلين, فلما حدث ثقل ثالث قاوم الخفة, وتقولُ: قرأت هودًا إذا أردت سورة هود فحذفت سورة, وإن جعلته اسمًا للسورة لم تصرف؛ لأنك سميت مؤنثا بمذكر، وإن سميت امرأة بأم صبيان لم تصرف "صبيان" لأنك لو سميت به وحده لم تصرفه؛ لأن الألف والنون فيه زائدتان, وقد صار معرفة وهو وإن كان لم تتقدم التسمية به فتحكمه حكم ذلك, وإن سميت رجلًا بملح وربح صرفتهما, كما تصرف رجلًا سميته بهند, كأنك قد نقلته من الأثقل إلى الأخف وهو على ثلاثة أحرف, وقد بيَّنا هذا فيما تقدم, وكذلك إذا سميت رجلًا بخمس وست فاصرفه, وإن سميت رجلًا بطالق وطامث فالقياس صرفه لأنك قد نقلته عن الصفة, وهو في الأصل مذكر وصفت به مؤنثًا, وحَمّار جمع حَمَّارةِ القيظ مصروف إذا أردت الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء. قال أبو العباس: سألت أبا عثمان عنه فصرفه فقلت: لم صرفته؟ هلاّ كان بمنزلة دواب؟ قال: لأن الأصل الباء الأولى في دواب الحركة، والراء في "حمارٍ" ساكنة على أصلها تجري مجرى الواحد؛ لأنه ليس بين الجمع والواحد إلا الهاء، بمنزلة تمرةٍ وتمرٍ، وأما إذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في اللسان 7/ 24، مصر هي المدينة المعروفة، تذكر وتؤنث عن ابن السراج.
2
في معجم البلدان 4/ 301، قبا -بالضم- وأصله اسم بئر هناك، وألفه واو ويمد ويقصر ويصرف ولا يصرف.
3
حراء: في معجم البلدان 2/ 233 حراء بالكسر والتخفيف: جبل من جبال مكة.
4
في معجم البلدان 2/ 221، حجر بالفتح: مدينة باليمامة وأم قراها، وانظر الروض الأنف 1/ 14.
5
في سيبويه 2/ 23: فمن الأعجمية حمص وجور، فلو سميت امرأة بشيء من هذه الأسماء لم تصرفها، كما لا تصرف الرجل لو سميته بفارس.





ج / 2 ص -101- أردت جمع التكسير فهو غير مصروف؛ لأن التقدير حمار, وكذلك في جبنة جبّان يا هذا, وإن سميت رجلًا بأفضل وأعلم بغير منك, لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة, فإن سميته بأفعل منك كله, لم تصرفه على حال، لأنك تحتاج إلى أن تحكي ما كان عليه، وإذا سميت بأجمع وأكتع لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة، وهما قبل التسمية إذا كانا تأكيدًا لا ينصرفان؛ لأنهما يوصف بهما المعرفة.
فأما أسماء الأحياء, فمعد وقريش وثقيف وكل شيء لا يجوز لك أن تقول فيه من بني فلان، وإذا قالوا: هذه ثقيف، فإنما أرادوا جماعة ثقيفٍ1. وقد يكون تميم اسمًا للحي، فإن جعلت قريش وأخواتها أسماء للقبائل جاز, وتقولُ: هؤلاء ثقيف بن قسي, فتجعله اسم الحي, وابن صفة, فما جعلته اسمًا للقبيلة لم تصرفه وأما مجوس ويهود فلم تقعا إلا اسمًا للقبيلة, ولو سميت رجلًا بمجوس لم تصرفه, وأما قولهم: اليهود والمجوس2، فإنما أرادوا المجوسيين واليهوديين ولكنهم حذفوا ياءي الإِضافة كما قالوا: زنجي وزنجٌ ونصارى نكرة, وهو جمع نصران ونصرانةٍ, كندمان وندامى, ولكن لم يستعمل نصران إلا بياء النسب.
وقال أبو العباس: إذا سميت رجلًا بنساء, صرفته في المعرفة والنكرة؛ لأن نساء اسم للجماعة وليس لها تأنيث لفظًا, وإنما تأنيثها من جهة الجماعة, فهي بمنزلة قولك كلاب إذا قلت: بني كلاب؛ لأن تأنيث كلاب إنما هو تأنيث جماعة وإنما أنثت كل جماعة كانت لغير الآدميين؛ لأنهم قد نقصوا عن الآدميين فالحيوان الذي لا يعقل والموات متفقان في جمع التكسير, وإنما خص من يعقل بجمع السلامة؛ لأن له أسماء أعلاما يعرف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 26، والمقتضب 3/ 361.
2
في سيبويه 2/ 29، وأما قولهم: اليهود والمجوس، فإنما أدخلوهما الألف واللام ههنا كما أدخلوهما في المجوس واليهودي، لأنهم أرادوا اليهوديين والمجوسيين, ولكنهم حذفوا ياءي الإضافة.



ج / 2 ص -102- بها، وكان جمع السلامة يؤدي الاسم المعروف وبعده علامة الجمع فكان به أولى، ولو أنك لا تخص الموات وما لا يعقل بالواو والنون، وخصصت ما يعقل بالتكسير لكان السؤال واحدا, وإنما قصدنا أن نفضله بمنزلة ليست لغيره, وإنما قلت: هي الرجال؛ لأن الرجال جماعة فكان هذا التأنيث تأنيث الجماعة, وهو مشارك للموات في هذا الموضع إذا وافقه في جمع التكسير.
والتأنيث تأنيثان: تأنيث حقيقي فهو لازم, وتأنيث غير حقيقي فهو غير لازم؛ فالتأنيث اللازم مثل امرأة وما أشبه ذلك، والتأنيث الذي هو غير لازم مثل دار وذراع، فإنما هذا تأنيث لفظ، فلهذا كان تذكير أفعال المؤنث في غير الآدميين أحسن منه في الآدميين, قال محمد بن يزيد: ناظرت ثعلبًا في هذا بحضرة محمد بن عبد الله1 فلم يفهمه، فقلت له: أخبرني عن قولنا: دار, أليس هو مؤنث اللفظ؟ قال: بلى, قلت: فإذا قلنا: منزل، هل زال معنى الدار, أفلا ترى التأنيث إنما هو اللفظ, فلما زال اللفظ زال ذلك المعنى؟ وكذلك قولنا: ساعد وذراع ورمح وقناة أفتراه في نفسه مؤنثًا مذكرًا في حال؟ فقال له محمد بن عبد الله: هذا بين جدا, وليس كذلك ما كان تأنيثه لازمًا, ألا ترى أنا لو سمينا امرأة بجعفر أو بزيد لصغرنا زبيدة، فلما كان مؤنث الحقيقة لم يغير عن تأنيثه, تعليقنا عليه, أسماء مذكرة في اللفظ, وإنما قلت: قالت النساء بمنزلة جاءت الإِبل والكلاب وما أشبه ذلك, وليس تأنيث النساء تأنيثًا حقيقيًّا، وإنما هو اسم للجماعة, تقولُ: قال النساء إذا أردت الجمع، وقالت النساء إذا أردت معنى الجماعة؛ لأن قولك النساء وما أشبهه إنما هو اسم حملته للجمع, وكذلك قوله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}2، إنما أنث لأنه أراد الجماعة، وتقول في أسماء السور: هذه هود إذا أردت سورة هود, وإن جعلت هودًا اسم السورة لم تصرفه؛ لأنها بمنزلة امرأة سميتها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أمير من أسرة آل طاهر توفي عام 270هـ.
2
الحجرات: 14، والآية: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}.



ج / 2 ص -103- بعمر، وكذا حكم نوح ونون، وإذا جعلت، اقتربت اسمًا قطعت الألف نحو: أصبع وإن سميت بحاميم، لم ينصرف لأنه أعجمي نحو: هابيل وإنما جعلته أعجميا لأنه ليس من أسماء العرب, وكذلك: طس وحسن، وإن أردت الحكاية تركته وقفًا1، وقد قرأ بعضهم: {يّـس وَالْقُرْآنِ}2، و{ق وَالْقُرْآنِ}3، جعله أعجميا ونصب "باذكر"4 وأما صاد فلا تجعله أعجميا لأن هذا البناء والوزن في كلامهم, فإن جعلت اسمًا للسورة لم تصرفه, ويجوز أن يكون {يـس} و{ص} مبنيين على الفتح لالتقاء الساكنين، فإن جعلت {طسم} اسمًا واحدًا حركت الميم بالفتح، فصار مثل دراب جرد, وبعل بك وإن حكيت تركت السواكن على حالها, قال سيبويه: فأما: {كهيعص} و{ألم}، فلا تكونان إلا حكاية5، وإنما أفرد بابًا للحكاية إن شاء الله. وقال سيبويه: أبو جاد وهَوَّار وحُطي، كعمرو وهي أسماء عربية، وأما كَلَمَنْ وسَعْفَص وقُريشيات فإنهن أعجمية لا ينصرفن, ولكنهن يقعن مواقع عمرو فيما ذكرنا، إلاّ أن قريشيات بمنزلة عرفات وأذرعات6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
لأنها حروف مقطعة.
2
سورة يس: 2 والآية: {يّـس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}.
3
سورة ق: 1 والآية: {ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}.
4
أي: نصب يس ونون.
5
انظر الكتاب 2/ 31.
6
انظر الكتاب 2/ 36.

















========================.



27



















الأصول في النحو

ج / 2 ص -104- باب ما يحكى من الكلم إذا سمي به وما لا يجوز أن يحكى:
اعلم: أن ما يُحكى من الكلم إذا سمي به على ثلاث جهات, إحداها: أن تكون جملة والثانية أن يشبه الجملة وهو بعض لها وذلك البعض ليس باسم مفرد ولا مضاف، ولا فيه ألف ولا مبني مع اسم ولا حرف معنى مفرد، والثالثة: أن يكون اسمًا مثنى أو مجموعًا على حد التثنية.
الأول: نحو: تأبّط شرًّا وبرق نحره وذَرَّى حيا تقول: هذا تأبّط شرا ورأيت تأبّط شرا ومررت بتأبّط شرا وهذه الأسماء المحكية لا تثنى ولا تجمع، إلا أنْ تقول: كلهم تأبّط شرا أو كلاهما تأبّط شرا ولا تحقره ولا ترخمه، فجميع هذه الجمل التي قد عمل بعضها في بعض وتمت كلامًا لا يجوز إلا حكايتها, وكذلك كل ما أشبه ما ذكرت من مبتدأ وخبره وفعل وفاعل، وإن أدخلت عليها إنَّ وأخواتها وكان وأخواتها فجميعه يحكى بلفظه قبل التسمية وإن سميت رجلًا بوزيد أو وزيدًا أو وزيدٌ حكيت؛ لأن الواو عاملة تقوم مقام ما عطفت عليه.
الضرب الثاني: الذي يشبه الجملة.
وهو على خمسة أضرب: اسم موصول واسم موصوف وحرف مع اسم وحرف مع حرفٍ وفعل مع حرف, فجميع هذا تدعه على حاله قبل التسمية من الصرف وغير الصرف؛ لأنك لم تسم بالموصول دون الصلة، ولا بشيء من هذه دون صاحبه.



ج / 2 ص -105- الأول: الاسم الموصول: نحو رجل سميته: خيرًا منك ومأخوذًا بك أو ضاربًا رجلًا، فتقول: رأيت خيرًا منك، وهذا خير منك, ومررت بخير منك, فإن سميت به امرأة لم تدع التنوين، وحكيته كما كان قبل التسمية من قبل أنه ليس منتهى الاسم، كما أن بعض الجملة ليس بمنتهى الاسم.
الثاني: الموصوف: إن سميت رجلًا: زيدٌ العاقلُ, قلت: هذا زيدٌ العاقلُ ورأيت زيدًا العاقلَ وكذلك لو سميت امرأة، لكان على هذا اللفظ, وإن سميت رجلًا "بعاقلة" لبيبةٍ قلت: هذا عاقلة لبيبة ورأيت عاقلةً لبيبةً فصرفته؛ لأنك تحكيه ولو كان الاسم عاقلةً وحدها لم تصرف، فحكاية الشيء أن تدعه على حكمه ما لم يكن معه عاقل, فإن كان معه عاقل أعملت العامل ونقلته بحاله.
الثالث: الحرف مع الاسم: وذلك إذا سميت إنسانًا كزيدٍ، وبزيدٍ, وإن زيدًا حكيته، وحيثما وأنت تحكيهما لأن "حيثما" اسم وحرف, وأنت التاء للخطاب والألف والنون هما الاسم, وكذلك أما التي في الاستفهام حكاية؛ لأنها مع "ما" دخلت عليهما ألف الاستفهام, ومما يحكى: كذا وكأي و"ذلك" يحكى لأن الكاف للخطاب, وهذا وهؤلاء يحكيان؛ لأن ها دخلت على ذا وأولاء, وإن سميت "زيد وعمرو" رجلًا, قلت في النداء: يا زيدًا وعمرًا فنصبت ونونت لطول الاسم.
الرابع: الحرف مع الحرف: وذلك نحو: إنما وكأنما وأما وإن لا في الجزاء ولعل؛ لأن اللام عندهم زائدة وكأن1؛ لأنها كاف التشبيه دخلت على "أن" فجميع هذا وما أشبهه يحكى.
الخامس: الفعل مع الحرف: وذلك هلم: إذا سميت به حكيته وإن أخليته من الفاعل، وإن سميت بالذي رأيت لم تغيره عما كان عليه قبل أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 2/ 67: ولعل حكاية؛ لأن اللام ههنا زائدة. ألا ترى أنك تقول: علك، وكذلك كأن؛ لأن الكاف دخلت للتشبيه.



ج / 2 ص -106- يكون اسمًا، ولو جاز1 أن تناديه بعد التسمية، لجاز أن تناديه قبلها، ولكن لو سميته: الرجل منطلق بهذه الجملة لناديتها؛ لأن كل واحد منهما اسم تام وذلك غير تام، وإنما يتم بصلته, وهو يقوم مقام اسم مفرد، ولو سميته الرجل والرجلان لم يجز فيه النداء2.
الضرب الثالث:
من القسمة الأولى، وهو التسمية بالتثنية والجمع الذي على حد التثنية, وذلك إذا سميت رجلًا بسلمانِ وزيدانِ حكيت التثنية، فقلت: هو زيدان, ومررت بزيدين, ورأيت زيدين, فتحكي التثنية ولفظها وإن أردت الواحد، وقد أجازوا أن تقول: هذا زيدان وتجعله كفعلان، وإن سميت بجميع على هذا الحد حكيت فقلت: هذا زيدونَ ورأيت زيدين ومررت بزيدين, ومنهم من يجعله كقنسرين فيقول: هذا زيدون، ومسلمون وقد ذكرت ذا فيما تقدم وإن بجمع مؤنث قلت: هذا مسلمات، ورأيت مسلماتٍ، ومررت بمسلماتٍ، تحكي: تقول العرب: هذه عرفات مباركًا فيها، فعرفات بمنزلة آبانين3، ومثل ذلك أذرعات, قال امرؤ القيس:

تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعَاتٍ وأهلُها بِيَثْرِبَ أَدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عالي4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "ولا يجوز" ولا يستقيم المعنى.
2
لأن ذا يجري مجراه قبل أن يكون اسمًا في الجر والنصب والرفع. انظر الكتاب: 2/ 68.
3
أبان: جبل أبانان، أبان الأسود، وأبان الأبيض، وانظر معجم البلدان واللسان، والاشتقاق 77, والمغني 2/ 10, والسيوطي 247.
4
من شواهد سيبويه 2/ 18، على تنوين أذرعات، والمتنور: الناظر إلى النار من بعد, أراد قصدها أو لم يرد، وقد نظر امرؤ القيس بقلبه تشوقًا إليها، أذرعات: بلد من أطراف الشام، ويثرب: مدينة الرسول, صلى الله عليه وسلم.
انظر المقتضب 3/ 333, والخزانة 1/ 26, ومعجم البلدان 1/ 130، وجـ5/ 430, والديوان 105.



ج / 2 ص -107- ومن العرب من لا ينون أذرعات ويقول: هذه قريشياتُ، كما ترى، شبهوها بهاء التأنيث في المعرفة؛ لأنها لا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة, ولا الأربعة بالخمسة. قال أبو العباس: أنشدني أبو عثمان للأعشى:

تَخَيَّرَهَا أخو عَانَاتِ شَهرا1

فلم يصرف ذلك، قال أبو بكر: قد ذكرت ما ينصرف وبقي ذكر المبني المضارع للمعرف، ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات, إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
صدر بيت وعجزه:

ورجى خيرها عامًا فعاما

ورواه المبرد في المقتضب: تخيرها أخو عانات دهرا، وفي الخزانة: فخيرها أخو عانات شهرا, وفي اللسان: برها عامًا فعاما، والشاهد حذف التنوين من عانات، ويجوز أن تكسر التاء وأن تفتح فيكون ممنوعًا من الصرف.
وعانات: موضع بالجزيرة تنسب إليها الخمرة العانية، وفي معجم البلدان: قرى عانات، سميت بثلاثة إخوة من قوم عاد خرجوا هرابًا فنزلوا تلك الجزيرة، فلما نظرت العرب إليها قالت: كأنها عانات، أي: قطع من الظباء وهي بالشام.
وانظر المقتضب 3/ 333, والخزانة 1/ 27, واللسان "عون", ومعجم البلدان 4/ 72, والديوان 197.



ج / 2 ص -108- باب ما لا يجوز أن يحكى:
هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام: وهو كل اسم مبني، أو مضاف ملازم للإِضافة وأفردته أو فعل فارغ، أو حرف قصدت التسمية به فقط, فجميع هذه إذا سميت بشيء منها أعربته إعراب الأسماء الأول، وإن نقص عما كانت عليه الأسماء.
الأول: إن سميت بكم أو بمن، قلت: هذا كم قد جاء؛ لأن في الأسماء مثل دم ويد, وإن سميت بهو قلت: هذا هو, فاعلم, وإن سميت به مؤنثًا لم تصرفه؛ لأنه ضمير مذكر, وإنما ثقلت "هو" لأنه ليس في كلامهم اسم على حرفين أحدهما ياء أو واو أو ألف, وسمع منهم إذا أعربوا شيئًا من هذا الضرب التثقيل, فإن سميت بذو قلت ذوًّا؛ لأنك تقول: هاتان ذواتا مال, فلما علمت الأصل رددته إلى أصله, كما تكلموا به ولو لم يقولوا: ذوا ثم سمينا بذو لما قلت إلا ذو، وكان الخليل1 يقول: ذو أصل، الذال على كل قول الفتح، وإن سميت "بفو" قلت: فم, ولو لم يكن قبل فم لقلت: فوه2 مؤنثان وأين, ومتى، وثم، وهنا، وحيث، وإذا، وعند وعن فيمن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الكتاب 2/ 33 وكان الخليل يقول: هذا ذو، بفتح الذال لأن أصلها الفتح، تقول: ذوا وتقول: ذوو.
2
قال سيبويه 2/ 33: ولو لم يكونوا قالوا: فم لقلت: فوه؛ لأنه من الهاء.



ج / 2 ص -109- قال, من عن يمينه1، ومنذ في لغة من رفع، تصرف الجميع، تحمله على التذكير حتى يتبين غيره، وإن سميت كلمة بتحت أو خلف أو فوق لم تصرفها؛ لأنها مذكرات، يدل على تذكيرها تحت, وخليف ذاك، ودوين، ولو كان مؤنثًا دخلت الهاء كما دخلت في قديديمةٍ، ووريئةٍ.
الثاني: التسمية بالفعل الفارغ من الفاعل والمفعول: إن سميت رجلًا بضرب، أو ضُرِبَ أو يضرِب أعربته، وقد عرفتك ما ينصرف من ذلك وما لا ينصرف, وحكم نعم وبئس حكم الفعل إذا سميت به، تقولُ: هذا نعم وبئس، وإن سميته أزمة قلت: أزمٍ, ورأيت أزمى، وبيغزو2، قلت: يغز ورأيت يغزى، وإن سميته بعهْ قلت: وعٍ وإن سميت برَه: قلت إرْأً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 2/ 309: وأما "عن" فاسم إذا قلت: من عن يمينك؛ لأن من لا تعمل إلا في الأسماء.
2
قال سيبويه 2/ 60: وسألته عن رجل يغزو فقال: رأيت يغزى قبل، وهذا يغزو هذا يغزي زيد وقال: لا ينبغي له أن يكون في قول يونس إلا يغزى وثبات الواو خطأ؛ لأنه ليس في الأسماء واو قبلها مضموم.



ج / 2 ص -110- باب التسمية بالحروف:
وذلك نحو إن, إذا سميت بها قلت: هذا إن، وكذلك أن، وكذلك ليت، وإن سميت بأن المفتوحة لم تكسر، وإن سميت بلو واو زدت واوًا فقلت: لو واو وكان بعض العرب يهمز فيقول: لؤ1، وإن سميت "بلا" زدت ألفًا ثم همزت فقلتَ: لاء؛ لأن الألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان, وإذا سميت بحرف التهجي نحو: باء وتاء وثاء وحاء مددت فقلت: هذه باء وتاء, وإذا تهجيت قصرت ووقفت ولم تعرب, وفي "زاي" لغتان2: منهم من يجعلها "ككي" ومنهم من يقول: زاي, فإن سميته بزي على لغة من يجعلها ككي قلت: زي فاعلم, وإن سميت بها على لغة من يقول: زايٌ قلت: زاءٌ وكذا واوٌ وآءٌ, وسنبين هذا في التصريف وجميع هذه الحروف إذا أردت بالواحد منها معنى حرف فهو مذكر, وإن أردت به معنى كلمةٍ فهو مؤنث, وإن سميت بحرف متحرك أشبعت الحركة إن كانت فتحةً جعلتها ألفًا وضممت إليها ألفًا أخرى، وإن كانت كسرة أشبعتها حتى تصير ياء وتضم إليها أخرى وكذلك المضموم إذا وجدته كذلك وذلك أن تسمي رجلًا بالكاف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 33 قال سيبويه: وكان بعض العرب يهمز كما يهمز النئور فيقول: لوء.
2
قال سيبويه 2/ 34: وأما زاي، ففيها لغتان: فمنهم من يجعلها في التهجي ككي, ومنهم من يقول: زاي، فيجعلها بزنة واو وهي أكثر.



ج / 2 ص -111- من قولك: كزيدٍ، تقول: هذا "كا" وإن سميته بالباء من بزيد, قلت: بي, فإن سميته بحرف ساكن فإن الحرف الساكن لا يجوز من غير كلمة فترده إلى ما أخذ منه.
واعلم: أن كل اسم مفرد لا تجوز حكايته, وكذلك كل مضاف, وإن سميت رجلًا عم, فأردت أن تحكي به في الاستفهام تركته على حاله، وإن جعلته اسمًا قلت: عن ما تمد "ما" لأنك جعلته اسمًا كما تركت تنوين سبعة إذا سميت فقلت: سبعةُ. والمضاف بمنزلة الألف واللام لا يجعلان الاسم حكاية, قال أبو بكر: قد ذكرنا ما لا ينصرف، وقد مضى ذكر المبني المضارع للمعرب، ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله.











======================.



28



















الأصول في النحو

ذكر الأسماء المبنية التي تضارع المعرب:شرح الأول من المعرب:
هذه الأسماء على ضربين: مفرد ومركب, فنبدأ بذكر المفرد إذ كان هو الأصل؛ لأن التركيب إنما هو ضم مفرد إلى مفرد، ولنبين أولًا المعرب ما هو لنبين به المبني، فنقول: إن الاسم المفرد المتمكن في الإِعراب على أربعة أضرب: اسم الجنس الذي تعليله من جنس آخر، والواحد من الجنس, وما اشتق من الجنس, ولقب الواحد من الجنس.
شرح الأول من المعرب:
الجنس: الاسم الدال على كل ما له ذلك الاسم, ويتساوى الجميع في المعنى, نحو: الرجل, والإِنسان, والمرأة، والجمل، والحمار، والدينار، والدرهم، والضرب, والأكل, والنوم, والحمرة, والصفرة، والحسن, والقبح وجميع ما أردت به العموم، لما يتفق في المعنى، بأي لفظ كان فهو جنس، وإذا قلت: ما هذا؟ فقيل لك: إنسان, فإنما يراد به الجنس، فإذا قال: الإِنسان فالألف واللام لعهد الجنس، وليست لتعريف الإِنسان بعينه، وإنما هي فرق



ج / 2 ص -112- بين إنسان موضوع للجنس وبين إنسان هو من الجنس، إذا قلت إنسان, قال الله عز وجل: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}1 فدل بهذا أن الإِنسان يراد به الجنس، ومعنى قول النحويين: الألف واللام لعهد الجنس أنك تشير بالألف واللام إلى ما في النفس من معرفة الجنس؛ لأنه شيء لا يدرك بالعيان والحس، وكذلك إذا قلت: فضةٌ والفضةُ, وأرضٌ والأرضُ, وأسماء الأجناس إنما قيلت ليفرق بين بعضها وبعض, مثل الجماد والإِنسان، وهذه الأسماء تكون أسماء لما له شخص ولغير شخص, فالذي له شخص نحو: ما ذكرنا من الإِنسان والحمار والفضة, وما لا شخص له مثل الحمرة والضرب والعلم والظن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
العصر: 2-3.

شرح الثاني من المعرب:
وهو الواحد من الجنس نحو رجل وفرس ودينار ودرهم وضربةٍ وأكلةٍ فتقول: إذا كان واحد من هذه معهودًا بينك وبين المخاطب, الرجل, والفرس, والدينار، والضرب، أي: الفرس الذي تعرف والضرب الذي تعلم، والفرق بين قولك: رجل وبين فضة, أن رجلًا يتضمن معنى جنس له صورة فمتى زالت تلك الصورة زال الاسم, وفضة ليس يتضمن هذا الاسم صورة, فأما درهم فهو مثل رجل في أنه يتضمن معنى الفضة بصورة من الصور.

الثالث: ما اشتق للوصف من جنس من الأجناس التي لا أشخاص لها.
نحو: ضارب, مشتق من الضرب, وحَسَنٌ مشتق من الحُسْنِ, وقبيحٌ مشتق من القُبحِ، وآكلٌ مشتق من الأكل، وأسود من السواد, وهذه كلها صفات تجري على الموصوفين، فإن كان الموصوف جنسًا، فهي أجناس وإن كان واحد منكورًا من الجنس فهو واحد منكور نحو القائمِ, وقائمٍ، والحَسِنُ، وحَسَنٌ، وإن كان معهودًا فهو معهودٌ وحكم الصفة حكم الموصوف في إعرابه.



ج / 2 ص -113- الرابع: ما يلقب به شيء بعينه ليعرف من سائر أمته.
نحو: زيد وعمرو وبكر وخالد وما أشبه ذلك من الأسماء الأعلام التي تكون للآدميين وغيرهم. فجميع هذه الأسماء المتمكنة إلا الجنس يجوز أن تعرف النكرة منها بدخول الألف واللام عليها، ويجوز أن تنكر المعرفة منها، ألا ترى أنك تقولُ: الرجل إذا كان معهودًا، ثم تقول: رجلٌ إذا لم يكن معهودًا والمعنى واحد وكذلك ضرب, والضربُ, وحَسُنَ، والحسنُ، وضاربٌ، والضَارب، وقبيحٌ، والقبيحُ، وتقول: زيدُ عمرٍو, فإذا تنكرا بأن يتشاركا في الاسم قلت: الزيدان والعمران تدخل الألف واللام مع التثنية؛ لأنه لا يكون نكرة إلا ما يثنى ويجمع, والأسماء المبنية بخلاف هذه الصفة, لا يجوز أن تنكر المعرفة منها ولا تعرف النكرة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يتنكر "هذا" فتقول: الهذان ولا يتنكر أنا, ولا أنت, ولا هو, فهذا من المعارف المبنيات التي لا يجوز أن يتنكر ما كان منها فيه الألف واللام، فلا يجوز أن يخرج منها الألف واللام نحو: الذي والآن، وأما النكرة التي لا يجوز أن تعرف نحو قولك: كيف وكم, فجميع ما امتنع أن يعرف بالألف واللام, وامتنع من نزع الألف واللام منه لتنكير فهو مبني, ولا يلزم من هذا القول البناء في اسم الله عز وجل، إذ كانت الألف واللام لا تفارقانه فإن الألف واللام وإن كانتا غير مفارقتين, فالأصل فيهما أنهما دخلتا على إله, قال سيبويه: أصل هذا الاسم أن يكون إلها1, وتقديره "فعال" والألف واللام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 1/ 309: وكأن الاسم -والله أعلم- "إله" فلما أدخل فيه الألف واللام حذفوا الألف وصارت الألف واللام خلفًا منها، وفي 2/ 144، أنه مأخوذ من "لاه", وانظر المقتضب 4/ 240.



ج / 2 ص -114- عوض من الهمزة التي في "إله" وهو على هذا علم، قال أبو العباس: لأنك تذكر الآلهة الباطلة فتكون نكرات تعرف بالألف واللام، وتجمع كما قال الله عز وجل: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَة}1، وتعالى الله أن يعتور اسمه تعريف بعد تنكير أو إضافة بعد أن كان علمًا, وقال سيبويه في موضع آخر: ويقولون: لاه أبوك يريدون: لله أبوك2، فيقدمون اللام ويؤخرون العين، والاسم كامل, وهو علم، وحق الألف واللام إذا كانتا في الاسم ألا ينادى إلا الله عز وجل، فإنك تقول: يا لله وتقطع الألف، فتفارق سائر ألفات الوصل, والشاعر إذا اضطر فقال: "يا التي"3 لم تقطع الألف، فهذا الاسم مفارق لجميع الأسماء عز الله وجل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يس: 22.
2
انظر الكتاب 2/ 144.
3
لعله يشير إلى قول الشاعر:

من أجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني













=========================.





29



















الأصول في النحو

أقسام الأسماء المبنيات المفردات ستة:
اسم كني به عن اسمٍ, واسم أشير به إلى مسمى وفيه معنى فِعْلٍ، واسم سمي به فعل، واسم قام مقام الحرف، وظرف لم يتمكن, وأصوات تحكى.



ج / 2 ص -115- باب الكنايات وهي علامات المضمرين:
الكنايات على ضربين: متصل بالفعل ومنفصل عنه، فالمتصل غير مفارق للفعل, والفعل غير خالٍ منه، وعلامة المرفوع فيه خلاف علامة المنصوب والمخفوض, فالتاء للفاعل المتكلم مذكرًا كان أو مؤنثًا فعلتُ وصنعتُ وعلامة المخاطب المذكر فعلتَ, والمؤنث فعلتِ, وعلامة المضمر النائب في النية تقول: فعل وصنع، فاستغنى عن إظهاره والعلامة فيه بأن كل واحد من المتكلمين والمخاطبين له علامة, فصار علامة الغائب أن لا علامة له, هذا في الفعل الماضي, فأما الفعل المضارع فليس يظهر في فعل الواحد ضمير ألبتة, متكلمًا كان أو مخاطبًا إلا في فعل المؤنث المخاطب, وذلك أنه استغنى بحروف المضارعة عن إظهار الضمير, يقولُ المتكلمُ: أنا أفعل, ذكرًا كان أو أنثى فالمتكلم لا يحتاج إلى علامة؛ لأنه لا يختلط بغيره, وإنما أظهرت العلامة في "فعلتُ" للمتكلم؛ لأنه لو أسقطها لالتبس بالغائب، فصار فعل, فلا يعلم لمن هو, فإن خاطبت ذكرًا قلت: أنت تفعل، والغائب هو يفعل، فإن خاطبت مؤنثًا قلت: تفعلين, فظهرت العلامة وهي الياء, وإن كانت غائبة قلت: هي تفعل فيصير لفظ الغائبة كلفظ المخاطب, ويفصل بينهما الخطاب وما جرى في الكلام من ذكر ومؤنث, وتقول للمؤنث في الغيبة: فعلتْ وصنعتْ, فالتاء علامة فقط وليست باسمٍ, يدلك على ذلك قولهم: فعلت هند، فأما التاء التي هي اسم فيسكن لام الفعل لها، نحو فَعلْتُ وصنَعْتُ وإنما أسكن لها لام الفعل؛ لأن ضمير الفاعل والفعل



ج / 2 ص -116- كالشيء الواحد، فلو لم يسكنوا لقالوا: ضَرَبتُ فجمعوا بين أربعة متحركات، وهم يستثقلون ذلك فإن ثنيت وجمعت الضمير الذي في الفعل, قال الفاعل: فعلنا في التثنية والجمع والمذكر والمؤنث في هذا اللفظ سواء وتقولُ في الخطاب: فعلتما للمذكر والمؤنث, ولجمع المذكرين فعلتم, وللمؤنث فعلتن, فإن ثنيت الغائب قلت: قاما, فظهرت العلامة وهي الألف1 وفي الجمع قاموا، وفي المضارع يقومان ويقومون, تثبت النون في الفعل المعرب وتسقط من الفعل المبني, وقد ذكرناه فيما تقدم, وتقول في المؤنث: قامتا وقمن ويقومان ويقمن, هذه علامات المضمر المتصل المرفوع, فأما علامة المخفوض والمنصوب المتصل فهي واحدة، فعلامة المتكلم ياء قبلها نون نحو: ضربني, وجيء بالنون لتسلم الفتحة, ولئلا يدخل الفعل جر, وللمجرور علامته, ياء بغير نون نحو: مررت بي وغلامي, وهذه الياء تفتح وتسكن, فمن فتح جعلها كالكاف أختها ومن أسكن فلاستثقال الحركة في الياء في أنها تكسر ما قبلها, وكلهم إذا جاء بها بعد ألف فتحها نحو: عصايَ ورحايَ, وإذا تكلم منه ومن غيره قال: ضربنا زيد والمؤنث في ذا كالمذكر، وكذلك هو في الجر, تقول: ضربنا وغلامنا, فإذا خاطبت فعلامة المخاطب المذكر كاف مفتوحة, والمؤنث كاف مكسورة نحو: ضربتك وكذلك المجرور تقول: مررت بكَ يا رجل, وبكِ يا امرأة, وإذا ثنيت قلت في المذكر والمؤنث: ضربتكما, وللجميع المذكرين: ضربتكم، وكذلك تقول: مررت بكما في التذكير والتأنيث، ومررت بكم في المذكرين, ومررت بكن للمؤنث.
الضرب الثاني: وهو علامات المضمرين المتصلة:
أما علامة المرفوعين، فللمتكلم أنا، فالاسم الألف والنون وإنما تأتي بهذه الألف الأخيرة في الوقف، فإن وصلت سقطت فقلت: أن فعلتُ ذاكَ, وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال: نحن وكذلك إن تحدث عن نفسه وعن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل: والاسم ولا معنى لها.



ج / 2 ص -117- جماعة قال: نحن، ولا يقع "أنا" في موضع التاء، والموضع الذي يصلح فيه المتصل لا يصلح فيه المنفصل, لا تقول: فعل أنا وعلامة المخاطب إن كان واحدًا أنت, وإن خاطبت اثنين فعلامتها أنتما، والجميع أنتم فالاسم هو الألف والنون في "أنت" والتاء علامة المخاطب, والمضمر الغائب علامته "هو" وإن كان مؤنثًا فعلامته "هي", والاثنان والاثنتان هما والجميع هم, وإن كان الجمع جمع مؤنث فعلامته هن, وأما علامة المضمر المنصوب "فإيا" فإن كان غائبًا قلت: إياه, وإن كان متكلمًا قلت: إياي وإيانا في التثنية والجمع، وللمخاطب المذكر: إياكَ وللمؤنث: إياكِ, وإياكما إذا ثنيت, المؤنث والمذكر, وإياكم للمذكرين, وإياكن في التأنيث, وللغائب المذكر إياه, وللمؤنث إياها, وإياهما للمذكر والمؤنث, وإياهم للمذكرين, وإياهن للجميع المؤنث, وقد قالوا: إن "إيا" مضاف إلى الهاء والكاف والقياس أن يكون "إيا" مثل الألف والنون التي في أنت, فيكون "إيا" الاسم وما بعدها للخطاب، ويقوي ذلك أن الأسماء المبهمة وسائر المكنيات لا تضاف, و"إيا" مع ما يتصل بها كالشيء الواحد نحو: أنت, فأما المجرور فليست له علامة منفصلة؛ لأنه لا يفارق الجار ولا يتقدم عليه, وجميع المواضع التي يقع فيها المنفصل لا يقع المتصل, والموضع الذي يقع فيه لا يقع المنفصل؛ لأن المنفصل كالظاهر تقول: إني وزيدًا منطلقانِ, ولا تقول: إن إياي وزيدًا منطلقانِ, وتقول: ما قام إلا أنت ولا تقول: إلاتَ, وتقول: إن زيدًا وإياك منطلقانِ، ولا تقول: إن زيدًا إلاك منطلقان، ومما يدل على "إن وأخواتها" مشبهة بالفعل, أن المكني معها كالمكني مع الفعل, تقول: إنني كما تقول: ضربني, وأما قولهم: عجبتُ من ضريبكَ, وضريبه فالأصل من ضربي إياك وضربي إياه, وأقل العرب1 من يقول: ضَريبهُ وإنما وقع هذا مع المصدر؛ لأنه لم تستحكم علامات الإِضمار معه، ألا ترى أنهم لا يقولون:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 1/ 381: تقول: عجبت من ضريبك ومن ضريبه وضريبكم، فالعرب قد تتكلم بهذا وليس بالكثير.



ج / 2 ص -118- عجبت من ضربكني، إذا بدأت بالمخاطب قبل المتكلم، ولا من ضربهيك إذا بدأت بالبعيد قبل القريب, وقالوا: عجبت من ضريبك وضربكه, ولو كان هذا موضعًا يصلح فيه المتصل لجاز فيه جميع هذا, ألا ترى أنك تقول: ضَريبكَ إذا جئت بالفعل ضربته, وموضع ضربكه ضربته, وكان الذين قالوا: ضريبه قالوا ذلك اختصارًا لأن المصدر اسم, فإذا أضفته إلى مضمر فحقه إن عديته لمعنى الفعل أن تعديه إلى ظاهر أو ما أشبه الظاهر من المضمر المتصل، وكان حق المضمر المتصل أن لا يصلح أن يقع موقع المنفصل, والأصل في هذا: عجبتُ من ضربي إياك, كما تقول: من ضربي زيدًا ومن ضربك إياه, كما تقول: من ضربك عمرًا, والكسائي يصل جميع المؤنث فيقول: أعطيتهنه والضارباناه؛ لأنه لم يتفق حرفان ولا أعلم بين الواحد والجمع فرقًا, ومن ذلك قولهم: كان إياه لأن "كانَهُ" قليلة ولا تقول: كانني وليسني1، ولا كانَكَ؛ لأن موضعه موضع ابتداء وخبر، فالمنفصل أحق به، قال الشاعر:

لَيْتَ هَذَا اللَّيْلَ شَهْرٌ لا نَرى فيهِ عَريبا2

لَيس إيايَ وإيَا كَ ولا نخشَى رَقيبا


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 1/ 381: وبلغني عن بعض العرب الموثوق بهم يقولون: ليسني وكأنني.
2
من شواهد سيبويه 1/ 381، على إتيانه بالضمير بعد ليس منفصلًا لوقوعه موقع خبرها، والخبر منفصل من المخبر عنه، فكان الاختيار فصل الضمير إذا وقع موقعه، واتصاله بليس جائز؛ لأنها فعل وإن لم تقو قوة الفعل الصحيح.... ويجوز في شهر الرفع والنصب.. والنصب على لغة من ينصب الجزأين أو على تقدير أن الخبر محذوف. نرى: من رؤية العين وعريب من الألفاظ الملازمة للنفي, ونسب الأعلم الشعر إلى عمر بن أبي ربيعة، ونسبه صاحب الأغاني إلى العرجي. وقد ذكر البيتان في قصيدة لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه 430 وما بعدها، كما ذكرت القصيدة في ديوان العرجي 61 وما بعدها مع خلاف في الترتيب, وفي بعض الألفاظ. ورواية البيت الثاني في ديوان العرجي كذا:

غير أسماء وجمل ثم لا نخشى رقيبا

وانظر المقتضب 3/ 98, وابن يعيش 3/ 75, وشرح الرماني 3/ 65, وشرح السيرافي 3/ 136, والخزانة 2/ 424, ولسان العرب مادة "ليس".



ج / 2 ص -119- وقد حكوا: ليسني، وكأنني, واعلم أنك إذا أكدت المرفوع المتصل والمنصوب والمخفوض المتصلين أكدته بما كان علامة المضمر المرفوع المنفصل, وذلك قولك: قمت أنتَ وضربتُك أنت وإنما جاز ذلك؛ لأن الخطاب جنس واحد وليس بأسماء معربة, والأصل في كل مبني أن يكون المرفوع والمنصوب والمخفوض على صيغة واحدة وإنما فرق في هذا للبيان, فإذا أمنوا اللبس رجع المبني إلى أصله, ومع ذلك فلو أكد المرفوع والمنصوب المتصلان بالمنفصلين اللذين لهما لبقي المجرور بغير شيء يؤكده ولا يحسن أن يعطف الاسم الظاهر على المرفوع المتصل, لا يحسن أن تقول: قمتُ وزيدٌ حتى تؤكد فتقول: أنا وزيدٌ, ولا تقول: قام وزيدٌ حتى تقول: قام, هو وزيدٌ وقال عز وجل: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ}1 ربما جاء على قبحه غير مؤكد ويحتمل لضرورة الشاعر. وإنما قَبُحَ أن تقول: قمت وزيد لأن التاء قد صارت كأنها جزء من الفعل إذ كانت لا تقوم بنفسها, وقد غير الفعل لها، فإن عوضت من التأكيد شيئًا يفصل به بين المعطوف والمعطوف عليه نحو: ما قمتُ ولا عمرو, وقعدتُ اليومَ وزيد فحسن, فأما ضمير المنصوب فيجوز أن يعطف عليه الظاهر تقول: ضربتُك وزيدًا وضربت زيدًا وإياكَ, فيجوز تقديمه وتأخيره, وأما المخفوض فلا يجوز أن يعطف عليه الظاهر لا يجوز أن تقول: مررت بكِ وزيدٍ؛ لأن المجرور ليس له اسم منفصل يتقدم ويتأخر كما للمنصوب، وكل اسم معطوف عليه فهو يجوز أن يؤخر ويقدم الآخر عليه فلما خالف المجرور سائر الأسماء لم يجزْ أن يعطف عليه, وقد حكي أنه قد جاء في الشعر:

فَاذْهَب فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَبِ2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
طه: 42.
2
من شواهد سيبويه 1/ 392، على عطف الأيام على المضمر المجرور، وهو عجز بيت صدره:

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب.............

ومعنى: قربت: جعلت وأخذت، يقال: قربت تفعل كذا، أي: جعلت تفعله, والمعنى: هجوك لنا من عجائب الدهر، فقد كثرت فلا يعجب منها. وانظر: الإنصاف/ 251, وشرح ابن عقيل 2/ 240.



ج / 2 ص -120- وتقول: عجبت من ضربِ زيدٍ أنت, إذا جعلت زيدًا مفعولًا، ومن ضربكه إذا جعلت الكاف مفعولًا, وتقول فيما يجري من الأسماء مجرى الفعل: عليكهُ ورويدهُ وعليكني, ولا تقول: عليك إيايَ ومنهم من لا يستعمل "ني" ولا "نا"، استغناء بعليك "بي" و"بنا"1 وهو القياس, ولو قلت: عليك إياه كان جائزًا؛ لأنه ليس بفعل والشاعر إن اضطر جعل المنفصل موضع المتصل, قال حميد الأرقط:

إليك حَتىَّ بَلَغت إياكا2

يريد: حتى بلغتكَ, فإن ذكرتَ الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين فحق هذا الباب إذا جئت بالمتصل أن تبتدئ بالأقرب قبل الأبعد, وأعني بالأقرب المتكلم قبل المخاطب, والمخاطب قبل الغائب, وتعرف القوي من غيره, فإن الفعلين إذا اجتمعا إلى القوي, فتقول: قمت وأنت ثم تقول: قمنا وقام وأنتَ, ثم تقول: قمتما فتغلب المخاطب على الغائب وتقول: أعطانيه وأعطانيك ويجوز: أعطاكني, فإن بدأ بالغائب قال: أعطاهوني وقال سيبويه: هو قبيح لا يتكلم به العرب3، وقال أبو العباس: هذا كلام جيد ليس بقبيحٍ، وقال الله عز وجل: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}4 فتقول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 382.
2
من شواهد سيبويه 1/ 383، على وضعه إياك موضع الكاف ضرورة، وقال الزجاج: أراد بلغتك إياك فحذف الكاف ضرورة، قال الأعلم: وهذا التقدير ليس بشيء؛ لأنه حذف المؤكد وترك التوكيد مؤكدًا لغير موجود, فلم يخرج من الضرورة إلا إلى أقبح منها، والمعنى: سارت هذه الناقة إليك حتى بلغتك.
وانظر: الخصائص 1/ 307 و2/ 194, والإنصاف 369.
3
انظر الكتاب 1/ 383.
4
هود: 28، وانظر الكتاب 1/ 384.



ج / 2 ص -121- على هذا أعطاه إياك، وهو أحسن من أعطاهوكَ، فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت: لمعطاهوه, وليس بالكثير في كلامهم, والأكثر المعطاه إياه1، والمنفصل بمنزلة الظاهر، فأما المفعولان في ظننت وأخواتها، فأصلها الابتداء الخبر, كما جاء في "كان" فالأحسن أن نقول: ظننتك إياه، كما تقول: كان إياهُ وكنت إياهُ.
واعلم: أنه لا يجوز أن يجتمع ضمير الفاعل والمفعول إذا كان المفعول هو الفاعل في الأفعال المتعدية والمؤثرة, لا يجوز أن تقول: ضربتني ولا أضربك إذا أمرت, فإن أردت هذا قلت: ضربت نفسي واضرب نفسك, وكذلك الغائب لا يجوز أن تقول: ضربه إذا أردت ضرب نفسه, ويجوز في باب ظننت وحسبت, أن يتعدى المضمر إلى المضمر, ولا يجوز أن يتعدى المضمر إلى الظاهر, تقول: ظننتني قائمًا وخلتني منطلقًا؛ لأنها أفعال غير مؤثرة, ولا نافذة منك إلى غيرك, فتقول على هذا: زيد ظنه منطلقًا، فتعدى فعل المضمر في ظن إلى الهاء, ولا يجوز زيدًا ظن منطلقًا, فتعدى فعل المضمر الذي في ظن إلى زيدٍ فتكون قد عديت في هذا الباب فعل المضمر إلى الظاهر، وإنما حقه أن يتعدى فعل المضمر إلى المضمر, وتكون أيضًا قد جعلت المفعول الذي هو فضلة في الكلام لا بد منه, وإلا بطل الكلامُ, فهذه جميع علامات المضمر المرفوع والمنصوب قد بينتها في المنفصل والمتصل, وقد خبرتك أن المجرور لا علامة له منفصلة, وأن علامته في الاتصال كعلامة المنصوب, لا فرق بينها في الكاف والهاء تقول: رأيتك كما تقول: مررت بك, وتقول: ضربته كما تقول: مررت به, فهذا مطرد لا زيادة فيه, فإذا جاءوا إلى الياء التي هي ضمير المتكلم زادوا في الفعل نونا قبل الياء؛ لئلا يكسروا لام الفعل, والفعل لا جرّ فيه فقالوا: ضربني فسلمت الفتحة بالنون، ووقع الكسر على النون، وكذلك: يضربني، فإذا جاءوا بالاسم لم يحتاجوا إلى النون فقالوا: الضاربي في النصب واستحسنوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 384.



ج / 2 ص -122- الكسرة في الباء؛ لأنه موضع يدخله الجر, ولم يستحسنوا ذلك في لام الفعل لأنه موضع لا يدخله الجر, وقالوا: إنني ولعلني ولكنني؛ لأن هذه حروف مشبهة بالفعل.
قال سيبويه: قلت له, يعني الخليل: ما بال العرب قالت: إني وكأني ولعلي ولكني؟ فزعم: أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة1 من كلامهم، وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف, فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف, حذفوا النون التي تلي الياء قال: فإن قلت: "لعلي" ليس فيها تضعيف, فإنه زعم: أن اللام قريبة من النون2، يعني في مخرجها من الفم، وقد قال3 الشعراء في الضرورة: ليتي4. وقال: سألته عن قولهم عني وقطني ولدني: ما بالهم جعلوا علامة المجرور ههنا كعلامة المنصوب؟ فقال: إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإِضافة إلا كان متحركًا مكسورًا، ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في "قط" ولا النون التي في "من" فجاءوا بالنون ليسلم السكون, وقدني بهذه المنزلة5 وهذه النون لا ينبغي أن نذكرها في غير ما سمع من العرب, لا يجوز أن تقول: قدي كما قلت مني, وقد جاء في الشعر "قدي" قال الشاعر:

قدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبيْبَيْن قَدِي6


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أظن الأفصح "في كلامهم" وليس من كلامهم.
2
انظر الكتاب 1/ 386.
3
في الأصل "قالت".
4
مثل ذلك سيبويه، بقول زيد الخيل:

كمنية جابر إذ قال ليتي أصادفه وأتلف بعض مالي

5
انظر الكتاب 1/ 386.
6
من شواهد سيبويه 1/ 387 على حذف النون من "قدني" تشبيهًا بحسبي وإثباتها في قد وقط هو المستعمل؛ لأنها في البناء ومضارعة الحروف بمنزلة من وعن فتلزمها النون المكسورة قبل الياء لئلا يغير آخرها عن السكون, وهو صدر بيت، وعجزه:

ليس الإمام بالشحيح الملحد

وأراد بالخبيبين: عبد الله بن الزبير وكنيته أبو خبيب ومصعبا أخاه، وغلبه لشهرته، ويروى بالخبيبين على الجمع، يريد أبا خبيب وشيعته، ومعنى قدني: حسبي وكفاني، والبيت لأبي نخيلة حميد بن مالك الأرقط.
وانظر الهمع 1/ 64 والدرر اللوامع 1/ 42, والأشباه والنظائر 2/ 282 وشرح الحماسة 2/ 896 والخزانة 1/ 453, وشرح السيرافي 5/ 109, وأمالي ابن الشجري 2/ 142, والمحتسب 2/ 223.



ج / 2 ص -123- فقال: قدي لما اضطر شبهه بحسبي، كما قال: ليتي حيث اضطر, وقال سيبويه: لو أضفت إلى الياء الكاف تجر بها لقلت: ما أنت كِي؛ لأنها متحركة قال الشاعر لما اضطر:

وأمّ أوعالٍ كها أو أقربا1

وقال آخر لما اضطر:

فلا تَرى بَعْلًا ولا حَلائِلا كَهُ ولا كَهُنَّ إلاّ حَاظِلا2

فهذا قاله سيبويه قياسًا, وهو غير معروف في الكلام، واستغنى عن "كي" بمثلي. ولام الإِضافة تفتح مع المضمر إلا مع الياء؛ لأن الياء تكسر ما قبلها, تقول: لَهُ ولَكَ, ثم تقول: لِي فتكسر؛ لأن هذه الياء لا يكون ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 392 على إدخال الكاف على المضمر تشبيهًا لها بمثل؛ لأنها في معناها واستعمل ذلك عند الضرورة, وأم أوعال: أكمة بعينها، والهاء في قوله: كها عائدة على شيء مؤنث شبه الأكمة به، وعطف أقرب على شيء قبل البيت, والشاهد للعجاج.
وانظر: شروح سقط الزند 1/ 267, والخزانة 4/ 77, وشواهد الألفية للعاملي 218, والتصريح 2/ 4, والكنز اللغوي 155, وشرح شواهد ابن عقيل للجرجاوي 120.
2
من شواهد سيبويه أيضًا 1/ 392 على كهو ولا كهن وأراد مثله ومثلهن، والوقف على "كهو" بإسكان الواو لأنه ضمير جر متصل بالكاف اتصاله بمثل، فالوقف عليه هنا كالوقف عليه هناك، وصف حمارًا وآتنا، والحاظل هو المانع من التزويج؛ لأن الحمار يمنع آتنه من حمار آخر يريدهن، ولذلك جعلهن كالحلائل وهي الأزواج.
والشاهد للعجاج، وانظر الهمع 1/ 30, والدرر اللوامع 2/ 27, وشرح السيرافي 186, وحاشية شرح القطر للألوسي 83, ومنهج السالك 49, وشرح ابن عقيل 171, وشروح سقط الزند 1/ 267, والخزانة 4/ 276, والعيني 2/ 257.



ج / 2 ص -124- قبلها حرف متحرك إلا مكسورًا، وهي مفارقة لأخواتها في هذا, ألا ترى أنك تقول: هذا غلامُه فتصرف, فإذا أضفت غلامًا إلى نفسك قلت: هذا غلامي, فذهب الإِعراب وإنما فعلوا ذلك؛ لأن الضم قبلها لا يصلح، فلما غير لها الرفع وهو أول غير لها النصب إذا كان ثانيًا وألزمت حالًا واحدًا, فقلت: رأيت غلامي.
واعلم: أن الذي حكي من قولهم: لولاي, ولولا شيء شذ عن القياس كان عند شيخنا1 يجري مجرى الغلط, والكلام الفصيح ما جاء به القرآن: لولا أنت, كما قال عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}2، والذين قالوا: لولاك ولولاي قالوا: لأنها أسماء مبنية يؤكد المرفوع منها المخفوض, فكأنهم إنما يقتصرون العبارة عن المتكلم والمخاطب والغائب لا بأي لفظ كان؛ لأنه غير ملبس, ولكنهم لا يجعلون غائبًا مكان مخاطب, لا يقولون: لولاه مكان لولاك, فأما قولهم: عساك فالكاف منصوبة؛ لأنك تقول: عساني، فعساك مثل رماك، وعساني مثل رماني.
واعلم: أن علامة الإِضمار قد ترد أشياء إلى أصولها, فمن ذلك قولك: لعبد الله مال ثم تقول: لك, وله إنما كسرت مع الظاهر في قولك: لزيدٍ مالٌ كيلا يلتبس بلام الابتداء, إذا قلت: لهذا أفضل منك ألا تراهم قالوا: يا لبَكر حين أمنوا الالتباس فمن ذلك: أعطيتكموه في قول من قال: أعطيتكم ذاك فأسكن ردوه بالإِضمار إلى أصله، كما ردوا بالألف واللام حين قالوا: أعطيتموا اليوم فكان الذين وقفوا بإسكان الميم كرهوا الوقف على الواو،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
أي أبو العباس المبرد؛ لأن المبرد يرى أنه لا يصلح إلا أن تقول: ولولا أنت كما قال الله تعالى: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}. قال: ومن خالفنا يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعد، فهو ينكر الشواهد التي استدل بها سيبويه ومن سار على نهجه وكذلك ينكر مذهب الأخفش ويرده. انظر: الكامل 650 طبعة ليبك.
2
سبأ: 31.



ج / 2 ص -125- فلما وصلوا زال ما كرهوا، فردوا وزعم يونس أنه يقول: أعطيتُكُمْه1، بإسكان الميم كما قال في الظاهر: أعطيتكم زيدًا.
واعلم: أنَّ أنت، وأنا، ونحن، وأخواتهن يكن فصلًا, ومعنى الفصل أنهن يدخلن زوائد على المبتدأ المعرفة وخبره, وما كان بمنزلة الابتداء والخبر ليؤذن بأن الخبر معرفة أو بمنزلة المعرفة, ولا يكون الفصل إلا ما يصلح أن يكون كناية عن الاسم المذكور, فأما ما الخبر فيه معرفة واضحة فنحو قولك: زيد هو العاقلُ وكان زيد هو العاقل، وأما ما الخبر فيه يقرب من المعرفة إذا أردت المعرفة, وكان على لفظه فنحو قولك: حسبت زيدًا هو خيرًا منك وكان زيد هو خيرًا منك وتقول: إن زيدًا هو الظريف فيكون فصل, وإن زيدًا هو الظريف، وتقول: إن كان زيدٌ لهو الظريفُ وإن كنا لنحن, هي "نا" في كنا, ولو قلت: كان زيدٌ أنت خيرا منه, لم يجز أن تجعل "أنت" فصلًا, لأن أنت غير زيد فإن قلت: كنت أنت خيرًا من زيدٍ, جاز أن يكون فصلًا وأن يكون تأكيدًا فجميع هذه لمسائل الاسم فيها معرفة والخبر معرفة, أو قريب منها، مما لا يجوز أن يدخل عليه الألف واللام، ولو قلت: ما أظن أحدًا هو خير منك لم يجز أن تجعل "هو" فصلًا لأن واحدًا نكرة ولكن تقول: ما أظن أحدًا هو خير منك, فجعل: هو مبتدأ و"خير منك" خبره, وهذا الباب يسميه الكوفيون العماد, وقال الفراء: أدخلوا العمادَ ليفرقوا بين الفعل والنعت؛ لأنك لو قلت: زيدٌ العاقل لأشبه النعت, فإذا قلت: زيدٌ هو العاقل قطعت "هو" عن توهم النعتِ, فهذا الذي يسميه البصريون فصلًا ويسميه الكوفيون عِمادًا2، وهو ملغى من الإِعراب، فلا يؤكد ولا ينسق عليه ولا يحال بينه وبين الألف واللام وما قاربهما, ولا يقدم قبل الاسم المبتدأ ولا قبل "كان" ولا يجوز كان هو القائم زيدٌ, ولا هو القائم كان زيد, وقد حكي هذا عن الكسائي، لأنه كان يجعل العماد بمنزلة الألف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 389.
2
انظر الإنصاف 375, فقد شرح ابن الأنباري هذه المسألة وبين فيها آراء الفريقين.



ج / 2 ص -126- واللام في كل موضع يجوز وضعه معهما, فإذا قلت: كنت أنت القائم جاز أن يكون أنت فصلًا, وجاز أن يكون تأكيدًا، ويجوز أن يبتدأ به فترفع القائم, ولك أن تثني الفعل وتجمعه وتؤنثه فتقول: كان الزيدان هما القائمينِ, وكان الزيدونَ هم القائمينَ, وكانت هندٌ هي القائمة, والظن وإنّ, وجميع ما يدخل على المبتدأ والخبر، يجوز الفصل فيه؛ تقول: ظننتُ زيدًا هو العاقلَ، وإن زيدًا هو العاقلُ, فإذا قلت: كان زيدٌ قائمةً جاريته, فأدخلت الألف واللام على "قائمةٍ" وجعلتها لزيدٍ قلت: كان زيد القائمةُ جاريتهُ, فإن كانت الألف واللام للجارية صار المعنى: كان زيد التي قامت جاريتهُ فقلت: كان زيدٌ القائمة جاريتُه حينئذٍ, وهذا لا يجوز عندي ولا عند الفراء، من قبل أنه ينبغي أن يكون الألف واللام هما الفصل بعينه, وأن يصلح أن يكون ضميرًا للأول.



ج / 2 ص -127- الباب الثالث من المبنيات: وهو الاسم الذي يشار به إلى المسمى.
وفيه من أجل ذلك معنى الفعل، وهي: ذَا، وذه، وتثنى ذا وذه فتقول: ذانِ في الرفع وذينِ في النصب والجر وتثنية "تا" تان وتجمع ذا, وذه, وتا, أُولى, وأولاءِ, والمذكر والمؤنث فيه سواء, فذا اسم تشير به إلى المخاطب إلى كل ما حضر كما يدخلون عليه هاء التنبيه, فيقولون: هذا زيدٌ وهذي أمةُ الله, فإذا وقفوا على الياء أبدلوا منها هاءً في الوقف, فإذا وصلوا أسقطوا الهاء وردوا الياء, ويبدلون من الياء فيقولون: هذهِ أمةُ الله, فإذا وصلوا قالوا: هذي أمةُ اللهِ, فإذا وقفوا حذفوا الهاء وردوا الياء, ومنهم من يقول: هذه أمةُ الله. وهؤلاءِ تُمد وتقصرُ, وإذا مدوا بنوه على الكسر لالتقاء الساكنين فإن أدخلوا كاف المخاطبة فأول كلامهم لما يشار إليه وآخره للمخاطب, والكاف ههنا حرف جيء به للخطاب وليس باسمٍ؛ لأن إضافة المبهمة محال من قبل أنها معارف, فلا يجوز تنكيرها, وكل مضافٍ فهو نكرةٌ قبل إضافته فإذا أُضيف إلى معرفة صار بالإِضافة معرفة، وهو قولك: ذاكَ وذلكَ، واللام في "ذلكَ" زائدة والأصل "ذَا" والكاف للخطاب فقط, ومحالٌ أن تكون هنا اسمًا لما بينت لك, فإنما زدت الكاف على "ذَا" وكانت "ذَا" لما يومئ إليه بالقرب. فإذا قلت ذلك, دلت على أن الذي يومئ إليه بعيدٌ, وكذلك جميع الأسماء المبهمة إذا أردت المتراخي زدت كافًا للمخاطبة لحاجتك أن تنبه بالكاف المخاطب, ونظير هذا هنا وههنا, وهناكَ وهنالكَ إذا أشرت إلى مكان، فإن سألت رجلًا عن رجلٍ قلت: كيف ذاكَ الرجلُ؟



ج / 2 ص -128- فتحت الكاف. فإن سألت امرأة عن رجلٍ قلت: كيفَ ذاكِ الرجلُ؟ فكسرت الكاف, قال الله عز وجل: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}1، فإن سألت رجلًا عن امرأةٍ قلت: كيفَ تلكَ المرأةُ؟ فإن سألت المرأة عن امرأةٍ، قلت: كيف تلكِ المرأةُ؟ تكسر الكاف, فإن سألت رجلًا عن رجلينِ قلت: كيف ذانكَ الرجلانِ؟ ومن قال في الرجلِ ذلكَ قال في الاثنينِ: ذانّكَ بتشديد النون, أبدلوا من اللام نونًا وأدغمت إحدى النونين في الأخرى, كما قال عز وجل: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ}2، فإن سألت عن جماعةٍ رجلًا, قلت: كيف أولئك الرجالُ, وأولاكَ الرجالُ؟ فإن سألت رجلًا عن امرأتين قلت: كيفَ تانك المرأتانِ؟ وإن سألت امرأة عن رجلين قلت: كيف ذانِك الرجلانِ يا امرأةُ؟ وإن سألتها عن جماعةٍ قلت: كيف أولئكِ الرجالُ يا امرأة؟ فإن سألت رجلينِ عن رجلينِ قلت: كيف ذانكما الرجلانِ يا رجلانِ؟ وإن سألتهما عن جماعةٍ قلت: كيف أولئكما الرجالُ يا رجلانِ؟ وإن سألتهما عن امرأةٍ قلت: كيف تيكما وتلكما المرأةُ يا رجلانِ؟ وإن سألتهما عن امرأتين قلت: كيفَ تانكما المرأتان يا رجلانِ؟ وإن سألت جماعة عن واحدٍ قلت: كيف ذاكم الرجلُ يا رجالُ؟ وإن سألتهم عن رجلين قلت: كيف ذانكم الرجلانِ يا رجالُ؟ وإن سألتهم عن جماعة قلت: كيف أُولئكَ الرجالُ، يا رجالُ؟ وإن سألتهم عن امرأةٍ قلت: كيف تلكم المرأة يا رجال؟ وإن سألتهم عن امرأتين قلت: كيف تانكم المرأتانِ يا رجالُ؟ وإن سألت امرأتين, فعلامة المرأتينِ والرجلين في الخطاب سواءٌ, فإن سألت نساء عن رجلٍ قلت: كيف ذاكنَّ الرجلُ يا نساءُ؟ وباللام: كيف ذلكن الرجلُ يا نساءُ؟ قال الله عز وجل: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}3، فإن سألتهن عن رجلين قلت: كيف تيكن؟ وإن سألتهن عن جماعةٍ قلت: كيفَ أُولئكنَّ النساءُ؟ مثل المذكرِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
آل عمران: 47.
2
القصص: 32.
3
يوسف: 32.



ج / 2 ص -129- واعلم: أنه يجوز لك أن تجعل مخاطب الجماعة على لفظ الجنس، أو تخاطبُ واحدًا عن الجماعة, فيكون الكلام له والمعنى يرجع إليهم, كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}1، ولم يقل: ذلكم؛ لأن المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن في هذا معنى فعلٍ قولهم: هذا زيدٌ منطلقًا؛ لأن منطلقًا انتصب على الحالِ, والحال لا بد من أن يكون العامل فيها فعلٌ أو معنى فعلٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
النساء: 3.



ج / 2 ص -130- باب الأسماء المبنية المفردة التي سمي بها الفعل:
وذلك قولهم: صه ومه ورويدَ وإيه وما جاء على فَعال, نحو: حَذارِ ونزالِ وشتان, فمعنى صه: اسكت, ومعنى مه: اكفف, فهذانِ حرفانِ مبنيانِ على السكون سمي الفعل بهما, فأما رويدَ: فمعناه المهلةُ, وهو مبني على الفتح ولم يسكن آخره؛ لأن قبله ساكنًا فاختير له الفتح للياء قبله, تقول: رويدَ زيدًا فتعديهِ, فأما قولك: رويدَك زيدًا فإن الكاف زائدةٌ للمخاطبة وليست باسم, وإنما هي بمنزلة قولك: التجاءَك يا فتى، وأرأيتُك زيدًا ما فعلَ, ويدلك على أن الكاف ليست باسمٍ في: التجاءَكَ دخول الألف واللام, والألف واللام والإِضافة لا يجتمعان وكذلك الكاف في: أرأيتُكَ زيدًا زائدةٌ للخطاب وتأكيده, ألا ترى أن الفعل إنما عمل في زيد, فإن قلت: ارودّ كان المصدر اروادًا, وتصرف جميع المصادر فإن حذفت الزوائد على هذه الشريطة صرفت رويدَ فقلت: رويدًا يا فتى، وإن نعت به قلت: ضعهُ وضعًا رويدًا وتضيفه لأنه كسائر المصادر تقول: رويدَ زيدٍ, كما قال الله عز وجل: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}1، ورويدًا زيدًا، كما تقول: ضربًا زيدًا في الأمر, فأما إيه وآه فمعنى إيه الأمر بأن يزيدك من الحديث المعهودِ بينكما, فإذا نونت قلت: إيهٍ والتنوين للتنكير, كأنك قلت: هات حديثًا وذاك كأنه قال: هات الحديثَ, قال ذو الرمةِ:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
سورة محمد صلى الله عليه وسلم: 4, وتكملتها: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}.



ج / 2 ص -131- وقَفْنَا فَقُلْنَا إيهِ عَنْ أمِّ سَالِمٍ وَمَا بَالُ تَكْلِيمِ الدِّيَارِ البَلاقِعِ1

فإذا فتحت فهي زجرٌ ونهي كقولك: إيه يا رجلُ إني جئتُكَ، فإذا لم ينون فالتصويت, يريد الزجر عن شيءٍ معروفٍ، وإذا نونت فإنما تريد الزجر عن شيءٍ منكورٍ، قال حاتم:

إيهًا فِدًى لَكُمْ أُمّي وَمَا وَلَدَتْ حَامُوا على مَجْدِكُم واكْفُوا مَنِ اتَّكَلاَ2

ومن ينون إذا فتح فكثير، والقليل من يفتح ولا ينون، وجميع التنوين الذي يدخل في هذه الأصوات، إنما يفرق بين التعريف والتنكير, تقول: صه يا رجلُ هذا الأصل في جميع هذه المبنيات, ومنها ما يستعمل بغير تنوين ألبتة فما دخله التنوين لأنه نكرةٌ قولهم: فدًى لكَ, يريدون به الدعاء, والدعاء حقه أن يكون على لفظ الأمر, فمن العرب من يبني هذه اللفظة على الكسر وينونها؛ لأنها نكرةٌ يريدُ بها معنى الدعاء.
ومن هذا الباب قولهم: هاء يا فتى, ويثنى فيقول هائِمًا، وهائم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد في قوله: إيه بلا تنوين يدل على أنه يريد الاستزادة، من حديث معين. وقيل: تنوين التنكير لا يوجد في معرفة ولا يكون إلا تابعًا لحركات البناء، وذلك نحو: إيه، فإذا نونت وقلت: إيهٍ، فكأنك قلت: استزادة، وإذا قلت: إيه بلا تنوين, فكأنك قلت الاستزادة فصار التنوين علم التنكير وتركه علم التعريف. والبال: الشأن والحال. والديار البلاقع: التي ارتحل سكانها فهي خالية. طلب الحديث من الطلل أولًا ليخبره عن حبيبته أم سالم. وهذا من فرط تحيره وتدلهه في استخباره مما لا يعقل ثم أفاق وأنكر من نفسه بأنه ليس من شأن الأماكن الإخبار عن السواكن.
وانظر: المقتضب 3/ 179 ورواه المبرد: ما بال تكليم الرسوم بدل الديار, ومجالس ثعلب/ 275، وشرح المفصل 9/ 30، وإصلاح المنطق/ 291، والمخصص 14/ 18، والخزانة 2/ 19، واللسان "إيه"، والديوان/ 356.
2
في المقتضب: تقول: أيها يا فتى، إذا أمرته بالكف وويها إذا أغريته، ورواه المبرد: ويهًا فداء لكم أمي... وروي البيت في الديوان: ويها فداؤكم أمي وما ولدت. ورواية اللسان: ويهًا فدى لكم أمي وما ولدت. وانظر: المقتضب 3/ 180، وابن يعيش 4/ 71، وشرح الكافية 7/ 67، واللسان "ويه".

ج / 2 ص -132- للجميع، كما قال: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ}1، وللمؤنث هاء بلا ياءٍ مثل هاكَ، والتثنية هاؤما مثل المذكرين وهاؤن تقوم الهمزة في جميع ذا مقام الكاف, ولك أن تقول: هاءَ يا قوم كما قال عز وجل: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ}2، وأصل الكلام "ذلكم" هذا في الخطاب يجوز؛ لأن كل واحدٍ منهم يخاطب, وقال: هاكَ وهاكما وهاكم والمؤنث هاكِ, وأما ما كان على مثالِ فَعالِ مكسورِ الآخر فهو على أربعةِ أضربٍ، والأصل واحدٌ.
واعلم: أنه لا يبنى شيءٌ من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنثٌ معرفة ومعدولٌ عن جهته, وإنما يبنى على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به, تقول للمرأة: أنتِ فعلتِ وإنكِ فاعلة وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون, فحركت لالتقاء الساكنين، فجعلت الحركة الكسر للتأنيث، وذلك قولك: نَزالِ وتَراكِ، ومعناه: انزلْ واتركْ, فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة، قال الشاعر:

وَلِنعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذَا دُعِيت نَزالِ وَلُجَّ في الذُّعْرِ3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الحاقة: 19.
2
المجادلة: 12.
3
من شواهد سيبويه 2/ 37 على أن "نزال" بمعنى انزل، جعل لابس الدرع حشوا لها لاشتمالها عليه، كما يشتمل الإناء على ما فيه، وهو العامل في "ذا" لأنه بمعنى لابس، وقيل: متعلق بنعم لما فيه من معنى الثناء. ومعنى: وعاء الأبطال بعضهم بعضًا بنزال، أن الحرب إذا اشتدت بهم وتزاحموا فلم يمكنهم التطاحن بالرماح، تداعوا بالنزول عن الخيل والتضارب والسيوف، ومعنى: لج في الذعر تتابع الناس في الفزع، وهو من اللجاج وهو التمادي فيه، والبيت لزهير بن أبي سلمى في مدح الهرم بن سنان. وانظر المقتضب 3/ 370، وأمالي ابن الشجري 2/ 111، وابن يعيش 4/ 50، وإصلاح المنطق/ 336، والخزانة 3/ 64، وشواهد الشافية/ 230، والديوان/ 87، والدرر اللوامع 2/ 138، وشرح السيرافي 1/ 66، ومفاتيح العلوم للسكاكي/ 285، والإنصاف/ 278 وروايته: ولأنت أشجع من أسامة إذ......



ج / 2 ص -133- فقال: دُعيت, لما ذكر ذلك في التأنيث. وقالوا: تراكَها1، وحَذارِ2، ونَظارِ، فهذا ما سمي الفعل به باسم مؤنثٍ، ويكون "فَعالِ" صفةً غالبةً تحل محل الاسم نحو قولهم للضبعِ: جَعارِ يا فتى, وللمنية: حَلاقِ ويكون في التأنيث نحو: يا فَساقِ. والثالث: أن تسمي امرأةً، أو شيئًا مؤنثًا باسم مصوغ على هذا المثال نحو: حَذامِ ورَقاشِ. والرابع: ما عَدَلَ مِن المصدر نحو قوله:

جَمَادِ لَهَا جَمَادِ ولا تَقولِي طَوَالَ الدَّهْرِ ما ذُكِرَتْ حَمَادٍ3

قال سيبويه: يريد: قولي لَها جمود, ولا تقولي لَها حَمْدًا4، ومن ذلك فَجارِ، يريدون: الفَجرَة, ومَسارِ يريدون: المَسرةَ، وبَداوِ يريدون: البَدوَ, وقد جاء من بَنات الأربعة معدولًا مبنى قَرْ قارِ، وعَرْ عَارِ، وهي لُغيةٌ وشتان: مبني على الفتح لأنه غير مؤنثٍ فهو اسم للفعل إلا أن الفعل هنا غير أمر, وهو خبر ومعناه: البعدُ المفرط وذلك قولك: شتانَ زيدٌ وعمرٌو فمعناه: بَعُد ما بين زيدٍ وعَمرٍو جدًّا، وهو مأخوذ من شَتَّ، والتشتتُ: التبعيد ما بين الشيئين أو الأشياء, فتقدير: شتانَ زيدٌ وعمرٌو، تباعدَ زيدٌ وعمرٌو, ولأنه اسم لفعلٍ ما تم به كلام قال الشاعر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال الشاعر: تراكها من إبل تراكها. وانظر: الكتاب 2/ 37.
2
قال الشاعر: حذار من أرماحنا حذار. وانظر: الكتاب 2/ 37.
3
من شواهد سيبويه 2/ 39، على قوله: جماد وحماد وهما اسمان للجمود والحمد, معدولان عن اسمين مؤنثين سميا بهما كالجمدة والحمدة.
ووصف امرأة بالجمود والبخل, وجعلها مستحقة للذم ومستوجبة للحمد، وطوال الدهر وطوله سواء, والبيت للمتلمس.
وانظر ابن يعيش 4/ 5, ورواية الشطر الثاني هكذا:

....
لها أبدًا ما ذكرت حماد.

4
انظر الكتاب 2/ 39.



ج / 2 ص -134- شَتَّانَ هَذَا والعِناقُ والنَّوم والمَشْربُ البَارِدُ في ظِلِّ الدَّوْمْ1

فجميع هذه الأسماء التي سمي بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة، ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كَفَتْ عنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
البيت للقيط بن زرارة بن عدس بن تميم ويكنى أبا نهشل، ويروى الشطر الثاني:

والمشرب الدائم في ظل الدوم.

ويراد على هذه الرواية بالدوم الدائم, فهو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل, وعلى رواية ابن السراج: الدوم شجر المقل وهي رواية أبي عبيدة. وقد أنكرها الأصمعي؛ لأن الدوم لا ينبت في بلاد الشاعر. والعناق بكسر العين: المعانقة، والمعنى: افترق الذي أنا فيه من التعب والمشقة، فليس بشبه المعانقة والراحة, والنوم والماء العذب في ظل هذا الشجر أو تحت الظلال الدائمة. وانظر: المقتضب 4/ 350، وابن يعيش 4/ 37، والخزانة 3/ 57، والمخصص 14/ 85، والجمهرة 2/ 87.

ج / 2 ص -135- باب الاسم الذي قام مقام الحرف:
وذلك كَمْ, ومَنْ، وما, وكيفَ، ومتى, وأينَ، فأما "كَمْ" فبنيت لأنها وقعت موقع حرف الاستفهام وهو الألف، وأصل الاستفهام بحروف المعاني؛ لأنها آلة، إذا دخلت في الكلام أعلمت أن الخبر استخبارٌ, و"كَمْ" اسم لعدد مبهم
فقالوا: كَم مالكَ؟ فأوقعوا "كَمْ" موقع الألف لما في ذلك من الحكمة والاختصار إذ كان قد أغناهم عن أن يقولوا: أعشرونَ مالَكَ, أثلاثونَ مالكَ, أخمسونَ؟ والعدد بلا نهايةٍ, فأتوا باسم ينتظم العدد كلَّهُ.
وأما "مَنْ" فجعلوه سؤالًا عن منْ يعقلُ, نحو قولك: مَنْ هذا؟ ومَن عمرٌو؟ فاستغني بمن عن قولك: أزيدٌ هذا, أعمرٌو هذا, أبكرٌ هذا؟ والأسماء لا تحصى فانتظم بِمَنْ جميع ذلك، ووقعت أيضًا موقع حرف الجزاء، وهو "إنْ" في قولك: مَنْ يأتني آتِه.
وأما "ما" فيسأل بها عن الأجناس والنعوت، تقول: ما هذا الشيء؟ فيقال: إنسانٌ أو حمارٌ أو ذهَبٌ أو فِضَّةٌ، ففيها من الاختصار مثل ما كان في "مَنْ" وتسأل بها عن الصفات، فتقول: ما زيدٌ؟ فيقال: الطويلُ والقصيرُ، وما أشبه ذلك, ولا يكون جوابها: زيدٌ ولا عمرٌو, فإن جعلت الصفة في موضع الموصوف على العموم جاز أن تقع على مَن يعقلُ. ومن كلام العرب: سبحانَ ما سبحَ الرعدُ بحمدهِ، وسبحانَ ما سخركن لنا، وقال الله عز وجل:



ج / 2 ص -136- {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}1، فقال قوم: معناه: ومنْ بَناها، وقال آخرون: إنما: والسماء وبنائها2، كما تقول: بلغني ما صنعتَ, أي: صنيعُكَ؛ لأن "ما" إذا وصلت بالفعل كانت بمعنى المصدرِ.
وأما "كيفَ" فسؤال عن حال ينتظم جميع الأحوال, يقالُ: كيف أنتَ؟ فتقول: صالحٌ وصحيح, وآكلٌ وشارب، ونائمٌ وجالسٌ وقاعدٌ, والأحوال أكثر من أن يحاط بها، فإذا قلت: "كيفَ" فقد أغنى عن ذكر ذلك كلهِ, وهي مبنيةٌ على الفتح لأن قبل الياءِ فاء فاستثقلوا الكسر مع الياء, وأصل تحريك التقاء الساكنين الكسر، فمتى حركوا بغير ذلك فإنما هو للاستثقالِ أو لإتباع اللفظِ اللفظَ.
فأما "متى" فسؤالٌ عن زمانٍ وهو اسمٌ مبنيٌّ, والقصة فيه كقصةِ "مَنْ وكيفَ" في أنه مغنٍ عن جميع أسماء الزمان, أيوم الجمعةِ القتال, أمْ يوم السبتِ, أم يوم الأحدِ، أم سنة كذا، أم شهر كذا؟ فمتى يغني عَنْ هذا كله، وكذا "أيانَ" في معناها, كما قال الله عز وجل: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}3 وقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}4 وبنيت على الفتح لأن قبلها ألفًا، فأتبعوا الفتحَ الفتحَ.
وأما "أينَ" فسؤالٌ عن مكانٍ وهي كمَتى في السؤال عن الزمان إذا قلت: أينَ زيد؟ قيل لك: في بغدادَ أو البصرة أو السوقِ, فلا يمتنع مكان من أن يكون جوابًا, وإنما الجواب من جنس السؤال, فإذا سئلت عن مكان لم يجز أن تخبر بزمان, وإذا سئلت عن عددٍ لم يجز أن تخَبرَ بحالٍ, وإذا سئلت عن معرفةٍ لم يجز أن تخبر بنكرةٍ, وإذا سئلتَ عن نكرةٍ لم يجز أن تخبر بمعرفةٍ، فهذه المبنيات المبهمات إنما تعرف بأخواتها وتعلم مواضعها من الإِعراب بذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشمس: 5.
2
انظر: المقتضب 2/ 52.
3
القيامة: 6.
4
الأعراف: 187.



ج / 2 ص -137- باب الظرف الذي يتمكن وهو الخامس من المبنيات:
وذلك نحو الآنَ ومُذْ ومنذُ, فأما الآن فقال أبو العباس رحمه الله: إنما بني لأنه وقع معرفةً، وهو مما وقعت معرفته قبل نكرته؛ لأنك إذا قلت: الآنَ فإنما تعني به الوقت الذي أنت فيه من الزمان، فليس له ما يشركه, ليس هو آنٌ وآنٌ فتدخل عليه الألف واللام للمعرفة, وإنما وقع معرفةً لِما أنت فيه من الوقت1. وأما "مُنذ" فإذا استعملت اسمًا أن يقع ما بعدها مرفوعًا أو جملة نحو: ما رأيته منذ يومان, وإن المعنى: بيني وبينَ رؤيته يومانِ, وقد فسرت ذلك فيما تقدم وهي مبنيةٌ على الضم, وإنما حركت لذلك لأن قبلها ساكنًا، وبنيت على الضم لأنها غاية عند سيبويه2، وأتبعوا الضَّم الضَّم، وقد يستعمل حرفًا يجر، وأما "مذ" فمحذوفةٌ من "مُنْذُ" والأغلب على "مُذْ" أن تستعمل اسمًا، ولو سميت إنسانًا بمذ لقلت: مُنيذُ إذا صغرته، فرددت ما ذهب وصار "مُذْ" أغلب على الأسماءِ؛ لأنها منقوصة, ولَدن ومِنْ عَلُ, كما قال الشاعر:

وهي تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِن علا3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الإنصاف/ 272، وشرح الكافية 2/ 141.
2
انظر: الكتاب 2/ 45.
3
من شواهد سيبويه 2/ 123 على أن "علا" محذوف اللام, فإذا صغر اسمًا لرجل ردت لامه فقيل "على" لأن أصله من العلو, وهو صدر بيت لغيلان بن حريث، وعجزه: "نوشا به تقطع أجواز الفلا" وصف إبلًا وردت الماء في فلاة, فعافته وتناولته من أعلاه ولم تمعن في شربه, والنوش: التناول.
وانظر: معاني القرآن 2/ 365، ومجالس ثعلب/ 655، وشرح السيرافي 1/ 78، والفاخر لأبي طالب المفضل/ 34، والاقتضاب للبطليوسي/ 427، وأسرار العربية/ 103.



ج / 2 ص -138- وأما الأفعال فنحو: خذْ وكُلْ وعِ كلامي وشِ ثَوبًا، وأما الحروف فلا يلحقها ذلك، وكانت مذ ومنذ أغلب على الحروف، فكل واحدٍ منهما يصلحُ في مكانِ أُختِها وإنما ذكرنا منذُ ومذْ في الظروف؛ لأنهما مستعملان في الزمان.



ج / 2 ص -139- الباب السادس من المبنيات المفردة وهو الصوت المحكي:
وذلك نحو: غاق وهي حكاية صوت الغراب، وماء وهو حكاية صوت الشاةِ, وعاءٍ وحاءٍ زجرٌ, ومن ذلك حروف الهجاء نحو ألفٍ باء تاء ثاء وجميع حروف المعجم إذا تهجيت مقصورة موقوفة, وكذلك كاف ميم, موقوفة في التهجي، أما زاي فيقال: زاي وزي, والعدد مثله إذا أردت العدد فقط, وقال سيبويه تقول: واحد اثنانِ فتشم الواحد؛ لأنه اسمٌ ليس كالصوتِ ومنهم من يقول: ثلاثة أربعة فيطرحُ حركة الهمزة على الهاء ويفتحها, ولم يحولها تاءً لأنه جعلها ساكنة, والساكن لا يغير في الإِدراج فإذا لم ترد التهجي بهذه الحروف, ولم تردْ أن تعد بأسماء العدد فررت منها جرت مجرى الأسماء, ومددت المقصور في الهجاء فقلت: هذه الباء أحسن من هذه الباءِ وتقول: هذه الميم أحسن من هذه الميمِ, وكذلك إذا عطفت بعضها على بعضٍ أعربت؛ لأنها قد خرجت من باب الحكاية, وذلك نحو قولك: ميمٌ وباءٌ, وثلاثةٌ وأربعةٌ إنما مددت المقصور من حروف الهجاء إذا جعلته اسمًا وأعربته؛ لأن الأسماء لا يكون منها شيءٌ على حرفين, أحدهما حرف علةٍ.
ذكر الضرب الثاني من المبنيات, وهو الكلم المركب:
هذه الأسماء على ضربين: فضربٌ منها يبنى فيه الاسم مع غيره وكان الأصل أن يكون كل واحدٍ منهما منفردًا عن صاحبه، والضرب الثاني: أن يكون أصلُ الاسم الإِضافة, فيحذف المضافُ إليه وهو في النية.



ج / 2 ص -140- فالضرب الأول على ستة أقسام: اسمٌ مبني مع اسمٍ، واسمٌ مبني مع فعلٍ، واسم مبني مع حرفٍ, واسم مع صوتٍ، وحرف بنيَ مع فعلٍ, وصوت مع صوتٍ, فأما الاسم الذي بني مع الاسم فخمسةَ عشر وستةَ عشَر, وكل كلمتين من هذا الضرب من العدد فهما مبنيتان على الفتح وكان الأصلُ: خمسةٌ وعشرةٌ, فحذفت الواو وبني أحدهما مع الآخر اختصارًا وجعلا كاسمٍ واحدٍ, وكذلك حادي عشَرَ وثالث عشر إلى تاسعَ عشَر, والعرب تدع خمسة عشر في الإِضافة والألف واللام على حالها, ومنهم من يقول: خمسةَ عشَركَ وهي رديئة1، ومن ذلك: حيصَ بيص بنيا على الفتح، وهي تقال عند اختلاط الأمر, وذهب شغَرَ بغَرَ, وأيادي سبأ, ومعناه الافتراق وقَالى قَلا بمنزلة خمسَةَ عشَر ولكنهم كرهوا الفتح في الياء والألف لا يمكن تحريكها. ومن ذلك: خَازِ بَازَ، وهو ذباب عند بعضهم وعند بعضهم داءٌ, ومنهم من يكسر فيقول: خازِ بازِ, وبعض يقول: الخازَ بازَ كحضرموتَ، ومنهم من يقول: خاز بازٍ فيضيفُ وينون, ومن ذلك قولهم: بيتَ بيتَ وبينَ بينَ, ومنهم من يبني هذا ومنهم من يضيف ويبني صباحَ مساءَ ويومَ يومٍ, ومنهم من يضيف جميع هذا، ومن ذلك لقيته كفةَ كفةَ، وكفةً كفةً.
واعلم: أنهم لا يجعلون شيئًا من هذه الأسماء بمنزلة اسم واحدٍ إلا إذا أرادوا الحالَ والظرفَ, والأصل والقياسُ الإِضافة, فإذا سميت بشيءٍ من ذا أضفته فإذا قلت: أنت تأتينا في كل صباح ومساءٍ أضفت لا غير؛ لأنه قد زال الظرف وصار اسمًا خالصًا, فمعنى قولهم: هُوَ جاري بيتَ بيتَ أي: ملاصقًا، ووقع بينَ بينَ، أي: وسطًا, وأما قَالى قَلا فبمنزلة: حضرموتَ لأنه اسم بلدٍ وليسَ بظرفٍ ولا حالٍ. وأسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسمٍ مبني جاز أن تعربَها، وجاز أن تبنيَها، وذاك نحو "يومئذ", تقول: سيرَ عليهِ يومْئذٍ، ويومئذِ، والتنوين ههنا مقتطع ليعلم أنه ليس يراد به الإِضافة، والكسر في الذال من أجل سكون النون، فتقرأ على هذا إن شئت: {مِنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
قال سيبويه 2/ 51: ومن العرب من يقول: خمسة عشرك، وهي لغة رديئة.



ج / 2 ص -141- عَذَابٍ يَوْمَئِذِ}1، ومن عذابٍ يومئذٍ، ومذهب أبي العباس -رحمه الله- في دخول التنوين هنا أنه عوض من حذف المضاف إليه.
الثاني: اسم بني مع فعل: وهو قولهم: حبذا هندٌ وحبذا زيدٌ، بنيَ حَبَّ وهو فعلٌ مع ذا وهو اسم. ومن العرب من يقول في أحبَّ حَبَّ, وقولهم: محبوب إنما جاء على حَبَّ ولو كان على أحبَّ لكان: محبّ, فإذا بنوا أحَبَّ مع ذا اجتمعوا على طرح الألف، والدليل على أن حبذا بمنزلة اسم أنك لا تقول حبذهِ وأنه لا يجوز أن تقول حبذا، وتقف حتى تقول: زيدٌ أو هندٌ فتأتي بخبرٍ فحبذا مبتدأٌ, وهند وزيد خبرٌ, ومما يدل على أن حَبَّ مع ذَا بمنزلة اسم أنه لا يجوز لك أن تقول: حَبَّ في الدار ذَا زيدٌ، فلا يجوز أن تفصل بينها وبين "ذَا" كما تفصل في باب نِعْمَ.
الثالث: اسم بني مع حرف: وذلك قولك: لا رجل ولا غلامَ, ويدلك على أن "لا" مع رجلٍ بمنزلة اسم واحدٍ أنه لا يجوز لك أن تفصل رجلًا من "لا" لا تقول: لا فيها رحلٌ لكَ، يجوز القول: لا ماءَ ماءَ باردًا, ولا رجلَ رجل صالحًا عندكَ, فبني "ماءٌ مع ماءٍ ورجل مع رجلٍ" قال أبو بكر: وقد استقصيتُ ذكر ذَا في بابه, ومن ذلك قولهم: يا زيداه ويا أيها الرجلُ فأي اسمٌ وهاء حرفٌ وهو غير مفارقٍ لأيٍّ في النداء, وقد بينا ذَا في باب النداء.
الرابع: اسم بني مع صوت: وذلك نحو سيبويه وعمرويه، تقول: هذا سيبويه يا هذا، وهذا عمرويهِ يا فلانُ وهو مبني على الكسرِ، وإن قلت: مررتُ بعمرويهِ وعمرويهٍ آخر، نونت الثاني لأنه نكرةٌ.
الخامس: الحرف الذي بني مع الفعل: وذلك: هَلمَّ مبنيًّا على الفتح وهو اسمٌ للفعل، ومعناه: تعالَ، ويدل على أنه حرفٌ بني مع فعلٍ، قول من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المعارج: 11.



ج / 2 ص -142- قال من العرب: هلما للاثنينِ، وهلموا للجماعة1، وصرفوه تصريف لمَّ بكذا، والمعنى يدلُّ على ذلكَ.
السادس: الصوت الذي بني مع الصوت: وذلك قولهم: حَيَّ هَلَ الثريدَ، ومعناه: ايتوا الثريدَ, وحكى سيبويه عن أبي الخطاب أن بعض العرب يقول: حَيَّهلَ الصلاةَ2.
الضرب الثاني من القسمة الأولى: وهو ما أصله الإِضافة إلى اسم, فحذف المضاف إليه:
فهذه المضافات على قسمين: قسم حذف المضاف إليه ألبتة, وضربٌ منع الإِضافة إلى الواحد وأُضيف إلى جملة, فأما ما حذف المضاف إليه فيجيء على ضربين: منهما ما بني على الضمة وهي التي يسميها النحويون الغاياتِ فمصروفة عن وجهها....3 قبلُ وغيرُ وحسبُ فجميع هذه كانَ أصلها الإِضافة، تقول: جئت من قبل هذا, ومن بعد هذا, وكنت أول هذا, أو فوقَ وغيرَ هذا, وهذا حسبُك, أي كافيكَ, فلما حذف ما أُضيفت إليه بنيت, وإنما بنيت على الحركة ولم تبنَ على السكون, وفي بعضها ما قبل لامه متحرك لأنها أسماءٌ أصلها التمكن, وتكون نكراتٍ معرباتٍ, فلما بنيتْ تجنب إسكانها وزادوها فضيلة على ما لا أصل له في التمكن فهذه علة بنائها على الحركة، وأما بناؤها على الضم خاصةً فلأنَّ أكثر أحوالِ هذه الظروف أن تكون منصوبةً وذلك الغالب عليها فأخرجت إلى الضم ولم تخرج إلى الكسر؛ لأن الكسر أخو النصب، وجعلوا ذلك علامة للغاية؛ لأن الكسر حقه أن يكون لالتقاء الساكنين، فتجنبوه ههنا لأنه موضع تحرك لغير التقاء الساكنين.
الثاني: ما بني وليس بغاية, من ذلك: أمس مبنية على الكسر، وكسرت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
هذا على لغة بني تميم، أما أهل الحجاز فلا يصرفونها. انظر الكتاب 2/ 67.
2
انظر الكتاب 1/ 123.
3
مطموس في الأصل, وهذا يسميه النحويون الظروف المقطوعة عن الإضافة لفظًا.



ج / 2 ص -143- لالتقاء الساكنين، وإنما بني لأنه يقال لليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه، وهو ملازم لكل يوم من أيام الجمعة، ووقع في أول أحواله معرفة، فمعرفته قبل نكرته, فمتى نكرته أعربته, وغدٌ ليس كذلك لأنه غير معلوم؛ لأنه مستقبلٌ لا تعرفه, فإذا أضفت أمسِ نكرته ثم أضفته فيصير معرفة بالإِضافة, كما تقول: زيدكَ إذا جعلتَهُ من أمةٍ كُلها زيدٌ، وعرفته بالإِضافة، وزالت المعرفة الأولى. وقال أبو العباس -رحمه الله- في قول الشاعر:

طَلبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوَانٍ فَأَجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِينَ بقاءِ1

كان "أوان" مما لا يستعمل إلا مضافًا، فلما حذف ما يضاف إليه بنوه على الكسر لالتقاء الساكنين كما فُعِلَ بأمسِ وأُدخل التنوين عوضًا لحذف ما يُضاف إليه "أوان"، ألا ترى أنهم لا يكادون يقولون: أوان صدقٍ, كما يقولون في الوقت والزمن, ولكن يدخلون الألف واللام فيقولون: كانَ ذلكَ في هذا الأوانِ, فيكونان عوضًا.
الضرب الثاني: ما منع الإِضافة إلى الواحد وأُضيف إلى جملة:
وذلك: حيثُ, وإذْ، وإذا، فأما "حيثُ" فإن من العرب من يبنيها على الضم2 ومنهم من يبنيها على الفتح3، ولم تجئ إلا مضافةً إلى جملةٍ، نحو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه على عمل "لات" في لفظ "أوان" وهو من معنى الحين وليس بلفظه، فهو رد على سيبويه ومن معه حيث اشترطوا لعمل "لات" أن يكون معمولاها من لفظ.
والبيت لأبي زبيد الطائي، وكان رجل من شيبان نزل برجل طائي، فأضافه وسقاه خمرًا، فلما سكر وثب إليه الشيباني بالسيف فقتله، وافتخر بذلك بنو شيبان، ففي هذا قال أبو زبيد.
وانظر: معاني القرآن 2/ 398, وشرح السيرافي 1/ 108, والخصائص 2/ 377, والمخصص 16/ 119, والإنصاف 66, وابن يعيش 9/ 32, والديوان 30.
2
الضم هي اللغة الفاشية، قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} فهي غاية، والذي يعرفها ما وقعت عليه من الابتداء والخبر, [سورة الأعراف: 182].
3
قال سيبويه 2/ 44: "وقد قال بعضهم" حيث شبهوه بأين.



ج / 2 ص -144- قولك: أقومُ حيثُ يقوم زيدٌ وأصلي حيثُ يصلي، فالحركة التي في الثاء لالتقاء الساكنين، فَمنْ فتح فَمِنْ أجل الياء التي قبلها, وفتح استثقالًا للكسر, ومن ضمَّ فلشبهها بالغايات إذ كانت لا تضاف إلى واحدٍ ومعناها الإِضافةُ، وكان الأصل فيها أن تقول: قمتُ حيثُ زيدٌ, كما تقولُ: قمتُ مكانَ زيدٍ وأما إذْ فمبنية على السكون, وتضاف إلى الجمل أيضًا نحو قولك: إذْ قامَ زيدٌ، وهي تدل على ما مضى من الزمان, ويستقبحون: جئتُكَ إذْ زيدٌ قامَ، إذا كان الفعلُ ماضيًا لم يحسن أن نفرق بينه وبين إذْ؛ لأن معناهما في المضي واحدٌ. وتقول: جئتُكَ إذْ زيدٌ قام، وإذ زيدٌ يقوم, فحقها أن تجيء مضافة إلى جملة فإذا لم تضف نونته، قال أبو ذؤيب:

نَهيتُك عنْ طِلابِكَ أُمَّ عَمْرٍو بِعَاقِبةٍ وأَنْتَ إذٍ صَحِيح1

وأما "إذا" فقلما تأتي من الزمان، وهي مضافة إلى الجملة، تقول: أجيئُكَ إذا احمَرَّ البسرُ وإذا قدَم فلانٌ, ويدلك على أنها اسم أنها تقع موقع قولك: آتيكَ يوم الجمعةِ، وآتيكَ زمَن كَذا، ووقتَ كذا, وهي لما يستأنف من الزمان ولم تستعمل إلا مضافةً إلى جملة. فأما "لَدُنْ" فجاءت مضافةً، ومن العرب من يحذف النون فيقول: لدُ كذا, وقد جعل حذف النون بعضهم أن قال: لَدُن غدوةً، فنصب غدوةً لأنه توهم أن هذه النون زائدةٌ تقوم مقام التنوين فنصب كما تقول: قائمٌ غدوةً, ولم يعملوا "لَدن" إلا في غدوةً خاصةً, قال أبو بكر: قد ذكرنا الأسماء المعربة والأسماء المبنية، وقد كنا قلنا: إن الكلام اسم وفعلٌ وحرفٌ، ونحن نتبع الأسماء والأفعال، ونذكر إعرابها وبناءها إن شاء الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الشاهد فيه قوله: "إذ" حيث جاء بالتنوين عوضًا عن الجملة، والأصل: وأنت إذ الأمر على هذه الحال، والمعنى: نهيتك عن طلبها بأن ذكرت لك ما يكون من عاقبة التمادي في حبها وما يفضي أمرك إليه، وكنت سليمًا تستطيع التخلص, وممكن لك النجاة.
وانظر: الخصائص 2/ 376, وابن يعيش 3/ 29, والمغني 1/ 86, والأشموني 3/ 420, والأشباه والنظائر 2/ 311.











====================.

30



















الأصول في النحو

ج / 2 ص -145- باب إعراب الأفعال وبنائها:
الأفعال تقسم قسمين: مبنيٌّ ومعرب.
فالمبني ينقسم قسمين: مبني على حركةٍ ومبني على سكونٍ، فأما المبني على حركةٍ فالفعل الماضي بجميع أبنيته, نحو: قام واستقام وضربَ واضطربَ، ودحرجَ، وتدحرجَ، واحمر واحمارَّ وما أشبه ذلك, وإنما بني على الحركة لأنه ضارعَ الفعل المضارع في بعض المواضع نحو قولك: إنْ قامَ قمتُ, فوقع في موضع: إنْ تَقم، ويقولون: مررتَ برجلٍ ضَرَبَ كما تقول: مررتُ برجلٍ يضربُ، فبنيَ على الحركة كما بني "أولُ وعلُ" في بابه على الحركة وجعل له فضيلة على ما ليس بمضارع المضارعِ عما حصل "لأول وعل"، أو من قبل ومن بعد فضيلة على المبنيات, وأما المبني على السكون فما أمرت به وليس فيه حرف من حروف المضارعة, وحروف المضارعة الألف والتاءُ والنون والياءُ وذلك نحو قولك: قُم واقعدْ واضربْ, فلما لم يكن مضارعًا للاسم ولا مضارعًا للمضارع ترك على سكونه لأن أصل الأفعال السكونُ والبناءُ، وإنما أعربوا منها ما أشبه الأسماء وضارعها، وبنوا منها على الحركة ما ضارع المضارع وما خلا من ذلك أسكنوهُ، وهذه الألف في قولك: اقعد ألفُ وصلٍ، إنما تنطق بها إذا ابتدأت؛ لأنه لا يجوز أن تبتدئ بساكنٍ، وما بعد حروف المضارعة ساكن, فلما خلا الفعل منها واحتِيجَ إلى النطق به أدخلت ألف الوصل, وحق ألف الوصل أن تدخل على الأفعال المبنية فقط، ولا تدخل على الأفعال المضارعة؛ لأنها لا تدخل على الأسماء إلا



ج / 2 ص -146- على ابنٍ وأخواتها، وهو قليل العدد, وإنما بني فعلُ التعجب الذي يجيء على لفظ الأمر بنيَ على السكونِ نحو قولك: أكرمْ بزيدٍ و{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}1. وقد مضى ذكر ذا في باب التعجب.
وأما الفعل المعرب فقد بينا أنه الذي يكون في أوله الحروف الزوائد التي تسمى حروف المضارعة, وهذا الفعل إنما أُعرب لمضارعته الأسماءَ وشبهه بها, والإِعراب في الأصل للأسماء وما أشبهها من الأفعال أُعرب كما أنه إنما أعرب من أسماء الفاعلين ما جرى على الأفعال المضارعة وأشباهها، ألا ترى أنك إنما تُعمِلُ "ضاربًا" إذا كان بمعنى يفعلُ فتقول: هذا ضاربٌ زيدًا, فإن كان بمعنى "ضرب" لم تعمله, فمنعت هذا العمل كما منعت ذلك الإِعراب, واعلم أنه إنما يدخله من الإِعراب الذي يكون في الأسماء: الرفعُ والنصب، ولا جرَّ فيه، وفيه الجزم وهو نظير الخفض في الأسماء؛ لأن الجَرَّ يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال، ونحن نذكرها نوعًا نوعًا بعونِ الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
مريم: 38 والآية: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}.

الأفعال المرفوعة:
الفعل يرتفع بموقعهِ موقعَ الأسماءِ، كانت تلك الأسماء مرفوعةً أو مخفوضةً أو منصوبةً، فمتى كان الفعل لا يجوز أن يقع موقعه اسمٌ لم يجزْ رفعه، وذلك نحو قولك: يقومُ زيدٌ ويقعدُ عمرٌو، وكذلك عمرو يقولُ وبكرٌ ينظرُ ومررتُ برجلٍ يقومُ ورأيت رجلًا يقولُ ذاكَ, ألا تَرى أنك إذا قلت: يقومُ زيدٌ جاز أن تجعل زيدًا موضع "يقومُ" فتقول: زيدٌ يفعلُ كَذا, وكذلك إذا قلت: عمرو ينطلق، فإنما ارتفع "ينطلقُ" لأنه وقع موقع "أخوكَ" إذا قلت: زيدٌ أخوكَ فمتى وقع الفعل المضارع في موضع لا تقع فيه الأسماء فلا يجوزُ رفعه, وذلك نحو قولك: لم يقمْ زيدٌ، لا يجوز أن ترفعه لأنه لا يجوز أن تقول: لم زيدٌ فافهَم هذا.
واعلم: أن الفعل إنما أُعرب ما أُعرب منه لمشابهته الأسماء، فأما الرفع خاصةً فإنما هو لموقعه موقع الأسماء، فالمعنى الذي رفعت به غير المعنى الذي أعربتَ بهِ.



ج / 2 ص -147- الأفعال المنصوبة:
وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: فعلٌ ينصبُ بحرفٍ ظاهرٍ ولا يجوز إضمارهُ، وفعلٌ ينتصبُ بحرفٍ يجوز أن يُضمَر، وفعلٌ ينتصب بحرفٍ لا يجوزُ إظهارهُ، والحروفُ التي تنصبُ: أنْ, ولَن, وكي, وإذن.
الأول: ما انتصب بحرف ظاهر لا يجوز إضماره, وذلك ما انتصب بلن وكي, تقول: لن يقومَ زيدٌ ولن يجلسَ، فقولك: لن يفعلَ يعني: سَيفعلُ1، يقول القائل: سيقومُ عمرٌو, فتقول: لَن يقومَ عمرو, وكان الخليل يقول: أصلها لا أَنْ فألزمه سيبويه أن يكون يقدم ما في صلة "أن"2 في قوله: زيدًا لَنْ أضربَ، وليس يمتنع أحد من نصب هذا وتقديمه، فإن كان على تقديره فقد قدم ما في الصلة على الموصول.
وأما "كي" فجواب لقولك: لِمه, إذا قال القائل: لِمَ فعلت كذا؟ فتقول: كي يكون كذا ولِمَ جئتني؟ فتقول: كي تعطيَني, فهو مقارب لمعنى اللام إذا قلت: فعلتُ ذلك لِكذا, فأما قول من قال: كيمه في الاستفهام، فإنه جعلها مثل لِمَه، فقياس ذلك أن يُضمر "أنْ" بعد "كي" إذا قال: كي يفعل؛ لأنه قد أدخلها على الأسماء. وكذا قول سيبويه3: والذي عندي أنه إنما قيل: كيمه لَما....4 تشبيهًا, وقد يشبهون الشيء بالشيءِ وإن كان بعيدًا منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
لن: حرف نفي ونصب عند سيبويه يختص "بيفعل" ويفعل بعدها تشعر بالدلالة على ما يأتي من الزمان, فقوله: لن أضرب نفي لقوله: سأضرب. انظر الكتاب 1/ 68 و2/ 304.
2
انظر الكتاب 1/ 407.
3
انظر الكتاب 1/ 408.
4
بياض في الأصل قدره كلمتان.



ج / 2 ص -148- وأما إذن، فتعمل إذا كانت جوابًا، وكانت مبتدأة ولم يكن الفعل الذي بعدها معتمدًا على ما قبلها, وكان فعلًا مستقبلًا, فإنما يعمل بجميع هذه الشرائط, وذلك أن يقول القائل: أنا أكرمكَ فتقول: إذن أجيئَك, إذن أحسنَ إليكَ, إذن آتيَكَ. فإن اعتمدت بالفعل على شيءٍ قبل "إذنْ" نحو قولك: أنا إذنْ آتيكَ, رفعت وألغيتَ كما تلغى ظننتُ وحسبتُ وليس بشيءٍ من أخواتها التي تعمل في الفعل يُلغى غيرها, فهي في الحروف نظير أرى في الأفعال، ومن ذلك: إن تأتني إذن آتك، لأن الفعل جواب: إنْ تأتني, فإن تم الكلام دونها جاز أن تستأنف بها وتنصب ويكون جوابًا, وذلك نحو قول ابن عَنَمة:

ارْدُدْ حِمَارَكَ لا تُنْزَع سَوِيَّتُهُ إذنْ يُردَّ وقَيْدُ العَيْرِ مَكْرُوبُ1

فهذا نصبٌ؛ لأن ما قبله من الكلام قد استغنى وتمَّ، ألا ترى أنَّ قوله: اردد حمارَك لا تُنزعْ سويتُه, كلام قد تمَّ, ثم استأنف كأنه أجاب من قال: لا أفعلُ ذاكَ فقال:

إذنْ يُردَّ وقَيْدُ العيرِ مكروبُ

فإن كان الفعل الذي دخلت عليه "إذنْ" فعلًا حاضرًا لم يجز أن تعمل فيه، لأن أخواتها لا يدخلن إلا على المستقبل وذلك إذا حدثت بحديثٍ فقلت: إذنْ أظنه فاعلًا, وإذن أخالكَ كاذبًا، وذلك لأنك تخبر عن الحال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 411 على عمل إذن فيما بعدها؛ لأنها مبتدأة والسوية: شيء يجعل تحت البرذعة للحمار كالحلس للبعير، والنزع: السلب وقيد العير مكروب أي: مضيق حتى لا يقدر على الخطو. وجعل الشاعر إرسال الحمار في حماهم كناية عن التحكك بهم والتعرض لمساءتهم.
وانظر: المقتضب 2/ 10, وشرح السيرافي 1/ 33, وشرح الرماني 3/ 94، والمفضليات 382, والأصمعيات 267, وابن يعيش 7/ 16, وديوان الحماسة 2/ 148, وشرح الكافية للرضي.



ج / 2 ص -149- التي أنت فيها في وقت كلامك، فلا تعمل "إذن" لأنه موضع لا تعمل1 فيه أخواتها، فإذا وقعت "إذن" بين الفاء والواو, وبين الفعل المستقبل فإنك فيها بالخيار: إن شئتَ أعملتها كإعمالك أرى وحسبت, إذا كانت واحدةٌ منهما بين اسمين, وإن شئت ألغيت فأما الإِعمال فقولك: فإذنْ آتيكَ، فإذنْ أكرمَكَ قال سيبويه: وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف: {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}2 وأما الإِلغاء فقولك: فإذن أجيئُكَ، وقال عز وجل: {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا}3.
واعلم: أنه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بسوى إذن، وهي تُلغى وتقدم وتؤخر، تقول: إذنْ والله أجيئكَ فتفصل, والإِلغاء قد عرفتك إياهُ وتقول: أنا أفعلُ كذا إذنْ, فتؤخرها وهي ملغاة أيضًا، وإذا قلت: إذنْ عبدُ اللّه يقولُ ذلكَ، فالرفع لا غير لأنه قد وليها المبتدأ، فصارت بمنزلة "هَلْ" وزعم عيسى: أن ناسًا يقولون: إذن أفعلُ في الجواب4.
الثاني: ما انتصب بحرف يجوز إظهاره وإضماره.
وهذا يقع على ضربين: أحدهما أن تعطف بالفعل على الاسم، والآخر أن تدخل لامَ الجر على الفعل، فأما الضرب الأول من هذا وهو أن تعطف الفعل على المصدر فنحو قولك: يعجبني ضربُ زيدٍ وتغضبَ, تريد: وأنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "فيها".
2
الإسراء: 76 وقراءة "ولا يلبثوا" بحذف النون شاذة. انظر شواذ ابن خالويه 77. وأما قراءة "خلفك" فهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر، وقرأ الباقون {خِلافَكَ} بالألف انظر "حجة القراءات" ص408 لزنجلة.
3
النساء: 53. وقد قرئ بنصب المضارع في الشواذ, فإذن لا يأتوا الناس. وانظر البحر المحيط 3/ 673, وشواذ ابن خالويه 77.
4
انظر الكتاب 1/ 412.



ج / 2 ص -150- تغضَب, فهذا إظهار "أنْ" فيه أحسن. ويجوز إضمارها فأنْ مع الفعل بمنزلة المصدر، فإذا نصبت فقد عطفت اسمًا على اسمٍ ولولا أنك أضمرت "أنْ" ما جاز أن تعطف الفعل على الاسم؛ لأن الأسماء لا تُعطف على الأفعالِ, ولا تُعطفُ الأفعالُ على الأسماءِ؛ لأن العطف نظير التثنية فكما لا يجتمع الفعل والاسم في التثنية كذلك لا يجتمعان في العطف, فمما نصب من الأفعال المضارعة لما عطف على اسمٍ قول الشاعر:

لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيني أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ1

كأنه قال: للبسُ عباءةٍ وأنْ تقرَّ عيني.
وأما الضرب الآخر فما دخلت عليه لام الجر وذلك نحو قولك: جئتُكَ لتعطيني ولتقومَ، ولتذهبَ, وتأويل هذا: جئتُك لأنْ تقومَ, جئتُكَ لأنْ تعطيني ولأن تذهبَ, وإنْ شئتَ أظهرتَ فقلت "لأنَّ" في جميعِ ذلك وإن شئت حذفت "أنْ" وأضمرتها, ويدلك على أنه لا بدّ من إضمار "أنْ" هنا إذا لم تذكرها أن لام الجر لا تدخل على الأفعال, وأن جميع الحروف العوامل في الأسماء لا تدخل على الأفعالِ, وكذلك عوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء, وليس لك أن تفعل هذا مع غير اللام، لو قلت: هذا لك بتقوم, تريد بأن تقوم لم يجز، وإنما شاع هذا مع اللام من بين حروف الجر فقط للمقاربة التي بين كي واللام في المعنى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 426 على إضمار "أن" لأنه لم يكن بد من ذلك، فلم يستقم أن تحمل، وتقر, وهو فعل على "لبس" وهو اسم، والعباءة: جبة من صوف, والشفوف: ثياب رقاق نصف البدن واحدها شف, بكسر الشين وفتحها.
والشاهد لميسون بنت بحدل، وانظر المقتضب 2/ 27, والصاحبي 84، وأمالي ابن الشجري 1/ 280, والإنصاف 283, وارتشاف الضرب 810, والمغني 2/ 532, وحياة الحيوان للدميري 2/ 208, وابن يعيش 7/ 25.



ج / 2 ص -151- الثالث: وهو الفعل الذي ينتصب بحرف لا يجوز إظهاره:
وذلك الحرف "أنْ" والحروفُ التي تضمر معها ولا يجوز إظهارها أربعة أحرفٍ: "حتى" إذا كانت بمعنى إلى أنْ، والفاء إذا عطفت على معنى الفعل لا على لفظه, والواو إذا كانت بمعنى الاجتماع فقط، وأو إذا كانت بمعنى إلى "أنْ".
شرح الأول من ذلك وهو حتى:
اعلم: أن "حتى" إذا وقعت الموقع الذي تخفض فيه الأسماء ووليها فعلٌ مضارع أضمر بعدها "أنْ" ونصب الفعل, وهي تجيء على ضربين: بمعنى "إلى" وبمعنى "كي" فالضرب الأول قولك: أنا أسيرُ حتى أدخلَها والمعنى: أسير إلى أن أدخلَها, وسرت حتى أدخلَها، كأنه قال: سرت إلى دخولِها, فالدخول غايةٌ للسير وليسَ بعلةٍ للسير, وكذلك: أنا أقف حتى تطلعَ الشمسُ، وسرتُ حتى تطلعَ الشمسُ، والضربُ الآخر أن يكون الدخول علة للسيرِ, فتكون بمعنى "كي" كأنه قال: "سرتُ كي أدخلَها" فهذا الوجه يكون السير فيه كان والدخول لم يكن, كما تقول: أسلمت حتى أدخلَ الجنةَ, وكلمته كي يأمر لي بشيءٍ "فَحتَّى" متى كانت من هذين القسمين اللذين أحدهما يكون غاية الفعل وهي متعلقة به, وهي من الجملة التي قبلها, فهي ناصبة وإن جاءت بمعنى العطف فقد تقع ما بعدها جملة, وارتفاع الفعل بعدها على وجهين: على أن يكون الفعل الذي بعدها متصلًا بالفعل الذي قبلها أو يكون منقطعًا منه ولا بدّ في الجميع من أن يكون الفعلُ الثاني يؤديه الفعل الأول, فأما الوجه الأول فنحو قولك: سرتُ حتى أدخلَها، ذكرت أن الدخول اتصل بالسير بلا مهلة بينهما, كمعنى الفاء إذا عطفت بها فقلت: سرت فأنا أدخلَها, وصلت الدخول بالسير، كما قال الشاعر:

تُرادى عَلَى دِمْنِ الحِيَاضِ فإنْ تَعَفْ فإنَّ المُنَدَّى رِحْلَةٌ فَرُكُوبُ1

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 414 على قوله: فركوب واتصال هذا بهذا كاتصال الدخول بالسير في قولهم: سرت حتى أدخل، أي: كان مني سير فدخول.
وترادى: مقلوب تراود، والدمنة: البعر، والتراب يسقط في الماء فيسمى الماء دمنا أيضًا, والمندى: مصدر ميمي، وهو أن ترعى الإبل قليلًا حول الماء، ثم ترد ثانية للشرب.
يقول: يعرض عليها بقايا في الحوض وهي الدمن، فإن عافت الشرب وكرهته فليس إلا الرحلة والركوب، والبيت لعلقمة بن عبدة.
وانظر: المقتضب 2/ 31, والمخصص 7/ 100, والمفضليات 119، والخصائص 368, والسمط 254, وابن يعيش 6/ 50, واللسان 1/ 418, وشرح الحماسة 2/ 726, والديوان 3.



ج / 2 ص -152- وينشدُ تراد لم يجعل بين الرحلة والركوب مهلة, ولم يرد أنَّ رحلته فيما مضى وركوبه الآن, ولكنه وصل الثاني بالأول، ومعنى قولي: إنَّكَ إذا رفعتَ ما بعد حتى, فلا بدّ من أن يكون الفعلُ الذي قبلها هو الذي أدى الفعلَ الذي بعدها أن السير به, كان الدخول إذا قلت: سرتُ حتى أدخلَها, ولو لمْ يسرْ لَم يدخلْها، ولو قلت: سرتُ حتى يدخلُ زيدٌ فرفعت "يدخلُ" لم تَجر؛ لأن سيرك لا يؤدي زيدًا إلى الدخول، فإن نصبت وجعلتَها غايةً جازَ فقلت: سرتُ حتى يدخلَ زيدٌ, تريدُ إلى أن يدخل زيدٌ، وكذلك: سرتُ حتى تطلعَ الشمسُ ولا يجوز أن ترفع "تَطلعُ" لأنَّ سيركَ ليس بسببٍ لطلوع الشمسِ وجاز النصب لأن طلوع الشمسِ قد يكون غايةً لسيرك. وأما الوجه الثاني من الرفع: فأن يكون الفعلُ الذي بعد "حتَّى" حاضرًا ولا يراد به اتصاله بما قبله، ويجوز أن يكون ما قبله منقطعًا، ومن ذلك قولك: لقد سرت حتى أدخلها, ما أمنع حتى إني أدخلُها الآن, أدخلُها كيفَ شئت، ومثل قول الرجل: لقد رأى مني عامًا أول شيئًا حتى لا أستطيع أن أكلمه العامَ بشيءٍ. ولقد مَرِض حتى لا يرجونه, إنما يراد أنه الآن لا يرجونه, وأن هذه حاله وقت كلامه, "فحتى" ههنا كحرفٍ من حروف الابتداء, والرفع



ج / 2 ص -153- في الوجهين جميعًا كالرفع في الاسم؛ لأن حتى ينبغي1 أن يكون الفعل الأول هو الذي أدى إلى الثاني؛ لأنه لولا سيره لم يدخل, ولولا ما رأى منه في العام الأول ما كان, لا يستطيع أن يكلمه العام ولولا المرضُ ما كان، لا يُرجى, وهذه مسألة تبين لك فيما فرق ما بين النصب والرفع، تقول: كان سيري حتَى أدخلُها, فإذا نصبت كان المعنى: إلى أن أدخلَها, فتكون "حتى" وما عملت فيه خبرَ كان، فإن رفعت ما بعد "حتى" لم يجز أن تقول: كان سيري حتَّى أدخلَها؛ لأنك قد تركت "كانَ" بغير خبرٍ، لأن معنى "حتى" معنى الفاء, فكأنك قلت: كان سيري فأدخلها, فإن زدت في المسألة ما يكون خبرًا "لكانَ" جاز، فقلت: كان سيري سيرًا متعبًا حتى أدخلَها وعلى ذلك قرئ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}2 وحتى يقولُ: مَنْ نصبَ جعلَهُ غايةً، ومَن رفَع جعلَه حالًا3.
شرح الثاني: وهو الفاء:
اعلم: أن الفاء عاطفة في الفعل كما يعطف في الاسم، كما بينت لك فيما تقدم، فإذا قلت: زيدٌ يقومُ فيتحدث, فقد عطفت فعلًا موجبًا على فعلٍ موجبٍ، وإذا قلت: ما يقومُ فيتحدثَ, فقد عطفت فعلًا منفيًّا على منفيّ، فمتى جئت بالفاء وخالف ما بعدها ما قبلها, لم يجز أن تحمل عليه, فحينئذٍ تحمل الأول على معناه، وينصب الثاني بإضمار "أنْ" وذلك قولك: ما تأتني فتكرمني، وما أزورك فتحدثني, لَم ترد: ما أزورك وما تحدثني، ولو أردت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الجملة مضطربة والصواب: لأن حتى ينبغي أن يكون الفعل الأول هو الذي أدى إلى الثاني. انظر الكتاب 1/ 417.
2
البقرة: 214، في سيبويه 1/ 417: وبلغنا أن مجاهدًا قرأ هذه الآية "حتى بقول الرسول" وهي قراءة أهل الحجاز، وقراءة الرفع في هذه الآية سبعية لنافع، انظر: غيث النفع 15، والنشر 2/ 227، والبحر المحيط 2/ 140.
3
الرفع على قوله: فإذا الرسول في حال قول, والنصب على معنى: إلى أن يقول الرسول.



ج / 2 ص -154- ذلك لرفعت، ولكنك لما خالفت في المعنى فصار: ما أزوركَ فكيف تحدثني، وما أزوركَ إلاّ لم تحدثني، حمل الثاني على مصدر الفعل الأول, وأضمر "أنْ" كي يعطف اسمًا على اسمٍ, فصار المعنى: ما يكون زيارةٌ مني فحديثٌ منكَ. وكذا كلما كان غير واجب نحو الأمر والنهي والاستفهام؛ فالأمرُ نحو قولك: ائتني فأكرِمَكَ, والنهي مثل: لا تأتني فأكرمَكَ, والاستفهام مثل: أتأتني فأعطيَك لأنه إنما يستفهم عن الإِتيان ولم يستفهم عن الإِعطاء، وإنما تضمر "أنْ" إذا خالف الأول الثاني، فمتى أشركت الفاء الفعلَ الثاني بالأول فلا تضمر "أنْ" وكذلك إذا وقعت موقع الابتداء, أو مبنيٌّ على الابتداء.
شرح الثالث: وهو الواو:
الواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء, وإنما تكون كذلك إذا لم ترد الإِشراك بين الفعلِ والفعلِ, وأردت عطفَ الفعلِ على مصدر الفعلِ الذي قبلَها, كما كان في الفاء وأضمرت "أنْ" وتكون الواو في جميع هذا بمعنى "مَع" فقط، وذلك قولك: لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبنَ، أي: لا تجمعْ بين أكلِ السمكِ وشربِ اللبنِ, فإنْ نهاه عن كل واحدٍ منهما على حالٍ قال: ولاَ تشربِ اللبنَ على حالٍ, وتقول: لا يسعني شيءٌ ويعجز عنكَ فتنصبُ, ولا معنى للرفع في "يعجزُ" لأنه ليس يخبر أن الأشياء كلها لا تسعه، وأن الأشياء كلها لا تعجز عنه, إنما يعني: لا يجتمع أن يسعني شيءٌ ويعجز عنك، كما قال:

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ -إذا فَعَلْتَ- عَظِيمُ1


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 424، على نصب "تأتي" بإضمار أن بعد واو المعية, والتقدير: لا يكن منك نهي وإتيان، وهذا البيت مختلف في قائله، فقد نسب إلى المتوكل الكناني، ونسبه سيبويه إلى الأخطل وليس في ديوانه، ونسب إلى أبي الأسود الدؤلي وهو الصحيح. وانظر المقتضب 2/ 26, وحماسة البحتري 173, وشروح الحماسة 2/ 535, ومعاني الفراء 1/ 34, والمؤتلف والمختلف 179، وابن يعيش 7/ 24.



ج / 2 ص -155- أي: لا يجتمع أن تنهى وتأتي, ولو جزم كان المعنى فاسدًا. ولو قلت بالفاء: لا يسعني شيءٌ فيعجزَ عنكَ كان جيدًا؛ لأن معناه: لا يسعني شيءٌ إلا لم يعجزْ عنكَ ولا يسعني شيءٌ عاجزًا عنكَ. فهذا تمثيلٌ كما تمثلُ: ما تأتيني فتحدثني إذا نصبت بما تأتيني إلاّ لم تحدثني, وبما تأتيني محدثًا, وتنصب مع الواو في كل موضع تنصب فيه مع الفاء، وكذلك إذا قلت: زرني فأزوركَ, تريدُ ليجتمعَ هذان، قال الشاعر:

أَلم أَكُ جَارَكُمْ ويَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإِخَاءُ1

أراد: ألم يجتمعْ هذانِ, ولو أراد الإِفراد فيهما لم يكن إلا مجزومًا, والآية تقرأ على وجهين: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}2 وإنما وقع النصب في باب الواو والفاء في غير الواجب؛ لأنه لو كان الفعلُ المعطوف عليه واجبًا لم يبنِ الخلاف فيصلحُ إضمارُ "أنْ".
شرح الرابع: وهو "أو":
اعلم: أن الفعل ينتصب بعدها إذا كان المعنى معنى إلا أن تفعلَ، تقول: لألزمنَّكَ أو تعطيني، كأنه قال: ليكوننَّ اللزومُ والعطيةُ, وفي مصحف أُبي: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}3 على معنى: إلا أن يُسلموا، أو حتى يسلموا، وقال امرؤ القيس:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 425 على نصب الفعل "يكون" بإضمار "أن" بعد واو المعية الواقعة بعد الاستفهام، والتقدير: ألم يقع أن أكون جاركم، ويكون بيني وبينكم المودة. والشاهد للحطيئة يقوله لآل الزبرقان بن بدر، وكانوا قد جفوه فانتقل عنهم وهجاهم. انظر المقتضب 2/ 22, والصاحبي 90, والعيني 4/ 417, والهمع 2/ 13, والسيوطي 321, والدرر اللوامع 2/ 10, والديوان 40.
2
آل عمران: 142, وقراءة الجزم من الشواذ، قال ابن خالويه 22 بكسر الميم الحسن، والإتحاف 179, وانظر الكتاب 1/ 426.
3
الفتح: 16 والقراءة برفع يسلمون، أما أو يسلموا فمن الشواذ. انظر ابن خالويه 142.



ج / 2 ص -156- فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَينُكَ إنَّما نُحَاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا1

أي: إلا أن نموت فنعذَرا, فكل موضعٍ وقعتْ فيهِ أو يصلح فيه إلا أنْ وحتى, فالفعل منصوب, فإن جاء فعلٌ لا يصلحُ هذا فيهِ رفعت، وذلك نحو قولك: أتجلس أو تقومُ يا فَتى, والمعنى: أيكون منكَ أحدُ هذينِ؟ وهل تكلمنا أو تنبسطُ إلينا؟ لا معنى للنصبِ هنا، وقال الله عز وجل: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}2 فهذا مرفوع، لا يجوز فيه النصب؛ لأن هذا موضع لا يصلحُ فيه "إلاّ أنْ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 427 على نصب "نموت" بأن مضمرة بعد "أو"، والمعنى: على إلا أن نموت. ولو رفع لكان عربيًّا جائزًا, على وجهين: على أن تعطف على "نحاول"، وعلى أن يكون مبتدأً مقطوعًا من الأول، يعني: أو نحن ممن نموت.
وانظر: معاني القرآن 2/ 71, والمقتضب 2/ 28، والخصائص 1/ 63، وأمالي ابن الشجري 2/ 316، وابن يعيش 7/ 22، والخزانة 3/ 609، والديوان/ 91.
2
الشعراء: 73.

ج / 2 ص -157- شرح القسم الأول: وهو الأحرف الأربعة:
لم ولمَّا ولا في النهي ولام الأمر؛ أما لَمْ فتدخلُ على الأفعال المضارعة، واللفظُ لفظُ المضارع والمعنى معنى الماضي، تقولُ: لَمْ يقمْ زيدٌ أمسِ, ولَم يقعدْ خالدٌ, وأما "لَمَّا" لَمْ ضمتْ إليها "مَا" وبنيتْ معها فغيرت حالها كما غيرت لو "ما" ونحوها، ألا تَرى أنكَ تقول: لمّا ولا يتبعها شيءٌ، ولا تقول ذلك في "لَمْ" وجوابُ "لمّا" قد فَعلَ، يقول القائل: لمَّا يفعلْ فيقول: قد فعَلَ, ويقول أيضًا للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره وتقول: لما جئتَ جئتُ، فيصيرُ ظرفًا1، وأما "لا في النهي" فنحو قولِكَ: لا تقمْ ولا تقعدْ, ولفظ الدعاء لفظُ النهي كما كان كلفظِ الأمر تقول: لا يقطع اللهُ يدكَ، ولا يتعس اللهُ جدك، ولا يبعدُ الله غيرَك ولا في النهي بمعنى واحدٍ؛ لأنك إنَّما تأمره أن يكون ذلك الشيء الموجب منفيا, ألا ترى أنَّكَ إذا قلت: قُمْ إنّما تأمره بأن يكون منه قيام, فإذا نهيت فقلت: لا تَقم فقد أردت منه نفي ذلكَ, فكما أنَّ الأمر يراد به الإِيجاب فكذلك النهي يراد به النفي, وأما لام الأمر فنحو قولك: ليقم زيدٌ وليقعدْ عمرٌو ولتقم يا فلانُ، تأمر بها المخاطب كما تأمرُ الغائب, وقال عز وجل: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}2 ويجوز حذف هذه اللام في الشعر وتعمل مضمرة, قال متمم بن نويرة:

علَى مِثْلِ أَصْحَابِ البَعُوضَةِ فَاخْمِشِي لَكِ الوَيْلُ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى3

أراد: ليبكِ, ولا يجوزُ أن تضمر لَمْ وَلا في ضرورة شاعرٍ, ولو أضمرا لالتبس الأمر بالإِيجاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الذي عليه الجمهور: أنها حرف وجود لوجود، وهي عند المصنف ظرف بمعنى: حين. وانظر المغني/ 310.
2
يونس: 58، وهذه القراءة عشرية، في النشر 2/ 285 روى رويس بالخطاب، وهي قراءة أبي. وانظر الإتحاف/ 252, والبحر المحيط 5/ 172.
3
من شواهد سيبويه 1/ 409 على جزم "يبكي" على إضمار لام الأمر، ويجوز أن يكون محمولًا على معنى: فاخمشي؛ لأنه في معنى لتخمشي، وهذا أحسن من الأول. والبعوضة هنا: موضع بعينه قتل فيه رجال من قوم الشاعر, فحض على البكاء عليهم، ومعنى اخمشي: اخدشي.
وانظر: المقتضب 2/ 132, والضرائر/ 84, وأمالي ابن الشجري 1/ 375, والإنصاف/ 276, وابن يعيش 7/ 60, وشروح سقط الزند 3/ 1124, ومعجم البلدان "بعوضة"، والمغني/ 411، والخزانة 3/ 629، والسيوطي 204.



ج / 2 ص -158- شرح القسم الثاني: وهو حرف الجزاء:
اعلَمْ: أنَّ لحرف الجزاء ثلاثة أحوال؛ حالٍ يظهر فيها، وحالٍ يقع موقعه اسم يقوم مقامه ولا يجو أن يظهر معه، والثالث أن يحذف مع ما عمل فيه, ويكون في الكلام دليل عليه. فأما الأول الذي هو حرف الجزاء: فإن الخفيفة, ويقال لها: أم الجزاء وذلك قولك: إن تأتني آتِكَ, وإنْ تقمْ أقم, فقولك: إن تأتني شرط وآتِكَ جوابهُ, ولا بُدَّ للشرطِ من جوابٍ وإلا لم يتم الكلام, وهو نظيرُ المبتدأ الذي لا بُدَّ له من خبر، ألا ترى أنَّك لو قلت: "زيدٌ"1 لم يكن كلامًا يقال فيه صدقٌ ولا كذبٌ، فإذا قلت: منطلقٌ تَمَّ الكلام, فكذلك إذا قلت: إنْ تأتني لم يكن كلامًا حتى تقولَ: آتِكَ وما أشبه وحَقُّ "إن" في الجزاء أن يليها المستقبل من الفعل؛ لأنك إنما تشرط فيما يأتي أنْ يقعَ شيءٌ لوقوع غيره, وإنْ وليها فعل ماضٍ أحالت معناه إلى الاستقبال, وذلك قولك: إنْ قمتَ قمتُ, إنما المعنى: إنْ تَقمْ أقم "فإنْ" تجعل الماضي مستقبلًا، كما أنَّ "لَمْ" إذا وليها المستقبل جعلته ماضيًا, تقول: لم يقمْ زيدٌ أمسِ، والمعنى: ما قام, فعلى هذا يجوز أن تقول: إنْ لَم أَقمْ لَم أَقمْ, فلا بد لشرط الجزاء من جواب, والجواب يكون على ضربين: بالفعل ويكون بالفاء, فالفعل ما خبرتُكَ به, فأما الفاء فنحو قولك: إنْ تأتني فأنا أكرمُكَ, وإنْ تأتِ زيدًا فأخوه يحسن إليكَ, وإنْ تتّقِ الله فأنتَ كريمٌ, فحق الفاء إذا جاءت للجواب أن يُبتدأ بعدها اللام, ولا يجوز أن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "إن تأتني" وليس لها معنى.



ج / 2 ص -159- يعمل فيما بعدها شيءٌ مما قبلها، وكذلك قولك: إنْ تأتني فلكَ درهمٌ، وما أشبه هذا، وقد أجازوا للشاعر إذا اضطر أن يحذف الفاء.
وأما الثاني: فأن يقع موقع حرف الجزاء اسم، والأسماء التي تقع موقعه على ضربين: اسمٌ غير ظرفٍ واسمٌ ظرف. فالأسماء التي هي غير الظروف: مَنْ ومَا وأيّهم, تقول: مَنْ تكرمْ أكرمْ وكان الأصل: إنْ تكرمْ زيدًا وأشباهَ زيدٍ أكرم فوقعت "مَنْ" لما يعقل, كما وقعت "مَنْ" في الاستفهام مبهمةً لما في ذلك من الحكمة وكذلك: ما تصنعُ أَصنعْ، وأيَّهم تضرب أَضربْ، تنصب أيهم بتضرب؛ لأن المعنى: إنْ تضربْ أيًّا ما منهم أَضربْ ولكن لا يجوز أن تقدم "تضربْ" على "أي" لأن هذه الأسماء إذا كانت جزاءً أو استفهامًا فلها صدور الكلام، كما كان للحروف التي وقعت مواقعها, فكذلك مَنْ وما إذا قلت: مَنْ تكرمْ أكرمْ، وما تصنعْ أَصنعْ, وموضعها نصب وإذا أردت أن تبين مواضعها من الإِعراب فضع موضعها "إن" حتى يتبين لك, وإذا قلت: مَنْ يقمْ أَقم إليه فموضع "مَنْ" رفعٌ؛ لأنها غير معقولة وكذا أيهم يضرب زيدًا أضربه وأيهم يأتني أحسن إليه، وأما "مَهما" فقال الخليل: هي "مَا" أدخلت معها "ما" لغوًا وأبدلوا الألفَ هاء1. قال سيبويه: ويجوز أن تكون كإِذْ ضُمتْ إليها "مَا"2، وأما الظروف التي يجازى بها: فمتى وأينَ وأنَّى وأي حين وحيثُما وإذْ ما, لا يجازى بحيثُ وإذْ حتى يُضم إليهما "مَا" تصير مع كل واحد منهما بمنزلة حرف واحد. فتقول إذا جازيت بهن: متى تأتني آتِكَ وأين تقمْ أَقمْ وأَنى تذهبْ أَذهبْ، وأي حين تصلْ أَصلْ، "فأيُّ" إلى أي شيء أضفتها كانت منه، إن أضفتها إلى الزمان فهي زمانٌ, وإن أضفتها إلى المكان فهي مكانٌ، وتقول: حيثُما تذهبْ أذهبْ، وإذ ما تفعل أفعلْ، قال الشاعر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 433.
2
انظر الكتاب 1/ 433.



ج / 2 ص -160- إِذْ مَا تَرَيْنِي اليَوْمَ مُزْجى ظعينتي أُصَعِّدُ سيرًا في البلادِ وأَفرَعُ

فإِنِّيَ مِنْ قَوْمٍ سِواكُم وإِنَّما رِجالي فَهْمٌ بالحِجَازِ وأشجعُ1

قال سيبويه: والمعنى: إما2.
وإذا, لا يجازى بها إلا في الشعر ضرورةً، وهي توصل بالفعل كما توصل "حيثُ" ويقع بعدها مبتدأٌ، وكل الحروف والأسماء التي يجازى بها فلك أن تزيد عليها "ما" ملغاةً, فإن زدتَ "مَا" على "مَا" لم يحسن حتى تقول: مهما، فيتغيرُ, فأمَّا "حيثما وإذ ما" لا يجازى بهما إلاّ و"مَا" لازمةٌ لهما.
واعلم: أن الفعل في الجزاء ليس بعلةٍ لما قبله، كما أنه في حروف الاستفهام ليس بعلة لِمَا قبله.
واعلم: أن الفعل إذا كان مجزومًا في الجزاء وغيره, فإنه يعمل عمله إذا كان مرفوعًا أو منصوبًا, تقول: إنْ تأتني ماشيًا أمشِ معكَ, وإن جعلت "تمشي" موضع "ماشيًا" جاز فقلت: إنْ تأتني تمشي أمشِ معكَ، وإن تأتني تضحكُ أَذهبْ معكَ, تريد "ضاحكًا" فإن جئتَ بفعلٍ يجوزُ أن يبدل من فعلٍ ولم ترد الحال جزمت فقلت: إنْ تأتني تمشِ أَمشِ معكَ, وإنَّما جاز البدل لأن المشيَ ضرب من الإِتيان, ولو لَمْ يكن ضربًا منه لم يجز، لا يصلح أن تقول: إنْ تأتني تضحكُ أَمشي معكَ، فتجزم "تضحكُ" وتجعله بدلًا, وقد كنت عرفتك أنَّ جميع جواب الجزاء لا يكون إلا بالفعل أو بالفاء، وحكى الخليل أنَّ "إذا" تكون جوابًا بمنزلة الفاء؛ لأنها في معناها لأن الفاء تصحب الثاني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 10/ 432، على قوله "إذ ما" والفاء في أول البيت الثاني جوابها؛ ولذلك جاء به، والمزجي من أزجيته إذا سقته برفق, والظعينة المرأة في الهودج, والمفرع: المنحدر وهو من الأضداد. وانتمى في النسب إلى فهم وأشجع, وهو من سلول بن عامر؛ لأنهم كلهم من قيس عيلان بن مضر, والبيتان لعبد الله بن همام السلولي. وانظر شرح السيرافي 1/ 80، وأمالي ابن الشجري 2/ 245، وابن يعيش 7/ 52، وكتاب الحدود للرماني/ 61، تحقيق مصطفى جواد.
2
انظر: الكتاب 1/ 432.

ج / 2 ص -161- الأول وتتبعه إياه، وإذا وقعت لشيءٍ يصحبه وذلك قوله عز وجل: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُون}1. والمعنى: إنْ أصابتهُم سيئةٌ قَنطوا، ونظيره: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُون}2، بمنزلة: أم صمتم ولا يجوز: إنْ تأتني لأفعلنّ3, ويجوز: إنْ أتيتني لأكرمنَّك، وإنْ لَم تأتني لأغمنك؛ لأنَّ المعنى: لئن أتيتني لأكرمنَّك فما حسن أن تدخل اللام على الشرط فيه, حسن أن يكون الجواب لأَفعلنَّ، وما لم يحسن في الشرط اللام لم يحسنْ في الجواب؛ لأنَّ الجواب تابعٌ فحقه أن يكون على شكل المتبوع، ولا يحسن أن تقول: لإِنْ تأتني لأَفعلنَّ, فلما قبح دخول اللام في الشرط قَبح في الجواب، ولو قلت ذاك أيضًا لكنت قد جزمت "بإنْ" الشرط وأتيت بجوابها غير مجزومٍ ويجوز أن تقول: "آتيكَ إنْ تأتني" فتستغني عن جواب الجزاء بما تقدم ولا يجوز: إن تأتني آتيكَ إلاّ في ضرورة شاعرٍ على إضمار الفاء، وأما ما كان سوى "إن" منها فلا يحسن أن يحذف الجواب، وسيبويه يجيز: إنْ أتيتني آتِكَ وإنْ لم تأتني أَجزكَ؛ لأنه في موضع الفعل المجزومِ4، وينبغي أن تعلم أنَّ المواضع التي لا يصلح فيها "إنْ" لا يجوز أن يجازى فيها بشيءٍ من هذه الأسماء ألبتة؛ لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو بها، إذا دخل حرف الجر على الأسماء التي يجازى بها لم يغيرها عن الجزاء، تقول: على أي دابةٍ أحمل أَركبه, وبِمَنْ تؤخذْ أوْ خذ به, وإنما قدم حرف الجرِّ للضرورة لأنه لا يكون متعلقًا بالمفعول. فإن قلت: بمَنْ تَمرُّ بهِ أمرُّ وعلى أيهم تنزل عليه [أنزلُ]5، رفعت وصارت بمعنى الذي, وصارت الباء الداخلة في "مَنْ" لأمرَّ والباء في "بهِ" لتَمرَّ، وقد يجوز أن تجزم بمَنْ تَمررْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الروم: 36، وانظر الكتاب 1/ 435.
2
الأعراف: 193، وانظر الكتاب 1/ 435.
3
من قبل أن "لأفعلن" تجيء مبتدأ, ألا ترى أن الرجل يقول: لأفعلن كذا وكذا. انظر: الكتاب 1/ 436.
4
انظر الكتاب 1/ 437.
5
أضفت كلمة "أنزل" لإيضاح المعنى.



ج / 2 ص -162- أَمررْ، وأنت تريد "بهِ" وهو ضعيفٌ وتقول على ذلك: غلامَ مَنْ تضربْ أضربه، قدمت الغلام للإِضافة كما قدمت الباء وهو منصوب بالفعل، ولكن لا سبيل إلى تقديم الفعل على "مَنْ" في الجزاء والاستفهام.
وأما الثالث: الذي يحذف فيه حرف الجزاء مع ما عمل فيه وفيما بقي من الكلام دليل عليه وذلك إذا كان الفعل جوابًا للأمر والنهي أو الاستفهام أو التمني أو العرض تقول: آتني آتِكَ فالتأويل: ائتني فإِنَّك إنْ تأتني آتِكَ، هذا أمرٌ، ولا تفعلْ يكنْ خيرًا لكَ, وهذا نهيٌ والتأويل لا تفعلْ فإِنَّكَ إن لا تفعلْ يكن خيرًا لكَ، وإلا تأتني أُحدثك وأينَ تكون أزرك, وألا ماءَ أشربهُ, وليته عندنا يحدثْنَا فهذا تمنٍّ, ألا تنزل تُصب خيرًا وهذا عرضٌ, ففي هذا كلِّه معنى "إنْ تفعلْ" فإن كان للاستفهام وجه من التقدير لم تجزم جوابهُ1.
ولا يجوز: لا تدنُ من الأسدِ, فإنَّكَ إن تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلكَ, فتجعل التباعد من الأسد سببًا لأكلكَ, فإذا أدخلت الفاء ونصبت جاز فقلت: لا تدنُ منَ الأسد فيأكلَكَ؛ لأنَّ المعنى لا يكونُ دنوٌّ ولا أَكلٌ, وتقول: مُرْهُ يحفرْها وقل له: يقل ذاك فتجزم، ويجوز أن تقول: مُرْهُ يحفرُها، فترفعُ على الابتداءِ، وقال سيبويه: وإن شئتَ على حذف "أنْ" كقوله:

ألا أيُّهَا الزَّاجري احْضر الوَغى2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 451.
2
من شواهد سيبويه 1/ 452، على رفع الفعل بعد حذف "أن" وتعري الفعل منها، وقد يجوز النصب بإضمار "أن" ضرورة وهو مذهب الكوفيين. وهذا صدر بيت عجزه:

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

والوغى: الحرب، وأصله الأصوات التي تكون فيها, والشهود: الحضور, والبيت من معلقة طرفة بن العبد.
وانظر: المقتضب 2/ 85، ومجالس ثعلب/ 383، والصاحبي/ 104، وأمالي ابن الشجري 1/ 83، والمحتسب 2/ 338، والإنصاف/ 296، والديوان/ 27.



ج / 2 ص -163- وعسينا نفعلُ كذا، وهو قليل1، وقد جاءت أشياء أنزلوها بمنزلة الأمرِ والنهي، وذلك قولهم: حسبُكَ ينمُ الناسُ، واتقى الله امرؤٌ وفعلَ خيرًا يُثَبْ عليهِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 452.



ج / 2 ص -164- باب إعراب الفعل المعتل اللام:
اعلم: أن إعراب الفعل المعتل الذي لامهُ ياءٌ أو واوٌ أو ألفٌ مخالفٌ للفعل الصحيح، والفرق بينهما أن الفعل الذي آخره واوٌ أو ياءٌ نحو: يغزو أو يرمي تقول فيهما: هذا يغزو ويرمي, فيستوي هو والفعل الصحيح في الرفع في الوقت, كما تقول: هو يقتلُ ويضرب فإن وصلت خالف يقتل ويضرب, فقلت: هو يغزو عمرًا, ويرمي بكرًا فتسكن الياء والواو, ولا يجوز ضمها إلا في ضرورة شَاعرٍ, فإن نصبت كان كالصحيح فقلت: لنْ يغزوَ ولَنْ يرميَ, وإنما امتنع من ضم الياء والواو لأنها تثقل فيهما, فإن دخل الجزم اختلفا في الوقف والوصل فقلت: لم يغزُ ولَم يرمِ, فحذفت الياء والواو, وكذلك في الوصل تقول: لم يغزُ عمرًا ولم يرمِ بكرًا، وإنما حذفت الياء والواو في الجزم إذا لم تصادف الجازم حركة يحذفها, فحذفت الياء والواو لأن الحركة منهما وليكون للجزم دليل. والأمر كالجزم تقول: ارمِ خالدًا واغزُ بكرًا فتحذف في الوقف والوصل إلا أنكَ تضم الزايَ من "يغزو" وتكسر الميم من "يرمِي" إذا وصلتَ. فيدلان على ما ذهبَ للجزمِ والوقفِ، وإنما تساوى الوقف في الأمر للجزم؛ لأنهما استويا في اللفظ الصحيح, فلما كان ذلك في الصحيح على لفظٍ واحدٍ جعلوا المعتل مثل الصحيح فقالوا: ارمِ واغزُ، كما قالوا: لم يرمِ ولَم يغزُ, وقالوا: اضربا واضربوا، كما قالوا: لم يضربا، ولم يضربوا.



ج / 2 ص -165- مسائل من سائر أبواب إعراب الفعل:
تقول: انتظرْ حتى إن يقسمْ شيءٌ تأخذْ، تجزم "تأخذْ" لأنه جوابُ لقولك: إنْ يقسمْ وانتظرْ حتى إن قسم شيءٌ تأخذْ, تنصبُ "تأخذ" إن شئت على حتَّى تأخذَ إن قسمَ, وإنْ شئتَ جزمت "تأخذ" فجعلته جوابًا لقولك: إنْ قسَم هذا قول الأخفش, وقبيح أن تفصل بين حتى وبينَ المنصوب قال: ومما يدلُّكَ على أنه يكون جوابًا ولا يحمل على "حتى" أنك تقول: حتى إنْ قسم شيءٌ أخذتُه يعني أنه معلقٌ بالجواب, فلا يرجعُ إلى "حتى" ألا ترى أنك لا تقول: حتى أخذت إنْ قُسِمَ شيءٌ وتقول: اجلسْ حتى إنْ يقلْ شيئًا فتسمعه تجبْنَا, جزمٌ كله ولا يجوز أن تنصب "تُجبنا" على حتى؛ لأن قولك: إن تفعلُ مجزومٌ في اللفظ فلا بد من أن يكون جوابه مجزومًا في اللفظ, وتقول: أَقم حتّى تأكلْ معَنا وأَقم حتى إيانا يخرجْ تخرجْ معَهُ, فأيُّ مبتدأٌ لأنها للمجازاة وحتى معلقةٌ, وكذلك اجلسْ حتى إنْ يخرجْ تخرجْ معَهُ, وانتظر حتى مَن يذهبْ تذهبْ معهُ, "فَمن" في موضعِ رفعٍ, واجلس حتى أَيًّا يأخذْ تأخذْ معهُ "أيا" منصوبة "بتأخذ" وتقولُ: أقم حتى أي القومِ تعط يعْطكَ, تعمل في "أي" ما بعدها, ولا تعمل فيها ما قبلها, وتقول: اجلس حتى غلامَ مَنْ تَلق تُكرمْ تنصب الغلام "بتلق" واجلس حتى غلامُ مَنْ تلقه تكرمْ, ترفع الغلام على الابتداء, ولو أن "حَتَّى" تكون معلقة في شيءٍ ما جاز دخولُها ههُنا لأن حرف1 الجزاء إذا دخل عليه عاملٌ أزالهُ عن حرف الجزاء, ألا ترى أنك تقول: مَنْ يزرنا نزرْهُ فيكون مرفوعًا بالابتداء وتكون للجزاء وذلك لأنَّ حال الابتداء كحالِ "إنْ" التي للجزاء, والشرط نظيرُ المبتدأ, والجوابُ نظيرُ الخبر.
قال الأخفش: ومما يقوي "مَنْ" إذا كانت مبتدأة على الجزاء أنْ "إنْ" التي للجزاء تقع موقعها، ولو أدخلت إنَّ المشددة على "مَنْ" لقلت: إنَّ مَنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
في الأصل "الحرف".



ج / 2 ص -166- يزورنا نزورهُ؛ لأنَّ المجازاة لا تقع ههنا فإن قلت: فَلِمَ لا تعملُ إنَّ في "مَنْ" وتدعها للمجازاة كما أعملت إنَّ الابتداء؟ فلأن "إنْ" التي للمجازاة لا تقع ههنا لأن إنَّ المشددة توجب بها والمجازاة أمرٌ مبهمٌ, يعني أنه لا تقع "إنْ" التي للمجازاة بعد "أنَّ" الناصبة، والمجازاة ليست بشيءٍ مخصوص إنما هي للعامة وإن الناصبة للإِيجاب, وكذلك: ليت مَنْ يزورنا نزورُه, ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت: مَنْ يزورُنا نزوره، وما تعطي تأخذْ فأنتَ تبهمُ ولا توضحُ, وهكذا يجيءُ الجزاءُ بمَنْ وأخواتها, فإن أوضحت منه شيئًا بصلةٍ ذهبَ عنه هذا العملُ وجرى مجرى "الذي" وتقول: سكتَ حتى أردنا أن نقومَ, تقول: افعلوا كذا وكَذا, فترده على جواب "إذا" ولو رددته على حتى جاز على قبحه وحقُّ "حَتى" أن لا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه, وتقول: لا واللهِ حتى إذا أمرتُك بأَمرٍ تطيعني, ترفع جواب "إذا" وإن شئتَ نصبت على "حتى" على قبحٍ عندي، إلا أن الفصل بالظرف أحسن من الفصل بغيره. وتقول: لا والله حتى إنْ أَقلْ لكَ: لا تشتمْ أَحدًا لا تشتمه. ولا تشتمهُ جوابُ "إنْ أَقلْ لك" فلا يكون فيه النصبُ؛ لأنه لا يرجع إلى: حتى لا والله وإذا قلت لكَ: اركبْ تركب يا هذا, تنصبُ "تركب" على أو وفصلت بالظرف والفصل بالظرف أحسنُ من الفصل بغيره، أردت: ولا واللَّه أو تركب, إذا قلت لكَ اركبْ ومَنْ رفع ما بعد "أوْ" في هذا المعنى رفع هذه المسألة وتقول: تسكت حتى إذا قلنا: ارتحلوا لا يذهب الليلُ تخالفْنا فلا تَذهبْ، "تذهبُ" معطوفٌ على "تخالفنا" وحتى إن نقل: ايتِ فلانًا تصبْ منهُ خيرًا لا تأتهِ، فتصب خيرًا جزمٌ على جواب ايتِ ولا تأته جواب "إنْ نقلْ". وتقول: لئن جئتني لأكرمنّكَ, الأولى توكيدٌ والثانية لليمين, ولا يجوز بغير النون ولئن جئتني لإِليكَ أقصدْ ولإِيّاك أكرمْ، ولا تنون أكرمْ لأن اللام لم تقع عليه ولو وقعت عليه فقلتَ: لأكرمنّكَ وكذلكَ: لئن جئتني لأكفلن بكَ، وفي كتابِ اللهِ عز وجل: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ}1 لما وقعت اللام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
آل عمران: 158.



ج / 2 ص -167- على كلام مع الفعل لم تدخله النون, وكذلك: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}1 وكذلك لئن جئتني لأهلٌ، وكذلك: ولئن وصلتك للصلة أنفعُ لك.
قالَ الأخفش: المعنى: والله للصلة أنفعُ وإنْ وصلتكَ، كما أن قولك: لئن جئتني لأكرمنكَ، إنما هي: والله لأكرمنك إنْ جئتني, قال: واللام التي في "لئن جئتني" زائدة وقوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}2 على معنى اليمين، كأنه قال والله أعلَم: واللهِ لمثوبةٌ مِن عندِ الله خيرٌ لَهم ولو آمنوا وقال لا تقول: إنَّ زيدًا لقامَ وتقولُ: إنَّ زيدًا إليكَ كفيلٌ, وإن زيدًا لهُ ولك منزلٌ؛ لأنَّ اللام لا تقع على فعلٍ، فإذا كان قبلَها كلامٌ ضممتهُ معها جاز دخول اللام, وتقول: سرت حتى أدخلُ أو أكادُ ترفعهما جميعًا لأنك تقول: حتى أكادُ والكيدودة كائنةٌ, وكذلكَ سرت حتى أدخلَها أو أقرب منها لأنه قد كان القرب أو الدخول وكذلك: سرتُ حتى أكاد أو أدخلُ, وأشكلَ عليَّ كُلُّ شيءٍ حتى أظن أني ذاهبُ العقلِ، فجميع هذا مرفوع لأنه فِعلٌ واجبٌ وهو فيه, قال الجعدي:

ونُنْكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَلْوانَ خَيْلِنَا مِنَ الطَّعنِ حَتى تحسبَ الجونَ أشقرا3

قال: يجوز في "تحسب" الرفع والنصب، والرفع على الحال, والنصب على الغاية وكأنكَ أردت إلى أن تحسب، وحكى الأخفش أن النحويين ينصبون إذا قالوا: سرتُ أكادَ أو أدخل يا هذا، ينصبون الدخول ويقولون:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
آل عمران: 157.
2
البقرة: 103.
3
الشاهد فيه رفع "تحسب" ونصبها، فالنصب على الغاية، كأنك أردت إلى أن تحسب. والبيت للنابغة الجعدي في مدح الرسول, صلى الله عليه وسلم.
وانظر: معاني القرآن 1/ 134، والأغاني 14/ 129، ومعجم المرزباني/ 321، والإصابة/ 8633، وشرح السيرافي 1/ 426.



ج / 2 ص -168- الفعلُ لم يجبْ, والكيدودة قد وجَبَتْ. قال: وهذا عندي يجوز فيه الرفع، يعني الدخول؛ لأنه في حال فعل إذا قلت: حتى أكاد, يعني إذا كنت في حال مقاربة، و"حتى" لا تعملُ في هذا المعنى, إنما تعمل في كل فعل لم يقع بعد، والكيدودةُ قد وقعتْ وأنت فيها, وتقول: الذي يأتيني فَلهُ درهم, والذي في الدارِ فلَهُ درهم, فدخولُ الفاء لمعنى المجازاة ولا يجوزُ: ظننتَ الذي في الدار فيأتيك. تريد: ظننتُ الذي في الدار يأتيك, والأخفش يجيزه على أن تكون الفاء زائدة وقال: قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}1 ولكن زدت "إن" توكيدًا، وقالَ: لو قلت: إن هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة كان صالحًا؛ لأنك إذا قلت: إن الذي يأتينا فلهُ درهم، فمعناه: الذي يأتينا فله درهم, ولا يحسن ليتَ الذي يأتينا فلَهُ درهم, ولا لعل الذي يأتينا فنكرمُه؛ لأنَّ هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة، ولا يحسنُ "كأنَّ الذي يأتينا فلَهُ درهم" لأن معنى الجزاء إنما يكون على ما يأتي لا على ما كان، فإن قدرت فيه زيادة الفاء جاز على مذهب الأخفشِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الجمعة: 8.

فصل يذكر فيه قَلَّ وأقلّ:
اعلم: أنَّ قَلَّ: فعلٌ ماضٍ، وأقلَّ: اسم، إلاّ أن أقلّ رجل قد أَجروه مجرى قَلَّ رجل، فلا تدخل عليه العوامل، وقد وضعته العرب موضع "ما" لأنه أقرب شيءٍ إلى المنفي القليل، كما أن أبعد شيء منه الكثير، وجعلت "أقلَّ" مبتدأةً صدرًا إذا جُعلتْ تنوبُ عن النفي، كما أن النفيَ صدرٌ فلا يبنونَ أقلَّ على شيءٍ، فتقول: أقلّ رجلٍ يقول ذاك، ولا تقولُ: لَيتَ أقلَّ رجلٍ يقول ذاك، ولا لعل ولا إنَّ، إلا أن تضمر في "إنَّ" وترفع أقلّ بالابتداء، قال الأخفش: هو أيضًا قبيحٌ؛ لأن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى:



ج / 2 ص -169- قَلَّ رجلٍ, وربُّ رجلٍ، لو قلت: كان أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ فرفعت "أقلّ" على "كانَ" لم يجز ولكن تضمر في "كانَ" وترفع أقلَّ على الابتداء، وأقلُّ رجلٍ وقلَّ رجلٌ قد أجروه مجرى النفي، فقالوا: أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ إلا زيدٌ وقال سيبويه: لأنه صار في معنى: ما أحَدٌ فيهما إلا زيد1، وقال: وتقولُ: قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك إلا زيدٌ، فليس زيدٌ بدلًا من الرجل في "قَلَّ" ولكن: قَلَّ رجلٌ في موضعِ أقلّ رجلٍ, ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه, والمستثنى بدل منه لأنك تدخله في شيءٍ يخرج من سواه. قال: وكذلك: أقلُّ مَنْ, وقَلُّ مَنْ، إذا جعلت "مَنْ" بمنزلة رجلٍ. حدثنا بذلك يونس عنِ العرب2 يجعلونه نكرةً كما قال:

رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنَ الأمرِ لهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ3

يريد أنَّ "رُبَّ" دخلت على "مَا" وهي لا تدخلُ إلا على نكرةٍ، فتنكيرُ "مَا" كتنكير "مَنْ" قالَ: وتقولُ: قَلَّ ما سرتُ حتى أدخلُها، مِنْ قبل أنَّ قَلَّما نفي لقوله كَثُرَ مَا, كما أنَّ ما سرتُ نفي لقوله: سرتُ، ألا ترى أنه قبيح أن تقول: قلما سرتُ فأدخلها، كما يقبح في ما سرت إذا أردت معنى, فإذا أنا أدخل، إنما قبحه لأنه إذا لَمْ يكن سيرٌ, لم يكن دخولٌ, فكذلك قلّما لَمّا أُريدَ بها النفي كان حكمُها حكم قالَ, وتقولُ: قلَّما سرت فأدخلها, فانتصب بإلغائها هنا كما تنصبُ فيما قال. وتقول: قلّما سرت، إذا عنيت سيرًا واحدًا,

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 361.
2
انظر الكتاب 1/ 361.
3
من شواهد سيبويه 1/ 270 و1/ 362 على أن "ما" نكرة لوقوعها بعد "رب"، وقيل: إن "ما" هنا غير كافة لأن الضمير قد عاد عليها من قوله: له فرجة.
والفرجة بالفتح في الأمر، وبالضم في الحائط ونحوه مما يرى.
ونسب سيبويه هذا الشاهد إلى أمية وهو في ديوانه/ 50, وقد ورد في شعر عبيد بن الأبرص في ديوانه/ 36.
وانظر: المقتضب 1/ 42, وأمالي ابن الشجري 2/ 238, وابن يعيش 4/ 2, وارتشاف الضرب/ 264, والمغني 1/ 297, والسيوطي/ 359, والخزانة 2/ 541.



ج / 2 ص -170- أو عنيت غير سيرٍ، كأنك قد تنفي الكثيرَ من السيرِ الواحدِ، كما تنفيه من غير سيرٍ, يريدُ بقولِه: من غير سيرٍ أي: سيرًا بعد سيرٍ, قالَ الأخفش: الدليلُ على أن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى رُبَّ وما أشبهها أنَّك تقول: أقلَّ امرأةٍ تقولُ ذاك فتجعلُ اللفظَ على امرأة, وأقلَّ امرأتين يقولان ذاكَ، فينفي أقلَّ، كأنه ليس له خبر، ولا تحمله إلا على الآخر، يعني: لا تحمل الفعلَ إلا على الذي أضفت إليه أقلَّ, فهذا يدل على أنه لا يشبه الأسماء, يعني إذا كان الخبر يجيء على الثاني وكذلك: أقلُّ رجال يقولون ذاك، ولا يحسن, كذلك لو قلت: أقَلُّ رجلينِ صالحانِ لم يُحسنْ, ولا يحسنُ من خبره إلا الفعل والظرف, أقلُّ رجلين صالحين في الدار وأقلُّ امرأةٍ ذاتُ جمةٍ في الدار, وأقلُّ رجلٍ ذي جمةٍ في الدار, كان جيدًا، ولو ألغيت الخبر كان مذهبه كمذهب "رُبَّ" فإنْ قلت: فما لي إذا قُلت: قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك، وقَلّ رجلٌ قائلٌ ذاكَ, وهو صفة لا يجوز حذفه؛ فلأنك إنما قللتَ الموصوفين ولم تقللِ الرجال مفردين في الوصف، ألا ترى أنك لا تقول: قلّ رجلٌ قائلٌ ذاك إلا وأنت تريد القائلين ولست تريد أن تقلل الرجال كلهم.

فصل من مسائل الدعاء والأمر والنهي:
اعلم: أن أصل الدعاء أن يكون على لفظ الأمر وإنما استعظم أن يقال: أمرٌ، والأمر لمن دونَك، والدعاء لمن فوقك, وإذا قلت: اللهم اغفر لي فهو كلفظك إذا أمرت فقلت: يا زيدُ أكرم عمرًا وكذلك إذا عرضت فقلت: انزل, فهو على لفظ اضربْ, وقد يجيء الأمر والنهي والدعاء على لفظ الخبر إذا لم يلبس, تقول: أطالَ الله بقاءهُ, فاللفظُ لفظ الخبر والمعنى دعاءٌ ولم يلبسْ لأنك لا تعلم أنّ الله قد أطالَ بقاءهُ لا محالة, فمتى أُلبسَ شيءٌ مِنْ ذَا بالخبر لم يجز حتى يبينَ, فتقول على ذا: لا يغفر الله لَهُ ولا يرحمهُ, فإن قلت: لا يغفرُ الله لَهُ ويقطعُ يدهُ لم يجز أن تجزم "يقطعُ" لأنهُ لا يشاكل الأول؛ لأنَّ الأول دعاءٌ عليه, وإذا جزمتَ "يقطعُ" فقد أردت: ولا يقطعُ الله, فهذا دعاء له فلا يتفق المعنى. وإذا لم يتفق لم يجز النسق،



ج / 2 ص -171- وكذلك إذا قلت: ليغفر الله لزيدٍ ويقطعُ يَدهُ، لم يجز جزم "يقطعُ" لاختلاف المعنى, ولكن يجوز في جميع ذا الرفع, فيكون لفظه لفظ الخبر, والمعنى الدعاءُ وإذا أسقطت اللام ولا رفعت الفعلَ المضارع فقلت: يغفرُ الله لكَ وغفَر الله لكَ, وقال الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}1، وقال: {فَلا يُؤْمِنُوا}2، وقال الله تبارك وتعالى: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}3 باللام. وقال قوم: يجوزُ الدعاءُ بلَنْ، مثل قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}. وقال الشاعر:

"
لن تَزالوا كذلكم ثُم لا زلـ ـتَ لهم خالدًا خُلُود الجبال"4

والدعاء "بلَنْ" غير معروف، إنما الأصلُ ما ذكرنا، أن يجيء على لفظ الأمر والنهي، ولكنه قد تجيء أخبار يقصدُ بها الدعاءُ إذا دلت الحالُ على ذلكَ, ألا ترى أنك إذا قلت: "اللهم افعلْ بنَا" لَم يحسنْ أن تأتي إلا بلفظ الأمر, وقد حكى قوم: اللهم قطعت يده وفقئت عينهُ, قال الشاعر:

لا هم ربَّ الناس إن كذبت ليلى ..............................5

وإن قدمتَ الأسماءَ فقلتَ: زيدٌ قطعتْ يده كانَ قبيحًا؛ لأنه يشبهُ الخبرِ وهو جائزٌ إذا لم يشكل, وإذا قلت: زيدٌ ليقطع الله يده كانَ أمثلَ؛ لأنهُ غيرُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يوسف: 92، والآية: قال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.
2
يونس: 88، والآية: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}.
3
يونس: 88، وتكملتها: {رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ}.
4
الشاهد فيه خروج الفعل بعد "لن" للدعاء، ولا تقع "لن" دعائية خلافًا للمصنف ومن ذهب مذهبه، ودليلهم على ذلك قوله تعالى: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}. إن معناه: فاجعلني لا أكون, والشاهد للأعشى من قصيدة طويلة يمدح فيها الأسود بن المنذر.
وانظر: ارتشاف الضرب/ 246, والمغني 1/ 284, والتصريح 2/ 230، والسيوطي/ 684, وشرح شواهد ابن عقيل للجرجاوي/ 11, والهمع 2/ 4، والدرر اللوامع 2/ 3.
5
لم أتبين هذا البيت؛ لأنه غير واضح في الأصل.



ج / 2 ص -172- ملبسٍ وهو على ذلك اتساعٌ في الكلام؛ لأن المبتدأ ينبغي أن يكون خبره يجوزُ فيه الصدق والكذب, والأمر والنهي ليسا بخبرين والدعاء كالأمر, وإنما قالوا: زيدٌ قم إليه وعمرٌو اضربْهُ اتساعًا كما قالوا: زيدٌ هَلْ ضربتَهُ، فسدّ الاستفهام مسد الخبرِ وليس بخبر على الحقيقة وقال: إذا أجزت افعلْ ولا تفعل أمروا ولم ينهُوا، وذلك في المصادر والأسماء والأدوات, فتقول: ضربًا ضربًا والله، تريد: اضربْ ضربا واتقِ الله, وهلمَّ وهاؤم إنما لم يجز في النهي؛ لأنه لا يجوز أن يضمر شيئان لا والفعل، ولو جاءوا "بلا" وحدها لم يجز أيضًا أن يحال بين "لا" والفعل؛ لأنها عاملةٌ وتقولُ: ليضرب زيدٌ وليضرب عمرو وتقولُ: زيدًا اضربْ, تنصبُ زيدًا "باضربْ" وقال قوم: تنصبُ زيدًا بفعل مضمر، ودليلهم على ذلك أنك تدخلُ فيه الفاء فتقول: زيدًا فاضربْ, وقالوا: إنَّ الأمر والنهي لا يتقدمهما منصوبهما؛ لأن لهما الاستصدارَ والذين يجيزونَ التقديم يحتجون بقول العربِ: بزيد امرر ويقولون: إن الباءَ متعلقة بامرر ولأنه لا يكون الفعل فارغًا وقد تقدمه مفعوله ويضمرون إذا شغلوا نحو قولهم: زيدًا اضربْه, ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله. وتقول: ضربًا زيدًا، تريد: اضربْ زيدًا, وقوم يجيزون ضرب زيد وأنت تريدُ: ضربًا زيدًا ثم تضيف, وهذا عندي قبيحٌ لأن ضربًا قامَ مقامَ اضربْ واضربْ لا يضاف، والألفُ في الأمر تذهب إذا اتصلت بكلام نحو قولك: اضربْ اضربْ, واذهبْ اذهبْ، ويقولون: ادخلْ ادخلْ, واذهبْ ادخلْ, ويختارون الضم إذا كانت بعد مضمومٍ والكسر جائزٌ, تقول: اذهبْ ادخلْ. وقد حكوا: ادخلِ الدارِ للواحدِ على الإِتباع وهو رديءٌ لأنه ملبسٌ1, وقالوا: يجوز الإِتباع في المفتوح مثل قولك: اصنع الخير. وقالوا: لا نجيزهُ ولم نسمعْهُ لأنّا قد سمعناهُ إذا حرك، نحو قول الشاعر:

يَحسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما2



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يلتبس في حالة التثنية نحو: ادخلا الدار.
2
من شواهد سيبويه 2/ 152 على تأكيد الفعل المنفي بلم بالنون, وهو صدر بيت عجزه:

شيخًا على كرسيه معمما

يعلما: أصله "يعلمن" بالنون الخفيفة قلبت ألفًا.
ومعمما من عممت الرجل: ألبسته العمامة، أو عمم الرجل: سود؛ لأن العمائم تيجان العرب.
وقد ظن الشنتمري أن الراجز وصف جبلًا قد عمه الخصب وحفه النبات وملأه فجعله كشيخ معمم، والواقع أنه في وصف رغوة اللبن.
والرجز ينسب إلى المساور العبسي، وإلى العجاج، وإلى أبي حيان الفقعسي وإلى عبد بني عبس.
وانظر نوادر أبي زيد/ 13, ومجالس ثعلب/ 620, وأمالي الزجاجي/ 120, وابن يعيش 9/ 42, والإنصاف/ 347, وأمالي ابن الشجري 1/ 384, وارتشاف الضرب/ 382.



ج / 2 ص -173- وقوله:

أَجِّره الرُّمْحَ ولا تُهالَهْ1

لما كان قبله فتحٌ اتبع. فأما قول القائل: ما لَمْ يعلَما, فقد قيلَ فيه: إنهُ يريدُ النونَ الخفيفة، وأما قولُه: لا تُهالِه فإنه حركَ اللام لالتقاء الساكنين؛ لأنه قد علم أنه لا بد من حذفٍ أو تحريكٍ، وكان الباب هُنا الحذف وأن تقولَ: لا تهل ولكن فعلَ ذلك من أجل القافية؛ لأن الألف لازمةٌ لحرف الروي فرده إلى أصله فالتقى ساكنان، الألف واللام التي أسكنت للجزم فحرك اللام بالفتح لفتحة ما قبلها ولما منه الفتح وهي الألف وأدخل الهاءَ لبيان الحركة، وتقولُ: زرني ولأزركَ، فتدخل اللام؛ لأن الأمر لكَ, فإذا كان المأمور مخاطبًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
عجز بيت، وصدره:

إيها فداء لك يا فَضَالَهْ أجره الرمح.......

وهو في نوادر أبي زيد منسوب إلى راجز لم يسمه، وأجره: اطعنه فيه؛ لأن الإجراء الطعن في الفم, ولا تهاله أراد: لا تهل بالجزم على البناء للمجهول، أي: لا يفزعك شيء, والهاء للوقف.
وانظر: نوادر أبي زيد/ 13، والمقتضب 3/ 168, وسر صناعة الإعراب 1/ 92، والتمام في تفسير أشعار هذيل/ 14، والاشتقاق/ 321، وشرح المفضليات للأنباري/ 57، والحجة لأبي علي 1/ 50، والارتشاف/ 383، وشرح سقط الزند 3/ 969، وابن يعيش 4/ 72، واللسان 3/ 510، والاقتضاب للبطليوسي/ 345.



ج / 2 ص -174- ففعلهُ مبني غير مجزومٍ، وقد بينا هذا فيما تقدم, وقوم من النحويين1 يزعمون أنَّ هذا مجزومٌ، وأن أصل الأمرِ أن يكونَ باللامِ في المخاطب، إلا أنه كثر فأسقطوا التاءَ واللامَ, يعنونَ أن أصلَ اضربْ لتضربْ, فأسقطوا اللامَ والتاء، قال محمد بن يزيد: وهذا خطأٌ فاحش2؛ وذلك لأن الإِعراب لا يدخل من الأفعال إلا فيما كان مضارعًا للأسماء وقولُكَ: اضربْ وقم ليسَ [فيه شيءٌ]3 من حروف المضارعة، ولو كانت فيه لم يكن جزمهُ إلا بحرفٍ يدخل عليه.
ويروى عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قرأ: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}4 فإذا لم يكن الأمرُ للحاضرِ فلا بد من إدخال اللامِ، تقول: ليقمْ زيدٌ, وتقول: زرْ زيدًا وليزرْكَ إذا كان الأمرُ لهما جميعًا؛ لأن زيدًا غائبٌ فلا يكون الأمر له إلا بإدخال اللام, وكذلكَ إذا قلتَ: ضُرِبَ زيدٌ فأردتَ الأمرَ من هذا قلتَ: ليُضرَبْ زيدًا؛ لأنَّ المأمور ليس بمواجه، والنحويون يجيزونَ إضمارَ هذه اللام للشاعر إذا اضطر، وينشدون لمتمم بن نويرة:

على مِثْلِ أصْحَابِ البَعُوضَةِ فاخْمِشِي لكِ الوَيْل حُرّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى5


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يقصد ابن السراج بقوم من النحويين: الكوفيين, وقد عقد ابن الأنباري مسألة في الإنصاف لهذا الخلاف من 303-317, كما عرض لذلك في أسرار العربية 316-321.
2
انظر المقتضب 2/ 131.
3
زيادة من المقتضب 2/ 131 يقتضيها المعنى.
4
يونس: 58. قراءة "فلتفرحوا" بتاء الخطاب عشرية في النشر 2/ 285. روى رويس بالخطاب وهي قراءة أبي ورويناها مسندة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي لغة لبعض العرب, أخبرنا شيخنا عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يعني بالخطاب فيهما, حديث حسن أخرجه أبو داود.
وانظر الإتحاف/ 252، والبحر المحيط 5/ 172.
5
مر تفسيره/ 163 من هذا الجزء.



ج / 2 ص -175- أراد: ليبكِ, وقولُ الآخر:

مُحَمَّد تَفْدِ نَفْسُكَ كُلَّ نَفْسٍ إذا مَا خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبَالا1

قال أبو العباس2: ولا أرى ذا على ما قالوا؛ لأنَّ عوامل الأفعالِ لا تضمرُ وأضعفها الجازمة؛ لأن الجزم في الأفعال نظيرُ الخفض في الأسماء3، ولكن بيت متمم يُحملُ على المعنى؛ لأنه إذا قال: فاخمشي فهو في موضع فلتَخْمشي، فعطَف الثاني على المعنى. وأما هذا البيت الأخيرُ فليس بمعروف على أنه في كتاب سيبويه على ما ذكرت لكَ, وتقول: ليقمْ زيدٌ ويقعدْ خالدٌ وينطلقْ عبدُ اللهِ؛ لأنك عطفت على اللام. ولو قلت: قُمْ ويقعدْ زيدٌ لم يجز الجزم في الكلام, ولكنْ لو اضطر إليه الشاعر فحمله على موضع الأول لأنه مما كان حقهُ اللام جازَ، وتقول: لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد الله؛ لأنك عطفت نهيًا على نهيٍ فإن شئتَ قلتَ: لا يقمْ زيدٌ ويقعدْ عبد اللهِ، وهو بإعادتِكَ "لا" أوضحَ؛ لأنك إذا قلت: لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد الله تبين أنكَ قد نهيتَ كل واحدٍ منهما على حياله فإذا قلت: لا يقمْ زيدٌ ويقعدْ عبدُ الله بغير "لا" ففيه أوجه: قَد يجوزُ أن يقع عند السامع أنك أردتَ لا يجتمع هذان، فإن قَعد عبدُ الله ولم يقمْ زيدٌ لم يكن المأمور مخالفًا، وكذلك إن لَم يقمْ زيدٌ وقعدَ عبدُ الله. ووجه الاجتماع إذا قصدته أن تقول: لا يقمْ زيدٌ ويقعدْ عبدُ الله، أي لا يجتمع قيام عبد الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 408 على حذف لام الأمر للضرورة, والتبال: سوء العاقبة وهو بمعنى الوبال، فكأن التاء بدل من الواو. نسب الرضي هذا البيت إلى حسان وليس في ديوانه ونسب إلى الأعشى وليس في ديوانه أيضًا.
وانظر: المقتضب 2/ 132, والصاحبي/ 86, وشرح السيرافي 1/ 39، وأمالي ابن الشجري 1/ 375, والإنصاف/ 276، والمغني 1/ 186, والخزانة 3/ 630، وشرح الكافية 2/ 249، والمفصل للزمخشري 2/ 220, وابن يعيش 9/ 24.
2
انظر المقتضب 2/ 133.
3
هذه عبارة سيبويه، انظر الكتاب 1/ 409.



ج / 2 ص -176- وأنْ يقعد زيدٌ، "فلا" المؤكدة تدخل في النفي لمعنى، تقول: ما جاءني زيدٌ ولا عمرٌو, إذا أردت أنه لم يأتِكَ واحد منهما على الانفرادِ، ولا مع صاحبه لأنك لو قلت: لم يأتني زيدٌ وعمرٌو, وقد أتاك أحدُهما لم تكن كاذبًا "فلا" في قولك: لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عمرو, يجوزُ أن تكون التي للنهي وتكون المؤكدة التي تقعُ لما ذكرت لكَ في كل نفيٍ.
واعلم: أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر، يجري على لفظه, وتقول: ائتني أكرمْكَ, وأينَ بيتُك أزرك, وهل تأتيني أعطك وأحسن إليكَ؛ لأنَّ المعنى: فإنَّكَ إنْ تفعلْ أفعلْ, فأما قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}1 ثم قَال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّه} فإن أبا العباس -رحمه الله- يقول: ليسَ هذا الجواب، ولكنه شرح ما دعوا إليه, والجواب: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ} فإن قال قائلٌ: فَهلا كان الشرح "أن تؤمنوا" لأنه بدلٌ من تجارةٍ.
فالجواب في ذلك: أن الفعل يكون دليلًا على مصدره, فإذا ذكرت ما يدل على الشيء، فهو كذكرِكَ إياهُ, ألا ترى أنهم يقولون: منْ كذبَ كانَ شَرًّا لَهُ يريدون: كانَ الكذبُ. وقال الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ}2 لأن المعنى: البخل خير لهم، فدل عليه بقوله: {يَبْخَلُونَ} وقال الشاعر:

أَلا أيُّهذا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى3

المعنى: عن أن أحضر الوَغَى، فأنْ والفعل كقولك: عن حضور الوغى، فلما ذكر "أَحضرُ" دل على الحضور, وقد نصبه قومٌ على إضمار "أنْ" وقدموا الرفع4. فأما الرفع فلأن الفعلَ لا يضمرُ عامله، فإذا حذف رفع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الصف: 10 و11.
2
آل عمران: 180, ولا يحسبن "بالياء والتاء سبعيتان". انظر الإتحاف/ 183.
3
تقدم في ص168 من هذا الجزء.
4
انظر المقتضب 2/ 135-136.



ج / 2 ص -177- الفعل وكان دالا على مصدره بمنزلة الآية, وهي: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ثم قال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وذلك لو قالَ قائلٌ: ما يصنع زيدٌ؟ فقلت: يأكلُ أو يصلي، لأغناك عن أن تقول: الأكلُ، والصلاةُ
ألا ترى أنَّ الفعل إنَّما مفعوله اللازم له إنما هو مصدرهُ؛ لأن قولك: قد قامَ زيدٌ بمنزلة قولك: قد كان منه قيامٌ. فأما الذين نصبوا فلمْ يأبوا الرفعَ، ولكنهم أجازوا معه النصب؛ لأن المعنى "بأنْ" وقَد أبانَ ذلك بقوله فيما بعده, "وأنْ أَشهد" فجعله بمنزلة الأسماء التي يجيءُ بعضها محذوفًا للدليل عليه وفي كتاب الله عز وجل: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}1 قال2: والقولُ عندنا أنَّ "مَنْ" مشتملةٌ على الجميعِ؛ لأنها تقعُ للجميعِ على لفظها للواحد.
وقد ذهب هؤلاء إلى أن المعنى: ومَنْ في الأرضِ، وليسَ القولُ عندي كما قالوا3. وقالوا في بيت حسان بن ثابت:

فَمَنْ يَهْجُو رَسُول الله مِنْكُمْ ويَمْدَحهُ ويَنْصُره سَوَاءُ4

إنما المعنى: ومن يمدحهُ وينصرهُ، وليس الأمر عند أهلِ النظر كذلك، ولكنه جعل "مَنْ" نكرةً، وجعل الفعلَ وصفًا لها, ثم أقام في الثانية الوصف مقامَ الموصوف فكأنه قال: وواحدٌ يمدحهُ وينصرهُ؛ لأن الوصف يقعُ موضع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الرحمن: 29.
2
الذي قال هو المبرد أستاذ المصنف، انظر المقتضب 2/ 137.
3
هذا قول المبرد في المقتضب 2/ 137, والذين قالوا الكوفيون والأخفش الذين أجازوا حذف الموصول الاسمي واحتجوا بقوله تعالى: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}, وقول حسان:

فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء

وانظر: المغني 2/ 692.
4
البيت من قصيدة لحسان بن ثابت في أول ديوانه، وهي في كتاب حسن الصحابة ص17-28. والشاهد حذف الموصول الاسمي, والتقدير: ومن يمدحه. وانظر: معاني القرآن 2/ 315, والمقتضب 2/ 137, وارتشاف الضرب/ 143، والمغني 2/ 692, والديوان/ 9.



ج / 2 ص -178- الموصوفِ إذا كان دالا عليه. وعلى هذا قول الله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}1, وقال الشاعر:

كأنَّك مِنْ جَمالِ بني أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ2

يريدُ: كأنَكَ جَملٌ ولذلك قال: يقعقعُ خلفَ رجليهِ. وقالَ في أشد مِن ذا:

مَا لَك عِنْدِي غَيْرُ سَهْم وحَجَرْ وغَيْر كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الوَتَرْ

جَادَت بِكفّيْ كانَ مِنْ أرمى البَشَرْ3

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
النساء: 159، وانظر الكتاب 1/ 385.
2
من شواهد سيبويه 1/ 375 على حذف الموصوف.
والقعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب, والشن: القربة البالية, وقعقعتها تكون بوضع الحصا فيها وتحريكها فيسمع فيها صوت، وهذا مما يزيد في نفورها. ومنه: لا يقعقع لي بالشنان, يضرب للرجل الشرس الصعب، أي: لا يهدد, وبنو أقيش: حي من عكل. قال الأصمعي: جمال بني أقيش: حوشية لا ينتفع بها فيضرب بنفارها المثل.
والبيت للنابغة الذبياني من قصيدة قالها لما قتلت عبس رجلًا من أسد, فقتلت أسد به اثنين من عبس.
وانظر المقتضب 2/ 138, والكامل/ 219, وشرح السيرافي 1/ 271, والمفصل للزمخشري/ 118، والاقتضاب للبطليوسي/ 314, وابن يعيش 1/ 61، وجمهرة الأنساب/ 199، والعيني 4/ 67، والديوان/ 77.
3
الشاهد فيه حذف الموصوف, والتقدير: بكفي رجل أو إنسان، قال البغدادي: تقدير رام للقرينة, وجادت أي أحسنت، ويروى: بكفي كان من أرمى البشر، بفتح ميم "من" أي: بكفي من هو أرمى البشر. وكان على هذا زائدة وهذا الرجز لا يعرف قائله.
وانظر المقتضب 2/ 139، ومجالس ثعلب/ 513, والخصائص 2/ 367، والمحتسب 2/ 227، وأمالي ابن الشجري 2/ 149، والإنصاف/ 69، وشواهد الكشاف/ 137، وابن يعيش 3/ 62، والخزانة 2/ 312.



ج / 2 ص -179- قال أبو بكر: وهذا كله قولُ أبي العباس ومذهبهُ1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر المقتضب ج2/ 131-139.

فصل من مسائل الجواب بالفاء:
يَقول: هَلْ يقوم زيدٌ فتكرمُهُ، يجوزُ الرفع والنصب، النصب على الجواب والرفعُ على العطف, وقال الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ}1 يقرأ بالرفع والنصب، وتقول: ما أنَتَ الذي تقومُ فتقومَ إليهِ, الرفع والنصب فالرفعُ على النسق والنصبُ على الجواب، وتقول: مَنْ ذا الذي يقوم فيقومُ إليهِ زيدٌ، الرفع والنصب, وقوم يجيزون توسط الفاء في الجزاء فيقولون: هَلْ تضربْ فيأتيكَ زيدٌ, وهو عندي في الجزاء كما قالوا؛ لأنَّ ما بعد الفاء إذا نُصِبَ فهو مع ما قبله من جملةٍ واحدةٍ، والجزاء وجوابه جملتان تنفصلُ كلُّ واحدة منهما عن صاحبتها فلا يجوز أن يختلطا, فإن قالَ قائلٌ: ينبغي أن يكون غيرَ جائز على مذهبكم من قبل أن التقدير عندكم: هَلْ يقع ضَربٌ زيدًا فإتيانك, فلو أجزت "زيدًا" في هذه المسألة لم يجزْ؛ لأنه في صلة "ضَربٌ" فلا يجوز أن تفصل بين الصلة الموصول بشيءٍ فالجواب في ذلك أنك إذا قلت: هل تضربُ فيأتيكَ زيدًا, فإنما العطفُ على مصدرٍ يدل عليه "يضربُ" فأغنى عنه, وعلى ذلك فينبغي أن لا يجري على التقديم والتأخير في مثل هذا إلا أن يسمع نحوه من العرب؛ لأنه قد خُولفَ به الكلام للمعنى الحادث, وإذا أزيلَ الكلام عن جهته لمعنى فحقه أن لا يزال بضده، ولا يتصرف فيه التصرف الذي له في الأصل إلا أن يقول العرب شيئًا فتقوله، والفراء يقول: إنما نصبوا الجواب بالفاء؛ لأن المعنى كان جوابًا بالجواب, فلما لم يؤتِ بالجزاء فينسق على غير شكله فنصب مثل قولكَ: هل تقومَ فأقومَ، ومَا قمتُ فأقوم إنما التأويلُ لو قمت لقمتُ, وشبههُ بقولهم: لو تركت والأسدَ لأكلك. وتقول: لا يسعني شيء ويضيقَ عنكَ، لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الحديد: 11.



ج / 2 ص -180- يحسن التكريرُ فنصبتَ، وقال بعضهم: إنما نصب الجواب بالفاء، وإنْ لا تلي إلا المستقبلَ فشبه "بأنْ" والفاء في الجزاء تلي كل شيءٍ فبطلتْ, والذين يجيزون توسط الجواب يقولون: ما زيدٌ فنأتيَهُ بمذنبٍ, يجيزونَ النصب ولا يجيزون الرفع، ولا يجوز أن تقول: ما زيدٌ نأتيهِ إلا أن تريد الاستفهامَ.
واعلم: أنه لا يجوز أن تلي الفاء "ما" ولا شيءٌ مما يكون جوابًا، وفي كتاب سيبويه في هذا الباب مسألةٌ مشكلةٌ, وأنا ذاكرٌ لفظَهُ وما يجب فيها من السؤال والجواب عنه. قال سيبويه: لا تدنُ من الأسدِ يأكُلكَ قبيحٌ إن جزمت وليس وجه كلام الناس؛ لأنك لا تريد أن تجعل تباعدهُ مِنَ الأسد سببًا لأكله, فإن رفعت فالكلام حسنٌ، فإن أدخلت الفاء فحسنٌ وذلك قولك: لا تدنُ منهُ فيأكلُكَ, وليس كل موضعٍ تدخل فيه الفاءُ يحسنُ فيه الجزاء, ألا ترى أنه يقول: ما أتيتنا فتحدثنا, والجزاء ههنا محال, وإنما قَبُحَ الجزم في هذا لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء1 فمما يسأل عنه في هذا أن يقال: لِمَ حَسُنَ مع الفاءِ النصبُ وقبح في الجزم ولمْ يفصل بينهما سيبويه بشيءٍ قَبحه؟ فالجواب في ذلك أن الفرق بين المنصوب والمجرور أنك إذا جزمت إنما تقدر مع حرف الجزاء الفعل الذي ظهر, وإن كان أمرًا قدرت فِعلًا موجبًا, وإن كان نهيًا قدرت فِعلًا منفيًّا, ألا ترى أنك إذا قلت: قُم أعطكَ فالتأويلُ: إنْ تَقم أعطِكَ, وإذا قلتَ: لا تقمْ أعطكَ, فالتأويل: إلاّ تقمْ أعطكَ, فالإِيجابُ نظيرُ الأمرِ والنفي نظيرُ النهي؛ لأنَّ النهيَ نفيٌ فهذا الجزاء على أنه لم ينقل فيه فِعلٌ إلى اسمٍ, ولا يستدل فيه بفعل على اسم ثم عطف عليه, وإن قال: ما تأتيني فتحدثني, فما بعد الفاء في تقدير اسم قد عطف على اسم دل عليه "تأتيني" لأن الأفعال تدل على مصادرها, وكذلك إذا قال: لا تفعلْ فأضربكَ، فالتأويل على ما قال سيبويه أن المنصوب معطوفٌ على اسم، كأنه إذا قال: ليس تأتيني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 451.



ج / 2 ص -181- فتحدثَني. قال: ليسَ إتيانٌ فحديثٌ1، وإذا قال: لا تفعلْ فتضربْ, قد قال: لا يكنْ فِعلٌ فتضربَ، وهذا تمثيلٌ, وقد فَسرهُ وقواهُ, ودل على أن الثاني المنصوب من الجملة الأولى, وإن كانت الأولى مسألة.
قال: اعلم: أن ما ينتصب على باب الفاء ينتصب على غير معنى واحدٍ وكل ذلك على إضمار "أنْ" إلا أن المعاني مختلفة, كما أن قولك: "يعلمُ اللَّهُ" يرتفع كما يرتفعُ: يذهبُ زيدٌ، وعَلِمَ اللَّهُ, يُفتحُ كما يُفتح: ذَهَب زيدٌ وفيها معنى اليمينِ, قال: فالنصب هنا كأنك قلت: لم يكنْ إتيانٌ فإن تحدثَ والمعنى غير ذلك كما أن معنى: عَلِمَ اللَّهُ لأفعلن غير معنى: رَزقَ اللَّهُ, فإن "تحدث" في اللفظ فمرفوعة "بيكن" لأن المعنى: لم يكن إتيانٌ فيكون حديثٌ2، فقوله: مرفوعةٌ يدل على أن الفاءَ عاطفةٌ عطفت اسمًا على اسمٍ والكلامُ جملةٌ واحدةٌ، ومن شأن العرب إذا أزالوا الكلام عن أصله إلى شيءٍ آخر غيروا لفظه وحذفوا منه شيئًا, وألزموه موضعًا واحدًا إذا لم يأتوا بحرف يدلُّ على ذلك المعنى, ولم يصرفوه وجعلوه كالمثل ليكون ذلك دليلًا لهم على أنهم خالفوا به أصل الكلام, فقد دل ما قال سيبويه: على أن النفي والنهي إنما وقعا على المصدرين اللذين دل عليهما الفعلان, ويقوي أن الفاء للعطف إذا نصبت ما بعدها, الواو, إن قصتها في النصب وهما للعطف, فإن قال قائلٌ: فَلِمَ جاءوا بالفعلِ بعدَ الفاء وهم يريدون الاسمَ؟ قيل: لأن الظاهر الذي عُطِفَ عليهِ فعلٌ, فكانَ الأحسن أن يعطفَ فعلٌ على فعل ويغير اللفظُ, فيكون ذلكَ التغيير دليلًا على المصدرين ألا تراهم في النفي كما قالوا: لا أبا لكَ فأضافوا إلى المعرفة، أقحموا اللام ليشبه النكرة والمعطوف بالفاء والواو وغيرهما على ما قبله, يجوز أن يكون ما قبله سببًا لَهُ، ويجوز أن لا يكون سببًا لهُ, إذا كان لفظهُ كلفظهِ نحو قولك: يقومُ زيدٌ فيضربُ ويقومُ ويضربُ, وزيدٌ يقوم فيقعد عمرٌو،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 419.
2
انظر الكتاب 1/ 419.



ج / 2 ص -182- فيجوز أن يكون القيامُ سببًا للضرب, ويجوز أن لا يكونَ إلا أن الفاء معناه إتباعُ الثاني الأولَ بلا مهلةٍ, فإذا أرادوا أن يجعلوا الفعل سببًا للثاني جاءوا به في الجزاء وفيما ضارعَ الجزاء, وجميع هذه المواضع يصلح فيها المعنى الذي فيها من الإتباع, ألا ترى أن الشاعر إذا اضطر فعطف على الفعل الواجب الذي على غير شرطٍ بالفاءِ, وكان الأول سببًا للثاني نصب, كما قال:

سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ وألْحَقَ بالحِجَازِ فأَسْتَرِيحَا1

جعل لحاقَهُ بالحجاز سببًا لاستراحته, فتقديرهُ لما نصب كأنه قال: يكونُ لحاقٌ فاستراحةٌ, وقد جاء مثله في الشعر أبياتٌ لقوم فصحاءَ، إلاّ أنهُ قبيحٌ أن تنصب وتعطف على الواجبِ الذي على غير شِعْرٍ, وأَلحق بالحجاز فإذا لحقتَ استرحتَ وإنْ أَلحقْ أسترح, ومع ذلك فإن الإِيجاب على غير الشرط أصلُ الكلامِ, وإزالةُ اللفظ عن جهتهِ في الفروعِ أحسنُ منها في الأَصولِ لأنها أَدَلُّ على المعاني2، ألا ترى أنهم جازوا بحرف الاستفهامِ, والاستفهام, وإنما جازوا بالأخبارِ لأفعالِ المستفهمِ عنها, فقالَ: أَينَ بيتُكَ؟ يُرادُ به أعلمني, والعطفُ بالفاء مضارعٌ للجزاءِ لأنَّ الأولَ سببٌ للثاني وهو مخالف له من قبل عقدَهُ عَقدَ جملةٍ واحدةٍ, ألا ترى أنهم مثلوا: ما تأتينا فتحدثَنا في بعض وجوهها, بما يأتينا محدثنا، فإن قلت: لا تعصِ فتدخل النار فالنهي هُو النفي، كما عرفتُكَ فصارَ بمنزلةِ قولك: ما تعصي فتدخلُ النارَ، فقد نفيتَ العصيانَ الذي يتبعُه دخولُ النارِ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 423 على نصب "فأستريحا" وهو خبر واجب ضرورة بإضمار "أن" ويروى لأستريحا، ولا ضرورة فيه على هذا. والبيت لم ينسبه أحد ممن شرحوا أبيات سيبويه، ونسبه العيني وتبعه السيوطي في شرح شواهد المغني إلى المغيرة بن حنباء التميمي، ولم يوجد في ديوانه الذي لا يتعدى بضع وريقات. وانظر: المقتضب 2/ 24, وشرح السيرافي 3/ 209, وأمالي ابن الشجري 1/ 279, وارتشاف الضرب/ 255، والأبيات المشكلة للفارقي/ 110, والمغني 1/ 190.
2
شرح البيت نقله البغدادي 3/ 600 حرفيا من أصول ابن السراج.



ج / 2 ص -183- وكذلك قد نهيتَ عنه. فالنهي قد اشتمل على الجميع إلا أن فيه من المعنى في النصب ما ذكرنا، فإن قلت: قُمْ فأعطيكَ, فالمعنى: ليكن منكَ قيامٌ يوجبُ عَطيتي, وكذلك اقعدْ فتستريحُ، أي: ليكن منكَ قعودٌ تتبعهُ راحةٌ فيقرب معناه من الجزاء إذا قلتَ: قم أعطكَ أي: إن تقم أعطك، وإذا دخلت الفاء في جواب الجزاء فهي غيرُ عاطفةٍ إلاّ أنَّ معناها الذاتي يخصها, تفارقهُ, إنها يتبع ما بعدها ما قبلها في كُلِّ موضعٍ, وقالَ الشاعرُ في جواب الأمر:

يَا نَاقُ سِيرِي عَنقًا فَسِيحَا إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا1

فقد جعل سير ناقته سببًا لراحتِه، فكأنه قال: ليكن منك سيرٌ يوجبُ راحتَنا, وهذا مضارعٌ لقولهِ: إنْ تسيري نستريحْ؛ ولذلكَ سمى النحويون ما عُطفَ بالفاء ونُصِبَ جوابًا لشبهه بجواب الجزاءِ، وكذلك إذا قالَ: ادنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ فهو مضارعٌ لقولهِ: ادنُ مِنَ الأسد فيأكلكَ لأن معنى ذاكَ: إنْ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ, ومعنى هذا: ليكن مِنك دنو مِنَ الأسدِ يوجبُ أكلكَ أو يتبعهُ أَكلُكَ، إلاّ أنّ هذا مما لا يؤمر بهِ؛ لأنَّ مِنْ شأنِ الناس النهي عَن مثلِ ذلكَ لا الأمر به، فإنْ أردتَ ذاك جازَ، فإذا قلت: لا تدن مِنَ الأسد يأكلْكَ، لَم يجزْ لأن المعنى أنكَ: تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ, لم يكنْ إلاّ على المجازِ وإن السامعَ يعلمُ ما تعني؛ لأنَّ المعنى: إلاّ تدن مِن الأسدِ يأكلْكَ, وهذا محالٌ لأن البعدَ لا يوجبُ الأكلَ, فإذا قلتَ: لا تدن من الأسدِ فيأكلُكَ جاز؛ لأنَّ النهي مشتملٌ في المعنى على الجميع، كأنه قال: لا يكنْ منكَ دنو مِنَ الأسدِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 421، على نصب الفعل بأنْ مضمرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب الأمر، والعنق: ضرب من السير, والفسيح: الواسع. والبيت لأبي النجم العجلي، وأراد سليمان بن عبد الملك.
وانظر: معاني القرآن 1/ 478, والمقتضب 2/ 14، وشرح السيرافي 3/ 29، وسر صناعة الإعراب 1/ 272, وشرح ديوان المتنبي 4/ 24، واللسان "عنق"، والهمع 2/ 10.



ج / 2 ص -184- يوجبُ أكلكَ أو يتبعه أكلُكَ، وكذلك قوله: ما تدنو من الأسدِ فيأكلُكَ، هو مثل لا تدن, لا فرقَ بينهما, وفي الجزاء قد جعل نفي الدنو موجبًا للأكلِ.
واعلَمْ: أنَّ كل نفي في معنى تحقيق للإِيجاب بالفاء نحو: ما زال، ولَم يزلْ, لا تقول: ما زالَ زيدٌ قائمًا فأعطيكَ, وإنما صار النفي في معنى الإِيجاب من أجلِ أنَّ قولهم: زالَ بغير ذكر ما في معنى النفي؛ لأنك تريدُ عدم الخبرِ فكأنكَ لو قلت: زالَ زيدٌ قائمًا لكان المعنى زالَ قيامُه, فهو ضد كان زيدٌ قائمًا وكانَ وأَخواتُها إنما الفائدة في أخبارها والإِيجابُ والنفي يقع على الأخبار, فلما كان زالَ بمعنى: ما كانَ ثم أدخلتْ "ما" صار إيجابًا؛ لأنَّ نفيَ النفي إيجابٌ؛ فلذلك لم يجزْ أن يجابَ بالفاءِ, وقوم يجيزونَ: أنت غيرُ قائمٍ فَتأتيكَ, قال أبو بكر: وهذا عندي لا يجوز؛ لأنَّا إنما نَعطف المنصوب على مصدر يدلُّ عليه الفعلُ، فيكون حرف النفي منفصلًا وغير اسمٍ مضافٍ وليست بحرفٍ فتقول: ما قامَ زيدٌ فيحسنْ إلاّ حُمِدَ وما قامَ فيأكل إلا طعامَهُ، قال الشاعر:

ومَا قَام مِنَّا قَائمٌ في نَدِيِّنَا فَيَنْطِقَ إلا بالَّتِي هِىَ أَعْرَفُ1

تقول: ألا سيفٌ فأكونَ أَولَ مقاتلٍ، وليتَ لي مالًا فأعينَك. وقوله: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ}2، كانَ حمزةُ3 ينصبُ؛ لأنه اعتبر قراءة ابن مسعود

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 420، على نصب "ينطق" ما بعد الفاء على الجواب مع دخول إلا بعده للإيجاب؛ لأنها عرضت بعد اتصال الجواب بالنفي ونصبه على ما يجب له فلم يغيره, والندى: المجلس، أي: إذا نطق منا ناطق في مجلس جماعة عرف, وصوابه قوله فلم ترد مقالته، والبيت للفرزدق.
وانظر: شرح الحماسة 2/ 535، والخزانة 3/ 607، وشواهد الألفية للعاملي/ 387، والديوان/ 561.
2
الأنعام: 27 والآية: {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا}. وانظر النشر 2/ 257, والتيسير/ 102.
3
حمزة: هو حمزة بن حبيب أحد قراء الكوفة الثلاثة, هو والكسائي وعاصم.



ج / 2 ص -185- الذي كانَ يقرأُ بالفاء وينصبُ. والفراءُ يختار في الواو والفاء الرفع؛ لأن المعنى: يا ليتنا نرد ولسنا نكذبُ استأنفَ, ومن مسائلهم: لعلِّي سأَحجُّ فأزورَكَ, ولعلكَ تشتمنا فأقومَ إليكَ, ويقولون "لعل" تُجاب إذا كانت استفهامًا أو شكًّا, وأصحابنا لا يعرفون الاستفهامَ بلعلَ, وتقول: إنَّما هي ضربةٌ مِنَ الأسدِ فتحطم ظهرهُ كأنه قال: إنَّما هي ضربةٌ فحطمهُ فأضمر "أنْ" ليعطفَ مصدرًا على مصدر, وقالوا: الأمرُ مَنْ ينصبُ الجوابُ فيه والنهي يُجابُ بالفاءِ؛ لأنهُ بمنزلةِ النفي ويجوزُ النسق. وقالوا: العَربُ تذهبُ بالأمر إلى الاستهزاء والنهي فتنصب الجواب, فيقولون: استأذنْ فيؤذنَ لكَ أي: لا تستأذنْ وتحركْ فأصبنكَ, قالوا: والعربُ تحذفُ الفعلَ الأول مع الاستفهام للجواب ومعرفة الكلام, فيقولون: متى فأَسيرُ معكَ وأجازوا: متى فآتيكَ تخرجْ ولَم فأسيرَ تسرْ, وقالوا: كأنَّ ينصب الجواب معها وليس بالوجه, وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه, نحو قولك: كأنَّكَ والٍ علينَا فتشتمنَا، والمعنى لست واليًا علينا فتشتمنا, وتقول: أريد أن آتيك فأستشيرك؛ لأنك تريد إتيانه ومشورته جميعًا. فلذلك عطفت على "أن" فإن قلت: أريد أن آتيك فيمنعني الشغل, رفعت لأنك لا تريد منع الشغلِ، فإنْ أردت ذلك نصبت وقالوا: "لولا" إذا وليتْ فعلًا فهي بمنزلةِ هَلاّ، ولَو ما, تكون استفهامًا وتجاب بالفاء, وإذا وليت الأسماء لم ينسق عليها بلا ولَم تجب بالفاء، وكانت خبرًا نحو قوله: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}1 و{لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}2 وقالوا: الاختيارُ في الواجبِ منها الرفعُ، وقد نصبَ منها الجوابُ, قال الشاعر:

ولَو نُبِشَ المَقَابِرُ عَن كُلَيْبٍ فَيَعْلَمَ بالذَّنائبِ أَيُّ زِيرِ3


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
سبأ: 31.
2
المنافقون: 10.
3
الشاهد فيه على أن "لو" المصدرية أغنت من فعل التمني, والشاهد لمهلهل بن أبي ربيعة في رثاء أخيه كليب, والذنائب: اسم فيه قبر كليب. وانظر الكامل 351 والجمهرة لابن دريد 1/ 253, والارتشاف 298, والمغني 1/ 97, واللسان 1/ 378, والسيوطي 654.



ج / 2 ص -186- ذهب بِه مذهب "ليتَ" والكلام الرفع في قولهِ عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}1.
واعلم: أن الأسماء التي سمي بها الأمر وسائر الألفاظ التي أقيمت مقام فعلِ الأمر وليست بفعل لا يجوز أن تجاب بالفاء نحو قولك: تراكَها ونَزالِ ودونَك زيدًا وعليك زيدًا, لا يجابُ لأنه لا ينهى به. وكذلك إليك لا يجابُ بالفاءِ؛ لأنه لم يظهر فعلٌ, ومَه وصه كذلك. قالوا: الدعاءُ أيضًا لا يجابُ نحو قولك: ليغفرُ اللَّهُ وغفرَ اللَّهُ لَك، والكسائي يجيزُ الجواب في ذلك كله وأما الفراء فقال في الدعاء: إنَّما يكون مع الشروط: غَفر الله لكَ إنْ اسلمتَ, وإنْ قلتَ: غَفَر اللَّهُ لكَ فيدخلُك الجنةَ جازَ، وهو عندي في الدعاء جائزٌ إذا كان في لفظ الأمر, لا فرق بينهما ولا يكونُ للفاء جواب ثانٍ ولا لشيءٍ جَوابانِ، وأما قولهُ عزَّ وجلَّ: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}2 إنما هُوَ: ولا تطردِ الذين يدعونَ ربهم فتكون من الظالمينَ ما عليك من حسابهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ جَوابُ "لا" وقولهُ: فتطردهم جَوابُ "مَا" وتقول: ما قاَم أَحدٌ إلا زيدٌ فتحسنَ إليهِ، إنْ كانتِ الهاءُ لأحدٍ فجائز؛ لأن التقدير ما قام أَحدٌ فيحسنَ إليه وإنْ كانت الفاءُ لزيدٍ فَخطأٌ لأن الموجبَ لا يكون له جوابٌ والاستثناء إذا جاء بعد النفي فالمستثنى موجبٌ. وكذلك إنْ قلت: ما قامَ إلاّ زيدٌ فتحسنَ إليه، محالٌ لأن التحقيق لا جوابَ لَهُ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
القلم: 9.
2
الأنعام: 52.



ج / 2 ص -187- فصل من مسائل المجازاة:
إذا شغلت حروف المجازاة بحرف سواها لم تجزم, نحو: إنْ وكان وإذا عَمِلَ في حرف المجازاة الشيءُ الذي عمل فيه الحرف لم يغيره نحو قولك: مَنْ تَضربْ يَضربْ, وأيًّا تَضربْ يَضربْ, فَمَن وأي قد عملت في الفعل، وعمل الفعلُ فِيهما.
واعلم: أنه لا يجوز الجواب بالواو، ولو قلت: مَنْ يخرجُ الدلو لَهُ درهمانِ، رفعت "يخرجُ" وصار استفهاما, وإن جزمت لم يجز إلا بالفاء, وتقول: مَنْ كانَ يأتينا وأيٌّ كانَ يأتينا نأتيهِ، أذَهبتَ المجازاة لأنكَ قد شغلت "أيا ومَنْ" عن "يأتينا". وحكى الأخفش: "كنتُ ومَنْ يأتني آته" يجعلون الواو زائدة في "بابِ كانَ" خاصةً, وإن توصل "بما" فتقولَ: أمَّا تقمْ أقمْ, تدغم النون في الميم وتوصل "بلا" تقول: ألا تقمْ أقمْ إلا أن "ما" زائدة للتوكيد فقط و"لا" دخلت للنفي, والكوفيون يقولونَ: إذا وليت أنَّ الأسماءَ فُتحت، يقولون: أما زيدٌ قائمًا تقمْ, والفراء يقول: إن نية الجزاء على تقديم الفعل نحو قولك: أقوم إن تقم, وإنْ شرطٌ للفعلِ, وقالَ الكسائي: إنْ شرطٌ والجزاء الفعل الثاني وهذا الذي ذكره الفراء مخالف لمعنى الكلام, وما يجب من ترتيبه وللاستعمال, وذلكَ أنَّ كُل شيءٍ يكون سببًا لشيءٍ أو علةً لهُ فينبغي أن تقدم فيه العلةُ على المعلولِ, فإذا قلت: إن تأتني أعطكَ درهمًا فالإِتيانُ سببٌ للعطيةِ, بهِ يستوجبها, فينبغي أن يتقدم وكذلك إذا قلت: إنْ تعصِ اللَّهَ تدخلِ النَّارَ، فالعصيان سبب لدخول النار فينبغي أن يتقدم فأما قولهم: أَجيئكَ إنْ جئتَني، وإنك إنْ تأتني، فالذي عندنَا أن هذا الجواب محذوف كفى عنه الفعل المقدم وإنَّما يستعملُ هذا على جهتين: إما أنْ يضطر إليه الشاعر فيقدم الجزاء للضرورة وحقه التأخير, وإما أن تذكر الجزاء بغير شرط ولا نية فيه فتقول: أَجيئكَ, فيعدُكَ بذلكَ على كل حال ثم يبدو له ألا يجيئك بسبب فتقول: إنْ جئتني ويستغنى عن الجواب بما قدم, فيشبه الاستثناء وتقول: اضربْ إنْ تضربْ زيدًا, تنصبُ زيدًا بأي الفعلين شئت ما لم يلبسْ, فإذا قدمت فقلتَ: اضربْ زيدًا إنْ تضربْ، فإنما



ج / 2 ص -188- تنصب زيدًا بالأول ولا تنصب بالثاني؛ لأن الذي ينتصبُ بما بعد الشروط لا يتقدم، وكذلك يقول الفراءُ ولا يجوزُ عنده إذا قلت: أَقوم كي تضربَ زيدًا, أنْ تقول: أقوم زيدًا كي تضرب, والكسائي يجيزهُ وينشد:

وشِفَاءُ غَيِّكَ خابرًا أنْ تسألي1

وقال الفراء: "خَابرًا" حال من النفي: قمتُ كي تقومَ، وأقومُ كَيْ تقومَ, فهذا خلاف الجزاء لأن الأول وإن كان سببًا للثاني فقد يكون واقعًا ماضيًا والجزاء ليس كذلك، وهم يخلطونَ بالجزاء كل فعل يكونُ سببًا لفعلٍ, والبصريونَ يقتصرون باسم الجزاء على ما كانَ لهُ شرطٌ وكان جوابه مجزومًا وكان لِما يستقبلُ. وتقول: إنْ لم تقمْ قمتُ فلم في الأصل تقلب المستقبل إلى الماضي؛ لأنها تنفي ما مضى فإذا أدخلت عليها إنْ أحالت الماضي إلى المستقبل, وأما "لا" فتدع الكلام بحاله إلا ما تحدثه مِنَ النفي تقول: إنْ لا تقمْ أقَمْ, وإنْ لا تقمْ وتحسنُ آتكَ، وقوم يجيزون: إنْ لا تقمْ وأَحسنت آتكَ ويقولون: إذا أردت الإِتيانَ بالنسقِ جاز فيه الماضي, فإذا قلت: إنْ لَم تقمْ وتحسنُ آتكَ جاز معه الماضي إذا كان الأول بتأويلِ الماضي تقولُ: إنْ لم تقمْ ورغبتَ فينا نأتكَ, وتقول: إنْ تقمْ فأقومُ فترفعُ إذا أدخلت الفاءَ؛ لأن ما بعد الفاءِ استئنافٌ يقع فيه كل الكلام، فالجوابُ حقهُ أنْ يكونَ على قدر الأول إنْ كان ماضيًا فالجوابُ ماضٍ, وإنْ كانَ مستقبلًا فكذلك. وتقول: إنْ تقمْ وتحسنُ آتكَ، تريد: إنْ تجمع مع قيامِكَ إحسانًا آتك، وكذلك: إنْ تقمْ تحسنُ آتكَ، تريد: إنْ تقمْ محسنًا، ولم ترد:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
عجز بيت لربيعة بن مقروم التميمي "مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام" صدره:

هلا سألت وخبر قوم عندهم وشفاء غيك خابرا

والشاهد: تقديم "خابرًا" على أن نادر وهو منصوب بفعل يدل عليه المذكور والتقدير: تسألين خابرًا. والخابر: العالم, والغي بفتح الغين مصدر غوى غيًّا أي: انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد. وانظر الخزانة 3/ 564, وشرح الجمل لابن عصفور/ 627 مخطوط.



ج / 2 ص -189- إنْ تقمْ وإن تحسنْ آتكَ، وهذا النصب يسميهِ الكوفيونَ الصرف1؛ لأنَّهم صرفوه على النسقِ إلى معنى غيره، وكذلك في الجواب تقول: إنْ تقمْ آتِكَ وأحسنَ إليك، وإنْ تقم آتك فأحسنَ إليكَ, وإذا قلتَ: أَقومُ إن تقمْ, فنسقت بفعل عليها فإن كان من شكل الأول رفعته, وإن كان من شكل الثاني ففيه ثلاثة أوجه: الجزم على النسقِ على "إنْ" والنصب على الصرف والرفع على الاستئناف, فأمَّا ما شاكلَ الأول فقولك: تُحمدُ إنْ تأمرْ بالمعروفِ وتؤجر لأنه من شكل تُحمدُ, فهذا الرفع فيه لا غير, وأما ما يكون للثاني فقولُك: تُحمد إنْ تأمر بالمعروفِ وتنهَ عن المنكرِ فيكون فيه ثلاثة أوجهِ: فإنْ نَسقت بفعلٍ يصلح للأول ففيه أربعة أوجهٍ: الرفع من جهتين نسقًا على الأول وعلى الاستئنافِ, والجزمُ, والنصبُ على الصرفِ, وقال قوم: يردُ بعد الجزاءِ فَعلَ على يفعلُ ويفعلُ على فَعَلَ نحو قولك: آتيكَ إنْ تأتني وأحسنتَ, وإنْ أحسنتَ وتأتني، والوجهُ الاتفاقُ وإذا جئتَ بفعلينِ لا نسق معهما فلك أنْ تجعل الثاني حالًا أو بدلًا, والكوفيون يقولون موضع بدل مترجمًا أو تكريرًا, فإن كررتَ جزمتَ، وإنْ كانَ حالًا رفعتَهُ وهو موضعُ نصبٍ إذا ردَّ إلى اسم الفاعلِ نصب، فأما الحال فقولك: إنْ تأتني تطلب ما عندي أحسنُ إليكَ, تريد: طالبًا, والتكرير مثل قولك: إنْ تأتني تأتني تريدُ الخيرَ أعطكَ, والبدل مثل قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}2 ثم فسر فقال: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ}3، وكذلك إنْ تَبْرر أباكَ تصل رحمك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
عامل الخلاف أو الصرف كما يسميه الكوفيون, فقد جعله الفراء وبعض الكوفيين عاملًا للنصب في المضارع بعد أو والفاء والواو، من حروف العطف في جواب الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض، أي: مخالفة الثاني للأول. قال الفراء: فإن قلت: ما الصرف؟ قلت: أن تأتي بالواو معطوفة على كلام في أوله حادثة لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها, فإذا كان كذلك فهو الصرف. وانظر معاني القرآن 1/ 33.
2
الفرقان: 68.
3
الفرقان: 69.



ج / 2 ص -190- تفعلْ ذاكَ للَّهِ تؤجرْ، إذا ترجمت عن الأفعال بفعلٍ ولا يجوز البدل في الفعل إلا أن يكون الثاني من معنى الأول, نحو قولك: إن تأتني تمشي أَمشِ معكَ لأن المشي ضرب من الإِتيان ولو قلت: إنْ تأتني تضحكُ معي آتكَ فجزمتَ تضحكْ لَمْ يجز, قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله عز وجل: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا}1، فقال: المعنى ليَظلُّنَّ, وكذلك: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}2 وإنما يقعُ ما بعدها من الماضي في معنى المستقبل؛ لأنها مجازاة، نظير ذلك: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا}3 أي: لا يمسكهما، وقال محمد بن يزيد, رحمه الله: وأما قوله4: والله لا فعلتُ ذاك أبدًا، فإنه لو أراد الماضي لقال: ما فعلتُ فإنما قلبت لأنها لِمَا يقعُ ألا ترى أنها نفي سيفعل, تقول: زيدٌ لا يأكلُ فيكون في معنى ما يستقبل، فإنْ قلت: ما يأكلُ نفيتَ ما في الحال والحروف تغلب الأفعال, ألا ترى أنكَ تدخلُ "لَم" على المستقبل، فيصير في معنى الماضي تقول: لم يقمْ زيدٌ, فكذلك حروف الجزاء تقلب الماضي إلى المستقبل تقول: إنْ أَتيتني أَتيتك، قال أبو العباس, رحمه الله: مما يسأل عنه في هذا الباب قولك: إنْ كنتَ زرتني أَمسِ أكرمتُكَ اليومَ, فقد صار ما بعد "إنْ" يقع في معنى الماضي فيقال للسائل عن هذا: ليس هذا من قبل "إن" ولكن لقوة كانَ, وأنها أصل الأفعال وعبارتها جازَ أن تقلب "إنْ" فتقول: إنْ كنتَ أعطيتني فسوفَ أكافيكَ, فلا يكون ذلك إلا ماضيًا كقول الله عز وجل: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}5 والدليل على أنه كما قلت، وأن هذا لقوة "كانَ" أنه ليس شيءٌ من الأفعال يقع بعد "إنْ" غير "كانَ" إلا ومعناه الاستقبال، لا تقول: إن جئتني أمسِ أكرمتُكَ اليومَ، قال أبو بكر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الروم: 51. وانظر الكتاب 1/ 456.
2
البقرة: 145. وانظر الكتاب 1/ 456.
3
فاطر: 41.
4
انظر المقتضب 2/ 334-335.
5
المائدة: 116.



ج / 2 ص -191- وهذا الذي قاله أبو العباس -رحمه الله- لست أقوله، ولا يجوز أن تكون "إن" تخلو من الفعلِ المستقبل؛ لأن الجزاء لا يكون إلا بالمستقبل وهذا الذي قال عندي نقض لأصول الكلام. فالتأويل عندي لقوله: إنْ كنتَ زرتني أمسِ أكرمتُك اليومَ, إنْ تكن كنتَ ممن زارني أمسِ أكرمتُكَ اليوم وإن كنت زرتني أمس زرتُكَ اليومَ, فدلتْ "كنت" على "تكن" وكذلك قوله عز وجل: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}1 أي: إنْ أكنْ كنت "أو" إنْ أقل كنت قلته, أو أقر بهذا الكلامِ, وقد حكي عن المازني ما يقاربُ هذا، ورأيت في كتاب أبي العباس بخطهِ موقعًا عند الجواب في هذه المسألة ينظرُ فيه, وأحسبه ترك هذا القولَ وقال: قال سيبويه في قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}2: إنما دخلت الفاء لذكره تفرون ونحن نعلمُ أنَّ الموتَ ليس يلاقيكم من أجل أنهم فروا كقولكَ: الذي يأتينا فلَهُ درهمانِ, فإنما وجب لَهُ الدرهمانِ من أجل الإِتيان, ولكن القول فيه, والله أَعلم: إنما هو مخاطبة لِمَنْ يهرب من الموت ولَم يتمنَّه، قال الله عز وجل: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين}3 فالمعنى: أي أنتم إنْ فررتم منهُ فإنه ملاقيكم، ودخلت الفاء لاعتلالهم من الموت عن أنفسهم بالفرار، نحو قول زهير:

ومَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنِيَّة يَلْقَها وإنْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ4


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
المائدة: 116.
2
الجمعة: 8، وانظر المقتضب 2/ 356-357.
3
البقرة: 94.
4
الشاهد من معلقة زهير بن أبي سلمى, والرواية في المعلقات:

ومن هاب أسباب المنايا يلنه وإن يرق.....

وأسباب المنايا: ما يفضي إلى الموت، وأسباب السماء: مراقيها أو نواحيها. وانظر الحجة لأبي علي 1/ 33, والخصائص 3/ 324, واللسان 1/ 441, وشرح المعلقات السبع/ 116.



ج / 2 ص -192- ومن يهبها أيضًا يلقَها، ولكنه قالَ هذا لِمَنْ يهابُ لينجو، ومثل ذلك: إنْ شتمتني لم أشتمكَ, وهو يعلم أنه إنْ لم يشتمني لم أشتمه ولكنهُ قيل هذا؛ لأنه كان في التقدير أنه إنْ شتَم شُتِمَ كما كان في تقدير الفارِّ من الموت أن فراره ينجيه. وقال: قال سيبويه: إنَّ حروف الجزاء إذا لم تجزم جاز أن يتقدمها أخبارها نحو: أنت ظالمٌ إن فعلت, ثم أجرى حروفَ الجزاء كلها مجرًى واحدًا وهذه حكاية قول سيبويه, وقد تقول: إنْ أتيتني آتيكَ أي: آتيك إنْ أَتيتني، قال زهير:

وإنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ يَقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ1

ولا يحسن: إنْ تأتني آتيكَ، مِنْ قبل أنَّ "إنْ" هي العاملة.
وقد جاء في الشعر, قال:

يَا أَقْرَعُ بن حَابِسٍ يا أَقْرَعُ إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ2


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 436 على رفع "يقول" على نية التقديم والتقدير: يقول: إن أتاه خليل، وجاز هذا لأن "إن" غير عاملة في اللفظ, والخليل من الخلة وهو الفقر. والبيت لزهير يمدح الهرم بن سنان.
وانظر: المقتضب 2/ 70, والكامل/ 78, والجمهرة 2/ 69, والمحتسب 2/ 65, والأمالي 1/ 196, والإنصاف/ 329, والمسلسل من غريب لغة العرب/ 93, وشروح سقط الزند 1/ 328, وتهذيب إصلاح المنطق 2/ 29, والديوان/ 153, والرواية:

وإن أتاه خليل يوم مسألة.

2
من شواهد سيبويه 1/ 438 على التقديم والتأخير، والتقدير عنده: إنك تصرع إن يصرع أخوك، والجواب محذوف، وابن السراج يقطع بتقدير الفاء فيه؛ لأن ما يحل محلا يمكن أن يكون له، ولا ينوي به غيره. والواقع أن التقديم والتأخير يحوج إلى جواب, ودعوى حذفه وجعل المذكور دليله خلاف الأصل وخلاف المسألة؛ لأن الغرض أنه الجواب, وإضمار الفاء مع غير القول مختص بالضرورة.
والبيت من رجز لعمرو بن خثارم البجلي, خاطب به الأقرع بن حابس المجاشعي في شأن منافرة جرير بن عبد الله البجلي وخالد بن أرطأة الكلبي، وهما حكما الأقرع المذكور.
وانظر: المقتضب 2/ 72, والكامل/ 78, وشرح السيرافي 3/ 226, وأمالي ابن الشجري 1/ 84, وارتشاف الضرب/ 286, والروض الأنف 1/ 60, وابن يعيش 8/ 158, والمغني/ 610.



ج / 2 ص -193- أي: إنَّكَ تصرعُ إنْ يصرعْ أخوكَ. ومثلَ ذلكَ قوله:

هَذَا سُرَاقَةُ لِلقُرآنِ يَدْرُسُهُ والمَرْء عِنْدَ الرُّشا إن يَلْقَها ذِيبُ1

أي: المرء ذيب إنْ يلقَ الرُّشا، فجاز هذا في الشعر, وشبهوه فالجزاء إذا كان جوابه منجزمًا لأنَّ المعنى واحدٌ، قال2: ثم قال في الباب الذي بعده: فإذا قلتَ: آتي مَن أتاني، فأنتَ بالخيار إنْ شئت كانت بمنزلتِها في "إنْ" وقد يجوز في الشعر: آتي مَنْ يأتيني, قال الشاعر:

فَقُلتَ تَحَمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنَّها مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُهَا3

كأنه قال: لا يضيرها من يأتها، ولو أريد أنه حذف الفاء لجازَ، وأنشد في باب بعده:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد سيبويه 1/ 437 على التقديم والتأخير، والتقدير عنده: والمرء عند الرشا ذيب إن يلقها. والمبرد يجعله على إرادة الفاء، هجا رجلًا من القراء فنسب إليه الرياء وقبول الرشا والحرص عليها، والهاء في يدرسه كناية عن المصدر والفعل متعدٍّ باللام إلى القرآن لتقدمه على حد قولك: لزيدا ضرب، والتقدير: هذا سراقة يدرس القرآن درسا, والبيت لم يعرف قائله.
وانظر: الحجة 1/ 21, وأمالي ابن الشجري 1/ 339, والسيوطي/ 200، والهمع 2/ 33, والخزانة 1/ 227، والأشباه والنظائر 3/ 189.
2
الذي قال هو المبرد.
3
من شواهد سيبويه 1/ 438 على التقديم والتأخير أيضًا, والتقدير: لا يضيرها من يأتها، ثم قال أيضًا: ولو أريد به حذف الفاء جاز، يقدر الضمير في "يضيرها" على ما هو عليه في التأخير.
ومطبعة: ملئت وطبع عليها, يصف قرية كثيرة الطعام من امتار منها وحمل فوق طاقته لم ينقصها, والطوق: الطاقة, والبيت لأبي ذؤيب الهذلي.
وانظر: المقتضب 2/ 72, وشرح السيرافي 3/ 231, وشرح المفصل 8/ 158، وشرح الحماسة 3/ 68, والخزانة 3/ 647, وديوان الهذليين 1/ 154.



ج / 2 ص -194- وَمَا ذَاكَ أَنْ كَانَ ابنَ عمِّي ولا أَخِي وَلكِنْ مَتَى مَا أَملكُ الضُّرَّ أَنْفَعُ1

كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أَملك الضرَّ, قال أبو العباس, رحمه الله: أما قوله: آتيك إنْ أتيتني, فغير منكرٍ ولا مرفوع, استغنى عن الجواب بما تقدم, ولم تجزم "إنْ" شيئًا فيحتاج إلى جواب مجزوم أو شيءٍ في مكانه. وأما قولُهم: وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ, تقول على القلب فهو محال وذلك كان الجواب حقه أن يكون بعد "إنْ" وفعلها الأول، وإنما يعني بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه نحو: ضَربَ غلامُهُ زيدٌ2؛ لأن حد الكلام أن يكون بعد زيدٍ وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء، فلو جاز أن يعني به التقديم لجاز أن تقول: ضربُ غلامُهُ زيدًا، تريد: ضربَ زيدًا غلامُه, وأما ما ذكره من "مَنْ ومَتى" وسائر الحروف فإنه يستحيل في الأسماء منها والظروف من وجوه في التقديم والتأخير؛ لأنكَ إذا قلت: آتي مَنْ أتاني وجب أن تكون "مَنْ" منصوبة بقولكَ: أَتى ونحوهُ وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها, فليس يجوز هذا إلا أن تريد بها معنى الذي, و"متى" إذا قلت: آتيك متى أتيتني, فمتى للجزاء وهي ظرف3 "لأَتيتني" لأنَّ حروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها, ولكن الفعل الذي قبل متى قد أغنى عن الجواب كما قلت في الجواب: أَنتَ ظالمٌ إنْ فَعَلتَ, فأنتَ ظالمٌ منقطع مِنْ "إنْ" وقَد سَدَّ مسدَّ جواب "متى" و"إنْ" لم تكن منها في شيءٍ لأنَّ "مَتى" منصوبة "بيأتيني" لأنَّ حروف الجزاء من الظروف والأسماء إنما يعملُ فيها ما بعدها, وهو الجزاء الذي يعملُ فيه الجزم. والباب كله على هذا لا يجوز غيره، ولو وضع الكلام في موضعه لكانَ تقديره: متى أتيتني فآتيكَ أي: فأنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
من شواهد الكتاب 1/ 442 على رفع "أنفع" على نية التقديم، والجزم بمتى على الشرط، والتقدير: ولكن أنفع متى ما أملك الضر، وما زائدة مؤكدة، يقول: إذا قدرت على الضر أخذت بالفضل فجعلت النفع بدلًا منه.
2
أضفت كلمة "زيد" لإيضاح المعنى.
3
في الأصل "ظروف".

ج / 2 ص -195- آتيكَ، وإنما قوله "مَنْ" يأتها فمحالٌ أَنْ يرتفع "مَنْ" بقولكَ: لا يضيرها ومَنْ مبتدأٌ، كما لا تقول: زيدٌ يقومُ فترفعه "بيقوم" وكل ما كان مثله فهذا قياسه وهذه الأبيات التي أُنشدت كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب. كقوله: "الله يشكرها"1 لا يجوز إلا ذلك. وتقولُ: إن الله أمكنني من فلانٍ فعلتُ, فتلي "إنْ" الاسم إلا أنكَ تضمر فعلًا يليها يفسرهُ "أمكنني" كما تفعل بألف الاستفهام. وزعم سيبويه أنه جاز فيها ما امتنع في غيرها؛ لأنها أصل الجزاء. قال: والدليل على ذلك أنها حرفه الذي لا يزولُ عنه؛ لأنها لا تكون أبدًا إلا للجزاء2 ومَنْ تكون استفهامًا، وتكون في معنى الذي وكذلكَ ما وأيُّ وأينَ ومتىَ تكون استفهامًا, وجميعُ الحروف تنقل غيرها. قال أبو العباس, رحمه الله: فيقال له: "إنْ" قد تكون في معنى "مَا" نحو: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}3 وتكون مخففة من الثقيلة وتكون زائدةً نحو قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يشير إلى قول الشاعر:

من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان

وهو من شواهد سيبويه 1/ 435، على حذف الفاء من جواب الشرط ضرورة، والتقدير: فالله يشكرها.
وزعم الأصمعي: أن النحويين غيروه, وأن الرواية:

من يفعل الخير فالرحمن يشكره.

والمثلان السيان؛ لأن مثل الشيء مساوٍ له.
وينسب هذا البيت لحسان بن ثابت ولم يوجد في ديوانه, ونسب كذلك لعبد الرحمن بن حسان, ورواه جماعة لكعب بن مالك الأنصاري.
وانظر: معاني القرآن 1/ 476, والمقتضب 2/ 72, وشرح السيرافي 3/ 226, وأمالي ابن الشجري 1/ 290, وابن يعيش 9/ 3, وارتشاف الضرب/ 286، والمقرب لابن عصفور/ 188, والمغني 1/ 141, والعيني 4/ 433, واللسان 13/ 49.
2
انظر الكتاب 1/ 67 و1/ 435.
3
الملك: 20, وانظر المقتضب 2/ 364.



ج / 2 ص -196- وما إنْ طبنَا جُبنٌ1

ثم قال2: والدليل على ما قال سيبويه: أنَّ هذا السؤال لا يلزمُ أنَّ "مَنْ" تكونُ لِما يعقل في الجزاء والاستفهام, ومعنى الذي فهي حيث تصرفتْ واحدة و"ما" واقعة على كل شيء غير الناس، وعلى صفات الناس وغيرهم حيث وقعت فهي واحدة وكذلك هذه الحروف، و"إنْ" للجزاء لا تخرجُ عنه, وتلك الحروف التي هي "إنْ" للنفي ومخففة من الثقيلة, وزائدة ليسَ على معنى "إنْ" الجزاء ولا منها في شيءٍ, وإنْ وقع اللفظان سواء فإنهما حرفانِ بمنزلةِ الاسم والفعل إذا وقعا في لفظ وليس أحدهما مشتقا من الآخر: نحو قولِكَ: هذا ذهبٌ وأنت تعني التِّبْر وذهب من الذهاب, ونحو قولِكَ: زيدٌ على الجبَلِ وعلا الجبلَ, فهذا فعلٌ، والأول حرفٌ قال: وسألت أبا عثمان عن "ما" و"مَنْ" في الاستفهام والجزاء أمعرفة هما أم نكرةٌ؟ فقال: يجوز أن يكونا معرفة وأن يكونا نكرة, فقلت: فأيُّ, ما تقول فيها؟ قال: أنا أقول: إنَّها مضافة معرفة ومفردة نكرة والدليل على ذلك أنك تقول: أية صاحبتُكَ ولو كانت معرفةً لم تتصرفْ. قال: وكان الأخفش يقول: هي معرفة ولكن أَنونُ لأن التنوينَ وقع وسط الاسم, فهو بمنزلة امرأةٍ سميتَها خيرًا منكَ, وكانَ غيرهُ لا يصرفها ويقول: أيّة صاحبتُك؛ لأنّها معرفةٌ. وشرح أبو العباس ذلك فقالَ: إن مَنْ وما وأيُّ مفردة نكراتٍ, وذلك أنَّ أيًّا منونةٌ في التأنيث، إذا قلت: أيّةٌ جاريتُكَ وقول الأخفش: التنوينُ وقعَ وسطًا غَلَط؛ وذاك لأنَّ "أَيّ" في الجزاء والاستفهام لا صلة لها "ومَنْ وما" إذا كانتا خبرًا فإنهما يعرفانِ بصلتهما, فقد حذفَ ما كان يعرفهما فهما بمنزلة "أي" مفردةً, ومن الدليل على أنهن نكراتٌ، أنك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
يشير إلى قول الشاعر فروة بن مسيك:

وما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا

وقد مر تفسيره في الجزء الأول/ 265.
2
الذي قال المبرد، انظر المقتضب 1/ 51، 2/ 364.

ج / 2 ص -197- تسأل بمنْ سؤالًا شائعًا، ولو كنتَ تعرف ما تسأل عنه لم يكنْ للسؤال عنه وجه، فالتقدير فيها على ما ذكرنا إذا قلت: ما زيدٌ؟ وأيُّ زيدٍ؟ وما عندك؟ وأيُّ رجلٍ؟ وأي شيءٍ؟ فإذا قلت: أَيهم وأيُّ القومِ زيدٌ؟ فقد اختصصتَه من قوم فأضفته إليهم، والتقدير: أهذا زيدٌ منَ القومِ أم هذا للاختصاصِ؟ فلذلك كانت بالإِضافة معرفةً وفي الإِفراد نكرةً. وقال سيبويه: سألتُ الخليلَ عن "كيفَ": لِمَ لَمْ يجازوا بها؟ فقالَ: هي فيه مستكرهةٌ وأصلها من الجزاء ذلك لأنَّ معناها على أي حالٍ تكن أكن1. وقال محمد بن يزيد: والقول عندي في ذلك أنَّ علة الجزاءِ موجودةٌ في معناها، فما صَحَّ فيهِ معنى الجزاء جوزيَ بهِ وما امتنعَ فلا جزاءَ فيهِ وإنما امتنعت "كيفَ" من المجازاة؛ لأن حروف الجزاء التي يستفهم بها كانت استفهامًا قبل أن تكون جزاءً، والدليلُ على تقديم الاستفهام وتمكنه, أنَّ الاستفهام يدخل على الجزاء كدخوله على سائر الأخبارِ فتقول: أَإِنْ تأتني آتِكَ ونحوه, ولا يدخلُ الجزاء على الاستفهام ثم رأيتَ أنه ما كان من حروف الاستفهام متمكنًا يقعُ على المعرفة والنكرة جوزيَ به؛ لأنَّ حروفَ الجزاء الخالصة تقع على المعرفة والنكرة, تقول: إنْ تأتني زيدٌ آتِه وإن يأتني رجلٌ أَعطهِ، فكذلك من وما وأي وأينَ ومتَى وأنّى. وذلك إذا قلت في الاستفهام: من عندك؟ جاز أن تقول: زيدٌ أو رجل أو امرأةٌ وكذلك كلما ذكرنا من هذه الحروف. وأما كيف فحقّ جوابها النكرة وذلك قولك كيف زيدٌ؟ فيقالُ: صالحٌ أو فاسدٌ ولا يقالُ: الصالح ولا أخوكَ؛ لأنَّها حالٌ والحالُ نكرةٌ وكذلك "كم" لم يجازوا بها لأنَّ جوابها لا يكون نكرةً إذا قال: كمْ مالُكَ؟ فالجواب: مائةٌ أو ألفٌ أو نحو ذلك, والكوفيون يدخلون "كيف وكيفما" في حروف الجزاء2، ولو جازت العرب بها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 433.
2
انظر الإنصاف/ 337-340 مسألة شرحها ابن الأنباري عن المجازاة بكيف عند الكوفيين, وامتناع ذلك لدى البصريين.



ج / 2 ص -198- لأتبعناها، وتقول: إنْ تأمر أن آتيك، تريد أنَّك إنْ تأمرْ بأنْ آتيكَ، وإنْ أسقطت "إنْ" قلت: إنْ تأمر آتيكَ آتكَ, ولا يجوز عندي: إن تأمر لا أقم لا أقم إلا على بعدٍ، وقومٌ يجيزونهُ, وتقول: إنْ تقمْ إنَّ زيدًا قائمٌ تضمرُ الفاء تريدُ: فإنَّ زيدًا قائمٌ, وإنْ تقمْ لا تضرب زيدًا, يريد: فلا تضربْ زيدًا, وإنْ تقمْ أطرفْ بكَ أي: فأطرِفْ بكَ, وتقول: إنْ تَقمْ -يعلم الله- أزركَ تعترضُ باليمينِ ويكون بمنزلة ما لم يذكر, أعني قولك: يعلمُ اللَّهُ, وإنْ جَعلتَ الجواب للقسم أَتيتَ باللام فقلت: إنْ تقمْ -يعلمُ الله- لأزورنَّكَ وتضمر الفاءَ, وكذلكَ: إنْ تقم يعلم الله لآتينك, تريد: فيعلمُ الله لأزورنك، ويعلم اللَّهُ لآتينكَ.









=======================.





31























الأصول في النحو

ج / 2 ص -199- باب الأفعال المبنية:
الأفعال التي تبنى على ضربين: فعلٌ أصله البناء فهو على بنائه لا يزول عنه، وفعلٌ أصله الإِعراب فأدخلَ عليه حرف للتأكيد فبنيَ معَهُ.
فأما الضرب الأول، فقد تقدم ذكره، وهو الفعل الماضي، وفعل الأمر, وأما الضربُ الثاني فهو الفعلُ الذي أصله الإِعراب, فإذا دخلت عليه النون الثقيلة والخفيفة بني معهما.
ذكر النون الثقيلة:
هذه النونُ تلحقُ الفعل غيرَ الماضي إذا كانَ واجبًا للتأكيدِ فيبنى معها، وهي تجيءُ على ضربين: فموضعٌ لا بد منها فيه, وموضعٌ يصلحُ أنْ تخلو منه؛ فأمَّا الموضع الذي لا تخلو منه فإذا كانت مع القسم, وذلك قولُكَ: والله لأفْعَلنَّ وأقسم لأفعلنَّ وأشهد لأفعلنَّ وأقسمت عليك بالله لتفعلنَّ, فهذه النون ملازمةٌ للامِ وهي تفتح لام الفعل الذي كان معربًا وتبنى معهُ وهي إذا كانت مشددةً مفتوحةً، قال سيبويه: سألتُ الخليلَ عن قوله: لتفعلنَّ مبتدأة لا يمين قبلها؟ فقال: جاءت على نية اليمين1. وإذا حكيت عن غيرك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 1/ 455.



ج / 2 ص -200- قلتَ: أقسم لتفعلنَّ واستحلفتهُ لتفعلنَّ. وزعم1: أنَّ النونَ أُلحقت "في لتفعلنَّ" لئلا يشبه أنه ليفعل, فإذا أقسمتَ على ماضٍ دخلت اللامُ وحدها بغير نون نحو قولكَ: والله لقد قامَ ولقامَ, وحكى سيبويه: والله أنْ لو فعلتَ لفعلت2 وتقول: والله لا فعلتَ ذاكَ أبدًا، تريد: لا أَفعلُ, وقال الله عز وجل: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} على معنى: "ليظلّن"3, وتقول: لئن فعلت ما فَعلَ, تريد: ما هو فاعلٌ وتقول: والله أفعلُ, تريد: لا أفعلُ وإن شئت أظهرت "لا" وإنما جاز حذف "لا" لأنهُ موضع لا يلبس, ألا ترى أنك لو أردت الإِيجاب ولم ترد النفي قلت: لأفعلن, فلما لم تأت باللام والنون علم أنك تريد النفي، وأما الموضع الذي تقع فيه النون وتخلو منه, فالأمر والنهي وما جرى مجراهما من الأفعال غير الواجبة وذلك قولك: أفعلنَّ ذاكَ ولا تفعلنَّ وهَل تقولنَّ وأتقولنَّ؛ لأن معنى الاستفهام معنى أخبرني, وكذلك جميع حروف الاستفهام. وزعم يونس أنك تقول: هلا تفعلنَّ وألا تقولَنّ؛ لأنك تعرض ومعناه أفعلُ4، ومثل ذلك: لولا تقولنَّ لأنه عَرض. ومن مواضعها حروف الجزاء إذا أوقعت بينها وبين الفعل "مَا" للتوكيد تقول: إمّا تأتني آتكَ وأيُّهم ما يقولنَّ ذاكَ نجزهِ, وقد تدخل بغير "ما" في الجزاء في الشعر. وقد أدخلت في المجزوم تشبيهًا به للجزم, ولا يجوز إلا في ضرورة, قال الشاعر:

يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما شَيْخًا على كُرْسِيِّه مُعمَّمَا5

والخفيفة والثقيلة سواء، ويقولون: أَقسمتُ لمَّا لم تفعلن؛ لأن ذا طلبٌ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
الذي زعم هو الخليل, انظر الكتاب 1/ 455. قال سيبويه: فلم ألزمت النون آخر الكلمة, وهو يخاطب الخليل؟ فقال الخليل: لكي لا يشبه قوله: إنه ليفعل.
2
انظر الكتاب 1/ 455.
3
الروم: 51، وانظر الكتاب 1/ 456.
4
انظر الكتاب 2/ 152، وفيه: وزعم يونس أنك تقول: هلا تقولن، وألا تقولن.
5
من شواهد سيبويه 2/ 152، وقد مر تفسيره/ 144 من هذا الجزء.





ج / 2 ص -201- وزعم يونس أنَّهم يقولونَ: رُبَّما تقولنَّ ذاك، وكثر ما تقولنَّ ذاك؛ لأنه فِعْل غير واجبٍ1، ولا يقعُ بعد هذه الحروف إلا و"ما" له لازمة، وإن شئت لم تدخل النون فهو أجودُ، فهذه النون تفتح ما قبلها مرفوعًا كان أو مجزومًا, فإذا أدخلت النون الشديدة على "يفعلانِ" حذفت النون التي هي علامة الرفع لاجتماع النونات, ولأن حقه البناء فينبغي أن تطرح الذي هو علامة الرفع، وكذلك النون في "يفعلون" تقول: ليفعلن ذاكَ وقد حذفت النون فيما هو أشد من هذا؛ لاجتماع النونات قرأ بعض القراء: {أَتُحَاجُّونِّي}2، و{فَبِمَ تُبَشِّرُونّ}3 وسقطت الواو لالتقاء الساكنين, فصار ليفعلنّ فإن أدخلتها على "تَضربينَ" حذفت أيضًا النون لاجتماع النونات لأنها تكون علمًا للرفع, وحذفت الياء لالتقاء الساكنين فقلت: هل تضربينَ؟ وتقول: اضربنَ زيدًا وأكرمن عمرًا وكان الأصل اضربي وأكرمي وتقول لجماعة المذكرينَ: اضربُنَّ زيدًا, كانَ الأصلُ: اضربوا وأكرموا, فسقطتِ الواو لالتقاء الساكنين, وتقول في التثنية: اضربانِ يا رجلانِ بكسر النونِ تشبيهًا بالنون التي تقعُ بعدَ الألف وهي فيما سوى هذا مفتوحة, ومتى دخلت النون بعد حرف إضمارٍ تحرك إذا لقيته لام المعرفة، حرك لها, تقول: ارضونَّ زيدًا واخشونَّ عمرًا وارضينَّ يا امرأةُ؛ لأنك تقول: اخشُو فتضم, وتقول: ارضي الرجلَ فتكسر فلذلك ضممتَ وكسرتَ مع النونِ, فإنْ أدخلت النون على تضربنَ الذي هو لجماعةِ المؤنث قلت: هَل تضربنانِ يا نسوةُ؟ واضربنانِ، لم تسقطْ هذه النون لأنها اسمٌ للجماعة وفصلت بين النونات بالألف؛ لئلا تجتمعَ النوناتُ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 153.
2
الأنعام: 80 والآية: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} وقراءة نافع بالتخفيف, وغيره بالتشديد. انظر القرطبي 7/ 29.
3
الحجر: 54. والآية: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونّ} نافع وشيبة بكسر النون والتخفيف, وقرأ ابن كثير وابن محيصن بكسر النون مشددة. انظر القرطبي 10/ 35.



ج / 2 ص -202- واعلم: أن ما يحذف من اللامات في الجزم والأمر إذا أدخلت النون لم يحذفن، تقول: ارمين زيدًا, وكان اللفظ: ارمِ زيدًا؛ لأن الياء والواو تحذفان في المواضع التي أصلها الإِعراب, فإذا أدخلت النون عادت لأنها تبنى مع ما قبلها ولا سبيل للجزم.

ذكر النون الخفيفة:
كل شيء تدخله النون الثقيلة تدخله الخفيفة، إلا أن النون الخفيفة في الفعل نظير التنوين في الاسم فلا يجوز الوقف عليها كما لا يجوز الوقف على التنوين, تقول: اضربْن زيدًا إذا وصلت، فإذا وقفت قلت: اضربا كما تقول: ضربتُ زيدًا في الوقف وقد فرقوا بين التنوين والنون الخفيفة بشيءٍ آخر بأن الخفيفة لا تحرك لالتقاء الساكنين، والتنوين يحرك لالتقاء الساكنين فمتى لقي النون الخفيفة ساكن سقطت؛ لأنهم فضلوا ما يدخل الاسم على ما يدخل الفعل وتقول إذا أمرتَ امرأةً: اضربن يا هذه, فإذا وقفت قلت: اضربي ولَم يجز أن تقول: اضربنْ في الوقف لأنها بمنزلة التنوين, وأَنتَ تحذفُ التنوين إذا انكسر ما قبلهُ، فحذفت التنوين ههنا، فلما حذفتها عادت الياء؛ لأن سقوطها كان لالتقاء الساكنين وتقول للجماعة: اضربُنْ يا قومُ فإذا وقفت قلت: اضربوا, أعدت الواو لأنها إنما سقطت لالتقاء الساكنين، ولم يجز أن تقول: اضربنْ في الوقف، كما لم يجز أن تقول: زيد في الوقف، فقد يقفون وهم ينوونَ النونَ, كما ينوون التنوينَ في الرفع والجزم في الوقف. وتقول في الوقف: اخش وللرجال اخشوا، وحكى سيبويه: أن يونس1 يقول: اخْشَي واخْشَوُوا وقال الخليل: لا أرى ذلك إلا على قول مَنْ قال: هذا عمرو، ومررتُ بعمري قول العرب على قول الخليل2، وإذا أدخلت النون بعد حرف إضمار تحرك إذا لقيتْهُ لام المعرفة حرك من النون،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 155.
2
انظر الكتاب 2/ 155.



ج / 2 ص -203- وتقول: هَلْ تضربِنْ يا امرأةُ وكان الأصل: تضربينَ, فسقطت النون التي كانت علامة للرفع كما تسقط الضمة في: هَل تضربنْ؟ وتثبت النون الخفيفة أو الثقيلة إنْ شئتَ, وتسقط الياء لالتقاء الساكنين، فيصير: هل تضربِنْ في الوصل وكان في الأصل تضربينَ, وإذا وقفت قلت: هل تضربين, فأعدت النون التي كانت للرفع؛ لأنك لا تقفُ على النون الخفيفة ولا يجوز أن تسقطها لأنك لم تأت بما تسقط من أجله، وكذلك هل تضربونَ وهل تضربانِ؟ فأما الثقيلة فلا تتغير في الوقف، وإذا كان بعد الخفيفة ألف ولام ذهبت لالتقاء الساكنين, تقول: اضربا الرجل. وإذا أردت فِعلَ الاثنين في الخفيفة كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة في فعلِ الاثنين في الوصل والوقف؛ لأنك لو أتيت بها لاحتجت إلى تحريكها لأنها بعد ألفٍ وهي لا تحرك وذلك قولك: اضربا وأنت تنوي النونَ, وإذا أردت الخفيفة في فعلِ جمعِ النساء قلت في الوقف والوصل: اضربِنْ زيدًا, فيكون بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة, ولو أتيت بها للزمكَ أن تقول: اضربنانِ زيدًا فتأتي بالألف لتفصلَ بين النونين وتكسر النون لالتقاء الساكنين فتحركها وهي لا تحركُ. قال سيبويه: وأما يونس وناسٌ من النحويين فيقولون: اضربانْ زيدًا واضربنانْ زيدًا, ويقولون في الوقف: اضربا, واضربْنَا فيمدونَ1. فإذا وقع بعدها ألف ولام أو ألفُ وصلٍ جعلوها همزة مخففة، وهذا لم تفعلْهُ العرب، والقياس أن يقولوا في اضربنْ: اضربِ الرجلَ, فيحذفون لالتقاءِ الساكنين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
انظر الكتاب 2/ 157.

مسائل من باب النون:
تقول في المضاعف من الفعل: رُدّن يا هذا، وردّانِ، ورُدُّن وكان قبل النون ردّوا، فسقطت الواو لالتقاء الساكنين، وتقول في المؤنث: رُدّن وكان قبل النون: ردي، فسقطت الياء لالتقاء الساكنين، وتثنية المؤنث كتثنية



ج / 2 ص -204- المذكر, تقول: رُدّانِ يا امرأتانِ وتقول لجماعة النساء: ارددنانِ وكان قبل النون: ارددنَ, فجئت بالألف لتفصل بين النونات. وتقولُ: قولنْ وقولانِ وقولَنَّ, والمؤنث قولِنَّ, وقولانِ يا امرأتانِ وقُلنانِ يا نسوةُ, وقس على هذا جميع ما اعتلتْ عينه, وكذلك ما اعتلتْ لامه؛ اقضين زيدًا واقضيانِ واقضين تسقط الواو لسكون النون الأولى, اقضينَ يا امرأةُ تسقط ياءين, التي هي لام الفعل وياء التأنيث, أما لام الفعل فتسقط كما تسقط في "تقضينَ" لالتقاء الساكنين لأنها ساكنة وياء التأنيث ساكنة, وتسقط ياء التأنيث من أجل سكون النون الأولى فإن جمعت قلت: اقضينانِ, والكوفيونَ يحكون إذا أمرت رجلًا: اقضِنَّ يا هذا بكسر الضاد وإسقاط الياء, كأنهم أسقطوا الياءَ لسكونها وسكون النون هكذا اعتلوا. وعندي أنا: الذي فَعلَ هذا إنما أدخلَ النون على "اقضِ" ولم يجد ياءً فترك الكلام على ما كان عليه وهذا شاذ وتقول مِنْ دعوتُ: ادعون زيدًا أو ادعوان وادعنْ للجماعة, سقطت الواوان في "ادعن" الواو التي هي لام الفعل سقطتْ لدخول واو الجمع وسقطت واو الجمع لدخول النون الأولى وهي ساكنة. وتقول للواحدة: ادعَنْ, سقطتْ واوٌ وياءٌ, فالواو لام الفعل سقطت لدخول الياء التي هي للمؤنث حين قلت: ادعي, وسقطت الياء للنون فصار ادعن وتقول: للاثنين: ادعوان مثل المذكرين وللجماعة: ادعونانِ لأنكَ تقول قبل النون: ادعون زيدًا مثل اقضينْ زيدًا, ثم تأتي بالألف إذا أردت النون الشديدة فتفصلُ بين النوناتِ لئلا تجتمع، كما تقول: اقضنانِ زيدًا، وتقول من خَشيتَ: اخشَينَ زيدًا يا هذا واخشينانِ زيدًا يا هذان واخشُون زيدًا يا نسوةُ, تحرك الواو بالضم. وحكمُ هذا الباب أَنَّ كل واوٍ وياءٍ تحركت فيه إذا لقيتها لامُ المعرفة تحركت هنا، وإنْ كانت تسقط هناك لالتقاء الساكنين سقطت هنا؛ فلهذا قلت: اخشُون زيدًا, ضممتَ الواو كما تَضمُّها إذا قلت: اخشُوا الرجلَ وتقول للمرأة: اخشين زيدًا كما تقول: اخشي الرجلَ وتثنية المؤنث كتثنية المذكر، وتقول لجماعة النساء: اخشين زيدًا والكوفيون يحكون: اخشَن يا رجلُ بإسقاط الياء من "اخشين" وهذا



ج / 2 ص -205- نظيرُ "اقضِن" وحكوا: لا يخفن عليكَ, يريدون: لا يخفين عليكَ، وقال الفراء: هذه لغة طيءٍ؛ لأنهم يسكنون الياء في النصب ولا ينصبونَ, والنونُ لا تشبه ذلك. وتقول: لا تضربني ولا تضربننا, ومنهم من يخفضُ لكثرة النونات فيقول: لا تضربني ولا تضربنَا, والكوفيون يحكون: اضربن يا رجلُ ينوون الجزم, قد ذكرنا جميع أصناف الأسماء المعربة والمبنية والأفعال المبنية, وبقيَ ذكر الحروف مفردةً
آخر باب الافعال المبنية 31 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...