65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج3.البداية والنهاية لابن كثير

 زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب انزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * ان في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين) [ المؤمنون: 23 - 30 ]. (1/115) وقال تعالى في سورة الشعراء (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون. أني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر ان أجري إلا على رب العالمين. فاتقوا الله وأطيعون. قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون. قال وما علمي بما كانوا يعملون * ان حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين. إن أنا إلا نذير مبين. قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين. قال رب إن قومي كذبون. فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين. فانجيناه ومن معه في الفلك المشحون. ثم أغرقنا بعد الباقين. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 105 - 122 ]. وقال تعالى في سورة العنكبوت (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) [ العنكبوت: 14 - 15 ] وقال تعالى في سورة الصافات (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم. وجعلنا ذريته هم الباقين. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على نوح في العالمين. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين ثم اغرقنا الآخرين) [ الصافات: 75 - 82 ] وقال تعالى في سورة اقتربت (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر. فدعا ربه اني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر. وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ولقد تركناها آية فهل من مدكر. فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر: 9 - 17 ] وقال تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم انا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم. قال يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا. وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا. ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله انبتكم من الارض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الارض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب (1/116) انهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) [ نوح السورة بتمامها ]. وقد تكلمنا على كل موضع من هذه [ السورة ] في التفسير وسنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه الاماكن المتفرقة ومما دلت عليه الاحاديث والآثار وقد جرى ذكره أيضا في مواضع متفرقة من القرآن فيها مدحه وذم من خالفه فقال تعالى في سورة النساء: " (إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) [ النساء: 163 - 165 ] وقال في سورة الانعام (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين * واسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) [ الانعام: 83 - 87 ] الآيات. وتقدمت قصته في الاعراف. وقال في سورة براءة (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [ التوبة: 70 ] وتقدمت قصته في يونس وهود. وقال في سورة ابراهيم (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) [ ابراهيم: 9 ]. وقال في سورة سبحان (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) [ الاسراء: 3 ] وقال فيها أيضا (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) [ الاسراء: 17 ] وتقدمت فصته في الانبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت. (1/117) وقال في سورة الاحزاب (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) [ الاحزاب: 7 ] وقال في سورة صلى الله عليه وآله (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة أولئك الاحزاب. ان كل الا كذب الرسل فحق عقاب) [ ص: 11 - 13 ] وقال في سورة غافر (كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) [ غافر: 5 - 6 ] وقال في سورة الشورى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه * الله يجتبى إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [ الشورى: 13 ] وقال تعالى في سورة (ق) (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد) [ ق: 13 - 14 ] وقال في الذاريات (وقوم نوح من قبل انهم كانوا قوما فاسقين) [ الذاريات: 46 ] وقال في النجم (وقوم نوح من قبل انهم كانوا هم أظلم وأطغى) [ النجم: 52 ] وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة. وقال تعالى في سورة الحديد (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) [ الحديد: 26 ] وقال تعالى في سورة التحريم (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [ التحريم: 10 ]. وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذا من الكتاب والسنة والآثار فقد قدمنا عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام رواه البخاري * وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف * ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الاصنام وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا. ولا يغوث ويعوق نسرا) [ نوح: 23 ] قال: (هذه) أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون (فيها) أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت. قال ابن عباس وصارت هذه الاوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد * وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن اسحاق. وقال ابن جرير في تفسيره حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس قال كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم (1/118) الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم * وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنه قال ود ويغوث ويعوق وسواع ونسر أولاد آدم وكان ود أكبرهم وأبرهم به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور حدثنا الحسن بن موسى حدثنا يعقوب عن أبي المطهر قال ذكروا عند أبي جعفر هو الباقر وهو قائم يصلي بزيد بن المهلب قال: فلما انفتل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلب أما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله. قال ذكر ودا رجلا صالحا وكان محببا في قومه فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه قالوا: نعم. فصور لهم مثله. قال ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه. فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه. قالوا: نعم، قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به. قال وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به قال وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير الله " ود " الصنم الذي سموه ودا. ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس * وقد ذكر أنه لما تطاولت العهود والازمان جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عزوجل * ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جدا قد ذكرناها في مواضعها من كتابنا التفسير. ولله الحمد والمنة. وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها (1) بأرض الحبشة، يقال لها مارية فذكرنا من حسنها وتصاوير فيها قال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل " (2). والمقصود أن الفساد لما انتشر في الارض وعن البلاء بعبادة الاصنام فيها بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه فكان __________ (1) قوله رأينها بنون الجمع على أن أقل الجمع اثنان، أو على أنه كان معهما غيرهما من النسوة. (القسطلاني). (2) فتح الباري 8 / 48 / 427، 434. ومسلم في صحيحه. وأخرجه النسائي في سننه وأحمد في مسنده (6 / 51 حلبي). [ * ] (1/119) أول رسول بعثه الله إلى أهل الارض كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: " فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله. ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الارض وسماك الله عبدا شكورا ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عزوجل ؟ فيقول ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله نفسي نفسي " (1). وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده البخاري في قصة نوح. فلما بعث الله نوحا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأن لا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طاغوتا وأن يعترفوا بوحدانيته وأنه لا إله غيره ولا رب سواه كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته كما قال تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) [ الصافات: 77 ] وقال فيه وفي إبراهيم (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) [ الحديد: 26 ] أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته. وكذلك إبراهيم قال الله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [ النحل: 36 ] وقال تعالى (واسئل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) [ الزخرف: 45 ] وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [ الانبياء: 25 ] ولهذا قال نوح لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) وقال (ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) وقال (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون) وقال (يا قوم اني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون. يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم اني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا. فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا. وقد خلقكم أطوارا) الآيات الكريمات. فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار والسر والاجهار بالترغيب تارة والترهيب أخرى وكل هذا فلم ينجح فيهم بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة __________ (1) رواه مسلم في صحيحه، والبخاري. وأبو داود والترمذي وأحمد في مسنده 2 / 398. [ * ] (1/120) الاصنام والاوثان ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان وتنقصوه وتنقصوا من آمن به وتوعدوهم بالرجم والاخراج ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم (قال الملا من قومه) أي السادة الكبراء منهم (انا لنراك في ضلال مبين. قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) أي لست كما تزعمون من أني ضال بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين أي الذي يقول للشئ كن فيكون (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) [ الاعراف: 60 - 62 ] وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا أي فصيحا ناصحا أعلم الناس بالله عز وجل. وقالوا له فيما قالوا: (ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) [ هود: 27 ] تعجبوا أن يكون بشرا رسولا وتنقصوا بمن اتبعه ورأوهم أراذلهم (1) * وقد قيل: إنهم كانوا من أقياد الناس وهم ضعفاؤهم كما قال هرقل وهم أتباع الرسل (2) وما ذاك إلا لانه لا مانع لهم من اتباع الحق وقولهم: (بادئ الرأي) (3) أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دحا للصديق: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضا سريعة من غير نظر ولا روية، لان أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه. وقال: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " رضي الله عنه. وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به. (وما نرى لكم علينا من فضل) [ هود: 27 ] أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالايمان ولا مزية علينا (بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) [ هود: 28 ]. وهذا تلطف في الخطاب معهم وترفق بهم في الدعوة إلى الحق كما قال تعالى: (فقولا له قولا __________ (1) أرادوا: اخساؤهم وسقطهم وسفلتهم. قال النحاس: الاراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم والخسيسو الصناعات. قال القرطبي: الاراذل هنا: الفقراء والضعفاء. (2) قال العلماء: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة عن الاشراف. وصعوبة الانفكاك عنها، والانفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع. فهو سريع إلى الاجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا. (انظر أحكام القرطبي ج 9 / 23). (3) بادي الرأي أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك وقال أبو عمرو بادئ الرأي بالهمز: أي أول الرأي: أي اتبعوك حين ابتدأوا ينظرون، ولو امعنوا النظر والفكر لم يتبعوك. [ * ] (1/121) لينا لعله يتذكر أو يخشى) [ طه: 44 ] وقال تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [ النحل: 125 ] وهذا منه يقول لهم (أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) أي النبوة والرسالة (1) (فعميت عليكم) أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها (أنلزمكموها) أي انغضبكم بها ونجبركم عليها (2) (وأنتم لها كارهون) أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله) أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي وأبقى مما تعطونني أنتم. وقوله (وما أنا بطارد الذين آمنوا انهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون) كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك فأبى عليهم ذلك وقال (انهم ملاقوا ربهم) أي فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى الله عزوجل ولهذا قال (ويا قوم من ينصرني من الله ان طردتهم أفلا تذكرون) ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعغاء المؤمنين كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم نهاه الله عن ذلك كما بيناه في سورتي الانعام والكهف (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك) أي بل أنا عبد رسول لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) يعني من أتباعه (لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم اني إذا لمن الظالمين) [ هود: 31 ] أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما قالوا في المواضع الاخر (أنؤمن لك واتبعك الارذلون. قال وما علمي بما كانوا يعملون. ان حسابهم إلا على ربي لو تشعرون. وما أنا بطارد المؤمنين ان أنا إلا نذير مبين) [ الشعراء: 111 ]. وقد تطاول الزمان والمجادلة (3) بينه وبينهم كما قال تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) [ العنكبوت: 14 ] أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم وكان كل ما انقرض جبل وصوا من بعدهم بعدم الايمان به ومحاربته ومخالفته * وكان __________ (1) وقيل الهداية إلى الله بالبراهين، وقيل بالايمان والاسلام. وقال الرازي في تفسيره الكبير: المراد بتلك الرحمة: إما النبوة، وإما المعجزة الدالة على النبوة. ج 17 / 213. (2) جاء في أحكام القرطبي: قيل شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الهاء ترجع إلى الرحمة، وقيل إلى البينة، أي انلزمكم قبولها ؟ وهو استفهام بمعنى الانكار، أي لا يمكنني أن اضطركم إلى المعرفة بها ; وقصد نوح بهذا القول أن يرد عليهم. ج 9 / 25 - 26. (3) الجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة. قال في أحكام القرآن: والجدل في الدين محمود، ولهذا جادل نوح والانبياء قومهم حتى يظهر الحق ; فمن قبله الحج وأفلح، ومن رده خاب. وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم. 9 / 28. (1/122) الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه وصاه فيما بينه وبينه أن لا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقي وكانت سجاياهم تأبى الايمان واتباع الحق ولهذا قال (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) ولهذا قالوا (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله ان شاء وما أنتم بمعجزين) [ هود: 32: 33 ] أي إنما يقدر على ذلك الله عزوجل فإنه الذي لا يعجزه شئ ولا يكترثه أمر بل هو الذي يقول للشئ كن فيكون (ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد ان يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون) [ هود: 34 ] أي من يزد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد وهو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية. وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة (وأوحى إلى نوح انه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن) [ هود: 36 ] تسلية له عما كان منهم إليه (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم الا من قد آمن أي لا يسوأنك ما جرى فان النصر قريب والنبأ عجيب (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون) [ هود: 37 ] وذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم ورأى أنهم لا خير فيهم وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق من فعال ومقال دعا عليهم دعوة غضب فلبى الله دعوته وأجاب طلبته قال الله تعالى (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وقومه من الكرب العظيم) [ الصافات: 75 ]. وقال تعالى (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) [ الانبياء: 76 ]. وقال تعالى (قال رب ان قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين) [ الشعراء: 117 ] وقال تعالى (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) [ القمر: 10 ] وقال تعالى (قال رب انصرني بما كذبون) [ المؤمنون: 39 ] وقال تعالى (مما خطيأتهم أغرفوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا. وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا. انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفار) [ نوح: 25 - 27 ] فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم فعند ذلك امره الله تعالى أن يصنع الفلك وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها. وقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره وحل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا قال (ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه) [ هود: 38 ] أي يستهزئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به (قال ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون) [ هود: 38 ] أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) [ هود: 39 ] وقد (1/123) كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم رسول. كما قال البخاري حدثنا موسى بن اسمعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجئ نوح عليه السلام وأمته فيقول الله عزوجل هل بلغت فيقول: نعم أي رب. فيقول لامته: هل بلغكم فيقولون لا ما جاءنا من نبي فيقول لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهد أنه قد بلغ " (1) وهو قوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [ البقرة: 143 ] والوسط العدل. فهذه الامة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق بأن الله قد بعث نوحا بالحق وأنزل عليه الحق وأمره به وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها ولم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به ولا شيئا مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه * وهكذا شأن جميع الرسل حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال وان كان لا يتوقع خروجه في زمانهم حذرا عليهم وشفقة ورحمة بهم. كما قال البخاري حدثنا عبدان حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله. ثم ذكر الدجال فقال: " إني لانذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه. لقد أنذره نوح قومه ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور " وهذا الحديث في الصحيحين أيضا من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أحدثكم عن الدجال حديثا ما حدث به نبي قومه إنه أعور وانه يجئ معه بمثال الجنة والنار والتي يقول عليها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه " (2) لفظ البخاري. وقد قال بعض علماء السلف لما استجاب الله له أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة فغرسه وانتظره مائة سنة ثم نجره في مائة أخرى وقيل في أربعين (3) سنة فالله أعلم * قال محمد بن اسحق عن الثوري وكانت من خشب الساج * وقيل من الصنوبر. وهو نص التوراة. قال الثوري وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقار وان يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء * وقال قتادة كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا وهذا الذي في التوراة على ما رأيته. __________ (1) رواه البخاري في صحيحه 60 / 3 / 3339 فتح الباري. ورواه أحمد في مسنده 3 / 32 ورواه السيوطي في الفتح الكبير وقال: رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي. (2) الحديث رواه مسلم في كتاب الفتن 52 / ح 109 / 2936 والبخاري ح رقم 1577 عن أبي هريرة واللفظ لمسلم. (3) قال الرازي في تفسيره: قيل اتخذها في سنتين (عن ابن عباس كما عند القرطبي) وقيل في أربع سنين. وقال كعب، كما عند القرطبي، بناها في ثلاثين سنة، وقال ابن العربي: عملها في أربعين سنة. التفسير الكبير - أحكام القرآن 9 / 31. [ * ] (1/124) وقال الحسن البصري ستمائة في عرض ثلثمائة وعن ابن عباس ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع. وقيل كان طولها ألفي ذراع وعرضها مائة ذراع. قالوا كلهم وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعا وكانت ثلاث طبقات. كل واحدة عشرة أذرع. فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للناس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها. قال الله تعالى (قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا) [ المؤمنون: 26 - 27 ] أي بأمرنا لك وبمرأى منا لصنعتك لها ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) [ المؤمنون 27 ] فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيره لبقاء نسلها وأن يحمل معه أهله أي أهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم أي إلا من كان كافرا فانه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد كما قدمنا بيانه قبل. والمراد بالتنور (1) عند الجمهور وجه الارض أي نبعت الارض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار. وعن ابن عباس التنور عين في الهند وعن الشعبي بالكوفة وعن قتادة بالجزيرة * وقال علي بن أبي طالب المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر أي إشراقه وضياؤه أي عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وهذا قول غريب * وقوله تعالى (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) [ هود: 40 ] هذا أمر بأن عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين وفي كتاب أهل الكتاب أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج ومما لا يؤكل زوجين ذكرا وأنثى وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق (إثنين) إن جعلنا ذلك مفعولا به. وأما إن جعلناه توكيدا لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي والله أعلم. وذكر بعضهم ويروى عن ابن عباس أن أول ما دخل من الطيور الدرة (2) وآخر ما دخل من __________ (1) قال الليث: التنور: لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار. وقال الازهري: هذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجميا فتعربه العرب فيصير عربيا. وتنور على بناء فعل لان أصل بنائه تنر وليس في كلام العرب نون قبل راء. قاله صاحب أحكام القرآن وفي هامشه ورد: زنره: ملاه، وتزنر: دق والسنر: شراسة الخلق، وشنر عليه: عابه. (2) قال ابن عباس: أول ما حمل: الاوزة. والدرة: قال الدميري في كتاب حياة الحيوان الكبرى هي: الببغاء لمتقدمة وهو طائر لونه أخضر وهو في قدر الحمام يتخدها الناس للانتفاع بصوتها. 1 / 190 - 592. [ * ] (1/125) الحيوانات الحمار * ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني هشام بن سعد بن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه وكيف نطمئن أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الاسد فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الارض * ثم شكوا الفارة فقالوا الفويسقة (1) تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الاسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها " هذا مرسل * وقوله (وأهلك إلا من سبق عليه القول) أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر فكان منهم ابنه يام (2) الذي غرق كما سيأتي بيانه (ومن آمن) أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك قال الله تعالى (وما آمن معه إلا قليل) هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ودعوتهم الاكيدة ليلا ونهارا بضروب المقال وفنون التلطفات والتهديد والوعيد تارة والترغيب والوعد أخرى. وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم. وعن كعب الاحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا. وقيل كانوا عشرة وقيل إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة وكنائنته الاربع بامرأة يام الذي انخزل وانعزل وسلل عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل. وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية بل هي نص في أنه قد ركب معه غير أهله طائفة ممن آمن به كما قال (ونجني ومن معي من المؤمنين) وقيل كانوا سبعة وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم وهم حام وسام ويافث ويام وتسميه أهل الكتاب كعنان وهو الذي قد غرق وعابر وقد ماتت قبل الطوفان. قيل إنها غرقت مع من غرق وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك أو أنها أنظرت ليوم القيامة والظاهر الاول قوله (لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) قال الله تعالى (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. وقل رب انزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) [ المؤمنون: 28 - 29 ] أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه وأقر عينه ممن خالفه وكذبه كما قال تعالى (الذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون. لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون) [ الزخرف: 12 - 14 ]. وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الامور أن يكون على الخبر والبركة وأن تكون عاقبتها محمودة كما قال تعالى __________ (1) الفويسقة: الفأرة وقيل سميت فويسقة لخروجها على الناس وإغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد. (الدميري 2 / 399). (2) في أحكام القرطبي: كنعان وامرأته واعلة. وفي الطبري: كنعان وهو الذي تسميه العرب يام وهو الذي غرق في الطوفان. [ * ] (1/126) لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) [ الاسراء: 80 ] وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ان ربي لغفور رحيم) [ هود 41 ] أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه (إن ربي لغفور رحيم) أي وذو عقاب أليم مع كونه غفورا رحيما لا يرد بأسه عن القوم المجرمين كما أحل بأهل الارض الذين كفروا به وعبدوا غيره. قال الله تعالى (وهي تجري بهم في موج كالجبال). وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الارض قبله ولا تمطره بعده كان كأفواه القرب وأمر الارض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها كما قال تعالى (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر. وحملناه على ذات ألواح ودسر) [ القمر: 10 - 13 ]. والدسر السائر (1) (تجري بأعيننا) أي بحفظنا وكلا أتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها جزاء لمن كان كفر. وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر شهر آب (2) في حساب القبط. وقال تعالى (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) أي السفينة (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) [ الحاقة: 11 ] قال جماعة من المفسرين ارتفع الماء على أعلى جبل بالارض خمسة عشر ذراعا وهو الذي عند أهل الكتاب وقيل ثمانين ذراعا وعم جميع الارض طولها والعرض سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها. ولم يبق على وجه الارض ممن كان بها من الاحياء عين تطرف. ولا صغير ولا كبير. قال الامام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملاوا السهل والجبل * وقال عبد الرحمن (3) بن زيد بن أسلم (لم تكن بقعة في الارض إلا ولها مالك وحائز) رواهما ابن أبي حاتم (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) [ هود: 42 - 43 ] وهذا الابن هو يام أخو سام وحام ويافث * وقيل اسمه كنعان. __________ (1) في قصص الانبياء لابن كثير: المسامير. وهو قول قتادة والقرظي وابن زيد وابن جبير. وقال الحسن وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج لانها تدسر الماء أي تدفعه. وقال ابن عباس: الدسر كلكل (صدر السفينة). وقال الليث: خيط من ليف تشد به ألواح السفينة واحده الدسار. وفي الصحاح: خيوط. وفي الطبري: مسامير الحديد. (2) تاريخ الطبري ج 1 / 96 دار القاموس ; لعشر ليال مضين من رجب كما في الطبري والكامل. وعند المسعودي لتسع عشرة ليلة خلت من آذار. (3) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني، العدوي مولاهم، ضعيف من الثامنة مات سنة 182 له تفسير (تقريب التهذيب 1 / 480. الكاشف 2 / 146). [ * ] (1/127) وكان كافرا عمل عملا غير صالح فخالف أباه في دينه ومذهبه فهلك مع من هلك هذا، وقد نجا مع أبيه الاجانب في النسب لما كانوا موافقين في الدين والمذهب (وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) [ هود: 44 ] أي لما فرغ من أهل الارض ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عزوجل أمر الله الارض أن تبلع ماءها وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر (وغيض الماء) أي نقص (1) عما كان (وقضى الامر) أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره من إحلاله بهم ما حل بهم. (وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي نودي عليهم بلسان القدرة بعدا لهم من الرحمة والمغفرة كما قال تعالى (فكذبوه فانجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوما عمين) [ الاعراف: 64 ] وقال تعالى (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) [ يونس: 73 ] وقال تعالى (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوم سوء فاغرقناهم أجمعين) [ الانبياء: 77 ] وقال تعالى (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون. ثم أغرقنا بعد الباقين. ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وان ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 119 - 122 ] وقال تعالى (فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) وقال تعالى (ثم أغرقنا الآخرين) وقال (ولقد تركناها آية فهل من مدكر. فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر: 15 - 17 ] وقال تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله انصارا. وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا. انك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) [ نوح: 25 - 27 ] وقد استجاب الله تعالى - وله الحمد والمنة - دعوته فلم يبق منهم عين تطرف. وقد روى الامامان أبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب ابن محمد الزهري عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع أن ابراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة اخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فلو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم ام الصبي " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة - يعني إلا خمسين عاما - وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر كيف تجري قال سوف تعلمون * فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا خرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل. فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي " * وهذا حديث غريب * وقد روي عن كعب الاحبار __________ (1) وغيض الماء: يقال غاض الشئ وغضته أنا، في المصباح المنير: غاض: نضب أي ذهب في الارض. [ * ] (1/128) ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة (1) * وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا متلقى عن مثل كعب الاحبار والله أعلم. والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديارا فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق ويقال بن عناق كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى ويقولون كان كافرا متمردا جبارا عنيدا ويقولون كان لغير رشده بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا وإنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس وإنه كان يقول لنوح وهو في السفينة ما هذه القصيعة التي لك ويستهزئ به * ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا انها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها * ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول. اما المعقول فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره وأبوه نبي الامة وزعيم أهل الايمان ولا يهلك عوج بن عنق ويقال عناق وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا. وكيف لا يرحم الله منهم أحدا ولا أم الصبي ولا الصبي ويترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر الشيطان المريد على ما ذكروا. وأما المنقول فقد قال الله تعالى (ثم أغرقنا الآخرين وقال رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) [ نوح: 26 ]. ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ". فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى) [ النجم: 4 ] أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى يوم اخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة. وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه فكيف يترك هذا ويذهل عنه ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلافا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الانبياء والله أعلم. ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده (2) وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام __________ (1) رواه الطبري في تاريخه 1 / 90، ونقله القرطبي في أحكام القرآن قال: وحكي انه لما كثر الماء...وذكر القصة 9 / 41. (2) قال تعالى: (ونادى نوح ربه، فقال رب أن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) [ هود: 45 ] وكان نوح يعتقد في ظنه انه مؤمن، وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الايمان، فأوحى الله إليه: يا نوح انه ليس من [ * ] (1/129) والاستكشاف ووجه السؤال أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق فأجيب بأنه ليس من أهلك أي الذين وعدت بنجاتهم أي أما قلنا لك (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره ولهذا ساقته الاقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الايمان فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان * ثم قال تعالى (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) [ هود: 48 ] هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الارض وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي * وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال (بسلام منا وبركات) أي أهبط سالما مباركا عليك وعلى أمم من سيولد بعد أي من أولادك فان الله لم يجعل لاحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه السلام قال تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) فكل من على وجه الارض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم " سام وحام ويافث. قال الامام أحمد: حدثنا عبد الوهاب (1)، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم " ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعا نحوه. وقال الشيخ أبو عمرو بن عبد البر وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال والمراد بالروم هنا الروم الاول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطى بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام * ثم روى من حديث اسمعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: " ولد نوح ثلاثة سام ويافث وحام وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم. وولد يافث الترك والسقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر " قلت وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا ابراهيم بن هانئ وأحمد بن حسين بن عباد أبو العباس قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولد لنوح سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم. وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والسقالبة ولا __________ = أهلك ولا من خاصة عشيرتك فقد سبقت له الشقاوة وحقت عليه كلمة الكفر. فإياك بعدها أن تسألني عن شئ لا تعلمه أو تجادلني في أمر لا تدركه: (إني أعظك أن تكون من الجاهلية) [ سورة هود 46 ] (1) الخبر رواه ابن سعد في 1 / 42 وفيه عبد الوهاب بن عطاء العجلي، وأحمد في مسنده 5 / 8 وقال السيوطي في الفتح: رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند والترمذي عن سمرة. والطبري 1 / 106 من طريق عثمان بن سعيد عن عباد بن العوام عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة. [ * ] (1/130) خير فيهم * وولد لحام القبط والبربر والسودان " (1) ثم قال لا نعلم يروى مرفوعا إلا من هذا الوجه. تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه. ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلا ولم يسنده وإنما جعله من قول سعيد. قلت وهذا الذي ذكره أبو عمرو وهو المحفوظ عن سعيد قوله * وهكذا روى عن وهب بن منبه مثله والله أعلم * ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه * وقد قيل إن نوحا عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الاولاد إلا بعد الطوفان وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق وعابر مات قبل الطوفان * والصحيح ان الاولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة * وقد ذكر أن حاما واقع امرأته في السفينة فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان * وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وان يكون أولاده عبيدا لاخوته. وذكر الامام أبو جعفر بن جرير (2) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال (قال الحواريون لعيسى بن مريم لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها. قال فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه قال أتدرون ما هذا. قالوا الله ورسوله أعلم. قال هذا كعب (3) حام بن نوح. وقال وضرب الكثيب بعصاه وقال قم باذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه [ و ] قد شاب * فقال له عيسى عليه السلام هكذا هلكت قال لا ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت. قال حدثنا عن سفينة نوح. قال كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحش وطبقة فيها الانس وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فاقبلا على الروث ولما وقع الفار يخرز السفينة بقرضه أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه السلام أن اضرب بين عيني الاسد فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر. فقال له عيسى كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت قال بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت. قال ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها (4) فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت. قال فقالوا: (5) يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا __________ (1) رواه الطبري 1 / 106 وابن سعد في الطبقات 1 / 42 - 43. (2) تاريخ الطبري 1 / 91. (3) في الطبري: قبر. (4) في الطبري: برجليها. (5) في الطبري: فقال الحواريون. [ * ] (1/131) قال كيف يتبعكم من لا رزق له. قال فقال له عد بإذن الله فعاد ترابا) وهذا أثر غريب جدا. وروى غلباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما (1) وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين (2) يوما ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الارض فذهب فوقع على الجيف فابطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين فعرف نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها العربي وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم. وقال قتادة وغيره ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب (3) فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودي شهرا. وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم * وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا وأنهم صاموا يومهم ذلك. وقال الامام أحمد حدثا أبو جعفر حدثنا عبد الصمد بن حبيب الازدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي هريرة قال (مر النبي صلى الله عليه وسلم باناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: " ما هذا الصوم ؟ فقالوا هذا اليوم الذي نجا الله موسى وبني اسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عزوجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم، [ فأمن أصحابه بالصوم ] وقال لاصحابه: " من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله فليتم بقية يومه " (4). وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر والمستغرب ذكر نوح أيضا والله أعلم. وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها واطحنوا الحبوب يومئذ واكتحلوا بالاثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة فكل هذا لا يصح فيه شئ وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني اسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها والله أعلم. وقال محمد بن اسحاق لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان - أرسل ريحا على وجه الارض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الارض، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك [ على الجودي ] فيما يزعم أهل التوراة - في الشهر السبع لسبع عشر ليلة مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رؤس الجبال * فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي __________ (1) عند الطبري ستة أشهر ; وفي الكامل: كان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال. (2) عند الطبري والكامل: أسبوعا. (3) في المسعودي: يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من آذار ; وفي الطبري والكامل فكالاصل. (4) مسند أحمد ج 2 / 359 - 360 وما بين معكوفين من المسند ج 5 / 359 عن أبي هريرة. [ * ] (1/132) صنع فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الارض * ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه فعلم نوح أن الارض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن ارسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الاول من سنة اثنين، برر وجه الارض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك * وهذا الذي ذكره ابن اسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب * قال ابن اسحق وفي الشهر الثاني من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) [ هود: 48 ] وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكبروا (1) في الارض. فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عزوجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عزوجل وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الارض. وجعل تذكارا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام وهو قوس وقزح الذي قدمنا عن إبن عباس أنه أمان من الغرق * قال بعضهم فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر أي أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة. وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان واعترف به آخرون منهم وقالوا إنما كان بأرض بابل ولم يصل الينا. قالوا ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر من لدن كيومرث يعنون آدم إلى زماننا هذا. وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان. وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الارض والسموات وقد أجمع أهل الاديان الناقلون عن رسل الرحمن مع ما تواتر عند الناس في سائر الازمان على وقوع الطوفان وأنه عم جميع البلاد (2) ولم يبق الله أحدا من كفرة العباد استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم وتنفيذا لما سبق في القدر المحتوم. ذكر شئ من اخبار نوح عليه السلام قال الله تعالى (إنه كان عبدا شكورا) [ الاسراء: 3 ]. قيل إنه كان يحمد الله على طعامه __________ (1) وفي نسخة: وليكثروا. (2) في الطوفان مسائل عديدة أجاب عنها الدكتور النجار في قصص الانبياء ص 36 - 37: الاولى: هل عم طوفان نوح الكرة الارضية. والجواب: أن بعض العلماء يميل إلى عمومه. ويقول بعض علماء الجيولوجيا: إننا كلما بحثنا في أعالي الجبال وجدنا بقايا حيوانية من الاحياء التي لا تعيش إلا في الماء: وهذا يستدعي وجود طوفان على هذه الجبال بل عدد من الطوفانات لوجود الاختلاف في عمر هذه البقايا، فلا مانع من أن يكون طوفان نوح أحدها ويكون قد = (1/133) __________ = عم. ويستأنس لذلك بقوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين). ويميل فريق إلى أن الطوفان لم يكن عاما بل طغيان الماء كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه. وأما بقية بقاع الارض فلم يعمها هذا الطوفان، ويستأنس لذلك بأن الهند كانوا يزعمون أن عمران بلادهم يمتد في الماضي إلى تاريخ أبعد من الذي قدرته التوراة لنوح وطوفانه. وأن عمرانهم متصل من أعمق أجبال التاريخ إلى اليوم. وأنتم تعلمون أني غير واثق من التاريخ الذي تقدره التوراة ; فربما كان نوح أبعد من ذلك بعدا يشمل ما يدعيه أهل الهند. وعلى كل حالة فالمسألة ليس فيها نص من القرآن، بل كل ما فيه من هذه الناحية أن قوم نوح كفروا وعصوا الرسول فاغرقهم الله بالطوفان ونجى نوحا ومن معه في الفلك وجعل ذريته الباقين ; فالعموم يحتمل والخصوص محتمل. والذي أميل إليه أن يكون خاصا وأن النوع الانساني لم يكن منتشرا في جميع الكرة بل كانوا منحصرين في الناحية التي عمها الطوفان، وأنهم قد هلكوا وبقي نوح وذريته. الثانية: ما ذنب الاطفال من قوم نوح حتى هلكوا مع الآثمين من آبائهم وأمهاتهم ؟ والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته بأن النقمة لا تصيب الذين ظلموا خاصة وفي علم الظالمين بهلاك أولادهم معهم زيادة تعذيب ونكال لهم ; على أننا في كل يوم نرى الاطفال يهلكون بمختلف الامراض وليس ذلك عقابا للاطفال على ذنوب ارتكبوها أو آثام اقترفوها. ولكن ذلك من باب وجود المسبب عند وجود سببه. وتلك الاسباب هي الامراض والعلل التي هي جند الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو) وبهذا لا نحتاج إلى ما تكلفه بعض العلماء والمفسرين: من أن الله تعالى أعقم أرحام نساء قوم نوح قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يولد لهم في تلك المدة مولود، وبذلك اشترك جميع قومه في الاثم وهم مكلفون فحق عليهم العذاب وحاق بهم الهلاك. على أننا نرى الزلازل تعمل عملها في الناس بلا تمييز بين البار والفاجر وتخسف الارض بسكانها كما حصل في سان فرنسيسكو بأمريكا في زلزالها المشهور وقد وقع في زماننا، وكما حصل في زلزال اليابان سنة 1923 وهو قريب العهد منا جدا وكما يحصل في إيطاليا بسبب بركان " فيزوف " فقد تطغى حممه فتغطي البلاد القريبة منه فلا يشعر أهل القرية إلا بالحمم البركانية يسيل سيلها في طرق بلدهم فتهلكهم وتغطيها. وهذا حاصل كثيرا. وهذه الطيارات التي تسقط من الجو بأسباب مختلفة لا يهلك من هلك فيها بآثامهم ولا ينجو فيها الناجون ببرهم. ولكن أحاظ قسمت وجدود. وما حادثة المنطاد الانجليزي (ر 101) سنة 1930 منا ببعيدة، وكذلك البواخر الجبارة العظيمة الحجم والقوة " كتايتانك " التي غرقت منذ عشرين عاما والباخرة الانجليزية " لويزيتانيا " التي غرقت في أيام الحرب العظمى وكان في كلتيهما من العلماء والكتاب والاغنياء والمهندسين والمخترعين عدد عظيم، فقد هلكوا بآجالهم (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). الثالثة: أين جبل الجودي الذي استوت عليه سفينه نوح ؟ والجواب: جبل الجودي في نواحي ديار بكر من بلاد الجزيرة، وهو يتصل بجبال أرمينية. قال في القاموس المحيط: والجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، ويسمى في التوراة " أراراط ". الرابعة: ما حجم سفينة نوح ؟ [ * ] (1/134) وشرابه ولباسه وشأنه كله وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها " وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي أسامة. والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية فإن الشكر (1) يكون بهذا وبهذا كما قال الشاعر. أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا صومه عليه السلام وقال ابن ماجة باب صيام نوح عليه السلام حدثنا سهل بن أبي سهل حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة عن أبي فراس، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صام نوح الدهر إلى يوم عيد الفطر ويوم الاضحى " هكذا رواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن لهيعة باسناده ولفظه (2) * وقد قال الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن فرج، حدثنا عمرو بن خالد الحراني، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قتادة عن يزيد بن رباح أبي فراس أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صام نوح الدهر الا يوم الفطر والاضحى وصام داود نصف الدهر وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر ". حجه عليه السلام وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن زمعة هو ابن أبي صالح، عن سلمة بن وهرام (3)، عن عكرمة، عن ابن عباس قال حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال: " يا أبا بكر أي واد هذا ؟ " قال: هذا وادي عسفان قال: " لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات لهم حمر خطمهم الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق " فيه غرابة. __________ (1) قال الفخر الرازي في تفسيره ج 20 / 154: الشكور الموحد الذي لا يرى حصول شئ من النعم إلا من فضل الله. (2) قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة..وذكره الالباني 4 / 459 في سلسلة الاحاديث الضعيفة. وقال في أحكام القرآن ج 60 / 213: كان يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. (3) وفي نسخة دهران. وهو سلمة بن وهرام اليماني وثقه ابن معين وغيره. وضعفه أبو داود الكاشف ج 1 / 309. [ * ] (1/135) وصيته لولده قال الامام أحمد حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن الصقعب (1) بن زهير عن زيد بن أسلم قال حماد أظنه عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيحان (2) مزرورة بالديباج فقال: " ألا إن صاحبكم هذا قد وضع كل فارس بن فارس أو قال يريد أن يضع كل فارس بن فارس ورفع كل راع بن راع " قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجامع جبته وقال: لا أرى عليك لباس من لا يعقل ! ؟ * ثم قال: " إن نبي الله نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين آمرك بلا إله إلا الله فان السموات السبع والارضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله. ولو أن السموات السبع والارضين السبع كن حلقة مبهمة فضمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده. فإن بها صلات كل شئ وبها يرزق الخلق وأنهاك عن الشرك والكبر " قال: قلت - أو قيل - يارسول الله، هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر أن يكون لاحدنا نعلان حسنان لهما شرا كان حسنان قال: " لا ". قال: هو أن يكون لاحدنا حلة يلبسها ؟ قال: " لا ". قال: هو أن يكون لاحدنا دابة يركبها ؟ قال: " لا ". قال: هو أن يكون لاحدنا أصحاب يجلسون إليه ؟ قال: " لا " * قلت - أو قيل يا رسول الله فما الكبر ؟ قال: " سفه الحق وغمض (3) الناس ". وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه * ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن اسحق عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: " كان في وصية نوح لابنه أوصيك بخصلتين وأنهاك عن خصلتين " فذكر نحوه * وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد عن أبي معاوية الضرير عن محمد بن اسحق عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه * والظاهر أنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه أحمد والطبراني والله أعلم. ويزعم أهل الكتاب أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة كان عمره ستمائة سنة * وقدمنا عن ابن عباس مثله وزاد وعاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة. وفي هذا القول نظر * ثم إن لم __________ (1) كذا في الاصل والمسند، وفي الاسماء للبيهقي: المصعب. (2) في الهيثمي: سنجاب. وفي المسند سيجان: جمع اساج الطيلسان الاخضر: قيل هو الطيلسان المقور ينسخ كذلك. (3) في المسند والهيثمي وغمص، غمط الناس وعمص الغمط والغمص الاستهانة والاحتقار. أخرج الحديث في المسند ج 2 / 169، 170 والاسماء والصفات للبيهقي 128 عن ابن عمر ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 2 / 219. وقال: رواه كله أحمد ورواه الطبراني بنحوه وزاد في رواية: وأوصيك بالتسبيح فإنها عبادة الخلق وبالتكبير. ورواه البزار من حديث ابن عمر. ورجال أحد ثقات. ص 220. [ * ] (1/136) يمكن الجمع بينه وبين دلالة القرآن فهو خطأ محض فإن القرآن يقتضي أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك فإن كان ما ذكر محفوظا عن ابن عباس من أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة. وأما قبره عليه السلام فروى ابن جرير والازرقي عن عبد الرحمن بن سابط أو غيره من التابعين مرسلا أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام. وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر والله أعلم. البداية والنهاية قصة هود عليه السلام (1) وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام * ويقال إن هودا هو عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح. ويقال هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود (2) بن عاد بن عوص بن ارم ابن سام بن نوح عليه السلام * ذكره ابن جرير وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوص بن سام بن نوح كانوا عربا يسكنون الاحقاف وهي جبال الرمل وكانت باليمن من عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر (3) واسم واديهم مغيث * وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الاعمدة الضخام كما قال تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) [ الفجر: 6 ] أي عاد إرم وهم عاد الاولى * وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه * وأما عاد الاولى فهم عاد (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) [ الفجر: 8 ] أي مثل القبيلة * وقيل مثل العمد. والصحيح الاول كما بيناه في التفسير. ومن زعم أن ارم مدينة تدور في الارض فتارة في الشام وتارة في اليمن وتارة في الحجاز وتارة في غيرها فقد أبعد النجعة وقال ما لا دليل عليه ولا برهان يعول عليه ولا مستند يركن إليه * وفي __________ (1) ذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات. فذكر في سورة الاعراف 65 وفي سورة هود: 50 - 53 - 58 - 60 - 89 وفي سورة الشعراء: 124. (2) في الطبري الخلود وفي الكامل: الجلود. (3) وهو قول القسطلاني ج 5 / 333. وأرض الاحقاف تقع شمال حضرموت، وفي شمالها الربع الخالي وفي شرقها عمان. فما في الاصل وما عند القسطلاني يخالف ما هو معروف ; لان الاحقاف في موقعها يجعل جنوبها مطل على المحيط الهندي. [ * ] (1/137) صحيح بن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الانبياء والمرسلين قال فيه منهم أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر * ويقال إن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية * وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها * وقال غيره أول من تكلم بها نوح * وقيل آدم وهو الاشبه. قبل غير ذلك والله أعلم. ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام العرب العاربة وهم قبائل كثيرة منهم عاد * وثمود * وجرهم * وطسم * وجديس * وأميم * ومدين * وعملاق * وعبيل * وجاسم * وقحطان * وبنو يقطن * وغيرهم. وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل * وكان اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة * وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه (1) إن شاء الله تعالى ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان. وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمقصود أن عادا وهم عاد الاولى كانوا اول من عبد الاصنام بعد الطوفان. وكان أصنامهم ثلاثة صدا وصمودا وهرا (2). فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح وما كان من أمرهم في سورة الاعراف. (والى عاد أخاهم هودا. قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون. قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين. قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة. فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون. قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب اتجاد لونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. فانتظروا إني معكم من المنتظرين. فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) [ الاعراف: 65 - 72 ] وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود (والى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدو الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون. يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون. ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين. قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء. قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما __________ (1) الجزء الثاني من البداية والنهاية - في أخبار العرب. (2) في الطبري: هباء بدل هرا وفي الكامل: ضرا وضمور والهبا. (1/138) تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم. فان تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شئ حفيظ. ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ. وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) [ هود: 50 - 60 ] وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون بعد قصة قوم نوح (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون. وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون. هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين. إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين. قال رب انصرني بما كذبون. قال عما قليل ليصبحن نادمين. فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) [ المؤمنون: 31 - 41 ]. وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا (كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقو الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين. أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين. إن هذا إلا خلق الاولين. وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 123 - 140 ]. وقال تعالى في سورة حم السجدة (وأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة. أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون. فارسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) [ فصلت: 15 - 16 ] وقال تعالى في سورة الاحقاف (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم ولكني أراكم قوما تجهلون. فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل (1/139) هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) [ الاحقاف: 21 - 25 ]. وقال تعالى في الذاريات (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أنت عليه إلا جعلته كالرميم) [ الذاريات 41 - 42 ]. وقال تعالى في النجم (وأنه أهلك عادا الاولى وثمود فما أبقى. وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى. والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى) [ النجم 50 - 55 ]. وقال تعالى في سورة اقتربت (كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر. تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر. فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر 18 - 22 ]. وقال في الحاقة (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية. سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. فهل يرى لهم من باقية) [ الحاقة: 6 - 8 ]. وقال في سورة الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابو الصخر بالواد. وفرعون ذي الاوتاد. الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد. فنصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد) [ الفجر: 6 - 14 ]. وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة. وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفي سورة صلى الله عليه وآله وفي سورة (ق) ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات مع ما يضاف إلى ذلك من الاخبار * وقد قدمنا أنهم أول الامم (1) عبدوا الاصنام بعد الطوفان. وذلك بين في قوله لهم (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة) [ الاعراف: 69 ] أي جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش. وقال في المؤمنون (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) [ المؤمنون: 31 ] وهم قوم هود (2) على الصحيح * وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء) قالوا وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة (وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية) وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية __________ (1) في الطبري والكامل: كانوا أهل أوثان. (2) في أحكام القرآن: هم قوم عاد، لانه ما كانت أمة أنشئت في أثر قوم نوح إلا عاد. [ * ] (1/140) عليهم كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الايكة فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات * ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود. والمقصود أن عادا كانوا عربا جفاة كافرين عتاة متمردين في عبادة الاصنام فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والاخلاص له فكذبوه وخالفوه وتنقصوه فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة (قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) أي هذا الامر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الاصنام التى يرتجى منها النصر والرزق ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) أي ليس الامر كما تظنون ولا ما تعتقدون (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ وعدم الزيادة فيه والنقص منه ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم لا يبتغي منهم أجرا ولا يطلب منهم جعلا بل هو مخلص لله عزوجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه ولهذا (قال يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون) [ هود: 51 ] أي مالكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا وأهلك من خالفه من الخلق وها أنا أدعوكم إليه ولا أسألكم أجرا عليه بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع ولهذا قال مؤمن يس (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون. ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) وقال قوم هود له فيما قالوا (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) [ هود: 53 ] يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه وعندنا إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك وهو قولهم (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) [ هود: 54 ] وهذا تحد منه لهم وتبر من آلهتم وتنقص منه لها وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله. فان كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر فها أنا برئ منها لاعن لها (فكيدوني ثم لا تنظرون) أنتم جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه (1) ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ولا أفكر فيكم ولا أنظر إليكم __________ (1) (قوله فكيدوني لا تنظرون، من أعلام النبوة، وهو أن يكون الرسول وحده، مع كثرة أعدائه يدل على الثقة بنصر [ * ] (1/141) (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) [ هود: 56 ] أي أنا متوكل على الله ومتأيد به وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه فلست أبالي مخلوقا سواه ولست أتوكل إلا عليه ولا أعبد إلا إياه * وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله لانهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروها فدل على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه. وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله (يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) [ يونس: 71 ]. وهكذا قال الخليل عليه السلام (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون. وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون. وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) [ الانعام: 80 - 83 ] * (وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) [ المؤمنون: 33 - 35 ] استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا كما قال تعالى (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) [ يونس: 2 ] وقال تعالى (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا. قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [ الاسراء: 94 - 95 ] ولهذا قال لهم هود عليه السلام (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) [ الاعراف: 63 ] أي ليس هذا بعجيب فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته وقوله (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون. هيهات هيهات لما __________ = الله، وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش ; وقال نوح ص (فأجمعوا أمركم وشركاءكم). وكان هود في علاقته بقومه الناصح الامين لهم ; ومرت هذه العلاقة ; بصبر هود واتزانه ورزانته ووقاره واخلاصه والبعد عن الشوائب واسداء النصيحة الخالصة وتلطفه معهم وترغيبهم في الايمان. أما قومه فقد ترقوا في عداوتهم لهود ; من رفضهم لنصائحه ودعواته ثم اتهامهم له في عقله إلى تحديه (فأتنا بما تعدنا - من العذاب). وانذرهم هود بالهلاك ; واستحلال قوم غيرهم. ولما لم تبق فائدة في النصيحة والدعوة والانذار..أحل الله تعالى بهم نقمته في الدنيا...[ * ] (1/142) توعدون. إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحي وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال ربي انصرني ] [ المؤمنون: 35 - 39 ] * استبعدوا المعاد وأنكروا قيام الاجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما وقالوا هيهات هيهات أي بعيد بعيد هذا الوعد إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحي وما نحن بمبعوثين أي يموت قوم ويحيى آخرون * وهذا هو اعتقاد الدهرية كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة أرحام تدفع وأرض تبلع. وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل سنة وثلاثين ألف سنة وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون كما قال تعالى (ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون) [ الانعام: 113 ] وقال لهم فيما وعظهم به (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) [ الشعراء: 128 ] يقول لهم أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ونحوها تعبثون ببنائها لانه لا حاجة لكم فيه وما ذاك إلا لانهم كانوا يسكنون الخيام كما قال تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد) [ الفجر: 6 - 7 ] فعاد إرم هم عاد الاولى الذين كانوا يسكنون الاعمدة التي تحمل الخيام. ومن زعم أن إرم مدينة من ذهب وفضة وهي تتنقل في البلاد فقد غلط وأخطأ وقال ما لا دليل عليه * وقوله (وتتخذون مصانع) قيل هي القصور * وقيل بروج الحمام * وقيل مآخذ الماء (1) (لعلكم تخلدون) [ الشعراء: 129 ] أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة (وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) [ الشعراء: 130 - 135 ] وقالوا له مما قالوا (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين) [ الاعراف: 70 ] أي أجئتنا لنعبد الله وحده ونخالف أباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه * فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك (2) كما قالوا (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين. إن هذا الا خلق الاولين. وما نحن بمعذبين) [ الشعراء: 136 - 138 ] أما على قراءة فتح الخاء فالمراد به اختلاق الاولين أي أن هذا الذي جئت به إلا إختلاق منك وأخذته من كتب الاولين * هكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين * وأما على قراءة ضم الخاء واللام فالمراد به الدين أي أن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والاجداد من أسلافنا ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا __________ (1) في أحكام القرآن: قال الكلبي منازل. وقال ابن عباس ومجاهد: حصون مشيدة. (2) طلبوا منه بتحد العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه. [ * ] (1/143) نزال متمسكين به. ويناسب كلا القراءتين الاولى والثانية قولهم (وما نحن بمعذبين) قال (قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجاد لونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) [ الاعراف: 71 ] أي قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا وإذا أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم وبأسه الذي لا يرد ونكاله الذي لا يصد وقال تعالى (قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فاخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) [ المؤمنون: 26 ] وقال تعالى (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون. فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم. تدمر كل شئ بامر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) [ الاحقاف: 22 ] وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما أية كما تقدم مجملا ومفصلا كقوله (فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) [ الاعراف: 72 ] وكقوله (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ. وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا أن عادا كفروا ربهم الا بعدا لعاد قوم هود) [ هود: 58 - 60 ] وكقوله (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) [ المؤمنون: 41 ] وقال تعالى (فكذبوه فأهلكناهم ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء 139 - 140 ]. وأما تفصيل إهلاكهم فلما قال تعالى (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما أستعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) [ الاحقاف: 24 ] كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين فطلبوا السقيا فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة فإذا هو سقيا عذاب. ولهذا قال تعالى (بل هو ما استعجلتم به) أي من وقوع العذاب وهو قولهم (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) ومثلها في الاعراف. وقد ذكر المفسرون وغيرهم ههنا الخبر الذي ذكره الامام محمد بن اسحق بن بشار (1) وقال فلما أبوا إلا الكفر بالله عزوجل أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك قال وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان وبه __________ (1) كذا في الاصول بشار وهو تحريف والصواب يسار. [ * ] (1/144) العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر (1) وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري. قال فبعث عاد وفدا (2) قريبا من سبعين رجلا ليستقوا لهم عند الحرم فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر يغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر. فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيى منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا فيعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنيهم به فقال: ألا ياقيل ويحك قم فهينم * لعل الله يمنحنا (3) غماما فيسقي أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم أياما (4) وإن الوحش يأتيهم جهارا * ولا يخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم تماما فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما قال فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو قيل ابن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء [ ياقيل ] اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا. لا والدا يترك ولا ولدا. إلا جعلته همدا إبلا بني اللودية الهمد (5) - قال وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة - قال: وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل ابن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فيقول تعالى (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئ بأمر ربها) أي كل شئ أمرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون __________ (1) في الطبري: بكر بن معاوية. وفي رواية ابن إسحاق عنده معاوية بن بكر. (2) في الطبري: بعثوا قيل بن عثر ولقيم بن هزال بن هزيل بن عتيك ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري ثم بعثوا لقمان بن عاد بن. بن. بن عاد الاكبر مع رهط كل منهم حتى بلغوا سبعين رجلا. (3) في الطبري يسقينا. (4) في الطبري: عياما. والايم: المرأة التي فارقت زوجها. (5) في الطبري: اللوذية الهمداني وهم بنو لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر. [ * ] (1/145) امرأة من عاد يقال لها فهد (1) فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا فهد (2) قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخر ها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك قال واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود ويلتذ الانفس وإنها لتمر على عاد بالطعن فيما بين السماء والارض وتدمغهم بالحجارة * وذكر تمام القصة (3). وقد روي الامام أحمد حديثا في مسنده (4) يشبه هذه القصة فقال حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن يزيد البكري قال: خرجت أشكو العلا بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فهل أنت مبلغي إليه قال فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت ما شأن الناس قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها قال: فجلست قال: فدخل منزله - أو قال رحله - فأستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فسلمت. فقال: " هل كان بينكم وبين بني تميم شئ ؟ " فقلت: نعم. وكانت لنا الدبرة عليهم ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب. فأذن لها فدخلت فقلت يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزا فاجعل الدهناء فإنها كانت لنا قال ; فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا رسول الله فإلى أين تضطر مضرك قال: فقلت: إن مثلي ما قال الاول (معزى حملت حتفها) (5) حملت هذه الامة ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد قال هيه وما وافد عاد وهو أعلم بالحديث منه (1) ولكن يستطعمه، قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وفدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر ويغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة (6) فقال اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأمي إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا قال فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في __________ (1) في الطبري: مهدد. (2) روى الطبري الخبر في تاريخه 1 / 113 بتغيير طفيف في التعابير والالفاظ. (3) مسند أحمد ج 3 / 482 وتاريخ الطبري ج 1 / 111، وروى الترمذي نحوه وقال: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن سلام بن أبي المنذر عن عاصم، وعن أبي وائل عن الحارث بن حسان ويقال له: ابن يزيد. (4) في الطبري: حيفا. (5) في الطبري: قلت: على الخبير سقطت قال: وهو يستطعمني الحديث. (6) في الطبري: مهرة. [ * ] (1/146) خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا. قال أبو وائل وصدق وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وفدا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد وهكذا رواه الترمذي عن عبد ين حميد بن زيد بن الحباب به ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجة. وهكذا أورد هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كابن جرير وغيره * وقد يكون هذا السياق لاهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكره ابن اسحاق وغيره ذكر لمكة، ولمن تبن إلا بعد إبراهيم الخليل حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل فنزلت جرهم عندهم كما سيأتي وعاد الاولى قبل الخليل وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الاولى، لا يشبه كلام المتقدمين. وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الاولى إنما أهلكوا بريح صرصر. وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين هي الباردة والعاتية الشديدة الهبوب (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) [ الحاقة: 7 ] أي كوامل متتابعات * قيل كان أولها الجمعة وقيل الاربعاء (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) شبههم بأعجاز النخل التي لا رؤس لها وذلك لان الريح كانت تجئ إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس كما قال (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر) [ القمر: 19 ] أي في يوم نحس عليهم مستمر عذابه عليهم (تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) [ القمر: 20 ] ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الاربعاء وتشاءم به لهذا الفهم فقد أخطأ وخالف القرآن فإنه قال في الآية الاخرى (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) [ فصلت: 16 ] ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الايام السبعة المندرجة فيها مشؤمة وهذا لا يقوله أحد وإنما المراد في أيام نحسات أي عليهم وقال تعالى (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) [ الذاريات: 41 ] أي التي لا تنتج خيرا فإن الريح المفردة لا تنثر سحابا ولا تلقح شجرا بل هي عقيم لا نتيجة خير لها ولهذا قال (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) [ الذاريات: 42 ] أي كالشئ البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية * وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " (1) * وأما قوله تعالى (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) [ الاحقاف: 21 ] فالظاهر أن عادا هذه هي عاد الاولى فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم الاولى. ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية. ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه 15 / 26 / 1035 الفتح ; وفي أكثر من رواية وراوه مسلم في صحيحه 9 / 4 / 17 وأحمد في منسده 1 / 23 - 324 - 341 - 355 - 373. قال ابن حجر: الصبا يقال لها القبول لانها تقابل الكعبة لان مهبها من مشرق الشمس، والدبور ضد الصبا. [ * ] (1/147) من الحديث عن عائشة رضي الله عنها * وأما قوله (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) فإن عادا لما رأو هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر فإذا هو سحاب عذاب اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر قال الله تعالى (بل هو ما استجعلتم به) أي من العذاب ثم فسره بقوله (ريح فيها عذاب أليم) يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحدا بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم وتدمر عليهم البيوت المحكمة والقصور المشيدة فكما منوا بقوتهم وشدتهم وقالوا من أشد منا قوة سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة وأقدر عليهم وهو الريح العقيم * ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الامر سحابة ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم فأرسلها الله عليهم شررا ونارا كما ذكره غير واحد ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار وهو أشد ما يكون من العذاب بالاشياء المختلفة المتضادة مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي: حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدثنا ابن فضل (1) عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والارض فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها (قالوا هذا عارض ممطرنا) فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة ". وقد رواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن اسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فتح الله على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم. ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أو ديتنا وكان أهل البوادي فيها فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ". قال: عتت على خزائنها (2) حتى خرجت من خلال الابواب. قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب. والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر. ثم اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب والله أعلم * وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا والمفهوم منه (3) لمعة السحاب كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري ان جعلناه مفسرا لهذه القصة. وأصرح منه في ذلك ما رواه __________ (1) كذا بالاصل والصواب ابن فضيل وهو محمد بن فضيل بن غزوان، ثقة مشهور، قال ابن سعد: بعضهم لا يحتج به، المغني في الضعفاء (2 / 624 / 5907) تقريب التهذيب (2 / 200 / 628). (2) في قصص الانبياء لابن كثير: خزانها وهو الصواب. (3) لمعة تحريف، وما في قصص الانبياء لابن كثير: لغة. هو الصواب. [ * ] (1/148) مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب [ قال ] سمعت بن جريح يحدثنا عن عطاء بن أبي رياح، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به " قالت: وإذا عببت (1) السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سري عنه (2) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) [ الاحقاف: 24 ] (3) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج. طريق أخرى * قال الامام أحمد (4) حدثنا هرون بن معروف أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو وهو ابن الحارث، أن أبا النضر، حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم. وقالت كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم نوح بالريح. وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا " * فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أولا. فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الاحقاف خبرا عن قوم عاد الثانية. وتكون بقية السياقات في القرآن خبرا عن عاد الاولى والله أعلم بالصواب * وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف وأخرجه البخاري وأبو داود من حديث ابن وهب * وقدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام. وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن. وذكر آخرون أنه بدمشق وبجامعها مكان في حائطة القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام والله أعلم. __________ (1) كذا في الاصول. وعند مسلم تخيلت. قال أبو عبيدة وغيره: تخيلت من المخيلة بفتح الميم: وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه انها ماطرة. (2) سري عنه: انكشف عنه الهم. قال صاحب النهاية: وقد تكرر ذكر هذه اللفظة في الحديث، وخاصة في ذكر نزول الوحي عليه. وكلها بمعنى الكشف والازالة. يقال: سروت الثوب، وسريته إذا خلعته. والتشديد فيه للمبالغة. (3) أخرجه مسلم في 9 كتاب صلاة الاستسقاء (3 باب) ح 15 ص 2 / 616. (4) مسند أحمد ج 6 / 66 وصحيح مسلم 9 كتاب صلاة الاستسقاء (3 باب) 16 ح ص 2 / 616. ولهواته: جمع لهاة. وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك. قاله الاصمعي. [ * ] (1/149) البداية والنهاية قصة صالح نبي ثمود عليه السلام (1) وهم قبيلة مشهورة يقال ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عابر بن ارم بن سام بن نوح وكانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك. وقد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين كما سيأتي بيانه وكانوا بعد قوم عاد وكانوا يعبدون الاصنام كأولئك فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو عبد الله ورسوله صالح بن عبد بن ماسح (2) بن عبيد بن حاجر ابن ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن يخلعوا الاصنام والانداد ولا يشركوا به شيئا فآمنت به طائفة منهم وكفر جمهورهم ونالوا منه بالمقال والفعال وهموا بقتله وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى في سورة الاعراف (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم. هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم. واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون من الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون. فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) [ الاعراف: 73 - 79 ] وقال تعالى في سورة هود (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب. قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نترك ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدونني غير تحسير. ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب. فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ. إن ربك هو القوي العزيز. وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) __________ (1) ذكر اسم صالح في القرآن تسع مرات، في سورة الاعراف: 73 - 75 - 77 وفي سورة هود في الآيات: 61 - 62 - 66 - 89، وفي سورة الشعراء: 142. (2) في الطبري: صالح بن عبيد بن آسف بن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود بن جاثر بن ارم بن سام بن نوح. [ * ] (1/150) [ هود: 61 - 67 ] وقال تعالى في سورة الحجر (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين. وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين. وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين. فأخذتهم الصيحة مصبحين. فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) [ الحجر: 70 - 84 ] وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون. وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) [ الاسراء: 59 ] وقال تعالى في سورة الشعراء (كذبت ثمود المرسلين. إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. أتتركون فيما هاهنا آمنين في جنات وعيون. وزروع ونخل طلعها هضيم. وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين. فاتقوا الله وأطيعون. ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون. قالوا إنما أنت من المسحرين. ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين. قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم. ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم. فعقروها فأصبحوا نادمين. فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 141 - 159 ] وقال تعالى في سورة النمل (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون. قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون. قالوا اطيرنا بك وبمن معك. قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون. وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون. قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون. ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين. فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون. وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) [ النمل: 45 - 53 ] وقال تعالى في سورة حم السجدة (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون. ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) [ فصلت: 17 - 18 ] وقال تعالى في سورة اقتربت (كذبت ثمود بالنذر. فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه انا إذا لفي ضلال وسعر. أألقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر. سيعلمون غدا من الكذاب الاشر. انا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر. ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر. فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر. انا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر: 23 - 32 ] وقال تعالى (كذبت ثمود بطغواها إذا انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها. فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) [ الشمس: 11 - 15 ] وكثيرا ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود كما في سورة براءة وابراهيم والفرقان وسورة صلى الله عليه وآله وسورة (ق) والنجم والفجر * ويقال إن هاتين الامتين لا يعرف خبرهما (1/151) أهل الكتاب وليس لهما ذكر في كتابهم التوراة ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما كما قال تعالى في سورة ابراهيم (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فان الله لغني حميد. ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات ] [ ابراهيم: 8 - 9 ] الآية. الظاهر أن هذا من تمام كلام موسى مع قومه ولكن لما كان هاتان الامتان من العرب لم يضبطوا خبرهما جيدا ولا اعتنوا بحفظه وإن كان خبرهما كان مشهورا في زمان موسى عليه السلام * وقد تكلمنا على هذا كله في التفسير متقصيا ولله الحمد والمنة. والمقصود الآن ذكر قصتهم وما كان من أمرهم وكيف نجى الله نبيه صالحا عليه السلام ومن آمن به وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام * قد قدمنا أنهم كانوا عربا وكانوا بعد عاد ولم يعتبروا بما كان من أمرهم * ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام (أعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم. واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين) [ الاعراف: 73 - 74 ] أي إنما جعلكم خلفاء من بعدهم لتعتبروا بما كان أمرهم وتعملوا بخلاف عملهم وأباح لكم هذه الارض تبنون في سهولها القصور وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين أي حاذقين في صنعتها وإتقانها وإحكامها فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح والعبادة له وحده لا شريك له وإياكم ومخالفته والعدول عن طاعته فإن عاقبة ذلك وخيمة ولهذا وعظهم بقوله (اتتركون فيما ههنا آمنين. في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم) [ الشعراء: 146 - 148 ] أي متراكم كثير حسن بهي ناضج (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين. الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ الشعراء 149 - 152 ] وقال لهم أيضا (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها) [ هود: 61 ] أي هو الذي خلقكم فأنشأكم من الارض وجعلكم عمارها أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار فهو الخالق الرزاق فهو الذي يستحق العبادة وحده لا سواه (فاستغفروه ثم توبوا إليه) أي أقلعوا عما أنتم فيه (1) وأقبلوا على عبادته فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم (إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) [ هود: 62 ] أي قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملا قبل هذه المقالة (2) وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد __________ (1) أي سلوه المغفرة من عبادة الاصنام. (2) في أحكام القرآن: كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا، أي قبل دعوتك النبوة، وكانوا يرجون رجوع دينهم..وانقطع رجاؤهم لما دعاهم إلى الله. [ * ] (1/152) العبادة وترك ما كنا نعبده من الانداد والعدول عن دين الآباء والاجداد ولهذا قالوا (اتنهانا أن نترك ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب - قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير) [ هود: 63 ] وهذا تلطف منه لهم في العبارة ولين الجانب وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير أي فما ظنكم إن كان الامر كما أقول لكم وأدعوكم إليه ماذا عذركم عند الله وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم إلى طاعته وأنا لا يمكنني هذا لانه واجب علي ولو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له حتى يحكم الله بيني وبينكم وقالوا له أيضا (إنما أنت من المسحرين) [ الشعراء: 153 ] أي من المسحورين يعنون مسحورا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده وخلع ما سواه من الانداد وهذا القول عليه الجمهور إن المراد بالمسحرين المسحورين * وقيل من المسحرين أي ممن له سحر وهي الرئة كأنهم يقولون إنما أنت بشر له سحر والاول أظهر لقولهم بعد هذا ما أنت إلا بشر مثلنا * وقولهم (فأت بآية إن كنت من الصادقين) [ هود: 154 ] سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم) [ هود: 156 ] وقال (قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) [ الاعراف: 73 ] وقال تعالى: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) [ الاسراء: 59 ]. وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله وذكرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم فقالوا له إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة وأشاروا إلى صخرة هناك ناقة من صفتها كيت وكيت وذكروا أوصافا سموها ونعتوها وتعنتوا (1) فيها وأن تكون عشراء (2) طويلة من صفتها كذا وكذا فقال لهم النبي صالح عليه السلام أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به. قالوا نعم فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عزوجل ما قدر له ثم دعا ربه عزوجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفظر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا أو على الصفة التي نعتوا فلما عاينوها كذلك رأوا أمرا عظيما ومنظرا هائلا وقدرة باهرة ودليلا قاطعا وبرهانا ساطعا (3) فآمن كثير منهم واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم __________ (1) تعنتوا: تشددوا. (2) عشراء: التي مضى لحملها عشرة أشهر أو هي كالنفساء من النساء. (3) قال الرازي في تفسيره ج 18 / 19: وأعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه: الاول: انه تعالى خلقها من الصخرة. الثاني: انه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل. [ * ] (1/153) ولهذا قال (فظلموا بها) أي جحدوا بها ولم يتبعوا الحق بسببها أي أكثرهم. وكان رئيس الذين آمنوا جندع بن عمرو بن محلاه بن لبيد بن جواس. وكان من رؤسائهم وهم بقية الاشراف بالاسلام قصدهم ذؤاب بن عمر بن لبيد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر بن جمس ودعا جندع بن عمه شهاب بن خليفة وكان من اشرافهم فهم بالاسلام فنهاه أولئك فمال إليهم فقال في ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة بن الذميل رحمه الله: وكانت عصبة من آل عمرو * إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعا * فهم بأن يجيب ولو أجابا لاصبح صالح فينا عزيزا * وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر * تولوا بعد رشدهم ذابا (1) ولهذا قال لهم صالح عليه السلام (هذه ناقة الله لكم آية) [ هود: 64 ] أضافها الله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم كقوله بيت الله وعبد الله لكم آية أي دليلا على صدق ما جئتكم به (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) [ هود: 64 ] فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيث شاءت من أرضهم وترد الماء يوما بعد يوم وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم ويقال إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم ولهذا (قال لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) ولهذا قال تعالى (أنا مرسلوا الناقة فتنة لهم) [ القمر: 27 ] أي اختبارا لهم أيؤمنون بها أم يكفرون والله أعلم بما يفعلون (فارتقبهم) أي انتظر ما يكون من امرهم (واصطبر) على أذاهم فسيأتيك الخبر على جلية (ونبئهم ان الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) [ القمر: 28 ] فلما طال عليهم الحال هذا اجتمع ملؤهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها ويتوفر عليهم ماؤهم وزين لهم الشيطان أعمالهم قال الله تعالى (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) [ الاعراف - 77 ] وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم قدار بن سالف بن جندع وكان أحمر أزرق أصهب وكان يقال أنه ولد زانية ولد على فراش سالف وهو ابن رجل يقال له صيبان. وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم فلهذا نسب الفعل إلى جميعهم كلهم (2) * __________ الثالث: انه تعالى خلقها حاملا من غير ذكر. الرابع: خلقها دفعة واحدة من غير ولادة الخامس: ما روي انه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر. السادس: كان يحصل منها لبن كثير يكفي لخلق عظيم. (1) في قصص الانبياء لابن كثير: ذبابا. (2) وفي نسخة قصص الانبياء لابن كثير: إليهم كلهم. وهو مناسب. [ * ] (1/154) وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين (1) أن امرأتين من ثمود اسم احداهما صدوق ابنة المحيا ابن زهير بن المختار وكانت ذات حسب ومال وكانت تحت رجل من أسلم ففارقته فدعت ابن عم لها يقال له مصرع بن مهرج بن المحيا وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة واسم الاخرى عنيزة بنت غنيم بن مجلز وتكنى أم عثمان وكانت عجوزا كافرة لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو احد الرؤساء فعرضت بناتها الاربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة فله أي بناتها شاء فانتدب هذان الشابان لعقرها وسعوا في قومهم بذلك فاستجاب لهم سبعة آخرون فصاروا تسعة وهم المذكورون في قوله تعالى (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ النمل: 48 ] وسعوا في بقية القبيلة وحسنوا لهم عقرها فأجابوهم إلى ذلك وطاوعوهم في ذلك فانطلقوا يرصدون الناقة فلما صدرت من وردها كمن لها مصرع فرماها بسهم فانتظم عظم ساقها وجاء النساء يزمرن القبيلة في قتلها وحسرن عن وجوههن ترغيبا لهم فابتدرهم قدار بن سالف فشد عليها بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ساقطة إلى الارض ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها وانطلق سقيها وهو فصيلها فصعد جبلا منيعا ودعا (2) ثلاثا. وروى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن أنه قال يا رب أين أمي ثم دخل في صخرة فغاب فيها ويقال بل اتبعوه فعقروه أيضا قال الله تعالى (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر) [ القمر: 29 - 30 ] وقال تعالى (إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها) [ الشمس: 12 - 13 ] أي احذروها (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) [ الشمس: 14 - 15 ]. قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هاشم - هو أبو عزرة - عن أبيه عبد الله بن زمعة (3) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال (إذ انبعثت أشقاها) انبعث لها رجل من عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة (4). أخرجاه من حديث هشام بن (5) عارم أي شهم عزيز أي رئيس منيع أي مطاع في قومه * وقال محمد بن اسحاق حدثني __________ (1) تاريخ الطبري، وروح المعاني للالوسي. (2) كذا في الاصل، وفي قصص الانبياء لابن كثير: ورغا. وهو المناسب. (3) في المسند 4 / 17: عن ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة. وهشام بن عروة ; وأبو عزرة تحريف / عن مسلم. (4) رواه مسلم في 51 كتاب / 13 باب / ح 49 بزيادة: ذكر النساء فوعظ فيهم ثم قال: إلام يجلد أحدكم امرأته. ورواه البخاري في الفتح: 65 / 91 / 4942 بزيادة " ذكر النساء..وعارم: قال أهل اللغة: هو الشرير المفسد الخبيث، وقيل: القوي الشرس. (5) كذا بالاصول والنسخ المطبوعة: وفي قصص الانبياء لابن كثير: من حديث هشام به. [ * ] (1/155) يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب عن محمد بن خيثم عن يزيد عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " ألا أحدثك بأشقى الناس " قال: بلى. قال: " رجلان أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي بضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه - يعني لحيته ". رواه ابن أبي حاتم. وقال تعالى (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين) [ الاعراف: 77 ] فجمعوا في كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه: منها انهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الاكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية. ومنها أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين * أحدهما الشرط عليهم في قوله (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) وفي آية " عظيم " وفي الاخرى " أليم " والكل حق * والثاني استعجالهم على ذلك. ومنها أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه وهم يعلمون ذلك علما جازما ولكن حملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق ووقوع العذاب بهم * قال الله تعالى (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام (1) ذلك وعد غير مكذوب) [ هود: 65 ] وذكروا نهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف لعنه الله فعرقبها فسقطت إلى الارض ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما عاين ذلك سقيها وهو ولدها شرد عنهم فعلا أعلى الجبل هناك ورغا ثلاث مرات فلهذا قال لهم صالح (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) أي غير يومهم ذلك فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الاكيد بل لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله) [ النمل: 48 ] أي لنكسنه في داره مع أهله فلنقتلنه ثم نجحدن قتله وننكرن ذلك أن طالبنا أولياؤه بدمه. ولهذا قالوا: (ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون) [ النمل: 48 ] قال الله تعالى (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين. فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) [ النمل: 50 - 53 ] وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم وأصبحت ثمود يوم الخميس وهو اليوم الاول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كما أنذرهم صالح عليه السلام فلما أمسوا نادوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الاجل. ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل. وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الاجل. ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة فلما __________ (1) قال الرازي في تفسيره: قال ابن عباس: انه تعالى لما امهلهم تلك الايام الثلاثة فقد رغبهم في الايمان، وذلك لانهم لما عقروا الناقة انذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب..[ * ] (1/156) أمسوا نادوا ألا قد مضى الاجل فلما كان صبيحة يوم الاحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة لا يدرون كيف يفعل بهم ولا من أي جهة يأتيهم العذاب فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الارواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الاصوات وحقت الحقائق فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثا لا أرواح فيها ولا حراك بها. قالوا ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة - ابنت السلق - ويقال لها الذريعة وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها فقامت تسعى كأسرع شئ فأتت حيا من العرب فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها واستسقتهم ماء فلما شربت ماتت. قال الله تعالى (كأن لم يغنوا فيها) أي لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء (ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) [ هود: 60 ] أي نادى عليهم لسان القدر بهذا. قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج (فعتوا عن أمر ربهم فعقروها). وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله. فقالوا من هو يا رسول الله قال: " هو أبو رغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " (1). وهذا الحديث على شرط مسلم وليس هو في شئ من الكتب الستة والله أعلم. وقد قال عبد الرزاق أيضا: قال معمر، أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: " أتدرون من هذا " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله فمنعه حرم الله [ من ] عذاب الله. فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ههنا، ودفن معه غصن من ذهب. فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن " * قال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري: أبو رغال أبو ثقيف * هذا مرسل من هذا الوجه * وقد جاء من وجه آخر متصلا كما ذكره محمد بن اسحق في السيرة عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير، [ قال ] سمعت عبد الله بن عمرو، [ يقول ] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: " إن هذا قبر أبي رغال. وهو أبو ثقيف ; وكان من ثمود ; وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان __________ (1) مسند أحمد ج 3 / 396 وتفرد به. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم، صدوق مشهور، اعتمده مسلم وروى له البخاري متابعة. قال ابن حجر: صدوق إلا انه يدلس. تقريب التقريب (2 / 207 / 697) المغني في الضعفاء للذهبي / 2 - 632). [ * ] (1/157) فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه. فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن " وهكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن اسحق به * قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله هذا حديث حسن عزيز. قلت تفرد به بجير بن أبي بجير هذا ولا يعرف إلا بهذا الحديث ولم يرو عنه سوى اسماعيل بن أمية * قال شيخنا فيحتمل أنه وهم في رفعه وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه والله أعلم. قلت لكن في المرسل الذي قبله وفي حديث جابر أيضا شاهد له * والله أعلم. وقوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) [ الاعراف: 79 ] إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلا لهم (يا قوم لقد ابلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم) أي جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي (ولكن لا تحبون الناصحين) أي لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الاليم المستمر بكم المتصل إلى الابد وليس لي فيكم حيلة ولا لي بالدفع عنكم يدان والذي وجب علي من أداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته وبذلته لكم ولكن الله يفعل ما يريد. وهكذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر بعد ثلاث ليال: وقف عليهم وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من أخر الليل فقال: " يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، وقال لهم فيما قال: " بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقتني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم " فقال له عمر: يا رسول الله تخاطب أقواما قد جيفوا فقال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون). وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله * ويقال إن صالحا عليه السلام إنتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات. قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال: " يا أبا بكر أي واد هذا ". قال وادي عسفان قال: " لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمها الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق " (1) * إسناد حسن * وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام من رواية الطبراني وفيه نوح وهود وإبراهيم. __________ (1) مسند أحمد ج 1 / 232 وفيه زمعة بن صالح الجندي، اليماني، نزيل مكة، أبو وهب ضعيف / تقريب التهذيب / 1 - 293 - 65. [ * ] (1/158) مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك قال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور فأمرهم رسول الله فاهراقوا القدور وعلفوا العجين الابل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا [ فقال ] إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم (1) * وقال أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم (2) * أخرجاه في الصحيحين من غير وجه * وفي بعض الروايات أنه عليه السلام لما مر بمنازلهم قنع رأسه وأسرع راحلته ونهى عن دخول منازلهم إلا أن تكونوا باكين وفي رواية فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم * صلوات الله وسلامه عليه. وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون، حدثنا المسعودي، عن اسمعيل بن أوسط عن محمد بن أبي كبشة الانباري عن أبيه واسمه عمرو بن سعد ويقال عامر بن سعد رضي الله عنه قال لما كان في غزوة تبوك فسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس الصلاة جامعة قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " فناداه رجل تعجب منهم يا رسول الله قال أفلا أرئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا * إسناد حسن ولم يخرجوه. وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة فكانوا يبنون البيوت من المدر فتخرب قبل موت الواحد منهم فنحتوا لهم بيوتا في الجبال. وذكروا أن صالحا عليه السلام لما سألوه آية فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء وأخبرهم أنهم سيعقرونها ويكون سبب هلاكهم ذلك وذكر لهم صفة عاقرها وأنه أحمر أزرق أصهب فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولودا بهذه الصفة يقتلنه فكانوا على ذلك دهرا طويلا وانقرض جيل وأتى جيل آخر. فلما كان في بعض الاعصار خطب رئيس من رؤسائهم على ابنه بنت __________ (1) رواه مسلم في صحيحه 53 / 1 / 2981 وأحمد في مسنده. (2 / 72 - 91) والبخاري في الفتح 65 / 15 - 2 / 4702 والحميدي في مسنده وابن هشام في السيرة والواقدي في المغازي 1 / 397. (2) مسند أحمد ج 2 / 66. [ * ] (1/159) آخر مثله في الرياسة فزوجه فولد بينهما عاقر الناقة وهو قدار بن سالف فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجديه فيهم فنشأ تشأة سريعة فكان يشب في الجمعة كما يشب غيره في شهر حتى كان من أمره أن خرج مطاعا فيهم رئيسا بينهم فسولت له نفسه عقر الناقة واتبعه على ذلك ثمانية من اشرافهم وهم التسعة الذين أرادوا قتل صالح عليه السلام. فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة وبلغ ذلك صالحا عليه السلام جاءهم باكيا عليها فتلقوه يعتذرون إليه ويقولون إن هذا لم يقع عن ملا منا وإنما فعل هذا هؤلاء الاحداث فينا. فيقال إنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضا عنها فذهبوا وراءه فصعد جبلا هناك فلما تصاعدوا فيه وراءه تعالى الجبل حتى ارتفع فلا يناله الطير وبكى الفصيل حتى سالت دموعه. ثم استقبل صالحا عليه السلام ودعا (1) ثلاثا فعندها قال صالح تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وذلك وعد غير مكذوب وأخبرهم أنهم يصبحون من غدهم صفرا ثم تحمر وجوههم في الثاني وفي اليوم الثالث تسود وجوههم * فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة فأخذتهم فأصبحوا في دارهم (2) جاثمين * وفي بعض هذا السياق نظر ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم كما قدمنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (3) البداية والنهاية قصة إبراهيم خليل الرحمن هو إبراهيم بن تسارخ " 250 " بن ناحور " 148 " بن ساروغ " 230 " بن راعو " 239 " ابن فالغ " 439 " بن عابر " 464 " بن شالح " 433 " بن أرفخشذ " 438 " بن سام " 600 " ابن نوح عليه السلام (4) * هذا نص أهل الكتاب في كتابهم، وقد اعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي كما ذكروه من المدد وقدمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته * وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة ابراهيم الخليل من تاريخه عن اسحق بن بشر الكاهلي صاحب كتاب " المبتدأ " ان اسم أم ابراهيم " أميلة " * ثم أورد عنه في خبر ولادتها له حكاية طويلة وقال __________ (1) في الطبري والكامل: ورغا ثلاثا. فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم. (2) في الطبري: ديارهم. (3) نقل الخبر الطبري في تاريخه 1 / 117 - 118 دار القاموس. والفصيل: ولد الناقة. (4) نسبه الموجود في التوراة والتواريخ هو: إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفكشاذ بن سام بن نوح عليه السلام وفي تهذيب ابن عساكر (2 / 136 - 137): إبراهيم بن ازار وهو تارخ بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ بن شالح بن أرفشخد بن سام بن نوح ويكنى بأبي الضيفان. وكما هو ملاحظ فأكثر الاسماء مخالفة لما في الاصل الذي نعتمده. [ * ] (1/160) الكلبي اسمها " بونا " بنت كربنا بن كرثى من بني أرفخشذ بن سام بن نوح (1) وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال كان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان (2). قالوا ولما كان عمر تارخ خمسا وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السلام وناحور وهاران وولد لهاران لوط * وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الاوسط وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها وهي أرض الكلدانيين يعنون أرض بابل * وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ (3) والاخبار وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر بعد ما روى من طريق هشام بن عمار عن الوليد عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن ابن عباس قال ولد ابراهيم بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون * ثم قال والصحيح أنه ولد ببابل. وإنما نسب إليه هذا المقام لانه صلى فيه إذ جاء معينا للوط عليه السلام. قالوا فتزوج ابراهيم سارة (4) وناحور ملكا ابنة هاران يعنون بابنة اخيه. قالوا وكانت سارة عاقرا لا تلد قالوا وانطلق تارخ بابنة إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين فنزلوا حران فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة (5) وهذا يدل على أنه لم يولد بحران وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي أرض بابل وما والاها * ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين * وهي بلاد بيت المقدس فأقاموا بحران وهي أرض الكشدانيين في ذلك الزمان وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضا وكانوا يعبدون الكواكب السبعة. والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال * ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ويعملون لها أعيادا وقرابين * وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والاصنام وكل من كان على وجه الارض كانوا كفارا سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضلال فان الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره وابتعثه رسولا واتخذه خليلا في كبره قال تعالى) (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) [ الانبياء: 51 ] أي كان أهلا لذلك. __________ (1) في الطبري: عن غير واحد من أهل العلم: اسمها أنموتا من ولد افراهم بن أرغو بن فالغ..من ولد سام. وقيل اسمها: انمتلى بنت يكفور. (2) تاريخ ابن عساكر 12 / 141 التهذيب. (3) قال الطبري: اختلف في الموضع الذي كان منه والموضع الذي ولد فيه ; قالوا بالسوس من أرض الاهواز - بابل - بناحية كوثى من السواد - بالوركاء بناحية الزوابى - حران ونقله منها أبوه إلى بابل (1 / 119 والكامل لابن الاثير 1 / 94) (4) في سارة أقوال: في رواية للطبري ولابن الاثير: انها ابنة عمه هاران وفي رواية أخرى عنده عن السدي: انها ابنة ملك حران وقد طعنت في دين قومها وآمنت بالله تعالى مع إبراهيم. (5) وفي المسعودي: مائتان وستين سنة 1 / 40. [ * ] (1/161) وقال تعالى (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون. وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين. أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ان ذلك على الله يسير. قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. ان الله على كل شئ قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون. وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير. والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم. فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فانجاه الله من النار. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين. فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي انه هو العزيز الحكيم. ووهبنا له اسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب. وآتيناه أجره في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين) [ العنكبوت: 16 - 27 ] ثم ذكر تعالى مناظرته لابيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكان أول دعوته لابيه، وكان أبوه ممن يعبد الاصنام لانه أحق الناس بإخلاص النصيحة له كما قال تعالى (واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان صديقا نبيا. إذ قال لابيه. يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا. يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا. قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا. قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) [ مريم: 41 - 48 ]. فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة. وأحسن إشارة بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الاوثان التى لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه فكيف تغني عنه شيئا أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر ؟ * ثم قال منبها على ما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنا من أبيه (يا أبت إنه قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) أي مستقيما واضحا سهلا حنيفا يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك (1) فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه لم يقبلها منه ولا أخذها عنه بل تهدده وتوعده قال (أراغب أنت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته لارجمنك) قيل بالمقال وقيل __________ (1) قال في أحكام القرآن: أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. 11 / 111 وقوله: يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب../ الرازي 21 / 226 /. [ * ] (1/162) بالفعال (1) (واهجرني مليا) أي واقطعني وأطل هجراني. فعندها قال له ابراهيم (سلام عليك) أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى بل أنت سالم من ناحيتي وزاده خيرا فقال (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) * قال ابن عباس وغيره أي لطيفا يعني في أن هداني لعبادته والاخلاص له ولهذا قال (واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) (2). وقد استغفر له ابراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته. فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى (وما كان استغفار ابراهيم لابيه الا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن ابراهيم لاواه حليم) (3) وقال البخاري: حدثنا اسمعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد، عن أبن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الابعد فيقول الله إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقي في النار " (4) هكذا رواه في قصة إبراهيم منفردا. وقال في التفسير وقال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذؤيب (5) عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة * وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن ابراهيم بن طهمان به. وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وفي سياقه غرابة. ورواه أيضا من حديث قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال تعالى (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة اني أراك وقومك في ضلال مبين) [ الانعام: 74 ] هذا يدل على أن اسم أبى إبراهيم آزر وجمهور أهل النسب منهم ابن عباس على أن اسم أبيه تارح وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة فقيل إنه لقب بصنم كان يعبده إسمه آزر * وقال ابن جرير والصواب أن اسمه آزر ولعل له اسمان علمان أو أحدهما لقب والآخر __________ (1) قال الحسن: يعنى بالحجارة وقال الضحاك: بالقول أي لاشتمنك ; وقال ابن عباس: لاضربنك ; وقيل لاظهرن أمرك / القرطبي 11 / 111 ; وقال الرازي في الرجم قولان: الرجم باللسان - والرجم باليد. (2) في القرطبي: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه ; (ومفارقته إياهم). وقال في تفسير الرازي: في الرجم. (3) سورة التوبة الآية 114. (4) فتح الباري 60 / 8 / 3350 ورواه ابن عساكر في 2 / 137 التهذيب. (5) كذا في الاصول وهو تحريف وفي البخاري ابن أبي ذئب ; وقد تقدم قبل قليل. [ * ] (1/163) علم. وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم (1) * ثم قال تعالى (وكذلك نري إبراهيم ملكوت __________ (1) يقول الدكتور النجار في قصص الانبياء معللا ص 70 - 71: " هو أبراهيم خليل الله بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عامر بن شالح بن أرفكشاذ بن سام بن نوح عليه السلام. هذا هو نسبه الموجود في التوراة والتواريخ. وقد جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة). اختلف المفسرون في اسم أبي إبراهيم - فقال بعضهم أن لفظ " آزر " في الآية بدل من لفظ " أب " في " أبيه " ويكون مقول القول " أتتخذ أصناما آلهة) ألخ وقال آخرون اسمه " تارح " وان لفظ " آزر " كلمة ذم في لغته ومعناه " أعرج " قاله السهيلي في التكلمة. وقال آخرون أن معناه الخاطئ والخرف وفي التكلمة " يا مخطئ يا خرف " وقيل معناه " يا شيخ " أو هي كلمة زجر عن الباطل " راجع ص 12 ج 3 تاج العروس ". أقول: بعيد في نظري أن يكون إبراهيم عليه السلام قد واجه آباه بكلمات فيها تحقير أو عيب أو زجر كأعرج وخرف ومخطئ لان والد إبراهيم عليه السلام لما هدده بقوله (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا) لم يكن له جواب على هذه الجفوة القاسية وهذا التهديد العنيف إلا أن قال لابيه (سلام عليك سأستغفر لك ربي أنه كان بي حفيا). وقال آخرون: أن تارح اسمه العلم، وان آزر وصف له كما قال البيضاوي. أقول: إذا صح أن والد إبراهيم كان له اسم علمي واسم وصفي، يكون معناه القوي أو الناصر أو المعين ; لان لفظ آزر من الازر أي القوة والنصر والعون ومنه الوزير أي المعين " تاج العروس ص 11 ج 3 " وهي كذلك في اللغات السامية التي منها لغة إبراهيم، ومن ذلك عازر وعزير وعازر في العبرية. فإن هذه المادة تفيد التقوية والنصرة والاعانة في تلك اللغة كما هي في اللغة العربية. قال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه. الخ) ومعلوم أن العين والهمزة يتعاوران على موضع واحد. وفي أسماء ملوك الاشوريين " اسرحدون " ولفظا " اسر " و " ازر " في غاية القرب. وفيهم أيضا " توخلات أبال ازار " وعلى ذلك فلا يبعد عن علماء الفيلولوجيا وعلماء اللغات السامية على الخصوص أن يثبتوا النسب بين هذه الالفاظ في اللغات السامية وقد جاء في دائرة المعارف الاسلامية ما نصه: " آزر " اسم أبي إبراهيم في القرآن - سورة الانعام الآية 74 - ويظهر أن في هذا بعض الخلط لان اسم أزر لم يرد مطلقا على أنه أبو إبراهيم في غير هذا الموضع. كما أن تارح أو تارخ قد ورد في روايات بعض المؤرخين والمفسرين من المسلمين على أنه أبو إبراهيم أيضا. ولذلك لجئوا إلى التحاليل للتوفيق بين هاتين الروايتين. ولكن هذا التحايل لا قيمة له. ويقول مراتشي Prodrani Maracci، ج 4 - ص 90 " ان صيغة آزر نشأت عن قراءة خاطئة Agae التي وردت في = [ * ] (1/164) السموات والارض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون. وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون. وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ان ربك حكيم عليم) [ الانعام: 75 - 83 ] وهذا المقام مقام مناظرة لقومه وبيان لهم أن هذه الاجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للالوهية ولا أن تعبد مع الله عزوجل لانها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة وتأفل أخرى فتغيب عن هذا العالم والرب تعالى لا يغيب عنه شئ ولا تخفى عليه خافية بل هو الدائم الباقي بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه فبين لهم اولا عدم صلاحية الكواكب. قبل هو الزهرة لذلك ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها. ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الاجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة كما قال تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [ فصلت: 37 ] ولهذا قال (فلما رأى الشمس بازغة) أي طالعة (قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين. وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا) [ الانعام: 78 - 80 ] أي لست أبالي في هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل بل هي مربوبة ومسخرة كالكواكب ونحوها أو مصنوعة منحوتة منجورة. والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لاهل حران فإنهم كانوا يعبدونها وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا كما ذكره ابن اسحق وغيره وهو مستند إلى أخبار اسرائيلية لا يوثق بها ولا سيما إذا خالفت الحق * وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الاصنام وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم وأهانها وبين بطلانها كما قال تعالى (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا. ثم يوم القيامة بكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا. ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) [ العنكبوت: 25 ] وقال في سورة الانبياء (ولقد __________ تاريخ الكنيسة ليوز بيوس ; إلا أنه لم يعين لا هو ولا من نقلوا عنه الفقرة التي ورد فيها هذا الاسم. اضف إلى ذلك أن هذا المؤرخ قد ذكر في مواضع متعددة. ومهما يكن من شئ فإن ما ذهب إليه مراتشي بعيد الاحتمال ". [ * ] (1/165) آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين. إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون. قالوا وجدنا أباءنا لها عابدين. قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين. قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين. قال بل ربكم رب السموات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين. وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين. فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون. قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الظالمين. قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون. ثم نكسوا على رؤسهم. لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون. قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم ان كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) [ الانبياء: 51 - 70 ] وقال في سورة الشعراء (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا أباءنا كذلك يفعلون. قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الاقدمون. فإنهم عدو لي إلا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما والحقني بالصالحين) [ الشعراء: 69 - 83 ] وقال تعالى في سورة الصافات (وإن من شيعته لابراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم. إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون. ائفكا آلهة دون الله تريدون. فما ظنكم برب العالمين. فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم. فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلي آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون. فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون. قال أتعبدون ما تنحتون. والله خلقكم وما تعملون. قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم. فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين) [ الصافات: 83 - 98 ] يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام أنه أنكر على قومه عبادة الاوثان وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها فقال (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) أي معتكفون عندها وخاضعون لها قالوا (وجدنا آبائنا لها عابدين) ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والاجداد وما كانوا عليه من عبادة الانداد (قال لقد كنتم. أنتم وأباؤكم في ضلال مبين) [ الانبياء: 52 ] كما قال تعالى (إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون. أئفكا آلهة دون الله تريدون. فما ظنكم برب العالمين) قال قتادة: فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وقال لهم (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) سلموا له أنها لا تسمع داعيا ولا تنفع ولا تضر شيئا وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الاباء الجهال ولهذا قال لهم (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وأباؤكم الاقدمون فانهم عدو لي إلا رب العالمين) وهذا برهان قاطع على بطلان آلهية ما (1/166) ادعوه من الاصنام لانه تبرأ منها وتنقص بها فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لاثرت فيه (قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) يقولون هذا الكلام الذي تقوله لنا وتنتقص به آلهتنا وتطعن بسببه في آبائنا تقوله محقا جادا فيه أم لاعبا (قال بل ربكم رب السموات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) يعني بل أقول لكم ذلك جادا محقا وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شئ فاطر السموات والارض الخالق لهما على غير مثال سبق فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له وأنا على ذلكم من الشاهدين. وقوله (وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) أقسم ليكيدن هذه الاصنام التي يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم. قيل إنه قال هذا خفية في نفسه وقال ابن مسعود سمعه (1) بعضهم، وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد فدعاه أبوه ليحضره (2) فقال إني سقيم كما قال تعالى (فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم). عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق في بطلان ما هم عليه من عبادة الاصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الاهانة * فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في بلدهم (راغ إلى آلهتهم) أي ذهب إليها مسرعا مستخفيا فوجدها في بهو عظيم وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الاطعمة قربانا إليها (فقال) لها على سبيل التهكم والازدراء (ألا تأكلون. ما لكم لا تنطقون. فراغ عليهم ضربا باليمين) لانها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر فكسرها بقدوم (3) في يده كما قال تعالى (فجعلهم جذاذا) أي حطاما كسرها كلها (إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير (4) إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار. فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين). وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين. قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والازدراء بها فهو المقيم عليها والكاسر لها. وعلى قول ابن مسعود أي يذكرهم بقوله وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) أي في الملا الاكبر على رؤس الاشهاد لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم __________ (1) قال الطبري: فخرجوا إليه خرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم. وفي الكامل: لم يخرج معهم ; لانه كان يتوقع فرصة ينتهى بها ليفعل بأصنامهم ذلك (أي تكسيرها). (2) في الكامل والطبري 1 / 122: سمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم 1 / 96. (3) في الطبري: حديدة - وفي الكامل: بفأس في يده ; وهي كذلك في رواية للطبري. (4) أما في الطبري والكامل: فربط الفأس بيده. (الصنم الاعظم). [ * ] (1/167) فيقيم على جميع عباد الاصنام الحجة على بطلان ما هم عليه كما قال موسى عليه السلام لفرعون (موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) [ طه: 59 ] فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا) قيل معناه هو الحامل لي على تكسيرها (1) وإنما عرض لهم في القول (فاسئلوهم إن كانوا ينطقون) [ الانبياء: 62 - 63 ] وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) أي فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي في تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها (ثم نكسوا على رؤسهم) قال السدي أي ثم رجعوا إلى الفتنة فعلى هذا يكون قوله إنكم أنتم الظالمون أي في عبادتها * وقال قتادة أدركت القوم حيرة سوء أي فاطرقوا ثم قالوا (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيأ ولا يضركم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) [ البقرة: 258 ] كما قال (فأقبلوا إليه يزفون) قال مجاهد يسرعون * قال (أتعبدون ما تنحتون) أي كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة وتصورونها وتشكلونها كما تريدون (والله خلقكم وما تعملون) وسواء كانت ما مصدرية أو بمعنى الذي قمقتضى الكلام أنكم مخلوقون وهذه الاصنام مخلوقة فكيف يعبد مخلوق لمخلوق مثله فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم وهذا باطل فالآخر باطل للتحكم إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم. فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين) [ الصافات: 97 - 98 ]. عدلوا عن الجدال والمناظرة (2) لما انقطعوا وغلبوا ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) [ الانبياء: 68 - 70 ]. وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الاماكن فمكثوا مدة يجمعون له حتى أن المرآة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق ابراهيم * ثم عمدوا إلى جوبة (3) عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط * ثم وضعوا ابراهيم عليه السلام في كفة منجنيق __________ (1) قال إبراهيم ساخرا منهم: ان هذا الكبير، الصنم الكبير، غضب من أن تعبدوا معه هذه الصفار وهو أكبر منها فكسرها. ويتابع الطبري قائلا: فارعوا ورجعوا عنه فيما ادعوه عليه. ج 1 / 122. (2) أي فلما أعيتهم الحيلة فيه ووجدت موعظته منهم قلوبا غلقا وأذانا صما، عمدوا إلى ما يلجأ إليه القوي الجبار الذي لاحق معه بإزاء المحق الضعيف. (3) الجوبة: الحفرة. [ * ] (1/168) صنعه لهم رجل من الاكراد يقال له هزن (1) وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الارض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ثم ألقوه منه إلى النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قيل له (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا. وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) [ آل عمران: 173 ] الآية. وقال أبو يعلى حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا اسحق بن سليمان عن أبي جعفر الرازي عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم: " لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الارض واحد أعبدك " (2). وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا * ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال جعل ملك المطر يقول متى أومر فأرسل المطر فكان أمر الله أسرع (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) [ الانبياء: 69 ] قال علي بن أبي طالب أي لا تضريه وقال ابن عباس وأبو العالية لولا أن الله قال وسلاما على إبراهيم لاذى إبراهيم بردها * وقال كعب الاحبار لم ينتفع أهل الارض يومئذ بنار ولم يحرق منه سوى وثاقه * وقال الضحاك يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شئ غيره * وقال السدي كان معه أيضا ملك الظل. وصار ابراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار وهو في روضة خضراء والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه ولا هو يخرج إليهم فعن أبي هريرة أنه قال أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال نعم الرب ربك يا ابراهيم * وروى ابن عساكر (3) عن عكرمة أن أم ابراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته يا بني إني أريد أن أجئ إليك فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك. فقال نعم فأقبلت إليه لا يمسها شئ من حر النار. فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت * وعن المنهال بن عمرو أنه قال أخبرت أن ابراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوما وأنه قال ما كنت أياما وليالي أطيب عيشا إذ كنت فيها ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها صلوات الله وسلامه عليه فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا. قال الله تعالى (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) وفي الآية الاخرى (الاسفلين) ففازوا بالخسارة والسفال هذا في __________ (1) في الطبري والكامل: هيزن. (2) ورواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 147. (3) في رواية مطولة تراجع في تاريخه 2 / 145. [ * ] (1/169) الدنيا وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردا ولا سلاما ولا يلقون فيها تحية ولا سلاما بل هي كما قال تعالى (إنها ساءت مستقرا ومقاما). قال البخاري حدثنا عبد الله (1) بن موسى، أو ابن سلام عنه، أنبأنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ (2)، وقال: " وكان ينفخ على ابراهيم " * ورواه مسلم من حديث ابن جريج * وأخرجاه والنسائي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به * وقال أحمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية أن نافعا مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم ". قال فكانت عائشة تقتلهن * وقال احمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت ما هذا الرمح فقالت نقتل به الاوزاغ. ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن ابراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ فإنه جعل ينفخها عليه * تفرد به أحمد من هذين الوجهين. وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير، حدثنا نافع، حدثتني سمامة (3) مولاة الفاكه بن المغيرة قالت: دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا موضوعا فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح قالت هذا لهذه الاوزاغ نقتلهن به فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: " أن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الارض دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ كان ينفخ عليه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله (4) " * ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم به. ذكر مناظرة ابراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية وهو أحد العبيد الضعفاء قال الله تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت. قال ابراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر. والله لا يهدي القوم الظالمين) [ البقرة: 258 ] يذكر تعالى مناظرة __________ (1) في البخاري عبيد الله. (2) الوزغ: حشرة يقال لكبيرها: سام أبرص. (3) في المسند: سائبة روت عن عائشة وروى عنها نافع وابن عمر وذكرها ابن حبان في الثقات الكاشف ج 3 / 427. (4) رواه أحمد في مسنده ج 6 / 83 - 200 والبخاري في الفتح 60 / 8 / 3359 ومسلم في صحيحه 7 / 41 وأبو داود في سننه كتاب الادب - باب قتل الاوزاغ وابن عساكر في تاريخه 2 / 146 تهذيب. بوجوه مختلفة. [ * ] (1/170) خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي أدعى لنفسه الربوبية فأبطل الخليل عليه السلام دليله وبين كثرة جهله وقلة عقله وألجمه الحجة وأوضح له طريق المحجة. قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والاخبار وهذا الملك هو ملك بابل واسمه النمرود ابن كنعان بن كوش بن سام بن نوح قاله مجاهد. وقال غيره نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح قال مجاهد وغيره وكان أحد ملوك الدنيا فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة مؤمنان وكافران. فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان. والكافران النمرود وبختنصر وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة وكان قد طغا وبغا وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا * ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع فحاج إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية. فلما قال الخليل ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت. قال قتادة والسدي ومحمد بن اسحق يعني أنه إذا أتي بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر. وهذا ليس بمعارضة للخليل بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة ليس بمنع ولا بمعارضة بل هو تشغيب محض وهو انقطاع في الحقيقة فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها [ هذا دليل ] (1) على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها ولهذا (قال ابراهيم ربي الذي يحي ويميت) فقول هذا الملك الجاهل أنا أحي وأميت إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن اسحق فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل. ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة (قال فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها. وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شئ * فان كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فات بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شئ ودان له كل شئ فان كنت كما تزعم فافعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شئ من هذا بل أنت أعجز وأقل __________ (1) زيادة اقتضاها السياق، ليستقيم بها المعنى. [ * ] (1/171) من أن تخلق بعوضة أو تنصر منها فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت ولهذا قال (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ولم يكن إجتمع به يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة * وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطي الناس، بل خرج وليس معه شئ من الطعام * فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملا منه عدليه وقال أشغل أهلي إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا فعملت منه طعاما * فلما أستيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال أنى لكم هذا قالت من الذي جئت به فعرف أنه رزق رزقهموه الله عزوجل * قال زيد بن أسلم وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالايمان بالله فأبى عليه. ثم دعاه الثانية فأبى عليه. ثم الثالثة فأبى عليه. وقال اجمع جموعك وأجمع جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخرها أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها فكان يضرب رأسه بالمزارب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها. هجرة الخليل إلى بلاد الشام ثم الديار المصرية واستقراره في الارض المقدسة قال الله: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم. ووهبنا له اسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب. وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [ العنكبوت: 26 - 27 ] وقال تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين. ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين. وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) [ الانبياء: 71 - 73 ] لما هجر قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها ولم يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر وهبه الله تعالى بعد ذلك الاولاد الصالحين وجعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الانبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه خلعة من الله وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عزوجل ودعوة الخلق إليه والارض التي قصدها بالهجرة أرض الشام وهي التي قال الله عزوجل (إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) (1/172) قاله أبي بن كعب وأبو العالية وقتادة وغيرهم * وروى العوفي عن ابن عباس قوله (إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) مكة ألم تسمع إلى قوله (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين). وزعم كعب الاحبار أنها حران * وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط وأخوه ناحور وامرأة ابراهيم سارة وامرأة أخيه ملكا فنزلوا حران فمات تارح أبو إبراهيم بها. وقال السدي انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقي ابراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها رواه ابن جرير (1) وهو غريب * والمشهور أنها ابنة عمه هاران الذي تنسب إليه حران ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط كما حكاه السهيلي عن القتيبي والنقاش فقد أبعد النجعة وقال بلا علم وادعى أن تزويج بنت الاخ كان إذا ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل. ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود فان الانبياء لا تتعاطاه والله أعلم * ثم المشهور أن ابراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرا من بلاده كما تقدم والله أعلم. وذكر أهل الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الارض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيم مذبحا لله شكرا على هذه النعمة وضرب قبته شرقي بيت المقدس ثم انطلق مرتحلا إلى التيمن وأنه كان جوع أي قحط وشدة وغلاء فارتحلوا إلى مصر وذكروا قصة سارة مع ملكها وان إبراهيم قال لها قولي أنا أخته وذكروا خدام الملك إياها هاجر. ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس وما والاها ومعه دواب وعبيد وأموال. وقد قال البخاري حدثنا محمد بن محبوب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله قوله (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه وسأله عنها فقال من هذه قال أختي فأتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الارض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعا بعض حجبته فقال إنك لم تأتني بإنسان وإنما أتيتني بشيطان فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيم فقالت رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر * قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء __________ (1) تاريخ الطبري ج 1 / 125. [ * ] (1/173) السماء (1) تفرد به من هذا الوجه موقوفا * وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن علي الفلاس عن عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله قوله (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة إذ نزل منزلا فأتى الجبار فقيل له إنه قد نزل ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي فلما رجع إليها قال إن هذا سألني عنك فقلت إنك أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك وإنك أختي فلا تكذبيني عنده فأنطلق بها فلما ذهب يتناولها أخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت له فأرسل فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها. فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأرسل ثلاث مرات فدعا أدنى حشمة فقال إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر فجاءت وإبراهيم قائم يصلي فلما أحس بها انصرف فقال مهيم فقالت كفى الله كيد الظالم وأخدمني هاجر (2). وأخرجاه من حديث هشام * ثم قال البزار لا نعلم أسنده عن محمد عن أبي هريرة إلا هشام ورواه غيره موقوفا. وقال الامام أحمد حدثنا علي بن حفص عن ورقاء هو ابن عمر اليشكري، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله لسارة (انها أختي) قال ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس قال فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك قال أختي قال فأرسل بها قال فأرسل بها إليه وقال لا تكذبي قولي فإني قد أخبرته أنك أختي إن على الارض مؤمن غيري وغيرك فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت تتوضأ وتصلي وتقول اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر قال فغط حتى ركض برجله * قال أبو الزناد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة إنها قالت اللهم إن يمت يقال هي قتله قال فأرسل قال: ثم قام إليها قال فقامت تتوضأ وتصلي وتقول اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر قال فغط حتى ركض برجله قال أبو الزناد وقال أبو سلمة عن أبي هريرة انها قالت اللهم ان يمت يقل هي قتلته قال فأرسل قال فقال في الثالثة أو الرابعة ما أرسلتم إلي إلا شيطانا أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر قال فرجعت فقالت __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه (60 / 8 / 3358 الفتح) ورواه مسلم في صحيحه (43 كتاب - ح 154) ورواه أبو داود في سننه والترمذي وأحمد في مسنده 1 / 281 - 295، 2 / 403، 3 / 244 وأبو داود الطيالسي في مسنده (2711). ومحمد: هو ابن سيرين. قال الحافظ ابن حجر: ان ابن سيرين كان غالبا لا يصرح برفع كثير من حديثه. (2) روى ابن عساكر نحوه في تاريخه 2 / 143، وانظر ما تقدم من تعليق في الحديث الذي قبله. [ * ] (1/174) لابراهيم أشعرت أن الله رد كيد الكافرين وأخدم وليدة * تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح * وقد رواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصرا * وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في كلمات ابراهيم الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل (1) بها عن دين الله فقال إني سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي فقوله في الحديث هي أختي أي في دين الله وقوله لها إنه ليس على وجه الارض مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك ويتعين حمله على هذا لان لوطا كان معهم وهو نبي عليه السلام وقوله لها لما رجعت إليه مهيم معناه ما الخبر فقالت إن الله رد كيد الكافرين. وفي رواية الفاجر وهو الملك وأخدم جارية وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عزوجل ويسأله أن يدفع عن أهله وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء وهكذا فعلت هي أيضا فلما أراد عدو الله أن ينال منها أمرا قامت إلى وضوئها وصلاتها ودعت الله عزوجل بما تقدم من الدعاء العظيم ولهذا قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلوة) [ البقرة: 45 ] فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام. وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة سارة وأم موسى ومريم عليهن السلام * والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن * ورأيت في بعض الآثار أن الله عزوجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبينها فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه وكان مشاهدا لها وهي عند الملك وكيف عصمها الله منه ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته فإنه كان يحبها حبا شديدا لدينها وقرابتها منه وحسنها الباهر فإنه قد قيل إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها أحسن منها رضي الله عنها * ولله الحمد والمنة (2). وذكر بعض أهل التواريخ أن فرعون مصر هذا كان أخا للضحاك الملك المشهور بالظلم وكان عاملا لاخيه على مصر (3) * ويقال كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج (4) بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح. وذكر ابن هشام في التيجان أن الذي أرادها عمرو بن امرئ القيس بن مايلون بن سبأ وكان على مصر نقله السهيلي فالله أعلم. ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن وهي الارض المقدسة التي __________ (1) ماحل: جادل ودافع. (2) استغل اليهود هذه الحادثة للطعن على إبراهيم عليه السلام كما طعنوا على لوط وداود عليهما السلام. (3) ذكره الكامل لابن الاثير: 1 / 101 والطبري في رواية 1 / 151. (4) في الكامل لابن الاثير: عولج وفي الطبري فكالاصل. [ * ] (1/175) كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل وصحبتهم هاجر القبطية المصرية ثم إن لوطا عليه السلام نزح بماله من الاموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور المعروف بغور زغر فنزل بمدينة سدوم (1) وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وبشره بأن هذه الارض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الارض * وهذه البشارة اتصلت بهذه الامة بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الامة المحمدية * يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله زوي لي الارض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها " (2). قالوا ثم أن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام فأسروه وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه فلما بلغ (3) أمواله وقتل من أعداء الله ورسوله خلقا كثيرا وهزمهم وساق في آثارهم حتى وصل إلى شرقي دمشق وعسكر بظاهرها عند برزة وأظن مقام إبراهيم إنما سمي لانه كان موقف جيش الخليل والله أعلم. ثم رجع مؤيدا منصورا إلى بلاده وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين واستقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه. ذكر مولد اسماعيل عليه السلام من هاجر قال أهل الكتاب: إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة وأن الله بشره بذلك وأنه لما كان لابراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة قالت سارة لابراهيم عليه السلام إن الرب قد أحرمني الولد فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقني منها ولدا فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام فحين دخل بها حملت منه قالوا فلما حملت ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها فغارت منها سارة فشكت ذلك إلى إبراهيم فقال لها افعلي بها ما شئت فخافت هاجر فهربت فنزلت عند عين هناك فقال لها ملك من الملائكة لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيرا __________ (1) في الطبري: 1 / 127: ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع (من أرض فلسطين) على مسيرة يوم وليلة ; وفي رواية أخرى 1 / 151: نزل الاردن. وبعثه الله نبيا على المدائن الخمس: سدوم، وعمورا، وادموتا، وصاعورا وصابورا (المسعودي 1 / 42) ونزل إبراهيم السبع من أرض فلسطين / الطبري - الكامل. (2) أخرجه الطبراني عن سلمان وجابر بن عبد الله. وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 6 / 527 عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان وفيه زيادة قال: وأعطيت الكنزين الاحمر والابيض وأني سألت ربي عزوجل لامتي ألا يهلكها بسنة عامة..زوي: جمع. وسنة: قحط وجدب. (3) سقط في الكلام ; وفي قصص الانبياء لابن كثير: فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا فاستنقذ لوطا عليه السلام واسترجع أمواله..[ * ] (1/176) وأمرها بالرجوع وبشرها أنها ستلد ابنا وتسميه إسماعيل ويكون وحش الناس يده على الكل ويد الكل به ويملك جميع بلاد إخوته فشكرت الله عزوجل على ذلك. وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه الذي سادت به العرب وملكت جميع البلاد غربا وشرقا وأتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الامم قبلهم وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل وبركة رسالته ويمن بشارته وكماله فيما جاء به وعموم بعثته لجميع أهل الارض. ولما رجعت هاجر وضعت اسماعيل عليه السلام قالوا وولدته ولابراهيم من العمر ست وثمانون سنة قبل مولد اسحق بثلاث عشرة سنة * ولما ولد اسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره باسحق من سارة فخر لله ساجدا وقال له قد استجبت لك في اسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته (1) جدا كثيرا ويولد له اثنا عشر عظيما * وأجعله رئيسا لشعب عظيم وهذه أيضا بشارة بهذه الامة العظيمة وهؤلاء الاثنا عشر عظيما هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون اثنا عشر أميرا " ثم قال كلمة لم افهمها فسألت أبي ما قال قال " كلهم من قريش " أخرجاه في الصحيحين (2). وفي رواية لا يزال هذا الامر قائما وفي رواية عزيزا حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش. فهؤلاء منهم الائمة الاربع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ومنهم عمر بن عبد العزيز أيضا. ومنهم بعض بني العباس وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقا بل لابد من وجودهم وليس المراد الائمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الرافضة الذين أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون فان أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وإبنه الحسن بن علي حين ترك القتال وسلم الامر لمعاوية وأخمد نار الفتنة وسكن رحى الحروب بين المسلمين والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الامة في أمر من الامور * وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذاك هوس في الرؤوس وهذيان في النفوس لا حقيقة له ولا عين ولا أثر. والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها اسماعيل اشتدت غيرة سارة منها وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم ويقال إن ولدها كان إذ ذاك رضيعا فلما تركهما هناك وولي ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه وقالت يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ههنا وليس معنا ما يكفينا فلم يجبها فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها قالت له، الله أمرك بهذا ؟ قال: نعم. قالت فإذا لا يضيعنا * وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب النوادر أن سارة تغضبت على هاجر فخلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها فأمرها __________ (1) كذا في النسخ المطبوعة، ونسخ قصص الانبياء لابن كثير ; ولعله ويمنته وهي أكثر مناسبة للسياق. (2) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 6 / 519 والبخاري في 93 كتاب الاحكام 51 باب الاستخلاف ومسلم في 33 كتاب الامارة (1) باب الناس تبع لقريش ص 1452. وأبو داود في أول كتاب المهدي، وأحمد في المسنده 5 / 92. [ * ] (1/177) الخليل أن تثقب أذنيها وأن تخفضها فتبر قسمها (1) * قال السهيلي فكانت أول من اختنن من النساء وأول من ثقبت أذنها منهن وأول من طولت ذيلها. ذكر مهاجرة ابراهيم بابنه اسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي ارض مكة وبنائه البيت العتيق قال البخاري قال عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب السختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم اسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها اسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفي إبراهيم منطلقا فتبعته أم اسماعيل فقالت يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شئ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا، قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال (ربنا إني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [ ابراهيم: 37 ] وجعلت أم اسماعيل ترضع اسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الارض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف ذراعها ثم سعت سعي الانسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلذلك سعى الناس بينهما ". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه، تريد نفسها. ثم تسمعت فسمعت أيضا ; فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا. وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف * قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم " أو قال: " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافى الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت __________ (1) أورده الطبري في تاريخه 1 / 130 وابن الاثير في الكامل 1 / 103 وفيهما فمن ثم خفص النساء. [ * ] (1/178) مرتفعا من الارض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كذا فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا " (1) فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم اسمعيل عند الماء فقالوا تأذنين لنا أن ننزل عندك، قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم * قال عبد الله بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فألقى ذلك أم اسمعيل وهي تحب الانس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم (2) وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم (3) وماتت أم اسمعيل فجاء ابراهيم بعد ما تزوج اسمعيل يطالع تركته فلم يجد اسمعيل فسأل امرأته فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه * قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء اسمعيل، كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد ؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال فهل أوصاك بشئ فقالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غير عتبة بابك قال ذاك أبي وأمرني أن أفارقك، فالحق بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى (4) ولبث عنهم ابراهيم ما شاء الله * ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم ؟ قالت: اللحم قال فما شرابكم قالت: الماء. قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ولم يكن لهم يومئذ حب (5). ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه " [ قال: ] فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه (6). قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه فلما جاء اسماعيل قال هل أتاكم من أحد قالت نعم أتانا شيخ حسن، قال الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال: فأوصاك بشئ قالت: نعم هو __________ (1) عائفا: باحثا عن الماء. (2) أنفسهم: زاحمهم في النفاسة وعلو الهمة. (3) وهي جداء بنت سعد، امرأة من جرهم وهي التي امره أبوه بتطليقها. (4) وهي رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وقيل اسمها السيدة. (5) حب، بكسر الحاء، إناء من فخار يحفظ فيه الماء. (6) كذا العبارة في الاصول والمعنى وغير مكتمل ; وفي العرائس للثعلبي ما يكتمل به المعنى: " فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت مكة أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا ". (انظر الكامل لابن الاثير 1 / 104، الطبري 1 / 132). [ * ] (1/179) يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأمرني أن أمسكك * ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك اسمعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد * ثم قال يا اسمعيل إن الله أمرني بأمر قال فاصنع ما أمرك به ربك قال: وتعينني قال وأعينك قال فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل اسمعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني واسمعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم) [ البقرة: 127 ] قال وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) ثم قال حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما كان من ابراهيم وأهله ما كان خرج باسمعيل وأم اسمعيل ومعهم شنة فيها ماء * وذكر تمامه بنحر ما تقدم وهذا الحديث من كلام ابن عباس وموشح برفع بعضه وفي بعضه غرابة وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الاسرائيليات * وفيه أن اسمعيل كان رضيعا إذ ذاك * وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده اسمعيل وكل من عنده من العبيد وغيرهم فختنهم وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره فيكون عمر اسمعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة وهذا امتثال لامر الله عزوجل في أهله فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال كما هو مقرر في موضعه. وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " أختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم " * تابعه عبد الرحمن بن إسحق عن أبي الزناد وتابعه عجلان عن أبي هريرة ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة * وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به * وفي بعض الالفاظ اختتن ابراهيم بعدما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم. والقدوم هو الآلة وقيل موضع. وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين. والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اختتن ابراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ". رواه ابن حبان في صحيحه. وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح وانه اسمعيل ولم يذكر في قد مات (1) ابراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات أولاهن بعد أن تزوج إسمعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم من حين صغر الولد، على ما ذكر إلى حين تزويجه، لا ينظر في حالهم. وقد ذكر أن الارض كانت تطوى له وقيل: إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم وهم في غاية الضرورة الشديدة __________ (1) قد مات: المرات التي قدمها إبراهيم إلى ولده. * ] (1/180) والحاجة الاكيدة * وكأن بعض هذا السياق متلقى من الاسرائيليات ومطرز بشئ من المرفوعات ولم يذكر فيه قصة الذبيح وقد دللنا (1) على أن الذبيح هو إسمعيل على الصحيح في سورة الصافات. قصة الذبيح قال الله تعالى (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني اذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه ان يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزي المحسنين. ان هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين. وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى اسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) [ الصافات: 113 ]. يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فبشره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام لانه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل. وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل لانه أول ولده وبكره وقوله (فلما بلغ معه السعي) أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه قال مجاهد (فلما بلغ معه السعي) أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل. فلما كان هذا رئى ابراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده * هذا. وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا " رؤيا الانبياء وحي " (2) * قاله عبيد بن عمير أيضا وهذا اختبار من الله عزوجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر وقد طعن في السن بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع فامتثل أمر الله في ذلك وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ورزقهما من حيث لا يحتسبان. ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا (قال يا بني اني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) [ الصافات: 102 ] فبادر الغلام الحليم، سر والده الخليل إبراهيم، فقال: " يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين) * وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد قال الله تعالى (فلما أسلما وتله للجبين) قيل أسلما أي استسلما لامر الله وعزما على ذلك. وقيل هذا من المقدم والمؤخر والمعنى تله للجبين أي ألقاه على وجهه. قيل أراد أن يذبحه من قفاه __________ (1) في تفسير ابن كثير ; راجع سورة الصافات. وسيأتي الحديث عنه في الفصل القادم. (2) الحديث في البخاري في رواية طويلة (4 / 5 / 138 فتح الباري). [ * ] (1/181) لئلا يشاهده في حال ذبحه قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. وقيل بل أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقا بالارض ((واسلما) أي سمى إبراهيم وكبر وتشهد الولد للموت * قال السدي وغيره أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئا ويقال جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم. فعند ذلك نودي من الله عزوجل (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبذلك ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران وكما مالك مبذول للضيفان ولهذا قال تعالى (إن هذا لهو البلاء المبين) أي الاختبار الظاهر البين وقوله (وفديناه بذبح عظيم) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه. والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة في ثبير. قال الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا وقال سعيد بن جبير كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر (1). وعن ابن عباس هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه (2). رواه ابن أبي حاتم. قال مجاهد فذبحه بمنى وقال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام. فأما ما روي عن ابن عباس أنه كان وعلا وعن الحسن أنه كان تيسا من الاروى. واسمه جرير فلا يكاد يصح عنهما * ثم غالب ماههنا من الآثار مأخوذ من الاسرائيليات * وفي القرآن كفاية عما جرى من الامر العظيم والاختبار الباهر وأنه فدى ذبح عظيم وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا. قال الامام أحمد، حدثنا سفيان، حدثنا منصور عن خاله نافع (3)، عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني إمرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقال مرة - إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما (4) فخمرهما فانه لا ينبغي أن يكون في البيت شئ يشغل المصلي. قال: سفيان: لم تزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت فاحترقا (5). __________ (1) العهن: الصوف. (2) الخبر في الطبري ج 1 / 141 - 142. (3) في المسند: مسافح. (4) تخمرهما: تغطيهما. (5) الحديث في مسند أحمد ج 4 / 68، 5 / 380. وفيه: - صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية حدثت عن عائشة وأم حبيبة. وفي البخاري صرع بسماعها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني ذلك. (تقريب التهذيب 2 / 603) الكاشف 3 / 429. [ * ] (1/182) وهذا روي عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس. وهذا وحده دليل على أن الذبيح اسمعيل لانه كان هو المقيم بمكة. واسحق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره والله أعلم. وهذا هو الظاهر من القرآن بل كأنه نص على أن الذبيح هو اسمعيل لانه ذكر قصة الذبيح ثم قال بعده (وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين) [ الصافات: 112 [ ومن جعله حالا (1) فقد تكلف، ومستنده أنه إسحق إنما هو اسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولا سيما ههنا قطعا لا محيد عنه، فان عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة من المعربة بكره اسحق فلفظة اسحق ههنا مقحمة مكذوبة مفتراة لانه ليس هو الوحيد ولا البكر [ انما ] ذاك اسمعيل. وإنما حملهم على هذا حسد العرب فإن إسمعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسحق والد يعقوب وهو اسرائيل الذين ينتسبون إليه فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم فحرفوا كلام الله وزادوا فيه وهم قوم بهت ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وقد قال بأنه اسحق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم (2). وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الاحبار أو صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لاجله ظاهر الكتاب العزيز ولا يفهم هذا من القرآن بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه اسمعيل. وما أحسن ما استدل محمد بن كعب القرظي على أنه اسمعيل وليس باسحق من قوله (فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحق يعقوب) [ هود: 71 ] قال: فكيف تقع البشارة باسحق ؟ وأنه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحق، وهو صغير، قبل أن يولد له، هذا لا يكون لانه يناقض البشارة المتقدمة والله أعلم. وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله (فبشرناها باسحاق) جملة تامة وقوله (ومن وراء إسحاق يعقوب) جملة أخرى ليست في حيز البشارة. قال لانه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضا إلا أن يعاد معه حرف الجر فلا يجوز أن يقال مررت بزيد ومن __________ = منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجي المكي، وهو ابن صفية بنت شيبة ثقة. تقريب التهذيب 2 / 276 قال أبو حاتم: صالح الحديث مات سنة 137 ه (الكاشف ج 3 / 156). (1) أي من جعل كلمة - نبيا - حال من إسحاق فيكون التبشير به - بإسحاق - تبشيرا بنبوته لا بولادته. (2) قال القرطبي 15 / 99: واختلف العلماء في المأمور بذبحه ; فقال أكثرهم: الذبيح اسحق. وممن قال بذلك: العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله - ابن عباس - ابن مسعود - حماد بن زيد - جابر بن عبد الله - عبد الله بن عمر - عمر بن الخطاب - (هؤلاء من الصحابة) ومن التابعين وغيرهم: علقمة الشعبي مجاهد وسعيد بن جبير وكعب الاحبار وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والسدي والزهري ومالك بن أنس. وقال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح، وهذا مذهب ثالث. أما المذهب الثاني ; فهم من قال: انه إسماعيل. [ * ] (1/183) هو بعده عمرو حتى يقال ومن بعده بعمر. وقال فقوله (ومن وراء إسحق يعقوب) منصوب بفعل مضمر تقديره (ووهبنا لاسحق يعقوب) وفي هذا الذي قاله نظر. ورجح أنه اسحاق واحتج بقوله (فلما بلغ معه السعي) قال واسماعيل لم يكن عنده إنما كان في حال صغره هو وأمه بحيال مكة فكيف يبلغ معه السعي * وهذا أيضا فيه نظر لانه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الاوقات راكبا البراق إلى مكة يطلع على ولده وابنه ثم يرجع والله أعلم * فمن حكى القول عنه بأنه اسحق كعب الاحبار * وروي عن عمر والعباس وعلي وابن مسعود ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن عمر وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم وابن أبي بردة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط وهو اختيار ابن جرير وهذا عجب منه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ولكن الصحيح عنه وعن أكثر هؤلاء أنه اسماعيل عليه السلام. قال مجاهد وسعيد والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس هو اسماعيل عليه السلام وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدى اسماعيل وزعمت اليهود أنه اسحق وكذبت اليهود * وقال عبد الله بن الامام احمد عن أبيه هو اسماعيل * وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن الذبيح فقال الصحيح أنه اسماعيل عليه السلام. قال ابن أبي حاتم وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح أنهم قالوا الذبيح هو اسماعيل عليه السلام * وحكاه البغوي أيضا عن الربيع بن أنس والكلبي وأبي عمر بن العلاء * قلت وروي عن معاوية (1) وجاء عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومحمد بن إسحاق بن يسار وكان الحسن البصري يقول لا شك في هذا. وقال محمد بن اسحاق عن بريدة عن سفيان بن فروة الاسلمي عن محمد بن كعب أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، يعني استدلاله بقوله بعد العصمة (2) (فبشرناه باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب) فقال له عمر إن هذا الشئ ما كنت أنظر فيه وإني لاراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه __________ (1) روى الخبر الحاكم في مستدركه (2 / 551) من طريق عبد الله بن محمد العتبي، عن عبد الله بن سعيد عن الصنابحي. قال الذهبي في الرواية: " قلت اسناده واه ". وعلق عليه ابن كثير في التفسير: هذا حديث غريب جدا. (2) " بعد العصمة " في النسخ المطبوعة وهو تحريف والصواب: بعد ذكر القصة. [ * ] (1/184) وكان يرى أنه من علمائهم قال فسأله عمر بن عبد العزيز أي ابني ابراهيم أمر بذبحه فقال اسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن اليهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل والذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحق لان إسحق أبوهم * وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة. مولد اسحاق قال الله تعالى (وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى اسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) [ الصافات: 112 - 113 ] * وقد كانت البشارة به من الملائكة لابراهيم وسارة لما مروا بهم مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم كما سيأتي بيانه في موضعه ان شاء الله تعالى قال الله تعالى (ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ. فلما رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب. قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) [ هود: 69 - 73 ] وقال تعالى (ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون. قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم. قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [ الحجر: 51 - 56 ]. وقال تعالى (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون. فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم. فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم. قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم) [ الذاريات: 24 - 30 ]. يذكر تعالى أن الملائكة قالوا وكانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل لما وردوا على الخليل حسبهم أضيافا فعاملهم معاملة الضيوف شوى لهم عجلا سمينا من خيار بقره فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الاكل بالكلية، وذلك لان الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام (فنكرهم) ابراهيم (وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) [ هود: 70 ] أي لندمر عليهم فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا لله عليهم وكانت قائمة على رؤس الاضياف كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم فلما ضحكت استبشارا بذلك قال الله تعالى (1/185) (فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب) أي بشرتها الملائكة بذلك (فأقبلت امرأته في صرة) أي في صرخة (فصكت وجهها) [ الذاريات: 29 ] أي كما يفعل النساء عند التعجب (وقالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا) [ هود: 72 ] أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضا وهذا بعلي - أي زوجي - شيخا تعجبت من وجود ولد والحالة هذه. ولهذا قالت (إن هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) [ هود: 72 - 73 ] وكذلك تعجب ابراهيم عليه السلام استبشارا بهذه البشارة وتثبيتا لها وفرحا بها (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين) [ الحجر: 55 54 ] أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه فبشروهما (بغلام عليم) [ الحجر: 53 ]. وهو اسحق وأخوه اسماعيل غلام حليم مناسب لمقامه وصبره وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر. وقال في الآية الاخرى (فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب) وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو اسماعيل وأن اسحق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده. وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ، وهو المشوي (1)، رغيفا من مكة فيه ثلاثة أكيال وسمن ولبن. وعندهم أنهم أكلوا، وهذا غلط محض * وقيل كانوا يودون (2) أنهم يأكلون والطعام يتلاشى في الهواء. وعندهم أن الله تعالى قال لابراهيم أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا ولكن اسمها سارة وأبارك عليها وأعطيك منها ابنا وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه، فخر ابراهيم على وجهه - يعني ساجدا - وضحك قائلا في نفسه أبعد مائة سنة (3) يولد لي غلام أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون سنة. وقال ابراهيم لله تعالى ليت إسماعيل يعيش قدامك فقال الله لابراهيم بحقي ان امرأتك سارة تلد لك غلاما وتدعو اسمه إسحق إلى مثل هذا الحين من قابل وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده وقد استجبت لك في اسماعيل وباركت عليه وكبرته ونميته جدا وكثيرا ويولد له أثنا عشر عظيما وأجعله رئيسا لشعب عظيم * وقد تكلمنا على هذا بما تقدم والله أعلم. فقوله تعالى (فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب) دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق ثم من بعده بولد ولده يعقوب أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحق فائدة ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله وقال تعالى (ووهبنا له اسحق ويعقوب كلا هدينا) [ الانعام: 84 ] وقال تعالى (فلما اعتزلهم وما __________ (1) قال الطبري: التحناذ: الانضاج. (2) كذا في النسخ المطبوعة يودون ; وما في قصص ابن كثير يرون وهو مناسب أكثر. (3) في المسعودي: عشرين ومائة سنة وفي الطبري 120 سنة. [ * ] (1/186) يعبدون من دون الله وهبنا له اسحق ويعقوب) [ مريم: 49 ] وهذا ان شاء الله ظاهر قوي ويؤيده ما ثبت في الصحيحين (1) من حديث سليمان بن مهران الاعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع [ في الارض ] (2) أول ؟ قال: " المسجد الحرام " قلت: ثم أي ؟ قال: " المسجد الاقصى ". قلت كم بينهما ؟ قال: " أربعون سنة " قلت: ثم أي ؟ قال: " ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد ". وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الاقصى وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله * وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث فعلى هذا يكون بناء يعقوب وهو اسرائيل عليه السلام بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود اسحق لان إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الاصنام. رب إنهن أضللن كثيرا من الناس من تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون. ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الارض ولا في السماء. الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق إن ربي لسميع الدعاء. رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) [ ابراهيم: 35 - 41 ]. وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا كما ذكرناه عند قوله (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي) [ الحج: 26 - 27 ] وكما سنورده في قصته فالمراد من ذلك والله أعلم أنه جدد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه. بناء البيت العتيق قال الله تعالى (وإذ بوءنا لابراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود. وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) [ الحج: 26 - 27 ] وقال تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا. ولله على الناس حج البيت من __________ (1) في صحيح مسلم (5) كتاب المساجد ح 1 / 520 ص 1 / 370. والبخاري ح رقم 1589. (2) من مسلم. وأول: بضم اللام، وهي ضمة بناء، لقطعه عن الاضافة. مثل قبل وبعد. والتقدير أول كل شئ. [ * ] (1/187) استطاع إليه سببلا. ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) [ آل عمران: 96 - 97 ] وقال تعالى (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن. قال إني جاعلك للناس اماما. قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين. واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير. واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) [ البقرة: 124 - 126 ]. يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله، إمام الحنفاء ووالد الانبياء [ إبراهيم ] عليه أفضل صلاة وتسليم أنه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون الله فيه وبوأه الله مكانه أي ارشده إليه ودله عليه * وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره أنه أرشد إليه بوحي من الله عزوجل. وقد قدمنا في صفة خلق السموات أن الكعبة بحيال البيت المعمور بحيث أنه لو سقط لسقط عليها وكذلك معابد السموات السبع، كما قال بعض السلف إن في كل سماء بيتا يعبد الله فيه أهل كل سماء وهو فيها كالكعبة لاهل الارض فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتا يكون لاهل الارض كتلك المعابد لملائكة السموات وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له المعين لذلك منذ خلق السموات والارض كما ثبت في الصحيحين (1): " أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ". ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام * ومن تمسك في هذا بقوله مكان البيت فليس بناهض ولا ظاهر لان المراد مكانه المقدر في علم الله المقرر في قدرته المعظم عند الانبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم * وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة وأن الملائكة قالوا له: قد طفنا قبلك بهذا البيت وأن السفينة طافت به أربعين (2) يوما أو نحو ذلك ولكن كل هذه الاخبار عن بني اسرائيل * وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها فأما إن ردها الحق فهي مردودة. وقد قال الله (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) [ آل عمران: 96 ] أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى البيت الذي ببكة * قيل مكة وقيل محل الكعبة (فيه آيات بينات) [ آل عمران - 97 ] أي على أنه بناء الخليل والد الانبياء من بعده __________ (1) مسلم في 15 كتاب الحج 81 - 82 تحريم مكة ح 445 / 1353 ص 2 / 986 من طريق مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. والبخاري حديث رقم 710. (2) في الطبري: أسبوعا. وفي تاريخ مكة للازرقي فكالاصل. [ * ] (1/188) وإمام الحنفاء من ولده (1) الذين يقتدون به ويتمسكون بسنته ولهذا قال (مقام إبراهيم) أي الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء كما تقدم في حديث ابن عباس الطويل. وقد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخره عن البيت قليلا لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا فإنه قد وافقه ربه في أشياء منها في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى (2) فأنزل الله (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى) [ البقرة: 135 ] وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الاسلام وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة. وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق لبر في حراء ونازل (3) وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذ اكتنفوه بالضحى والاصائل وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة ولهذا قال تعالى (وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) أي في حال قولهما (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) [ البقرة: 128 ] فهما في غاية الاخلاص والطاعة لله عزوجل وهما يسألان من الله السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) [ البقره: 128 ]. والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع في واد غير ذي زرع ودعا لاهلها بالبركة وأن يرزقوا من الثمرات مع قلة المياه وعدم الاشجار والزروع والثمار، وأن يجعله حرما محرما وآمنا محتما فاستجاب الله وله الحمد له مسألته ولبى دعوته وأتاه طلبته فقال تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) [ العنكبوت: 67 ] وقال تعالى (أو لم نمكن لهم حرمنا آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا) [ القصص: 57 ] وسأل الله أن يبعث فيهم رسولا منهم أي من جنسهم وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية سعادة الاولى والاخرى. وقد استجاب الله له فبعث فيهم رسولا وأي رسول ختم به __________ (1) قال مجاهد في قوله تعالى: (فيه آيات بينات): أثر قدميه في المقام. (2) رواه البخاري في صحيحه: فتح الباري 8 / 128 وأحمد في مسنده وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 / 118 ورواه ابن كثير في تفسيره مطولا. (3) ثور: الجبل الذي فيه الغار، وقال الجوهري: جبل بمكة. [ * ] (1/189) أنبياءه ورسله وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحدا قبله وعم بدعوته أهل الارض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم في سائر الاقطار والامصار والاعصار إلى يوم القيامة. كان هذا من خصائصه من بين سائر الانبياء لشرفه في نفسه وكمال ما أرسل به وشرف بقعته وفصاحة لغته وكمال شفقته على أمته ولطفه ورحمته وكريم محتده (1) وعظيم مولده وطيب مصدره ومورده ولهذا استحق ابراهيم الخليل عليه السلام إذ كان باني الكعبة لاهل الارض أن يكون منصبه ومحله وموضعه في منازل السموات، ورفيع الدرجات، عند البيت المعمور الذي هو كعبة أهل السماء السابعة، المبارك المبرور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه. ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور، وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بناية البيت وما ورد في ذلك من الاخبار والآثار بما فيه كفاية فمن أراده فليراجعه ثم ولله الحمد. فمن ذلك ما قال السدي لما أمر الله إبراهيم واسماعيل أن يبنيا البيت ثم لم يدريا أين مكانه حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الاساس، وذلك حين يقول تعالى (وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت) [ الحج: 26 ] فلما بلغا القواعد بنيا الركن قال ابراهيم لاسماعيل يا بني اطلب لي [ حجرا حسنا أضعه هاهنا وقال: يا أبت إني كسلان تعب. قال: على ذلك فانطلق. وجاءه جبريل بالحجر ] (3) الاسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة (3) وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن. فقال يا أبتي من جاءك بهذا ؟ قال: جاء به من هو أنشط منك فبنيا وهما يدعوان الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) وذكر ابن أبي حاتم أنه بناه من خمسة أجبل (4) وأن ذا القرنين وكان ملك الارض إذ ذاك مر بهما وهما يبنيانه فقال من أمركما بهذا فقال إبراهيم: الله أمرنا به فقال وما يدريني بما تقول فشهدت خمسة أكبش أنه أمره بذلك فآمن وصدق. وذكر الازرقي أنه طاف مع الخليل بالبيت (5). وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة ثم بعد ذلك بنتها قريش فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال مما يلي الشام على ما هي عليه __________ (1) محتده: أصله ونسبه. (2) ما بين معكوفين سقطت من النسخ المطبوعة، واستدركناها - كما يقتضي السياق - من قصص الانبياء لابن كثير وفي رواية الازرقي: أن إسماعيل ذهب يطوف في الجبال..وفي رواية أخرى: ان إسماعيل اتاه بحجر فلم يرضه إبراهيم فجاءه جبريل بهذا الحجر. وعن عبد الله بن عمرو أن جبريل جاء بالحجر من الجنة. (3) في الاصول النعامة وهو تحريف والصواب الثغامة: وهو نبات أبيض. (4) في تاريخ مكة: قال قتادة ذكر لنا انه بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا ولبنان والجودي وحرا. 1 / 63. (5) تاريخ مكة 1 / 74. [ * ] (1/190) اليوم * وفي الصحيحين من حديث مالك عن ابن شهاب عن سالم أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر بن عمر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال " ألم تري إلى قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد ابراهيم " فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد ابراهيم ؟ فقال: " لولا حدثان قومك " وفي رواية: " لولا أن قومك حديث (1) عهد بجاهلية " - أو قال بكفر - لانفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالارض ولادخلت فيها الحجر " (2) * وقد بناها ابن الزبير رحمه الله في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما أخبرته خالته عائشة أم المؤمنين عنه فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه فأمر بردها إلى ما كانت عليه فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر ثم سدوا الحائط وردموا الاحجار في جوف الكعبة فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية كما هو مشاهد إلى اليوم ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين، ندموا على ما فعلوا، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك * ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور، استشار الامام مالك بن أنس، في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له: إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة - يعني كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد - فاستقر الامر على ما هي عليه اليوم. ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله ابراهيم قال الله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما. قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [ البقرة: 124 ]. ولما وفى ما أمره ربه به من التكاليف العظيمة جعله للناس إماما يقتدون به ويأتمون بهديه وسأل الله أن يكون هذه الامامة متصلة بسببه وباقية في نسبه وخالدة في عقبه فأجيب إلى ما سأل ورام. وسلمت إليه الامامة بزمام واستثني من نيلها الظالمون واختص بها من ذريته العلماء العاملون. كما قال تعالى (ووهبنا له اسحق ويعقوب. وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب. وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [ العنكبوت: 27 ] * وقال تعالى (ووهبنا له اسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين. واسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين. ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط __________ (1) في البخاري: حديثو. (2) أخرجه البخاري في 25 / 42 / 1573 فتح الباري وبرواية أخرى في 60 / 10 / 3368 فتح الباري ورواه مسلم في صحيحه 15 / 69 / 1333 ورواه النسائي وأبو داود والترمذي ومالك في الموطأ وأحمد في مسنده 6 / 113 - 177 - 247. [ * ] (1/191) مستقيم) [ الانعام: 84 - 87 ] فالضمير في قوله ومن ذريته عائد على إبراهيم على المشهور. ولوط وإن كان ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليبا. وهذا هو الحامل للقائل الآخر إن الضمير على نوح كما قدمنا في قصته والله أعلم. وقال تعالى (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) [ الحديد: 26 ] الآية. فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الانبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته. وهذه خلعة سنية لا تضاهي ومرتبة عليه لا تباهى. وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان اسمعيل من هاجر ثم إسحق من سارة وولد لهذا يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني اسرائيل وأما اسمعيل عليه السلام فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى ولم يوجد من سلالته من الانبياء سوى خاتمهم على الاطلاق وسيدهم وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني صلوات الله وسلامه عليه فلم يوجد من هذا الفرع الشريف والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة والدرة الزاهرة وواسطه العقد الفاخرة وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع ويغبطه الاولون والآخرون يوم القيامة. وقد ثبت عنه في صحيح مسلم كما سنورده أنه قال: " سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق كلهم حتى ابراهيم " (1) فمدح ابراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق. وقال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: " أن أباكما كان يعوذ بهما اسمعيل وإسحق. أعوذ بكلمات الله التامة. من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ". ورواه أهل السنن (1) من حديث منصور به وقال تعالى (وإذ قال ابراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ثم ادعهن يأتينك سعيا. وأعلم أن الله عزيز حكيم) [ البقرة: 260 ] ذكر المفسرون لهذا السؤال اسبابا بسطناها في التفسير (2). وقررناها بأتم تقرير * والحاصل أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور واختلفوا في تعينها على أقوال (3) والمقصود __________ (1) رواه البخاري في صحيحه 60 / 337110 فتح الباري ; وفي كتاب خلق أفعال العباد بروايات متعددة ; وأحمد في مسنده (2 / 181 - 290 - 375، 5 / 430، 6 / 6) ورواه الترمذي وأبو داود والدارمي ومالك في الموطأ. (2) راجع تفسير ابن كثير الجزء الاول. تفسير سورة البقرة. (3) قال ابن إسحاق هي: الديك والطاووس والحمام والغراب وقال ابن عباس: الكركي والنسر بدل الحمام والغراب. [ * ] (1/192) حاصل على كل تقدير فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن ويخلط ذلك بعضه في بعض ثم يقسمه قسما ويجعل على كل جبل منهن جزأ ففعل ما أمر به ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه وكل ريشة تأتي إلى أختها حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشئ كن فيكون فآتين إليه سعيا ليكون أبين له وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيرانا * ويقال إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فيلقي رأسه فيتركب على جثته كما كان فلا إله إلا الله، وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علما يقينا لا يحتمل النقيض، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عيانا ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه غاية مأموله * وقال تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده أفلا تعقلون. ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم. فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [ ال عمران: 65 - 68 ] ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم فبرأه الله منهم وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله ((وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده) أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة ولهذا قال (أفلا تعقلون) إلى أن قال (ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين). فبين أنه كان على دين الله الحنيف وهو القصد إلى الاخلاص، والانحراف وعمدا عن الباطل، إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية. كما قال تعالى (ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي. قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسمعيل واسحق إلها واحدا __________ (1) اختلف الناس في سؤال إبراهيم ربه (وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى. ) هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا ؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة ; وقال الحسن: سأله ليزداد يقينا إلى يقينه. والشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لاحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن إبراهيم ; والمتأمل سؤاله وسائر الفاظ الآية ; فالاستفهام بكيف إنما هو عن حالة شئ موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، فإنما السؤال عن حال من أحواله. وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الاحياء، والاحياء متقرر. قال الرازي: انه إنما سأل ذلك لقومه، والمقصود أن يشاهده فيزول الانكار عن قلوبهم. (التفسير الكبير للرازي - القرطبي أحكام القرطبي في تفسير سورة البقرة). [ * ] (1/193) ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد أهتدوا وان تولوا فانما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون. قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون. أم يقولون إن ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) [ البقرة: 130 - 140 ]. فنزه الله عزوجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهوديا أو نصرانيا وبين أنه إنما كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين ولهذا قال تعالى (إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه) [ آل عمران: 68 ]. يعني الذين كانوا على ملته من اتباعه في زمانه ومن تمسك بدينه من بعدهم (وهذا النبي) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل وكمله الله تعالى له وأعطاه ما لم يعط نبيا ولا رسولا قبله. كما قال تعالى (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) [ الانعام: 161 - 163 ] وقال تعالى (إن ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين. شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [ النحل: 120 - 123 ]. وقال البخاري حدثنا ابراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسمعيل بإيديهما الازلام فقال قاتلهم الله والله إن (1) يستقسما بالازلام قط (2) لم يخرجه مسلم * وفي بعض ألفاظ البخاري قاتلهم الله لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط (3). فقوله (أمة) أي قدوة إماما مهتديا داعيا إلى الخير يقتدى به فيه (قانتا لله) أي خاشعا له في جميع حالاته وحركاته وسكناته (حنيفا) أي مخلصا على بصيرة (ولم يك من المشركين. شاكرا __________ (1) أي لم يستقسما بالازلام قط، وإن هنا نافية. (2) أخرجه البخاري في صحيحه 60 / 8 / 3352 فتح الباري، وأخرجه أبو داود في سننه (1 / 467 حلبي) وفيه: ما استقسما بها قط. وأخرجه أحمد في مسنده 1 / 334 - 365. (3) في الصحيح 25 / 54 / 1601 فتح الباري عن ابن عباس وفيه: لم يستقسما بها قط. [ * ] (1/194) لانعمه) أي قائما بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله (اجتباه) أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليلا وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة وقال تعالى (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا) [ النساء: 125 ]. يرغب تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام لانه كان على الدين القويم والصراط المستقيم. وقد قام بجميع ما أمره به ربه، ومدحه تعالى بذلك فقال (وابراهيم الذي وفى) [ النجم - 27 ] ولهذا اتخذه الله خليلا والخلة هي غاية المحبة كما قال بعضهم. قد تخللت مسلك الروح مني * وبذا سمي الخليل خليلا وهكذا نال هذه المنزلة (1) خاتم الانبياء وسيد الرسل (2) محمد صلوات الله وسلامه عليه كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جندب البجلي وعبد الله بن عمرو وابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيها الناس إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ". وقال أيضا في آخر خطبة خطبها: " أيها الناس لو كنت متخذا من أهل الارض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله " (3). أخرجاه من حديث أبي سعيد وثبت أيضا من حديث عبد الله بن الزبير وابن عباس وابن مسعود. وروى البخاري في صحيحه حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن عمرو بن ميمون قال إن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ: واتخذ الله إبراهيم خليلا. فقال رجل من القوم لقد قرت عين أم إبراهيم * وقال ابن مردويه حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا اسمعيل بن أحمد ابن أسيد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة ابن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله * وقال آخر ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما. وقال آخر فعيسى روح الله وكلمته. وقال آخر آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلم وقال: " قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى كليمه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وإني حبيب الله ولا فخر ألا وإني أول شافع وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة باب الجنة فيفتحه الله فيدخلنيها ومعي __________ (1) وفي نسخة: المرتبة. (2) وفي نسخة: المرسلين. (3) أخرجه البخاري في 63 / 45 / 1904 فتح الباري و 62 / 5 / 3656 في رواية طويلة والدارمي في سننه، وابن ماجة في سننه مقدمه 11 / 93، وأحمد في مسنده 1 / 270 - 359، 3 / 18 - 478، 4 / 4 - 5، 5 / 212. وأخرجه الترمذي ومسلم في 44 / 1 / 2 / 7. [ * ] (1/195) فقراء المؤمنين وأنا أكرم الاولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " * هذا حديث غريب من هذا الوجه وله شواهد من وجوه أخر والله أعلم (1) * وروى الحاكم في مستدركه من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال أتنكرون أن تكون الخلة لابراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين * وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد المسلمي، حدثنا الوليد، عن اسحاق بن بشار (2) قال: لما اتخذ الله ابراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل حتى أن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد، كما يسمع خفقان الطير في الهواء، وقال عبيد بن عمير كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه فلم يجد احدا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني قال دخلتها بأذن ربها * قال: ومن أنت ؟ قال: أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره بان الله قد اتخذه خليلا قال: من هو فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت، قال: ذلك العبد أنت ! قال: أنا، قال: نعم قال: فبم اتخذني ربي خليلا قال بأنك تعطي الناس ولا تسألهم. رواه ابن أبي حاتم * وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا في غير ما موضع بالثناء عليه والمدح له فقيل إنه مذكور في خمسة وثلاثين (3) موضعا منها خمسة عشر في البقرة وحدها وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا من بين سائر الانبياء في آيتي الاحزاب والشورى وهما قوله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) [ الاحزاب: 7 ] وقوله (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه) [ الشورى: 13 ] الآية. ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة مسندا ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم. وما وقع في حديث شريك ابن أبي نمير عن أنس في حديث الاسراء من أن ابراهيم في السادسة وموسى في السابعة فمما انتقد على شريك في هذا الحديث والصحيح الاول. __________ (1) أخرج القسم الاخير منه البيهقي بروايات مختلفة راجع دلائل النبوة ج 5 / 478 وما بعدها. (2) بشار تحريف والصواب يسار. (3) ذكر اسم إبراهيم في القرآن في: البقرة: 124 - 125 - 126 - 127 - 130 - 132 - 133 - 135 - 136 - 140 - 258 - 260، وآل عمران: 33 - 35 - 67 - 68 - 84 - 95 - 97، النساء: 54 - 125 - 163، الانعام: 74 - 75 - 83 - 151، التوبة: 70 - 114، هود: 69 - 74 - 75 - 83 - 151، يوسف: 6 - 38، ابراهيم: 36، الحجر: 51، النحل: 120 - 123 -، مريم: 41 - 46 - 58، الانبياء: 51 - 60 - 62 - 69. الحج: 26 - 43 - 78. الشعراء: 69، العنكبوت: 16 - 31، الاحزاب: 7، الصافات: 83 - 104 - 109 ص: 45، الشورى: 13، الزخرف: 26، الذاريات: 24، النجم: 37، الحديد: 26، الممتحنة: 4، الاعلى: 19. [ * ] (1/196) وقال أحمد: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سملة، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم خليل الرحمن ". تفرد به احمد (1). ثم مما يدل على أن إبراهيم أفضل من موسى الحديث الذي قال فيه: " وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم " رواه مسلم (2) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " ثم ذكر إستشفاع الناس بآدم ثم بنوح ثم ابراهيم ثم موسى ثم عيسى فكلهم يحيد عنها حتى يأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها أنا لها " الحديث. قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الله، حدثني سعيد (3) عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله من أكرم (4) الناس ؟ قال: " أتقاهم ". قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: " فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله بن خليل الله ". قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: " فعن معادن (5) العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا " (6) وهكذا رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طريق عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به * ثم قال البخاري قال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما وحديث عبدة ابن سليمان والنسائي من حديث محمد بن بشر أربعتهم عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أحمد حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق ابن ابراهيم خليل الله ". تفرد به أحمد * وقال البخاري حدثنا عبدة حدثنا عبد الصمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكريم ابن الكريم __________ (1) مسند أحمد ج 2 / 322. وأخرج بنحوه البخاري 6 / 19 / 3290 وأحمد من رواية ابن عمر 2 / 96. (2) أخرجه مسلم في 6 / 48 / 273 من حديث طويل ج 1 / 561 - 562. وأخرجه أحمد في مسنده ج 5 / 127 - 129. (3) في البخاري:. حدثنا عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، وعبيدالله هو - بن سعيد. (4) أكرم الناس: قال العلماء: أصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم مكارم الاخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبيا ابن ثلاثة أنبياء متناسلين ; وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه وسياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة. (5) معادن العرب: أصولها. (6) أخرجه البخاري في كتاب المناقب (60) - باب 14 ح 3374. ومسلم في 43 / كتاب الفضائل - 43 باب ح 168 / 2378 ص 4 / 1846. [ * ] (1/197) ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب ابن اسحق بن ابراهيم ". تفرد به من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن ابن عمر به * فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس حفاة عراة غرلا فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام " (1) ثم قرأ (كما بدأنا أول خلق نعيده) [ الانبياء: 104 ] فأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وهذه الفضيلة المعينة لا تقتضي الافضلية بالنسبة إلى ما قابلها مما ثبت لصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الاولون والاخرون * وأما الحديث الآخر الذي قال الامام أحمد حدثنا وكيع وأبو نعيم حدثنا سفيان هو الثوري عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا خير البرية فقال: " ذاك ابراهيم " (2) فقد رواه مسلم من حديث الثوري وعبد الله بن إدريس وعلي بن مسهر ومحمد بن فضيل أربعتهم عن المختار بن فلفل * وقال الترمذي حسن صحيح * وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام كما قال: " لا تفضلوني على الانبياء " وقال: " لا تفضلوني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلى أم جوزي بصعقة الطور ؟ " * وهذا كله لا ينافي في ما ثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه من أنه سيد ولد آدم يوم القيامة وكذلك حديث أبي بن كعب في صحيح مسلم (3) وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى ابراهيم ". ولما كان ابراهيم عليه السلام أفضل الرسل وأولي العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أمر المصلي أن يقول في تشهده ما ثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة وغيره قال: قلنا يارسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك " قال قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد " وقال تعالى (وإبراهيم الذي وفى) [ النجم: 37 ] قالوا وفي جميع ما أمر به وقام بجميع خصال الايمان وشعبه وكان لا يشغله مراعاة الامر الجليل عن القيام بمصلحة الامر القليل ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار. قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن) [ البقرة: 124 ] __________ (1) أخرجه البخاري في 60 كتاب المناقب باب (8) ح 3349 فتح الباري وأخرجه مسلم في صحيحه 51 / 14 / 58 ورواه الترمذي في سننه وأحمد في مسنده ج 5 / 3 والنسائي في سننه وأبو داود الطيالسي. (2) أخرجه مسلم في 43 كتاب الفضائل 41 / 150 وأبو داود في سننه وأحمد في مسنده ج 3 / 178 - 184. (3) تقدم التعليق فليراجع في موضعه. (4) مسلم في 4 كتاب الصلاة 17 باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 66 / 406 ص 1 / 305 والحديث في البخاري رقم 1591. [ * ] (1/198) قال إبتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد. في الرأس قص الشارب والمضمضة والسواك والاستنشاق وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الاظفار وحلق العانة والختان ونتف الابط وغسل أثر الغائط والبول بالماء. رواه ابن أبي حاتم * وقال وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك قلت: وفي الصحيحين (1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: " الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الابط " وفي صحيح مسلم (2) وأهل السنن من حديث وكيع عن ذكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي عن طلق بن حبيب العتري عن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عشر من الفطرة قص الشارب واعفاء اللحية والسواك وإستنشاق الماء وقص الاظفار وغسل البراجم (3) ونتف الابط وحلق العانة وإنتقاص الماء " - يعني الاستنجاء - وسيأتي في ذكر مقدار عمره الكلام على الختان * والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالاخلاص لله عزوجل وخشوع العبادة العظيمة عن مراعاة مصلحة بدنه وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الاصلاح والتحسين وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر أو وجود قلح (4) أو وسخ فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم (وإبراهيم الذي وفى). قصره في الجنة قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي، ومحمد بن موسى القطان، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة قصرا أحسبه قال من لؤلؤة ليس فيه فصم ولا وهي أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلا ". قال البزار وحدثناه أحمد بن جميل المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن حماد بن سلمة فأسنده إلا يزيد بن هارون والنضر بن شميل، وغيرهما يرويه موقوفا. قلت: لولا هذه العلة لكان على شرط الصحيح. ولم يخرجوه. __________ (1) مسلم في صحيحه 2 كتاب الطهارة 16 باب خصال الفطرة ح 50 ص 1 / 222. وفي البخاري ح رقم 2291 ورواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ومالك في الموطأ وأحمد في مسنده. (2) في 2 كتاب الطهارة 16 باب خصال الفطرة حديث 56 / 261 ص 1 / 223. (3) البراجم: جمع برجمة وهي عقد الاصابع ومفاصلها كلها. (4) قلح: صفرة الاسنان وسوادها. [ * ] (1/199) صفة ابراهيم عليه السلام قال الامام أحمد حدثنا يونس وحجين قالا: حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عرض علي الانبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود، ورأيت ابراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية. تفرد به الامام أحمد من هذا الوجه وبهذا اللفظ (1) * وقال أحمد حدثنا أسود بن عامر، حدثنا اسرائيل، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت عيسى ابن مريم وموسى وابراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر - وأما موسى فآدم جسيم ". قالوا له فابراهيم ؟ قال: " انظروا إلى صاحبكم " يعني نفسه * وقال البخاري حدثنا بنان (2) بن عمرو، حدثنا النضر، أنبأنا ابن عون، عن مجاهد، أنه سمع ابن عباس وذكروا له الدجال بين عينيه كافرا و (ك ف ر) فقال لم اسمعه ولكنه قال صلى الله عليه وسلم: " أما ابراهيم فانظروا إلى صاحبكم وأما موسى فجعد آدم على جمل احمر مخطوم بخلبه كأني انظر إليه انحدر في الوادي ". ورواه البخاري أيضا ومسلم عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي عن عبد الله بن عون به * وهكذا رواه البخاري أيضا في كتاب الحج وفي اللباس ومسلم جميعا عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي عن عبد الله بن عون به. وفاة ابراهيم وما قيل في عمره ذكر ابن جرير في تاريخه أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان وهو فيما قيل الضحاك الملك المشهور الذي يقال انه ملك ألف سنة وكان في غاية الغشم والظلم * وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام وأنه كان إذ ذاك ملك الدنيا. وذكروا أن طلع نجم اخفى ضوء الشمس والقمر فهال ذلك أهل ذلك الزمان وفزع النمرود. فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك فقالوا يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه. فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء وأن يقتل المولودون من ذلك الحين فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين فحماه الله عزوجل وصانه من كيد الفجار وشب شبابا باهرا وانبته الله نباتا حسنا حتى كان من أمره ما تقدم وكان مولده بالسوس وقيل ببابل وقيل بالسواد من ناحية كوثى (3) وتقدم عن ابن عباس أنه __________ (1) أخرجه أحمد في مسنده ج 3 / 324 ومسلم في صحيحه 1 / 74 / 271 وفيه زيادة: ورأيت جبرائيل عليه السلام فإذا أقرب ما رأيت به شبها دحية. وقبله..رأيت إبراهيم..شبها بصاحبكم (يعني نفسه). (2) في البخاري: بيان بن عمرو. (3) تقدم التعليق فليراجع في موضعه. [ * ] (1/200) ولد ببرزة شرقي دمشق فلما أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران ثم إلى أرض الشام وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا وولد له إسماعيل واسحق وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة فيما ذكر أهل الكتاب فحزن عليها ابراهيم عليه السلام ورثاها رحمها الله واشترى من رجل من بني حيث يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال ودفن فيها سارة هنالك قالوا ثم خطب إبراهيم على ابنه اسحق فزوجه رفقا بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح وبعث مولاه فحملها من بلادها ومعها مرضعتها وجوارها على الابل قالوا ثم تزوج ابراهيم عليه السلام قنطورا (1) فولدت له زمران ويقشان ومادان ومدين وشياق وشوح (2). وذكروا ما ولد كل واحد من هؤلاء أولاد قنطورا. وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيئ ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة الله أعلم بصحتها * وقد قيل إنه مات فجأة وكذا داود وسليمان والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك. قالوا ثم مرض إبراهيم عليه السلام ومات عن مائة وخمس وسبعين * وقيل وتسعين سنة ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي عند إمرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي وتولى دفنه اسمعيل واسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين * وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي. (3) سنة كما قاله ابن الكلبي وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة حدثنا علي بن زياد اللخمي حدثنا أبو قرة عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اختتن ابراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة " (4) وقد رواه الحافظ بن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون العمري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن أبي هريرة موقوفا. ثم قال ابن حبان ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد نيست (5) حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة واختتن بقدوم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتت عليه ثمانون سنة. ثم روى ابن حبان عن __________ (1) قطورا بنت يقطن من الكنعانيين ابن الاثير في الكامل والطبري في تاريخه. وقيل تزوج بعدها حجورا بنت أهير. (2) ذكر المسعودي 1 / 43 الاسماء كالتالي: مرق - نفس - مدن - مدين - سنان وسرح. وفي الطبري: يقسان، زمران مديان، يسبق، سوح، بسر. (3) في الكامل وتاريخ الطبري: مائتي سنة - وعند المسعودي: مائة وخمس وتسعين. (4) رواه ابن عساكر في تاريخه ج 2 / 149 تهذيب. (5) هكذا في الاصول ; ولم أجد فيما لدي من مراجع من تسمى من الرجال بهذا الاسم، وقد ورد محمد بن عبد الله بن نمير ممن روى عن قتيبة ولم يعرف غيره. [ * ] (1/201) عبد الرزاق أنه قال القدوم اسم القرية. قلت الذي في الصحيح أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة * وفي رواية وهو ابن ثمانين سنة وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك والله أعلم * وقال محمد بن اسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: كان إبراهيم أول من تسرول وأول من فرق وأول من استحد وأول من اختتن بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وأول من قرى الضيف، وأول من شاب. هكذا رواه موقوفا وهو أشبه بالمرفوع خلافا لابن حبان والله أعلم. وقال مالك (1) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال كان إبراهيم أول من أضاف (2) الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه (3) وأول الناس رأى الشيب، فقال يا رب ما هذا ؟ فقال الله [ تبارك وتعالى ] " وقار [ يا ابراهيم ] " فقال يا رب زدني وقارا. وزاد غيرهما وأول من قص شاربه وأول من استحد وأول من لبس السراويل * فقبره وقبر ولده اسحق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد " حبرون " وهو البلد المعروف بالخليل اليوم وهذا تلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيل بعد جيل من زمن بني اسرائيل وإلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا. فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم فينبغي أن تراعي تلك المحلة وأن تحترم احترام مثلها وأن تبجل وأن تجل أن يداس في أرجائها خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الانبياء عليهم السلام تحتها * وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه قال وجد عند قبر ابراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة. الهي جهولا أمله * يموت من جا أجله ومن دنا من حتفه * لم تغن عنه حيله وكيف يبقى آخر * من مات عنه أوله والمرء لا يصحبه * في القبر إلا عمله ذكر أولاد إبراهيم الخليل أول من ولد له: اسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحق من سارة بنت عم الخليل، ثم تزوج بعدها " قنطورا " بنت يقطن الكنعانية فولدت له ستة مدين وزمران وسرج ويقشان ونشق ولم يسم السادس ثم تزوج بعدها " حجون " بنت أمين (4) فولدت له خمسة كيسان __________ (1) أخرجه مالك في الموطأ - باب ما جاء في السنة في الفطرة ح 1667 / ص 510. (2) عند مالك: أول الناس ضيف الضيف. (3) عند مالك: الشارب. (4) في الكامل لابن الاثير: حجون بنت أهير. [ * ] (1/202) وسورج واميم ولوطان ونافس * وهكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه " التعريف والاعلام ". ومما وقع في حياة ابراهيم خليل من الامور العظيمة، قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة الغميمة (1) وذلك أن لوطا بن هاران بن تارح وهو آزر كما تقدم ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل فإبراهيم وهاران وناحور اخوة كما قدمنا ويقال إن هاران هذا هو الذي بنى حران * وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب والله أعلم * وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وأذنه فنزل بمدينة سدوم من أرض غور زغر وكأن أم تلك المحلة ولها أرض ومعتملات وقرى مضافة إليها ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم واسوأهم طوية وأرداهم سريرة وسيرة يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم وهي إتيان الذكران من العالمين وترك من خلق الله من النسوان لعباده الصالحين فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش المنكرات والافاعيل المستقبحات فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم واستمروا على فجورهم وكفرانهم فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم وجعلهم مثلة في العالمين وعبرة يتعظ بها الالباء من العالمين ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع من كتابه المبين فقال تعالى في سورة الاعراف (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين. أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون. وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) [ الاعراف: 80 - 84 ]. وقال تعالى في سورة هود (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ. فلما رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحق ومن وراء اسحاق يعقوب. قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد. فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى تجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب. يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك. وإنهم آتاهم عذاب غير مردود. ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب. وجاءه قومه يهرعون إليه. ومن قبل كانوا يعملون السيئات. قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد. قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد. قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن __________ (1) وفي نسخة العميمة ; أي الشاملة. [ * ] (1/203) شديد. قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد الا إمرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب. فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) [ هود: 69 - 83 ]. وقال تعالى في سورة الحجر (ونبئهم عن ضيف ابراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قال لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. الا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين. فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون. قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وآتيناك بالحق وإنا لصادقون. فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين. وجاء أهل المدينة يستبشرون. قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون. واتقوا الله ولا تخزون. قالوا أولم ننهك عن العالمين. قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون. فأخذتهم الصيحة مشرقين. فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل. إن في ذلك لآيات للمتوسمين وانها لبسبيل مقيم. إن في ذلك لآية للمؤمنين) [ الحجر: 51 - 77 ]. وقال تعالى في سورة الشعراء (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون * قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين * قال إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون * فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 160 - 175 ]. وقال تعالي في سورة النمل (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون. أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) [ النمل: 54 - 58 ]. وقال تعالي في سورة العنكبوت (ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب (1/204) الله إن كنت من الصادقين. قال رب انصرني على القوم المفسدين * ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية * إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين * ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن انا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون) [ العنكبوت: 28 - 35 ] وقال تعالى في سورة الصافات (وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين. الا عجوزا في الغابرين * ثم دمرنا الآخرين * إنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون) [ الصافات: 133 - 137 ] وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم (قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين * فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين. وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم) [ الذاريات: 31 - 38 ]. وقال في سورة الانشقاق (كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر. نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر * ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر * ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر *) [ القمر: 33 - 40 ]. وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير * وقد ذكر الله لوطا وقومه في مواضع أخر من القرآن تقدم ذكرها (1) مع قوم نوح وعاد وثمود * والمقصود الآن ايراد ما كان من أمرهم وما أحل الله بهم مجموعا من الآيات والآثار وبالله المستعان * وذلك أن لوطا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش فلم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به حتى ولا رجل واحد منهم ولم يتركوا ما عنه نهوا بل استمروا على حالهم ولم يرتدعو (2) عن غيهم وضلالهم وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم [ واستضعفوه وكثروا منه ] (3) وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا (أخرجوا آل لوط من قريتكم انهم أناس يتطهرون) [ النمل: 56 ] فجعلوا غاية المدح ذما يقتضي الاخراج وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج. فطهره الله وأهله إلا امرأته وأخرجهم منها أحسن اخراج وتركهم في محلتهم خالدين لكن بعدما صيرها عليهم بحرة منتنة ذات أمواج لكنها عليهم في __________ (1) غير ما تقدم ذكر اسم لوط في: الانعام 86، الانبياء: 71 - 74، الحج: 43، الصافات: 133 ص: 13، ق: 12، التحريم: 10. (2) وفي نسخة: ولم يرعووا. (3) سقطت من النسخ المطبوعة. [ * ] (1/205) الحقيقة نار تأجج وحر يتوهج وماؤها ملح أجاج. وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن [ ارتكاب ] (1) الطامة العظمى والفاحشة الكبرى التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا (2) * ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق ويخونون الرقيق ويأتون في ناديهم وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم المنكر من الاقوال والافعال على اختلاف أصنافه حتى قيل إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ولا يستحيون من مجالسهم وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ ولا نصيحة من عاقل وكانوا في ذلك وغيره كالانعام بل أضل سبيلا ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر ولا ندموا على ما سلف من الماضي ولا راموا في المستقبل تحويلا فأخذهم الله أخذا وبيلا وقالوا له فيما قالوا (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) [ العنكبوت: 29 ] فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الاليم وحلول البأس العظيم فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم فسأل من رب العالمين وإله المرسلين أن ينصره على القوم المفسدين فغار الله لغيرته وغضب لغضبته واستجاب لدعوته وأجابه إلى طلبته وبعث رسله الكرام وملائكته العظام فمروا على الخليل ابراهيم وبشروه بالغلام العليم وأخبروه بما جاؤوا له من الامر الجسيم والخطب العميم (قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا انا ارسلنا إلى قوم مجرمين. لنرسل عليهم حجارة من طين. مسومة عند ربك للمسرفين) [ الذاريات: 31 - 34 ] وقال (ولما جائت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين. قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين) [ العنكبوت: 31 - 34 ] وقال الله تعالى (فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) [ هود: 74 ]. وذلك إنه كان يرجو أن ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا. ولهذا قال تعالى (إن ابراهيم لحليم أواه منيب. يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) [ هود: 75 ] أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم، إنه قد جاء أمر ربك أي قد أمر به، من لا يرد أمره، ولا يرد بأسه، ولا معقب لحكمه، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود. وذكر سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن اسحاق أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: * (أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا لا قال فمائتا مؤمن قالوا لا قال فأربعون مؤمنا قالوا لا قال فأربعة عشر مؤمنا قالوا لا) قال ابن اسحق إلى أن قال (أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا لا قالوا إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها) الآية وعند أهل الكتاب أنه قال: يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا فقال الله لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا ثم تنازل إلى __________ (1) سقطت من النسخ المطبوعة. (2) في نسخة: من العالمين. [ * ] (1/206) عشرة فقال الله (لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون) قال الله تعالى (وقال ولما جاءت رسلنا لوطا سيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب) قال المفسرون لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم في صور شبان حسان اختبارا من الله تعالى لقوم لوط وإقامة للحجة عليهم فاستضافوا لوطا عليه السلام وذلك عند غروب الشمس فخشي إن لم يضفهم يضيفهم غيره وحسبهم بشرا من الناس وسيئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن اسحق شديد بلاؤه وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم كما كان يصنع بهم في غيرهم وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحدا ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه * وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له يعمل فيها فتضيفوا فاستحيى منهم وانطلق أمامهم وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية وينزلوا في غيرها فقال لهم: فيما قال [ والله ] (1) يا هؤلاء ما أعلم على وجه الارض أهل بلد أخبث من هؤلاء ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حيت كرره أربع مرات قال وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك. وقال السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قوم لوط فأتوها نصف النهار فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لاهلها وكانت له ابنتان اسم الكبرى ريثا والصغرى ذعرتا فقالوا لها يا جارية هل من منزل فقالت لهم مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم فرقت (2) عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أرادك (3) فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم لا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أهل البيت فخرجت امرأته فأخبرت قومها فقالت إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط فجاءه قومه يهرعون إليه. وقوله (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) [ هود: 77 ] أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة (قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) [ هود: 78 ] يرشدهم إلى غشيان نسائهم وهن بناته شرعا لان النبي للامة بمنزلة الوالد كما ورد في الحديث وكما قال تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) [ الاخزاب: 6 ] وفي قول بعض الصحابة والسلف وهو أب لهم. وهذا كقوله (أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) [ الشعراء: 165 - 166 ] وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن اسحق __________ (1) سقطت من النسخ المطبوعة. (2) وفي نسخة: شفقة عليهم ; وفي الكامل: خافت عليهم. (3) في الكامل: أدرك. [ * ] (1/207) وهو الصواب. والقول الاخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم إن الملائكة كانوا إثنين وانهم تعشوا عنده وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما وقوله (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) [ هود: 78 ] نهي لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة ولا فيه خير بل الجميع سفهاء. فجرة أقوياء. كفرة أغبياء. وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوا منه من قبل أن يسألوه عنه. فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد. مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الامر السديد (لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما تريد) [ هود: 79 ] يقولون عليهم لعائن الله لقد علمت يالوط إنه لا أرب لنا في نسائنا وانك لتعلم مرادنا وغرضنا [ من غير النساء ] (1). واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم ولم يخافوا سطوة العظيم. ذي العذاب الاليم. ولهذا قال عليه السلام (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) [ هود: 80 ] ود أن لو كان له بهم قوة أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب على هذا الخطاب. وقد قال الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا: " نحن أحق بالشك من ابراهيم، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لاجبت الداعي " (2) ورواه أبو الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة * وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد (يعني الله عزوجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه " (3). وقال تعالى (وجاء أهل المدينة يستبشرون قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون. واتقوا الله ولا تخزون. قالوا أو لم ننهك عن العالمين. قال هؤلاء بناتي ان كنتم فاعلين) [ الحجر: 67 - 71 ] فأمرهم بقربان نسائهم وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيآتهم هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون بل كلما لهم (4) يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون. ولم يعلموا ما حم به القدر مما هم إليه صائرون. وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) [ الحجر: 72 ] وقال تعالى (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر. ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) [ القمر - 36 - 38 ] ذكر المفسرون وغيرهم أن نبي الله لوطا عليه السلام جعل __________ (1) سقطت من النسخ المطبوعة. (2) أخرجه البخاري في صحيحه 60 كتاب المناقب باب 11 ح 3372 فتح الباري وروى ابن ماجة نحوه ورواه أحمد في مسنده 2 / 326 - 332 - 350. (3) انظر الدر المنثور ج 2 / 185. (4) هكذا في الاصول وفي نسخة من قصص الانبياء لابن كثير: كلما نهاهم. [ * ] (1/208) يمانع قومه الدخول ويدافعهم والباب مغلق وهم يرومون فتحه وولوجه وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب وكل ما لهم في إلحاح وإنحاح فلما ضاق الامر وعسر الحال قال [ ما قال ] (1): لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " لاحللت. بكم النكال * قالت الملائكة (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) [ هود: 81 ] وذكروا أن جبريل عليه السلام خرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم حتى قيل إنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر فرجعوا يتجسسون مع الحيطان. ويتوعدون رسول الرحمن ويقولون إذا كان الغد كان لنا وله شأن قال الله تعالى (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليهم السلام آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل ولا يلتفت منكم أحد يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم * وقوله (إلا امرأتك) على قراءة النصب يحتمل أن يكون مستثنى من قوله فأسر بأهلك كأنه يقول إلا امرأتك فلا تسر بها. ويحتمل أن يكون من قوله ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك. أي فانها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم. ويقوي هذا الاحتمال قراءة الرفع ولكن الاول أظهر في المعنى والله أعلم. قال السهيلي واسم امرأة لوط والهة واسم امرأة نوح والغة. وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء والاشباه الذين جعلهم الله سلفا لكل خائن مريب (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) [ هود: 81 ] فلما خرج لوط عليه السلام بأهله وهم ابنتاه ولم يتبعه منهم رجل واحد ويقال إن إمرأته خرجت معه فالله أعلم. فلما خلصوا من بلادهم وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد. ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد * وعند أهل الكتاب أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم فقالوا اذهب فإنا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها ثم نحل بهم العذاب فذكروا أنه ذهب إلى قرية صغر التي يقول الناس غورزغر فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب قال الله تعالى (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) [ هود: 82 - 83 ] قالوا اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن وكن سبع مدن (2) بمن فيهن من الامم فقالوا إنهم كانوا أربع مائة نسمة. قيل أربعة آلاف (3) نسمة وما معهم من الحيوانات وما يتبع تلك المدن من الاراضي والاماكن __________ (1) سقطت من النسخ المطبوعة. (2) في الطبري والكامل والمسعودي: خمس قرى، ذكر المسعودي المدائن الخمس وهي: سدوم، عمورا، وادموتا، وصاعورا، وصابورا. (3) وفي نسخة: أربعة آلاف ألف نسمة. [ * ] (1/209) والمعتملات فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها قال مجاهد فكان أول ما سقط منها شر فاتها (وأمطرة عليهم حجارة من سجيل) [ الحجر: 74 ] والسجيل فارسي معرب وهو الشديد الصلب القوي (منضود) أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء (مسومة) أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يهبط عليه فيدمغه كما قال (مسومة عند ربك للمسرفين) [ الذاريات: 34 ] وكما قال تعالى (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين) [ الشعراء: 173 ] وقال تعالى (والمؤتفكة أهوى. فغشاها ما غشى) [ النجم: 53 - 54 يعني قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها وغشاها بمطر من حجارة من سجيل متتابعة مرقومة على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين منهم في بلدهم والغائبين عنها من المسافرين والنازحين والشاذين منها * ويقال إن امرأة لوط مكثت مع قومها ويقال إنها خرجت مع زوجها وبنتيها ولكنها لما سمعت الصيحة وسقوط البلدة والتفتت إلى قومها وخالفت أمر ربها قديما وحديثا وقالت واقوماه فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها إذ كانت على دينهم وكانت عينا لهم على من يكون عند لوط من الضيفان كما قال تعالى (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [ التحريم: 10 ] أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه. وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة حاشا وكلا ولما. فإن الله لا يقدر على نبي آن تبغي امرأته كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف ما بغت امرأة نبي قط * ومن قال خلاف هذا فقد اخطأ خطأ كبيرا. قال الله تعالى في قصة الافك: لما انزل براءة ام المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج رسول اله صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الافك ما قالوا فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر ووعظ وحذر وقال فيما قال (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) [ النور: 15 - 16 ] أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة * وقوله ههنا (وما هي من الظالمين ببعيد) أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم. ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصنا أو لا نص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الائمة واحتجوا أيضا بما رواه الامام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " (1) وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط __________ (1) أخرجه أبو داود في سننه 2 / 468 والترمذي في سننه 15 / 24 / 1456 وابن ماجة. وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب: لينه ابن معين، وقال أحمد: ما به بأس. وقال أبو داود: ليس بالقوي. وفي تقريب التهذيب: ثقة ربما وهم 2 / 75 / 642. [ * ] (1/210) لقوله تعالى: (وما هي من الظالمين ببعيد). وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينفع بمائها ولا بما حولها من الاراضي المتاخمة لفنائها لردائتها ودناءتها فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله واتبع هواه وعصى مولاه. ودليلا على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات. وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات كما قال تعالى (ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وان ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: * - 9 ] وقال تعالى (فأخذتهم الصيحة مشرقين. فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل. إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم. ان في ذلك لآية للمؤمنين) [ الحجر: 73 - 77 ] أي من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها ؟ وكيف جعلها بعدما كانت آهلة عامرة. هالكة غامرة ؟ كما روى الترمذي وغيره مرفوعا: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " (1) ثم قرأ (إن في ذلك لآيات للمتوسمين). وقوله (وانها لبسبيل مقيم) [ الحجر: 76 ] أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن كما قال (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) [ الصافات: 137 ] وقال تعالى (ولقد تركناها آية بينة لقوم يعقلون) [ العنكبوت: 35 ] وقال تعالى (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم) [ الذاريات: 35 - 37 ] أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة وخشي الرحمن بالغيب وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه وخاف أن يشابه قوم لوط (ومن تشبه بقوم فهو منهم) وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه كما قال بعضهم: فان لم تكونوا قوم لوط بعينهم * فما قوم لوط منكم ببعيد فالعاقل اللبيب الخائف من ربه الفاهم يمتثل ما أمره الله به عزوجل ويقبل ما أرشده إليه رسول الله من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال. والجواري من السراري ذوات الجمال. وإياه أن يتبع كل شيطان مريد. فيحق عليه الوعيد. ويدخل في قوله تعالى (وما هي من الظالمين ببعيد). __________ (1) سنن الترمذي 48 / 16 / 3127 عن أبي سعيد الخدري وقال: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم، وقال في المتوسمين. المتفرسين. ورواه ابن حجر في لسان الميزان (5 / 1154) والقرطبي في أحكامه (1 / 43) ورواه الاصفهاني في حلية الاولياء 4 / 94 والسيوطي في الدر المنثور 4 / 103 والذهبي في الطب النبوي ص 112. والطبراني في المعجم الكبير 8 / 121. [ * ] (1/211) البداية والنهاية قصة مدين قوم شعيب عليه السلام (1) قال الله تعالى في سورة الاعراف بعد قصة قوم لوط (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم فاوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. ولا تقعدوا بكل صراط توعدون. وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين. وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين. قد أفترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما. على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين. فتولى عنهم وقال يا قوم لقد ابلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) [ الاعراف: 83 - 95 ]. وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الارض مفسدين. بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين. وما أنا عليكم بحفيظ. قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء. إنك لانت الحليم الرشيد. قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود. قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز. قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه ورائكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على __________ (1) ذكر شعيب في القرآن في: الاعراف: 85 - 88 - 90 - 92 وفي سورة هود: 84 - 87 - 90 - 95، وفي الشعراء: 177 وفي العنبكوت: 36. [ * ] (1/212) مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب. ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) [ هود: 84 - 95 ]. وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضا. (وإن كان أصحاب الايكة لظالمين فانتقمنا منهم وانهما لبامام مبين) [ الحجر: 78 - 79 ] وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم (كذب أصحاب الايكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول امين. فاتقو الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. اوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم. ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين. واتقوا الله الذي خلقكم والجبلة الاولين. قالوا انما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين. فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين. قال ربي أعلم بما تعملون. فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 176 - 191 ]. كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية (1) من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط. وكانوا بعدهم بمدة قريبة. ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة (2) وهم من بني مدين بن مديان بن إبرهيم الخليل وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل (3) بن يشجن ذكره ابن اسحاق قال ويقال له بالسريانية بنزون (4) وفي هذا نظر ويقال شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب ويقال شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن ابراهيم ويقال شعيب بن ضيفور بن عيفا (5) بن ثابت بن مدين بن ابراهيم وقيل غير ذلك في نسبه. قال ابن عساكر ويقال جدته ويقال أمه بنت لوط. وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق وعن وهب ابن منبه أنه قال شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار وهاجرا معه إلى الشام فزوجهما بنتي لوط عليه السلام. ذكره ابن قتيبة * وفي هذا كله نظر أيضا والله أعلم. وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة سلمة بن سعد العنزي [ انه ]: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة فقال: " نعم الحي عنزة مبغي عليهم منصورون قوم __________ (1) وفي نسخة قريبة ; وهو الصواب. (2) وفي نسخة أخرى: مدينة عرفت بها القبيلة ; وهو الصواب. (3) في الطبري 1 / 167: ميكائيل. (4) في الطبري: يثرون. (5) في الطبري: بن صيفون بن عنقا. [ * ] (1/213) شعيب وأختان (1) موسى ". فلو صح هذا لدل على أن شعيبا من (2) موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة يقال لهم عنزة لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان فإن هؤلاء بعده بدهر طويل والله أعلم. وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الانبياء والرسل قال: " أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر " وكان بعض السلف يسمي شعيبا خطيب الانبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الايمان برسالته * وقد روى ابن اسحاق بن بشر، عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا قال: " ذاك خطيب الانبياء " وكان أهل مدين كفارا يقطعون السبيل ويخيفون المارة ويعبدون الايكة وهي شجرة من الايك حولها غيضة ملتفة بها وكانوا من أسوء الناس معاملة يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيها يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن تعاطي هذه الافاعيل القبيحة من بخس الناس أشيائهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد وهو الولي الحميد. كما قال تعالى (وإلى مدين أخاهم شعيبا. قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم) [ الشعراء: 85 ] أي دلالة وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وإنه أرسلني وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلا وان كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالا (فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها) [ الاعراف: 85 ] أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم على خلاف ذلك فقال (ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط) [ الاعراف: 86 ] أي طريق (توعدون) أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل * قال السدي في تفسيره عن الصحابة (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة * وقال اسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق (يبخسون الناس) يعني يعشرونهم وكانوا أول من سن ذلك (وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا) [ الاعراف: 86 ] فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية والمعنوية الدينية (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه كما قال لهم في القصة الاخرى (ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم __________ (1) أختان موسى: أصهار موسى. وفي الاستيعاب: وأحبار موسى. (2) وفي نسخة: صهر موسى. [ * ] (1/214) محيط) [ هود: 84 ] أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق (1) الله بركة ما في أيديكم (2) ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم. وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة. فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم وعذابه الاليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف. ثم قال لهم آمرا بعد ما كان عن ضده زاجرا (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الارض مفسدين بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) [ هود: 86 ] قال ابن عباس والحسن البصري (بقيت الله خير لكم) أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس * وقال ابن جرير ما فضل لكم من الريح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف. قال وقد روي هذا عن ابن عباس وهذا الذي قاله وحكاه حسن وهو شبيه بقوله تعالى (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو اعجبتك كثرة الخبيث) [ المائدة: 100 ] يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام فإن الحلال مبارك وإن قل والحرام ممحوق وإن كثر كما قال تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) [ البقرة: 276 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل " رواه أحمد (3) أي إلى قلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " * والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي وإن كثر ولهذا قال نبي الله شعيب (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) وقوله (وما أنا عليكم بحفيظ) أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه لا لاراكم أنا وغيري (قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لانت الحليم الرشيد) [ هود: 78 ] يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ونترك ما يعبد أباؤنا الاقدمون وأسلافنا الاولون (5) ؟ أو أن لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها ؟، (انك لانت الحليم الرشيد) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء. (قال يا قوم أر أيتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما __________ (1) يمحق: يمحي. (2) وفي نسخة: ما بأيديكم. (3) مسند أحمد ج 1 / 395 و 424. (4) ورواه الحاكم في المستدرك 2 / 37، 4 / 317، وصححه ووافقه الذهبي، وابن ماجة في سننه رقم 2279. وأحمد في مسنده ج 2 / 183. (5) رواه مسلم في 21 / 43 / 47 والبخاري في 34 / 19 - 42 - 43 فتح الباري وأحمد في مسنده 3 / 402 - 403 - 434 ورواه أصحاب السنن: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي. ورواه مالك في الموطأ. [ * ] (1/215) أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) [ هود: 88 ] هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة. يقول لهم: " أرأيتم " أيها المكذبون (ان كنت على بينة من ربي) أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم (ورزقني منه رزقا حسنا) يعني النبوة والرسالة يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم. وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء. وقوله (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي لست آمركم بالامر إلا وأنا أول فاعل له وإذا نهيتكم عن الشئ فأنا أول من يتركه وهذه في الصفة المحمودة العظيمة وضدها هي المردودة الذميمة كما تلبس بها علماء بني اسرائيل في آخر زمانهم وخطباؤهم الجاهلون * قال الله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [ البقرة: 44 ] وذكر عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل فيلقى النار فتندلق أقتاب بطنه - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول: بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه " * وهذه صفة مخالفي الانبياء من الفجار والاشقياء فأما السادة من النجباء والالباء من العلماء، والذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبي الله شعيب (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت) أي ما أريد في جميع أمري إلا الاصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي (وما توفيقي) أي في جميع أحوالي (إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب) أي عليه أتوكل في سائر الامور واليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب. ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) [ هود: 89 ] أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين. وقوله (وما قوم لوط منكم ببعيد) قيل معناه في الزمان أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم * وقيل معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان. وقيل في الصفات والافعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات. والجمع بين هذه الاقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) [ هود: 90 ] أي أقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود فإنه من تاب إليه تاب عليه فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما نقول وإنا لنراك فينا ضعيفا) [ هود: 91 ] روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا كان ضرير (1/216) البصر * وقد روي في حديث مرفوع أنه بكى من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره. وقال يا شعيب أتبكي خوفا من النار أو من شوقك إلى الجنة فقال: بل من محنتك فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي فأوحى الله إليه هنيئا لك يا شعيب لقاني فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي * رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي عن علي بن الحسن بن بندار عن أبي عبد الله محمد بن اسحق التربلي (1)، عن هشام بن عمار، عن إسمعيل بن عباس عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أمين (2)، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وهو غريب جدا، وقد ضعفه الخطيب البغدادي * وقولهم (ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) [ هود: 91 ] وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث قالوا (ما نفقه كثيرا مما تقول) أي ما نفهمه ولا نتعقله لانا لا نحبه ولا نريده وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) [ فصلت: 5 ] وقولهم (وإنا لنراك فينا ضعيفا) أي مضطهدا مهجورا (ولولا رهطك) أي قبيلتك وعشيرتك فينا (لرجمناك وما أنت علينا بعزيز). (قال يا قوم ارهطي أعز عليكم من الله) [ هود: 92 ] أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم، ولا تخافون جنبة (3) الله ولا تراعوني لاني رسول الله فصار رهطي أعز عليكم من الله (واتخذتموه وراءكم ظهريا) أي جانب الله وراء ظهوركم (إن ربي بما تعملون محيط) [ هود: 92 ] أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه، محيط بذلك كله وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه. (ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا اني معكم رقيب) [ هود: 93 ] وهذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. ومن يحل عليه الهلاك والبوار (من يأتيه عذاب يخزيه) أي في هذه الحياة الدنيا (ويحل عليه عذاب مقيم) أي في الاخرى (ومن هو كاذب) أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر (وارتقبوا اني معكم رقيب) وهذا كقوله (وان كان طائفة منكم آمنوا بالذي ارسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) [ الاعراف: 87 ] (قال الملا (4) الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين. قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها الا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [ الاعراف: __________ (1) وفي نسخه الرملي. (2) ابن امين تحريف، وفي نسخة ابن أوس. (3) وفي نسخة: عذاب الله. (4) الملا: أشراف القوم وسادتهم وكبراؤهم. [ * ] (1/217) 88 - 89 ] طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال: (أو لو كنا كارهين) أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا وإنما يعودون إليه إن عادوا اضطرارا مكرهين، وذلك لان الايمان إذا خالطته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد ولا يرتد أحد عنه ولا محيد لاحد منه. ولهذا قال (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا) أي فهو كافينا وهو العاصم لنا وإليه ملجاؤنا في جميع أمرنا ثم استفتح على قومه واستنصر ربه عليه في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) أي الحاكمين، فدعا عليهم والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفروه ورسوله خالفوه. ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون، وبه متلبسون (وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) [ الاعراف: 90 ] قال الله تعالى: (فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين) [ الاعراف: 91 ] ذكر في سورة الاعراف أنهم أخذتهم رجفة أي رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالا شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها وصيرت حيوانات أرضهم كجمادها وأصبحت جثثهم جاثية لا أرواح فيها ولا حركات بها ولا حواس لها * وقد جمع الله عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات وأشكالا من البليات وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات وصيحة عظيمة أخمدت الاصوات وظلة أرسل عيلهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات. ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها في سباق قصة الاعراف ارجفوا نبي الله وأصحابه وتوعدوهم بالاخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم راجعين فقال تعالى (فأخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين) فقابل الارجاف بالرجفة والاخافة بالخيفة وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق * وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وذلك لانهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص (أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لانت الحليم الرشيد) [ هود: 87 ] فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الامين الفصيح فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة اسكنتهم. وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة. وكان إجابة لما طلبوا. وتقريبا إلى ما إليه رغبوا. فإنهم قالوا (إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فاسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين. قال رب أعلم بما تعملون) [ الشعراء: 185 - 188 ] قال الله تعالى (وهو السميع العليم فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) [ الشعراء: 189 ] ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أن أصحاب الايكة أمة أخرى غير أهل مدين فقوله ضعيف. وإنما عمدتهم شيئان: أحدهما أنه قال: (كذب (1/218) أصحاب الايكة المرسلين إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخوهم كما قال: (وإلى مدين أخاهم شعيبا). والثاني أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة والجواب عن الاول أنه لم يذكر الاخوة بعد قوله: (كذب أصحاب الايكة المرسلين) لانه وصفهم بعبادة الايكة فلا يناسب ذكر الاخوة ههنا ولما نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم * وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة * وأما إحتجاجهم بيوم الظلة فإن كان دليلا بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلا على أنهما أمتان أخريان وهذا لا يقوله أحد يفهم شيأ من هذا الشأن * فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن شفيق بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " إن مدين وأصحاب الايكة أمتان بعث الله اليهما شعيبا النبي عليه السلام ". فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه * والاشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني اسرائيل والله أعلم * ثم قد ذكر الله عن أهل الايكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب * وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب. وقوله (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) ذكروا أنهم أصابهم حر شديد وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الاسراب فهربوا من محلتهم إلى البرية فأظلتهم سحابة، فاجتمعوا تحتها ليسظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الارض وجاءتهم صيحة من السماء، فأزهقت الارواح، وخربت الاشباح. (فاصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) [ الاعراف: 91 - 92 ]. (ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين)، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود) [ هود: 94 - 95 ]. وقال تعالى (وقال الملا من قومه لئن إتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كان لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) [ الاعراف: 90 - 92 ]. وهذا في مقابلة قولهم (لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون) [ الاعراف: 93 ] ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤنبا ومقرعا فقال تعالى (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين) [ الاعراف: 93 ] أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم) أي قد أديت ما كان واجبا علي من البلاغ التام والنصح (1/219) الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك لان الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم لانكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة. ولهذا قال فكيف آسى أي أحزن على قوم كافرين أي لا تقبلون الحق ولا ترجعون إليه ولا تلتفون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع ولا محيد لاحد أريد به عنه ولا مناص منه. وقد ذكر الحافظ بن عساكر في تاريخه عن ابن عباس أن شعيبا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام. وعن وهب بن منبه أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم. البداية والنهاية باب ذرية ابراهيم قد قدمنا قصته مع قومه وما كان من أمرهم وما آل إليه أمره عليه السلام والتحية والاكرام وذكرنا ما وقع في زمانه من قصة قوم لوط. وأتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب عليه السلام لانها قرينتها في كتاب الله عزوجل في مواضع متعددة فذكر تعالى بعد قصة قوم لوط قصة مدين وهم أصحاب الايكة على الصحيح كما قدمنا فذكرناها تبعا لها إقتداء بالقرآن العظيم * ثم نشرع الآن في الكلام على تفصيل ذرية ابراهيم عليه السلام لان الله جعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي أرسل بعده فمن ولده. اسماعيل عليه السلام وقد كان للخليل بنون كما ذكرنا ولكن أشهرهم الاخوان النبيان العظيمان الرسولان أسنهما وأجلهما الذي هو الذبيح على الصحيح إسماعيل بكر ابراهيم الخليل من هاجر القبطية المصرية عليها السلام من العظيم الجليل * ومن قال إن الذبيح هو إسحق فإنما تلقاه من نقلة بني إسرائيل الذين بدلوا وحرفوا وأولوا التوراة والانجيل وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل * فإن إبراهيم أمر بذبح ولده البكر * وفي رواية الوحيد وأياما كان فهو إسماعيل بنص الدليل ففي نص كتابهم إن إسماعيل ولد ولابراهيم من العمر ست وثمانون سنة * وإنما ولد اسحق بعد مضي مائة سنة من عمر الخليل فإسماعيل هو البكر لا محالة وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة * أما في الصورة فلانه كان وحده ولده أزيد من ثلاثة عشر سنة وأما أنه وحيد في المعنى فإنه هو الذي هاجر به أبوه ومعه أمه هاجر وكان صغيرا رضيعا فيما قيل فوضعهما في وهاد جبال فاران وهي الجبال التي حول مكة نعم المقيل وتركهما هنالك ليس معهما من الزاد والماء إلا القليل وذلك ثقة بالله وتوكلا عليه. فحاطهما الله تعالى بعنايته وكفايته فنعم الحسيب والكافي والوكيل والكفيل فهذا هو الولد الوحيد في الصورة والمعنى ولكن أين من يتفطن لهذا السر وأين من يحل بهذا المحل والمعنى لا يدركه (1/220) ويحيط بعلمه إلا كل نبيه نبيل * وقد أثنى الله تعالى عليه ووصفه بالحلم (1) والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والامر بها لاهله ليقيهم العذاب مع ما كان يدعو إليه من عبادة رب الارباب * قال تعالى (فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى. قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) [ الصافات: 101 - 102 ] فطاوع أباه على ما إليه دعاه. ووعده بأن سيصبر فوفى بذلك وصبر على ذلك. وقال تعالى (واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا) [ مريم: 54 - 55 ] وقال تعالى (واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار. واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) [ ص: 45 - 48 ] وقال تعالى (واسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) [ الانبياء: 85 - 86 ] وقال تعالى (إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط) [ النساء: 163 ] الآية. وقال تعالى (قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى إبراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط) [ البقرة: 136 ] الآية. ونظيرتها من السورة الاخرى. وقال تعالى (أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله) [ البقرة: 140 ] الآية. فذكر الله عنه كل صفة جميلة وجعله نبيه ورسوله، وبرأه من كل ما نسب إليه الجاهلون، وأمر بأن يؤمن بما أنزل عليه عباده المؤمنون. وذكر علماء النسب وأيام الناس أنه أول من ركب الخيل، وكانت قبل ذلك وحوشا فأنسها وركبها. وقد قال سعيد بن يحيى الاموي في مغازيه: حدثنا شيخ من قريش، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتخذوا الخيل واعتبقوها فإنها مراث أبيكم اسماعيل " وكانت هذه العراب وحشا (2) فدعا لها بدعوته التي كان أعطى فأجابته وإنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة * وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جرهم والعماليق وأهل اليمن من الامم المتقدمين من العرب قبل الخليل. قال الاموي: حدثني علي بن المغيرة، حدثنا أبو عبيدة، حدثنا مسمع بن مالك، عن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة " فقال له يونس صدقت يا أبا سيار هكذا أبو جرى حدثني. وقد قدمنا أنه تزوج لما شب من العماليق امرأة وأن أباه أمره بفراقها ففارقها * قال الاموي هي __________ (1) وفي نسخة: بالعلم. (2) وفي نسخة: وحوشا. [ * ] (1/221) عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليقي * ثم نكح غيرها فأمره أن يستمر بها فاستمر بها وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي وقيل هذه ثالثة فولدت له إثني عشر ولدا ذكرا. وقد سماهم محمد بن اسحق رحمه الله وهم نابت وقيذر (1) وازبل وميشى ومسمع وماش ودوصاوارر ويطور ونبش وطيما وقيذما * وهكذا ذكرهم أهل الكتاب في كتابهم. وعندهم أنهم الاثنا عشر عظيما المبشر بهم المتقدم ذكرهم. وكذبوا في تأويلهم ذلك وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى أهل تلك الناحية وما والاها من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن صلوات الله وسلامه عليه * ولما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه اسحق وزوج ابنته نسمة (2) من ابن أخيه العيص بن اسحق فولدت له الروم. ويقال لهم بنو الاصفر لصفرة كانت في العيص * وولدت له اليونان في أحد الاقوال * ومن ولد العيص الاشبان قيل منهما أيضا * وتوقف ابن جرير رحمه الله. ودفن اسماعيل نبي الله بالحجر مع أمه هاجر وكان عمره يوم مات مائة وسبعا وثلاثين سنة * وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال شكى اسماعيل عليه السلام إلى ربه عزوجل حر مكة فأوحى الله إليه أني سأفتح لك بابا إلى الجنة إلى الموضع الذي تدفن فيه تجري عليك روحها إلى يوم القيامة وعرب الحجاز كلهم ينتسبون إلى ولديه نابت وقيذار * وسنتكلم على أحياء العرب وبطونها وعمائرها وقبائلها وعشائرها من لدن اسماعيل عليه السلام إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم * وذلك إذا انتهينا إلى أيامه الشريفة وسيرته المنيفة بعد الفراغ من أخبار أنبياء بني إسرائيل إلى زمان عيسى بن مريم خاتم انبيائهم ومحقق أنبائهم * ثم نذكر ما كان في زمن بني اسرائيل * ثم ما وقع في أيام الجاهلية ثم ينتهي الكلام إلى سيرة نبينا رسول الله إلى العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم من الامم إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم العزيز الحكيم. اسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم قد قدمنا أنه ولد ولابيه مائة سنة (3) بعد أخيه اسماعيل بأربع عشر سنة. وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين (4) سنة قال الله تعالى (وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى __________ (1) قال الطبري: وقد ينطق أسماء أولاد إسماعيل بغير الالفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق فيقول بعضهم في قيدر قيدار وفي ادبيل ادبال وفي ميشا ميشام. وانظر التعليق حول هذا الموضوع في أخبار العرب ; الجزء الثاني من البداية والنهاية. (2) في الطبري: بسمة. (3) في الطبري والكامل: مائة وعشرين سنة. (4) في الكامل لابن الاثير: سبعون سنة. [ * ] (1/222) اسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) [ الصافات: 112 - 113 ] * وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز * وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن ابراهيم ". وذكر أهل الكتاب أن إسحق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه، كان عمره أربعين سنة، وأنها كانت عاقرا فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توأمين أولهما سموه عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم * والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب وهو اسرائيل الذي ينتسب إليه بنو اسرائيل قالوا وكان إسحق يحب العيصو أكثر من يعقوب لانه بكره وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لانه الاصغر قالوا فلما كبر إسحق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاما وأمره أن يذهب فيصطاد له صيدا ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاما كما اشتهاه أبوه ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له فقامت فألبسته ثياب أخيه وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين لان العيص كان أشعر الجسد ويعقوب ليس كذلك فلما جاء به وقربه إليه قال من أنت قال ولدك فضمه إليه وجسه وجعل يقول أما الصوت فصوت يعقوب وأما الجس (1) والثياب فالعيص فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدرا وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده وأن يكثر رزقه وولده. فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه فقال له ما هذا يا بني قال هذا الطعام الذي اشتهيته فقال أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك فقال لا والله وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك فوجد في نفسه عليه وجدا كثيرا وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى وأن يجعل لذريته عليظ الارض وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها لابان الذي بأرض حران وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه عليه وأن يتزوج من بناته. وقالت لزوجها إسحق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم (2) فأدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجرا فوضعه تحت رأسه ونام فرأى في نومه ذلك معراجا منصوبا من السماء إلى الارض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والرب تبارك وتعالى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثر ذريتك وأجعل لك هذه الارض ولعقبك من بعدك. فلما هب من نومه فرح بما رأى ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنين في هذا الموضع معبد الله عزوجل وأن جميع ما يرزقه من شئ يكون لله عشره ثم عمد إلى ذلك الحجر __________ (1) في الطبري: المس. (2) في الطبري: فكان يسري بالليل ويكمن بالنهار ولذلك سمي إسرائيل [ * ] (1/223) فجعل عليه دهنا يتعرفه به وسمي ذلك الموضع بين إيل أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي قالوا فلما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وكانت أحسنهما. وأجملهما [ فطلب يعقوب الصغرى من خاله ] (1) فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين فلما مضت المدة على خاله لا بان صنع طعاما وجمع الناس عليه وزف إليه ليلا ابنته الكبرى ليا وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر. فلما أصبح يعقوب إذا هي ليا فقال لخاله لم غدرت بي وأنت إنما خطبت إليك راحيل فقال إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى فان احببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وازوجكها فعمل سبع سنين وادخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغا في ملتهم ثم نسخ في شريعة التوراة * وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لان فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته لانه معصوم * ووهب لابان لكل واحدة من إبنتيه جارية فوهب لليا جارية إسمها زلفى ووهب لراحيل جارية اسمها بلهى * وجبر الله تعالى ضعف ليا بأن وهب لها أولادا فكان أول من ولدت ليعقوب روبيل ثم شمعون ثم لاوى ثم يهوذا فغارت عند ذلك راحيل وكانت لا تحبل فوهبت ليعقوب جاريتها بلهى فوطئها فحملت وولدت له غلاما سمته دان وحملت وولدت غلاما آخر سمته نيفتالي فعمدت عند ذلك ليا فوهبت جاريتها زلفى من يعقوب عليه السلام فولدت له جاد (2) وأشير غلامين ذكرين ثم حملت أيضا فولدت غلاما خامسا منها وسمته ايساخر (3) * ثم حملت وولدت غلاما سادسا سمته زابلون ثم حملت وولدت بنتا سمتها دينا فصار لها سبعة من يعقوب * ثم دعت الله تعالى راحيل وسألته أن يهب لها غلاما من يعقوب فسمع الله ندائها وأجاب دعائها فحملت من نبي الله يعقوب فولدت له غلاما (4) عظيما شريفا حسنا جميلا سمته يوسف كل هذا وهم مقيمون بأرض حران (5) وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى فصار مدة مقامه عشرين سنة فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرحه ليمر إلى أهله فقال له خاله اني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت فقال تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع (6) وكل حمل ملمع أبيض بسواد وكل أملح (7) ببياض وكل أجلح (8) أبيض من المعز فقال نعم فعمد بنوه فابرزوا __________ (1) سقطت من النسخ المطبوعة واستدركت من الطبري وقصص الانبياء لابن كثير. (2) كذا في الاصل وفي رواية للطبري ; وفي رواية أخرى عنده سماه: حادر. (3) في الطبري: يسحر. (4) في الطبري: ولدت راحيل ليعقوب بعد اليأس يوسف وأخاه بنيامين، وفي رواية أخرى عنده ماتت راحيل في نفاسها ببنيامين. (5) في الطبري: بأرض بابل. (6) أبقع: ما فيه بقع بيض وسود. (7) الاملح: ما يخالط بياضه سواد. (8) اجلح: ما لا قرن له. [ * ] (1/224) من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شئ من الحملان على هذه الصفات وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم قالوا فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز وولب فكان يقشرها بلقا وينصبها في مساقي الغنم من المياه لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك وهذا يكون من باب خوارق العادات وينتظم في سلك المعجزات فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد وتغير له وجه خاله وبنيه وكأنهم انحصروا منه. وأوحى الله تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ووعده بأن يكون معه فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته فتحمل بأهله وماله وسرقت راحيل (1) أصنام أبيها فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان وقومه فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه وهلا أعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول وحتى يودع بناته وأولادهن ولم أخذوا أصنامه معهم ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه فأنكر أن يكون أخذوا له أصناما فدخل بيوت بناته وامائهن يفتش فلم يجد شيئا وكانت راحيل قد جعلتهن في بردعة الحمل وهي تحتها فلم تقم وأعتذرت بأنها طامث فلم يقدر عليهن فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها جلعاد على أنه لا يهبن بناته ولا يتزوج عليهن ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخر لا لابان ولا يعقوب وعملا طعاما وأكل القوم معهم وتودع كل منهما من الآخر وتفارقوا راجعين إلى بلادهم فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم وبعث يعقوب البرد إلى أخيه العيصو يترفق له ويتواضع له فرجعت البرد وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليك في أربعمائة راجل فخشي يعقوب من ذلك ودعا الله عزوجل وصلى الله وتضرع إليه وتمسكن لديه وناشده عهده ووعده الذي وعده به وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص وأعد لاخيه هدية عظيمة وهي مائتا شاة وعشرون تيسا ومائتا نعجة وعشرون كبشا وثلاثون لقحة وأربعون بقرة وعشرة من الثيران وعشرون أتانا وعشرة من الحمر وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الاصناف وحده وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة فإذا لقيهم العيص فقال للاول لمن أنت ولمن هذه معك فليقل لعبدك يعقوب أهداها لسيدي العيص وليقل الذي بعده كذلك وكذا الذي بعده ويقول كل منهم وهو جائي بعدنا وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الاحد عشر بعد الكل بليلتين وجعل يسير فيهما ليلا ويكمن نهارا فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدا له ملك من الملائكة في صورة رجل فظنه يعقوب رجلا من الناس فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب فلما أضاء الفجر قال له الملك ما اسمك قال يعقوب قال لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا اسرائيل فقال له يعقوب ومن أنت وما أسمك فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله فلذلك لا يأكل __________ (1) في الطبري: فقالت امرأة يعقوب، ولم يذكر اسمها، وعلى الارجح فيما رواه الطبري انها ليا ; لانه اعتبر في نفس الرواية ان راحيل قد ماتت. 1 / 165. [ * ] (1/225) بنو اسرائيل عرق النساء ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة رجل فتقدم أمام أهله فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان وكان مشروعا لهم كما سجدت الملائكة لآدم تحية له وكما سجد أخوه يوسف وأبواه له كما سيأتي فلما رآه العيص تقدم إليه وأحتضنه وقبله وبكى ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان فقال من أين لك هؤلاء فقال هؤلاء الذين وهب الله لعبدك فدنت الامتان وبنوهما فسجدوا له ودنت ليا وبنوها فسجدوا له ودنت راحيل وابنها يوسف فخرا سجدا له وعرض عليه أن يقبل هديته وألح عليه فقبلها ورجع العيص فتقدم أمامه ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الانعام والمواشي والعبيد قاصدين جبال ساعير فلما مر بساحور ابتنى له بيتا ولدوا به ظلالا ثم مر على أورشليم قرية شخيم فنزل قبل القرية واشترى مزرعة شخيم بن جمور بمائة نعجة فضرب هنالك فسطاطه وابتنى ثم مذبحا فسماه إيل إله اسرائيل وأمر الله ببنائه ليستعلن له فيه * وهو بيت المقدس اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام وهو مكان الصخرة التي أعلمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك كما ذكرنا أولا. وذكر أهل الكتاب هنا قصة دينا بنت يعقوب بنت ليا وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله ثم خطبها عن أبيها وأخوتها فقال إخوتها إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا فإنا لا نصاهر قوما غلفا فأجابوهم إلى ذلك واختتنوا كلهم فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم مضافا إلى كفرهم وما كانوا يعبدونه من أصنامهم فلهذ قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة. ثم حملت راحيل (1) فولدت غلاما وهو بنيامين إلا أنها جهدت في طلقها به جهدا شديدا وماتت عقيبه فدفنها يعقوب في أفراث وهي بيت لحم وصنع يعقوب على قبرها حجرا وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم * وكان أولاد يعقوب الذكور اثنى عشر رجلا فمن ليا روبيل وشمعون ولاوى ويهوذا وايساخر وزايلون ومن راحيل يوسف وبنيامين (2) ومن أمة راحيل دان ونفتالي ومن أمة ليا حاد واشير عليهم السلام وجاء يعقوب إلى أبيه إسحاق فأقام عنده بقرية حبرون التي في أرض كنعان حيث كان يسكن ابراهيم ثم مرض اسحاق ومات عن مائة وثمانين سنة ودفنه ابناه العيص ويعقوب مع أبيه ابراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمنا. __________ (1) في رواية الطبري ان راحيل قد ولدت بنيامين وهم في ديار أبيها قبل خروجهم إلى أرض فلسطين. راجع التعليق قبل قليل. (2) زاد ابن قتيبة في المعارف: وأخوات لهما، ولم يذكر اسماءهن. [ * ] (1/226) ما وقع من الامور العجيبة في حياة اسرائيل فمن ذلك قصة يوسف (1) بن راحيل وقد أنزل الله عزوجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والامر الحكيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (بسم الله الرحمن الرحيم آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) [ يوسف: 1 - 3 ] قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم * وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير ونحن نذكر ههنا نبذا مما هناك على وجه الايجاز والنجاز. وجملة القول في هذا المقام أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي انزله على عبده ورسوله الكريم بلسان عربي فصيح بين واضح جلي يفهمه كل عاقل ذكي زكي فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان. بأفصح لغة وأظهر بيان. فإن كان السياق في الاخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ودمغ الباطل وزيفه ورده. وإن كان في الاوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج وأبين حكما (2) وأعدل حكما. فهو كما قال تعالى (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا) [ الانعام: 115 ]. يعني صدقا في الاخبار، عدلا في الاوامر والنواهي ولهذا قال تعالى (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) [ يوسف: 3 ] أي بالنسبة إلى ما أوحى اليك فيه كما قال تعالى (وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الارض ألا إلى الله تصير الامور) [ الشورى: 52 - 53 ]. وقال تعالى (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق. وقد آتيناك من لدنا ذكرا. من أعرض عنه فانه يحمل يوم القيامة وزرا. خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا) [ طه: 99 - 101 ] يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد كما قال في الحديث المروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين علي مرفوعا وموقوفا __________ (1) ذكر اسم يوسف في 26 آية من الكتاب الكريم: 24 آية في سورة يوسف وآية في الانعام (84) وآية في غافر (34) وقد ذكرت قصته مطولة في سورة يوسف. وقال النسفي في سبب نزول هذه السورة: ان كفار مكة لقي بعضهم اليهود وتباحثوا في ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فقال لهم اليهود: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن قصة يوسف. فنزلت. (2) وفي نسخة: حكمة. [ * ] (1/227) " من ابتغى الهدى في غيره أضله الله ". وقال الامام أحمد حدثنا سريج بن النعمان حدثنا هشام أنبأنا خالد (1) عن الشعبي عن جابر: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال فغضب وقال: " أتتهوكون (2) فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شئ فيخبرونكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " (3) إسناد صحيح. ورواه أحمد من وجه آخر عن عمرو فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الامم وأنا حظكم من النبيين " (4) وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف. وفي بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: " أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون. ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا (إذ قال يوسف لابيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحق ان ربك عليم حكيم) [ يوسف: 4 - 6 ] قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره وباقي إخوته لم يوح إليهم. وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول * ومن استدل على نبوتهم بقوله (قالوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى إبراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط) [ البقرة: 136 ] وزعم أن هؤلاء هم الاسباط فليس استدلاله بقوي (5) لان المراد بالاسباط شعوب بني اسرائيل وما كان يوجد فيهم من الانبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم. ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه نص على واحد من إخوته سواه فدل على ما ذكرناه ويستأنس لهذا بما قال الامام أحمد: حدثنا: عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الكريم بن الكريم ابن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن __________ (1) في المسند: عن هشيم عن مجالد. (2) في المسند: أمتهوكون ; والتهوك: التحير. (3) مسند أحمد: ج 3 / 388. (4) مسند أحمد: ج 3 / 471. (5) وفي نسخة: بالقوي. [ * ] (1/228) ابراهيم " (1) " انفرد به البخاري ; فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة بن عبد الصمد بن عبد الوارث به * وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنه * قال المفسرون وغيرهم رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم كأن (أحد عشر كوكبا) وهم اشارة إلى بقية اخوته (والشمس والقمر) وهما عبارة عن أبويه قد سجدوا له فهاله ذلك فلما استيقظ قصها على أبيه فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة بحيث يخضع له أبواه وإخوته فيها فأمره بكتمانها وأن لا يقصها على إخوته كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر وهذا يدل على ما ذكرناه * ولهذا جاء في بعض الآثار: " استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها، فإن كل ذي نعمة محسود "، وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معا وهو غلط منهم (وكذلك يجتبيك ربك) أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة فإذا كتمتها (يجتبيك ربك) أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة (ويعلمك من تأويل الاحاديث) أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك (ويتم نعمته عليك) أي بالوحي إليك (وعلى آل يعقوب) آي بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة (كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم وإسحق) أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة كما أعطاها أباك يعقوب وجدك إسحق ووالد جدك إبراهيم الخليل (إن ربك عليم حكيم) كما قال تعالى (الله أعلم حيث يجعل رسالته). لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم قال: " يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " (2) وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وأبو يعلى والبزار في مسنديهما من حديث الحكم بن ظهير (3) وقد ضعفه الائمة - عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له بستانة اليهودي فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها. قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشئ ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها قال فبعث إليه رسول الله فقال: " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها قال نعم فقال هي جريان والطارق. والديال وذو الكتفان. وقابس. ووثاب. وعمردان (4) والفيلق. والمصبح. والضروح. وذو الفرع. والضياء. والنور " فقال اليهودي أي والله إنها لاسماؤها. وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه. (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا __________ (1) تقدم التعليق فليراجع. (2) تقدم تخريجه فليراجع. (3) الحكم بن ظهير الفزاري، أبو محمد وكنية أبيه أبو ليلى ; متروك. اتهمه ابن معين تقريب التهذيب 1 / 485 / 191. (4) في نسخة: عمودان. [ * ] (1/229) منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) [ يوسف: - 10 ]. ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم والدلالات والمواعظ والبينات. ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولاخيه يعنون شقيقه لامه بنيامين أكثر منهم وهم عصبة أي جماعة يقولون فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين (إن أبانا لفي ضلال مبين) أي بتقديمه حبهما علينا * ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض (1) محبته لهم وتتوفر عليهم وأضمروا التوبة بعد ذلك. فلما تمالؤا على ذلك وتوافقوا عليه (قال قائل منهم) قال مجاهد هو شمعون * وقال السدي هو يهودا * وقال قتادة ومحمد بن اسحق هو أكبرهم روبيل (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة) أي المارة من المسافرين (ان كنتم فاعلين) ما تقولون لا محالة فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه فأجمعوا رأيهم على هذا فعند ذلك (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون. قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) [ يوسف: 11 - 14 ] طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط وقد أضمروا له ما الله به عليم فأجابهم الشيخ عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه فيأتي الذئب فيأكله ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه. (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة إنا إذا لخاسرون أي عاجزون هالكون. وعند أهل الكتاب أنه أرسله وراءهم يتبعهم فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده (فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت (2) الجب وأوحينا إليه لننبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون وجاؤا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل. والله المستعان على ما تصفون) [ يوسف: 15 - 18 ] لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم فما كان إلا أن غابوا عن عينيه فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال __________ (1) تتمحض المحبة: تكون خالصة لهم. (2) غيابة الجب: غوره. [ * ] (1/230) واجمعوا على إلقائه في غيابت الجب أي في قعره على راعوفته وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح وهو الذي ينزل ليملي الدلاء إذا قل الماء والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح فلما ألقوه فيه أوحى الله إليه أنه لابد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز وهم محتاجون إليك خائفون منك (وهم لا يشعرون). قال مجاهد وقتادة وهم لا يشعرون بايحاء الله إليه ذلك * وعن ابن عباس وهم لا يشعرون أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها * رواه ابن جرير عنه * فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشئ من دم ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون أي في ظلمة الليل ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا) أي ثيابنا (فأكله الذئب) أي في غيبتنا عنه في استباقنا وقولهم (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ولو كنا غير متهمين عندك فكيف وأنت تتهمنا في هذا فإنك خشيت أن يأكله الذئب وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه. (وجاؤا على قميصه بدم كذب) أي مكذوب مفتعل لانهم عمدوا إلى سخلة (1) ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموا أنه أكله الذئب قالوا ونسوا أن يخرقوه وآفة الكذب النسيان * ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم فإنه كان يفهم عداوتهم له وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته * ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه وأعدموه وغيبوه عن عينيه جاؤا وهم يتباكون وعلى ما تمالؤا عليه يتواطؤن ولهذا (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون). وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل من آخر النار ليخرج يوسف لم يجده، فصاح وشق ثيابه، وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه، ولطخوا من دمه جبة يوسف. فلما علم يعقوب شق ثيابه، ولبس مئزرا أسود وحزن على إبنه أياما كثيرة. وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير [ وقال تعالى ]: (وجاءت سيارة فارسلوا واردهم فادلى دلوه. قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ونتخذه ولدا. وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث. والله غالب على أمره ولكن أكثر __________ (1) سخلة: ولد الشاة. [ * ] (1/231) الناس لا يعلمون. ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) [ يوسف: 19 - 22 ] يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب: أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به، فجاءت سيارة أي مسافرون. قال أهل الكتاب: كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم قاصدين ديار مصر من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه (1) يوسف فلما رآه ذلك الرجل (قال يا بشرى) أي يا بشارتي (هذا غلام وأسروه بضاعة) أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم (والله عليم بما يعملون) أي هو عالم بما تمالا عليه أخوته وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم ومع هذا لا يغيره تعالى لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأهل مصر مما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق ثم بعد هذا يملكه ازمة الامور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف. ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم وقالوا هذا غلامنا أبق منا، فاشتروه منهم * بثمن بخس أي قليل نزر وقيل هو الزيف (دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين). قال ابن مسعود وابن عباس ونوف اليكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي باعوه بعشرين درهما اقتسموها درهمين درهمين. وقال مجاهد اثنان وعشرون درهما. وقال عكرمة ومحمد بن اسحق أربعون درهما فالله أعلم (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته اكرمي مثواه) أي أحسني إليه (عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة. قالوا وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها وهو الوزير بها الذي [ تكون ] الخزائن مسلمة إليه * قال ابن اسحق وإسمه اطفير (2) بن روجيب قال وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق قال واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال غيره كان اسمها زليخا والظاهر أنه لقبها. وقيل فكا بنت ينوس رواه الثعلبي عن أبي هشام (3) الرفاعي. وقال محمد بن اسحق عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كان اسم الذي باعه بمصر يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا (4) بن مديان بن ابراهيم فالله أعلم. وقال ابن اسحق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر حين قال لامرأته اكرمي مثواه والمرأة التي قالت لابيها عن موسى (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت __________ (1) في نسخة: تعلق به. (2) في رواية للطبري عن ابن عباس اسمه قطفير ; وفي رواية أخرى قطين وكان عمره يوم اشتروه سبع عشرة سنة. (3) في نسخة: ابن هشام. (4) في الطبري: مالك بن دعر بن بويب بن عفقان. [ * ] (1/232) القوي الامين) [ القصص: 26 ] وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ثم قيل اشتراه العزيز بعشرين دينارا. وقيل بوزنه مسكا ووزنه حريرا ووزنه ورقا. فالله أعلم وقوله (وكذلك مكنا ليوسف في الارض) أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر (ولنعلمه من تأويل الاحاديث) أي فهمها. وتعبير الرؤيا من ذلك (والله غالب على أمره) أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا وامورا لا يهتدي إليها العباد ولهذا قال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين). فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الاشد. وهو حد الاربعين الذي يوحي الله فيه إلى عبادة النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين. وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الاشد: فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبي: هو الحلم. وقال سعيد بن جبير: ثماني عشرة سنة. وقال الضحاك: عشرون سنة. وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة. وقال السدي: ثلاثون سنة، وقال ابن عباس ومجاهد: وقتادة ثلاث وثلاثون سنة. وقال الحسن: أربعون سنة، ويشهد له قوله تعالى (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) [ الاحقاف: 15 ]. (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب. وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر والفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) [ يوسف: 23 - 29 ]. يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلقت الابواب عليها وعليه وتهيأت له، وتصنعت، ولبست أحسن ثيابها، وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير * قال ابن اسحق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر. وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا أنه نبي من سلالة الانبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء. وحماه عن مكر النساء. فهو سيد السادة النجباء السبعة الاتقياء. المذكورين في الصحيحين عن خاتم الانبياء. في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الارض والسماء: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل. ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه. ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه. ورجلان تحابا في الله إجتمعا عليه وتفرقا عليه. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها (1/233) حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة الله. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله " (1). والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص فقال (معاذ الله إنه ربي) يعني زوجها صاحب المنزل سيدي (أحسن مثواي) أي أحسن إلي وأكرم مقامي عنده (إنه لا يفلح الظالمون) وقد تكلمنا على قوله (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) بما فيه كفاية ومقنع في التفسير (2). وأكثر أقوال المفسرين ههنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالاعراض عنه أولى بنا * والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرأه ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها * ولهذا قال تعالى (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين. واستبقا الباب) أي هرب منها طالبا إلى الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره (والفيا) أي وجدا (سيدها) أي زوجها لدى الباب فبدرته بالكلام وحرضته عليه (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب اليم). اتهمته وهي المتهمة وبرأت عرضها ونزهت ساحتها فلهذا قال يوسف عليه السلام (هي راودتني عن نفسي) إحتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة (وشهد شاهد من أهلها) قيل كان صغيرا في المهد قاله ابن عباس * وروي عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك واختاره ابن جرير. وروي فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس ووقفه غيره عنه * وقيل كان رجلا قريبا إلى أطفير بعلها. وقيل قريبا إليها * وممن قال إنه كان رجلا ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن اسحاق وزيد بن أسلم فقال (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) أي لانه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه (وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) أي لانه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك وكذلك كان. ولهذا قال تعالى (فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) أي هذا الذي جرى من مكركن أنت (3) راودته عن نفسه * ثم اتهمته بالباطل ثم ضرب بعلها عن هذا صفحا فقال (يوسف أعرض عن هذا) أي لا تذكره لاحد لان كتمان مثل هذه الامور هو الاليق والاحسن وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها والتوبة إلى ربها فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. __________ (1) أخرجه البخاري في صحيحه: فتح الباري 10 / 36 / 660 و 24 / 26 و 81 / 24 وأخرجه مسلم في صحيحه 12 / 30 / 91 والترمذي في سننه 37 / 53 / 2391 والنسائي ومالك في الموطأ 51 / 5 / 14 وأحمد في مسنده 2 / 439. (2) يراجع تفسير ابن كثير ; تفسير سورة يوسف. (3) في نسخة: أنت الذي راودتيه عن نفسه. ثم اتهمتيه بالباطل. [ * ] (1/234) وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الاصنام إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك * ولهذا قال لها بعلها وعذرها من بعض الوجوه لانها رأت ما لا صبر لها على مثله إلا أنه عفيف نزيه برئ العرض سليم الناحية فقال (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) (1). (وقال (2) نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت اليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن. فلما رأينه أكبرنه وقطعن إيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم. قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين. قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) [ يوسف: 30 - 34 ] * يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الامراء وبنات الكبراء (3) في الطعن على إمرأة العزيز وعيبها، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا لانه مولى من الموالي وليس مثله أهلا لهذا ولهذا قلن (إنا لنراها في ضلال مبين) أي في وضعها الشئ في غير محله (فلما سمعت بمكرهن) أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها والاشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها فأظهرن ذما وهي معذورة في نفس الامر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها. واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين، كالاترج ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكينا، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه (4) الحالة. فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة. (فلما رأينه أكبرنه) أي اعظمنه وأجللنه وهبنه (5) وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم وبهرهن حسنه __________ (1) سورة يوسف الآية 29 وفيها: (واستغفري..) رجح الرازي أن يكون القائل هو الشاهد ; ويحتمل أن يكون المراد طلب المغفرة من الزوج أي طلب العفو والصفح، ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله. لان أولئك الاقوام كانوا يثبتون الصانع ; إلا انهم كانوا يعبدون الاوثان. (2) قوله (وقال نسوة) قال الرازي في تفسيره: لم يقل: وقالت نسوة لوجهين: - إن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنبته غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث. الثاني - قال الواحدي تقدم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع. (3) قال في تفسير الرازي: قال الكلبي هن أربع: امرأة ساقي العزيز، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب سجنه - وامرأة صاحب دوابه. وزاد مقاتل: وامرأة الحاجب. (4) في نسخة: في هذه. (5) في قول للرازي: أكبرن بمعنى حضن، قال الازهري يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت ; وهو أن المرأة إذا خافت = وفزعت فربما اسقطت ولدها ; وربما حاضت. [ * ] (1/235) حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في إيديهن بتلك الساكين ولا يشعرن بالجراح (وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم). وقد جاء في حديث الاسراء: " فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ". قال السهيلي وغيره من الائمة: معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام، لان الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه فكان في غاية نهايات الحسن البشرى، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم. ولم يكن بينهما أحسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة إمرأة الخليل عليه السلام. قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه * وقال غيره: كان في الغالب مبرقعا لئلا يراه الناس. ولهذا لما قام عذر (1) امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) ثم مدحته بالعصمة (2) التامة فقالت (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) أي امتنع (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين) وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته، فأبى أشد الاباء. ونأى لانه من سلالة الانبياء ودعا فقال في دعائه لرب العالمين (رب السجن أحب الي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب اليهن وأكن من الجاهلين) يعني إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وحطني بحولك وقوتك. ولهذا قال تعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم. ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين. ودخل معه السجن فتيان. قال احدهما إني أراني أعصر خمرا. وقال الآخر إني أراني احمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين. قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا __________ = وقال: وعندي يحتمل انهن إنما أكبرنه لانهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام. وحمل الآية على هذا الوجه أولى. 18 / 127 - 128. (1) في نسخة عذرن ; وهو مناسب أكثر. (2) في نسخة بالعفة. وفي نسخة أخرى: بالعصمة والعفة. [ * ] (1/236) إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذي فيه تستفتيان) [ يوسف: 34 - 41 ]. يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم أي ظهر لهم من الرأي بعدما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية وأخمد لامرها وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها فسجنوه ظلما وعدوانا. وكان هذا مما قدر الله له * ومن جملة ما عصمه به فإنه  أبعد له عن معاشرتهم. ومخالطتهم * ومن ههنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي أن من العصمة أن لا تجد. قال الله (ودخل معه السجن فتيان) قيل كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل " بنو " (1). والآخر خبازه يعني الذي يلي طعامه وهو الذي يقول له الترك " الجاشنكير " واسمه فيما قيل " مجلث " (2) كان الملك قد اتهمهما في بعض الامور فسجنهما * فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه ودله وطريقته وقوله وفعله وكثرة عبادته ربه وإحسانه إلى خلقه فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه * قال أهل التفسير رأيا في ليلة واحدة * أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه، ......

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...