65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج6.شفاء الغرام

== الله عنهما، أنه سأل بلالا رضي الله عنه: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ فقال: نعم، ركعتين بين الساريتين. وروينا ذلك في "سنن الدارقطني" من رواية زهير بن معاوية عن ابن الزبير عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث ابن الزبير، فسألت بلالا -رضي الله عنه- فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شرح معاني الآثار 1/ 391. 2 مسند أحمد 6/ 15. ج / 1 ص -191- وروينا في الصحيحين ما يقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما نسي أن يسأل بلالا عن قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وذلك من جملة حديث أخرجه البخاري عن شريح بن النعمان، عن فليج عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد وأبي الربيع والزهري وأبي كامل الجحدري كلهم، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وروينا ذلك أيضا في سنن ابن ماجه، وفي رواية ابن ماجة: ثم لمت نفسي أن لا أكون سألته يعني بلالا كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكون هذه الأحاديث معارضة للأحاديث التي تقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما سأل بلالا رضي الله عنه عن قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هذه. وقد سبق ذكر هذه الأحاديث. وذكر شيخنا العراقي في الجمع بين هذه الأحاديث ثلاثة احتمالات، واستبعد منها اثنين وسكت عن الثالث وهو على ما قال فما أنبأني به، ويحتمل أن ابن عمر وإن كان سمع من بلال أنه صلى ركعتين لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما، لأن من صلى أربعا أو أكثر يصدق عليه أنه صلى ركعتين، على القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة كم هو المرجح في الأصول فلعل الذي نسي أن يسأل عنه بلالا رضي الله عنه في أنه هل زاد على الركعتين شيئا أم لا؟ والله أعلم. ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة ومن نقلها منهم، رضي الله عنهم: روى هذه الصلاة بلال، وجابر بن عبد الله، وشيبة بن عثمان الحجبي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس على ما قيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن صفوان القرشي، وعثمان بن طلحة الحجبي، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعائشة. ونفاها أسامة على المعروف عنه والفضل بن عباس وأخوه عبد الله بن عباس على ما صح عنه وليس في حديث أكثر الصحابة المثبتين لهذه الصلاة والنافين لها في أن ذلك وقع في يوم فتح مكة، وإنما ذلك مبين في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وحديث جابر رضي الله عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وغيره، فيحمل على ذلك حديث من لم يقع في حديثه بيان زمن الصلاة المشار إليه، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، والمجمل منها يرد إلى المبين، وقد أشار إلى ذلك النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم، ولما تكلم على قوله في حديث ابن عمر رضي ج / 1 ص -192- الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونزل بفناء الكعبة. هذا دليل على أن المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيه كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع... انتهى. ويتأيد ذلك بما رويناه في تاريخ الأزرقي قال: حدثني جدي قال: سمعت سفيان يعني ابن عيينة يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج ولم يدخلها1... انتهى. وإذا تقرر ذلك فنشير إلى شيء من أحاديث الصحابة المشار إليهم رضي الله عنهم. فأما حديث بلال رضي الله عنه: فرويناه في شرح معاني الآثار" للطحاوي قال: حدثنا فهد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، عن مغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: دخل النبي البيت يوم الفتح فصلى فيه ركعتين. وأما حديث شيبة: فرويناه في "معجم ابن قانع" ولفظه: حدثنا خليد بن محمد، حدثنا القواريري: حدثنا محمد بن حمدان، وحدثنا أبو بشر، عن مسافع بن شيبة، عن أبيه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فصلى فيها ركعتين ورأى فيها تصاوير فقال: "يا شيبة اكفني هذا"، فاشتد ذلك على شيبة فقال له رجل: اطله بزعفران، ففعل. وسيأتي إن شاء الله تعالى لشيبة في الباب الذي بعده حديث آخر في المعنى. ورويناه أيضا في "شرح الآثار" للطحاوي2 ونصه: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم، عن هرمز، عن عبد الرحمن بن الزجاج، قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان إن ابن عباس يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، قال: بلى، صلى ركعتين عند العمودين المقدمين، ألزق بهما ظهره. وحدثنا فهد قال: حدثنا محمد بن سعيد، أخبرنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الله بن مسلم، فذكره. وأما حديث ابن الزبير رضي الله عنه فرويناه في مسند أحمد بن حنبل، ولفظه: حدثنا عثمان قال: حدثنا حماد عن عبد الله بن أبي مليكة قال: إن معاوية قدم إلى مكة فدخل الكعبة، فبعث إلى ابن عمر يسأله أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: صلى بين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 273. 2 شرح معاني الآثار 1/ 392 "باب الصلاة في الكعبة". ج / 1 ص -193- الساريتين بحيال الباب، فجاء ابن الزبير فرج الباب رجا شديدا ففتح له، فقال لمعاوية: أما أنك قد علمت أني كنت أعلم مثل الذي تعلم ولكنك حسدتني. وأما حدث ابن عباس: فرويناه في "سنن الدارقطني" ولفظه: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا عيسى بن أبي حرب الصفار قال: حدثني يحيى بن أبي بكير، عن عبد الغفار بن القاسم قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم دخل مرة أخرى، وقام فيه يدعو، ثم خرج ولم يصل. وكتب الدارقطني على حاشية هذا الحديث: عبد الغفار ضعيف... انتهى. وروينا هذا الحديث في "معجم الطبراني الكبير" وفي إسناد أبو مريم، روي عن صغار التابعين، وبقية رجاله وثقوا، وفي بعضهم كلام. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل لذلك أيضا في مسند بلال للحسن بن محمد الصباح الزغفراني، ولفظه: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا عبد الله المؤمل قال: سمعت ابن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وكان بلال والفضل على الباب، فقال بلال: سجد، وقال الفضل: إنما كان يركع. وأما حديث عبد الله بن عمر: من غير ذكر بلال رضي الله عنهم: فأخبرني به الحافظ أبو أحمد بن الحسين الحاكم إجازة- إن لم يكن سماعا- قال: أخبرنا به محمد بن أزبك البدري بقراءتي عليه بظاهر دمشق في الرحلة الثالثة قال: أنبأنا محمد بن عبد المؤمن الصوري قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن قدامة، قال أنبأنا أحمد بن المقرب الكرخي، ونفيسة بنت أبي غلب البزار قالا: أنبأها طراد بن محمد القرشي قال: أنبأنا أحد بن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي قال: حدثنا محمد بن عمرو بن البحتري قال: حدثنا أحمد بن عبيد الجشمي قال: حدثنا غارم أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف البيت. هكذا رواه، عن غارم، عن حماد، وخالفه قتيبة، لأنه رواه عن حماد فزاد في إسناده بلالا، ورواية قتيبة أخرجها الترمذي عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار"1: حدثنا أبو مرزوق قال: حدثنا وهب هو ابن جرير قال: حدثنا شعيب، عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، وسيأتي من ينهاك فلا تسمع قوله يعني ابن عباس .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شرح معاني الآثار 1/ 391 "باب الصلاة في الكعبة". ج / 1 ص -194- وقال أيضا: حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: لا تجعل سائر البيت خلفك وائتم به جميعا. وسمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. وأما حديث عبد الرحمن بن صفوان: فرويناه في "معجم الطبراني الكبير" ولفظه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت قال: صلى ركعتين بين الأسطوانتين عن يمين البيت. ورجال الطبراني رجال الصحيح على ما ذكر شيخنا أبو الحسن الحافظ. ورويناه في "مسند البزار"، ولفظه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي- وكانت داري على الطريق، فذكر الحديث إلى أن قال: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت من كان معه: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ركعتين عند السارية الوسطى عن يمينها. ورويناه في "سنن أبي داود السجستاني". ورويناه عن شيوخه عن جماعة لم يسموه في "شرح معاني الآثار للطحاوي قال: حدثنا ربيع الحبري قال: حدثنا عبد الله بن الحميدي قال: حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن يزيد بن أبي الزناد، عن مجاهد، عن ابن صفوان أو عبد الله بن صفوان قال: سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قد قدم، فجمعت علي ثيابي، فوجدته قد خرج من البيت، فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ قالوا: تجاهك، قلت: كم صلى؟ قالوا: ركعتين. وأما حديث عثمان بن طلخة: فهو في "صحيح مسلم" على الشك، لأنه روى بسنده إلى ابن عمر قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، ثم قال: فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة. ووقع في بعض نسخ مسلم على ما قال النووي بلال وعثمان بن طلحة، ويعضد ذلك رواية في مسلم يأتي ذكرها ولكن فيها علة، وهي أن بعض رواتها نسب فيها إلى الوهم. وروينا حديث عثمان بن طلحة في المعنى من غير شك في مسند أحمد بن حنبل، ولفظ حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت وجاهك حين تدخل بين الساريتين. ورجال أحمد رجال الصحيح. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" أيضا. ورويناه أيضا في "معجم ابن قانع" ولفظه: حدثنا محمد بن يونس قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عثمان بن طلحة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت بين الساريتين. ج / 1 ص -195- ورويناه أيضا في "شرح معاني الآثار للطحاوي، ونصه: حدثنا علي بن عبد الرحمن، حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عثمان بن طلحة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه ركعتين وجاهك بين الساريتين. وحسن شيخنا أبو الفضل الحافظ الحديث الذي من رواية ابن قانع. وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فرويناه في "سنن أبي داود السجستاني" ولفظه: حدثنا زهير بن حرب قال: حدثني عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب، كيف صنع رسول الله حين دخل الكعبة قال: صلى ركعتين1. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" فقال: حدثنا معلى بن شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أنبأنا جرير فذكره بلفظه، إلا أنه قال: قال ابن أبي الزناد ولم يقل الخطاب، وقال أيضا: حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو الوليد، حدثنا جرير بن عبد الحميد، فذكره بإسناده مثله، غير أنه قال: عبد الله بن صفوان2. وأما حديث أبي هريرة: فرويناه في "مسند البزار" ولفظه قال: لما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم عثمان بن طلحة أن ابعثي بالمفتاح أي مفتاح الكعبة فقالت: لا، والله والعزى لا أبعث به إليك، فقال قائل: ابعث إليها قسرًا، فقال ابنها عثمان: يا رسول الله إنها حديثة عهد بكفر فابعثني إليها حتى آتيك به، قال: فذهب، فقال: يا أمتاه إنه قد جاء أمر غير الذي كان، وإنه إن لم تعط المفتاح قتلت، قال: فأخرجته فدفعته إليه، فجاء به يسعى، فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر المفتاح بين يديه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فجئنا عليه بثوبه فأخذه، ثم جاء إلى الباب -أحسبه قال: ففتحه ثم قام عند أركان البيت وأرجائه يدعو، ثم صلى ركعتين بين الأسطوانتين. في إسناد هذا الحديث في "مسند البزار" زيد بن عوف وهو ضعيف. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرويناه في "سنن البيهقي" ولفظه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد بن الجبار بن مالك اللخمي بتنيس قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، أن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ج1/ 391 "باب الصلاة في الكعبة". 2 شرح معاني الآثار 1/ 393. ج / 1 ص -196- وأخرج هذا الحديث الحاكم في "المستدرك" بهذا الإسناد، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه1. وأما حديث أسامة: الموافق لهم في إثبات الصلاة فرويناه في "شرح معاني الآثار" للطحاوي أيضا قال: حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا ابن شريح قال: أخبرني محمد بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن قال: كنت مع أبي فلقيت عبد الله بن عمر فسأله أبي وأنا أسمع: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت؟ فقال ابن عمر: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بين أسامة وبلال، فلما خرجا سألتهما أين صلى؟ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: على جهته. حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أحمد بن أشكاب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي الشعثاء، عن ابن عمر، قال: رأيته دخل البيت حتى إذا كان بن الساريتين مضى حتى لزق بالحائط، فقام فصلى، فجئت فقمت إلى جنبه، فصلى أربعا فقلت: أخبرني أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ فقال: ههنا، أخبرني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى2. فهذه أحاديث الصحابة المثبتين لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وأما أحاديث الذين نفوها: حديث أسامة منها رويناه في "سنن النسائي" ولفظه: أخبرنا حاجب بن سليمان المنبجي، عن عبد المجيد بن أبي رواد، حدثنا ابن جريج، عن عطاء3، عن أسامة بن زيد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فسبح في نواحيها وكبر ولم يصل، ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: هذه القبلة. ورويناه في "صحيح" من رواية عطاء عن عبد الله بن عباس عن أسامة. وأما حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما في نفي الصلاة: فرويناه في كتاب "الطبقات" لمحمد بن سعد كاتب الواقدي ولفظه: حدثنا موسى بن داود، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن الفضل قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت فكان يسبح ويكبر ويدعو ولا يركع. قال شيخنا أبو الفضل الحافظ بعد إخراجه لهذا الحديث من هذا الطريق: ورجاله رجال مسلم، إلا أن موسى بن داود الصيتي قاضي طرطوش تكلم فيه، وقد قيل: إنه تفرد عن حماد بن سلمة. وأخرجه أيضا شيخنا أبو الفضل الحافظ من معجم ابن قانع ثم قال بعد إخراجه له من طريقه: هذا حديث غريب من هذا الوجه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المستدرك على الصحيحين 1/ 479. 2 شرح معاني الآثار 1/ 391. 3 هو عطاء بن أبي رباح. ج / 1 ص -197- ورويناه في "مسند أحمد بن حنبل" ولفظه" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الفضل بن عباس أخبر أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة ولكنه لما خرج نزل فركع ركعتين عند باب البيت. ورواه الطبراني بمعناه في "الكبير"، ورجاله رجال أحمد، ورجال الصحيح. وأما حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في نفي الصلاة من غير إسناده ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل: فرويناه في صحيحي البخاري ومسلم، أما البخاري: فأخرجه عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها. والمشهور عن عبد الرزاق بهذا الإسناد عن ابن عباس عن أسامة، وكذا رواه النسائي وغيره. وأما مسلم: فقال: أخبرنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا همام قال: حدثنا عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها، وما قيل في الجمع بين ذلك: قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: رواية ابن عمر عن بلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أولى من رواية ابن عباس عن أسامة أنه لم يصل، لأنها زيادة مقبولة، وليس قول من قال من لم يفعل بشهادة إلى آخر كلامه. وقال السهيلي في "الروض الأنف" وأما دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيها فحديث بلال أنه صلى فيها، وحديث ابن عباس أنه لم يصل فيها وأخذ الناس بحديث بلال، لأنه أثبت الصلاة، وابن عباس نفاها، وإنما يؤخذ بشهادة المثبت لا بشهادة النافي، ومن تأول قول بلال رضي الله عنه أنه صلى أي دعا فليس بشيء، لأن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى فيها ركعتين، ولكن رواية ابن عباس، ورواية بلال، صحيحتان، لأنه عليه الصلاة والسلام دخلها يوم النحر فلم يصل، ودخلها من الغد فصلى فيها، وذلك في حجة الوداع، وهو حديث مروي عن ابن عمر بإسناد حسن أخرجه الدارقطني وهو من فوائده1 ... انتهى. وقال الشيخ محيي الدين النووي: أجمع أهل الحديث علي الأخذ برواية بلال رضي الله عنه لأنه مثبت، فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه قال: وأما نفي أسامة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 4/ 4. ج / 1 ص -198- رضي الله عنه فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى: أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال رضي الله عنه لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب، مع بعده واشتغاله بالدعاء وجائز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها، والله أعلم ... انتهى من شرح مسلم. وقال في "المجموع" وهو "شرح المهذب": قال العلماء: الأخذ برواية بلال رضي الله عنه في إثبات الصلاة أولى لأنه مثبت وقدم على النافي، فإن بلالا رضي الله عنه كان قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى معه، وراقبه في ذلك فرآه يصلي، وكان أسامة رضي الله عنه متباعدا مشتغلا بالدعاء والباب مغلق ولم ير الصلاة، فوجب الأخذ برواية بلال رضي الله عنه، لأنه معه زيادة علم ... انتهى. وقال المحب الطبري: وقد اختلف بلال وأسامة رضي الله عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت، وحكم العلماء بترجيح حديث بلال، لأنه أثبت، وضبط ما لم يضبطه أسامة رضي الله عنه والمثبت مقدم على النافي، ثم قال: ويحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. وقد روى ابن المنذر عن أسامة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأي صورا في الكعبة، فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به الصور. فأخبر أنه كان خرج لنقل الماء، وكان ذلك في يوم الفتح، وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة إنما كانت يوم الفتح لا في حجة الوداع. وقال أبو حاتم بن حبان: والأشبه عندي أن يحتمل الخبران على دخولين متغايرين أحدهما: يوم الفتح وصلى فيه. والآخر: في حجة الوداع ولم يصل فيه من غير أن يكون بينهما تضاد... انتهى. وقال القاضي عز الدين بن جماعة في هذا المعنى فيما أخبرني به خالي عنه: قال يعني أحمد بن حنبل حدثنا هشيم، قال: أنبأنا عبد الملك، عن عطاء، قال: قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه، وكبر، وهلل، وخرج ولم يصل، ثم دخلت معه في اليوم الثاني، فقام ودعا، ثم صلى ركعتين، ثم خرج فصلى ركعتين خارجا من البيت مستقبل وجه الكعبة، ثم انصرف وقال: هذه القبلة. وكذلك رواه أحمد بن منيع في مسنده، والدارقطني وغيرهم، وهو كلام شاف كاف في الجمع بين الأحاديث، فنحمد الله على التوفيق للجمع به، فإن ذلك من أجلّ الفوائد. ج / 1 ص -199- فإن بعض كبار العلماء قال: يحتمل أن يكون أسامة رضي الله عنه غاب عنه صلى الله عليه وسلم بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. ثم قال ابن جماعة بعد أن ذكر كلاما للنووي في "المجموع" في الجمع بين حديث بلال وأسامة سبق ذكرنا له: وهذا يحتاج إلى نقل ولم أقف عليه، ولا ضرورة تعدو إليه، والله أعلم. ثم قال بعد أن ذكر كلام ابن حبان السابق في الجمع بين اختلاف بلال وأسامة رضي الله عنها وكلامه وكلام الشيخ محيي الدين يعني النووي ومن نقل عنهم يدل على أنهم لم يطلعوا على ما جمعنا به ... انتهى. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق تصحيح تواتر الأخبار فإن الأخبار قد تواترت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في الكعبة ما لم يتواتر بمثله أنه لم يصل، وإن كان يؤخذ بأن أسامة بن زيد الذي حكى عنه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة خرج منها ولم يصل، فقد روى عنه ابن عمر، عن أسامة، فذلك أولى مما تفرد به ابن عباس عن أسامة، وقال الطحاوي أيضا: فكان ينبغي لما تضادت الروايات عن أسامة وتكافأت أن يرفع، ويثبت ما روي عن بلال إذا كان لم يختلف عنه في ذلك. هذا ما رأيته للناس من ترجيح حديث بلال رضي الله عنه في إثبات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على حديث من خالفه في ذلك، وما قيل في الجمع بين هذا الاختلاف وما ذكروه من الترجيح يتجه، ومما لعله أن يكون مرجحا لذلك أيضا من حيث المعنى على ما ظهر لي: أن الكعبة المعظمة كالمسجد الحرام في استحباب التحية لمن دخلها، والتحية للمسجد الحرام كالطواف لمريده والصلاة فيه، والطواف بالكعبة من داخلها غير مشروع، فلم يتبق لنا تحية إلا الصلاة فيها، كتحية سائر المساجد، فكيف يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصلي فيها مع بعد عهده من دخولها، فإنه من حين هاجر إلى المدينة لم يدخلها، وبين هجرته ودخوله هذا ثماني سنين، ومع طول مكثه صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا، فإن في مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أنهم لبثوا في البيت مليا قال النووي: أي طويلا. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما من رواية نافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث نهارا طويل في الكعبة حين دخلها يوم الفتح، وطول المكث بمكان يستدعي الجلوس فيه غالبا، ويبعد كل البعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس في الكعبة في دخوله هذا، أو أن يجلس فيها بغير صلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه الداخل إلى المسجد عن الجلوس فيه. ج / 1 ص -200- من غير صلاة، وما يؤيد كونه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة في دخوله هذا: إغلاق الباب عليه فيها كما في الصحيحين1 وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما للحكمة التي ذكرها العلماء في إغلاق الباب في دخوله هذا، وهي لئلا يكثر الناس عليه، فلا يتمكن من الصلاة في الكعبة على ما يريد صلى الله عليه وسلم وقيل: الحكمة في ذلك ليصلي صلى الله عليه وسلم إلى كل جهة من الكعبة، فإن الباب إذا كان مفتوحا وليس أمامه قدر مؤخرة الرحل لم تصح الصلاة إليه لعدم استقبال شيء من الكعبة، وذكر هذين القولين المحب الطبري في "القرى" واستظهر القول الأول، وذكر أنه يتأيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة أكثر من ركعتين على ما صح عنه. وأما الأوجه التي نقلناها عن العلماء في الجمع بين اختلاف خبر بلال، وأسامه، وابن عباس رضي الله عنهم في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فإن أقربها إلى الصواب ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة ليأتيه بماء يمحو به الصور التي رآها في الكعبة، فرأى ذلك بلال رضي الله عنه فأثبت الصلاة، ولم يره أسامة فنفاها، وإنما كان هذا الوجه أقرب إلى الصواب من الوجوه الأخر لقيام الدليل على ما يؤيده، وهو الحديث الذي رويناه في "مسند أبي داود الطيالسي" ولفظه: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال: حدثني عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". قلت: رجال هذا الحديث ثقات، فإن ابن أبي ذئب: هو محمد بن عبد الرحمن الإمام المشهور، وشيخه عبد الرحمن بن مهران وثقه النسائي، وابن سعد، وابن حبان، وشيخه عمير روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ويتأيد هذا الحديث بالحديث الذي رواه ابن المنذر في هذا المعنى ولم أر سنده فيه، والله أعلم. وأما الوجه الذي ذكره النووي في الجمع بين الاختلاف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فإنه وإن جاز وقوعه، ففيه بعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة هو وأسامة، وبلال رضي الله عنهما ومن دخل معه، إما أن يكون اشتغل بعد دخوله بالصلاة فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 راجع البخاري 3/ 371, 372 في "الحج، باب إغلاق البيت وباب الصلاة في الكعبة"، وفي "القبلة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى}، وفي "المساجد، باب الأبواب والغلق. للكعبة والمساجد"، وفي "سترة المصلي، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة" وفي "التطوع: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى"، في "الجهاد: باب الردف على الحمار"، وفي المغازي: باب حجة الوداع"، ومسلم "1329" في "الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره". ج / 1 ص -201- قبل اشتغاله بغيرها مما صنعه في الكعبة، أو بدأ قبل الصلاة بالذكر والدعاء ونحو ذلك مما صنعه في الكعبة، فإن كان الأول: فكيف يخفى على أسامة رضي الله عنه؟ وإن كان الثاني وهو مقتضى كلام النووي فالحال يقتضي أن أسامة رضي الله عنه يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتدي به فيما يسمعه من دعواته الخيرية الجامعة النافعة، وحسن ثنائه على الله تعالى، وأن لا ينفرد عنه بمكان في الكعبة يدعو فيه ويذكر حتى لا يعلم ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وأما الوجه الذي ذكره ابن حبان في الجمع بين الاختلاف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فإن فيه نظرا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم فتح مكة، ودخل معه يومئذ أسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس رضي الله عنهم، على خلاف في الفضل، وحديث دخول الفضل معهم في مسند أحمد بن حنبل وسنن النسائي. ولفظ أحمد: حدثنا هشيم قال: أنبأنا غير واحد، وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال .... الحديث. وإسناد هذا الحديث صحيح، ولكن في صحيح مسلم ما يخالفه، على ما سيأتي بيانه. وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا رضي الله عنه أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما دخلها يوم فتح مكة، وثبت من حديث أسامة والفضل رضي الله عنهما نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وليس في حديثهما التصريح بالزمن الذي نفيا فيه الصلاة، في حجة الوداع، لما قال ابن حبان، والأول أشبه بالصواب، لأنه إذا دار الأمر بين حمل حديثهما من نفي الصلاة على زمن ثبت دخولهما فيه إلى الكعبة، وبين حمل ذلك على زمن لم يثبت لهما فيه دخوله، فحمله على الزمن الذي ثبت دخولهما فيه أولى، وفي حمله على الوجه الذي ذكره ابن حبان إشكال، لأن ذلك يستلزم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، ودخول أسامة رضي الله عنه ومن نفى معه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ولم يرد خبر يشعر بذلك، فكيف يحمل على ذلك حديث من نفى الصلاة في الكعبة كما قال ابن حبان. ولا يعارض ذلك حديث عائشة رضي الله عنها لدخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع. ولفظه: قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس فرجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن دخلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي". لأن في إسناد هذه الحديث من نسب إلى ج / 1 ص -202- الضعف، وهو إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير1 المكي راوه عن ابن أبي مليكة عن عائشة قال: فيه ابن معين وأبو حاتم ليس بالقوي. ورواه ابن مهدي. وقال يحيى القطان: تركته ثم كتبت عن سفيان عنه، نقل هذا كله الذهبي في "الميزان" وذكر له هذا الحديث. وحديث آخر له عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أيضا: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه حتى يبدو ضبعاه إلا لعثمان بن عفان إذا دعى له". وذكره لهذين الحديثين مشعر بأن في صحتهما نظر، وذلك والله أعلم لكون الترمذي صحح هذا الحديث وحسنه وكذا الحاكم لأنه أخرجه في "مستدركه على الصحيحين، ومما يقوي النظر في صحة هذا الحديث: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في حجته نقلت بأسانيد صحيحة لا وهن فيها، ولم يذكر فيما نقل من أفعاله صلى الله عليه وسلم في حجته بمثل ذكر دخوله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في حجته، ولو وقع ذلك لذكر كما ذكر بالإسناد الصحيح مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى زمزم وإرادته النزع منها وشربه من السقاة، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجته لو وقع أولى بالذكر من هذه الأمور، ولا يعارض ما أشرنا إليه ما ذكره البخاري في صحيحه في باب الزيارة يوم النحر، لأنه قال: ويذكر عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى، لأن زيارة البيت لا تستلزم دخوله، ويصدق على الطواف به، وأيضا فإن هذا تعليق بصيغة التمريض، والاحتجاج به يتوقف على ثبوته، والله أعلم. ومما يقوي النظر في حديث عائشة رضي الله عنها المشار إليه، إنكار غير واحد من أهل العلم دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجته على ما ذكر منهم سفيان بن عيينة، والله أعلم. وبتقدير صحته فليس فيه ما يشعر بأن من نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، حتى يكون من نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة محمولا على هذا الزمن كما قال ابن حبان، ولا ينبغ التعارض بين حديث من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وحديث من نفاها، بالتوفيق الذي ذكره ابن حبان لفقد دليل يدل على ما ذكره من أن الزمن الذي أثبت فيه بلال رضي الله عنه ومن وافقه الصلاة في الكعبة غير الزمن الذي نفى فيه أسامة رضي الله عنه ومن وافقه الصلاة، وقيام الدليل على أن الزمن الذي أثبت فيه بلال ومن وافقه الصلاة والزمن الذي نفى فيه أسامة ومن وافقه الصلاة به متجه، وهو يوم فتح مكة، كما سبق بيانه، ويتعارض حينئذ خبر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، انظر: التاريخ لابن معين 2/ 35، الجرح والتعديل 1/ 186، التاريخ الكبير 2/ 317، المعرفة والتاريخ 3/ 108، المجروحين 1/ 121، ميزان الاعتدال 1/ 237، الإكمال 5/ 187، الكاشف 1/ 75، تهذيب الكمال 3/ 141، المغني في الضعفاء 1/ 85، تهذيب التهذيب 1/ 396، تقريب التهذيب 1/ 72، العقد الثمين للتقي الفاسي 3/ 301. ج / 1 ص -203- بلال رضي الله عنه ومن وافقه وخبر أسامة رضي لله عنه ومن وافقه في ذلك ويضاف إلى الترجيح أو التوفيق بما هو متجه كما سبق بيانه. وبالجملة فقد خولف ابن حبان فيما نحا إليه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، كما ذكر سفيان بن عيينة، وفي كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة لما دخلها في حجة الوداع، كما ذكر البيهقي، والله أعلم بالصواب. وأما الوجه الذي ذكره السهيلي1 في الجمع بن اختلاف حديث بلال وابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ففيه نظر من أوجه. الأول: أن كلامه يقتضي حمل حديث بلال رضي الله عنه في إثبات الصلاة على زمن، وحمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما في نفيها على زمن غيره، وفي ذلك من النظر مثل النظر الذي فيما ذكره ابن حبان، وهو حمل حديث من أثبت الصلاة على زمن، وحديث من نفاها على زمن، لاتحاد الزمان الذي وقع فيه ذلك. والوجه الثاني: أن كلام السهيلي يقتضي أن إثبات الصلاة ونفيها في زمنين في حجة الوداع، ووجه النظر في ذلك أنه لا ريب في أن إثبات بلال رضي الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة كان يوم الفتح كما روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما وابن عباس رضي الله عنهما إن كان المراد به الفصل فنفيه للصلاة محمول على الزمن الذي ثبت فيه دخوله، وهو زمن الفتح. وإن كان المراد به عبد الله بن عباس رضي الله عنهم: فلم يثبت له دخول في الفتح ولا في حجة الوداع فيكون نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة مستندا إلى قول أخيه الفضل، وأسامة رضي الله عنهما؛ فإنه روى عنهما ذلك، وقد سبق أن نفيهما على الزمن الذي ثبت فيه دخولهما إلى الكعبة، وهو زمن الفتح، فيكون كذلك نفي عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وإذا تقرر ذلك لم يستقم ما ذكره السهيلي من أن إثبات بلال رضي الله عنه للصلاة في الكعبة، ونفي ابن عباس رضي لله عنهما لها في حجة الوداع، وأنى يستقيم ما ذكره وهو يقتضي إثبات دخولين للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى الكعبة، وفي إثبات دخوله إليها مرة واحدة في حجة الوداع نظر سبق بيانه فكيف بدخوله فيها مرتين وليس في الحديث الذي أشار إليه السهيلي في الجمع لما ذكر ما يقتضي أن ذلك في الزمن الذي ذكر ويظهر ذلك بلفظ الحديث، ولفظه في كتاب الدارقطني: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا وهب بن منبه، عن خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عكرمة بن خالد، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 4/ 104. ج / 1 ص -204- عمر رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج وبلال خلفه، فقلت لبلال: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، فلما كان الغد دخل، فسألت بلالا: هل صلى؟ قال: نعم ركعتين، استقبل الجذعة وجعل السارية الثانية عن يمينه. وكتب الدارقطني على حاشية هذا الحديث: ابن أبي ليلى ليس بالحافظ... انتهى. فهذا الحديث كما ترى لس فيه بيان من دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فإن حملنا الحديث علي أن ما فيه من الدخولين والصلاة في أحدهما جرى في حجة الوداع في يوم النحر، ومن الغد كما فهم السهيلي، لم ينهض من الحديث دلالة على ذلك، لاحتمال أن يكون اليومان اللذان دخل فيهما النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى فيهما ما ذكر في الحديث هما: يوم النحر، ويوم النفر الأول، أو يوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني، أو هما فيما بين قدومه مكة، وخروجه منها للوقوف بعرفة، وكان قدومه بمكة صبيحة الرابع من ذي الحجة، وليس في الحديث الذي ذكره الدارقطني على تقدير حمله على حجة الوداع ما يمنع من هذه الاحتمالات: إلا أن في البخاري ما يمنع الاحتمال الأخير، وإن احتمله الحديث الذي ذكره الدارقطني، لأنه في صحيحه: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل، حدثنا موسى بن عقبة قال: أخبرني كريب، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة. وروى البخاري ذلك أيضا في موضع آخر في صحيحه بهذا الإسناد مع أمور أخر تتعلق بحجة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا امتنع الاحتمال الأخير نفي ما عداه، مع احتمال آخر، وهو ما ذكره السهيلي، وكون ما ذكره هو الواقع، مع تجويزه غيره يحتاج إلى دليل ترجيح ما ذكره وهو متعدد. والله أعلم. وإن حملنا الحديث الذي ذكره الدارقطني على أن ما فيه من الدخولين، والصلاة في إحداهما جرى في زمن الفتح لم يستقم ما ذكره السهيلي من أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في يوم النحر وصلى بها فيه، لكون ذلك يخالف مقتضى ما يحمل عليه الحديث، من أن ما فيه جرى في زمن الفتح، ويخالف أيضا ما صح عن بلال رضي الله عنه من كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما دخلها يوم فتح مكة كما سبق. الوجه الثالث: أن كلام السهيلي يقتضي أن إسناد الحديث الذي أشار إليه حسن، وذلك لا يستقيم لضعف في إسناد الحديث، وفيه علة أخرى وهي النكارة في متنه، لأنا إذا حملناه على زمن الفتح فإنه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة حين دخلها يوم فتح مكة، وإنما صلى فيها حين دخلها في اليوم الثاني، وذلك يخالف ما صح عن ابن عمر رضي لله عنهما من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في يوم فتح مكة وصلاته بها في هذا ج / 1 ص -205- اليوم- من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في يوم فتح مكة وصلاته بها في هذا اليوم على ما أخبر به بلال رضي لله عنه كما هو مقتضى الحديث السابق، وهو في صحيح مسلم". وروينا مثل ذلك من حديث أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما في مسند الحميدي"1 وعن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب في "سنن البيهقي" وإذا كان كذلك فالحديث الذي أخرجه الدارقطني منكر، لمخالفته ما رواه الأئمة الثقات عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. أما الضعف الذي في إسناد الحديث الذي أخرجه الدارقطني فلأجل محمد بن أبي ليلى2 بسبب سوء حفظه، واضطراب حديثه، وكثرة أخطائه فيه، وإن كان صدوقا، قال عنه شعبة: ما رأيت أحدأ أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى. وقال أحمد بن حنبل: كان سيئ الحفظ، مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم3 كان سيئ الحفظ، شغل بالقضاء فساء حفظه، ولا يتهم بشيء من الكذب، وإنما ينكر عليه كثرة الخطأ، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان4: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ، فكثر الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: غالب أحاديثه مقلوبة... انتهى. ومن كان في الحفظ بهذه الصفة فالحجة به غير ناهضة، فيما يرويه من الحديث، فكيف إذا عارض ما يرويه حديثا صحيحا كما في هذه المسألة، وحينئذ إنما يحتج بالحديث الصحيح، لأن له مزية توجب الترجيح، على أني لم أر ما يدل لرواية ابن أبي ليلى عن عكرمة بن خالد، ولا لرواية عكرمة عن يحيى بن جعدة، ولا لرواية يحيى عن ابن عمر رضي الله عنهما، والله أعلم بصحة ذلك. ومن أوجه النظر فيما ذكره السهيلي من الجمع، ما أشار إليه من حمله حديث ابن عباس رضي الله عنهما في النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، على أنه نفى ذلك في يوم النحر من حجة الوداع، لكونه لم يرد عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشعر بدخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بل ورد عن ابن عباس ما يقتضي خلاف ذلك على ما رويناه في "معجم الطبراني" ولفظ الحديث الوارد عنه في ذلك: حدثنا محمد بن حاجهان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مسند الحميدي1/ 82 رقم 149. 2 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولي القضاء لبني أمية ثم لبني العباس مات سنة 148هـ. 3 الجرح والتعديل 7/ 322. 4 كتاب المجروحين 2/ 243. ج / 1 ص -206- الجنديسابوري، قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا زهير عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت في الحج ودخل عام الفتح فلما نزل صلى أربع ركعات -أو قال: ركعتين- بين الحجر والباب مستقبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة". وجابر هو الجعفي1 ضعفه جماعة ووثقه شعبة. وأما الوجه الذي ذكره ابن جماعة في الجمع بين اختلاف حديث بلال وأسامة رضي لله عنهما فإن في استقامته نظرا، لأن الحديث الذي جمع به يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة مرتين، فصلى في الثانية، ولم يصل في الأولى، ومحمول على أن ذلك كان في زمن الفتح، لما سبق من كلام النووي رحمه الله، وإذا كان كذلك فالصلاة التي نفاها أسامة رضي الله عنه في اليوم الأول إن كانت هي الصلاة التي أثبتها بلال رضي الله عنه في يوم فتح مكة، على ما ذكر ابن عمر رضي الله عنهم: فأسامة وبلال رضي الله عنهما مختلفان في هذه الصلاة، وينتفي اختلافهما فيها بإثبات أسامة رضي الله عنه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غير اليوم الأول لا في اليوم الثاني، وإنما كان يتجه الجمع بالحديث الذي جمع به ابن جماعة، لو ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الصلاة التي أثبتها بلال رضي لله عنه كانت في زمن الفتح، من غير تعرض لبيان اليوم الذي وقعت فيه، وأما مع تبيين ابن عمر رضي الله عنه لليوم الذي أثبت بلال رضي الله عنه فإن الجمع بالحديث المشار إليه لا يستقيم والله أعلم. وقد روي عن أسامة رضي الله عنه خبر يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة في دخوله إليها يوم الفتح، ورويناه في مسند بلال رضي الله عنه للحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وفي صحيح مسلم، ولفظ مسلم: وحدثني حميد بن مسعدة قال: حدثنا خالد يعني ابن الحرث قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنه انتهى إلى الكعبة، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي. مات سنة 28هـ. وكان شيعيا. انظر عنه: الطبقات الكبرى 6/ 345، التاريخ لابن معين 2/ 76، تاريخ خليفة "ص: 378"، طبقات خليفة "ص: 263"، التاريخ الكبير 2/ 210، الضعفاء للبخاري "ص: 255"، المعرفة والتاريخ 1/ 297، 539، تاريخ أبي زرعة 1/ 296، الضعفاء للنسائي "ص: 287"، الجرح والتعديل 2/ 497، الكاشف 1/ 177، المغني في الضعفاء 1/ 126، تاريخ الإسلام 5/ 52، تهذيب الكمال 4/ 465، تهذيب التهذيب2/ 46. ج / 1 ص -207- وبلال وأسامة، وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب، قال: فمكثوا فيه مليا، ثم فتح الباب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فرقيت الدرجة ودخلت البيت فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ههنا: وأنسيت أن أسألهم كم صلى؟ وهذا الحديث يقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما سأل بلالا وأسامة وعثمان رضي الله عنهم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا، وأنهم جميعا أخبروا ابن عمر بها، وذلك وهم من بعض رواة هذا الحديث، لأن القاضي عياض نقل عن الدارقطني أنه قال: وهم ابن عوان هنا، وخالفه غيره، فأسندوا عن بلال وحده، قال القاضي: وهذا هو الذي ذكر مسلم في باقي الطرق، فسألت بلال، فقال: إلا أنه وقع في رواية حرملة عن ابن وهب، فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة، هكذا هو عند عامة شيوخنا. وفي بعض النسخ: وعثمان بن أبي طلحة. قال: وهذا يعضد رواية ابن عون. والمشهور انفراد بلال رضي الله عنه برواية ذلك. والله أعلم..... انتهى. وقد طال الكلام في ترجيح خبر بلال على خبر أسامة رضي الله عنهما، وما قيل من الجمع بين ذلك، ولكن لموجبات اقتضاها الحال، واشتمل ذلك على فوائد يغتبط بها من له على تحصيل العلم إقبال. وأما ترجيح خبر بلال على خبر الفضل بن عباس رضي الله عنهم المعارض بخبر بلال رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة، فصحة حديث بلال رضي لله عنه في ذلك عند أهل الحديث من غير اختلاف بينهم في ذلك، واختلافهم في صحة حديث الفضل، لاختلاف حديث ابن عمر رضي الله عنهم في دخول الفضل الكعبة يوم فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة رضي لله عنهم فإنا رويناه في صحيح مسلم من حديث ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، ولم يدخله معهم أحد، ثم أغلقت عليهم. وذكر بقية الحديث. وهذا يقتضي أن الفضل لم يدخل مع المذكورين الكعبة. وفي مسند أحمد بن حنبل ما يعارض ذلك، لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا هشيم، أخبرنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، ولم يدخله معهم أحد، ثم أغلقت عليهم. وذكر بقية الحديث. وهذا يقتضي أن الفضل لم يدخل مع المذكورين الكعبة. وفي مسند أحمد بن حنبل ما يعارض ذلك، لأنه قال فيما رويناه عنه حدثنا هشيم، أخبرنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه الفضل بن عباس وأسامة بن زيد .... وذكر الحديث. وروى ذلك النسائي، لأنه قال فيما رويناه عنه: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا هشيم، عن ابن عون: فذكره. ج / 1 ص -208- وهذا الإسناد وإن صح ففيه نظر، لأن رواية هشيم له شهادة على ما ذكر شيخنا الحافظ العراقي عن بعض مشايخه، ونقل عنه تضعيف حديث الفضل، وأيضا، فإن للحديث الذي يرويه مسلم مزية في الصحة على ما يرويه غيره من الأحاديث الصحيحة غير ما في صحيح البخاري، فإنه أميز في الصحة مما في مسلم عند محققي أهل الحديث، وعلى تقدير ثبوت دخول الفضل رضي الله عنه الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معه، وثبوت حديثه في نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله إليها يوم الفتح، فلا معارضة بين حديث الفضل وبلال في الصلاة المشار إليها، لأن نفي الفضل رضي الله عنه له إنما هو باعتبار كونه لم يرها لا باعتبار كونها لم تقع، لأنا روينا في تاريخ الأزرقي، عن عبد المجيد بن أبي داود: أن الفضل رضي الله عنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور التي في الكعبة1. قال عبد المجيد: فصلى خلافه ولذلك لم يره صلى. وروينا فيه أيضا ما يؤيد ذلك، لأن فيه من حديث الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، وأرسل الفضل بن عباس فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبل الماء، فأمر بطمس تلك الصور1... انتهى. فتكون صلاته صلى الله عليه وسلم كانت في الكعبة يوم الفتح حين غاب الفضل رضي الله عنه- للأمر الذي ندبه إليه، ويتفق بذلك خبره مع خبر بلال، والله أعلم. وأما ترجيح خبر بلال رضي الله عنه على خبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما- في نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فلأن بلالا رضي الله عنه حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى، وشاهد صلاته، وأخبر بها، وابن عباس رضي الله عنهما- لم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم واعتمد في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة على خبر أسامة رضي الله عنه- له بذلك كما ثبت في صحيح مسلم، ورواية من حضر القصة مقدمة على من غاب عنها، وقد أشار إلى ترجيح خبر بلال على خبر الفضل بن عباس وأخيه عبد الله رضي الله عنهم بما ذكره شيخنا الحافظ العراقي رحمة الله عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي1/ 165. ج / 1 ص -209- ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته إلى المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته: أما عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته: فروينا في ذلك أخبارا يتحصل من مجموعها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة بعد هجرته أربع مرات، وهو يوم فتح مكة، وفي ثاني يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وفي عمرة القضية، وفي كل من هذه الدخلات خلاف، إلا الدخول الذي في يوم الفتح، ونشير إلى الأخبار الواردة في هذه الدخلات. فأما دخوله يوم الفتح فرويناه في صحيح مسلم وغيره، كما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظ حديثه عن مسلم: قدم رسول الله صلى عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة وأرسل إلى عثمان بن طلحة فجاء بالمفتاح ففتح الباب، قال: ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، وذكر الحديث. ولا تضاد بين حديث ابن عمر رضي لله عنهما هذا، وحديثه في صحيح مسلم الذي قال فيه: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح"..... الحديث في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيها لأن المراد بعام الفتح في هذا الحديث يوم الفتح كما في الحديث السابق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضان والمجمل منها يرد إلى المبين. وقد أشار الإمام النووي رحمه الله إلى اتفاق الخبرين، لأنه قال في شرح مسلم قوله: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة. هذا دليل على أن هذا المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم، وصلاته فيها كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع... انتهى. وفي هذا الدخول وقع الاختلاف في كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في ثاني يوم الفتح: ففي مسند أحمد بن حنبل ما يدل له، لأنه قال: حدثنا هشيم قال: أنبأنا عبد الملك عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد رضي لله عنهما: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، وخرج ولم يصل، ثم دخلت معه في اليوم الثاني، فقام ودعا ...... الحديث، وقد سبق في هذا الباب بكماله. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: فرويناه في سنن أبي داود وابن ماجه، وجامع الترمذي، والمستدرك للحاكم، من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها وسبق ذلك في الترجمة التي قبل هذه الترجمة مع بيان ما في الحديث من الوهن، والله أعلم بالصواب. وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فذكر المحب الطبري في "القرى" عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب ما يقتضي ذلك، لأنه قال في باب العمرة، وهو الثامن والثلاثون في ترجمة ترجم عليها بما جاء في عمرة الحديبية وعمرة القضية: وعن هشام، وعن أبيه قال: إن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة ثم دخل البيت. ج / 1 ص -210- وعن سعيد بن المسيب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بالظهر على ظهر الكعبة، وأقام رسول لله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا، فلما كان ظهر اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو بن حويطب بن عبد العزى، ورسول الله جالس في مجلس من الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فقال: يا محمد قد انقضى أجلك فاخرج عنا، وكان صلى الله عليه وسلم قد تزوج بميمونة الهلالية في طريقه، وذكر مناشدة سهيل النبي صلى الله عليه وسلم إلى "سرف" وتعريسه فيه بميمونة، ولم يذكر المحب الطبري من خرج هذا الخبر ولا الخبر الأول، وهما يقتضيان دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرة القضية، وخبر سعيد بن المسيب أصرح، لما فيه من القضايا التي وقعت في عمرة القضية على ما جاء في غير هذا الخبر، وهو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وسؤال سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له على نحو ما في هذا الخبر، ولست واثقا بصحة ما فيه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأذان بلال رضي لله عنه الظهر عليها، وعلى تقدير صحتها فإنهما يخالفان ما رويناه في الصحيحين، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرته؟ فقال: لا انتهى. والمراد بهذه العمرة عمرة القضية على ما قال العلماء، كما قال النووي عنهم في شرح مسلم وغيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرة القضية، كما هو مقتضى هذين الخبرين، وإنا ذكرناهما لغرابتهما. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح وحجة الوداع: فهو رأي أبي حاتم بن حبان، لأنه جمع بذلك بين اختلاف بلال وأسامة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ونص كلامه والأشبه عندي أن يحمل الخبران على دخولين متغايرين، أحدهما يوم الفتح وصلى فيه، والآخر في حجة الوداع ولم يصل فيه... انتهى. وقد وافق ابن حبان على ما ذكره من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: البيهقي، لأنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في داخل الكعبة في حجة الوداع، حكى ذلك عن البيهقي: ابن جماعة في منسكه. وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في ثاني يوم فتح مكة: كما هو مقتضى حديث أسامة رضي الله عنه الذي جمع به ابن جماعة: فلم أر أحدا من أهل العلم قال به إلا ابن جماعة في منسكه، والله أعلم. ج / 1 ص -211- وأما أول وقت دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته: فيوم فتح مكة، لأنه لم يدخلها في عمرة القضية على مقتضى حديث ابن أبي أوفى السابق ذكره في الصحيحين، ولا يعارض ذلك الخبران المقتضيان لدخول النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، لأنهما لو صحا لكان ما في الصحيحين مقدما عليهما، فكيف وفى صحتهما نظر والله أعلم. وأما السبب الذي لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم لأجله الكعبة في عمرة القضية: فذكر النووي فيه كلاما لغيره لا يخلو من نظر، لأنه قال لما تكلم على حديث ابن أبي أوفى: قال العلماء: وسبب عدم دخوله صلى الله عليه وسلم: ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه لتغييرها، فلما فتح الله تعالى عليهم مكة دخل البيت وصلى فيه، وأزال الصور قبل دخوله، والله أعلم... انتهى. قلت: في هذا الكلام ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم فتح مكة حتى أخرج منها ما كان ينبغي إخراجه من الصور وغير ذلك، ووقع في مسند أبي داود السجستاني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل لذلك. وقد روينا ما يخالف ذلك؛ لأن أبا داود الطيالسي قال في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران قال: حدثني عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". ورجال هذا الحديث يحتج بهم، وهو يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في الفتح والصور فيها، وأنه أزالها بعد دخوله، ويدل لذلك أيضا ما رويناه في تاريخ الأزرقي عن عبد العزيز1 بن أبي داود، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الفضل بن عباس رضي لله عنهما- بعد دخوله معه الكعبة ليأتيه بماء ليطمس به الصور في الكعبة2. ويدل لذلك أيضا: قول ابن إسحاق في السيرة في قصة الفتح: فلما قضى- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له. فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها... انتهى. وهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها الصور، وأنه دخل الكعبة حين فتحت له في هذا التاريخ، ولم يشتغل صلى الله عليه وسلم بشيء سوى ذلك، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هكذا وردت بالأصل، وهو يشير إلى الرواية التي وردت وهي عن عبد المجيد بن أبي رواد لا عن عبد العزيز. 2 أخبار مكة 1/ 165. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -212- الباب العاشر: في ثواب دخول الكعبة المعظمة: أخبرني أحمد بن عمر البغدادي بقراءتي عليه بالقاهرة، والقاضي المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي بقراءتي عليه بطيبة، كلاهما عن الحافظ أبي الحجاج المزي، قال: أخبرنا الدرجي، قال: أنبأنا الصيدلاني، قال: أخبرتنا فاطمة الجوزدانية قالت: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن عبد الله بن المؤمل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت فصلى فيه دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له"1. وفي لفظ: "من دخل البيت خرج مغفورا له"2. وروى الفاكهي أخبارا في فضائل دخول الكعبة والصلاة فيها، لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عمر، في دخول البيت دخول في حسنة وخروج من سيئة مغفورا له. حدثنا محمد بن أبي عمر حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، وحدثنا أبو بشر، حدثنا ابن أبي الصيف، حدثنا إسماعيل بن كثير أبو هاشم جميعا عن مجاهد، قال: دخول البيت حسنة وخروجه خروج من سيئة مغفورا له3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: البيهقي في سننه 5/ 158. 2 رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفي سنده "عبيد الله بن المؤمل" منفرد به "وثقه ابن سعد وغيره، وفيه ضعف" ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد3/ 293، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض 6/ 124. 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292، وذكره السيوطي في الجامع الكبير عن ابن عباس، وعزاه للطبراني والبيهقي في السنن. ج / 1 ص -213- وقال الفاكهي أيضا: حدثني أحمد بن محمد القرشي، عن يوسف بن خالد، قال: حدثنا غالب القطان، عن هند بن أوس قال: حججت فلقيت ابن عمر، فقلت: إني أقبلت من الفج العميق أردت البيت العتيق، وأنه ذكر لي أن من أتى بيت المقدس يصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال ابن عمر: رأيت البيت من دخله فصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه1. وقال الفاكهي: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الغازيان، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج، عن عطاء قال: لأن أصلي ركعتين في البيت أحب إلي من أن أصلي أربعا في المسجد الحرام2. وقال الفاكهي: حدثنا أحمد بن حميد، عن الحسين بن الوليد، قال: حدثنا عباد بن راشد، عن الحسن قال: الصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة... انتهى. وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل الكعبة، دخل في رحمة الله عز وجل، وفي حمي الله تعالى، وفي أمن الله عز وجل، ومن خرج خرج مغفورًا له"... انتهى. وما أحسن ما أنشده الحافظ أبو طاهر السلفي لنفسه بعد دخول الكعبة: أبعد دخول البيت والله ضامن بنفي قبيح، والخطايا الكوامن فحاشاه، كلا، بل تسامح كلها ويرجع كل، وهو جذلان آمن وقد اتفق الأئمة الأربعة على استحباب دخول البيت، واستحسن مالك كثرة دخولها، لأن في مناسك ابن الحاج قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف، عن مالك: أنه سئل عن الصلاة في البيت وعن دخوله كلما قدر عليه الداخل، فقال له: ذلك واسع حسن... انتهى. وروينا ذلك في "تاريخ الأزرقي" عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- أحد الفقهاء السبعة بالمدينة على ما قيل وصدقة بن يسار، ووردت أخبار استدل بها بعض العلماء على عدم استحباب دخول الكعبة، وقد ذكرها المحب الطبري مع الجواب عنها في كتاب "القرى"3، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا الكتاب، ونشير هنا لشيء من ذلك: أنبأنا عمن أنبأه المحب الطبري قال: "باب دخول الكعبة" وهو الباب الثامن والعشرون من كتابه "القرى"، حجة من قال: لا يستحب، عن عائشة قالت: خرج رسول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 90. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292. 3 القرى "ص: 494". ج / 1 ص -214- الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي". أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، وأبو داود1. وقد استدل بهذا الحديث من كره دخول البيت، ولا دلالة فيه، بل نقول دخوله صلى الله عليه وسلم دليل على الاستحباب، وتمنيه عدم الدخول فقد علله بالمشقة والشفقة على أمته، وذلك لا يرفع حكم الاستحباب. ثم قال المحب: وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس، قال له رجل: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا. أخرجاه وبوب عليه البخاري، "باب من قال: لم يدخل الكعبة"، وأجاب المحب الطبري عن هذا الحديث بأن عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرته هذه يجوز أن يكون لعذر، قال: ولعله تركه شفقة على أمته، كما دل عليه الحديث المتقدم2... انتهى. قلت: هذا الاحتمال بعيد، والاحتمال الأول هو الصواب، لموافقته ما ذكره العلماء في سبب كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة في عمرته المشار إليها، وهو عدم تمكنه صلى الله عليه وسلم من أن يزيل من الكعبة ما كان فيها من الأوثان والصور، لكون مكة في أيدي المشركين وحكمهم إذا ذاكروا، والله أعلم. وأما ما يطلب في الكعبة من الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم فهو: التكبير والتسبيح والتهليل والتحميد والثناء على الله عز وجل، والدعاء والاستغفار، لأحاديث وردت في ذلك، منها: ما رويناه عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبَل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة"، أخرجه البخاري ومسلم3. وفي مسلم عن ابن جريج قلت لعطاء: ما نواحيه؟ أفي زواياه؟ قال: بل في كل قبلة من البيت. وعند النسائي في هذا الحديث: سبح في نواحيه وكبر4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: أحمد في مسنده 6/ 153، والترمذي "3/ 223"، وابن ماجه "306"، المستدرك 1/ 479، والبيهقي في السنن 5/ 159. 2 القرى "ص: 495، 496". 3 أخرجه: البخاري "2/ 50"، ومسلم "استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره: 4/ 96". 4 سنن النسائي " "، مسند أحمد 1/ 210، 4/ 2. ج / 1 ص -215- وقوله: قِبل البيت، وهو بضم القاف والباء الموحدة، ويجوز إسكان الباء كما في نظائره، ومعناه على ما قيل: ما استقبلك فيها، وقيل: مقابلها. وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هذه القبلة" ثلاثة احتمالات: أولها: أن معنى ذلك أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم وصلوا إليه أبدا. والاحتمال الثاني: أن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم سنة موقف الإمام، وأنه يقف في وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها، وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزية، وهذان الاحتمالان أبداهما الإمام أبو سليمان الخطابي... الخ. والاحتمال الثالث: أبداه الإمام النووي في "شرح مسلم" بعد ذكره لهذين الاحتمالين، وهو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة، ولا كل المسجد الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها فقط، والله أعلم... انتهى. ومعنى قول عطاء: بل في كل قبلة من البيت: أي في كل قبلة من البيت قبلة، أو كل موضع من البيت قبلة، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: ويكون قد دار النبي صلى الله عليه وسلم في البيت جميعه داعيا ذاكرًا1. ومن الأحاديث الواردة في المعنى الذي أشرنا إليه: ما رويناه في "سنن النسائي" أيضا من حديث أسامة بن زيد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت، فمضى يعني النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بين الأسطوانتين اللتين يليان باب الكعبة جلس فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم قام حتى أتى ما استقبل من دبر البيت فوضع وجهه وخده عليه، فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم انصرف إلى كل ركن من أركان الكعبة فاستقبله بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على الله والمسألة والاستغفار ثم خرج، انتهى باختصار. وروينا من حديثه أيضا في "سنن النسائي" قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج... انتهى باختصار، وأخرجه أحمد أيضا. وروينا عن ابن عباس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. أخرجه البخاري ومسلم2 وأحمد بن حنبل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص 499، 500". 2 صحيح البخاري 1/ 375 كتاب الحج، مسلم "الحج: 1330". ج / 1 ص -216- وروينا في مسنده1 عن الفضل بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الكعبة وسبح وكبر ودعا الله عز وجل واستغفر ولم يركع ولم يسجد. وروينا عن الفضل أيضا: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة، قال: فلم يصل فيها ولكنه لما دخلها وقع ساجدًا بين العمودين ثم جلس يدعو... انتهى. ولا تضاد بين قوله في هذا الحديث: "وقع ساجدا"، وبين قوله في الحديث الذي قبله: "ولم يسجد" لاحتمال أن يكون أراد بقوله: ولم يسجد، أي: في صلاة، ويؤيده قوله: "ولم يركع" والركوع إنما يكون في صلاة، ويكون سجود النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على تقدير ثبوت الحديث المتضمن لذلك شكرا لله تعالى، وقد أشار المحب الطبري، إلى التوفيق بين هذين الحديثين بما ذكرناه2، والله أعلم. ومن الأمور التي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صنعها في الكعبة، صبه الماء على جسده صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: حدثنا سلمة بن شبيب أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: سمعت أبا قدامة عامر الأحول يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدلو من ماء فصبه عليه في الكعبة... انتهى. وهذا غريب جدا، ولذا ذكرناه، والله أعلم بصحته، ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال باستحبابه3، والله أعلم. ومن الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على ما قيل: إنه ألصق بها بطنه وظهره كما رويناه في معجم ابن قانع، لأنه قال: أخبرنا حسين بن اليماني، قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عبد الرحمن الزجاج قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان، زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، فقال: كذبوا لقد صلى بين العمودين ركعتين ثم ألصق بها بطنه وظهره... انتهى. وقد أشار شيخنا الحافظ العراقي إلى استحباب هذا الفعل في الكعبة، وبدل لذلك ما رويناه في "مسند الشافعي" عن عروة بن الزبير أنه كان إذا طاف بالبيت استلم الأركان كلها وألصق بطنه وظهره وجنبه بالبيت... الخ. ورأيت لغير واحد من العلماء ما يقتضي عدم استحباب ذلك، لأن المحب الطبري قال في "القرى": ما جاء في كراهية أن يلصق ظهره إلى الكعبة:" عن عطاء، وقد سئل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مسند أحمد 1/ 210. 2 القرى "ص: 501". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 234. ج / 1 ص -217- عن ذلك فكرهه، وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يسند ظهره، أخرجهما سعيد بن منصور... انتهى. ورأيت أيضا لإمامنا ما يقتضي أن ذلك غير مطلوب، لأنه قال: لا يعتنق شيئا من أساطينه، يعني البيت، وقد دخله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع أنه اعتنق شيئا من أساطينه1... انتهى. والدلالة من كلام مالك على كراهيته ذلك ظاهرة، لأن اعتناق أساطين الكعبة كإلصاق البطن والظهر بها، والله أعلم. وأما ما سوى ذلك من الأمور التي صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة هو مذكور في هذه الأحاديث، فلا أعلم بين أهل العلم اختلافا في استحبابه، إلا سجدة الشكر في الكعبة، كما هو مقتضى حديث الفضل، ففيها خلافا بين أهل العلم، فإن مشهور مذهب مالك أن سجود الشكر مكروه من حيث الجملة، ومقتضى ذلك أن لا يفعل في الكعبة، على أن حديث الفضل الذي في هذه السجدة مختلف في ثبوته، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 318". ذكر حكم الصلاة في الكعبة: استحب جمهور العلماء الصلاة في الكعبة، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ومنع طائفة من العلماء منهم ابن عباس كما حكاه عنه القاضي عياض ونقله النووي عن جماعة من العلماء في شرح مسلم" لأنه قال: وقال محمد بن جرير، وأصبغ المالكي وبعض أهل الظاهر: لا تصح فيها صلاة أبدا لا فريضة ولا نافلة، قال: ودليل الجمهور حديث بلال... انتهى. واختلف المستحبون للصلاة في الكعبة، فبعضهم قال بذلك في الفريضة والنافلة بشرط يأتي ذكره في الفريضة، وبعضهم قصر ذلك على النفل غير المؤكد، وهذا مذهب الإمام مالك، ولم أر فيما وقفت عليه من كتب المالكية ما يشهد لصحة ما نقله النووي عن أصبغ بن الفرج أحد أئمة المالكية، والذي رأيته منقولا عنه في كتب المذهب: أن من صلى الفريضة في الكعبة أعاد أبدا من غير نظر إلى كون المصلي فيها عامدا أو ناسيا، وقد اختلف المذهب، وصحح صلاة الفريضة في الكعبة ابن عبد الحكم، واستحب أشهب ألا تصلى الفريضة في الكعبة، فإن صليت فيها صحت، وصوب هذا القول اللخمي، لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة النافلة وجب مساواة الفريضة لها، فإن أمرهما في الحضر واحد من جهة الاستقبال، ومشهور المذهب أن صلاة الفريضة لا ج / 1 ص -218- تصح في الكعبة، وإن صلاها فيها أعاد الصلاة، واختلف شيوخ المذهب في الإعادة هل تكون في الوقت أو أبدا؟ وهو مقتضى قول أصبغ، واخُتلف في الإعادة في الوقت هل هي في حق الناسي، وهو قول ابن حبيب ورأي ابن يونس وجماعة وقيل: إن ذلك في حق العامد والناسي وهو رأي القاضي عبد الوهاب واللخمي وابن عتاب، ويلحق بالفريضة النوافل في كونها لا تصلى في الكعبة، وهي السنن كالعيدين والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب، فإن صليت هذه النوافل في الكعبة فلا تجزئ على المذهب المشهور، وتجزئ على رأي أشهب وابن عبد الحكم. واختلف الحنابلة في صحة صلاة الفريضة في الكعبة، والأصح عندهم أنها لا تصح فيها، وكذلك عندهم النذر المطلق قالوا: فإن نذر الصلاة في الكعبة صحت فيها، وعندهم خلاف في صحة النافلة في الكعبة، والأصح عندهم فيها الصحة، وعندهم في كونها في الكعبة مستحبة أو جائزة روايتان. ولم يخالف مذهب الشافعي في جواز الصلاة في الكعبة، سواء كانت فريضة أو نافلة، ومقتضى مذهبه إن فعل النافلة في الكعبة أفضل من فعلها في المسجد خارج الكعبة، وكذلك الفريضة بشرط أن لا يرجو المصلي مجيء جماعة خارج الكعبة. قال الشافعي: ما فريضة تفوتني في جماعة فأصليها في موضع أحب إليه منه -يعني البيت الحرام- لأن البقاع إذا فضلت بقربها منه فبطنه أفضل منها. ومذهب أبي حنيفة: جواز صلاة النافلة والفريضة في الكعبة، وأن النافلة في الكعبة مستحبة، وحيث صحت الصلاة في الكعبة فللإنسان أن يصلي في جوفها إلى أي جوانبها شاء، هكذا في "النوادر" من كتب أصحابنا المالكية، وفيه أحب إلى أن يجعل الباب خلف ظهره، ثم يصلي إلى أي موضع شاء بعد أن يستدبر الباب، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم... انتهى، وهذا مذهب الشافعي. وعند الحنابلة أن الصلاة إلى الباب صحيحة إذا كانت له عتبة شاخصة، وعندهم وجهان فيما إذا صلى إلى سترة في لبن منظوم أو شبهه غير متصل اتصال البناء، وصحح أبو البركان الصحة في هذه الصور. وإذا أقيمت الجماعة في الكعبة فلمن ائتم بالإمام فيها خمسة أقوال في الوقت: الأول: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام. الثاني: أن يكون ظهره إلى ظهره. الثالث: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام. الرابع: أن يكون بجنبه غير متقدم عليه. الخامس: أن يكون ظهر المأموم إلى وجه الإمام. فيصح في جميع الأحوال غير الحالة الخامسة فلا يصح فيها على الأصح من مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة كمذهب الشافعي. ج / 1 ص -219- وعند الحنابلة وجهان في صحة صلاة المأموم إذا تقابل هو والإمام، وقاس أبو البركات -من الحنابلة- المنع على ما إذا كان قفاء المأموم في وجه الإمام. وإذا حفرت في الكعبة حفرة وصلى فيها إنسان صحت صلاته فيها كما قال بعض الشافعية فيما نقل "مجلي" في "ذخائره"، قال مجلي: وذلك إذا لم تجاوز الحفرة قواعد البيت، فإن جاوزتها بحيث لا تحاذي ببدنه شيئا منها لم يصح، وإلا فهو كالصلاة على ظهرها إلى السترة القصيرة، وذكر ابن الرفعة أن فيما قاله "مجلي" نظر، وذكر أنه لا فرق بين أن يتجاوز القواعد إلى سترة أو لا كما أطلقه الأصحاب. قال ابن جماعة: وعندي ينبغي أن يفصل فيقال: إن صلى في الحفرة ولم يحاذ ببدنه شيئا من الكعبة أو قواعدها وكان قادرا على إصابة عين البناء لم تصح الصلاة، وإلا صحت1، والله أعلم... انتهى. واختلف العلماء أيضا في الصلاة على سطح الكعبة، والمشهور من مذهب مالك منع الصلاة على ظهرها، وأنه أشد من منعها في بطنها، وذلك لأن المصلي في بطنها يعيد في الوقت والمصلي على سطحها يعيد أبدا. وقيل: إن الصلاة على سطحها كالصلاة في بطنها فتعاد في الوقت، وهذا القول حكاه ابن محرز عن أشهب. وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح ولا إعادة على من فعل ذلك، وهذا القول حكاه اللخمي عن أشهب، وهو قول ابن عبد الحكم. وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح إن أقام المصلي شيئا يقصده، وهذا تأويل القاضي عبد الوهاب على المذهب. وقيل: تصح الصلاة على سطحها إذا كان بين يدي المصلي قطعة من السطح. وهذا الاختلاف في الفريضة، وأما النافلة على سطح الكعبة فلا تصح على مقتضى مشهور المذهب إذا كانت الصلاة متأكدة كالسنن والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب، لمساواة هذه النوافل للفريضة في حكم الصلاة في جوف الكعبة، وفي صحة النفل غير المؤكد على سطح الكعبة نظر على مقتضى رأي أكثر أهل المذهب في حملهم النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على سطح الكعبة. وأما على رأي ابن عبد الحكم ومن وافقه فيصح النفل مطلقا على سطح الكعبة، وحديث النهي الوارد عن الصلاة فيها رويناه في مسند عبد بن حميد بالسند المتقدم إليه في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 938، 939. ج / 1 ص -220- الباب التاسع، ولفظه: حدثنا عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله عز وجل" أخرجه الترمذي1 عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن محمد بن إبراهيم الدمشقي، كلاهما عن المقري. فوقع لنا بدلا لهما عاليا بدرجة بالنسبة إلى روايتنا العالية لكتابيهما بدرجتين بالنسبة إلى روايتنا لهما المتصلة بالسماع، وزيد بن جبيرة2 متروك الحديث. وروينا هذا الحديث من غير طريقه في سنن ابن ماجه بإسناد يقوم بمثله الحجة، ولفظه: حدثنا علي بن داود ومحمد بن أبي الحسن قالا: أخبرنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر بن الخطاب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبع مواطن لا يجوز فيها الصلاة ظاهر بيت الله والمقبرة والمزبلة والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل ومحجة الطريق"... انتهى. ومذهب الشافعي صحة صلاة الفريضة والنافلة على سطح الكعبة بشرط أن يكون بين يدي المصلي شاخص قدر ثلثي ذراع تقريبا من نفس الكعبة، هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وفي مذهبه وجه أيضا: يصح في السطح وإن لم يكن الشاخص قدر ثلثي ذراع، وقيل: إنما تصح فيه بشرط أن يكون الشاخص قدر قامة المصلي طولا وعرضا. ومذهب الحنفية: أن الصلاة على السطح جائزة وإن لم يكن بين يدي المصلي سترة، فإن الصلاة في السطح مكروهة لما فيه من ترك التعظيم، وعندهم أن الصلاة على جدار الكعبة صحيحة إذا كان المصلي متوجها إلى سطحها، ولا تصح إذا جعل السطح وراءه. ومذهب الحنابلة: أن صلاة الفريضة لا تصح في سطح الكعبة، وأن النافلة فيه تصح، وأن حكم النافلة على سطحها حكم الفريضة في بطنها إذا كان الباب مفتوحا ومقتضى ذلك أنها لا تصح في السطح إلا إذا كان هناك شاخص. وقد حررنا ارتفاع الشاخص في سطح الكعبة وهو ذراع إلا ثمن ذراع في الجهة الشرقية وفي جهة الحجر بسكون الجيم ذراع وثمن، وفي جهة المغرب ذراع، وفي جهة اليمن ثلثا ذراع، وقد سبق تحريرنا لذلك طولا وعرضا في الباب الثامن، وقد أثبتنا فيما يتعلق بالصلاة في وجه الكعبة وعلى سطحها بما فيه كفاية في ذلك، ويوجد به من الفوائد ما لا يوجد مجتمعا في تأليف، ونسأل الله التوفيق لكل خير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الترمذي "346". 2 انظر عنه: التاريخ الكبير 3/ 390 رقم 1299، الجرح والتعديل 3/ 559، رقم 2528، المعرفة والتاريخ 3/ 138، المغني في الضعفاء 1/ 245 رقم 2264، الكاشف 1/ 264 رقم 744 ميزان الاعتدال 2/ 99 رقم 299. ج / 1 ص -221- آداب دخول الكعبة: وأما آداب دخول الكعبة فكثيرة منها: الاغتسال لما رويناه عن عبد الكريم بن أبي المخارق. ومنها: نزع الخف والنعل، لما روينا في سنن سعيد بن منصور عن عطاء وطاوس ومجاهد، وكره مالك دخولها بالخفين والنعلين، وهو قول الحنابلة. ومنها: أنه لا يرفع بصره إلى السقف، لحديث في ذلك رويناه عن عائشة أخرجه الحاكم في "المستدرك"1 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقد تقدم هذا الحديث في الباب التاسع، وإنما كره رفع البصر في الكعبة، لأنه يولد الغفلة واللهو عن القصد، أشار بذلك المحب الطبري في "القرى". ومنها: أن لا يزاحم زحمة شديدة يتأذى بها أو يؤذي بها أحدا، أشار إلى ذلك النووي وغيره. ومنها أن لا يكلم أحدا إلا لضرورة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. ومنها: أن يلزم قلبه الخشوع والخضوع وعينيه الدموع إن استطاع ذلك وإلا حاول صورتها، ذَكَرَ هذين الأمرين المحب الطبري، وهذا لفظه2. ومنها: أن لا يسأل مخلوقا، لما رويناه عن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: سلني حاجتك. قال: أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره3. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن التارك لسؤال هشام في الكعبة غير سالم بن عبد الله، لأنه قال: حدثنا محمد بن أبي عمر قال: قال سفيان بن عيينة سمعت بعض من يذكر أن هشام بن عبد الملك أو غيره دخل الكعبة عام حج فلم يدع في الكعبة غير منصور الحجبي، فقال له هشام: سل حاجتك، قال منصور: ما كنت لأسأل غير الله في بيته، فلم يسأله شيئا... انتهى. وحكم النساء في دخولهن الكعبة حكم الرجال من غير خلاف أعلمه في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مستدرك الحاكم 1/ 479. 2 القرى "ص: 501". 3 القرى "ص: 501، 502". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -222- الباب الحادي عشر: ذكر شيء من فضائل الكعبة: لا شك أن فضل الكعبة مشهور لوروده في القرآن العظيم في غير ما آية، ووروده في السنة الشريفة الصحيحة، وإنما أردنا بذكره ههنا للتبرك، فمن الآيات الواردة في ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 و97]. واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس على قولين: أحدهما: أنه أول بيت وضع للعبادة، وكان قبله بيوت لغيرها، وهذا يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والآخر: أنه أول بيت كان في الأرض. قال المحب الطبري: وقوله {مُبَارَكًا} أي كثير الخير لما يحصل لمن حجه، أو اعتمره، أو عكف عنده وطاف حوله من الثواب، وقوله: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} أي متعبدهم وقبلتهم وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} مقام عطف بيان على آيات، وبَيَّنَ الجمع بالواحد لاشتماله على آيات أثر قدميه في الصخرة، وبقاؤه وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين. واختلف في أمن الداخل، فقيل: من دخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك، وقيل: من دخله لقضاء النسك، معظما لحرمته عارفا بحقه، متقربا إلى الله عز وجل كان آمنا يوم القيامة، كما جاء: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"1، يعني نهار يوم القيامة، وقيل معناه: أمن من دخله، أي لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر: كشف الخفا ومزيل الإلباس 2587. ج / 1 ص -223- يقتص منه، كما هو مذهب أبي حنيفة، ويُلجأ إلى الخروج منه. وقيل: معناه غير ذلك. ومن الآيات: قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] قال المحب الطبري: أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم، فلا يزال في الأرض دين ما حجت، وعندها المعاش والمكاسب، قال: والمراد بتحريم البيت، سائر الحرم، ونقل عن الضحاك أنه قال: قياما للناس: قياما لدينهم ومعالم حجهم، قال: ويروى نحوه عن السدي، وقال: قال عكرمة: قياما للناس: مكانا لهم. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما رويناه عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن الزنجي، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا البيت دعامة الإسلام، ومن خرج يؤم هذا البيت من حاج، أو معتمر كان مضمونا على الله عز وجل إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة"1. ومنها: ما ورد في تنزيل الرحمات على الكعبة كما في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "إن الله ينزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة، ينزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين"2، ورواه في "الأوسط" إلا أنه قال: "تنزل على هذا المسجد مسجد مكة"3، وفي رواية: "وأربعون للعاكفين" بدل "المصلين". وأخرجه الأزرقي في تاريخه4، بمعنى رواية الطبراني في الكبير. ووقع لنا عاليا جدا أخبرني به ابن الذهبي بقراءتي عليه، قال: أنبأنا عيسى المعلم حضورا وإجازة قال: أنبأنا ابن اللتي، قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لبنى قالت: أنبأنا ابن شريج، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا عبد الله بن عمران العابدي المخزومي بمكة قال: حدثنا يوسف بن الفيض قال ابن صاعد: هكذا كان يسميه وإنما هو يوسف بن السفر أبو الفيض عن الأوزاعي، عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو متروك "مجمع الزوائد 3/ 209" ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر، وهو متروك. "المطالب 2/ 325". 2 أخرجه: الطبراني في الكبير "11/ 124، 125" رقم "1248". 3 ذكره الزركشي في إعلام الساجد "ص: 111" وعزاه الطبراني في الأوسط، وذكره الهندي في كنز العمال 5/ 53، 54، وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في تاريخ بغداد. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8. ج / 1 ص -224- عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل هذا البيت، فستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين"1. وذكر الشيخ محب الدين الطبري أنه لا تضاد بين الرواية التي فيها أن الرحمات تنزل على هذا البيت، وبين الرواية التي فيها أنها تنزل على مسجد مكة، لأنه يجوز أن يريد بمسجد مكة البيت، ويطلق عليه مسجد بدليل قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144]، ويجوز أن يريد مسجد الجماعة وهو الأظهر، ويكون المراد بالتنزيل على البيت التنزل على أهل المسجد، وكذلك قسمت الرحمات على أنواع العبادات الكائنة في المسجد. قال: وقوله: "فستون للطائفين..." إلى آخره، تحتمل في من تأول القسم بين كل فريقين وجهين: الأول: قسمة الرحمات بينهم على المسمى بالتسوية لا على العمل بالنظر إلى قلته وكثرته وضعفه، وما زاد على المسمى فله ثواب من غير هذا الوجه، ونظير هذا الكلام: أعطي الداخلين بيتي مائة دينار، فدخل واحد مرة وآخر مرارا، فلا خلاف في تساويهما في القسم. الوجه الثاني: وهو الأظهر قسمها بينهم على قدر العمل، لأن الحديث ورد في سياق الحث والتخصيص، وما هذا سبيله لا يستوي فيه الآتي بالأقل والأكثر، واستدل المحب الطبري على ذلك بأمور معنوية ظاهرة2... انتهى. ومنها: ما رويناه في "معجم الطبراني الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نَظَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فقال: لا إله إلا الله ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، إن الله جعلك حراما، وحرَّم من المؤمن ماله ودمه وعرضه، وأن يظن به ظنا سيئا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: ابن عدي في الكامل 7/ 2620، والخطيب في تاريخ بغداد 2/ 472، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 89، 99، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان 3/ 116 وابن أبي حاتم في العلل 1/ 287، وابن حبان في المجروحين، وابن الجوزي في العلل، والزركشي في إعلام الساجد "ص: 111" وعزاه للطبراني في الأوسط. 2 القرى "ص: 657". ج / 1 ص -225- ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود وما جاء في كونه من الجنة: روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طُمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب"1 أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والترمذي في جامعه، وقال: حديث غريب. ونقل السهيلي عن الترمذي هذا الحديث إلا أنه قال فيه: "إن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان" وذكر بقية الحديث بالمعنى، وما نقله السهيلي من أن في هذا الحديث والركن اليماني غير معروف، والمعروف فيه: الحجر الأسود والمقام، ولعل ذلك من السهيلي سَبَقُ قَلم، وقد رأيت ما نقلناه عنه في غير نسخة من تأليفه، قال بعد ذكره لهذا الحديث: وفي رواية غيره ولإبراء من استلمهما من الخرس والجذام والبرص... انتهى. وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح2. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود من الجنة" أخرجه النسائي3. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا ما طبع الله من الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها لاشتفي به من كل عاهة، ولألفاه كهيئته يوم خلقه الله تعالى، وإنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، وإنها لياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة"4. قلت: ذكر شيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب المقرئ في كون الحجر الأسود من ياقوت الجنة دون غيره من جواهرها حكمة حسنة، لأنه قال فيما أنبأنا به: فإن قلت ما الحكمة في كونه من ياقوتها ولم يكن من غيره من جواهرها؟ قلت: له سر غريب نبهت عليه في كتاب "الرموز" في كشف أغطية الكئوس" وأنا ضنين بذلك، ولكن ألوح بشيء هنا من قشوره، وذلك أن الشمس في الفلك الرابع المتوسط. لو لم يكن وسط الأشياء أحسنها ما اختارت الشمس من أفلاكها الوسطى وهي الممتدة لما فوقها وما تحتها من الأفلاك والمعدة في الفلك الرابع من الأنفس، وهي الممتدة لما فوقها وتحتها ويقصرها على النار، ولهذا قال: رسول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: ابن حبان "3710"، الحاكم "1679". 2 أخرجه الترمذي "877"، وأحمد "1/ 307، 329، والبيهقي في الشعب "4034". 3 أخرجه النسائي 5/ 226، وابن خزيمة 4/ 220، والحديث إسناده حسن. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 323، القرى "ص: 293". ج / 1 ص -226- الله صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء"1، وما خلق الله فيها عينا نباعة تحض معينة على الهضم والتبريد. ومكة في الفلك المتوسط من الدنيا، وهي محل النار، وهي الممتدة للدنيا، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] أي قواما لدينهم ودنياهم، وجعل الحجر من ياقوت الجنة الذي لا يبالي بالنار ويحصل منه التبريد المعنوي والحسي. وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت ثم سر آخر وهو: أنه نقطة الدائرة الياقوتية، وهذه نكتة من كشف أغطية الكونين، من أراد كشفهما فليصغ أسمعه من ذلك من الميراث النبوي ما لا يسمعه من غيري في هذا الزمان، والله الموفق... انتهى!! ذكر ما قيل من الحكمة في اسوداد الحجر الأسود بعد بياضه: قال السهيلي بعد أن ذكر شيئا مما يتعلق بالحجر الأسود، وأشار هنا إلى الحكمة في أنه سودته خطايا بني آدم دون غيره من حجارة الكعبة وأستارها، وذلك أن العهد الذي فيه بمعنى الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله، فكل مولود يولد على الفطرة، وعلى ذلك فلولا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى ليسود قلبه بالشرك لما حاد من العهد، فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد والميثاق، وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق قياسا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما حاد عما كان ولد عليه من ذلك العهد، واسود الحجر بعد ابيضاضه، وكانت الخطايا سببا في ذلك، حكمة من الله سبحانه... انتهى. وقال المحب الطبري: وقد اعترض بعض الملاحدة، فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الأيمان؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم آنفا: أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية وإن رؤي جرمه، إذا يجوز أن يطلق عليه أنه غير مرئي، كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية. الثاني: أجاب به ابن حبيب، فقال: لو شاء الله لكان ذلك، وكما علمت أيها المعترض من أن الله تعالى أجرى العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ. والثالث: وهو منقاس: أن يقال إن بقاءه أسود والله أعلم إنما كان للاعتبار ليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها بالقلوب أعظم2... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لا يصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صحيحا، وينسب للحارث بن كلدة. 2 القرى "ص: 295": وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة "ص: 289". ج / 1 ص -227- ذكر ما رؤي من البياض في الحجر الأسود بعد اسوداده: ذكر ابن جبير في خبر رحلته: أن في الحجر الأسود نقطة بيضاء صغيرة مشرقة1 ولم يذكر سواها، وكانت رحلته في سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وقال الفقيه سليمان بن خليل العسقلاني في "منسكه" بعد ذكر الشيء يتعلق بالحجر الأسود: قلت أنا: ولقد أدركت في الحجر الأسود ثلاث مواضع2 بيض في الناحية التي تلي باب الكعبة المعظمة، إحداها: وهي أكبرهن، في قدر حبة الذرة الكبيرة. والأخرى: إلى جنبها، وهي أصغر منها. والثالثة: إلى جنب الثانية، وهي أصغر من الثانية فإنها في قدر حبة الدخن. ثم إني أتلمح تلك النقطة، فإذا هي كل وقت في نقص... انتهى. ونقل القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" كلام ابن خليل هذا، وذكر أنه رأى الحجر الأسود في سنة ثمان وسبعمائة وفيه نقطة بيضاء ظاهرة، وأنه لم يرها في سنة ست وثلاثين إلا بعد جهد3... انتهى. وكنت ذاكرت بهذا الأمر من نحو خمس عشرة سنة بعض مشايخنا فذكر لي أن في الحجر الأسود نقطة بيضاء خفية جدا... انتهى. ولم يذكر لي موضعها من الحجر، ولعلها النقطة الموجودة فيه الآن، فإن في جانبه مما يلي باب الكعبة من أعلاه نقطة بيضاء قدر حبة سمسمة على ما أخبرني به ثلاثة نفر يعتمد عليهم من أصحابنا الفقهاء المكيين في يوم الجمعة خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، إلا أن بعضهم لم يخبرني بذلك إلا في يوم السبت ثاني تاريخه، وأخبرني الثلاثة أنهم رأوا ذلك في يوم الجمعة المذكور، وشكرت لهم، فالله يثيبهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 67". 2 هكذا وردت بالأصل، والصواب "ثلاثة مواضع". 3 هداية السالك 1/ 59. ج / 1 ص -228- ما جاء في شهادة الحجر الأسود يوم القيامة لمن استلمه بحق: روينا في مسند الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليبعثن الله الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق"1. وفي رواية "على من استلمه بحق"2. أخرجه الترمذي وابن حبان وقال: "له لسان وشفتان". وروينا ما يدل لذلك من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وروينا ذلك من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفا عليه. ما جاء في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود واستلامه له: وروينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن استلام الحجر، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، أخرجه البخاري3 ومسلم4. ما جاء في السجود عليه: وروينا في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر من حديث عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وغيرهما ما جاء في السجود - عليه. وروينا في الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر5. وروينا في سنن البيهقي عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا6. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما في "مسند الإمام الشافعي" أنه قبل الركن وسجد عليه ثلاث مرات7. وروينا ذلك أيضا عن طاوس في تاريخ الأزرقي والبيهقي وغيرهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الدارمي "1839"، أحمد 1/ 247، والبيهقي في السنن 5/ 75، والأزرقي في أخبار مكة 1/ 23. 2 أخرجه الترمذي "961" وأحمد 1/ 26،وابن حبان "37" وابن ماجه "2944" وأبو يعلى "2711". 3 أخرجه البخاري 3/ 379. 4 أخرجه مسلم "الحج: 1267. 5 أخرجه: الترمذي "862" وأحمد 1/ 257، 309، والنسائي "3918، 3119". 6 أخرجه البيهقي في سننه "5/ 74"، وابن حبان "3821". 7 مسند الإمام الشافعي "ص: 126". ج / 1 ص -229- ولم ير الإمام مالك السجود على الحجر وقال: هو بدعة، وخالفه الجمهور في ذلك، والله أعلم. ما جاء في الإكثار من استلامه: روينا في "تاريخ الأزرقي" بالسند المتقدم إليه: قال حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني زهير بن محمد، عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا استلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله تعالى لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة"1. ما جاء في مفاوضة الحجر الأسود: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن" أخرجه ابن ماجه. قال المحب الطبري: وقوله: فاوض أي لامس وخالط، من مفاوضة الشريكين وتفويض كل منهما إلى صاحبه2... انتهى. ما جاء في أن الحجر الأسود يمين الله يصافح بها عباده واستجابة الدعاء عنده: روينا في تاريخ الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن أبي إسماعيل، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي حسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الركن يمين الله عز وجل- يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده ما من امريء مسلم يسأل الله تعالى عنده شيئا إلا أعطاه إياه3... انتهى. وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبي 4 عبد القاسم بن سلام روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". ورواه أبو طاهر المخلص في "فوائده" في الجزء الثاني من التاسع وزاد: "فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح الحجر الأسود بيده فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 342، 343. 2 سنن ابن ماجه "2/ 985" القرى "ص: 279، 280"، وابن عدي في الكامل 2/ 690 والحديث إسناده ضعيف. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 326. 4 هكذا بالأصل، والصواب: "لأنه أبا عبيد". ج / 1 ص -230- قال المحب الطبري: ومعنى الحديث والله أعلم أن كل ملك إذا قُدِمَ عليه قُبِلَت يمينه، ولما كان الحاج والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده، ولله المثل الأعلى، وكذلك من صافحه كان له عند الله عهد، كما أن الملوك تعطي العهد بالمصافحة، والله أعلم1. أنشدني العلامة بدر الدين أحمد بن محمد بن الصاحب المصري إجازة لنفسه قوله: للحجر الأسود كم لاثم وساجد مرغ فيه الجباه تزدحم الأفواه في ورده كأنه ينبوغ ماء الحياة وقوله فيما أنبأنا به: في الحجر الأسود كم أودعت أسرار أنس من علوم الغيوب تزدحم الأفواه في لثمه كأنه يلفظ قوت القلوب وقوله فيما أنبأنا به: للحجر الأسود سر خفي وقد بدا للعين منه شهود قد ضمت قلوب الورى كأنه قلب سواد الوجود وقوله فيما أنبأنا به: أقول وقد زوحمت عن لثم أسود من البيت إن تحجب فما السر يحجب فإنك مني بالمحل الذي به محل سواد العين، أو أنت أقرب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 280" عزاء المحب الطبري لأبي عبد القاسم بن سلام، وأبي طاهر المخلص في فوائده وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن. ذكر فضل الركن اليماني وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه روينا في "سنن الدارقطني" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه1. وروينا في تاريخ البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سنن الدارقطني 2/ 290 والبيهقي في سننه 5/ 76، والحاكم في المستدرك "1675" وصححه ووافقه الذهبي، وعبد الله بن هرمز: قال عنه أبو زرعة الرازي: ليس بالقوي، وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ليس بالقوي "جامع الجرح والتعديل: 2325". 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 122، وأحمد في المسند 1/ 54. ج / 1 ص -231- وروينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن ويضع خده عليه1. قلت: تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الركن اليماني ووضع خده عليه، لا يثبت، وأما استلامه له فثابت. ما جاء في استلام النبي للركن اليماني: روينا في مسند أحمد بن حنبل وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوافه، وكان هو يفعله، أخرجه أبو داود2 والنسائي. وقال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث: وفيه دلالة على استحباب التقبيل والاستلام في كل طواف، واستحبه بعضهم في كل وتر، وروي ذلك عن الشافعي وطاوس3... انتهى. وقوله: وفيه دلالة على استحباب التقبيل، يعني في الحجر الأسود لا في الركن اليماني والاستلام فيها، والله أعلم. ما جاء في المزاحمة على استلام الركن اليمان والحجر الأسود وأن مسحهما كفارة للخطايا: وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يزاحم على الركنين، فقيل له في ذلك، فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا" أخرجه الترمذي4. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحط الخطايا حطا" أخرجه أحمد بن حنبل وابن حبان في صحيحه5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 2 أخرجه أبو داود "1874"، النسائي "5/ 231". 3 القرى "ص: 281". 4 أخرجه الترمذي 4/ 181، "كتاب الحج: باب ما جاء في استلام الركنين"، وعبد الرزاق في مصنفه 5/ 29، والأزرقي في أخبار مكة 1/ 331، والطبراني في الكبير 12/ 390. 5 مسند أحمد بن حنبل 3/ 89، 95، ابن حبان في موارد الظمآن "ص: 247" وابن خزيمة 4/ 227، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 127. ج / 1 ص -232- ما جاء في عدم استحباب ذلك للنساء بحضره الرجال: روينا عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لامرأة: "لا تزاحمي على الحجر، إن رأيت خلوة فاستلمي، وإن رأيت زحاما فكبرى وهللي إذا حاذيتِ، ولا تؤذي أحدًا" أخرجه سعيد بن منصور. وروينا عن عائشة بنت سعد أنها قالت: كان أبي يقول: إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن وإلا فكبرن وامضين. أخرجه الإمام الشافعي. وفي البخاري: عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها ما يقتضي ترك استلام الحجر للنساء، وهو محمول على ما إذا حضر الرجال كما هو مقتضى الخبر الذي رواه سعيد بن منصور في "سننه" والله أعلم. ما جاء في إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من استلامه واستغفار الملائكة لمن استلمه: روينا في تاريخ الأزرقي عن عطاء قال: قيل: يا رسول الله: تكثر من استلام الركن اليماني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ما أتيت عليه قط إلا وجبريل عليه الصلاة والسلام قائم عنده يستغفر لمن استلمه"1. ما جاء في تأمين الملائكة على الدعاء عنده واستجابة الدعاء عنده: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وُكِّلَ به سبعون ملكا -يعني: الركن اليماني- فمن قال: اللهم إن أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قالوا: آمين" أخرجه ابن ماجه وغيره2. وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: على الركن اليماني ملكان يؤمنان على دعاء من مر بهما، وإن على الحجر الأسود من الملائكة ما لا يحصى3. وروينا فيه عن مجاهد قال: من وضع يده على الركن اليماني ثم دعا استجيب له4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 2 سنن ابن ماجه "2958" بلفظ "سبعون ملكا" والديلمي في الفردوس "7332"، وابن عدي في الكامل 4/ 275، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 183. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 4 سنن ابن ماجة "2957". ج / 1 ص -233- وسيأتي في خبر المستجار وهو عند الركن اليماني شيء من هذا المعنى. ما جاء في أن الركن اليماني باب من أبواب الجنة: روينا في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: يا بنيّ أَدْنِنِي من الركن اليماني، فإنه كان يقال: إنه باب من أبواب الجنة1. وروينا نحوه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وذكر السهيلي شيئا من سبب تسمية الركن اليماني بالركن اليماني، لأنه قال: وأما الركن اليماني فسمي باليماني فيما ذكر القتبي، لأن رجلا من اليمن بناه اسمه أبي بن سالم وأنشد: لنا الركن اليماني2 من البيت الحرام وراثة بقية ما أبقى أُبَيّ بن سالم3 ... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338، وسنن ابن ماجه "2887". 2 "اليماني" ليست في الروض الأنف 1/ 224. 3 الروض الأنف 1/ 224. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -234- الباب الثاني عشر: ذكر ما ورد في ثواب الطواف عموما من غير تقييد بزمن: أخبرني ابن أبي المجد الخطيب، عن الدشتي قال: أخبرنا ابن خليل الحافظ قال: أنبأنا الداراني قال: أنبأنا الحداد، قال: أنبأنا أبو نعيم الحافظ قال: أنبأنا ابن فارس قال: أنبأنا يونس بن حبيب قال: أخبرنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا همام، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف بهذا البيت سبعا يحصيه كتب له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة، وكان له عدل رقبة" أخرجه الترمذي وحسنه1. وأخرج النسائي بعضه، ولفظه: "من طاف بالبيت سبعا فهو كعدل رقبة"2 وكذلك أخرجه ابن ماجه، إلا أنه قال: "من طاف بالبيت وصلى ركعتين"3 وفي بعض طرق الحديث: "خلف المقام". ومعنى يحصيه: أي يتحفظ فيه لئلا يغلط، قاله ابن وضاح وغيره. وروينا في صحيح ابن حبان وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما عليه، ودعوا له دعاء حسنا، ثم قالا: جئناك يا رسول الله نسألك... الحديث بطوله، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصاري: "وأما طوافك بالبيت: فإنك لا تضع قدما ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الترمذي "2/ 292 استلام الركنين، والبيهقي في الشعب "4041". 2 أخرجه النسائي "5/ 21". 3 أخرجه ابن ماجه "2956". ج / 1 ص -235- ترفعها إلا كتب الله تعالى لك بها حسنة، ومحا بها عنك خطيئة، ورفعك بها درجة، وأما ركعتيك1 بعد الطواف فكعتق رقبة. وأما طوافك بالبيت بعد ذلك يعني الحج: فإنك تطوف ولا ذنب عليك"2. وأنبأني أبو بكر بن محمد بن عبد الرحمن المزي ابن أخي الحافظ أبي الحجاج المزي، أن أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجار أخبره سماعا، وأخبرني المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي سماعا بطيبة، عن أحمد بن أبي طالب إذنا قال: أنبأنا أحمد بن يعقوب المارستاني قال: قال أنبأنا ابن النحاس، عن أبي القاسم بن التسري قال: أنبأنا ابن النحاس، عن أبي القاسم بن التسري قال: أنبأنا أبو طاهر قال: حدثنا يحيى هو ابن صاعد قال: حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا ابن يحيى بن يمان، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" أخرجه الترمذي عن سفيان بن وكيع فوقع لنا موافقة له عليه، وقال: حسن غريب3... انتهى. والمراد بالخمسين مرة: خمسون أسبوعا، لأنا روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت خمسين أسبوعا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وهذه الرواية في معجم الطبراني، وساقها عنه المحب الطبري بسنده، وعزا ذلك أيضا لمصنف عبد الرزاق وقال: قال أهل العلم: وليس المراد أن يأتي بها متوالية في آن واحد، وإنما المراد أن يوجد في صحيفة حسناته ولو في عمره كله4... انتهى. وذكر المحب الطبري أن بعض أهل العلم ذكر أن لعدد الطواف سبع مراتب: الأول: خمسون أسبوعا في اليوم والليلة، للحديث المتقدم. الثاني: إحدى وعشرون، فقد قيل: سبعة أسابيع بعمرة، ورود ثلاث عمر بحجة. الثالث: أربعة عشر، فقد ورد عمرتان بحجة، وهذا في غير عمرة رمضان، لأن العمرة فيه كحجة. الرابع: اثنا عشر أسبوعا، خمسة بالنهار، وسبعة بالليل كما تقدم من فعل آدم عليه السلام، وفعل ابن عمر رضي الله عنهما. الخامس: سبعة أسابيع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، والصحيح: "ركعتاك". 2 وأخرجه الأزرقي 2/ 5، والأصبهاني في الترغيب "1060، 1036"، وسنده قوي. 3 سنن الترمذي 3/ 219، ورسالة الحسن البصري. 4 القرى "ص: 324". ج / 1 ص -236- السادس: ثلاثة أسابيع. السابع: أسبوع واحد، والله أعلم. نقل هذا عن المحب الطبري: القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه"، وهذا لفظه بحروفه1. والأحاديث الواردة في فضل الطواف أكثر من هذا، وإنما اقتصرنا على هذه الأحاديث الثلاثة، لأنها أجود إسنادا من غيرها، وفي "أخبار مكة " للأزرقي، وأخبارها للفاكهي، وفضائلها للجندي، ورسالة الحسن البصري، جمل كثيرة من فضائل الطواف، وقد ذكرنا بعض ذلك في أصل هذا الكتاب وفيما ذكرناه هنا كفاية. ما جاء في فضل الطواف في الحر: روينا في "أخبار مكة" للجندي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من طاف حول البيت سبعا في يوم صائف شديد حره، وحسر على رأسه، وقارب بين خطاه، وقل التفاته، وغض بصره، وقل كلامه إلا بذكر الله تعالى، واستلم الحجر في كل طواف من غير أن يؤذي أحدا، كتب الله له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعين ألف حسنة، ويعتق عنه سبعين رقبة، ثمن كل رقبة عشرة آلاف، ويعطيه الله سبعين ألف شفاعة إن شاء في أهل بيته من المسلمين، وإن شاء في العامة، وإن شاء عجلت له في الدنيا، وإن شاء أخرت له في الآخرة" هذا حديث ضعيف الإسناد جدًّا2. ما جاء في الطواف في المطر: أخبرني ابن الذهبي قال: أنبأني المطعم حضورا وإجازة، قال: أنبأنا ابن اللَّتِّي قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لُبنى قالت: أنبأنا ابن أبي شريح قال: حدثنا يحيى هو ابن صاعد قال حدثنا عبد الله بن عمر أن العايدي قال: حدثنا داود بن عجلان، عن أبي عقل قال: طفت مع أنس بن مالك رضي الله عنه في يوم مطير، فقال أنس رضي الله عنه: طفت مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مطير، فقال: "ائتنفوا3 للعمل فقد كُفِيتُم ما مضى" أخرجه ابن ماجه، وأخرجه الأزرقي عن جده، وابن أبي عمر عن داود. فوقع لنا بدلا له عاليا بدرجتين، وهو حديث ضعيف الإسناد جدا، لمكان أبي عقال وهو هلال بن يزيد4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية المسالك 1/ 56، القرى "ص: 323". 2 أخرجه الأصبهاني في الترغيب "1041" وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بتحقيقنا "ص: 284"، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 4. 3 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 21، "استأنفوا". 4 سنن ابن ماجه 2/ 1041، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 21. ج / 1 ص -237- ما جاء في الطواف إذا وقع بعد صلاة الصبح أو العصر وانقضى مع طلوع الشمس أو غروبها: روينا في تاريخ الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن عبد الرحمن بن زيد العمي عن أبيه، عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فيغفر له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت: طواف بعد صلاة الصبح وفراغه مع طلوع الشمس، وطواف بعد صلاة العصر وفراغه مع غروب الشمس"1. قال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث: ويحتمل أن يريد بالبعدية ما بعد الطلوع والغروب ولو بلحطة لتسع أسبوعا، ويحتمل أن يريد استيعاب الزمنين بالعبادة ولعله الأظهر، وإلا لقال طواف قبل الطلوع وقبل الغروب، وعلى هذا فيكون حجة، على من كرهه في الوقتين2... انتهى. وقال المحب الطبري لما ترجم على هذا الحديث: "ما جاء في فضل الطواف عند طلوع الشمس وغروبها"، وهكذا ترجم عليه الأزرقي: "ما جاء في تفضيل الطواف على الصلاة". قال الفاكهي: حدثنا محمد بن نصر المصري قال: حدثنا أيوب بن سويد الرملي قال: حدثنا محمد بن جابر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان أحب الأعمال إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم مكة الطواف بالبيت3... انتهى. وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يدل على تفضيل الطواف على الصلاة ولكن الحديث لا تقوم به حجة لضعف إسناده، فإن فيه يوسف بن السفر وهو متروك4. وقد تقدم هذا الحديث في الباب الحادي عشر، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل البيت، فستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين"5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 253، والأزرقي 2/ 22، والحديث إسناده ضعيف جدا، وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك الحديث، والقرى "ص: 33" والجامع الأزهر للمناوي 2/ 11 وعزاه للطبراني في الكبير. 2 القرى "ص: 330". 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 238، والحديث ذكره المحب الطبري في القرى "ص: 323" وعزاه لأبي ذر، وكذلك في هداية المسالك 1/ 55. 4 الجرح والتعديل 9/ 223. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8. ج / 1 ص -238- وقد استدل به على تفضيل الطواف على الصلاة: الماوردي، وسليمان بن خليل. وقال المحب الطبري لما تكلم على هذا الحديث بعد أن ذكر كيفية قسمة الرحمات بين كل فريق: إذا تقرر ذلك، فالتفضيل في الرحمات بين المتعبدين بأنواع العبادات الثلاث أدل دليل على أفضلية الطواف على الصلاة، والصلاة على النظر إذا تساووا في الوصف، هذا هو المتبادر إلى الفهم عند سماع ذلك فيختص به1. ومما ورد من الأحاديث المتقدمة في ذكر فضل الطواف عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، "الصلاة خير موضوع". أو يقول: الطواف نوع من الصلاة بشهادة ما تقدم من الأحاديث في أركان الشروط، فيكون داخلا في عموم حديث تفضيل الضلاة على سائر أعمال البدن، ولا ينكر أن بعض الصلاة أفضل من بعض، وأورد على ذلك سؤالا وأجاب عنه، ثم قال: ووجه تفضيل هذا النوع من الصلاة وهو الطواف على غيره من الأنواع: ثبوت الأخصية له بمتعلق الثلاثة، وهو البيت الحرام ولا خفاء بذلك، ولذلك بدأ في الذكر هنا وفي قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} في الآيتين، ولما كانت الصلاة على تنويعها لم تشرع إلا عبادة، والنظر قد يكون عبادة إذا قصد التعبد به، وقد لا يكون، وذلك إذا لم يقترن به قصد التعبد به تأخر في المرتبة. وقولنا: إذا تساووا في الوصف يحترز مما إذا اختلف وصف المتعبدين، فكان الطائف ساهيا غافلا، والمصلي والناظر خاشعا يعبد الله كأنه يراه، أو كأن الله يراه، كان المتصف بذلك أفضل من غير المتصف به، إذ ذلك الوصف لا يعد له عمل جارحة خاليا منه وهو المشار إليه -والله أعلم- في قوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الأعراف: 170]. وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وكثير من العلماء يذهب في توجيه اختلاف القسم بين الطائفين، والمصلين، والناظرين: بأن الرحمات المائة والعشرين قسمت ستة أجزاء، فجعل جزء للناظرين، وجزآن للمصلين، لأن المصلي ناظر في الغالب، فجزء للنظر، وجزء للصلاة، والطائف لما اشتمل على المعاني الثلاثة، كان له ثلاثة أجزاء: جزء للنظر، وجزء الصلاة وجزء للطواف، وهذا القائل لا يثبت للطواف أفضلية على الصلاة وإنما يثبت بقوله: "كثرة الرحمات له"! بسبب اشتماله على الصلاة وما ذكرناه أولى، وفيما ذكره نظر، فإن الطائف الأعمى، وكذلك المصلي ينالهما ما يثبت للطائف والمصلي، وإن لم ينظرا، وكذا المتعمد ترك النظر فيها لا ينتقص قسمه بسبب ذلك، فدل ذلك على أن المراد صلاة غير ركعتي الطواف. فإن كثرة الطواف منسوبة إليه إما وجوبا أو ندبا، فهي منه. وأما النظر فيه: فإن لم يقترن بقصد التعبد فلا أثر له، وإن قصد به التعبد، فالظاهر أنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 326". ج / 1 ص -239- ينال به أجر الناظر زائدا على أجر الطواف، والله أعلم... انتهى كلام المحب الطبري1 وهو كلام نفيس متجه شاف في هذه المسألة. وفرق فيها بعض العلماء بين الغرباء وأهل مكة فقال: إن الطواف للغرباء أفضل، لعدم تأتيه لهم كل وقت، والصلاة لأهل مكة أفضل لتمكنهم من الأمرين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغير واحد من العلماء والله أعلم. ما جاء في تفضيل الطواف على العمرة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا الزنجي، عن ابن جريج قال: أخبرني قدامة بن موسى بن قدامة بن مظعون قال: إن أنس بن مالك رضي الله عنه قدم المدينة، فركب إليه عمر بن عبد العزيز، فسأله عن الطواف للغرباء أفضل أم العمرة؟ فقال: بل الطواف2. قال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث ومراد أنس والله أعلم أن تكرار الطواف أفضل من العمرة، ولا يريد به طواف أسبوع واحد، فإنه موجود في العمرة. وقد ذهب قوم من أهل عصرنا إلى تفضيل العمرة عليه، ويرون الاشتغال بها أفضل من تكراره والاشتغال به، ويستفرغون وسعهم فيها بحيث لا يبقى في أحدهم من يستعين بها على الطواف، وذلك خطأ ظاهر، وأول دليل على خطئه: مخالفة السلف الصالح في ذلك قولا وفعلا، إذ لم ينقل تكرارها والإكثار منها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، واستدل على ذلك المحب الطبري ثم قال: وقد أفردنا الكلام في هذه المسألة تأليفا، وبسطنا القول فيه على أن لا يدعى كراهة تكرارها بل يقول: إنها عبادة كثيرة الفضل، عظيمة الخطر، لكن الاشتغال بتكرار الطواف في مثل مدتها أفضل من الاشتغال بها3، والله أعلم... انتهى كلام المحب الطبري. وتأليفه المشار إليه هو المسمى: "عواطف النصرة في تفضيل الطواف على العمرة". وقال القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" بعد أن ذكر كلام المحب الطبري هذا: وهو حسن، ثم قال: وكيف يكون حال من يجعل نفسه قصيا متعبدا لينال فضيلة القصد والزيارة، أفضل من حال من هو بالحضرة مشاهد مقيم يتردد حول المقصود والمزار بخطوات ترفع الدرجات، وتكسب الحسنات، وتمحو الأوزار؟ ولهذا كان رأي السلف الصالح تعهد العمرة دون الإشتغال بها عن الطواف بحيث لا تصير مهجورة، والله أعلم.والخير في اتباعهم... انتهى كلام ابن جماعة4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 327: 328". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 3. 3 القرى "ص: 334-336". 4 هداية السالك "2/ 927. ج / 1 ص -240- وقد أخبرني عنه خالي سماعا، وقد جنح إلى ذلك أيضا على ما بلغني بعض العلماء المعاصرين لابن جماعة وهو العلامة شمس الدين أبو أمامة محمد بن علي المعروف بابن النقاش الشافعي، وألفيت بخط بعض أصحابنا أن لأبي أمامة بن النقاش هذا تأليفا جليلا في المنع في العمرة من مكة لمن هو مقيم بها... انتهى. وأستبعد أن يكون لأبي أمامة تأليف في منع المقيم بمكة من العمرة، فإنه لا وجه لذلك، ولعل تأليفه في عدم استحباب تكرار العمرة، والله أعلم. وللإمام الكبير تقي الدين ابن تيمية كلام يقتضي عدم استحباب تكرار العمرة من مكة وإنكاره؛ لأنه قال: ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان، ولا في غير رمضان والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج إلا عائشة رضي الله عنها ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين... انتهى. وخالف في ذلك من أهل عصره على ما بلغني خطيب دمشق: جمال الدين محمود بن جملة الشافعي، والشيخ العلامة الولي العارف عبد الله اليافعي، وصنف في ذلك كتابا سماه: الدرة المستحسنة في تكرار العمرة في السنة". وسئل شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني عن العمرة والطواف أيهما أفضل؟ وما الذي يفتي به في ذلك؟ فقال: والمفتى به في ذلك: أن تكرار العمرة أفضل ولا سيما في رمضان انتهى. وكذلك قال تلميذه العلامة زين الدين الفارسكوري، وصنف في ذلك كتابا سماه "الإنصاف في تفضيل العمرة على الطواف". وسمعت بعض مشايخنا يحكي عن بعض العلماء أن المعتمر يمتاز عن الطائف بأمرين: أحدهما: الدخول في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين والمقصرين. والآخر: دعوته صلى الله عليه وسلم للحاج والمعتمر بزيادة التشريف والتكريم والتعظيم والبر. هذا معنى ما سمعته من مشايخنا، وهو كلام متجه، لأنه كلما اعتمر فاز بذلك، ويعظم الفوز بذلك بتكراره، والله أعلم. ولعل محل الخلاف فيما إذا اشتغل إنسان بالعمرة حتى فرغ منها، وآخر بالطواف مدة اشتغال المعتمر بالعمرة، وليس في محل الخلاف الاشتغال عن الطواف بالعمرة في جميع الزمن أو أكثره بأن يكرر الخروج للتنعيم للعمرة في اليوم الواحد أو الليلة فلا يبقى فيه بعد ترويح بدنه للطواف إلا نشاط قليل، ولا سيما إن كرر ذلك في الأيام والليالي كما يصنع كثير من الناس في شهر رمضان، حتى أن بعضهم يخرج إلى التنعيم للعمرة في اليوم الواحد ثلاث مرات، ويحكى عن بعضهم أكثر من ذلك، وكل هذا لا ج / 1 ص -241- يعرف مثله عن السلف المقتدى بهم فهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أقاموا بمكة بعد أن فتح الله عليهم، بضع عشرة ليلة، أولها العشر الأخير من رمضان، فما نقل أخباري عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه خرج في هذه المدة إلى التنعيم للاعتمار، ولو وقع ذلك لنقل كما نقل غيره من أفعالهم، ولم ينقل عمن كان بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين تكرار الخروج في اليوم الواحد إلى التنعيم، ولا الخروج إليه للعمرة في كل يوم إلا ما يروى عن علي وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يعتمران في كل يوم، وهذا عنهما في بعض كتب الفقه فيما ذكره القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه الكبير" قال: وليس لذلك أصل في كتب الحديث1... انتهى. والذي صح عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: الخروج إلى التنعيم للعمرة من غير تكرار، فالاقتصار على فعل مثل ما نقل عنهم أولى، لأنهم أعرف الناس بأفضل العبادات، وأشدهم حرصا على فعل أفضلها، والله أعلم بالصواب. ما جاء في فضل الطائفين: أخبرني ابن الذهبي بقراءتي عليه قال: أنبأنا الأمين بن النحاس حضورا إجازة قال: أنبأنا الساوي قال: أنبأنا السلفي قال: أنبأنا العلاف قال: أنبأنا ابن بشر قال: أنبأنا الأجري قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن يحيى الحلواني قال: حدثنا يحيى بن أيوب العابد قال: حدثنا محمد بن صبيح بن السماك، عن عائذ بن بشير، عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يباهي بالطائفين"2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكرم سكان السماء على الله تعالى: الذين يطوفون حول عرشه، وأكرم سكان الأرض الذين يطوفون حول بيته" ذكر هذا الحديث هكذا سليمان بن خليل في "منسكه"، ورويناه في "رسالة الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروينا فيها من قول الحسن: وإن الله عز وجل ليباهي بالطائفين ملائكته، ولو أن الملائكة صافحت أحدا لصافحت الطائفين حول بيت الله3... انتهى باختصار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 927. 2 أخرجه: أبو يعلى "4589"، والبيهقي في الشعب "4097" وابن عدي في الكامل "2/ 2992"، والأصبهاني في الترغيب "1062"، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 194، وذكره السيوطي في الجامع الكبير 1/ 182، وعزاه لأبي نعيم في الحلية. 3 هداية السالك 1/ 53. ج / 1 ص -242- قلت: إذا كان الطائف بهذه المزية، فينبغي له إخلاص النية، وحفظ اللسان عما يؤدي إلى النقصان، وما أحسن قول الشيخ محب الدين الطبري: واعلم أن التحدث في الطواف على غير النحو المتقدم في الفصل قبله خطأ كبير وغفلة عظيمة، ومن لابس ذلك فقد لابس ما يمقت عليه، خصوصا أنه صدر ممن ينسب إلى العلم والدين فإنه إذا أنكر على من دونه واحتج به فصار فتنة لكل مفتون، ومن أمر محادثة المخلوق في أمر الدنيا، والإقبال عليه، والإصغاء لحديثه على ذكر خالقه، والإقبال عليه وعلى ما هو متلبس به عبادته، فهو عين الرأي، لأن طوافه بجسده، وقلبه لاه ساه، وقد غلب الخوض فيما لا يعنيه حتى استرسل في عبادته، كذلك فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح، ومثل هذا خليق بأن يشكوه إلى الله عز وجل وإلى جبريل عليه السلام ولعل الملائكة تتأذى به، وكثير من الطائفين يتبرءون منه، فعلى الطائف أن يبذل جهده في مجانبة ذلك1... انتهى. وقال سليمان بن خليل: وليحذر أن يكون ممن وصفه بعض العلماء العاملين فقال: يا من يطوف ببيت الله بالجسد والجسم في بلد والروح في بلد! ماذا فعلت وماذا أنت فاعله؟ بهرج في اللقا للواحد الصمد إن الطواف بلا قلب ولا بصر على الحقيقة لا يشفي من الكمد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 324، 325". ذكر بدء الطواف بهذا البيت العظيم وما ورد من طواف الملائكة: روينا في تاريخ الأزرقي أن بعض أهل الشام سأل بمكة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن بدء الطواف بهذا البيت، فقال له علي بن الحسين: أما بدء الطواف بهذا البيت: فإن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. قالت الملائكة: يا رب، أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتنازعون؟ أي رب اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتحاسد ولا نتباغض1 ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونطيعك ولا نعصيك. قال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] قال: فظنت الملائكة إنما قالوا ردًّا على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا لغضبه، وطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر ـــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...