65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج4.تابع شفاء الغرام

 -102- السعدي، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرويه، وفي تارخ الأزرقي عن جده عن سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن محمد بن عمرويه، ولعل محمد بن عمرويه في الرواية التي ذكرها عنه الترمذي سلك فيها جادة إسناده المتكرر في غير ما حدثت له عن أبي سلمة عن أبي هريرة، والله أعلم. وفي رواية محمد بن عمر المرسلة التي في تاريخ الأزرقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك عام الفتح على الحجون، ولا تضاد بين هذه الرواية على تقدير ثبوتها، وبين الرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو واقف بالحزورة، لإمكان الجمع بين الروايتين، بأن يكون قاله على الحجون في الفتح وبالحزورة حين خرج من مكة في عمرة القضية، لأنه أراد الإقامة بمكة ليبني فيها بزوجته ميمونة بنت الحارث الهلالية، فأبت عليه قريش ذلك، وظن بعض طرق الحديث التي أخرجناها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة حين هاجر إلى المدينة، لأن الأخبار الواردة في هجرته صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مستخفيا، ولو ركب بالموضع المشار إليه لأشعر ذلك بسفره، والقصد خلاف ذلك، والله أعلم. والحزورة بحاء مهملة مفتوحة وزاي معجمة، وعوام مكة يصحفون الحزورة ويقولون: عزورة بعين مهملة، وهذا التصحيف من قديم، لأني رأيت ذلك مكتوبا في حجر رباط رامشت بمكة، وتاريخه سنة تسع وعشرين وخمسمائة، والحزورة الرابية الصغيرة والجمع الحزاور، وكان عندها سوق الحناطين بمكة، وهي في أسفلها عند منارة المسجد الحرام التي تلي أجياد، وما وقع مصرحا به في مسند أحمد بن حنبل من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، وما ذكرناه في موضع الحزورة وهو المشهور المعروف على ما ذكره الأزرقي، وذكر عن بعض المكيين أن الحزورة بفناء دار الأرقم، يعني دار الخيزران التي عند الصفا، ونقل عن بعضهم أنها بحذاء الردم في الوادي، والله أعلم. والحزورة مخففة على وزن قسورة، وذكر الدارقطني أن تخفيف الحزورة هو الصواب، وأن المحدثين يفتحون الزاي ويشددون الواو وهو تصحيف، نقل ذلك عنه صاحب "المطالع"، قال: وقد ضبطناه بالوجهين عن ابن سراج ... انتهى. وأفاد الفاكهي سبب تسمية الحزورة، لأنه قال: لما ذكر ولاية ابن نزار للكعبة وبيته: فكان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد، فبنى صرحا بأسفل مكة عند سوق الحناطين اليوم وجعل فيه أمة له يقال لها الحزورة، فبها سميت حزورة مكة1... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 145، والقرى "ص: 647". ج / 1 ص -103- وقد روينا نحو حديث ابن الحمراء من رواية أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم وعبد الله بن عمرو بن العاص فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخبرني به الحافظان أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين وأبو الحسن علي بن أبي بكر المصريان سماعا بالقاهرة قالا: أخبرنا عبد الله بن محمد المقدسي، قال: أخبرنا علي بن أحمد الحنبلي، عن محمد بن معمر القرشي وأخته عائشة، قالا: أخبرنا سعيد بن أبي الرجاء، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن النعمان، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم المقري الحافظ، قال: أخبرنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، قال: أخبرنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة فقال: "قد علمت أنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت" أخرجه النسائي عن سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق بن همام، فوقع لنا بدلا له عاليا، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده، عن عبد الرزاق به. وعن إبراهيم بن خالد الصنعاني، عن رباح بن زيد عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن بعض الصحابة1. ولم يذكر صاحبنا الحافظ أبو الفضل العسقلاني أبقاه الله أن رواية معمر شاذة، يعني روايته لهذا الحديث، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال: والظاهر أن الوهم فيه من عبد الرزاق، لأن معمرا كان لا يحفظ اسم صحابيه كما جاءت رواية رباح عنه، وعبد الرزاق سلك الجادة فقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة. ثم قال: وإذا تقرر ذلك علم أن لا أصل له من حديث أبي هريرة، والله أعلم... انتهى. وروينا نحوه في الثالث من حديث المخلص السقاء بن أبي الفوارس، وفي "المنتقى" من سبعة أجزاء من حديث المخلص أيضا من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أخبرني به القاضي المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي سماعا بطيبة عن أحمد بن أبي طالب إذنا وكتابة، وأنبأني به محمد بن عبد الرحمن القضاعي في كتابه أن أحمد بن أبي طالب أخبره سمعا، قال: أخبرنا أحمد بن يعقوب المارستاني إذنا، قال: أخبرنا أبو المعالي بن النحاس، عن أبي القاسم بن البشرين قال: أخبرني أبو طاهر المخلص، قال: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سنان، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، قال: خرجت في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه ابن حبان في موارد الظمآن "ص: 253"،وابن ماجه "3108"، وأحمد 4/ 305. ولم نجده في سنن النسائي ولا عزاه له جامع الأصول 9/ 292". ج / 1 ص -104- وفد فيه أبو هريرة... فذكر عن أبي هريرة في حديث ذكره أنه قال: لما قدمنا مكة أتته الأنصار وهو قائم على الصفا فجلسوا حوله، فجعل يقلب بصره في نواحي مكة وينظر إليها ويقول: "والله لقد عرفت أنك أحب البلاد إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجت"1. وبه إلى المخلص قال: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن سنان بالرملة، قال: حدثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: حدثنا ثابت، قال: حدثنا عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة رضي لله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وبه قال ابن صاعد. هذان الخبران لم يأت بهما في هذا الحديث إلا مؤمل بن إسماعيل ... انتهى. وإسناد هذا الحديث فيه نظر، لأن مؤمل بن إسماعيل الذي تفرد به كثير الخطأ على ما قال أبو حاتم2، وفيه نظر أيضا لمكان غيره فيه، وإنما أوردناه لغرابته، والله أعلم. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما: فأخبرني به المسندان الإمام المفتي أبو أحمد إبراهيم بن محمد اللخمي ومحمد بن حسن بن علي القرشي المصريان سماعا على الثاني وأجازه ومشافهة من الأول: أن الحافظ أبا الفتح اليعمري أخبرهما سماعا قال: قرأت على أبي حفص عمر بن عبد المنعم القواس من غوطة دمشق: أخبركم أبو لقاسم عبد الصمد بن محمد الأنصاري، قال: أخبرنا أبو الحسين بن المسلم، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب، قال: أخبرنا ابن جميع، قال: حدثنا إبراهيم بن معاوية، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا نصر بن عاصم، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان، قال: حدثنا نصر بن عاصر، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا طلحة، عن عطاء بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله وأكرمها على الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"3. وعاليا عمر بن حسن المزي في إذنه العام، قال: أخبرنا عمر بن عبد المنعم المذكور بسنده السابق، أخرجه الترمذي في المناقب، عن محمد بن موسى البصري، عن فضيل بن سليمان4. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن الحسن بن سفيان، عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الدارمي 2/ 239، وأبو يعلي "5928". 2 الجرح والتعديل 8/ 374 رقم 1709. 3 رواه ابن جميع الصيداوي في معجم الشيوخ مخطوطة ليدن ص 88، 89. 4 الترمذي "3921". ج / 1 ص -105- فضيل بن الحسين الجحدري، عن فضيل بن سليمان، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير وابن الطفيل كلاهما عن ابن عباس1، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب في هذا الوجه. وأما حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فذكره الفاكهي في كتابه "أخبار مكة" ولفظه: وحدثنا ميمون بن الحكم الصنعائي، قال: حدثنا محمد بن جعشم، عن ياسين بن معاذ، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على أهل مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدري أين بعثتك؟ بعثتك على أهل الله، ليس بلد أحب إلى الله عز وجل ولا إلي منها ولكن قومي أخرجوني فخرجت، ولو لم يخرجوني لم أخرج". وحدثنا عبد الله بن عمران، قال: حدثنا سعيد بن سالم، قال: حدثنا عثمان بن ساج، قال أخبرني يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن شهاب الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من حديث ميمون2... انتهى. وحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء السابق هو حجة القائلين بأفضلية مكة على غيرها من البلاد والأماكن، ما خلا المكان الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل بقاع الأرض بالإجماع، على ما نقل القاضي عياض في شرح مسلم، حتى قيل إنه أفضل من موضع الكعبة على ما صرح به أبو اليمن ابن عساكر في إتحافه، وممن قال بأفضلية مكة على غيرها من البلاد الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه، وابن وهب وابن حبيب من المالكية، وقال العبدي: إنه مذهب أكثر الفقهاء، وقال ابن عبد البر: إن ذلك يروى عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وغيرهم من الصحابة، قال: وهم أولى أن يقلدوا ممن جاء بعدهم، قال: وحسبك بفضل مكة أن فيها بيت الله الذي رضي بحط الأوزار للعباد بقصده في العمر مرة، ولم يقبل من أحد منهم صلاة إلا باستقبال جهته إن قدر على التوجه إليها، وهي قبلة المسلمين أحياء وأمواتا... انتهى. قلت: الفضل الثابت لمكة ثابت لجميع حرمها كما ذكره المحب الطبري في "القرى لقاصد أم القرى"، وضعف ابن عبد البر بعض الأحاديث المستدل بها على أن المدينة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 صحيح ابن حبان "3708"، والترمذي في المناقب 5/ 722 وقال حديث غريب. 2 أخبار مكة للفاكهي 3/ 67 وقال عنه: إسناده ضعيف جدا، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 890، وعزاه الطبراني في الكبير، وقد رواه البيهقي في سننه 5/ 339- 340، من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب. ج / 1 ص -106- أفضل من مكة، من ذلك الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين خرج من مكة إلى المدينة: "اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليَّ فأسكني أحب البلاد إليك"1. الحديث، قال فيه ابن عبد البر: إنه لا يصح ولا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه... انتهى. وعلى تقدير صحته فلا دلالة فيه لمن استدل به على ما ذكره المحب الطبري، لأنه لما ذكر اختلاف العلماء في تفضيل المدينة على مكة في الفصل الذي عقده لفضل مسجد المدينة والصلاة فيه، قال: وما احتجوا به من قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجتني من أحب البلاد أو البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك" محمول على أنه أراد أحب البقاع إليك بعد مكة، بدليل حديث النسائي وابن حبان المتقدم في فضل مكة، يعني حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، فإنه دل على أنها أحب أرض الله إلى الله، على أن هذا الحديث نفسه لا دلالة فيه، لأن قوله: وأسكني في أحب البقاع إليك، هذا السياق يدل في العرف على أن المراد بعد مكة، فإن الإنسان لا يسأل عما خرج منه، فإن قال: أخرجتني فأسكني، يدل على إرادة غير الخروج منه، فيكون مكة مسكوتا عنها في الحديث... انتهى. وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المدينة خير من مكة" كما في معجم الطبراني2، قال فيه ابن عبد البر ضعيف الإسناد ولا يحتج به، وقيل: إنه موضوع، وذكره الذهبي في "فضل البلدان" وقال: حديث واه منكر، وهذان الحديثان أشهر الأحاديث المستدل بها على أن المدينة أفضل من مكة، وممن قال بذلك: الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- وأصحابه، خلا من ذكرنا، ونقل القاضي عياض ذلك عن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر أهل المدينة3، والله أعلم. ولا ريب في أن مكة والمدينة أفضل من سائر البلاد، لإجماع الناس على ذلك، كما ذكره القاضي عياض، كما أن بيت المقدس أفضل من سائرها بعد مكة والمدينة للإجماع، ومستند الإجماع في ذلك: أحاديث مشهورة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مستدرك الحاكم 3/ 3. 2 أخرجه الطبراني بلفظ "المدينة خير من مكة" وفيه "محمد بن عبد الرحمن بن داود" وهو مجمع على ضعفه. ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 299. 3 إعلام المجد "ص: 186"، المحلى 7/ 284. ج / 1 ص -107- ذكر الأحاديث الدالة على أن الصلاة بمسجد مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد: روينا في ذلك أحاديث من حديث أنس بن مالك وجابر بن عبد الله الأنصاريين وعبد الله بن الزبير بن العوام وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي الدرداء وأم الدرداء وعائشة -رضي الله عنهم، وقد أخرجنا هذه الأحاديث في أصل هذا الكتاب بأسانيدها، ونقتصر هنا على عَزْوِها لكتب أهل العلم. فأما حديث أنس وجابر رضي الله عنهما ففي سنن ابن ماجه1، وإسناده في حديث جابر صحيح، على ما قال ابن جماعة في منسكه، وحديث ابن الزبير في مواضع يأتي ذكرها. وحديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما- في مسند ابن حنبل2، وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه في "المعجم الكبير" للطبراني بسند حسن على ما قال بعض مشايخنا3، وحديث أم الدرداء رضي الله عنها في الإتحاف لابن عساكر، وحديث عائشة رضي الله عنها في "المعجم الأوسط" للطبراني، وحديث ابن الزبير رضي الله عنهما عندي أعلاها، وقد أخبرني به إبراهيم بن محمد الصوفي سماعا بمكة، أن أحمد بن أبي طالب الصالحي أخبره عن ابن اللتي وابن بهروز قالا: أخبرنا أبو الوقت، قال: أخبرنا الداودي، قال: أخبرنا الحموي، قال: أخبرنا إبراهيم بن حزيم، قال: حدثنا عبد بن حميد الحافظ، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة"4. وأخبرنيه أعلى من هذا علي بن محمد الخطيب عن أبي بكر الوشتي، قال: أخبرنا الحافظ ابن خليل، قال: أخبرنا الرازي، قال: أخبرنا الحداد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: أخبرنا عبد الله بن فارس، قال: أخبرنا يونس بن حبيب، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة صلاة"5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سنن ابن ماجه "1406". 2 مسند أحمد 2/ 528. 3 الطبراني في الكبير "2/ 151 رقم 1605- 1607. 4 أخرجه: مسلم "3/ 416"، أحمد 2/ 29، 4/ 5، أبو يعلي "5760"، أخبار أصفهان 1/ 353. 5 أخرجه مسلم، "الصلاة: 451"، ورواه ابن خزيمة بنحوه وإسناده صحيح أيضا، الترغيب والترهيب 2/ 214. ج / 1 ص -108- قال عطاء: فكانت مائة ألف، قال قلت: يا أبا محمد هذا الفضل الذي يذكر في المسجد الحرام وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم، فإن الحرم كله مسجد، ورأيناه في "إتحاف الزائر" لأبي اليمن ابن عساكر من حديث شبابة بن سواد، عن الربيع بن صبيح به، إلا أن فيه: "وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف". ورأيناه في مسند ابن حنبل والبزار ومعجم الطبراني الكبير بألفاظ مختلفة. ويتحصل من طرق حديث ابن الزبير ثلاث روايات، أحدها: أن الصلاة بالمسجد الحرام تفضل على الصلاة بمسجد المدينة بمائة صلاة كما في مسند عبد بن حميد وابن حنبل والبزار، وإحدى روايتي الطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح. والرواية الأخرى: أن الصلاة في المسجد الحرام تفضل على الصلاة بمسجد المدينة بألف صلاة كما في مسند الطيالسي وإتحاف ابن عساكر، وحديث ابن الزبير من رواة حماد بن زيد أخرجه ابن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن محمد بن عبد الله بن حسان عن حماد بن زيد1، فوقع لنا عاليا، وقد روي موقوفا على ابن الزبير، ومن رفعه فهو أحفظ وأثبت من جهة النقل على ما قاله ابن عبد البر، وصحح هذا الحديث وقال: إنه الحجة عند التنازع، وإنه نص في موضع الخلاف، قاطع عند من ألهم رشده ولم تمل به عصبيته ...... انتهى. وحديث كل من أنس وجابر وأبي الدرداء -رضي الله عنهم- في الصلاة في المسجد الحرام يقتضي تفضيل الصلاة بالمسجد الحرام على الصلاة بمسجد المدينة كحديث ابن الزبير الذي في "مسند الطيالسي" وإتحاف ابن عساكر، وحديث ابن عمر ليس في بيان ما تفضل الصلاة به في المسجد الحرام على الصلاة في غيره، وإنما يقتضي أن الصلاة فيه أفضل من غيره، وحديث أبي هريرة يقتضي أن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجد المدينة بمائة صلاة، هذا مقتضى حديث ابن عمر وأبي هريرة في كتاب الفاكهي2. وقد ورد في فضل الصلاة بالمسجد الحرام ثواب أكثر من هذا، لأن الفاكهي قال: حدثني عبد الله بن منصور عن عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: من صلى في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام في جماعة خمسة وعشرين مرة، كتب الله له مائة ألف صلاة، ومن صلى في المسجد الحرام أو في بيته أو في الحرم، كتب الله له مائة ألف صلاة، قيل له، أو قال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 صحيح ابن حبان "1625". 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 96. ج / 1 ص -109- رجل من التابعين: أَعَنْ رأيك هذا يا ابن عباس، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ....... انتهى، وعبد الرحيم ضعيف. وقال الفاكهي أيضا: وحدثني محمد بن صالح البلخي، قال: حدثنا أبو مطيع الحكم بن عبد الله القرشي، قال: حدثنا المسيب، عن المبارك بن حسان، عن الحسن ومعاوية بن قرة قالا: الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف صلاة وخمسمائة صلاة، والصلاة في الحرم كله بمائة ألف صلاة2... انتهى. وروينا عن الجندي في كتاب "فضائل مكة" له، قال: حدثنا إسحق بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن مغفل، عن وهب بن منبه، قال: وجدت مكتوبا في التوراة: من شهد الصلوات الخمس في المسجد الحرام كتب الله له بها اثنا عشر ألف ألف وخمسمائة ألف صلاة. وروى الجندي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 106] حديثا يقتضي أن المراد بذلك الصلوات الخمس جماعة في المسجد الحرام، ولفظه: حدثنا عبد الله بن أبي غسان، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِين}. ثم قال: "هي الصلوات الخمس في الجماعة في المسجد الحرام". ولنذكر فوائد تتعلق بحديث ابن الزبير -رضي الله عنهما، وما شابهه. منها: أن ابن كنانة المالكي وغيره من المالكية قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". كما في الصحيحين3: أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة خلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف ليستقيم لهم بذلك ما رووا من تفضيل الصلاة بالمدينة على الصلاة بمكة، وحديث ابن الزبير وما شابهه من الأحاديث التي ذكرناها يدفع هذا التأويل، لأنها تقتضي تفضيل الصلاة بمكة على الصلاة بالمدينة، والله أعلم. ومنها: أن النقاش المفسر حسب الصلاة بالمسجد الحرام على مقتضى حديث: "إن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة"، فبلغت صلاة واحدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 92، وقال فيه: إسناده حسن، وفيه "عبد الرحيم بن زيد العمي". 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 106، والحديث إسناده ضعيف، ذكره المحب الطبري في القرى "ص: 657" وعزاه لسعيد بن منصور. 3 أخرجه البخاري 3/ 54، ومسلم "الحج رقم 1394". ج / 1 ص -110- بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وصلاة يوم وليلة وهي خمس صلوات في المسجد الحرام عمر مائتي سنة وسبعة وتسعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال... انتهى. قلت: رأيت لشيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب المصري الإشاري1 كلاما حسنا في هذا المعنى، لأنه قال فيما أنبأنا به: إن كل صلاة بالمسجد الحرام فرادى بمائة ألف صلاة كما ورد في الحديث، وكل صلاة فيه جماعة بألفي ألف صلاة وسبعمائة ألف صلاة، والصلوات الخمس فيه بثلاثة عشر ألف ألف وخمسمائة صلاة، وصلاة الرجل منفردا في وطنه غير المسجدين المعظمين، كل مائة سنة شمسية بمائة وثمانين ألف صلاة، وكل ألف سنة بألف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة، فتلخص من هذا: إن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة يفضل ثوابها على ثواب من صلى في بلده فرادى، حتى بلغ عمر نوح عليه السلام نحو الضعف، وسلام على نوح في العالمين. وهذه فائدة تساوي رحلة. ثم قال: هذا إذا لم تضف إلى ذلك شيئا من أنواع البر، فإن صام يوما، وصلى الصلوات الخمس جماعة، وجعل فيه أنواعا من البر قلنا بالمضاعفة، فهذا مما يعجز الحساب عن حصر ثوابه2... انتهى. ومنها: أن للعلماء المالكية وغيرهم خلافا في هذا الفضل: هل يعم الفرض والنفل، أو يختص بالفرض؟ وهو مقتضى مشهور مذهبنا ومذهب أبي حنيفة، والقول بالتعميم مذهب الشافعي على ما صرح به النووي. ومنها: أن للعلماء خلافا في المراد بالمسجد الحرام، فقيل: مسجد الجماعة الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه، حكاه المحب الطبري، وذكر أنه يتأيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، والإشارة بمسجده إلى مسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك... انتهى. وقيل: المراد بالمسجد الحرام الحرم كله، قال المحب الطبري3: ويتأيد بقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد} [الحج: 25]. أو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]. وكان ذلك من بيت أم هانئ... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو العلامة المفسر شيخ القراء أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي النقاس، صاحب "شفاء الصدور" في التفسير، و"الإشارة في غريب القرآن"، توفي سنة 351هـ "انظر ترجمته في أعلام النبلاء 15/ 537 والمنتظم 14/ 148. 2 مثير الغرام الساكن "ص: 254". 3 القرى "ص: 657". ج / 1 ص -111- وقيل: المراد بالمسجد الحرام الكعبة خاصة، ذكره المحب الطبري1 عن بعضهم وأُبْهِم له، قال: واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا، وذكر أنه يتأيد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا الكعبة". أخرجه النسائي2... انتهى باختصار. وذكر بعض الحفاظ من أصحابنا أن في بعض طرق هذا الحديث إلا "مسجد الكعبة"، وعلى هذا فلا تستقيم الدلالة بالحديث الذي ذكره المحب الطبري1 على أن المراد بالمسجد الحرام الكعبة خاصة، والله أعلم. ومنها: هذا التضاعف بالنسبة إلى الثواب لا بالنسبة إلى إسقاط الفوائت كما يتخيله كثير من الجهال، ولذلك نبهنا عليه. وممن صرح بذلك النووي في شرح مسلم، وقد ظهر بما ذكرناه من الأحاديث وكلام العلماء تفضيل مكة على سائر البلاد، وأن ثواب الصلاة فيها أفضل من ثوابها في غيرها، وجاء أحاديث تدل على تفضيل ثواب الصوم وغيره من القربات بمكة على ثواب ذلك في غيرها، إلا أنها في الثبوت ليست كأحاديث فضل مكة والصلاة فيها، وحديث تفضيل الصوم بمكة على غيرها. رويناه في مسند ابن ماجة3، وفي تاريخ الأزرقي، وفي "المجالس المكية" للميانشي4، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وعنه ورد تضاعف حسنات الحرم على غيرها، لأنا روينا عن زاذان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إليها كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. فقال بعضهم لابن عباس: وما حسنات الحرم؟ قال: كل حسنة بمائة ألف حسنة". انتهى. رواه البيهقي بسنده إلى عيسى بن سوادة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زاذان، وقال: تفرد به عيسى بن سوادة، وهو مجهول5... انتهى. قلت: لم ينفرد به عيسى بن سوادة كما ذكر البيهقي، لأنا رويناه في الأربعين المختارة لخطيب مكة: الحافظ ابن مسدي، وغيرها من حديث سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد الذي رواه عنه ابن سوادة. وقال ابن مسدي: هذا حديث حسن غريب... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 657". 2 سنن النسائي 2/ 33 كتاب المساجد باب فضل الصلاة في المسجد الحرام. 3 سنن ابن ماجه 2/ 1041 رقم "3117". 4 الميانشي هو: عمر بن عبد المجيد بن عمر القرشي، الميانشي، من قرى المهدية بإفريقية، وله مؤلفات منها: "تعليقات على الفردوس" وغيره "انظر ترجمته في: الأعلام 5/ 53". 5 أخرجه: البيهقي في الشعب "3981"، وقال: فيه عيسى بن سوادة مجهول. ج / 1 ص -112- ورواه الحاكم1 من الوجه الذي رواه البيهقي وصحح إسناده، وقال المحب الطبري بعد أن أخرج هذا الحديث: وهذا الحديث يدل على أن المراد بالمسجد الحرام في فضل تضعيف الصلاة الحرم جميعه، لأنه عم التضعيف في جميع الحرم، وكذلك حديث تضعيف الصلاة عمن في جميع مكة، وحكم الحرم ومكة في ذلك سواء باتفاق، إلا أن يخص المسجد بتضعيف زائد على ذلك، فيقدر كل صلاة بمائة ألف صلاة فيما سواه والصلاة فيما سواه بعشر حسنات فتكون الصلاة فيه بألف ألف حسنة، والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة ألف حسنة، ويشهد لذلك ظاهر اللفظ2، والله أعلم. قال: وعلى هذا تكون حسنة الحرم بمائة ألف حسنة وحسنة مسجده، إما مسجد الجماعة، وإما الكعبة على اختلاف القولين بألف ألف، ويقاس بعض الحسنات على بعض أو يكون ذلك خصيصا للصلاة، والله أعلم... انتهى. وروينا عن الحسن البصري ما يقتضي تضاعف الحسنة بمكة إلى مائة ألف حسنة، لأنه قال: صوم يوم بمكة بمائة ألف، وصدقة درهم بمائة ألف، وكل حسنة بمائة ألف... انتهى. وذكر المحب الطبري أن فيما تقدم من أحاديث مضاعفة الصلاة والصوم بمكة دليلا على إطراد التضعيف في جميع الحسنات إلحاقا بهما. قال: ويؤيد ذلك قول الحسن2... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مستدرك الحاكم 1/ 461، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. 2 القرى "ص: 658". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -113- الباب السادس: ذكر المجاورة بمكة: المجاورة بمكة مستحبة عند أكثر العلماء، منهم: الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، وابن القاسم صاحب مالك، لأنه قال: إن جوار مكة مما يتقرب به إلى الله، كالرباط، والصلاة، نقل ذلك عنه ابن الحاج المالكي في "منسكه". واستحبها أيضا أحمد بن حنبل، لأنه روي عنه أنه قال: ليت أني الآن مجاور بمكة. وممن كره المجاورة بمكة: أبو حنيفة، وفهم ذلك ابن رشد المالكي من كلام وقع لمالك. وسبب الكراهة عند من رآها من العلماء على ما قال المحب الطبري في "القرى": خوف الملل وقلة الاحترام لمداومة الأنس بالمكان، وخوف ارتكاب ذنب هنالك، فإن المعصية ليست كغيرها، وتهيج الشوق بسب الفراق1. وقال أبو عمرو الزجاجي: من جاور بالحرم وقلبه متعلق بشيء سوى الله تعالى فقد ظهر خسرانه. وقال المحب أيضا: ولم يكره المجاورة أحمد بن حنبل في خلق كثير، وقالوا إنها فضيلة، وما يُخاف من ذنب فيقابل بما يُرجى لمن أحسن من تضعيف الثواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 661". ج / 1 ص -114- وقد نزل بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعة وخمسون رجلا سردهم المحب في "القرى"1. وذكر النووى في "الإيضاح": أن المختار استحباب المجاورة بمكة، وعلل كراهة من كرهها من العلماء بنحو مما قال المحب، ثم قال: وأما من استحبها، فلما فيها من تضاعف الحسنات والطاعات، وقد جاور بها مما يقتدى به من سلف الأمة وخلفها خلائق لا يحصون... انتهى. قلت: يدل لاستحباب المجاورة بمكة: رغبة النبي صلى الله عليه في سكناها، كما في حديث عبد الله بن الحمراء، وابن عباس، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم. وتمنى بلال رضي الله عنه العود إلى أماكن بعضها بمكة وبعضها حولها، حيث يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة وهل تبدون2 لي شامة وطفيل هكذا رويناه في تاريخ الأزرقي3. وفي البخاري: بوادٍ، عوض قوله بفخ. وقد سبق أن الإذخر نبت معروف طيب الرائحة، والجليل: النمام، وقيل: النمام إذا جل، وفخ: هو وادي الزاهر، لأن ياقوتا في "معجم البلدان"4 قال لما ذكر فخ: قال السيد على بن وهاس العلوي: فخ وادي الزاهر، فيه قبور جماعة من العلويين قتلوا فيه في وقعة كانت لهم مع أصحاب موسى الهادي بن المهدي بن المنصور في ذي الحجة سنة تسع وستين ومائة، وللشعراء فيها مراثٍ كثيرة... انتهى5. وعلي بن وهاس هذا من فضلاء مكة ممن أخذ عن الزمخشري، ولأجله صنف "الكشاف" على ما قيل، ومدحه الزمخشري في "الكشاف". وسيأتي في الباب الأربعين إن شاء الله تعالى ذكر مجنة، وشامة، وطفيل، ويدل لذلك قول عائشة رضي الله عنها لولا الهجرة لسكنت مكة، إني لم أر السماء بمكان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 661"، وانظر مثير الغرام الساكن. 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 191: "يتدون" وكذلك في معجم البلدان 3/ 315. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 191. 4 معجم البلدان 4/ 237. 5 تاريخ الطبري 10/ 28، والكامل لابن الأثير 6/ 33، والعقد الثمين 4/ 196، وإتحاف الورى 2/ 22، 221. ج / 1 ص -115- أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة. وروينا ذلك في تاريخ الأزرقي1. ويدل لذلك ما رويناه عن الجندي في "فضائل مكة" له، قال: حدثنا أبو صالح محمد بن زنبور قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مطر، عن أبي الطفيل قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما أقم بمكة وأن أكلت بها العضاة، يعني الشجر. ويدل لذلك أمور أخر ذكرناها في أصل هذا الكتاب مع أشياء أخر تتعلق بحكم المجاورة بمكة، وفيما ذكرناه هنا من ذلك كفاية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 153. ذكر شيء مما جاء في الموت بمكة: روينا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث ثم قال: "ومن مات بمكة فإنما مات في سماء الدنيا"1 إسناده ضعيف. وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات بمكة فكأنما مات في سماء الدنيا"2. وروينا في "فضائل مكة" للجندي، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات بمكة بعثه الله في الآمنين يوم القيامة"3. وروينا فيه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا من جملة حديث يتعلق بالكعبة قال فيه: "إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل فقال: يا رب، أسألك من حج هذا البيت من ذريتي لا يشرك بك شيئا أن تلحقه بي في الجنة، فقال الله تعالى: يا آدم من مات في الحرم لا يشرك بي بعثته آمنا يوم القيامة". وروينا فيه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة في الآمنيين"4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: البيهقي في الشعب "4151، 4152" وعزاه إلى البخاري في تاريخه. 2 أخرجه: البيهقي في شعب الإيمان "4158". 3 أخرجه: الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أحمد وغيره وإسناده حسن، مجمع الزوائد 2/ 319. 4 أخرجه: الدارقطني عن حاطب 2/ 278. ج / 1 ص -116- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات بمكة أو في طريق مكة بعث من الآمنين"1 ذكره ابن جماعة في "منسكه". قال: ويروي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى عن ما لأهل بقيع الغرقد؟ فقال: لهم الجنة. فقال: يا رب ما لأهل المعلاة؟ قال: يا محمد سألتني عن جوارك فلا تسألني عن جواري... انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر شيء من فضل مقبرة المعلاة في الباب الحادي والعشرين. وروينا في مسند الطيالسي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من زارني كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله تعالى من الآمنيين يوم القيامة"2. وروى خاطب بن أبي بلتعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات في أحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة"3. أخرجه هكذا ابن الحاج المالكي في "منسكه". وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات في أحد الحرمين استوجب شفاعتي، وكان يوم القيامة من الآمنين" أخرجه ابن جماعة4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مجمع الزوائد 2/ 319، وعزاه للطبراني في الصغير. 2 أخرجه الترمذي في المناقب "فضل المدينة" 5/ 719 وقال: حسن غريب. وابن ماجه 2/ 1039، وموارد الظمآن "ص: 55". 3 أخرجه الدارقطني عن حاطب 2/ 278. 4 هداية السالك 1/ 116، ومجمع الزوائد 2/ 319، وعزاه للطبراني في الكبير وقال: وفيه عبد الغفور بن سعيد وهو متروك. ذكر شيء مما جاء في فضل أهل مكة: روينا في كتاب "النسب" للزبير بن بكار قاضي مكة، وفي غيره من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة فقال له: "هل تدري إلى من أبعثك؟ أبعثك إلى أهل الله"1. وروينا في تاريخ الأزرقي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن أبي مليكة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعتاب: "أتدري على ما استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرا" يقولها ثلاثا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: الأزرقي في تاريخ مكة 2/ 151، 153 من طريقين مرسلين. ج / 1 ص -117- وروينا في تاريخ الأزرقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزل عامله نافع بن عبد الحارث الخزاعي لاستعماله على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزي واشتد عليه غضبه لذلك، ولم يسكن غضبه عنه إلا عندما أخبره أن ابن أبزي قارئ لكتاب الله تعالى1. ووجدت بخط بعض أصحابنا فيما نقله من خط الشيخ أبي العباس الميورقي ورد أن: "سفهاء مكة حشو الجنة". واتفق يبن عالمين في الحرم منازعة في تأويل الحديث وسنده، فأصبح الذي طعن في الحديث ومعناه، قد طعن أنفه واعوج، وقيل له: إي والله وسفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة، سفهاء مكة من أهل الجنة فأدركه روع وخرج إلى الذي كان يكابره في الحديث من علماء عصره، وأقر على نفسه بالكلام فيما لا يعنيه، وفيما لا يحيط به خبرا... انتهى باختصار. وبلغني أن الرجل المنكر للحديث هو: الإمام تقي الدين محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني الشافعي نزيل مكة ومفتيها، وبلغني أنه كان يقول: إنما الحديث: أَسْفَى -مكة أي المحزونون فيها على تقصيرهم- والله أعلم. ومن الأخبار الواردة في فضل أشراف مكة. ما ذكره الشيخ جمال الدين أبو محمد عبد الغفار ابن القاضي معين الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحميد الشهير بابن نوح الأنصاري الخزرجي الأقصري المولد، القوصي الدار، في كتابه "المنتقى من كتاب الوحيد في سلوك طريق أهل التوحيد والتصديق والإيمان بأولياء الله تعالى في كل زمان"، لأنه قال: وأخبرتني الحاجة أم نجم الدين بنت مطروح -وكانت من الصالحات، وكانت زوجة القاضي سراج الدين- قالت: حصل لنا غلاء بمكة شرفها الله تعالى وأكل الناس الجلود، وكنا ثمانية عشر نفرا، فكنا نعمل ما مقداره نصف قدح حسوة، فبينما نحن كذلك إذ جاءنا أربعة عشر قطعة دقيق، وجاء خلفها أهل مكة شرفها الله تعالى فاقتطعت منها أربع قطع وقلت له: أنت تريد تقتلنا بالجوع، وفرق العشر القطع على أهل مكة، فلما كان الليل قام من منامه مرعوبا وربما قالت: فبكى فقلت له ما بالك؟ قال: رأيت الساعة أو رأيت في منامي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وهي تقول: يا سراج تأكل البر وأولادي جياع! فقام وفرق الأربع قطع على الأشراف، وبقينا بلا شيء، وما كنا نقدر على القيام من الجوع... انتهى. وروينا في أصل هذا الكتاب من تاريخ الأزرقي وغيره أخبارا أخر تدل على فضل أهل مكة، تركنا ذكرها هنا اختصارا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 151. ج / 1 ص -118- ذكر شيء من فضل جدة ساحل مكة وشيء من خبرها: قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن منصور، عن سليم بن مسلم، عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة رباط، وجدة جهاد"1. حدثنا إبراهيم بن أبي يوسف، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: إنما جدة خزانة مكة، وإنما يؤتى به إلى مكة ولا يخرج به منها2. حدثنا ابن أبي يوسف قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن جريج قال: مكة رباط: وجدة جهاد3. قال ابن جريج: إني لأرجو أن يكون فضل مرابط جدة على سائر المرابط، كفضل مكة على سائر البلدان. حدثنا محمد بن علي الصايغ، حدثنا خليل بن رجاء قال: حدثنا مسلم أبو يونس قال: حدثني محمد بن عمر، عن ضوء بن فجر قال: كنت جالسا مع عباد بن كثير في المسجد الحرام فقلت: الحمد لله الذي جعلنا في أفضل المجالس وأشرفها، قال: وأين أنت عن جدة؟ الصلاة فيها بسبعة عشر ألف ألف صلاة، والدرهم فيها بمائة ألف. وأعمالها بقدر ذلك، يغفر للناظر فيها مد بصره. قال: قلت: رحمك الله، مما يلي البحر؟ قال: مما يلي البحر. ثم قال الفاكهي: حدثنا إبراهيم بن أبي يوسف: قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: سمعت عبد الله بن سعيد بن قنديل قال: جاءنا فرقد السنجي بجدة فقال: إني رجل أقرأ هذه الكتب، وإني لأجد فيما أنزل لله عز وجل من كتبه: جدة أو جديد يكون بها قتلى وشهداء، لا شهيد يومئذ على ظهر الأرض أفضل منهم. وقال بعض أهل مكة: إن الحبشة جاءت في سنة ثلاث وثمانين في مصدرها، فوقعوا بأهل مكة، فخرج الناس من مكة إلى جدة وأميرهم عبد الله بن محمد بن إبراهيم، فخرج الناس غزاة في البحر، واستعمل عليهم عبد الله بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 312، 313، والحديث إسناده ضعيف جدا، وفيه سليم بن مسلم المكي، هو المعروف بالخشاب، قال أحمد: ليس يسوي حديثه شيئا، وقال ابن معين: ليس بثقة، وفيه أيضا: المثنى بن الصباح ضعيف "ينظر: الجرح والتعديل 4/ 315" والتقريب "2/ 228". 2 أخبار مكة للفاكهي 3/ 53. 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 52. ج / 1 ص -119- محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. وجدت هذا في كتاب أعطانيه بعض المكيين عن أشياخه يذكر هذا1... انتهى. وإبراهيم جد عبد الله بن محمد أمير مكة هذا هو إبراهيم المعروف بالإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أخو السفاح. والمنصور، حفيده عبد الله هذا، ولى مكة للرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي، وعلى هذا فسنة ثلاث وثمانين المشار إليها في هذا الخبر سنة ثلاث وثمانين ومائة2. وفي بعض الكتب أن اسم عبد الله هذا: عبيد الله، والله أعلم بالصواب. وجدة هي الآن ساحل مكة الأعظم. وعثمان بن عفان رضي الله عنه أول من جعلها ساحلا، بعد أن شاور الناس في ذلك، لما سئل فيه في سنة ست وعشرين من الهجرة، وكانت الشعيبة ساحل مكة قبل ذلك3. وذكر ابن جبير أنه رأى بجدة أثر سور محدق بها، وذكر أن بها مسجدين ينسبان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن أحدهما يقال له: مسجد الأبنوس، لساريتين فيه من خشب الأبنوس، وهذا المسجد معروف إلى الآن، والمسجد الآخر غير معروف، ولعله والله أعلم المسجد الذي تقام الجمعة فيه بجدة، وهو من عمارة الملك المظفر صاحب اليمن على ما بلغني. وذكر ابن جبير أيضا أنه كان بجدة موضع فيه قبة مشيدة عتيقة يذكر أنها منزل حواء أم البشر زوج آدم عليهما السلام4... انتهى. ولعل هذا الموضع هو الموضع الذي يقال له: قبر حواء، وهو مكان مشهور بجدة، إذ لا مانع من أن تكون نزلت فيه ودفنت فيه، والله أعلم. وأستبعد أن يكون قبر حواء بالموضع المشار إليه لكون ابن جبير لم يذكره، وما ذاك إلا لخفائه عليه، فهو فيما عليه، وهو من الزمن أخفى، والله أعلم. وروى الفاكهي بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن قبر حواء بجدة... انتهى باختصار. وبها دور كثيرة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 52، 53. 2 إتحاف الورى 2/ 232. 3 إتحاف الورى 2/ 20. 4 رحلة ابن جبير "ص: 55". ج / 1 ص -120- ذكر شيء من فضل الطائف وخبره: أخبرني أبو هريرة ابن الحافظ الذهبي بقراءتي عليه في الرحلة الأولى بغوطة دمشق، أن يحيى بن محمد بن سعد الأنصاري أخبره سماعا وتفرد بالسماع منه قال: أنبأنا أبو المنجا بن اللتي وغيره قال: أنبأنا أبو حفص عمر بن عبد الله الحربي، قال: أنبأنا أبو غالب محمد بن عبيد لله العطار قال: أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد البزار قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال: أنبأنا أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي1 قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى الحميدي القرشي، ثم الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن إنسان، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من "لية" قال الحميدي: مكان بالطائف حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل "نَخِبا" قال الحميدي: مكان بالطائف يقال له نخب- ببصره، ثم وقف حتى اتفق الناس، ثم قال: "إن صيد وَجّ وعضاهه حرم محرم الله عز وجل"، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا. روينا هذا الحديث هكذا في الأول من مشيخة الفسو عن الحميدي، وهو في سنن أبي داود، ومسند ابن حنبل2، وإسناده ضعيف على ما قال النووي، وقال: قال البخاري: لا يصح. وقال في "الإيضاح": ويحرم صيد وج3، وهو واد بالطائف، لكن لا ضمان فيه... انتهى. وذكر المحب الطبري في تحريم صيد وَجّ احتمالين، لأنه قال: وتحريمه يحتمل أن يكون على وجه الحمى له وعليه العمل عندنا. ويحتمل أن يكون حرمه في وقت ثم نسخ. قال: ونخب بفتح النون وكسر الخاء المعجمة، واد بالطائف، وقيل: هو واد بأرض هذيل .. قال: والقرن جبل صغير، ورأسه مشرف على وهدة. قال: ووَجّ بفتح الواو وتشديد الجيم، قيل: هو أرض الطائف نفسه، يسمى بوج بن عبد الحق من العمالقة 4.... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو صاحب كتاب المعرفة والتاريخ". 2 سنن أبي داود 2/ 290، مسند أحمد 1/ 165، وأخبار مكة للفاكهي 5/ 99، والحديث إسناده حسن. 3 وج: واد من أودية الطائف المشهورة، يسمى أعلاه: المخاصكة، ووسطه المثناة، وأسفله، العرج، ومن مشهور قراه القديمة: الوهط. "انظر تفاصيل هذا الوادي في معجم معالم الحجاز للبلادي 9/ 121". 4 القرى "ص: 666". ج / 1 ص -121- ووح بالحاء: ناحية نعمان. ذكره الحازمي من الأماكن فيما حكى عنه النووي1، وذكر أن وجا بالجيم ربما اشتبه بوح بالحاء. قال: وقال الحازمي: وج اسم لحصون الطائف، وقيل: لواحد منها، قال: وقال في "التهذيب": هو واد بالطائف ... انتهى. وقال صاحب المطالع: هو وادي وج على يومين من مكة... انتهى. قال المحب الطبري: وقد جاء في الحديث أن وجًّا مقدس2... انتهى. وروى الفاكهي: حديثا من رواية خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج"3. وقال الفاكهي: قال سفيان يعني ابن عيينة في تفسيره: آخر غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: غزوة الطائف، لقتاله أهل الطائف وحصاره ثقيف... انتهى. و ذكر الشيخ أبو العباس الميورقي ما يوافق هذا التفسير ويزيده، إيضاحا، لأنه قال: وروي في "الصحاح" للجوهري: آخر وطأة وطئها الله بوج. وأحسن ما قيل في ذلك ما كان شيخنا أبو محمد محمد بن الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذر يقول: آخر غزوة وطأ الله بها أهل الشرك: غزوة الطائف بإثر فتح مكة شرفها الله تعالى. ذكر ذلك الميورقي في جزء ألفه سماه: "بهجة المهج في بعض فضائل الطائف ووج"، وفيه أسئلة غريبة. ومما ذكره في فضل الطائف: وروي في قوله عز وجل: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك} أي بفتح مكة والطائف أهم البلاد عليه وأحبها إليه. وقال المفسرون في قوله تعالى: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم}4 [الزخرف: 31] قالوا: هما مكة والطائف، فقرن الله جل جلاله الطائف ببيته، وفي ذلك غاية الفخر الذي تعجز العبارة عن كنهه وقدره وماهيته... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 198. 2 القرى "ص: 666". 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 193، والحديث رواه أحمد 6/ 409، والبيهقي في سننه 10/ 202. والترمذي 8/ 101. والطبري في الكبير 24م 239، 240، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 54، وقال: رجاله ثقات، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 862 وزاد نسبته للبخاري في الأدب، وكذلك في 2/ 721، وعزاه للعسكري في الأمثال. 4 وقال الخازن: اختلفوا في هذا الرجل العظيم، قيل: الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف، وقيل: عتبة بن ربيعة من مكة، وكنانة بن عبد ياليل من الطائف، وقال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكة، ومن الطائف: حبيب بن عمير الثقفي، وفي عبارة الفاكهي ارتباك مرجعه إلى سقوط تتمة القولين. ج / 1 ص -122- وقال الفاكهي في الآية الآخيرة: إنها نزلت في مكة والطائف فيما يقال، وحكى في الرجل قولين1: أحدهما: أنه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، والآخر: أنه مسعود بن معتب الثقفي. قال: وأما الطائف فهي من مخاليف مكة، وهي بلد طيب الهواء بارد الماء، كان له خطر عند الخلفاء فيما مضى، وكان الخليفة يوليها رجلا من عنده، ولا يجعل ولايتها إلى صاحب مكة... انتهى. وبالطائف آثار تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: السدرة التي انفرجت له نصفين حتى جاز بينهما، وبقيت على ساقين، وذلك لما اعترضته في طريقه، وهو سائر وسنان ليلا في غزوة الطائف، على ما ذكره ابن فورك2، فيما حكاه عنه القاضي عياض في "الشفا"، وبعض هذه السدرة باق إلى الآن، والناس يتبركون به. ومنها: مسجد ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد الذي فيه قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لأن في جداره القبلي من خارجه حجرا مكتوبا فيه: أمرت السيدة أم جعفر بنت أبي الفضل3 أم ولاة عهد المسلمين أطال الله بقاءها بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف، وفيه أن ذلك سنة اثنتين وتسعين ومائة4. والمسجد الذي فيه قبر ابن عباس رضي الله عنهما أظن أن المستعين العباسي عمره مع ضريح ابن عباس رضي الله عنهما واسمه مكتوب في المنبر الذي في هذا المسجد، واسم الملك المظفر صاحب اليمن مكتوب في القبة التي فيها ضريح ابن عباس رضي الله عنهما بسبب عمارته لها. وبالطائف مواضع أخر تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة عند أهل الطائف. وذكر الحافظ أبو محمد القاسم ابن الحافظ أبي القاسم على ابن عساكر خبرا في فضل أهل الطائف، نقله عن المحب الطبري في "القرى"، ونص ذلك على ما في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 3/ 191، وإهداء اللطائف للعجيمي "ص: 54"، وتفسير الطبري 25/ 65، وتفسير ابن كثير 6/ 224. 2 هو أبو بكر محمد بن الحسن الأصبهاني المنوفي سنة 406هـ "ترجمته في الوافي بالوفيات 2/ 334، ووفيات الأعيان 4/ 272، إنباه الرواة 3/ 110، سير أعلام النبلاء 17/ 214- 216، ومرآة الجنان 3/ 17، 18، النجوم الزاهرة 4/ 240، شذرات الذهب 3/ 181. 3 يقصد بها السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد وأم ولي عهده الأمين، ونسب المأمون والمعتصم إليها تجوزا، وكانت قد زارت الحجاز، وأدخلت فيه بعض الإصلاحات، وبنت العمائر وأجلها عين زبيدة التي بمكة. 4 إتحاف الورى 2/ 248، 249، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 231، 432، وفيهما أن ذلك كان سنة 194هـ وهو الصحيح. ج / 1 ص -123- "القرى" عن عبد الملك بن عباد بن جعفر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول من أشفع له يوم القيامة من أمتي: أهل المدينة وأهل الطائف"1... انتهى. واختلف في سبب تسمية الطائف بالطائف، فقال السهيلي: ذكر بعض أهل النسب أن الدمون بن الصدف واسم الصدف: مالك بن مالك بن مربع بن كندة- من حضرموت، أصاب دما من قومه، فلحق ثقيفا فأقام بها وقال لهم: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم، فبناه فسمي به الطائف2، ذكره البكري3، واعترض عليه السهيلي فيما ذكره في نسب الدمون. وأفاد شيئا من خبره وخبر ولده، وذكر ابن الكلبي ما يوافق هذا القول. وقيل في تسمية الطائف: أن جبريل عليه السلام طاف به حول الكعبة على ما ذكر بعض المفسرين لأنه قال في تفسير قوله تعالى في سورة "ن": {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19]: أن جبريل عليه السلام اقتلعها من موضعها. فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها الله تعالى حيث الطائف اليوم، فسميت باسم الطائف الذي طاف عليها وطاف بها... انتهى باختصار من كتاب السهيلي4. ونقل الميورقي عن الأزرقي: أن الطائف سمي الطائف لطواف جبريل عليه السلام به سبعا حول البيت لما اقتلعه من الشام، لدعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام- حيث يقول: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] الآية، والله أعلم بالصواب. وقد أتينا على جملة من فضل الطائف وخبره. ومن غريب خبره: ذكر الميورقي، عن الفقيه أبي محمد عبد الله بن حموا النجاري، عن شيخ الخدام بالحرم النبوي بدر الشهابي: أنه بلغه أن ميضاه وقعت في عين الأزرق في الطائف، فخرجت بعين الأزرق بالمدينة على ساكنها السلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: البخاري في التاريخ الكبير 5/ 404، 415، من طريق عبد الملك بن أبي زهير، وابن الأثير في أسد الغابة 3/ 510، وعزاه لابن منده، وأبي نعيم وابن عبد البر في كتبهم عن الصحابة وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 318، وعزاه للبزار والطبراني، وذكره ابن حجر في الإصابة 2/ 23 وقال: رواه البزار في مسنده، وابن شاهين. والقرى "ص: 666". 2 الروض الأنف: 4/ 161. 3 معجم ما استعجم 2/ 557. 4 الروض الأنف 4/ 162. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -124- الباب السابع: في أخبار عمارة الكعبة المعظمة: لا شك أن الكعبة المعظمة بنيت مرات، وقد اختلف في عدد بنائها، وتحصل من مجموع ما قيل في ذلك أنها بنيت عشر مرات منها: بناء الملائكة عليهم السلام. ومنها: بناء آدم عليه السلام. ومنها: بناء أولاده. ومنها: بناء العمالقة. ومنها: بناء جرهم. ومنها: بناء قصي بن كلاب. ومنها: بناء قريش. ومنها: بناء الخليل إبراهيم عليه السلام. ومنها: بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي رضي الله عنه. ومنها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي وإطلاق العبارة بأنه بنى الكعبة تجوز؛ لأنه لم يبن إلا بعضها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم أذكر ذلك إلا لكون السهيلي والنووي ذكرا ذلك في عدد بناء الكعبة1. ووجدت بخط عبد الله بن عبد الملك المرجاني أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بنى الكعبة بعد قصي وقبل بناء قريش، ولم أر ذلك لغيره، وأخشى أن يكون وهما، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 221، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 2/ :124. ج / 1 ص -125- فأما بناء الملائكة للكعبة: فذكره الأزرقي في تاريخه1 وذكر أن ذلك قبل خلق آدم عليه السلام واستدل على ذلك بخبر رواه عن زين العابدين، وذكر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضا ما يدل لبناء الملائكة للكعبة. وذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"2 بناء الملائكة للكعبة، وعد ذلك أول بنائها، ولم يذكر بناء آدم للكعبة، وذلك عجيب منه، لأن بناء آدم في الشهرة كبناء الملائكة أو أشهر، وإن كانا غير ثابتين، وكلا البنائين على تقدير صحتهما تأسيس، والله أعلم. فأما بناء آدم عليه السلام فروينا فيه خبرا مرفوعا في كتاب "دلائل النبوة" للبيهقي، ولفظه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي قال: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدثنا أبو صالح الجهني قال: حدثني ابن لهيعة، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء فنودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوصى الله إليه أن طوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت" ثم تناسخت القرون حتى حجة نوح عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا. وذكر الأزرقي بناء آدم للكعبة واستدل له بخبرين رواهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في أحدهما أنه بناه من خمسة أجبل: لبنان، وطور زيتا، وطور سيناء، والجودي، وحراء، حتى استوى على الأرض، وفي الآخر: كان آدم عليه السلام أول من أسس البيت وصلى فيه3. وفي "مصنف" عبد الرزاق": أن آدم عليه السلام بنى البيت من هذه الخمسة الجبال، وأن ربضه كان من حراء. قال المحب الطبري: والمربض هنا هو الأساس المستدير بالبيت. وذكر الأزرقي بسنده إلى ابن إسحاق ما يدل لبناء آدم الكعبة في أثناء خبر بناء الخليل عليه السلام للكعبة4. واختلف هل بناء الملائكة قبل بناء آدم أو بناء آدم قبل الملائكة؟ وذكر الأزرقي رحمه الله ما يشهد للقولين. وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 32، 33. 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 124. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 37. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64. ج / 1 ص -126- ذكر البيت المعمور الذي أنزله الله على آدم وشيء من خبره: روينا في "تاريخ الأزرقي" عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حدث به: آن آدم عليه السلام قال: أي رب إني أعرف شقوتي، إني لا أرى شيئا من نورك يتعبد فيه، فأنزل الله عز وجل عليه البيت المعمور على عرض البيت وموضعه، من ياقوتة حمراء، ولكن طولها كما بين السماء والأرض وأمره أن يطوف بها، فأذهب الله عنه الغم الذي كان يجد قبل ذلك، ثم رفع على عهد نوح1. وأما بناء بني آدم للكعبة: فذكره الأزرقي، لأنه روى بسنده إلى وهب بن منبه قال: لما رفعت الخيمة التى عرى الله عز وجل بها آدم عليه السلام من حلية الجنة حين وضعت له بمكة في موضع البيت ومات آدم عليه السلام فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتا بالطين والحجارة، فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم، حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بُوِّئَ لإبراهيم -عليه السلام ... انتهى. وقال الحافظ أبو القاسم السهيلي في الفصل الذي عقده لبنيان الكعبة: وكان بناؤها في الدهر خمس مرات، الأولى حين بناها شيث بن آدم عليه السلام... انتهى. قلت: هذا يخالف ما تقدم في من بنى الكعبة أولا هل هو الملائكة أو آدم؟ ولعل السبب عند من قال إن شِيثًا أول من بنى الكعبة: كون بنائه كان بيتا بالطين والحجارة، بخلاف بناء آدم عليه السلام فإنه كان بناء لأساس البيت كما في خبر بنيانه، وأنزل الله عز وجل عليه من الجنة البيت الذي كان يطوف به، وهو البيت المعمور كما سبق، ولعله الخيمة المشار إليها في خبر وهب بن منبه، والله أعلم. ولعل سبب نسبة هذا البناء لشيث بن آدم كونه: كان وصي ابنه، كما يروى عن وهب بن منبه، والله أعلم. وأما بناء الخليل عليه السلام فهو ثابت كما في القرآن العظيم والسنة الشريفة، وهو أول من بنى البيت على ما ذكر الفاكهي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجزم به الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره، وقال: لم يجئ خبر عن معصوم، أن البيت كان مبنيا قبل الخليل2 ...... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 51. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 225، وتاريخ القطبي "ص: 35" ومناهج الكرم "ورقة 410أ". ج / 1 ص -127- وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن إسحاق: أن الخليل عليه السلام لما بنى البيت جعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعا من الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عنده الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين وعشرين ذراعا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحدا وثلاثين ذراعا، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، وجعل بابها بالأرض غير مبوب، وحفر جبا في بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت، وكان يبني وإسماعيل ينقل له الحجارة على رقبته1. وذكر ابن الحاج المالكي في "منسكه" شيئا من خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة فقال: وكان صفة بناء إبراهيم عليه السلام للبيت أنه كان مدورا من ورائه، وكان له ركنان وهما اليمانيان فجعلت قريش حين بنوه أربعة أركان ... انتهى. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أما والله ما بنياه يقصب ولا مدر2، ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه، ولكنهما أعلياه وطافا به. وروينا عن عثمان بن ساج أنه بلغه: أن الخليل عليه السلام بنى الكعبة من سبعة أجبل. وروينا عن أبي قلابة: أنه بناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، ولبنان، والطور، والجبل الأحمر. وروينا عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يعني الخليل عليه السلام بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء وطور زيتا3، ولبنان، والجودي4، وحراء. قال: وذكر لنا أن قواعده من حراء... انتهى. ويروى أنه أسس البيت من ستة أجبل: من أبي قبيس، ومن الطور، ومن القدس، ومن ورقان، ومن رضوى، ومن أحد... انتهى. قلت: هذا يعكر على الحكمة التي ذكرها السهيلي في كون الخليل بنى الكعبة من خمسة أجبل، على ما قيل، لأنه قال بعد أن ذكر أن الخليل عليه السلام بنى الكعبة من خمسة أجبل هي: طور زيتا، وطور سيناء، والجودي، ولبنان، وحراء: وانتبه الحكمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 150. 2 القصب: الغاب، والمدر: الحجارة. 3 طور زيتا" جبل في القدس مشرف على المسجد الأقصى 4 الجودي: جبل يطل على دجلة وعلى جزيرة ابن عمر، وهي قرية من أعمال الموصل، وعلى هذا الجبل استوت سفينة نوح عليه السلام- لما نضب ماء الطوفان. ج / 1 ص -128- الله تعالى كيف جعل بناءها من خمسة أجبل: فشاكل ذلك معناها، إذ هثي قبلة الصلوات الخمس وعمود الإسلام، وقد بني على خمس1... انتهى. وأما بناء العمالقة وجزهم للكعبة: فذكره الأزرقي، لأنه روى بسنده عن علي بن أبي طالب رضي لله عنه قال في خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم فبنته قريش2... انتهى. وذكره الفاكهي، لأنه روى بسنده عن علي رضي الله عنه قال: أول من بنى البيت إبراهيم، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم هدم البيت فبنته العمالقة، ثم هدم فبنته قريش3. قلت: هذا يقتضي أن جرهما بنت البيت قبل العمالقة، والخبر الأول يقتضي أن العمالقة بنته قبل جرهم، وبه جزم المحب الطبري في "القرى"، والله أعلم. وذكر المسعودي ما يقتضي أن الذي بنى الكعبة من جرهم هو الحارث بن مضاض الأصغر، لأنه لما ذكر خبرهم قال فيه: إن الحارث هذا زاد في بناء البيت ورفعه كما كان عليه من بناء إبراهيم4... انتهى. والله أعلم بحقيقة ذلك. وأما بناء قصي بن كلاب: فذكره الزبير بن بكار قاضي مكة في كتاب "النسب"، لأنه قال: وقال غير أبي عبيدة من قريش ابن عبد العزى بن عمران العنبسي: أخذ قصي في بنيان البيت وجمع نفقته، ثم هدمها فبناها بنيانا لم يبن أحد ممن بناها مثله، وجعل، وهو يبنيها يقول: ابني وبيتي الله يرفعها وليبن أهل وراثها بعدي بيتا بها وتمامها وحجابها بيد الإله وليس بالعبد فبناها وسقفها بخشب الدوم الجيد وبجريد النخل، وبناها على خمسة وعشرين ذراعا، فلذلك يقول أعشى بكر بن وائل: فإني وثوبي راهب اللج والذي بناها قصي وحده وابن جرهم لئن شب نيران العداوة بيننا لتركلن مني على ظهر شيهم وذكر الزبير بن بكار في مواضع أخر ما يشهد له، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في خبر قصي. ونقل ذلك كله عن الزبير: الفاكهي في كتاب "أخبار مكة" وقال بعد ذكره لخبر عبد العزيز بن عمران: يعني بالشيهم: القنفذ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 223. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 62. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138. 4 مروج الذهب 2/ 47. ج / 1 ص -129- وذكر الفاكهي بناء قصي عن غير الزبير، لأنه قال في خبر قصي: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا عبد الله بن يزيد، عن ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن أبي الأسود قال: بلغني أن قصي بن كلاب بنى البيت بعد بناء إبراهيم، ثم بنته قريش1... انتهى. وذكر أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقي في "مغازيه": أن قصي بن كلاب بنى البيت. وجزم به الماوردي في "الأحكام السلطانية"، لأنه قال: فكان أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم عليه السلام قصي بن كلاب، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل2... انتهى. ولم يذكر ذلك الأزرقي رحمه الله والله أعلم بحقيقة ذلك. وأما قول عبد العزيز بن عمران في الخبر الذي ذكره الزبير بن بكار: وبناها على خمسة وعشرين ذراعا، ففيه نظر، لأنه إن أراد به أن قصيا جعل ارتفاع الكعبة خمسة وعشرين ذراعا كان مخالفا لما اشتهر في الأخبار من أن الخليل عليه السلام جعل طولها تسعة أذرع، وأن قريشا زادت في طولها تسعة أذرع، وإن أراد أن قصيا جعل عرضها خمسة وعشرين ذراعا: فالمعروف أن عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين ذراعا في بناء الخليل لها، بل يزيد على خلاف في مقدار الزيادة، وإذا أراد عرضها من الجهة الشامية واليمانية: فعرضها في هاتين الجهتين ينقص عن خمسة وعشرين ذراعا ثلاثة أذرع أو أزيد. وكل من بنى الكعبة بعد إبراهيم عليه السلام لم يبنه إلا على قواعد، غير أن قريشا استقصرت من عرضها في الجهة الشرقية والغربية أذرعا عن أساس إبراهيم- عليه السلام لأمر اقتضاه الحال، وصنع ذلك الحجاج بعد ابن الزبير عنادا، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما بناء قريش الكعبة: فهو ثابت كما في السنة الشريفة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحضره صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمس وثلاثين سنة، كما جزم به ابن إسحق وغير واحد من العلماء، وقيل: ابن خمس وعشرين سنة كما جزم به موسى بن عقبة في "مغازيه" وابن جماعة في "منسكه"3، ونقله مغلطاي عن تاريخ يعقوب بن سفيان، وقيل: ابن ثلاثين سنة حكاه ابن خليل في "منسكه" وجزم به، وهذا القول غير معروف، وأظنه سقط من كتابه لفظة: "خمس" بين "ابن" وبين "ثلاثين"، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 256. 2 الأحكام السلطانية "ص: 160". 3 هداية السالك 3/ 1327، 1328. ج / 1 ص -130- وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان حين بناء قريش للكعبة غلاما، ذكر هذا القول الأزرقي، لأنه قال في ترجمة ترجم عليها بقول: "ذكر ما كان عليه ذرع الكعبة حين صار إلى ما هو عليه إلى اليوم من خارج وداخل": ثم بنتها قريش في الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غلام1... انتهى. وذكر الفاكهي ما يوافق ذلك، وفيما ذكره بيان لسن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان غلاما، لأن الغلام يقع على الصبي من حين يولد إلى حين يبلغ، وما ذكره الفاكهي في ذلك مذكور في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر ما كانت عليه الكعبة في عهد إبراهيم عليه السلام من الطوال والعرض إلى يومنا هذا" لأنه قال: ثم بنتها قريش في الجاهلية، وقد كتبنا بناءها في موضع بناء قريش الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ قد ناهز الحلم2 ...... انتهى. وهذا القول، والقول الذي ذكره ابن خليل غريبان، لمخالفتهما المشهور في سنه صلى الله عليه وسلم حين بنت قريش الكعبة، وهو ما ذكره ابن إسحاق أو ما ذكره ابن عقبة، ولم أر من ذكر ذلك القول الذي ذكره ابن خليل، والله أعلم. وهو صلى الله عليه وسلم الذي وضع الحجر الأسود موضعه من الكعبة حين اختلفت قريش في ذلك، وكان سبب بنائهم لها توهنها من الحريق الذي أصابها حين جمرت، والسيل العظيم الذي دخلها وصدع جدرانها بعد توهنها بالحريق، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من أعلاها إلى الأرض ثمانية عشر ذراعا، منها: تسعة أذرع زائدة على طولها حين عمرها الخليل عليه السلام واقتصروا من عرضها أذرعا جعلوها في الحجر، لقصر النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، وكبسوها بالحجارة، وجعلوا في داخلها ست دعائم في صفين، ثلاث في كل صف من الشق الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني، وجعلوا في ركنها الشامي من داخلها درجة يصعد منها إلى سطحها، وجعلوها سطحا، وجعلوا فيها ميزابا يصب في الحجر، هذا ملخص بالمعنى مختصر مما ذكره الأزرقي في خبر بناء قريش، وقد ذكرناه بكماله في أصل هذا الكتاب، مع ما ذكره الأزرقي في خبر بناء قريش، وقد ذكرناه بكماله في أصل هذا الكتاب، مع ما ذكره ابن إسحق في ذلك بفوائد3 أخر تتعلق بذلك. وذكر الأزرقي والفاكهي في القدر الذي زادته قريش في طول الكعبة على بناء الخليل عليه السلام أمرا يستغرب أما الأزرقي فإنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية": حدثني جدي عن داود بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 78- 80، والسير والمغازي لابن إسحاق 2/ 108. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 226. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 157 وما بعدها. ج / 1 ص -131- عبد الرحمن العطار قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم القاري، عن أبي الطفيل ..... فذكر خبرا في بنيان قريش للكعبة، وفيه: ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعا طولها1... انتهى. وأما الفاكهي فإنه قال: وحدثني عبد الله بن أبي سلمة بن أزهر قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان عالما بأمر الجاهلية وبنيان البيت قال: إن قريشا لما هدمت الكعبة فجعلوا يبنونها بأحجار الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، وكانوا ينقلون الحجارة من أجياد2... انتهى باختصار. ووجه الغرابة في ذلك مخالفته لما ذكره الأزرقي والفاكهي وغيرهما، من أن قريشا جعلوا طول الكعبة لما بنوها ثمانية عشر ذراعا. وذكر الفاكهي أيضا في من وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بنتها قريش أمرا يستغرب أيضا لأنه قال في أثناء خبر ذكره: وزعم عباد بن عبد الرحمن الأعرج مولى ربيعة بن الحارث قال: حدثني من لا أتهم عن حسان بن ثابت وكان قد شهد بناءها قال: رأيت عبد المطلب بن هاشم جالسا على سور الكعبة، وهو شيخ كبير قد ربط لها حاجباه، وهم يختصمون في الركن ليرفعوه إليه، فلما قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قضى، ورفعته قريش في الثوب حتى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فرفعه إلى عبد المطلب، وكان هو الذي وضعه بيده، فقال له محمد بن علي حين حدثه: والله ما سمعت بهذا من أحد من أهل بيتي، وما سمعت أحدا يذكر إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه بيده3. قال عثمان: قال محمد: وحدثت عن بعض أهل العلم أن عبد المطلب أخذه بيده، وجعلت قريش أيديها تحت يده، ثم رفعوا حتى انتهوا به إلى موضعه، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، كل ذلك قد سمعناه في الركن3... انتهى. ووجه الغرابة في كون عبد المطلب وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بنتها قريش، فمخالفته لما اشتهر من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع الحجر الأسود بيده في الكعبة حين بنتها قريش على ما هو مشهور في خبر بنائهم، ويتأيد ذلك بأن عبد المطلب مات وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وقيل: ثماني سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل: تسع سنين، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 288، 189. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 227. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 228. ج / 1 ص -132- وقيل: عشر سنين، وقيل: ست سنين، وقيل: ثلاث سنين، والكعبة بنيت وللنبي صلى الله عليه وسلم خمس وثلاثون سنة وقيل: خمس وعشرون سنة على ما هو المشهور في سنه حين بنتها قريش1 وإذا كان كذلك فلا يكون عبد المطلب وضع الحجر الأسود بيده حين بنتها قريش، ولا حضر بناءهم لها، على أن الفاكهي ذكر في موضع آخر ما يقتضي أن عبد المطلب حضر بناء قريش، ذكر ذلك في خبر تبع. وأما بناء ابن الزبير رضي لله عنهما للكعبة فإنه ثابت مشهور، وسبب ذلك توهن الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة، لمعاندته يزيد بن معاوية، وما أصابها مع ذلك من الحريق، بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير رضي الله عنهما في خيمة له، فطارت الرياح بلهب تلك النار، فأحرقت كسوة الكعبة والساج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة، حتى أنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها. ولما زال الحصار عن ابن الزبير رضي الله عنهما لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية، رأي ابن الزبير رضي الله عنهما أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر قليل، وكره ذلك نفر كثير، منهم ابن عباس رضي الله عنهما. ولما أجمع على هدمها خرج كثير من أهل مكة إلى منى مخافة أن يصيبهم عذاب وأمر ابن الزبير رضي الله عنهما لها يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها ما أخرجته منها قريش في الحجر، وزاد في طولها على بناء قريش نظير ما زادته قريش في طول على بناء الخليل عليه السلام وذلك تسعة أذرع، فصار طولها سبعة وعشرين ذراعا بتقديم السين وهي سبعة وعشرون مدماكا2، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، أحدهما بابها الموجود اليوم، والآخر المقابل له المسدود، واعتمد في ذلك وفي إدخاله في الكعبة ما أخرجته قريش منها في الحجر حين أخبرته به خالته عائشة رضي الله عنها يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 221، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت سنه عندئذ خمسا وثلاثين سنة، كما روى ابن إسحاق وغيره. 2 المدماك: مقياس قديم لأهل مكة. ج / 1 ص -133- وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وجعل لها درجة في ركنها الشامي يصعد منها إلى سطحها، وجعل فيها ميزابا يصب في الحجر، وجعل فيها روازن للضوء، هذا ملحق بالمعنى مختصر مما ذكره الأزرقي في خبر بناء ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة1 وما ذكره من أن زيادة ابن الزبير تسعة أذرع في طول الكعبة هو المشهور. وروينا في صحيح مسلم من حديث عطاء بن أبي رباح قال: إن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في طول الكعبة عشرة أذرع، وفيه ما يقتضي أنه لم يهدم الكعبة في الوقت الذي ذكره الأزرقي. وصرح ابن الأثير في "كامله" بأن عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة كانت سنة خمس وستين، ثم قال: وقيل: كانت عمارتها في سنة أربع وستين2. وهذا يوافق ما ذكره الأزرقي، والقول الأول موافق لما في مسلم، لأن فيه من حديث عطاء بن أبي رباح قال: لما احترق البيت زمان يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، وكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس في الموسم، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة: أنقضها ثم أبنيها، أو أصلح ما وَهَى منها؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إني أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وحجارة أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف ببيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عزم على أمر، فلما مضت الثلاثة أجمع رأيه أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد عليه أمر من السماء، حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم ير الناس أصابه شيء تتابعوا، فنقضوه حتى بلغ به الأرض... انتهى باختصار. ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي: أنه يقتضي أن ابن الزبير رضي الله عنهما لم يهدم البيت حتى صدر الناس من الموسم، وصدورهم منه كان بعد حجهم، وزمن الحج غير الزمن الذي ذكر الأزرقي أن ابن الزبير رضي لله عنهما هدم فيه البيت، وقد سبق ذلك قريبا، والله أعلم بالصواب. وتكون عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للبيت على مقتضى حديث عطاء في آخر ذي الحجة من سنة أربع وستين، وفي سنة خمس وستين، وذلك يوافق ما جزم به ابن الأثير في عمارة الكعبة، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 201 وما بعدها. 2 الكامل لابن الأثير 4/ 207. ج / 1 ص -134- ولم أر في تاريخ الأزرقي ذكر الوقت الذي فرغ فيه ابن الزبير من بناء الكعبة، وهو سنة خمس وستين، على ما ذكره المسبحي في "تاريخه" على ما وجدت بخط الحافظ رشيد الدين ابن الحافظ زكي الدين المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي، والله أعلم. وذكر المحب الطبري ما يقتضي أن فراغ ابن الزبير رضي الله عنهما من عمارة الكعبة كان في ليلة سابع عشر من رجب من سنة أربع وستين لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ما جاء في عمرة التنعيم" في الباب الثامن والثلاثين من "القرى" بعد أن ذكر اعتمار ابن الزبير رضي الله عنهما من التنعيم لما فرغ من بناء الكعبة1: وذكر أبو الوليد أن هدم الكعبة كان يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، والظاهر أن ابتداء البناء عقيبه، بعد الفراغ منه، وأهل مكة يعتمرون في ليلة سبع وعشرين من رجب في كل سنة، وينسبون هذه العمرة إلى ابن الزبير رضي الله عنهما ولا يبعد أن يكون بناء الكعبة امتد إلى هذا التاريخ، فإن تطابق الناس على ذلك يأثره الخلف عن السلف، وفعله كل سنة بأسبابه تدل على صحة النسبة إليه، وأنه اعتمر في ذلك الوقت، وأن الفراغ من بناء الكعبة كان في هذا التاريخ، والله أعلم. وقد اختلفت الأخبار فيمن وضع الحجر الأسود في موضعه من الكعبة حين بناها ابن الزبير رضي الله عنهما فقيل: وضعه عبد الله بن الزبير بنفسه، ذكر ذلك الأزرقي في خبر رواه عن الواقدي بسنده؛ لأن فيه: فلما بلغ البناء موضع الركن جاء ابن الزبير رضي الله عنهما حتى وضعه بنفسه، وشده بالقصبة2... انتهى. وقيل: وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير، وهذا في خبر رواه الأزرقي2 ذكر فيه أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أمر ابنه عبادا وجبير بن شيبة أن يجعلا الركن في ثوب ويخرجاه، وهو يصلي بالناس في صلاة الظهر في يوم شديد الحر، لئلا يعلم الناس بذلك فيتنافسوا في وضعه، وفيه: ففعلا ذلك، وفيه: فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة. وقيل: وضعه حمزة بن عبد الله بن الزبير بأمر أبيه، نقل ذلك السهيلي3 عن الزبير بن بكار. ورأيت في تاريخ الأزرقي وكتاب الفاكهي ما يقتضي أن الحَجَبة وضعوه في موضعه ومعهم حمزة بن عبد الله بن الزبير، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 622". 2 أخبار مكة للأزرقي "1/ 208. 3 الروض الأنف 1/ 228. ج / 1 ص -135- فيتلخص من ذلك أربعة أقوال فيمن وضع الحجر الأسود حين بنى ابن الزبير رضي الله عنهما. وأما بناء الحجاج للكعبة فهو أيضا ثابت مشهور، ذكره الأزرقي وغيره، وملخص ذلك أن الحجاج بعد محاصرته ابن الزبير وقتله كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها، وأحدث فيها بابا آخر، واستأذنه في رد ذلك على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك أن يسد بها الغرب، ويهدم ما زاد فيها ابن الزبير رضي الله عنهما في الحجر، ويكبسها به على ما كانت عليه ففعل ذلك الحجاج. وبناؤه في الكعبة، الجدار الذي من جهة الحجر بسكون الجيم والباب الغربي المسدود في ظهر الكعبة عند الركن اليماني وما تحت عتبة الباب الشرقي، وهو أربعة أذرع وشبر، على ما ذكر الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير رضي الله عنهما وهذا ملخص مما ذكره الأزرقي في ذلك بالمعنى1. وكان ذلك في سنة أربع وسبعين من الهجرة على ما ذكره ابن الأثير2، وقيل: سنة ثلاث وسبعين على ما ذكر الذهبي في العبر. ثم إن عبد الملك بن مروان ندم على ما وقع منه في أمر الكعبة، وقال: وددت والله أنى كنت تركت ابن الزبير وما تحمل حين أخبره الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أنه سمع من عائشة رضي الله عنها حديثها عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي اعتمده ابن الزبير رضي الله عنهما فيما فعله في الكعبة. أخبرني بحديث عائشة رضي الله عنها الزاهد عبد الرحمن بن أحمد المصري سماعا بالقاهرة في الرحلة الأولى: أن يونس بن إبراهيم العسقلاني أخبره سماعا، عن أبي الحسن علي بن الحسين البغدادي، عن أبي بكر بن الزاغوني ونصر بن نصر العكبري، قال الزاعوني: أنبأنا ابن نصر الزينبي. وقال العكبري: أنبأنا أبو القاسم بن البسري، قالا: أخبرنا أبو طاهر المخلص قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا بكار بن قتيبة قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا سليمان بن حبان قال: حدثنا سعيد بن مينا، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، ولزدت ستة أذرع من الحجر في البيت فإن قريشا استقصرت ذلك لما بنت البيت"3. وقد اختلفت الروايات فيما تركته قريش من الكعبة في الحجر، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في أخبار الحجر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 210. 2 الكامل لابن الأثير 4/ 365. 3 أخرجه مسلم كما سبق. ج / 1 ص -136- ذكر شيء من حال الكعبة بعد بناء ابن الزبير والحجاج وما صنع فيها من العمارة: اعلم أنه لم يغير أحد من الخلفاء والملوك فيما مضى من الزمان وإلى الآن1 ما بناه ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج فيما علمناه، ولو وقع ذلك لنُقِلَ، فإن ذلك مما لا يخفى لعظم أمره، والذي غُيِّرَ فيها بعدهما: ميزابها غير مرة، وبابها غير مرة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وبعض أساطينها، وما دعت الضرورة إلى عمارته في جدرها وسقفها، ودرجتها التي يصعد منها إلى سطحها، وعتبتها، ورخامها، وهو مما حدث في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج. وذكر الأزرقي أن الوليد بن عبد الملك أول من فرش الكعبة بالرخام وأزر به جدرانها، ونقل ذلك عن ابن جريج، لأنه قال: قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها، فوزر به، أيضا جدرانها، وفرشها بالرخام، وأرسل به من الشام، ثم قال الأزرقي: فجميع ما في الكعبة من الرخام، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك2... انتهى. وكان الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان يحب أن يردها على ما بناها ابن الزبير، حين أخبره بذلك خليفته الإمام العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان لما سأله عن ذلك ولم يمنع سليمان من ذلك إلا كون الحجاج صنع ذلك بأمر أبيه عبد الملك بن مروان، ذكر هذا الخبر الأزرقي3. ويروى أن الخليفة الرشيد وقيل: أبوه المهدي أراد أن يغير ما صنعه الحجاج في الكعبة، وأن يردها إلى ما صنع ابن الزبير، فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشأ أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس... انتهى بالمعنى. وكأن مالك لحظ في ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهي قاعدة مشهورة معتمدة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 213. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 220. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 221. ج / 1 ص -137- ونشير إلى ما علمناه من العمارات التي وقعت في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج: فمن ذلك انفتاح الجدار الذي بناه الحجاج من وجه الكعبة ودبرها وترميمه ذكر ذلك إسحق بن أحمد الخزاعي أحد من روى عن الأزرقي في تاريخه، ونص كلامه: وأنا رأيتها، وقد عمر الجدار الذي بناه الحجاج مما يلي الحجر، فانفتح من البناء الأول الذي بناه ابن الزبير مقدار نصف أصبع من وجهها ومن دبرها، وقد رمم بالجص الأبيض... انتهى. وذكر ذلك في موطن آخر بمعناه. وكلام الخزاعي هذا يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون ما ذكره من انفتاح الجدار وترميمه وقع في عصره، والآخر: أن يكون وقع ذلك قبله ورآه كما ذكره، والله أعلم. ووقع فيما ذكره الأزرقي: ما يقرب من هذا. ومن ذلك: ما وقع في سطح الكعبة على ما ذكر الأزرقي، لأنه قال: وكانت أرض سطح الكعبة بالفسيفساء، ثم كانت تكفّ عليهم إذا جاء المطر، فقلعته الحَجَبة بعد سنة مائتين، وشدوه بالمرمر المطبوخ والجص شيد به تشييدا. ومن ذلك: عتبة باب الكعبة السفلى، على ما ذكره الأزرقي، لأنه قال لما ذكر العمارة المتعلقة بالكعبة في زمن المتوكل العباسي، وهي في سنة إحدى وأربعين ومائتين: وكانت عتبة باب الكعبة السفلى قطعتين من خشب الساج فدثرتا ونخرتا من طول الزمان عليهما، فأخرجهما يعني المندوب للعمارة إسحق بن سلمة الصائغ وصير مكانهما قطعة من خشب الساج، وألبسهما صفائح فضة1... انتهى. ومن ذلك: رخامتان أو ثلاث في جدران الكعبة، قلع ذلك إسحاق بن سلمة، وأعاد نصبه بجص صنع في التاريخ المشار إليه ذكر ذلك الأزرقي2 أيضا ومن ذلك ما وقع بعد الأزرقي، وهو عمارة سقف الكعبة والدرجة التي بباطنها، وكلاهما في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة3. ومن ذلك: عمارة رخامها في عشر الخمسين وخمسمائة في غالب ظني وهذه العمارة من جهة الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وزير صاحب الموصل. ومن ذلك: مع وقع في سنة تسع وعشرين وستمائة، وما عرفت المعمور في تلك السنة من الكعبة: هل هو في سقفها؟ أو أرضها وجدرها؟ كإصلاح رخامه في ذلك وغيره، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 301، وإتحاف الورى 2/ 314. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 306، 307. 3 إتحاف الورى 2/ 322. ج / 1 ص -138- وهذه العمارة من جهة المستنصر العباسي، لأن في جدر الكعبة اليماني من داخلها رخامة مكتوبا فيها بعد البسملة: أمر بعمارة البيت المعظم الإمام الأعظم أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، وفيها بعد الدعاء له: في شهور سنة تسع وعشرين وستمائة. ومن ذلك رخام الكعبة بأمر الملك المظفر صاحب اليمن، واسمه مكتوب بسبب ذلك في الكعبة في رخامة في وسط الجدار الغربي، ونص المكتوب: أمر بتجديد رخام هذا البيت المعظم: العبد الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن عمر بن علي ابن رسول، وفيها بعد الدعاء له: بتاريخ شوال سنة ثمانين وستمائة1. ومن ذلك: إلصاق رخام خُشِيَ سقوطه في بعض جدرانها من داخلها في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في أول سنة اثنتين وثمانمائة2. ومن ذلك: مواضع في سطحها كان يكثر وكف المطر منها إلى سفلها، منها: موضع عند الطابق الذي على الدرجة التي يصعد منها إلى سطحها، ومنها: موضع عند الميزاب، وكان الفتح الذي في هذا الموضع متسعا مضرا، يصل الماء منه إلى الجدار الشامي من الكعبة، لقربه منها، وينزل الماء منه في وسط الجدار، ومواضع بقرب بعض الروازن التي للضوء. وكان إصلاح المواضع المذكورة بالجبس بعد قلع الرخام الذي هناك، وأعيد في موضعه، وأبدل بعضه بغيره، وأصلحت الروازن كلها بالجبس، وكانت الأخشاب المطبقة بأعلى الروازن التي عليها البناء المرتفع في سطح البيت قد تخربت، فعوضت بخشب سوى ذلك، وأعيد البناء الذي كان عليها كما كان، إلا أن الروزن الذي يلي باب الكعبة فإن خشبه لم يغير، وكان الروزن الذي يلي الركن الغربي قد تخرب بعض الخشب الذي في جوفه مما يلي السقف والكسوة التي في جوف الكعبة، وكانت الكسوة التي تليه قد زال تشبكها فشمرت، وكان الروزن الذي يلي الركن اليماني منكسرا فقلع وعوض بروزن جيد وجد في أسفل الكعبة، وأصلح في الدرجة أخشاب متكسرة، وشاهدت إصلاح كثير من هذه الأمور وأنا بسطح الكعبة مع من صعد لعمل ذلك، وذلك في أيام متفرقة في العُشْر الأوسط من شهر رمضان سنة أربع وعشر وثمانمائة عقب مطر عظيم حصل بمكة في أوائل هذا العُشْر، وصار يخرج بسببه من باب الكعبة إلى الطواف كأفواه القرب3. ومن ذلك: أن في النصف الأخير من ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، أصلحت الروازن التي بسطح الكعبة ورخامة تل ميزابها، لأن الماء كان ينتفع عليها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 113. 2 إتحاف الورى 3/ 416. 3 إتحاف الورى 3/ 488، والعقد الثمين 1/ 50. ج / 1 ص -139- لخراب ما تحتها، فقلعت وأزيل ما تحتها من الخراب، وأعيد إلصاقها بعد إحكام هذا الإصلاح1. ومن ذلك في هذا التاريخ: أن الأخشاب التي بسطح الكعبة المعدة لربط كسوتها تخربت فقلعت وعوض عنها بأخشاب جديدة محكمة، وركبت فيها الحلق الحديد التي يشد بها كسوة الكعبة، ووضعت الأخشاب بسطح الكعبة في مواضعها قبل ذلك. ومن ذلك: أن في صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة قلع الرخام الذي بين جدار الكعبة الغربي والأساطين التي بالكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكما كما كان بالجص، وأصلح رخام آخر في بعض جدران الكعبة لتخربه، وأعيد نصبه محكما كما كان بالجص، وأصلح رخام آخر في بعض جدران الكعبة لتخربه، وكتب بسبب ذلك في لوح رخام يقابل باب الكعبة، ومعنى المكتوب فيه، تقرب إلى الله تعالى برخام هذا البيت الشريف المطهر العبد الفقير إلى الله تعالى الملك الأشرف برسباي في سنة ست وعشرين وثمانمائة2... انتهى. والملك الأشرف المشار إليه هو صاحب الديار المصرية والشامية والحرمين في هذا التاريخ، زاده الله نصرا وتوفيقا. ومن ذلك: أن الأسطوانة التي تلي باب الكعبة ظهر بها ميل فخيف من أمرها، فاجتمعنا بالكعبة الشريفة مع جماعة من قضاة مكة، والأمير المندوب من مصر في السنة الماضية لعمارة المسجد الحرام أحسن الله إليه وغيره من الأعيان بمكة والعارفين بالعمارة، وكشف من فوق السارية المذكورة فوجدت صحيحة، فحمدنا الله تعالى كثيرا على ذلك، وردت حتى استقامت وأحكم ذلك كما كانت أولا، فلله الحمد، والأمير المشار إليه هو الجناب السيفي مقبل القديدي الملكي الأشرفي صاحبنا، أحسن الله إليه. وكان إصلاح هذه الاسطوانة في يوم السبت سادس عشر صفر سنة ست وعشرين وثمانمائة، وإصلاح الرخام في أيام الشهر المذكور3. ومما غير في الكعبة بعد ابن الزبير رضي الله عنهما والحجاج: عتبة الباب السفلى، لأن الأزرقي ذكر أنها جعلت قطعة واحدة من خشب الساج، كما سبق ذكره وعتبة الكعبة الآن السفلى حجر منحوت، وما عرفت متى كان ذلك. وقد خفي علينا من المعنى الذي ذكرناه من أمر عمارة الكعبة كثير لعدم تدوين من قبلنا لذلك. ويدخل في المعنى الذي ذكرناه من عمارة الكعبة العمارة الواقعة في شاذورانها، وقد بينا ما علمناه من ذلك في الباب الذي بعد هذا في الترجمة المتعلقة بالشاذروان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 587، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 207"، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 233". 2 إتحاف الورى 3/ 597، والعقد الثمين 1/ 50. 3 إتحاف الورى 3/ 597. ج / 1 ص -140- ذكر الأساطين: وأما الأساطين: فواحدة فيما علمت، على ما ذكر الفاكهي، لأنه قال: حدثني أبو علي الحسن بن مكرم قال: حدثنا عبد الله بن بكر قال: حدثني أبي بكر بن حبيب قال: جاورت بمكة فعابت أسطوانة من أساطين البيت، فأُخْرِجَت، وجيء بأخرى ليُدْخِلوها مكانها، فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل، والكعبة لا تفتح ليلا، فتركوها مائلة ليعودوا من غد فيصلحوها، فجاءوا من غد فأصابوها أقوم من القدح... انتهى. ولم يذكر ذلك الأزرقي ولم أر من ذكر ذلك غير الفاكهي، وهو غريب جدا. والله أعلم. وفيه كرامة للبيت زاده الله شرفا. ذكر الميازيب: وأما الميازيب: فميزاب عمله الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط المشهور بمكة، وصل به خادمه "مثقال" بعد موته مع تابوته في سنة سبع وثلاثين وخمسمائة1. وميزاب أنقذه الخليفة المقتفي العباسي2 في سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، أو في التي بعدها، وجعل عوض ميزاب رامشت3. ومنها: ميزاب عمله الناصر العباسي4 وهو الآن في الكعبة لأن اسمه مكتوب فيه، وهو خشب مبطن برصاص في الموضع الذي يجري فيه الماء، وظاهره مما يبدو للناس مطلي بفضة، وأصلح الموضع الذي يجري فيه الماء منه في العشر الأوسط من شهر رمضان سنة أربع عشرة وثمانمائة5، بعد قلع اللوح الذي فوقه يستر مجرى الماء، وأعيد اللوح كما كان وطول هذا الميزاب بما منه في جدار الكعبة يزيد على أربعة أذرع. بالحديد، مقدار ثمن الذراع أو أكثر -الشك مني في مقدار الزيادة بعد تحريري لذلك في التاريخ الذي ذكرنا فيه إصلاحه- وأحدث عهد حلي فيه هذا الميزاب سنة إحدى وثمانين وسبعمائة6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 507، والعقد الثمين 3/ 385، 386. 2 هو: أبو عبد الله الحسين لأمر الله ابن المستظهر، بويع بالخلافة سنة 540هـ واستمر إلى أن توفي سنة 555هـ. 3 إتحاف الورى 2/ 510، وفيه أن ذلك كان في سنة 542هـ. 4 هو أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ابن المستضيء، بويع بالخلافة سنة 575هـ، وظل بها إلى أن توفي سنة 622هـ. 5 إتحاف الورى 3/ 487. 6 إتحاف الورى 3/ 334، والسلوك للمقريزي 3/ 1: 357، 372، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 174، 192، 999". وقد وقع تغيير وتبديل في ميزاب الكعبة على مر العصور، وكان آخره هو ما عمله السلطان العثماني عبد المجيد خان، والذي صنع في إسلامبول عام "1276هـ" وركب في نفس السنة، وهو مصفح بالذهب نحو "50" رطلا، وهو آخر ميزاب، وهو الموجود الآن بالكعبة المشرفة. ج / 1 ص -141- ذكر الأبواب: وأما الأبواب: فباب عمله الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور المعروف بالجواد، سنة خمسين وخمسمائة، وركب عليها في سنة إحدى وخمسين، وكتب عليه اسم الخليفة المقتفي العباسي، وحلاه الجواد حلية حسنة بحيث إنه كان يستوقف الأبصار لحسن حليته على ما ذكر ابن جبير في أخبار رحلته1، وذكر فيها صفة حليته. وكلام ابن الأثير يوهم أن الذي صنع للكعبة الباب في هذا التاريخ الخليفة المقتفي، لأنه قال في أخبار سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فيها قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالنقرة المذهبة، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه إذا مات2... انتهى. وليس ما ذكره ابن الأثير من نسبة الباب للمقتفي معارضا لما ذكره ابن جبير من نسبته للجواد، لأن الجواد إنما صنعه بأمر المقتفي، وأضاف إليه هذا الباب بكتابة اسمه عليه، وإنما نبهنا على ذلك لئلا يتوهم أن كلا منهما صنع للكعبة بابا، لأنه يبعد أن يعمل كل منهما للكعبة بابا في تاريخ واحد بسبب واحد، وهو اتخاذ الباب الأول تابوتا للدفن، فإن الجواد عمل تابوتا على ما قيل من الباب الذي كان قبل بابه، حمل فيه إلى المدينة الشريفة، ودفن بها، ولم يكن يتمكن من ذلك إلا بموافقة المقتفي عليه، وإظهاره أن للمقتفي رغبة في عمل الباب الذي قبل بابه تابوتا، ولأجل ذلك نسب هذا الأمر للمقتفي كما ذكر ابن الأثير، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 102"، وإتحاف الورى 51512ن والعقد الثمين 7/ 33، ودرر الفرائد "ص: 261. 2 الكامل لابن الأثير 11/ 228، والعقد الثمين 7/ 33، ودرر الفرائد "ص: 261"، وإتحاف الورى 2/ 515، 516". ج / 1 ص -142- ومنها: باب عمله المالك المظفر صاحب اليمن وكان عليه صفائح فضة زنتها ستون رطلا، وصارت لبني شيبة. ومنها: باب عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون1 صاحب مصر، وركب على الكعبة بعد قلع باب الملك المظفر في ثامن عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وكان عليه من الفضة خمسة وثلاثون ألف درهم، وثلاثمائة درهم على ما ذكره البرزالي، وذكر أن هذا الباب من السنط الأحمر2. ومنها: باب عمل في سلطنة ولده الملك الناصر حسن3، وذلك في سنة إحدى وستين وسبعمائة، وهو من خشب الساج، عمل بمكة، واستمر في الكعبة إلى تاريخه4، إلا أنه في سنة ست وسبعين وسبعمائة قلع مها لعمل الحلية التي هي فيه الآن، وعوض عنه بباب قديم كان للكعبة5، وهو الآن في حاصل زيت الحرم، ولعله باب الكعبة الذي عمله الملك الناصر محمد بن قلاوون، ثم أعيد إليها الباب الذي عمل بمكة في دولة الناصر حسن بعد تحليته في التاريخ الذي ذكرناه على ما أخبرني به والدي أعزه الله، وذكر أن مقدار هذه الحلية اثنان وثلاثون ألف درهم، أو ثلاثة وثلاثون لا يزيد عن ذلك، وأنه شاهد تحرير هذه الحلية لما كان مشارفا على عملها، وأظن أنه حلي في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة6، والله أعلم. واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون مكتوب في هذا الباب بأسفله، واسم حفيده الملك الأشرف شعبان بن حسين7 في بعض فيارين الباب، وفي بعض فيارين الباب، وهو الجانب الذي يكون على يمين الداخل إلى الكعبة، مكتوب اسم الملك المؤيد أبي النصر شيخ8، صاحب مصر، نصره الله، لأن بعض خواصه قدم إلى مكه في أول يوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو سلطان المماليك في مصر والشام، تولى السلطنة عدة مرات أولها سنة 693هـ وعمره تسع سنين، فلبث فيها سنة إلا ثلاثة أيام، ثم تسلطن سنة 698هـ، ثم عاد إلى السلطنة سنة 708هـ، ثم عاد مرة أخرى سنة 709هـ، وبقي بها حتى مات سنة 741هـ "الدرر الكامنة 4/ 144-148". 2 البداية والنهاية 14/ 162، والسلوك 2/2: 362، وإتحاف الورى 3/ 203. 3 تولى السلطنة عام 748هـ حتى عام 752هـ ثم أعيد عام 755هـ حتى عام 762هـ "الدرر الكامنة 2/ 38-40". 4 النجوم الزاهرة 10/ 316، والعقد الثمين 4/ 181. 5 إتحاف الورى 3/ 321، والعقد الثمين 5/ 10، 1/ 52. 6 إتحاف الورى 4/ 334، والسلوك 3/ 1: 357، 372. 7 تولى السلطنة سنة 764هـ إلى أن قتل سنة 778هـ "بدائع الزهور 1 ق/ 111". 8 هو السلطان شيخ المحمودي، تسلطن من سنة 815هـ حتى مات أوائل سنة 827هـ "بدائع الزهور 2/ 60". ج / 1 ص -143- من ذي الحجة سنة ستة عشرة وثمانمائة، فرأى جانب الباب المشار إليه محتاجا إلى الحلية، فحلاه بفضة وطلاها بالذهب وكتب في ذلك اسم الملك المؤيد نصره الله، ومقدار الفضة التي حلي بها الموضع المشار إليه مائة درهم ونيف وتسعون درهما، على ما أخبرني به بعض من صاغ ذلك، وكان عمل ذلك والفراغ منه قبل الطلوع إلى عرفة في أيام من العشر الأول من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثمانمائة1، واستحسن ذلك ممن صنعه، فالله يزيده رفعة، واسم الملك المظفر صاحب اليمن على مفتاح قفل باب الكعبة الآن، وفي القفل أيضا فيما أظن لأن فيه كتابة ممحوة، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 510، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 199". أوَّل من بوب الكعبة: ولنختم هذا الفصل بفائدة في بيان أول من بوب الكعبة: أول من بوبها أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام على ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: وقال محمد بن حسن: حدثني عيسى بن عبد الله عن أبيه قال: أنوش بن شيث بن آدم أول من غرس النخلة، وبوب الكعبة، وزرع الحبة... انتهى. وذكر ذلك السهيلي رحمه الله، لأنه قال: أنوش، وتفسيره الصادق، وهو بالعربية أنش، وهو أول من غرس النخلة، وبوب الكعبة، وبذر الحبة1 ... انتهى. وروينا في تاريخ الأزرقي ما يقتضي أن تبعا الحميري أول من بوب الكعبة، لأنه قال في أثناء خبر نقله عن ابن إسحاق في بناء إبراهيم الكعبة: وجعل بابها في الأرض غير مبوب حتى كان تبع ابن أسعد الحميري هو الذي جعل لها بابا وغلقا فارسيا، وذكر معنى ذلك في موضع آخر2. وذكر الفاكهي ما يخالف ذلك، لأنه قال: وحدثنا أحمد بن صالح عن الواقدي قال: كان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة، فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم عليه السلام وجعلوا له مصراعين وقفلا، فاستخفت جرهم بأمر البيت، وعملوا أمورا وأحدثوا أحداثا لم تكن3... انتهى. ووجه مخالفة هذا لما ذكره الأزرقي أنه يقتضي أن جرهما جعلوا للكعبة بابا، وهو المصراعان المشار إليهما في هذا الخبر، والزمن الذي صنعوا فيه ذلك هو زمن ولايتهم للكعبة، وولايتهم لها قبل ولاية خزاعة، وولاية خزاعة لها قبل ولاية قريش، والباب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 14. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 134، 250. 3أخبار مكة للفاكهي 5/ 225. ج / 1 ص -144- الذي عمله تبع هو في زمن ولاة قريش، على ما أشار إليه الفاكهي وغيره في خبر تبع الذي صنع باب الكعبة الذي ذكره الأزرقي، والله أعلم. وذكر بعضهم ما يخالف ما ذكره الزبير والسهيلي في كون أنوش أول من بذر الحبة، لأن القطب الحلبي ذكر أنه بخط أبي علي الحسن بن الأشرف أحمد ابن القاضي عبد الرحيم بن علي البيسان: أول من زرع الحبة آدم عليه السلام فإنه كان يحرث ويزرع. روي أن الشعير من زرع حواء، والحنطة من زرع آدم عليه السلام وإنها تألمت في ذلك، وقال: ذكروه في كتب التاريخ1... انتهى2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تاريخ الطبري 1/ 128. 2 وقد تم تركيب بابين للكعبة الأول في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله وذلك عام 1363هـ 1944م وكان مصنوعا من الألمونيوم بسمك "2.5" وارتفاعه "3.10" أمتار. ومدعم بقضبان من الحديد. وتمت تغطية الوجه الخارجي للباب بألواح من الفضة المطلية بالذهب وزين الباب بأسماء الله الحسنى. أما الباب الثاني: فقد أمر بصنعه الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله عام 1397هـ = 1977م بعد ملاحظته قدم الباب وحدوث آثار خدوش في الباب فأصدر توجيهاته بصنع باب جديد، وباب التوبة من الذهب الخالص. وكان لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز "كان وليا للعهد آنذاك" أثر بالغ في أن يظهر العمل الجليل بالصورة التي تتمناها نفس كل مسلم. حيث قام جلالته حين ذاك بزيارة مقر العمل. وكان لهذه الزيارة الكريمة أثرها البالغ في دفع طاقة العمل والانتهاء من العمل قبل الموعد المحدد وقد تم الانتهاء منه في 22 من ذي القعدة سنة 1399هـ وقام بافتتاحه جلالة الملك خالد رحمه الله. وقد تكلفت صناعة البابين باب الكعبة، وباب التوبة "13,42.000" من الريالات عدا كمية الذهب التي تم تأمينها بواسطة مؤسسة النقد العربي السعودي. وكمتها مائتين وثمانين كيلو جراما. وكان الذهب عيار 999.9%. واستغرق العمل منذ بدء العمل التنفيذي فيه في غرة ذي الحجة عام 1398هـ اثني عشر شهرا. وقد أقيمت ورشة خاصة لصناعته. وقد وضعت أفكار مبدئية للباب تتلخص فيما يلي: 1- تحقيق الانسجام بين التصميم الجديد للباب وستارة الباب باستخدام خط الثلث كعنصر عام مميز مع الزخرفة. 2- اختيار نسبة وحجم بروز الزخرفة في التصميم الجديد ومطابقة ذلك على الموقع. 3- تحقيق طريقة تنفيذ الزخرفة بالحفر والنقش على الذهب مع استخدام قليل من الفضة بالإمكانات المحلية وبواسطة شيخ الصاغة في مكة المكرمة. 4- إمكانية الربط بين طريقة التنفيذ والزخرفة الإسلامية الأصيلة التي تمتد إلى التراث العريق في التزيين المعماري الهندسي. 5- استخدام أحدث الطرق التقنية في الهيكل الإنشائي للتوصل إلى درجة عالية من المتانة والجودة بحيث يقوم الباب بوظيفته بدون الاحتياج إلى الصيانة. وفي ضوء هذه المبادئ تم بالنسبة للزخرفة اختيار طريقة التزيين التي تغطي المساحة وهي من صميم التراث الفني الإسلامي نظرا لإمكانية تنفيذه بالحفر على الذهب. أما المساحات الباقية التي = ج / 1 ص -145- .................................................................................. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = في الوسط فقد أخذت نفس روح فن الزخرف الإسلامي حيث وضعت في وسطها دوائر لكتابة الآيات الكريمة بالطريقة المعتادة مع إضافة زخرفات في الزوايا العلوية ليكون شكل الباب العام مقوسا دائريا يحيط بالآيات القرآنية المكتوبة حسب الترتيب الموضوع لها. وتمت التجارب المركزة في شكل إخراج الزخرفة، من أنواع متجانسة أهم عناصرها هي زخرفة الإطار البارز، وهي الزخرفة التي تستمر في مستوى مكان "القفل" حيث تعطي له الأهمية اللازمة، لأن قفل الكعبة المشرفة له شخصية خاصة في الشكل التراثي والوظيفي. وأضيفت في الزاويتين العلويتين زخارف متميزة لإبراز شكل قوس يحيط بلفظ الجلالة "الله جل جلاله" واسم رسول الله "محمد صلى الله عليه وسلم" والآيات القرآنية الكريمة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]، {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام: 54]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: 60]. ويلي ذلك حشوتان على شكل شمسين مشرقتين في وسطها: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" على شكل برواز دائري وقد ثبتت على أرضية الحشوتين العلويتين حلقتا الباب اللتان تشكلان مع القفل وحدة متجانسة شكلا والمتباينة نسبة، ليكون الشكل العام مريحا للنظر. وكتب تحت الحشوتين العلويتين الآية الكريمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. والحشوتان اللتان تحت القفل في وسطيهما كتبت سورة الفاتحة على شكل قرصين بارزين، وتحت هاتين الحشوتين عبارات تاريخية صغيرة هي: صنع الباب السابق في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود سنة 1363هـ وتحتها: صنع هذا الباب في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود سنة 1399هـ. وضمن زخرفة خفيفة كتب في الدرفة اليمنى عبارة: "تشرف بافتتاحه بعون الله تعالى الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود في الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1399هـ. وفي الدرفة اليسرى. عبارة: صنعه أحمد إبراهيم بدر بمكة المكرمة صممه منير الجندي. واضع الخط: عبد الرحمن أمين، كما وضعت زخرفة دقيقة خاصة لأنف الباب المثبت على الدرفة اليسرى. أما الجوانب: فقد صممت بطريقة فنية ومثبتة حسب التصميم الزخرفي بعد مراعاة اللوحات الدائرية البارزة التي تحمل أسماء الله الحسنى وعددها خمسة عشر: فوق الباب: يا واسع يا مانع يا نافع الجانب الأيمن: يا عالم يا عليم يا حليم يا عظيم يا حكيم يا رحيم الجانب الأيسر: يا غني يا مغني يا حميد يا مجيد يا سبحان يا مستعان وعلى القاعدة الخشبية تثبت لوحات الذهب الخالص المزخرفة بطريقة النقش والحفر. وهذه القاعدة الخشبية مؤلفة من ثلاثة مستويات في البرواز، الزخرفة الإطارية المستمرة، والثانية تحمل الآيات الكريمة. = ج / 1 ص -146- ..................................................................................... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = مقاسات الباب: ويزيد ارتفاع باب الكعبة المشرفة عن ثلاثة أمتار. ويقارب عرضه المترين. بعمق قرب من النصف متر، وهو مكون من درفتين ويتألف الهيكل الإنشائي من قاعدة خشبية بسماكة عشرة سنتيمترات من خشب التيك واسمه الخاص "ما كامونغ" ووزنه النوعي 40.8 سم2. وقد جرى تفصيل الهيكل الإنشائي وتجهيزه بواسطة فنيين إخصائيين في ضوء مطابقة التصميم الزخرفي من جهة. ومراعاة عوامل الطقس والموقع في تحمل الحرارة الشديدة والأمطار من جهة أخرى. واتخذت أحدث الاحتياطات الفنية لمعالجة كافة النقاط التفصيلية. والارتباطات بين الباب والحلق من جهة. والجوانب من جهة أخرى. وزودت نهاية الباب بعارضة من الأسفل لمنع دخول المطر إلى داخل الكعبة المشرفة، وتحتوي على قضيب خاص يضغط حرف الباب على العتبة عند الإغلاق. ولكي يتم تركيب الباب بسهولة أعد إطار من الصلب صنع خصيصا وثبتت عليه المفصلات بحيث تتحمل كل درفة ما يزيد على "500" كيلو جرام. وجهزت المفصلات على عجلات دائرة لسهولة الحركة. وبالنسبة لتثبيت صفائح الذهب على القاعدة الخشبية. فقد تم تركيب مادة لاصقة خاصة تضمن استمرار التصاق الذهب بالخشب إلى فترة غير محدودة. قفل الباب: أما بالنسبة لقفل باب الكعبة المشرفة الجديد فقد صرف النظر عن استخدام القفل الخاص بالباب القديم، والذي يعود إلى عهد السلطان عبد الحميد، وتمت صناعة قفل جديد بنفس مواصفات القفل القديم بما يناسب التصميم الخاص بالباب الجديد، ومع زيادة ضمانة الاغلاق دون الحاجة إلى صيانة. باب التوبة: يقع هذا الباب في الناحية الشمالية حيث يصعد من خلاله إلى سطح الكعبة، وقد تم تصميمه على أساس أن يأتي مطابقا للباب الرئيسي من حيث الزخرفة وطريقة الكتابة بحيث يظهر التجانس بين البابين، ويبلغ عرضه 70سم وارتفاعه 230سم، وصنع من نفس نوع الخشب المصنوع منه باب الكعبة "ماكامونغ" ولكن بسماكة أقل. هامش رقم 6 لصفحة 201 حتى صفحة 204 عن عمارة وتجديد باب الكعبة مصدره: "قصة التوسعة الكبرى" للأستاذ حامد عباس. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -147- الباب الثامن: ذكر صفة الكعبة وما أحدث فيها من البدعة: أما أرض الكعبة وجدرانها من داخلها: فمرخمة برخام ملون، وقد ذكر الأزرقي رحمه الله عدد الرخام الذي في أرض الكعبة وجدرانها وألوانه ونقل عن ابن جريج أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أول من رخم أرض الكعبة وجدرانها برخام بعث به من الشام1. وفي الكعبة الآن ثلاث دعائم من ساج على ثلاثة كراسي، وفوقها ثلاثة كراسي، وعلى هذه الكراسي ثلاث جوائز من ساج، ولها سقفان بينهما فرجة، وفي السقف أربعة روازن نافذة من السقف الأعلى إلى السقف الأسفل للضوء، وفي ركنها الشامي درجة من خشب يصعد منها إلى سطحها، وعدد الدرج التي فيها ثمان وثلاثون مرقاة، وسقفها الأعلى مما يلي السماء مرخم برخام أبيض، وطلي بنورة2 في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بأمر أمير يقال له باشه من أمراء مصر، لما ندبه لعمارة المسجد وغيره بمكة الأمير بركة مدبر المملكة بالديار المصرية مع الملك الظاهر قبل سلطنته. ثم كشطت النورة في سنة إحدى وثمانمائة بأمر الأمير بيسق3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 297و 304. 2 النورة عند الحجازيين يسميها المصريون الجير الأسود. 3 قال: ابن إياس في حوادث سنة 801 هـ "1/2: 520"ك "وبرز الأمير بيسق الشيخي بالريدانية ليكون أمير حجاج الرجبية، ورسم له بعمارة ما تهدم من المسجد الحرام، وخرج معه المعلم شهاب الدين أحمد بن الطولوني المهندس، إتحاف الورى 3/ 410، السلوك للمقريزي 3/ 2: 923، نزهة النفوس 1/ 491، 492. ج / 1 ص -148- ويطيف بسطحها إفريز مبني بالحجارة على جدرها من جميع جوانبها يأتي تحرير ذرعه فيما بعد إن شاء الله تعالى ويتصل بهذا الإفريز أخشاب فيها حلق من حديد، مربوط بها كسوة الكعبة، وبابها من ظاهره مصفح بصفائح فضة مموهة بالذهب، وكذلك فياريز الباب وعتبته العليا مطلية بفضة، زنتها على ما بلغني ألف درهم وثمانمائة درهم، وفيها مكتوب اسم مولانا السلطان الملك الناصر فرج1 بن الملك الظاهر صاحب الديار المصرية، واسم أبيه الملك الظاهر، وأضيف إلى كل منهما الأمر بعمل هذه الحلية، وفيها مكتوب أيضا اسم الأمير أيتمش3 الذي جعله الملك الظاهر أتابكا4 لوالده واسم الأمير يشبك5 الذي كان خازندار6 الملك الظاهر ثم لابنه الملك الناصر، ثم صار داودارا7 للملك الناصر وأتابكا له واسم الأمير بيسق الآمر بهذه الحلية. وأما ما أحدث فيها من البدعة: فهو البدعة التي يقال لها "العروة الوثقى"، والبدعة التي يقال لها "سرة الدنيا"،وقد ذكرهما الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله لأنه قال: وقد ابتدع من قريب بعض الفجرة والمحتالين في الكعبة المكرمة أمرين باطلين عظم ضررهما على العامة. أحدهما: ما يذكرونه من العورة الوثقى، عمدوا إلى موضع عال من جدار البيت المقابل لباب البيت فسموه بالعروة الوثقى، وأوقعوا في قلوب العامة أن من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى، فأحوجهم إلى أن يقاسوا في الوصول إليه شدة وعناء، فركب بعضهم فوق بعض، وربما صعدت الأنثى فوق الذكر ولامست الرجال ولامسوها، فلحقهم بذلك أنواع من الضرر دنيا ودينا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تسلطن سنة 801 حتى سنة 808هـ. "بدائع الزهور 1/ 2: 834، وانظر السلوك 3/ 1178". 2 تسلطن من سنة 784 حتى سنة 791 ثم عاد للسلطنة سنة 792 حتى سنة 801هـ. "السلوك 3/ 938، بدائع الزهور ج 1/ 2: 526" وهو السلطان برقوق. 3 انظر: بدائع الزهور: 1/ 2: 321. 4 "أتابك" أصله أطابك ومعناه الولد الأمير. وأول من لقب بذلك نظام الدولة وزير ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي حين فوض إليه ملكشاه تدبير المملكة سنة 465 بألقاب منها هذا، وقيل: أطابك معناه أمير أب، والمراد: أبو الأمراء وهو أكبر الأمراء المقدمين بعد النائب الكافل، وليس له وظيفة ترجع إلى حكم وأمر ونهي، وغايته رفعة المحل وعلو المقام .. "صبح الأعشى 4/ 18". 5 بدائع الزهور 1/ 2: 525. 6 "الخازندار": وظيفته التحدث في خزائن الأموال السلطانية من نقد وقماش وغير ذلك. "صبح الأعشى 4/ 21". 7 الداودار: صاحب الدواة وحاملها للسلطان أو الأمير، وهو يقوم بإبلاغ الرسائل عنه وتقديم القصص والشكاوى إليه. "صبح الأعشى 5/ 492". ج / 1 ص -149- الثاني: مسمار في وسط البيت سموه سرة الدنيا، وحملوا العامة على أن يكشف أحدهم عن سرته، وينبطح بها على ذلك الموضع حتى يكون واضعا سرته على سرة الدنيا، قاتل الله واضع ذلك ومختلقه وهو المستعان... انتهى بنصه من منسك ابن الصلاح، ونقل ذلك عنه النووي في "الإيضاح" بما يخالف بعض ذلك في اللفظ ويوافقه في المعنى. قلت: وهذان الأمران لا أثر لهما الآن في الكعبة، وكان زوال البدعة التي يقال لها العروة الوثقى في سنة إحدى وسبعمائة، لأن الإمام جمال الدين المطري فيما أخبرني عنه القاضي برهان الدين بن فرحون ذكر أن الصاحب زين الدين أحمد بن محمد بن علي بن محمد المعروف بابن حناء توجه إلى مكة في أثناء سنة إحدى وسبعمائة، فرأى فيها ما يقع من الفتنة عند دخول البيت الحرام، وتعلق الناس بعضهم على بعض، وحمل النساء على أعناق الرجال للاستمساك بالعروة الوثقى في زعمهم فأمر بقلع ذلك المثال، وزالت تلك البدعة، والمنة لله تعالى1... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 132، 133، السلوك المقريزي 2/1: 12، الدرر الكامنة 1/ 302 برقم 727، النجوم الزاهرة 8/ 215. ذكر ذرع الكعبة من داخلها وخارجها: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي1 قال: ذرع البيت خارج طولها في السماء: سبعة وعشرون ذراعا، وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامي: خمس وعشرون ذراعا، وذرع ظهرها من الركن اليماني إلى الركن الغربي: خمس وعشرون ذراعا، وذرع شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني: عشرون ذراعا، وذرع شقها الذي فيه الحجر من الركن الشامي إلى الركن الغربي: أحد وعشرون ذراعا، وذرع جميع الكعبة مكسرا: أربعمائة ذراع وثمانية عشر ذراعا، وذرع نقد جدار الكعبة: ذراعان، والذراع أربع وعشرون أصبعا. ثم قال الأزرقي: ذرع طول الكعبة في السماء من داخلها إلى السقف الأسفل مما يلي باب الكعبة: ثماني عشرة ذراعا ونصف، وطول الكعبة في السماء إلى السقف الأعلى: عشرون ذراعا، وذرع داخل الكعبة من وجهها من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي إلى الركن الغربي وهو الشق الذي يلي الحجر: خمسة عشر ذراعا وثماني عشر إصبعا، وذرع ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي وهو الشق الذي يلي الحجر: خمسة عشر ذراعا وثماني عشرة أصبعا، وذرع ما بين الركن الغربي إلى الركن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 289، 290. ج / 1 ص -150- اليماني- وهو ظهر الكعبة: عشرون ذراعا وستة أصابع، وذرع ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود ستة عشر ذراعا وستة أصابع1. وذكر الأزرقي رحمه الله: ذرع ما بين الأساطين التي في الكعبة، فقال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ذرع ما بين الجدار الذي بين الركن الأسود والركن اليماني إلى الأسطوانة الأولى: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الأولى إلى الأسطوانة الثانية: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الثانية إلى الأسطوانة الثالثة: أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة الثالثة إلى الجدار الذي يلي الحجر: ذراعان وثمان أصابع2... انتهى. وقد حرر ذرع الكعبة الفقيه أبو عبد الله محمد بن سراقة العامري في كتابه "دلائل القبلة"، لأنه قال: اعلم أن الكعبة البيت الحرام مربعة البنيان في وسط المسجد، ارتفاعها من الأرض سبعة وعشرين ذراعا، وعرض الجدار وجهها قرابة أربعة وعشرين ذراعا، وهو بناء الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حين ولي مكة جعل عرضه ثلاثين ذراعا يزيد على ذلك أقل من ذراع، وبعد أن كشف عن قواعد إبراهيم الخليل عليه السلام وبنى عليها. ثم قال: وعرض وجهها وهو الذي فيه بابها: أربعة وعشرون ذراعا، وعرض مؤخرها مثل ذلك، وعرض جدارها الذي يلي اليمن، وهو فيما بين الركن اليماني والركن العراقي، وهو الذي فيه الحجر الأسود: عشرون ذراعا. ثم قال: وعرض جدارها الذي يلي الشام، وهو الذي بين الركن الشامي والركن العراقي: أحد وعشرون ذراعا... انتهى. وإنما ذكرنا ما ذكره ابن سراقة العامري من ذرع الكعبة، لأن فيه مخالفة لما ذكره الأزرقي في ذرع شقها الشرقي وشقها الغربي، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في ذرع ذلك ذراعا. وفي النسخة التي رأيتها من كتاب ابن سراقة لحن في التعبير عن ذرع بعض ما نقلته عنه، فكتبته هنا على ما وجدته في النسخة، وذلك واضح لمن تأمله، والله أعلم. وذكر ابن جبير في أخبار رحلته ما يستغرب في طول الكعبة، لأنه ذكر محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن الشيبي زعيم الشيبيين الذين لهم سدانة البيت أخبره أن ارتفاعه في الهواء من الصفح الذي يقابل باب الصفا وهو بين الحجر الأسود واليماني تسع وعشرون ذراعا، وسائر الجوانب ثمان وعشرون، بسبب انصباب السطح إلى الميزاب3... انتهى بنصه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 1/ 290. 2 أخبار مكة 1/ 292. 3 رحلة ابن جبير ص 59. ج / 1 ص -151- وما عرفت كيف يستقيم هذا الذرع، وذكر ذرع جهات الكعبة، وأمورا تتعلق بها بالأقدام والخطا، وقد ذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب. وذكر ابن خرداذبه في عرض الكعبة ما يخالف ما ذكره الأزرقي، لأنه قال عند ذكر الكعبة: طول البيت: أربعة وعشرون ذراعا وشبر في ثلاثة وعشرين ذراعا وشبر، ثم قال: وسمكه في السماء سبعة وعشرون ذراعا1... انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن قوله أولا: طول البيت، المراد به عرضه، لقوله فيما بعد: وسمكه في السماء؛ فإن هذا الذراع طوله، وإذا تقرر ذلك فإن أراد ابن خرداذبه بقوله: طول البيت بيان ذرع شقه الشرقي والغربي فقد خالف الأزرقي في ذلك، لأن الأزرقي ذكر أن ذرع كل من هذين الشقين خمس وعشرون ذراعا، وإن أراد بذلك بيان ذرع شقها الشامي واليماني، فقد خالف في ذلك ما ذكره الأزرقي، لأنه ذكر أن ذرع الشق الشامي واحد وعشرون، واليماني عشرون. والوجه الأول أقرب إلى مراد ابن خرداذبه، وإنما ذكرناه لغرابته، والله أعلم. وقد حرر طول الكعبة من داخلها وخارجها: القاضي عز الدين بن جماعة بذراع القماش المستعمل بمصر في زمنه، وهو المستعمل في زمننا، وذلك في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، فقال فيما أخبرني به عنه خالي رحمهما الله ارتفاعهما من أعلى الملتزم إلى أرض الشاذروان ثلاث وعشرون ذراعا ونصف ذراع وثلث ذراع، وبين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين الركن الشامي وقال له: العراقي من داخل الكعبة: ثمانية عشر ذراعا وثلث وربع وثمن، ومن خارجها: ثلاثة وعشرون ذراعا وربع ذراع، وارتفاع باب الكعبة الشريفة من داخلها ستة أذرع وقيراطان، ومن خارجها خمسة أذرع وثلث، وعرضه من داخلها ثلاث أذرع وربع وثمن، ومن خارجها ثلاث أذرع وربع، وعرض العتبة نصف ذراع وربع. وارتفاع الباب الشريف عن أرض الشاذروان ثلاثة أذرع وثلث وثمن ومن الركن الشامي والغربي من داخل الكعبة خمسة عشر ذراعا وقيراطان.ومن خارجها تسعة عشر بتقديم التاء على السين وربع2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المسالك والممالك 132، 133. 2 في مناسك ابن جماعة: "وربع وثمن" 3/ 1334. ج / 1 ص -152- ووقع فيما ذكره ابن جماعة تسمية الركن الشامي الذي يلي وجه الكعبة بالعراقي، وذلك يخالف ما ذكره ابن سراقة في الركن العراقي، ورأيت ما يدل لما ذكره ابن جماعة كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الباب الخامس عشر من هذا الكتاب. وذكر ابن جبير في غير موضع من رحلته ما يوافق ما ذكره ابن جماعة في ذلك1، والله أعلم. وقد حررت ما حرره الأزرقي وابن جماعة من ذرع الكعبة، مع أمور أخر تتعلق بها، وفيما حررناه مخالفة لبعض ما حرراه. ونذكر ما حررناه لبيان معرفة الاختلاف، ومعرفة أمور أخر تتعلق بالكعبة حررناها، ولم يحررها الأزرقي ولا ابن جماعة، وكان تحريرنا لذلك بذراع الحديد الذي حرر به ابن جماعة، ومنه يظهر معرفة ما حرره الأزرقي، لأن تحريره كان بذراع اليد، وهو ينقص عن ذراع الحديد ثمن ذراع بالحديد كما تقدم بيانه في باب حدود الحرم، واتفق تحريرنا لذلك في صحوة يوم الجمعة ثاني شهر ربيع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير: ص 59، 61، 63، 67. ذكر ذرع الكعبة من داخلها بذراع الحديد: طول جدارها الشرقي من السقف الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين ونصف ذراع إلا قيراطا وعرضه من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى جدار الدرجة الذي فيه بابها خمسة عشر ذراعا وثمن ذراع. وذرع بقية هذا الجدار، يعرف تقريبا من جدار الدرجة الغربي، لكونه في محاذاة بقية هذا الجدار، وذرع جدار الدرجة الغربي المشار إليه ثلاثة أذرع وقيراط، فيكون ذرع الجدار الشرقي على التقريب ثماني عشر ذراعا وسدس ذراع. وطول الجدار الشامي من سقفها الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين أيضا وعرض هذا الجدار من جدار الدرجة الغربي إلى ركن الكعبة الغربي أحد عشر ذراعا وقيراط، وذرع بقية هذا الجدار يعرف تقريبا من جدار الدرجة اليماني، لكونه في محاذاة بقية هذا الجدار، وذرع جدار الدرجة المشار إليه ثلاثة أذرع إلا ثمنا، فيكون ذرع الجدار الشامي على التقريب أربعة عشر ذراعا إلا قيراطين. وطول جدارها الغربي من سقفها الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين أيضا وربع ذراع وثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن الغربي إلى الركن اليماني ثمانية عشر ذراعا وثلث ذراع. ج / 1 ص -153- وطول جدار الكعبة اليماني من سقفها الأسفل إلى أرضها سبعة عشر ذراعا بتقديم السين ونصف ذراع وقيراطين، وعرض هذا الجدار من الركن اليماني إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود أربعة عشر ذراعا وثلثا ذراع. ومن وسط جدار الكعبة الشامي إلى وسط جدارها اليماني ثمانية عشر ذراعا وثلث. ومن وسط جدار الكعبة الشرقي إلى وسط جدارها الغربي أربعة عشر ذراعا ونصف ذراع وثمن ذراع، وما بين الجدار الشرقي، وبين كرسي الأسطوانة التي تلي الحجر سبعة أذرع بتقديم السين على الباء وثمن، وكذلك ما بينه وبين كرسي الأسطوانة، وما بينه وبين كرسي الأسطوانة التي تلي الحجر سبعة أذرع بتقديم السين أيضا وقيراط، وبن كل من كرسي هذه الأساطين وما يقابله من الجدار الغربي سبعة أذرع بتقديم السين أيضا إلا أنه ينقص في ذرع ما بين كرسي الأسطوانة الوسطى، وما يحاذيها من الجدار الغربي المذكور قيراطين، وبين كرسي الأسطوانة الأولى التي تلي باب الكعبة، وبين جدار الكعبة اليماني أربعة أذرع وثلث، وما بين كرسيها وكرسى الأسطوانة الوسطى أربعة أذرع وربع وثمن، وما بين كرسي الوسطى وكرسي الأسطوانة الثالثة التي تلي الحجر بسكون الجيم أربعة أذرع ونصف، وما بين كرسي هذه الأسطوانة الثالثة والجدار الشمالي الذي يليها ذراعان وربع. وذرع تدوير الأسطوانة الأولى التي تلي الباب ذراعا وربع وثمن، وذرع تدوير الوسطى ذراعان ونصف وربع ذراع، وذرع تدوير الأسطوانة التي تلي الحجر ذراعان ونصف وقيراطان، وهي مثمنة، وطول فتحة الباب من داخله مع الفياريز1 ستة أذرع، وطوله من خارجه بغير الفياريز ستة أذرع إلا ربع. وذرع فتحة الباب من داخل الكعبة مع الفياريز ثلاثة أذرع وثلث إلا قيراط، وطول كل من فردتي الباب ستة أذرع إلا ثمن، وعرض كل منهما ذراعان إلا ثلث، وذرع عرض العتبة ذراع إلا ربع، وسعة فتحة باب الدرجة الذي يصعد منه إلا أعلا الكعبة من أسفله ذراع وقيراطان، ومن أعلاه ذراع وثمن، وارتفاع الباب عن الأرض ذراعان ونصف ذراع وسدس ذراع وثمن ذراع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الفياريز: مفردها إفريز. ج / 1 ص -154- ذكر ذرع الكعبة من خارجها بذراع الحديد: طول جدارها الشرقي من أعلا الشاخص على سطحها إلى أرض المطاف ثلاثة وعشرون ذراعا وثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن الذي فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامي الذي يقال له العراقي أحد وعشرون ذراعا وثلث ذراع، ومن عتبة باب الكعبة إلى أرض الشاذروان تحتها ثلاثة أذرع ونصف، وارتفاع الشاذروان تحتها ربع ذراع وقيراط، وطول جدارها الشامي من أعلا الشاخص في سطحها إلى أرض الحجر ثلاثة وعشرون ذراعا إلا ثمن ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن الشامي إلى الركن الغربي سبعة عشر ذراعا بتقديم السين ونصف ذراع وربع ذراع وطول جدارها الغربي من أعلا الشاخص في سطحها إلى الأرض ثلاثة وعشرون ذراعا، وعرض هذا الجدار من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحد وعشرون ذراعا وثلثا ذراع، وطول جدارها اليماني من أعلا الشاخص في سطحها إلى الأرض كالجهة الشرقية ثلاثة وعشرون وثمن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...