65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج12. شفاء الغرام

 ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوي2 وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة3 حمراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله -عز وجل- بحين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرجل. ثم قال بعد أن ذكر شيئا من خبر أبي قحافة -رضي الله عنه- وإسلامه: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبة، ومناشدة أبي بكر -رضي الله عنه- الناس في طوق أخته. وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى أمر الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أن يدخل بفي الناس من كذا، وكان الزبير -رضي الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصل: "زق السمن"، والدسم: الكثير والودك. والأحمس: الذي لا خير عنده: من قولهم: عام أحمس إذا لم يكن منه مطرا. 2 ذي طوى بئر بأسفل مكة من ناحية الشمال، وهو بمحلة جرول معروف إلى الآن يغسل عنده حاج المغرب، وبعض الحجاج الذين على مذهب مالك عند دخولهم مكة. 3 الاعتجاز: التعميم بغير ذؤابة. والحبرة: ضرب من ثياب اليمن. ج / 2 ص -139- عنه -على المجنبة اليسرى. وأمر سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أن يدخل في بعض الناس من كذا. قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل المعلم أن سعدا -رضي الله عنه- حين وجه داخلا، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين، قال ابن هشام: هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله، اسمع ما قال لسعد بن عبادة، ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "أدركه، فخذ الراية، فكن أنت الذي تدخل بها". قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح في حديثه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم، وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- بالصف من المسلمين، ينصب وضربت له هناك قبة. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، كانوا قد جمعوا ناسا بالخندقة2 ليقاتلوا؛ وقد كان حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحا قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلح منه؛ فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: بمحمد وأصحابه. قالت: والله ما أراه يقوم بمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال: إن يقبلون اليوم فما لي عله هذا سلاح كامل وآلة3 وذو غرارين سريع السلة ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة؛ فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر -أحد بني محارب بن فهر- وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بن منقذ، وكانا في خيل خلاد بن الوليد -رضي الله عنه، فشذا عنه، فسلكا طريقا غير طريقه، فقتلا جميعا، قتل خنيس بن خالد قبل كرز بن جابر، فجعله كرز بن جابر بين رجليه، ثم قاتل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 جبل أذاخر: هو الجبل المشرف على المعابدة من ناحية الشمال. 2 جبل الخندمة: هو الجبل المشرف على سوق الليل، والمتصل بجبل أبي قبيس. 3 الآلة: جمع أداة الحرب. ج / 2 ص -140- عنه حتى قتل، وهو يرتجز ويقول: لقد علمت صفراء من بني فهر نقية الوجه نقية الصدر لأضربن اليوم عن أبي صخر قال ابن هشام: وكان خنيس بن خالد من خزاعة. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر قالا: وكان خنيس يكنى بأبي صخر. وأصيب من جهينة، سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين ناس قريب من اثنى عشر، أو ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، فخرج حماس منهزما، حتى دخل بيته، ثم قال لامرأته، أغلقي علي بابي قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة وأبو يزيد قائم كالمؤتمة1 واستقبلتهم بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت2 حولنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر قوله: كالمؤتمة: وتروي للرعاش الهذلي هذه الأبيات. وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وحنين، والطائف شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى امرأته من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم، أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم ابن سعد أخو بني عامر بن لؤي: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلا، ثم قال: "نعم" فلما انصرف عنه عثمان -رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حول من أصحابه: "لقد صمت ليقوم بعضكم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 "المؤتمة": الثكلى. 2 النهيت: زئير الأسد. ج / 2 ص -141- فيضرب عنقه"؛ فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، إن النبي، لا يقتل بالإشارة". قال ابن هشام: ثم أسلم بعد؛ فولاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعض أعماله، ثم ولاه عثمان -رضي الله عنه- بعد عمر -رضي الله عنهم. قال ابن إسحاق: وعبد الله بن خطل من بني تيم بن غالب؛ وإنما أمر بقتله إنه كان مسلما، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعص معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلما، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا فيصنع له طعاما، فنام فاستيقظ، ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله. ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان: فرتني وصاحبتها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما معه. والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة. قال ابن هشام: وكان العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- حمل فاطمة، وأم كلثوم، بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بهما المدينة؛ فنخس بهما الحويرث بن نقيذ، فرمي بهما إلى الأرض. قال ابن إسحاق: ومقيس بن صبابة؛ وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا. وسارة مولاة لبني عبد المطلب، وعكرمة بن أبي جهل، وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة. وأما عكرمة؛ فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه، فخرجت في طلبه، حتى أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه. وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله -رجل من قومه- فقالت ابنه مقيس في قتله: لعمري قد أخزي نميله رهطه وفجع أضياف الشقا بمقيس فلله عينا من رأى مثل مقيس إذا النفساء أصبحت لم تخرس وأما قينتا ابن خطل، فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد، فأمنها. وأما سارة فاستؤمن لها فأمنها. ثم بقيت حتى أوطأها رجل من ج / 2 ص -142- الناس فرسا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالأبطح، فقتلها. وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه. قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي هند عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب أن أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- قالت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم -وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي- قالت: فدخل علي علي بن أبي طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة، وإن فيها لأثرا لعجن، وفاطمة ابنته تستره بثوبه؛ فلما اغتسل صلى الله عليه وسلم أخذ ثوبه فتوشح به. ثم صلى ثمان ركعات في الضحى، ثم انصرف إلي، فقال: "مرحبا وأهلا بأم هانئ، ما جاء بك؟" فأخبرته خبر الرجلين، وخبر علي -رضي الله عنه- فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أجزنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما". قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به وسعى على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده؛ فلما قضي طوافة، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده، ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة، وقد استكف له الناس في المسجد. قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على باب الكعبة، فقال: "لاإله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة، أو دم، أو مال، يدعى به؛ فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا؛ ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب". ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الآية كلها. ثم قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟" قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فقام إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجمع لنا الحجابة مع السقاية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين عثمان بن أبي طلحة؟" فدعي له، فقال صلى الله عليه وسلم "هاك مفتاحك يا عثمان، إن اليوم يوم بر ووفاء". ج / 2 ص -143- قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي -رضي الله عنه- فلا أعطيكم ما ترزون، لا ما تزرون. قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: "قاتلهم الله قد جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم، بالأزلام؟" {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران]. ثم أمر صلى الله عليه وسلم بتلك الصورة كلها فطمست، قال ابن هشام: وحدثني أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال رضي الله عنه ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال؛ فدخل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على بلال فسأله: أين صلى الله عليه وسلم ولم يسأله كم صلى. فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا دخل البيت مشي قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار ثلاث أذرع، ثم يصلي بنواحي الموضع الذي قال له بلال -رضي الله عنه. وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال رضي الله عنه فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد بن الحارث بن هشام -رضي الله عنهم- جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد: لقدج أكرم أسيد ألا يكون سمع هذا فسمع منه مايغيظه. وقال الحارث بن هشام: أما والله لو علم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصاة. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم. فقال الحارث وعتاب رضي الله عنهما: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك. قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي عن رجل من قومه قال: كان معنا رجل يقال له أحمرا، وكان رجلا شجاعا، وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفي مكانه، وكان إذا بات في جبة بات معتبرا؛ فإذا بيت الحي صرخوا يا أحمر، فيثور مثل الأسد لا يقوم لسبيله شيء، فأقبل أعرابي من هذيل يريدون حاضره، حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلي: لا تعجلوا حتى انظر، فإن كان في الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم فإن له غطيطا لا يخفي. قال: فاسمع؛ فلما كان عام الفتح وكان العد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى ندخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس، وهو على شركه، فرأته خزاعة ج / 2 ص -144- فعرفوه، فأحاطوا به، وهو إلى جنب جدار من جدر مكة، يقولون: أنت قاتل. قال: نعم، أنا قاتل أحمر. فعندئذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف؛ فقال هكذا عن الرجل، والله ما نظنه إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه فلما تفرجنا عنه حمل عليه فطنه بالسيف في بطنه؛ فوالله لكأني أنظر إليه وحوشته تسيل من بطنه، وإن عيينه ليريقان في رأسه وهو يقول: قد فعلتموها يا معشر خزاعة حتى أفجعت فوقع؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل إن نفع قتلتم قتيلا لأدينه". قال ابن إسحاق: وحدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير، جئته فقلت له: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة؛ فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رج لمن هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا فقال: "أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض؛ فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا. لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غصبا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس؛ فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فمن قال لكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل فيها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله، ولم يحلها لكم، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، قد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلا لأدينه؛ فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله"1. ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتله خزاعة؛ فقال عمرو لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا خالع طاعة، ولا مانع جزية، قال أبو شريح: إني كنت شاهدا، وكنت غائبا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك. قال ابن هشام: وبلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: جندب بن الأكوع، قتلته بنو كعب، فواده مائة ناقة. قال ابن هشام: وبلغني عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار؛ فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه ولده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: "ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل صلى الله عليه وسلم بهم حتى أخبروه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه البخاري "4295". ج / 2 ص -145- وحدثني من أثق به من أهل الرواية في إسناد له عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته؛ فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام، ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]. فما أشار صلى الله عليه وسلم إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعي: وفي الأصنام معتبر وعلم لمن يرجو الثواب أو العقابا قال ابن هشام: وحدثني أن فضالة بن عمير بن الملوح الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يطوف بالبيت عام الفتح؛ فلما دنى منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضالة؟" قال: نعم، فضالة يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: "ماذا كنت تحدث به نفسك؟" قال: لا شيء، أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "استغفر الله" ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده من صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. قال فضالة -رضي الله عنه-: فرجعت إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها؛ فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا. وانبعث فضالة يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى علي الله والإسلام كوما رأيت محمدا وقبيله بالفتح يوم تكسر الإصنام لرأيت دين الله أصبح بينا والشرك يغشى وجهه الإظلام ثم قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بني سليم سبعمائة. ويقول بعضهم: آلأف، ومن بني غفار أربعمائة. ومن أسلم أربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثة نفر، وسائرهم من قريش والأنصار، وحلفائهم، وطوائف العرب، من بني تميم، وقيس، وأسد1. ثم قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة. قال ابن إسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان بسنة ثمان... انتهى2، باختصار المواضع من إنباء خبر فتح مكة المشار إليه، ومن شعر تميم بن أسد، في اعتذاره، من فراره عن منبه، وشعر الأخرز بن لعيط الديلي، وما كان بين كنانة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سيرة ابن هشام 4/ 95-106. 2 السيرة 4/ 13. ج / 2 ص -146- وخزاعة في تلك الحرب، وشعر لبديل بن عبد مناة، ويقال: له بديل بن أم صرم، أجاب به الأخرز بن لعيط، وشعر حسان بن ثابت، -رضي الله عنه- في المعنى1. وخبر إسلام أبي سفيان بن الحارث بنعبد المطلب في إسلامه2 وخبر أبي قحافة والد أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- يوم الفتح وإسلامه3، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبته، ومناشدة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في طوق أخته، كما سبق بيانه، وغير ذلك من الأشعار التي استشهد بها ابن هشام على بعض ما فسره من الشعر. واختصرنا أيضا من خبر الفتح ما قيل من الأشعار في الفتح، وغيره ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة 4/ 85. 2 السيرة 4/ 88 و89. 3 السيرة 4/ 91. ذكر فوائد تتعلق بخبر فتح مكة: هذه الفوائد بعضها يخالف ما ذكرناه عن ابن إسحاق وابن هشام من خبر الفتح، وبعضها يوضح بعض أبهمه ابن إسحاق، وابن هشام، في ذلك. منها: أن موسى بن عقبة ذكر في "مغازيه" ما يقتضي أن إغارة بني كنانة على خزاعة التي هي سبب فتح مكة كانت بعرفة؛ لأنه قال فيما رويناه عنه في "مغازيه" فتح مكة: ثم إن بني نفاثة من بني الديل، أغاروا على بين كعب وهم بعرفة... انتهى. وهذا يخالف ما ذكره ابن إسحاق؛ لأنه قال: ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على مائهم بأسفل مكة، يقال له: الوتير... انتهى. وإذا كان الوتير بأسفل مكة، كما هو مقتضى هذا الخبر، فهو غير عرفة، والله أعلم بالصواب. وأفاد السهيلي سبب تسميته الوتير؛ لأنه قال: والوتير في اللغة الورد الأبيض، وقد يكون منه بريئا، فيحتمل أن يكون هذا الماء سمي به1... انتهى. ولا منافاة بين قول ابن عقبة: "ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب" وبين قول ابن إسحاق: "ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة" لأن بني الديل الذي منه بنو نفاثة، هو الدول بن بكر بن كنانة، على ما ذكر ابن البطاح عن أبي اليقظان، كما حكي عنه الحازمي؛ ويدل لذلك قول ابن إسحاق فيما بعد: فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل... انتهى. وذكر ابن إسحاق ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، من نسبة هذه الإغارة إلى بني نفاثة؛ لأنه أنشد أبياتا لتميم بن أسد أولها: لما رأيت بني نفاثة أقبلوا يغشون كل وتيرة وحجاب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 4/ 197. ج / 2 ص -147- ومنها: أن ابن عقبة بين البيت من خزاعة؛ لأنه قال فيما رويناه عنه: فأغارت بنو الديل على بني عمرو وعامتهم فيما زعموا؛ نساء وصبيانا وضعفه الرجال، فبيوتهم وقتلوا منهم، حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء بمكة... انتهى. وبنو عمرو هؤلاء من بني كعب؛ لأن ابن عقبة قال فيما سبق: ثم إن بني نفاثة من بني الديل أغاروا على بني كعب... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين من رفد كنانة من قريش، وقاتل معهم؛ لأنه قال: ورفدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معه من قريش من قاتل بالليل مستخفيا... انتهى. وقد بين ذلك ابن عقبة؛ لأنه قال: ويذكر أن ممن أعانهم من قريش: صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو... انتهى. وبين ذلك ابن سعد أيضا، وأفاد في ذلك ما لم يفده ابن عقبة؛ لأنا روينا عن الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس في "سيرته" بعد ذكره لقول ابن إسحاق: ورفدت بني بكر قريشا بالسلاح، ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف... انتهى. ولا منافاة بين ما ذكره ابن عقبة وابن سعد فيمنأعان من قريش بني بكر لإمكان أن يكون الذين ذكرهم ابن عقبة وابن سعد أعانوا بن بكر، وذكر ابن عقبة بعضهم، وابن سعد بعضهم، ويكون المعين لبني بكر من قريش خمسة نفر، على مقتضى ما ذكر ابن عقبة وابن سعد، والله أعلم. ومنها أن قريشا رفدت بني كنانة بدقيق، أفاد ذلك ابنه عقبة؛ لأنه قال: وأعانتهم قريش بالسلاح والدقيق... انتهى. وهذا لا يفهم مما ذكره ابن إسحاق. ومنها: أن الفاكهي ذكر خبرا يوهم أن سبب فتح مكة غير ما سبق؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: وكانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأصابت بنو بكر منهم قتيلا: فقالت بنو بكر لقريش: لا تسلموا بني عمكم، فكلم بديل بن ورقاء قريشا فقالوا: لا تسلمه فركب بديل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يصدقه، وأرسل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم طليعة يستطلعهم، قال: فجاء به بديل بن ورقاء، فجعل يقف به على قريش ويكلمهم، فقالوا: قد عرفنا ج / 2 ص -148- إنما أنت مستطلع؛ فوالله لا نسلمهم. فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فأنشأ حينئذ يتجهز لنصر حلفاته1. ومنها: أن ابن سعد ذكر أنه خرج مع عمرو بن سالم الخزاعي لإعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بفعل كنانة، فيهم أربعون راكبًا؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحق؛ لأنه قال: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العهد والميثاق، بما استحلوا من خزاعة، كانوا في عقد وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي -أحد بني كعب- حتى قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة... انهى. وكلام ابن سعد رويناه في "السيرة" لابن سيد الناس؛ لأنه قال: بعد أن ذكر كلام ابن إسحاق هذا بعد قوله: خرج عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد: في أربعين راكبًا، قال ابن سيد الناس بعد ذكره لقول ابن إسحق فيما بعد: "ثم خرج بديل بن ورقاء وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم... انتهى. قلت: لعل الأربعين راكبًا الذين ذكر ابن سعد قدومهم من خزاعة مع عمرو سالم هو هؤلاء... انتهى2. ومنها: أن ابن عقبة ذكر في جواب أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- لأبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه- حين سألهما أن يكلما له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء له -غير ما ذكره ابن إسحق؛ لأنه -أعني ابن عقبة- قال: فخرج -يعنى أبو سفيان- من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتي أبا بكر -رضي الله عنه- فقال: جدد العقد، وزد في المدة؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه- جواري في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم خرج فأتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه؛ فقال عمر -رضي الله عنه: ما كان من حلفنا جديدًا فأخلقه الله، وما كان منه متينًا قطعه الله، وما كان منه مقطوعًا فلا وصله الله. فقال أبو سفيان: جزاك الله من ذي رحم شرًا... انتهى. وإنما كان هذا مخالفًا لما ذكره ابن إسحق من جواب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- لأبي سفيان؛ لأنه قال: ثم خرج -يعني أبو سفيان- حتى أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلمه، فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فكلمه في أن يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أنا لفاعل، ثم أتي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكلمه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 207. 2 عيون الأثر: 2/ 165. ج / 2 ص -149- فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به... انتهى. ومخالفة هذا لما ذكره ابن عقبة ظاهرة؛ لأن ابن عقبة جعل جواب أبي بكر جواب عمر الذي ذكره ابن إسحق وإن اختلف لفظهما، فالمعنى واحد. وجعل جواب عمر -رضي الله عنه- غير ما ذكره ابن إسحق، والله أعلم بالصواب. وذكر الفاكهي خبرًا فيه ما يدل لما ذكره ابن عقبة من جواب عمر لأبي سفيان -رضي الله عنه1. ومنها: أن كلام ابن إسحق يقتضي أن أبا سفيان بعد جواب عمر -رضي الله عنه- له لما ذكره، سأل عليًا بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يجير بين الناس، وأن عليًا -رضي الله عنه- أجابه بعد الاستطاعة، وأن أبا سفيان سأل بعد ذلك فاطمة الزهراء ابنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تأمر ابنها الحسن بن علي -رضي الله عنه- أن يجير بين الناس، وأن فاطمة -رضي الله عنها- أجابته أن ابنها ما بلغ أن يجير بين الناس، وما أحد يجير على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال بعد ذكره لجواب عمر -رضي الله عنه- بما سبق: ثم دخل على عثمان -رضي الله عنه- فقال عثمان -رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أتبع أشراف قريش والأنصار فكلمهم، فكل يقول: عقدنا في عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما أيس مما عندهم دخل على فاطمة ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمها، فقالت: إنا أنا امرأة؛ وإنما ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: فأمري أحد ابنتيك، فقالت: إنهما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليًا، قالت: أنت تكلمه، فكلم عليًا -رضي الله عنه، فقال: يا أبا سفيان، إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله يقتات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجوار... انتهى. ووجه مخالفة هذا لما ذكره ابن إسحق أنه يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- كلم عثمان، ثم أشراف قريش، والأنصار، ثم فاطمة -رضي الله عنها، أن يجيروا قبل أن يكلم عليًا في ذلك، وكلام ابن إسحاق يقتضي خلافه، والله أعلم. وذكر الفاكهي خبرًا فيه ما يدل لما ذكره ابن عقبة من سؤال أبي سفيان لفاطمة -رضي الله عنها، فيما يصلح به الإصلاح بين الناس. ومنها: أن الفاكهي ذكر خبرًا يوهم أن أبا سفيان لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء له من تجديد الحلف والإصلاح بين الناس؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن إدريس بن عمر من كتابه، قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 209. ج / 2 ص -150- فذكر خبرا يقتضي موادعة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ودخول خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخول بني بكر في صلح قريش، وما كان بين خزاعة وبني بكر بعد ذلك من القتال، وإعانة قريش لهم بالسلاح والطعام، وتخوف قريش أن يكونوا قد نقضوا، وإرسالهم أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجدد الحلف، ويصلح بين الناس، وقدوم أبي سفيان إلى المدينة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الحلف، ويصلح بين الناس، وقدوم أبي سفيان إلى المدينة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أبو سفيان فيرجع راجيا بغير حاجة. قال: فأتى أبا بكر -رضي الله عنه- فقال: يا أبا بكر، جدد الحلف وأصلح بين الناس، أو قال: بين قومك؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: الأمر إلى الله تعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال له فيما قال: إن أعانوا قوما على قوم وأمدوهم بسلاح وطعام ما إن يكونوا نقضوا1؛ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: الأمر إلى الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم2... انتهى. ومنها: أن الفاكهي ذكر ما يوهم أن قدوم أبي سفيان بن حرب المدينة لتجديد الحلف والإصلاح بين الناس كان قبل قدوم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، لإعلامه بما كان من قتال بني بكر لهم، ومعاونة قريش عليهم؛ لأن في الخبر السابق بعد ذكر إتيان أبي سفيان لعمر، وقوله له نحوا مما قال لأبي بكر، وجواب عمر لأبي سفيان بنحو من جوابه الذي أجابه، على نحو ما ذكره ابن عقبة، وإتيانه لفاطمة -رضي الله عنها- له: ليس الأمر إلي، وإتيانه عليا -رضي الله عنه، له بالجيرة بين الناس: ثم انطلق -يعني أبو سفيان- حين3 قدم مكة، فأخبرهم بالذي صنع؛ فقالوا: ما رأينا كاليوم وافد عشيرة، والله ما أتيتنا اليوم بحرب فنحذر، ولا أتيتنا اليوم بصلح فنأمن، ارجع. قال: وقدم وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي صنع القوم، ودعاه إلى النصر، وأنشد في ذلك شعرا4... انتهى. ومنها: أنابن عقبة ذكر ما يوهم أن بين خروج أبي سفيان إلى المدينة، وتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة مدة طويلة؛ لأنه قال بعد أن ذكر خروج أبي سفيان إلى مكة ووصوله إليها، وحلقه رأسه عند الصنمين اللذين عند الكعبة، ليرى الناس أنه على الدين الذي كان عليه؛ لأن الناس تحدثوا حين طال مكثه أنه قد أسلم، فمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما شاء الله أن يمكث، بعدما خرج من عنده أبو سفيان، ثم اعتد في الجهاد... انتهى. وهذا لا يفهم من كلام ابن أسحاق، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا بالأصل، وبأخبار مكة للفاكهي 5/ 209. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 208. 3 كذا في النسخ، والظاهر أنه: "حتى". 4 اخبار مكة للفاكهي 5/ 208-209. ج / 2 ص -151- ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع علي، الزبير بن العوام -رضي الله عنهما- لإحضار كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين بمكة، يخبرهم فيه بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. وذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري في "المبهمات" خبر كتاب حاطب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لطلب الكتاب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وفي الخبر الذي ذكره الحافظ عبد الغني أمور لا تفهم من الخبر الذي ذكره ابن إسحاق في ذلك؛ فنذكره لمافيه من الفائدة. قال الحافظ عبد الغني بعد أن ذكر حديثين ليس فيهما بيان ما تعرف به المرأة التي حملت كتاب حاطب: هذه المرة الحاملة لكتاب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- هي أم سارة، مولاة لقريش، والحجة في ذلك ما حدثنا به يعقوب بن المبارك، أن محمد بن جعفر بن أعين حدثهم، قال: حدثنا الحسن بن بشر بن مسلم الكوفي سنة عشرين، قال: أخبرنا الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس -رضي الله عنه- قال: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة من الناس: عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة الكناني، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأم سارة، ثم قال بعد أن ذكر خبر ابن خطل، وابن أبي سرح، ومقيس بن صبابة: وأما أم سارة فإنها كانت مولاة لقريش، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا ثم أتاها رجل فدفع إليها كتابا إلى أهل مكة، يتقرب بذلك إليهم ليحفظه في عياله، وكان له بها عياله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فبعث في أثرها عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- فلحقاها، ففتشاها، فلم يعثرا على شيء معها، فأقبلا راجعين؛ فقال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا، ارجع بنا إليها، فرجعا إليها، فسلا سيفيهما، وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن إلين الكتاب؛ فأنكرت. ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترادني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلا ذلك منها، فحلت عقاص رأسها، فأخرجت الكتاب من قرن من قرونها، فدفعته إليهما، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعاه إليه... انتهى باختصار. ومنها: أن كلام ابن إسحاق لا يفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يطلب كتاب حاطب مع علي -رضي الله عنه، غير الزبير بن العوام -رضي الله عنه، لقوله وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء، بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام -رضي الله عنهما-... انتهى. وذكر البخاري ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع علي والزبير -رضي الله عنهما- أبا مرثد؛ وذكر ذلك في كتاب "استتابه المرتدين" في باب ما جاء في المتأولين؛ لأنه روي عنه بسنده إلى أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، أنه ج / 2 ص -152- قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس. قال "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ"1. وذكر البخاري -أيضا- ما يفهم منه غير ما ذكر في هذا الباب؛ لأنه روي بسنده عن عبيد الله بن أبي رافع، سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد؛ فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ"... فذكر القصة، وهذا الحديث أخرجه في باب غزوة الفتح من كتاب المغازي2. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن المرأة التي معها كتاب حاطب بن أبي بلتعة أخرجته لعلي -رضي الله عنه- ومن معه من قرون رأسها؛ فاستخرجت الكتاب منها، فدفته إليه... انتهى. وذكر ابن إسحاق قبل ذلك ما يدل له، وذكر ابن عقبة ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق، وذكر البخاري أيضا ما يوافق ذلك؛ لأن في الحديث الذي رواه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي -رضي الله عنه: فأخرجته من عقاصها3، وذكر البخاري ما يقتضي أنها أخرجته حجزتها4؛ لأن في الحديث الذي رواه في كتاب "استتابة المرتدين" الذي فيه ذكر أبي مرثد: "فأهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء، فأخرجت الصحيفة". وذكر مثل ذلك في الحديث الذي أخرجه في باب "فضل من شهد بدرا" من رواية أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي -رضي الله عنه- وفيه ذكر أبي مرثد -رضي الله عنه- وقوله في هذين الحديثين: أخرجته من حجزتها بكساء، يقتضي أنها أخرجته من وسطها؛ لأن الكساء لا يحتجز به في الرأس لكبره؛ وإنما يحتجز به في الجسد لستره البدن؛ وذلك يخالف ماذكره ابن إسحاق من أنها أخرجته من قرون رأسها، ويخالف أيضا ما ذكره البخاري من حديث عبيد اللهبن ألأبي رافع عن علي -رضي الله عنه. ومنها: أنه ابن إسحاق ذكر أن اسم المرأة التي حملت كتاب حاطب: سارة، وزعم لي غيره أنها مولاة لبعض بني عبد المطلب... انتهى. وقد سبق في الحديث الذي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 روضة خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد "معجم البلدان 3/ ولعلها قرب الموضع المسمى بالحمراء في طريق المدينة-مكة". 2 أخرجه البخاري "4274". 3 العقاص: جمع عقصة أو عقيصة، وهي الضفيرة من الشعر إذا لوى وجعل قبل الرمانة أو لم تلو. 4 الحجزة: يقال: احتجز الرجل: إذا شد إزاره على وسطه، والحجزة: موضع الشد. ج / 2 ص -153- سبق ذكره عن الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، أن حاملة كتاب حاطب أم سارة، مولاة لقريش. وقد سبق ذكر ذلك قريبا. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم المرأة المزنية التي قيل إنها حملتة كتاب حاطب؛ لقوله: ثم أعطاه امرأة، يزعم محمد بن جعفر أنها من مزينة... انتهى. وقد بين ذلك الحافظ مغلطاي في "سيرته"؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: فكتب حاطب كتابا، وأرسله مع أم سارة المزنية حاملة كتاب حاطب، وفي هذا ما يفهم منه خلاف ما في الصحيحين. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر في الموضع الذي أدركت فيه المرأة حاملة كتاب حاطب فما يفهم منه خلاف ما في صحيح البخاري؛ لأن ابن إسحاق قال: فخرجا يعني عليا والزبير -رضي الله عنهما- حتى أدركاها بالخليفة خليفة1 بني أحمد... انتهى. والذي في البخاري عن علي -رضي الله عنه- قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير والمقداد -رضي الله عنهما، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب"، قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة؛ فإذا نحن بالظعينة. انتهى باختصار، وذكر البقية من القصة. أخرج هذا الحديث في غزوة الفتح، وأخرج مثله في تفسير سورة الممتحنة، وفي "باب فضل من شهد بدرا" إلا أن في الحديث الذي أخرجه في هذا الباب2: أبا مرثد بدل المقداد، وأخرج مثل ما في هذا الباب في باب ما جاء في المتأولين في كتاب استتابة المرتدين؛ إلا أن أبا عوانة روى الحديث الذي أخرجه في "باب ماجاء في المتأولين" قال: حاج، بدل خاخ. ثم قال البخاري بعد تمام الحديث: خاخ أصح. ولكن كذا قال أبو عوانة: حاج وخاخ تصحيف، وهو موضع. وابن هشام يقول: خاخ... انتهى. وخاخ الذي أشار إليه البخاري أنه أصح بخاءين معجمتين، وخاخ الذي أشار إلى أنها تصحيف بحاء مهملة وألف وجيم؛ ذكر ذلك الحافظ أبو ذر الهروي؛ لأنه قال في أثناء حديث أبي عوانة: حاج بحاء مهملة وجيم، كذا الرواية هنا، والصواب بخاءين معجمتين؛ هكذا وجدته منقولا عن أبي ذر بخط بعض المحققين. وذكر ابن عقبة: أن عليا والزبير -رضي الله عنهما- أدركا المرأة -حاملة كتاب حاطب- ببطن ريم3 لأنه قال: فانطلقا حتى أدركا المرأة ببطن ريم... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الخليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال كما في ياقوت. 2 الحديث أخرجه البخاري "3985". 3 ريم: واد قرب المدينة. ج / 2 ص -154- وذكر القاضي عياض في "المشارق" أن ريم على أربعة برد من المدينة على ما قال مالك، وقيل: ثلاثين ميلا، كما في مصنف عبد الرزاق، وأن روضة خاخ موضع بحمراء الأسد من المدينة. وحكى العابدي أنه موضع قريب من مكة، والأول أصح1... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر ما في كتاب حاطب من اللفظ الذي عبر به عن المعنى الذي أخبر به أهل مكة، وقد ذكر السهيلي شيئا في بيان ذلك؛ لأنه قال: "فضل في ذكر كتاب حاطب إلى قريش"، ثم قال: وقد قيل: إنه كان في الكتاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو صار إليكم وحده لنصره الله عليكم، فإنه منجز له ما وعده2. وفي تفسير ابن سلام أنه كان في الكتاب الذي كتبه حاطب: إن محمدا قد نفر إما إليكم، وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم اليوم الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لقوله: وخرج صلى الله عليه وسلم لعشر مضين من شهر رمضان... انتهى. وبين ذلك الحاكم النيسابوري فيما نقله عنه الحافظ مغلطاي في "سيرته"؛ لأنه قال: وخرج من المدينة في عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: في اثنى عشر، يوم الأربعاء، بعد العصر لعشر مضين من رمضان... انتهى. وذكر الأزرقي عن الواقدي ما يوافق ما ذكره الحاكم، وسيأتي ذلك -إن شاء الله- فيما بعد، عند طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلىالله عليه وسلم صام في خروجه إلى مكة حتى بلغ الكديد لقوله: فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه؛ حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر... انتهى. وذكر الفاكهي خبرين يقتضيان خلاف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا أبو بشر برك بن خلف، قال: حدثنا ابن عدي، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح حتى بلغ عسفان3. وقال أيضا: حدثنا هارون بن موسى المروزي قال: حدثني إبراهيم، وحدثنا محمد بن يحيى الرماني: وحسين بن حسن المروزي، قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المشارق 1/ 250، وفيه: وحكى الصابوني أنه موضع قريب من منى. 2 الروض الأنف 4/ 97. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210. ج / 2 ص -155- جميعا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح؛ فصام حتى بلغ كراعة الغميم1، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا صلى الله عليه وسلم بقدح من ماء بين الصلاتين فشربه، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعض الناس، وصام بعضهم. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناسا صاموا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أولئك العصاة" ثلاث مرات2... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين الوقت الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه مر الظهران، وقد بين ذلك ابن سعد، مع أمرين آخرين لا يفهمهما كلام ابن إسحاق؛ لأن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس قال في "سيرته" فيما أخبرت به عنه: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران3، وقال ابن سعد: نزله عشاء؛ فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار. وجعل على الحرس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه4... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أإن بديل بن ورقاء هو القائل لأبي سفيان لما تعجب مما رآه من النيران والعسكر بمر الظهران: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. وكلام ابن عقبة يقتضي أن أبا سفيان، وحكيم بن حزام،وبديل بن ورقاء، قالوا ذلك. وأنهم قالوا في ذلك غيره؛ وذلك أرضا لا يفهم من كلام ابن إسحاق؛ لأن ابن عقبة قال: وبعثت قريش أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وخرج معهما بديل بن ورقاء، فاطلعوا على مر الظهران حتى بلغوا الأراك؛ وذلك عشاء، فإذا النيران والفساطيط، والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك، وفزعوا؛ فقالوا: هذه بنو كعب حمشتها5 الحرب ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: هؤلاء أكثر من بني كعب، ثم قالوا: فلعلكم هوازن انتجعوا أرضنا، ولا والله ما يعرف هذا أيضا... انتهى. وذكر الفاكهي في الخبر الذي رواه عن محمد بن إدريس بن عمر -المشار إليه- ما يقتضي أن أبا سفيان لما سأل عن العسكر والنيران، قيل له في ذلك غير ما سبق؛ لأنه قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فارتحلوا؛ فسار حتى نزلوا مر، قال: وجاء أبو سفيان ليلا؛ فرأى العسكر والنيران، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: هذه تميم، أمحلت بلادها، وانتجعت بلادكم، قال: هؤلاء والله أكثر من أهل منى، أو قال: مثل أهل منى6... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كراع الغميم: بالضم، موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة "معجم البلدان 4/ 443"، ويقال له اليوم: كراع فقط، وهو موضع مشهور حتى الآن بهذا الاسم وهو في طريق مكة-المدينة. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210. 3 عيون الأثر 2/ 168. 4 الطبقات الكبرى 2/ 157. 5 حمشتها: حرضتها. 6 أخبار مكة للفاكهي 5/ 210-211. ج / 2 ص -156- ومعنى قوله في هذا الخبر: هؤلاء والله أكثر من أهل منى: شبههم في الكثرة بالحجاج الذين ينزلوا بمنى، وليس المراد من ذلك أهل منى الذين هم سكانها دائما لقلتهم، والله أعلم. وفي البخاري ما يقتضي أن أبا سفيان شبه ما رآه من النيران بمر الظهران بنيران عرفة، وسيأتي ذلك قريبا، ومراد أبي سفيان بنيران عرفة النيران التي يوقدها الحجاج بعرفة لكثرتهم، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان لم يعلم بخبر ما رأى بمر الظهران من العسكر إلا من العباس -رضي الله عنه؛ لأنه قال بعد أن ذكر خروج العباس -رضي الله عنه- عن العسكر رجاء أن يجد من يبعثه إلى أهل مكة ليعلمهم الخبر؛ حتى يخرجوا فيستأمنوا لأنفسهم، ومحاورة أبي سفيان وبديل فيما رأيا من النيران والعسكر، قال: فعرفت صوته -يعني أبا سفيان- فقلت: يا أبا حنظلة؛ فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟! قلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان. فأخبره العباس الخبر... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان لما علم من العباس -رضي الله عنه- بما رآه وتعجب منه من العسكر والنيران استشار العباس -رضي الله عنه- فيما يصنع؛ فأشار إليه العباس -رضي الله عنه- بأن يذهب معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنه له؛ ففعل أبو سفيان ذلك. وكلام ابن عقبة يقتضي أن أبا سفيان ومن معه أخذوا قهرا، وذهب بهم إلى العسكر فلقيهم العباس -رضي الله عنه- وأجارهم؛ لأنه قال: بعد أن ذكر قول أبي سفيان، وحكيم وبديل فيما رأوه من العسكر والنيران بمر الظهران: فبينما هم كذلك لم يشعروا حتى أخذهم نفر، كان بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش، نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ فلما دخل بهم إلى العسكر، لقيهم العباس -رضي الله عنه- فأجارهم؛ فقال: يا أبا حنظلة ثكلتك أمك وعشريتك؛ هذا محمد رسول الله وجميع المؤمني، فأدخلوا فأسلموا... انتهى. وفي هذا موافقة لما في الخبر الذي ذكره الفاكهي من أن أبا سفيان علم خبر النبي صلى الله عليه وسلم من غير العباس -رضي الله عنه1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 211. ج / 2 ص -157- وذكر البخاري ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، من أخذ حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان، وحكمي، وبديل؛ لأنه قال: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟": حدثني عبيد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبلغ ذلك قريشا، خرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة؛ فقال أبو سفيان: ما هذه؟ لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بن عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك؛ فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم، فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1... انتهى باختصار. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يوهم أن حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، لم يحضرا مع أبي سفيان عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، لقوله بعد أن ذكر ركوب أبي سفيان خلف العباس -رضي الله عنه: ورجع صاحباه، وكلام ابن عقبة يقتضي أنهما حضرا مع أبي سفيان عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران؛ لأنه قال تلو قوله: فادخلوا، فأسلموا، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثوا عنده عامة الليل يحادثهم ويسألهم، ثم دعاهم إلى الإسلام؛ فقال: "اشهدوا أن لا إله إلا الله" فشهدوا، ثم قال: "اشهدوا أني محمد رسول الله"؛ فشهد حكيم وبديل -رضي الله عنه- انتهى. وذكر ابن عقبة في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن من دخل دار حكيم بن حزام، قال: ودار حكيم بأسفل مكة... انتهى. ولعلها بالموضع المعروف بالحزامية، بقرب الخزورة، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان إنما أسلم في صبيحة الليلة التي حضر فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم إن لا إله إلا الله؟" إلى أن قال: فشهد شهادة الحق وأسلم... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: فلما نودي للصلاة تبادر الناس ففزع أبو سفيان؛ فقال للعباس -رضي الله عنه: ما تريدون؟ قال: الصلاة، ورأى الناس يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما رأيت ملكا قط كالليلة، ولا ملك كسرى، ولا ملك قيصر، ولا بني الأصفر2؛ فسأل العباس -رضي الله عنه- أن يدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخله، فقال: يا محمد قد استنصرت إلهي، واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه البخاري "4280". 2 بنو الأصفر: وهم الروم وملكهم هو القيصر. ج / 2 ص -158- مرة إلا ظهرت علي؛ فلو كان إلاهي محقا، وإلهك مبطلا لقد غلبتك؛ فشهد أن محمدا رسول الله... انتهى. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- أسلم ليلا؛ لأنه قال في الخبر الذي رواه عن ابن إدريس تلو قوله: فأخبره العباس -رضي الله عنه- الخبر، وانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة لم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا سفيان أسلم تسلم" قال: فكيف أصنع باللات والعزى؟ قال أيوب: فحدثني أبو الخليل عن سعد بن جبير، قال: فقال له عمر -رضي الله عنه- وهو خارج من القبة في عنقه السيف: اخرا عليها، أما والله لو كنت خارجا من القبة ما قلتها أبدا. فقال أبو سفيان: من هذا؟ قالوا: عمر، ثم رجع إلى حديث أيوب عن عكرمة، قال: فأسلم أبو سفيان -رضي الله عنه-، وانطلق به العباس -رضي الله عنه- إلى منزله، فلما أصبحوا ثار الناس لظهورهم، فقال أبو سفيان -رضي الله عنه-: يا أبا الفضل أو أسر الناس في بشيء؟ قال: لا، ولكنهم قاموا إلى الصلاة... انتهى باختصار. ومنها: أن كلام بان إسحاق لا يفهم السبب الذي لأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس -رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عنه خطم الخيل حتى تمر به جنود الله. وقد ذكر الفاكهي شيئا يدل على بيان سبب ذلك؛ لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن: حدثنا علي بن عاصم، عن حصين عن عبيد الله بن معبد الله، قال: فلما جعل أبو سفيان -رضي الله عنه- يساير العباس بن عبد المطلب رأى من الناس انتشارا، والناس في حوائجهم بحضرة عدوة. قال: فبهؤلاء يريد أن يغلبني ويقتلني محمد. قال: يا عباس أنبئني من خلق السماء؟ قال: الله، قال: فأنبئني من خلق الأرض؟ قال: الله. وجعل يسأله عن أشياء نحوها؛ فعرف أن الإسلام لم يدخل قلبه، فتخلف عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "ادع لي خالد بن الوليد"، فدعى له، وهو على مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "يا خالد"، قال: لبيك يا رسول الله، قال: "أضم إليك الخيل"؟ قال: نعم، فضم إليه الخيل قال: "ادعوا لي أبا عبيدة بن الجراح" فدعى له، فقال: "يا أبا عبيدة أضم إليك الناس؟" قال: نعم. فضم إليه الناس، قال: وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفاء، وفي المشاة، وفي الردافي؛ فقال للعباس -رضي الله عنه- فوقف بأبي سفيان في المكان الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يحدثه إذ أقبل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في الخيل؛ فلما رآهم أبو سفيان -رضي الله عنه- في الخيل قال: يا عباس! أفي هؤلاء محمد؟ قال: لا، هذا خالد بن الوليد، هذا سيف الله. قال: فمضى خالد في خالد. ثم أقبل أبو عبيدة بالناس، فلما رآهم قال: يا عباس! أفي هؤلاء محمد؟ قال: لا، هذا أبو ج / 2 ص -159- عبيدة بن الجراح، هذا أمين الله على الناس. قال: فمضى أبو عبيدة في الناس، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم في الردافي، والمشاة، وضعفاء الناس؛ فلما رآهم عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فقال: يا عباس! هذا محمد؟ قال: نعم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله -عز وجل- قد أرعبه، وأنه يسأل الأمان. قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"1... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يدل لسبب حبس أبي سفيان، حتى تمر عليه جنود الله -عز وجل- وأفاد فيما ذكره بيان الموضع الذي حبس فيه؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحاق؛ لأنه قال: فلما توجهوا -يعني أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء- ذاهبين. قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس إني لا آمن أبا سفيان أن يرجع عن الإسلام، فيكفر، فاردده حتى يفقه ويرى من جنود الله تعالى معك"؛ فأدركه العباس -رضي الله عنه- فحبسه. فقال أبو سفيان -رضي الله عنه: أغدرا يا بني هاشم؛ قال: ستعلم أنا لسنا نغدر، ولكن لي إليك حاجة، فأصبح حتى تنظر إلى جنود الله، وإلى ما أعد الله للمشركين. فحبسهم بالغميم2 دون الأراك إلى مكة حتى أصبحوا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: لتصبح كل قبيلة قد ارتحلت ووقفت مع صاحبها عند رايته، وتظهر ما معها من العدة، فأصبح الناس على ظهر، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه الكتائب؛ فمرت كتيبة على أبي سفيان -رضي الله عنه- فقال: يا عباس! أفي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قال: فمن هؤلاء؟ قال: قضاعة، ثم مرت القبائل على راياتها؛ فرأى أمرا عظيما رعبه الله به... انتهى. وهذا يقتضي أن يكون الغميم دون مر الظهران إلى مكة؛ لأن أبا سفيان -رضي الله عنه- حبس بالغميم ليرى ما أعز الله -تعالى- به الإسلام من الجنود، والجنود مرت عليه بالغميم؛ بعد توجهها من مر الظهران إلى مكة، فيكون الغميم بين مر الظهران ومكة. وإنما ذكرنا ذلك؛ لأن كلام النووي يقتضي أن يكون بين مر الظهران وعسفان؛ لأنه قال: كراع الغميم -هو بضم الكاف- والغميم -بفتح الغين وكسر الميم- وهو واد بين مكة والمدينة، بينه وبين مكة مرتحلتين، وهو أمام عسفان بثمانية أميال، يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود بطرف الحرة يمتد إليه، ونقل أن صاحب "المطالع" أنه بضم الغين وفتح الميم، ثم قال: قلت: هذا تصحيف... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 211-213. 2 الغميم: بفتح أوله وكسر ثانيه، كراع الغميم: إليه منسوب، وهو بجانب المراض، والمراض بين رابغ والحصفة "معجم ما استعجم 3/ 1006". ج / 2 ص -160- ومنها: أن ابن إسحاق ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان في كتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار؛ لأنه قال: بعد قوله فيقول: ما لي ولبني فلان؛ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار؛ وذلك يخالف ما في "صحيح البخاري"؛ لأن فيه أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بنم عبادة -رضي الله عنه- ومعه الراية، قال: ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة أخرى هي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير -رضي الله عنه، كذا وقع عند جميع الرواة، وروى الحميدي في كتابه: هي أقل الكتائب، وهو الأظهر كما قال الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس على ما أخبرت به عنه في "سيرته"، ومنها نقلت ما ذكرناه عن البخاري والحميدي، وقوله في البخاري: ثم جاءت كتيبة، وهي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأخرج البخاري ذلك في الباب الذي ترجم عليه بقوله: "باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح"1. وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن كتيبة الأنصار حين مروا بأبي سفيان -رضي الله عنه- كانت مع سعد بن عبادة -رضي الله عنه؛ لأنه قال: ومرت الكتائب تتلو بعضها بعضا على أبي سفيان، وحكيم، وبديل، لا ترم عليهم كتيبة إلا سألوا عنها، حتى مرت كتيبة الأنصار، فيهم سعد بن عبادة... انتهى. ووقع في نسختي من "مغازي" موسى بن عقبة: وابن حكيم، والصواب: وحكيم بإسقاط "بن"؛ لأن الكلام لا يستقيم إلا بإسقاط: "بن"، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن المهاجرين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بأبي سفيان -رضي الله عنه، وكلام ابن عقبة يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال بعد قوله السابق: رعبه الله به، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام -رضي الله عنه- على المهاجرين، وخيلهم... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا سفيان -رضي الله عنه- بعد أن أطلقه العباس -رضي الله عنه، أبلغ أهل مكة تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ومن أغلق عليه بابه، ومن دخل المسجد2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 عيون الأثر 2/ 170. 2 كان ذلك إبقاء من الرسول العظيم على مجد زعيم ألقي السلاح، وهي حكمة جليلة، ودليل تسامح ما بعده من تسامح، وهذه هي شريعة الإسلام؛ فأين منها ما يصنعه الغرب من إعدام القواد المستسلمة، ومحاكمتهم والقضاء عليهم بلا هوادة ولا رحمة، ولقد أبقى الرسول على أبي سفيان وأبقى له ظلا ظليلا يلوذ به أتباعه وجنوده. ج / 2 ص -161- وذكر الفاكهي ما يقتضي أن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- هو الذي أبلغ ذلك قريشا؛ لأن في الخبر الذي رواه عن ابن العباس: فقال العباس -رضي الله عنه: يا رسول الله لو أذنت لي فأتيت أهل مكة فدعوتهم وأمنتهم، وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به. قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه- حتى ركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، ثم انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا علي أبي، فإن عم الرجل صنو أبيه". قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه، حتى قدم على أهل مكة فقال: يا أهل مكة أسلموا، تسلموا؛ قد استبطنتهم بأشهب بازل. قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير -رضي الله عنه- من قبل أعلى مكة، وبعث خالد بن الوليد من قبل أسفل مكة؛ فقال لهم العباس -رضي الله عنه- من قبل أعلى مكة، وبعث خالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، فقال لهم العباس -رضي الله عنه: هذا الزبير من قبل أعلى مكة، وخالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، خالد وما خالد وخزاعة المخزعة الأنوف، قال: ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قال ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراموا بشيء من النبل1... انتهى باختصار. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأسه يوم فتح مكة عمامة حمراء لأنه قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته محتجزا بشقة برد حبرة حمراء... انتهى. وذكر الفاكهي ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأنه قال: حدثني أحمد بن عبيد عن عاصم بن مضرس الأنصاري، قال: أخبرن أبو بكر عمرو الضبي، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة معتجرا بعمامة سوداء، والعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- كذلك... انتهى باختصار. وقال الفاكهي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا بشير بن السري، حدثنا حماد بن أبي سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليهوسلم دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء... انتهى. ولا يعارض ذلك حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر2، لإمكان أن تكون العمامة السوداء أو الشقة الحمراء المشار إليها هنا من فوق المغفر، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 213. 2 البخاري "4286"، الحميدي "1212"، أخبار مكة للفاكهي 5/ 215، 216. ج / 2 ص -162- ومنها: أن كلام ابن إسحاق موهم في بيان الموضع الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام أن يدخل منه إلى مكة يوم فتحها؛ لأنه قال: وحدثني ابن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كداء... انتهى. ووجه الإبهام في كلام ابن إسحاق أنه لم يقل كداء التي أمر الزبير بالدخول منها بأعلى مكة، ولا بأسفلها، ولم يقل مثل ذلك في كدي التي أمر سعد بالدخول منها التي بأسفل مكة؛ فهو مخالف لما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كدي من أعلى مكة، وأعطاه رسول الله صلى الله عليهوسلم رايته، وأمره أن يغرزها بالحجون، ولا يبرح حيث أمره أن يغرزها، حتى يأتيه... انتهى. ومنها: أن هشام ذكر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع سعد بن عبادة حين قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وأن عمر -رضي الله عنه- أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: وما نأمن أن يكون له في قريش صولة1. وذكر الأموي ما يخالف ذلك؛ لأن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس قال فيما أخبرت به عنه: وقال الأموي: وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بيد سعد بن عبادة؛ فلما مر بها على أبي سفيان -وكان قد أسلم أبو سفيان- فقال سعد إذ نظر إليه: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار، حتى إذا حاذى أبا سفيان نادى: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟! فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا، أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم، وقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: ما نأمن سعدا أن يكون منه قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشا"2... انتهى. وهذا مخالف لما ذكره ابن هشام من وجهين: أحدهما: أن أبا سفيان أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالة سعد. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 4/ 406. 2 عيون الأثر 2/ 171. ج / 2 ص -163- والآخر: أن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن هما القائلان: ما نأمن أن يكون من سعد في قريش صولة. ووقوع ذلك منهما أقرب من وقوعه من عمر، لشدته في دين الله، والله أعلم. وذكر ابن عقبة ما يوافق ما ذكره الأموي من أن أبا سفيان سمع مقالة سعد وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، واستعطفه على قريش، وسيأتي ذلك قريبا، وفي "صحيح البخاري" مثل ذلك؛ لأن في حديث فتح مكة الذي ترجم عليه بقوله "باب: أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح؟": فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة1؟... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يأخذ الراية من سعد، وأن يدل علي بها؛ لأنه قال بعد ذكر ما نسبه لعمر من الكلام السابق في حق سعد: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: "أدركه فخذ الراية؛ فكن أنت الذي تدخل بها". وهذا مخالف لما ذكر الأموي؛ لأنه قال بعد ذكره لما سبق، ولشعر قاله ضرار بن الخطاب الفهري في يوم فتح مكة، ليستعطف به النبي صلى الله عليه وسلم على قريش: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة، فنزع اللواء من يده، وجعله بيد قيس ابنه، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه؛ إذ صار إلى ابنه، قيس... انتهى. وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره الأموي، لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن قال: حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، قال: حدثني طاوس وعامر، قالا: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد -فذكر شيئا منخبره يأتي ذكره- ثم قال: ألا إن راية الأنصار في يد سعد بن عبادة، وقد مات سعد بن معاذ، وصار سعد بن عبادة سيد القوم، الراية في يده؛ فبينما هو واقف، والأنصار إذ نظر فلم ير حوله إلا الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة ودخل معهم من المهاجرين من لا يفطن له، فاتشد وهم لا يعلمون، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما سمع من سعد بن عبادة: فقال له: "أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم، قال: "من هاهنا ادع إلى قيس بن سعد بن سعد بن عبادة"؛ فجاء الرسول وهو واقف مع أبيه، والراية في يد أبيه، وقال قيس: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه؛ فقال: "يا قيس". قال: لبيك يا رسول الله، فقال: "اذهب فخذ الراية من سعد" قال: نعم يا رسول الله، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 البخاري "4280". ج / 2 ص -164- قال: فجاءه الأنصار حوله؛ فقال: أعطني الراية، قال: لا، لا أم لك. قال: أعطنيها ولا تحمق نفسك. قال: لا. إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا. قال: أمرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسمعا وطاعة، ودفع الراية إلى قيس ابنه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، والراية مع قيس بن عبادة... انتهى. وذكر الفاكهي أيضا ما يخالف ما ذكرناه عنه؛ لأنه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد ابن أبي ميسرة، قال: حدثنا محمد بن الحسن، قال: حدثتني أم عرزة، عن أمها عن جدها الزبير بن العوام قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لواء بن عبادة، ودخل مكة بلواءين... انتهى1. ونقل ابن عقبة ما يوافق الخبر الذي رواه الفاكهي عن ابن أبي ميسرة؛ لأنه قال بعد عبادة في كتيبة الأنصار على أبي سفيان: فنادى -أي سعد- أبا سفيان؛ فقال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة فلما جاز به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، وقال أبو سفيان: أمرت بقومك أن يقتلوا، فإن سعد بن عبادة ومن معه حين مروا بي نادوني: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة وإني أنشد الله في قومك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله وجعل الزبير مكانه على الأنصار مع المهاجرين؛ فسار الزبير بالناس حتى وقف بالحجون، وغرز راية رسول الله صلى الله عليه وسلم... انتهى. فتحصل من هذه الأخبار فيمن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أخذها من سعد بن عبادة ثلاثة أقوال: أولها: أنه على بن أبي طالب -رضي الله عنه- عغلى مقتضى ما ذكره ابن إسحاق. وثانيها: أنه قيس بن سعد، على ما ذكره الأموي والفاكهي. وثالثها: أنه الزبير بن العوام على ما ذكره الفاكهي أيضا وابن عقبة. ومنها: أن ابن عقبة ذكره ما يقتضي أن سعدا كان قد أعطى رايته قبل أخذها لابنه قيس؛ لأنه قال: وبعث سعد بن عابدة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدفع سعد رايته إلى قيس بن سعد... انتهى. وهذا لا يفهم من كلام ابن إسحاق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 216. ج / 2 ص -165- ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين صفة راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقد بين ذلك الفاكهي؛ لأنه قال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن عمار الذهبي، عن ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولواؤه أبيض. قال الحسن بن علي: يعني يوم الفتح... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يفهم أن أبا عبيدة بن الجراح كان يوم فتح مكة على المشاة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم... انتهى. ويتأيد ذلك بما رويناه في "صحيح مسلم"1 من أن أبا عبيدة كان على البيادقة يعني الرجالة، وقد سبق ضبط البيادقة2 في الباب الأول، فأغنى عن إعادته. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن أبا عبيدة لم يكن يوم الفتح -أي فتح مكة- على الرجالة إلا في الخبر الذي سبق ذكره عنه في بيان سبب حسب أبي سفيان حتى مر عليه جنود الله. قال: ادعوا إلى عبيدة بن الجراح، فدعى له، قال: يا أبا عبيدة ضم إليك الناس. قال: نعم، وضم إليه الناس، قال: وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضعفاء، وفي المشاة، وفي الردافى... انتهى. ويتأيد ذلك في حيث المعنى بأن المقصود إرهاب أبي سفيان، وإرهابه بمرور أبي عبيدة ومعه غير المشاة؛ أقوى من إرهابه بمرور أبي عبيدة عليه والمشاة مع أبي عبيدة... والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم فتحها من أذاخر3؛ لأنه قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة، ضربت هناكل قبته... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية كداء بأعلى مكة؛ لأنه قال: ولما علا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية كداء نظر إلى البارقة على الجبال، ثم فضض المشركين، فقال: "ما هذا؟ نهيت عن القتال"؛ فقال المهاجرون: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتل من قاتله، وما كان ليعصيك، ولا ليخالف أمرك، فهبط رسول الله من الثنية، فأجاز على الحجون... انتهى. وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره ابن عقبة؛ لأنه قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني معن بن عيسى، عن عبد الله بن عمر، عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 صحيح مسلم "فتح مكة: 86". 2 "البيادقة" هم الرجالة من الجيش، وسموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم. 3 "أذاخر": جبل قريب من مكة في الشمال الغربي لها. ج / 2 ص -166- حفص، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال: "كيف قال حسان بن ثابت يا أبا بكر؟" فأنشده أبو بكر رضي الله عنه: عدمت ثنيتي إن لم يروها تثير النقع من كتفي كداء ينازعن الأعنة مشفعات يلطمهن بالخمر النساء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادخلوا من حيث قال حسان"؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من كداء أعلى مكة1... انتهى. ومنها: أن كلام ابن عقبة يقتضي أن القصة التي ذكرها ابن إسحاق لحماش، وقعت لغيره؛ لأن ابن عقبة قال: فدخل رجل من هذيل -حين هزمت بنو بكر- على امرأته، فلامته وعجزته وعيرته بالفرار، فقال: وأنت لو رأيت يوم الخندق إذ فر صفوان وفر عكرمة ولحقتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة قال: وقال ابن شهاب: قالها حماش أخو بني سعد بن ليث... انتهى. وذكر ابن إسحاق أنه هذه الأبيات لبعض هذيل؛ لأنه قال: ويروي لخراش الهذلي. فاستفدنامن هذا الخلاف في صاحب هذه القصة، هل خراش أو غيره، والله أعلم بالصواب... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق خولف فيما ذكره من عدد من قتل من المشركين يوم فتح مكة؛ لأنه قال: وأصيب من المشركين ناس قريب من اثني عشر أو ثلاث عشر، ثم انهزموا... انتهى. وقال ابن عقبة: واندفع خالد بن الوليد حين دخل من أسفل مكة فلقيته بنو بكر، فقاتلوا فهزموا، وقتل من بني بكر قريبا من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا وقتلوا بالحزورة، حتى بلغ قتلهم باب المسجد... انتهى. وقال ابن سعد: قتل أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة من هذيل. ذكر ذلك عن ابن سعد2 -هكذا- الحافظ أبو الفتح اليعمري في "سيرته" بعد ذكره لكلام ابن إسحاق في ذلك، فيما أخبرني به بعض مشايخنا عن الحافظ أبي الفتح3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 214، 215. 2 الطبقات الكبرى 2/ 136. 3 عيون الأثر 2/ 173. ج / 2 ص -167- وذكر الفاكهي خبرا فيه ما يقتضي أن المقتولين من المشركين يوم فتح مكة سبعون رجلا، وذكر لذلك سببا؛ فاقتضى الحال ذكر ذلك لما فيه من الفائدة، لأنه قال: حدثني الحسين بن عبد المؤمن قال: حدثنا علي بن عصام، عن عطاء بن السائب، قال: حدثني طاوس وعامر، قالا: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فأنالهم شيئا من قتل. فجاء رجل من قريش فقال: يا رسول الله هذا خالد بن الوليد قد أسرع في القتل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار عنده: "يا فلان"، قال: لبيك يا رسول الله، قال: "ائت خالد بن الوليد، فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل بمكة أحدا"، فجاء الأنصار، فقال: يا خالد، إن رسول الله يأمرك أن تقتل من لقيت من الناس. فاندفع خالد، فقتل سبعين رجلا بمكة، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش، فقال: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، قال: "ولم؟"، قال: هذا خالد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله. قال: "ادع لي خالدا" فدعى له، قال: "يا خالد ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحدا؟"، قال: بل أرسلت إلي أن اقتل من قدرت عليه. قال: "ادع لي الأنصاري"، فدعى له، فقال: "ألم آمرك أن تأمر خالدا ألا يقتل أحدا؟" قال: بلي، ولكنك أمرت وأراد الله غيره؛ فكان ما أراد الله. قال: "يا خالد"، قال: لبيك يا رسول الله. قال: "لا تقتل أحدا" ولم يقل للأنصاري شيئا... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقتل يوم فتح مكة إلا من قاتل من المشركين؛ لأنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم؛ إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر... انتهى. وروينا في مسند ابن حنبل ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل غير من استثناه؛ لأنه قال: حدثنا يحيى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر"، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: "كفوا السلاح"1... انتهى. وذكر الفاكهي أنه قال: حدثنا حسن بن حسين أن ابن أبي عدي قال: حدثنا حسن المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر" فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم أمرهم أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه أحمد 2/ 179. ج / 2 ص -168- يكفوا السلاح؛ حتى إذا كان الغد لقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر بالمزدلفة فقتله؛ فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا وظهره إلى الكعبة، فقال: "إن أعتى الناس على الله من عدا في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول الجاهلية"1... انتهى باختصار. ومنها: أن ابن سعد -أحد بني عامر بن لؤي- الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، هو ابن أبي سرح؛ وذلك لا يفهم من كلام ابن إسحاق، ووقع في بعض نسخ سيرته تمسيته بعبد الله، وذلك لا يفهم أيضا أنه ابن أبي سرح، وقد ذكره عقبة بأوضح مما ذكره ابن إسحاق؛ لأنه قال: وأمرهم بقتل أربعة نفر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر في سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن أبي سرح، سوى ارتداده إلى الشرك بعد الإسلام، وكتابته الوحي للنبي صلى الله عليهة وسلم بأمره صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، وهاجر، وكانت يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد مشركا إلى قرى بمكة، فقال لهم: إني كنت أصرف محمدا حيث ارتد، كان يملي عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كل صواب2... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين أخوة الرضاع التي بين أبي سرح، وعثمان بن عفان، وبين ذلك أن عبد البر؛ لأنه قال تلو قوله كل صواب: فلما كان يوم الفتح، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وقتل عبد الله بن خطل، ومقيس بن ضباعة، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة؛ ففر عبد الله بن أبي سرح إلى عثمان -رضي الله عنه- وكان أخاه من الرضاعة، أرضعته أم عثمان رضي الله عنه2... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق لا يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم عن أحد من الحاضرين عنده، لما جاء ابن أبي سرح أنه يريد قتل ابن أبي سرح؛ لأنه قال: بعد أن ذكر مجيء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبر طويلا، ثم قال نعم؛ فلما انصرف عثمان -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله من أصحابه: "لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه"... انتهى. وفي الخبر الذي سبق ذكره عن الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم عن بعض الحاضرين عنده، لما جاء ابن أبي سرح أنه يريد قتل ابن أبي سرح؛ لأنه في الخبر المذكور، ونذر رجل من الأنصار أن يقتل عبد الله بن أبي سرح إذا رآه. وكان أخا عثمان -رضي الله عنه- من الرضاعة، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشفع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219. 2 السيرة لابن هشام 4/ 407. ج / 2 ص -169- له؛ فلما بصر به الأنصاري اشتمل السيف على عاتقه وخرج في طبله، فوجده في حلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهاب قتله، فجعل يتردد، ويكره أن يقدم عليه؛ لأنه في حلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فبايعه، ثم قال للأنصاري: "قد انتظرتك أن توفي بنذرك"، قال: يا رسول الله هبتك، أفلا أومأت إلي، قال: "إنه ليس لنبي أن يومئ"... انتهى. وكان ابن أبي سرح فارس بني عامر بن لؤي معدودا فيهم، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان مجاب الدعوة، وله في ذلك خبر غريب؛ وذلك أن محمد بن حذيفة بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي نزع مصر من ولاية ابن أبي سرح هذا لما توجه أبن أبي سرح إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بالمدينة، ومنعه ابن حذيفة من دخول مصر لما عاد من المدينة فمضى إلى عسقلان1، وقيل: إلى الرملة2 ودعى ربه أن يجعل خاصة عمله صلاة الصبح، فتوضأ ثم صلى، قرأ في الركعة الأولى بأم القرآن، والعاديات، وفي الثانية بأم القرآن وسورة، ثم سلم عن يمينه، وذهب ليسلم عن يساره، فقبض الله روحه -على ما ذكر يزيد بن أبي حبيب وغيره- فيما حكاه ابن عبد البر في "الاستيعاب"، ومنه لخصت ما ذكرت من حاله. وذكر ابن عبد البر أنه لم يبايع لعلي ولا معاوية -رضي الله عنهما- وأنه توفي سنة ست أو سبع وثلاثين، وقيل: ست وثلاثين. ومنها: أن ابن إسحاق سمي ابن خطل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله عبد الله؛ لأنه قال: وعبد الله بن خطل رجل من بني تيم بن غالب... انتهى. وقد اختلف في اسمه، فقيل: عبد الله، كما ذكر ابن إسحاق، وقيل اسمه: هلال ذكره الفاكهي في خبر يأتي ذكره، وذكره السهيلي؛ لأنه قال: وقد قيل في اسمه: هلال، قال: وقد قيل هلال كان أخاه، وكان يقال لهما: الخطلان، وهما من تيم بن غالب بن فهر3... انتهى. وقال ابن بشكوال في "المبهمات" لما تكلم على حديث قتل ابن خطل: اختلف في اسمه، فقيل عبد الله، وقيل: عبد العزى، وقيل: هلال، ذكر ذلك كله الدرقطني في "سننه". وذكر ابن عقبة ما يقتضي أن اسمه: قيس؛ لأنه قال: وأمر بقتل قيس بن خطل يوم الفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 "عسقلان": مدينة على ساحل البحر بفلسطين. 2 "الرملة": إحدى مدن فلسطين. 3 السيرة لابن هشام 4/ 410. ج / 2 ص -170- وذكر الفاكهي ما يقتضي أن اسمه: عبد العزيز؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الناس يوم الفتح، إلا أربعة منهم عبد العزيز بن خطل1... انتهى. ولعل عبد العزيز -كما في هذا الخبر- تصحيف من الناسخ، فإن عبد العزى يشبه في الصورة: عبد العزيز، والله أعلم. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن الذي قتل ابن خطل: سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في قتله، وذكر الفاكهي منا يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن سليمان حدثنا زيد بن حباب، ثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد، حدثني جدي، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا في حرم: الحارث بن نقيد، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وهلال بن خطل"، قال: فقتل علي -رضي الله عنه- الحارث بن نقيد، وقتل مقيس ابن عم له، وقتل هلال بن خطل الزبير بن العوام رضي الله عنه2... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين الموضع الذي قتل فيه ابن خطل، وبين ذلك ابن جريج في الخبر الذي سبق ذكره قريبا من كتاب الفاكهي؛ لأن فيه وقتل ابن خطل، وهو آخذ بثياب الكعبة يتعوذ بها انتهى. وفي الصحيحين3 وغيرهما ما يشهد لما ذكره ابن جريج، وروينا مثل هذا في "مبهمات" الحافظ عبد الغني بن سعيد؛ لأن في الحديث الذي سبق في بيان حاملة كتاب حاطب: فأما عبد العزى فإنه قتل وهي آخذ بأستار الكعبة... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن الذي قتل مقيس بن صبابة: نميلة بن عبد الله، رجل من قومه. وذكر الفاكهي في الخبر الذي سبق ذكره قريبا عن ابن جريج خلاف ذلك؛ لأن فيه: وقتل مقيس بن صبابة سعيد بن حريث، أو عمر بن حريث. وأفاد في هذا الخبر موضع قتله؛ لأنه قال: وأما مقيس عند الردم... انتهى. والمراد -والله أعلم- بالردم: ردم بني جمح الذي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه، كمان سبق في باب ذكر الموضع الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الباب الحادي والعشرين من هذا الكتاب. وليس المراد بالردم الذي بأعلى مكة؛ لأنه لم يكن إلا في خلافة عمر بن الخطاب، عمل صونا للمسجد من السيل حين ذهب بالمقام عن موضعه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 220. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219. 3 البخاري "4286"، مسلم "الحج: 1357". ج / 2 ص -171- ومنها: أن كلام ابن ‘إسحاق يقتضي أن الرجل الذي قتله مقيس بن صبابة، وارتد بعد قتله، من الأنصار؛ لأنه قالك -لما ذكر الذين أمر النبي صلىالله عليه وسلم بقتلهم: ومقيس بن صبابة؛ وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، لقتله الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا... انتهى. وذكر الحافظ عبد الغني بن سعيد، ما يخالف كلام ابن إسحاق هذا؛ لأنه قال في الخبر الذي سبق ذكره: وأما مقيس بن صبابة؛ فإنه كان له أخ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل خطأ؛ فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني فهر، ليأخذ له عقله من الفهري؛ فلما جمع له العقل رجل القهقري، فوثب مقيس وأخذ حجرا فجلد به رأسه، فقتله، ثم أقبل وهو يقول: شقى النفس من قد بات خاضع مسندا يضرح بثوبين وماء الأخادع وكانت هموم النفس من قبل قتله كذا تنسى وطاء المضاجع حللت به نذري وأدركت بغيتي وكنت إلى الأوثان أول راجع وفي حاشية كتاب الحافظ عبد الغني: ثارت به فهر وحملت عقله سراة بني النجار إن مات فارع ... انتهى. وفيما ذكره الحافظ عبد الغني من خبر مقيس ما لا يفهم مما ذكره ابن إسحاق. ومنها: أن الحافظ أبا الفتح ابن سيد الناس ذكر هبار بن الأسود فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة هبارا هذا، وهو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي. ولعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، لما صنع بزينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث بها زوجها أبا العاص بن الربيع إلى المدينة؛ وذلك أن هبارا تعرض لها في سفهاء من قريش فأهوى هبار إليها، ونخس دابتها، فسقطت عن دابتها وألقت ما في بطنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن وجدتم هبارا، فأحرقوه بالنار، ثم اقتلوه"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" فلم يوجد، ثم أسلم هبار وحسن إسلامه، وصحب النبي صلىالله عليه وسلم . وذكر ابن سيد الناس في سبب قتل هبار ما ذكرناه بالمعنى؛ لأنه قال: وأما هبار بن الأسود فهو الذي عرض لزينب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سبق بالمعنى1. ومنها: أن الحافظ علاء الدين مغلطاي ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من أمانه يوم الفتح جماعة غير الذي ذكرهم ابن إسحاق؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: ونادى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 عيون الأثر 2/ 176، 177. ج / 2 ص -172- منادية -عليه السلام: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، إلا من استثنى وهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم، وابن خطل قتله أبو برزة، وقينتان، فربما أسلمتا، وسارة، ويقال كانت مولاة عمرو بن صيفي، وهاشم، وأرنب، وقريبة قتلت، وعكرمة بن أبي جهل أسلم، والحويرث بن نقيذ قتله علي، ومقيس بن صبابة نميلة الليثي، وهبار بن الأسود أسلم، وكعب بن زهير أسلم، وهند بنت عتبة أسلمت، ووحشي بن حرب أسلم... انتهى. وقد سبق التعريف بشيء من هؤلاء المستثنين إلا كعب بن زهير؛ فإنه ابن أبي سلمة المزني الشاعر المشهور صاحب: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول القصيدة المشهورة التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم. وهند بنت عتبة، وهي امرأة أبي سفيان أم معاوية بن أبي سفيان. ووحشي هو قاتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب. ولعل الأمر بقتل وشحي وهند لما فعلا بحمزة بن عبد المطلب؛ فإن وحشيا قتله، وهند بنت عتبة مقرت عن كبد حمزة فلاكتها؛ فلم تستطع أن تستسيغها، فلفظتها، وكانت هي ونسوة معها يجد عن الآذان والأنوف من قتلى المسلمين يوم أحد... انتهى، والله أعلم. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم قينتي ابن خطل؛ وإنما اسم إحداهما، وأنه فرتني1، وبين ذلك ابن سيد الناس في غير موضع؛ لأنه قال: وأما قينتا ابن خطل فرتني وقريبة، فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخرى، فأمنها، فعاشت مدة، ثم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم2. وقال أيضا عن ابن سيد الناس غير واحد من أشياخي. وذكر السهيلي أن اسم قينتي بن خطل فرتني، وسارة3، وهذا يخالف ما ذكره ابن سيد الناس، من أن اسم إحداهما قريبة، والأخرى فرتني، والله أعلم بالصواب. وسيأتي ذكر كلام السهيلي قريبا. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن إحدى قينتي ابن خطل قتلت، والأخرى لم تقتل؛ لأنه قال: وأما قينتا ابن خطل؛ فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى، حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فأمنها... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 4/ 410. 2 عيون الأثر 2/ 177. 3 الروض الأنف 4/ 104. ج / 2 ص -173- وذكر السهيلي ما يقضي أنهما لم تقتلا وأنهما أمنتا. وسيأتي كلامه قريبا. ومنها: أن كلام أبن إسحاق يقتضي أن سارة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها؛ غير قينة ابن خطل، لأنه قال فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح: وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، ثم قال -بعد ما ذكر قينتي ابن خطل: وأما سارة فاستؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها، ثم بقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالأبطح، فقتلها1... انتهى. وذكر السهيلي ما يقتضي أن سارة هذه إحدى قينتي ابن خطل؛ لأنه قال: وأما القينتان اللتان أمر بقتلهما وهما سارة وفرتني، فقد أسلمت فرتني وأمنت سارة، وعاشت إلى زمن عمر بن الخطاب، ثم وطئها فرس فقتلها2... انتهى. وهذا هو كلام السهيلي الذي أشرنا إلى أنه يخالف ما ذكره ابن سيد الناس في قتل إحدى قينتي ابن خطل، وتأمين الأخرى، ويخالف ما ذكره ابن إسحاق أيضا في أن سارة إحدى قينتي ابن خطل، وأنها التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها، ولا أعلم له سلفا فيما ذكره، والله أعلم. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين قينة ابن خطل اليت استؤمن لها رسول الله، وقد بين ذلك الحافظ مغلطاي؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه في ذكر المستثنين من الأمان يوم الفتح: وابن خطل قتله أبو برزة الأسلمي، وقينته فرتنا أسلمت، ثم قال: وقريبة قتلت... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر سارة فيمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح. وذكر الفاكهي عن ابن جريج ما يقتضي أنها أم سارة. وذكر الحافظ عبد الغني سعيد المصري في "مبهماته" ما يوافق ما ذكره الفاكهي عن ابن جريج كما سبق، وسيأتي ذكر ما ذكره الفاكهي في ذلك. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن سارة لم تقتل في زمن الفتح، وذكر الفاكهي عن ابن جريج: أن أم سارة قتلت في الفتح، فإن كانت أم سارة التي ذكرها ابن جريج هي سارة التي ذكرها ابن إسحاق؛ فقد خولف ابن إسحاق في اسمها وحياتها في زمن الفتح. وإن كانت أم سارة التي ذكرها ابن جريج غير سارة التي ذكرها ابن إسحاق، فيكون ابن إسحاق قد ترك بعض من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، ويستفاد ذلك من كلام ابن جريج لا من كلام ابن إسحاق، والأول هو الظاهر، والله أعلم، وإذا كان كذلك فيستفاد من الخبر الذي ذكره الفاكهي عن ابن جريج فائدة لا تفهم من كلام ابن إسحاق، وهي سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أم سارة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 4/ 410، 411. 2 الروض الأنف 4/ 104. ج / 2 ص -174- ويظهر ذلك مع ما أشرنا إليه أولا بذكر الخبر الذي ذكره الفاكهي؛ لأنه قال: حدثنا سعيد بنعبد الرحمن، حدثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمن الناس يوم فتح مكة؛ إلا أربعة: عبد العزيز بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة قينة لبني هاشم كانت تدعو على النبي صلى الله عليه وسلم حين تصبح وحين تمسي؛ فأما أم سارة فقتلت... انتهى باختصار. وذكر الحافظ عبد الغني بنسعدي أن سبب قتل أم سارة حملها كتاب حاطب بن سبق ذكرنا له عنه؛ لأن فيه: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة، إلا أربعة فذكرهم، منهم أم سارة، ثم قال: وأما أم سارة فإنها كانت مولاة لقريش؛ فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه الحاجة، فأعطاها شيئا، ثم أتاها رجل يدفع إليها كتابا إلى أهل مكة يتقرب بذلك إليهم ليحفظ في عياله، وكان له بها عيال، فأخبر جبريل -عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فذكر بقية الخبر السابق، وهذا يخالف ابن جريج في سبب قتل أم سارة، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث بن نقيذ، سوى أنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة -لقوله بعد ذكره للحويرث: وكان ممن يؤذيه بمكة1. وذكر السهيلي ما يقتضي أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث له سبب آخر؛ لأنه قال: وأم الحويرث بن نقيذ الذي أمر بقتله مع ابن خطل، فهو الذي نخس بزنيب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أدركها هو وهبار بن الأسود، فسقطت عن دابتها، وألقت جنينها2... انتهى. وذكر ابن هشام ما يقتضي أن سبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحويرث، كونه نخس بفاطمة وأم كلثوم ابنتي النبي، ورمى بهما إلى أرض، لما بعثها العباس من مكة إلى المدينة؛ لأنه ذكر كلاما معناه هذا، بعد قول ابن إسحاق في شأن الحويرث بن نقيذ: وكان ممن يؤذيه بمكة، والمعروف أن المشركين عرضوا لزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، لا لأختيها فاطمة وأم كلثوم؛ فيكون الحويرث نخس بزينب، لا بفاطمة وأم كلثوم، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن الثماني ركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكةى، على ما ذكر ت أم هانئ من الضحى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 4/ 411. 2 الروض الأنف 4/ 104. ج / 2 ص -175- وذكر السهيلي ما يقتضي أنها صلاة الفتح؛ لأنه قال: فصل: ذكر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ، وهي صلاة الفتح، يعرف ذلك عند أهل العلم، وكان الأمراء يصلونها إذا افتتحوا بلدا، قال الطبري1: صلى سعد بن أبي وقاج / 2 ص -رضي الله عنه- حين افتتح المدائن، ودخل إيوان كسرى قال: فصلى فيه صلاة الفتح. قال: ويه ثمان ركعات، لا يفصل بينها، ولا تصلي بإمام؛ فبين الطبري سنة هذه الصلاة وصفتها. ومن سننها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة، والأصل ما تقدم في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ؛ وذلك ضحى2. انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين ما كان من حال فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم مع أم هانئ، وقد بين ذلك الفاكهي في خبر ذكره؛ لأنه قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا سفيان، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي طالب تقول: لما كان يوم الفتح، أتاني حموان لي؛ فأمنتهما، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يريد أن يقتلهما، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت فاطمة، وكانت أشد علي من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقالت: لم تؤمنين المشركين وتجيرينهم؟ فبينما أنا عندها إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه رهجة الغبار، فقلت: يا رسول الله إني أمنت حموين لي، وإن ابن أمي علي بن أبي طالب يريد قتلهما. فقال: "ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت"... انتهى باختصار. ومنها: أن ابن هشام، قال في تفسير الرجلين اللذين أجارتهما أم هانئ يوم الفتح: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة3... انتهى. وقد تقدم قوله بأن الذي أجارته أم هانئ هو ابنها جعدة بن هبيرة، حكاه السهيلي2 وغيره، وفيه بعد لقولها في السيرة: وفر إلي رجلان من أحماي من بني مخزوم، ومرداهم بقولها: أحماي بسط العذر لها في إجازتها لهما، ولو كان المجار ابنها لقالت ابني، فإنه أولى في بسط العذر لها في ذلك، ولا يعارض ذلك قول ابن عبد البر. وفي حديث مالك وغيره أن الذي أجارته بعض بني زوجها هبيرة بن أبي وهب لإمكان أن يكون ابن زوجها الذي أجارته من غيرها، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تاريخ الطبري 4/ 16. 2 الروض الأنف 4/ 103. 3 السيرة لابن هشام 4/ 411. ج / 2 ص -176- وممن ذكر أن أحد الرجلين اللذين أجارتهما أم هانئ -رضي الله عنه- الحارث ابن هشام: الزبير بن بكار وغيره. ومنها: أن ابن إسحاق لم يبين اسم اليوم الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة، بعد أن فتح الله عليه مكة، وذكر الأزرقي عن الواقدي ما يبين ذلك؛ لأنه قال: حدثني جدي عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الجمعة لعشر ليال بقين من شهر رمضان، فبث السرايا في كل وجه... انتهى. وإذا كان قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في اليوم المشار إليه؛ فهو اليوم الذي طاف فيه بالكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة يوم دخل مكة في الفتح، على ما هو مقتضى الأخبار الواردة في ذلك، وخحرجح مغلطاي في "سيرته" بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالكعبة يوم الجمعة، لعشر بقين من رمضان؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: وطاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان... انتهى. ومنها: أن ابن إسحاق روى بسنده إلى صفية بنت شيبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما نزل مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت؛ فطاف به سبعا على راحلته1، وهذا ليس فيه بيان ما تعرف به الراحلة التي طاف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدة رواحل وهي: العطباء، والقصواء، والجدعاء، وإن كان قيل في الجميع إنهن واحدة، وقد بين ذلك ابن عمر -رضي الله عنه- في حديثه في دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم فتح مكة، وصلاته فيما، على ما رويناه عنه في الصحيحين وغيرهما؛ وفي لفظ البخاري فيه: حدثنا شريح بن النعمان قال: حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وهو مردف أسامة -رضي الله عنه- على القصواء، ومعه بلال، وعثمان بن طلحة؛ حتى أناخ عند البيت، ثم قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة، وبلال، وعثمان -رضي الله عنهم، ثم أغلقوا عليهم الباب، فمكث نهارا طويلا2... انتهى باختصار. ومنها: أن ما ذكره ابن إسحاق في طواف النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على راحلته، لقوله فيه: فطاف به سبعا على راحلته. وقد روينا في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- ما يخالف ذلك في صحيح مسلم وغيره. ولفظ مسلم: أخبرنا ابن عمر قال: أنبأنا سفيان، عن أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، على ناقة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 4/ 46. 2 أخرجه البخاري "4289". ج / 2 ص -177- أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم عاد عثمان بن طلحة؛ فقال: "ائتني بالمفتاح" فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي. فأعطته إياه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب، قال: ثم ذكر مثل حديث حماد بن زيد... انتهى. توفي حديث ابن عمر السابق قريبا من "صحيح البخاري" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته وذلك يوافق ماذكره ابن إسحاق والله أعلم بالصواب، وحديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق من "صحيح مسلم" أخرجه الأزرقي في تاريخه عن جده، عن سفيان بن عيينة عن أيوب1 من غير إحالة في نفسه، على خلاف ما صنع مسلم. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة بسبب مفتاح الكعبة، وليس في كلامه ما يبينم هل هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أو برسول إلى عثمان -رضي الله عنه-، لقوله ابن إسحاق: فلما قضي طوافه دعا عثمان بن طلحة... انتهى. وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق قريبا من "صحيح البخاري" ما يدل على أنه دعاه بنفسه لقوله فيه: ثم قال صلى الله عليه وسلم لعثمان: "ائتنا بالمفتاح". وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في ذلك إلى عثمان -رضي الله عنه- بلالا، ثم أبا بكر -رضي الله عنه-، وعمر -رضي الله عنه-، لما أبطأ عثمان -رضي الله عنه، لأنه قال: حدثني جدي، عن محمد بن إدريس عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، بعدما طاف على راحلته، فجلس ناحية من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة -رضي الله عنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: "قل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن تأتيه بمفتاح الكعبة". فجاء بلال إلى عثمان -رضي الله عنه-: نعم، فخرج إلى أمه "سلافة بنت سعد" بن سعيد الأنصارية، ورجع بلال -رضي الله عنه- مع الناس؛ فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذ عندها: يا أمه أعطيني المفتاح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلي، وأمرني أن آتي به إليه. فقالت له: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب بمأثرة قومك على يديك. قال: والله لتدفعنه أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجرها وقالت: أي رجل يدخل يده هاهنا؛ فبينما هما على ذلك، إذ سمعت سوت أبي بكر -رضي الله عنهما- في الدار، وعمر -رضي الله عنه- رافع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 268. ج / 2 ص -178- صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان اخرج، فقالت أمه: يا بني خذ المفتاح، فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن تأخذه تيم أو عدي، فأخذه عثمان، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناوله إياه؛ فلما ناوله إياه فتح الكعبة1... انتهى باختصار. وذكر الواحدي في تفسيره "الوسيط" وكتابه "أسباب النزول" ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى عثمان بن طلحة، ليأخذ منه مفتاح الكعبة في يوم فتح مكة، ولكن كلام والواحدي يقتضي أن عثمان -رضي الله عنه- لم يكن حين أخذ ذلك منه مسلما، وهو يخالف ما ذكره العلماء بهذا الشأن، من أنه كان مسلما. وفي طلب بنفسه المفتاح من عثمان -رضي الله عنه-، والله أعلم. ومنها: أن ما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح الكعبة، يوم فتح مكة؛ وإنما فتحت له، لقوله: فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له فدخلها2. وفي حديث ابن عمر السابق من "صحيح مسلم" ما يقتضي أن النبي صلىالله عليه وسلم فتح الكعبة بنفسه في يوم الفتح لقوله فيه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدفعه إليه ففتح الباب. وفي الخبر السابق من تاريخ الأزرقي عن الواقدي ما يوافق ذلك، لقوله فيه: فلما ناوله إياه فتح الكعبة. وبوب المحب الطبري في "القرى" على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- المشار إليه بقوله: "ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح البيت بنفسه"... انتهى؛ ولكن في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق في "صحيح البخاري" ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأن فيه قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح له، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم... انتهى. وهذا يوافق ما ذكره ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وليس فيما ذكره ما يبين هل طال مكثه صلى الله عليه وسلم فيه أو قصر، ولا هل كان البيت مغلقا أو مفتوحا؟ ولا هل كان على الباب أحذ يذب الناس أم لا؟ فأما طول مكثه صلى الله عليه وسلم في البيت وإغلاق بابه في يوم الفتح ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق من "صحيح البخاري" ما يقتضي ذلك لقوله فيه: ثم أغلقوا عليهم الباب فمكث نهارا طويلا. وفي حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أيضا ما يدل لإغلاق الباب؛ لأن في "سنن النسائي" من حديثه، أنه دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر لإغلاقه الباب؛ لأن في "سنن النسائي" من حديثه، أنه دخل هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا -رضي الله عنه- فأجاف الباب3... انتهى باختصار. وحديث أسامة هذا يقتضي أن بلالا -رضي الله عنه- هو الذي أجاف الباب؛ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 226. 2 سيرة ابن هشام 4/ 46. 3 أخرجه النسائي في سننه 5/ 219. ج / 2 ص -179- وفي "صحيح مسلم" ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وحدثني حميد بن مسعدة قال: حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- قال: حدثنا عبد الله بن عوف، عن نافع، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى الكعبة، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأسامة -رضي الله عنهما، وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب قال كم فمكثوا فيه مليا1... انتهى باختصار. وقد سبق بكماله في "الباب التاسع"2 من هذا الكتاب، وهذا الحديث وإن تكلم الدارقطني في رواية مسلم له؛ فإنما ذلك لأن فيه منا يقتضي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- سأل بلالا وأسامة -رضي الله عنهم- عن موضوع صلاة النبي صلىالله عليه وسلم في الكعبة، قالوا هاهنا؛ وذلك يقتضي إثبات أسامة -رضي الله عنه- لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، في الكعبة يوم فتح مكة، وفي الصحيح عنه ما يخالف ذلك. والوهم في ذلك من ابن عون، والله أعلم. وقد أخرج النسائي حديث ابن عون عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث بن ابن عون3. وأما وقوف أحد على باب البيت والنبي صلى الله عليه وسلم داخلها يوم الفتح لذب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الواقدي ما يقتضيه؛ لأن في الخبر الذي سبق ذكره عنه في "تاريخ الأزرقي" بعد ذكر دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه: قالوا: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يذب الناس عن الباب، حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم4... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق ليس فيه بيان الموضع الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بعد طوافه بالبيت، ودخوله بالبيت، ودخوله إليه، وخروجه منه، وخطيته على بابه، لأنه قال بعد ذكره لذلك، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد5... انتهى. وهذا يقتضي أن يكون جلس في مؤخر المسجد أو في مقدمه، وقد أفاد في ذلك ابن عقبة ما لم يفده كلام ابن إسحاق مع أمور أخرى صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في هذا اليوم لم يذكرها ابن إسحاق؛ فنذكر كلام ابن عقبة لما فيه من الفائدة، ونص كلامه قال: فلما قضى صلى الله عليه وسلم طوافه، وأخرجت الراحلة: سجد سجدتين، ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: "لولا أن يغلب بنو عبد المطلب على سقايتهم لنزعت منها بيدي" ثم انصرف في ناحية المسجد قريبا من مقام إبراهيم، وكان زعموا المقام لاصقا بالكعبة، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسجل من زمزم، فشرب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه مسلم في صحيحه. 2 راجع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، حين الفتح، في الباب التاسع من كتاب الحج في صحيح مسلم. 3 أخرجه النسائي في سننه 6/ 52. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 266، 267. 5 السيرة لابن هشام 4/ 46. ج / 2 ص -180- وتوضأ، والمسلمون يتبادرون في وضوء ويصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون إليهم ويتعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط بلغ هذا ولا شبيها به... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية، لأنه قال: فقام إليه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة، مع السقاية صلى الله عليك وسلم1... انتهى. وذكر الواقدي ما يخالف ذلك لأن الأزرقي قال: وحدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه قالوا: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد، فجلس، وكان قد قبض السقاية من العباس -رضي الله عنه- وقبض المفتاح من عثمان بن طلحة -رضي الله عنه، فلما جلس بسط العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- يده فقال: بأبي وأمي يا رسول الله، أجمع لنا الحجابة، والسقاية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما ترزؤون فيه، ولا أعطيكم ما ترزؤون منه"2... انتهى باختصار من أول الخبر وآخره، وقد روينا عن ابن إسحاق في "تاريخ الأزرقي" ما يوافق ما ذكره الواقدي، وقد سبق ذلك في خبر ولاية قصي. ومنها: أن ابن إسحاق لم يذكر سببا لرد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة، ولا لأخذه منه، وقد ذكر الأزرقي ما يدل للأمرين؛ لأنه قال: وأخبرني جدي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج؟، عن مجاهد في قوله الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة -رضي الله عنه، حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، ودخل به الكعبة يوم الفتح، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينتزعها منكم إلا ظالم"3... انتهى باختصار. فهذا يبين سبب دفع المفتاح إلى عثمان -رضي الله عنه، وأما سبب أخذه فقال: الأزرقي فيه: وحدثني جدي، عن محمد بن إدريس، عن الواقدي، عن أشياخه، فذكر خبرا فيه ما سبق من خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت يوم الفتح والمفتاح في يده، وقول العباس -رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: أجمع لنا بين الحجابة والسقاية. وقول للعباس -رضي الله عنه: "أعطيكم ما ترزؤون عنه ولا أعطيكم ما ترزؤون منه" ثم قال: "ادع لي عثمان"، فقام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فقال: ادع لي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 42/ 48، والحديث أخرجه. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 2565. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 256. ج / 2 ص -181- عثمان؛ فقام عثمان بن طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن طلحة -رضي الله عنه- يوما وهو بمكة يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان -رضي الله عنه- المفتاح؛ فقال صلى الله عليه وسلم "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" فقال عثمان: لقد هلكت قريش إذا وذلت؛ فقالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل عمرت وعزت بومئذ يا عثمان" فقال عثمان -رضي الله عنه: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أخذه المفتاح، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم، وما كان قال لي، فأقبلت، فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر1... انتهى باختصار. فبان منها سبب رد النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأخذه منه في يوم الفتح. وذكر محمد بن سعيد -كاتب الواقدي- سبب أخذ المفتاح من عثمان -رضي الله عنه، وفيه ما يقتضي أن الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان من المقال كان عند إرادة النبي صلى الله عليه وسلم دخول البيت في الجاهلية، فيه فائدة أخرى ليست في الخبر الذي ذكره الواقدي، وهذا الخبر رويناه في "السيرة" للحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس اليعمري، فيما أخبرني به غير واحد من أشياخي عنه، ولفظه في السيرة المذكورة: وروينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه، ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: "يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل عمرت وعزت يومئذ"، ودخل الكعبة؛ فوقعت كلمته صلى الله عليه وسلم مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له يوم الفتح: "يا عثمان ائتني بالمفتاح"؛ فأتيته به، فأخذه مني، ثم دفعه إلي وقال: "خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إنا الله استأمنكم على بيته؛ فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف"، قال عثمان: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم يكن إلى ما قلته لك؟" قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت؛ فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله2. ومنها: أن ابن هشام ذكر ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، وفيه الصور؛ لأنه قال: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل إلى البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم3، إلى آخر كلامه السابق، وروينا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يقتضي خلاف ذلك؛ لأن البخاري قال فيما رويناه عنه: حدثني إسحاق قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أيوب عن عكرمة عن أبن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 267. 2 عيون الأثر 2/ 178، 179. 3 السيرة لابن هشام 4/ 48. ج / 2 ص -182- وفيه الآلهة، فأمر بها فاخرجت وأخرجت صورة إبراهيم وإسماعيل، وفي أيديهما الأزلام؛ فقال: "قاتلهم الله، لقد علموا أنهما ما استقسما بها قط"، ثم دخل فكبر في نواحي البيت، وخرج ولم يصل، تابعه معمر عن أيوب، قال وهب: حدثني أيوب عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم1. ومنها: أن ابن هشام ذكر ما يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأنه صلى فيها على ما روى ابن عمر عن بلال -رضي الله عنهم- ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيها لما دخلها يوم الفتح، وقد سبق ذلك في الباب التاسع من هذا الكتاب، مع ما قيل من ترجيح رواية بلال -رضي الله عنه- على رواية من خالفه؛ لكونه أثبت ما لم يثبته غيره، وما قيل من الجمع بين هذا الاختلاف ما فيه كفاية فأغنى عن إعادته هنا، والله أعلم. ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن أبا سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام حين أذن بلال يوم الفتح كانوا جلوسا بفناء الكعبة لقوله: وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة2. ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أبي سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، فأخبرهم بما قالوا حين سمعوا أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة؛ لأن في خبر ابن هشام: فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "قد علمت الذي قلتم"، ثم ذكر ذلك لهم3. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن أبا سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو حين أذن بلال -رضي الله عنه- فوق الكعبة يوم الفتح، كانوا جلوسا في الحجر، ويقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقولهم وهو بالصفا، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم واستدعاهم إليه؛ فلما حضروا إليه أخبرهم بما قالوا؛ وذلك يخالف ما ذكره ابن هشام في موضع جلوس من سمع أذان بلال، ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ونص الخبر الذي ذكره الفاكهي: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، ثم خرج يسعى بين الصفا والمروة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه البخاري "4288". 2 السيرة لابن هشام 2/ 49. 3 السيرة لابن هشام 22/ 49. ج / 2 ص -183- عمرو مختبئون في الحجر، فرقي بلال على ظهر الكعبة فأذن بالصلاة ففزع الصبيان، وخرج النساء، وسمعوا شيئا هالهم؛ فقال صفوان بن أمية: لو أن لهذا العبد أحدا. وقال عتاب بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أسيدا أن لا يرى هذا اليوم، وما أسيد قبل ذلك بيسير. قال: وقال سهيل بن عمرو: إنك ظان هذا لغير الله فسيغير، وإن كان من الله ليمضينه. قال: وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لظننت هذا الحصى ستخبر عني قال: فأوحى الله -تعالى- إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم -وهو على الصفا يدعو- فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرهط" فلانا، وفلانا، وفلانا، هم في الحجر، قال ذلك لرج من الأنصار؛ فقال الأنصاري: أنا لا أعرفهم يا رسول الله، فابعث معنا من يعرفهم من المهاجرين، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يذكر العهد الذي كان له، ويخاف العذاب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفوان: "قلت كذا وكذا" الكلام الذي قال: وقال لعتاب: قال: فعرفهم بالذي قالوا؛ فحسن إسلام عتاب بن أسيد، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وفزع أبو سفيان، وكاد أن يقع، فقال أبو سفيان، أما أن فأسلمت، فأسلم يومئذ، فحسن إسلامه1... انتهى. وهذا الخبر يقتضي أن صفوان بن أمية -رضي الله عنه- كان جالسا بالحجر يوم فتح مكة، وسمع أذان بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة يوم الفتح، وهذا لا يصح؛ لأن صفوان فر إلى جدة ليركب منها البحر، ولم يرجع إلى مكة إلا بعد أن استأمن له عمير بن وهب وابن عمه، وذهاب عمير إليه بأمان النبي صلى الله عليه وسلم له، ورجوعه مع عمير إلى مكة لا يكون في يوم واحد. وفي "مغازي" ابن عقبة ما يقتضي أن صفوان سأل عميرا حين جاءه، وأخبره بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم: أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبتأمينه من النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يعرفه، وأن عميرا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول صفوان، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم برد حبرة كان معتجرا به حين دخل مكة، فذاهب عيمر إلى صفوان، فاطمأنت نفسه، وأقبل مع عمير حتى دخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم... انتهى بالمعنى. ومثل هذا لا يكون يوم ولا في نصف يوم؛ فإن مقتضى الخبر الذي ذكره الفاكهي على تقدير صحة كون صفوان في الحجر حين سمع أذان بلال على الكعبة، أن يكون ذهاب عمير إلى صفوان ومجيئه معه في نصف يوم؛ لأن صفوان لم يقل ما قال إلا حين سمع أذان بلال -رضي الله عنه- للظهر على الكعبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 222. ج / 2 ص -184- وذكر الأزرقي خبر أذان بلال -رضي الله عنه- على ظهر الكعبة في يوم الفتح، وفيه ما يخالف بعض ما ذكره الفاكهي فيه، وفيه ما يخالف ما ذكره ابن هشام في كون عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- قال شيئا في أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة. وفيه ما يوافق ما ذكره ابن هشام في كون النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي سفيان، ومن معه فأخبرهم بقولهم في أذان بلال -رضي الله عنه؛ وذلك يخالف ما ذكره الفاكهي من أن النبي صلى الله عليه وسلم استدعاهم إلى الصفا، وأخبرهم بما قالوا. وفي الخبر الذي ذكره الأزرقي في أذان بلال -رضي الله عنه- غير ما في الخبر الذي ذكره الفاكهي، فنذكره لما في ذلك من الفائدة، ولفظه: وأخبرني جدي، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن الواقدي، عن أشياخه قال: وحانت1 الظهر يوم الفتح؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة، وقريش فوق رءوس الجبال، وقد اصفرت وجوههم، وتغيبوا خوفا من أن يقتلوا، ومنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أمن، وأذن بلال، ورفع صوته كأشد مايكون؛ فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، تقول جويرة بنتأ[ي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك، أما الصلاة فسنصلي، ووالله ما نحب من قتل الأحبة أبدا، ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمد من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، وكان أسيد مات قبل الفتح بيوم، وقال الحارث بن هشام: واثكلاه، ليتني مت قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل، أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيت أبي طلحة، وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطا لله تعالى فيستغيرهالله تعالى، وقال: أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئا؛ لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصى. فأتى جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم؛ فأقبل صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فقال: "أما أنت يا فلان فقلت: كذا، وأما أنت يا فلان فقلت: كذا"؛ فقال أبو سفيان: أما أن يا رسول الله فما قلت شيئا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم2... انتهى باختصار. وفي الخبر من المخالفة لما ذكره الفاكهي وابن هشام ما فيه؛ منه أن "خالد بن أسيد" هو القائل لما سمع أذان بلال -رضي الله عنه- على الكعبة: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم، الخبر الذي ذكره ابن هشام والفاكهي يقتضي أن قائل ذلك عتاب بن أسيد، أخو خالد بن أسيد، وهو الذي أسلم عام الفتح3، على ما ذكر عبد البر4، وهو معدود في المؤلفة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في أخبار مكة للأزرقي 1/: "جاءت". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 274، 275. 3 السيرة لابن هشام 4/ 49. 4 الاستيعاب 3/ 153، 154. ج / 2 ص -185- قلوبهم1، وذكر في ترجمة أخيه عتاب ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: وأما خالد بن أسيد، فذكر محمد بن إسحاق السراج، قال: سمعت عبد العزيز بن معاوية، من ولد عتاب بن أسيد -ونسبه إلى عتاب بن أسيد- يقول: مات خالد بن أسيد، وهو أخو عتاب بن أسيد لأبيه وأمه، يوم فتح مكة، قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة... انتهى. ومنها: أن كلام ابن إسحاق يقتضي أن أبا شريح الخزاعي ذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم الفتح لعمرو بن الزبير بن العوام، لما قدم لقتال أخيه عبد الله بمكة؛ لأنه قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي قال: لما قدم عمرو بن الزبير مكة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير جئته... انتهى. وهذا وهم من ابن هشام على ما ذكر السهيلي2، قال: وصوابه عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وهو الأشدق، ثم قال عند استدلاله على ذلك: فالصواب إذا عمرو بن سعيد، لا عمرو بن الزبير، وكذا رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وهكذا وقع في الصحيحين، ذكر هذا التنبيه على ابن هشام: أبو عمرو -رحمه الله- في كتاب "الأجوبة عن المسائل المستغربة"، وهي مسائل من كتاب "الجامع" للبخاري، تكلم عليها في ذلك الكتاب؛ وإنما دخل الوهم على ابن هشام أو على البكائي في روايته، من أجل أن عمرو بن الزوبر كان معاديا لأخيه عبد الله، ومعينا لبني أمية عليه في تلك الفتنة، والله أعلم... انتهى.؟ ومنها: أن كلام ابن هشام يقتضي أن فضالة بن عمير الليثي هو القائل للأبيات التي أولها: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام3 وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن قائل ذلك غير فضالة؛ لأنه قال: حدثني حسن بن حسين قال: حدثنا محمد بن أبي السري، عن هشام بن الكلبي، عن أبي عوانة، قال: لما افتتح رسول الله صلى اللهعليه وسلم مكة، أشار إلى الأصنام فخرت لوجهها؛ فقال في ذلك رجل يقال له: راشد أبياتا، قال أبو سعيد: هو راشد بن عبد ربه السلمي: قالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا يأبى علي الله والإسلام لو ما شهدت محمدا، وقبيله بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى ساطعا والشرك يغشى وجهه الإظلام4 ... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الاستيعاب 2/ 410. 2 الروض الأنف 4/ 115. 3 السيرة لابن هشام 4/ 35، وعيون الأثر 2/ 242. 4 أخبار مكة للفاكهي 5/ 223. ج / 2 ص -186- وذكر الفاكهي في موضع آخر قبل هذا بيسير، ما يقتضي أن هذه الأبيات لفضالة الليثي، كما هو مقتضى كلام ابن إسحاق، ونص ما ذكره الفاكهي في ذلك: وقال فضالة بن عمير بن الملوح الليثي يذكر كسر الأصنام يومئذ: لو ما رأيت محمدا وجنوده بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أصبح بينا والشرك يغشى وجهه الإظلام1 ومنها: أن ابن إسحاق ذكر أن عدد من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، بعض القبائل التي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه في هذا الموطن: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف2، ثم فصلهم. وذكر موسى بن عقبة ما يخالف ما ذكره ابن إسحاق في عدد المسلمين يوم الفتح؛ لأنه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال: في اثني عشر ألفا. ونقل مغلطاي في "سيرته" عن الحاكم ما يوافق ما ذكره ابن عقبة جزما؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه: وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف رجل، وقال الحاكم: اثني عشر... انتهى. وذكر الفاكهي عن سعيد بن المسيب ما يوافق ما ذكره ابن عقبة، في عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لفتح مكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى هذا الخبر قريبا في محل يناسبه. ومنها: أن ابن إسحاق ذكر في عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من مزينة في فتح مكة، أنهم ألف وثلاثة نفر3، وذكر ابن عقبة ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: ويقال: كان معه يوم حنين من مزينة ألف رجل وثمانية نفر... انتهى. ويبعد أن يقال: محمل كلام ابن إسحاق على من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفتح، وكلام ابن عقبة على من كان معه في حنين؛ لأن الذين كانوا في حنين هم الذين كانوا في الفتح؛ والله أعلم. ولعل الثمانية في قول ابن عقبة مصحفة بدل ثلاثة؛ فإن ذلك متقارب في النسبة، والله أعلم. ومنا: أن ابن إسحاق لم يذكر جهينة في القبائل الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وذكرهم ابن عقبة فيهم؛ لأنه قال بعد قوله: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يقال- في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، ومن طوائف العرب، من أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، ومن بني سليم، وقادوا الخيل... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 223. 2 السيرة لابن هشام 4/ 56. 3 السيرة لابن هشام 4/ 56. ج / 2 ص -187- ومنها: أن كلام ابن إسحاق ليس فيه بيان لعدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين في فتح مكة. وذكر الفاكهي خبرا يبين ذلك؛ لأنه قال في "أخبار مكة": حدثنا حسين، حدثنا الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت ابن المسيب يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة بثمانية آلاف أو عشرة آلاف، ومن أهل مكة بألفين1... انتهى. وهذا هو الخبر الذي أشرنا آنفا أن الفاكهي ذكره، والله أعلم ليلة يقصر الصلاة2... انتهى. وقد حدث الحافظ علاء الدين مغلطاي في "سيرته" عن الخلاف في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها، ما لم أر مثله مجموعا في غير "سيرته"، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة؛ لأنه قال فيما أخبرت به عنه، بعد أن ذكر خبر فتح مكة، قال: قال البخاري: وأقام بها خمس عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة، وفي أبي داود: سبع عشرة، وفي "الترمذي" ثمان عشرة، وفي "الإكليل": أصحها بضع عشرة، يصلي ركعتين... انتهى. ورأيت أنا في ذلك غير ما ذكره ابن إسحاق ومغلطاي، وذللاك في كتاب الفاكهي، ونذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص ما ذكره الفاكهي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا إسماعيل بن علية، عن يحيى بن إسحاق قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن قصر الصلاة، فقال: سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة؛ فصلى بنا ركعتين حتى وصلنا؛ فسألته: هل أقام؟ قال: نعم أقمنا بمكة عشرا -يعني زمان الفتح3... انتهى. والذي نقله مغلطاي عن "الإكليل" هو في "مغازي" موسى بن عقبة؛ لأنه قال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بضع عشر ليلة... انتهى. وقد بينا فيما يتعلق بخبر الفتح الذي ذكره ابن إسحاق، وابن هشام، فوائد كثيرة، لا يوجد مجموعها في كتاب. وتتعلق بخبر الفتح المشار إليه مسائل كثيرة من الفقه واللغة العربية، تركنا ذكرها؛ لكونها غير مقصودة بالذكر في هذا التأليف، وخيفة من التطويل، ونسأله الله تعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 2323. 2 السيرة لابن هشام 4/ 70. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 224. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 2 ص -188- الباب السابع والثلاثون: في ذكر شيء من ولاة مكة المشرفة في الإسلام: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، استخلف عليها عتاب بن أسيد -بفتح الهمزة- ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي، عند مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين1 في العشر الأوسط من شوال سنة ثمان من الهجرة؛ لأن ابن إسحاق، قال لما ذكر غزوة حنين: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، على مكة، أمير على من تخلف عنه من الناس2... انتهى. وذكر ابن عقبة ما يوهم خلاف ما ذكره ابن إسحاق في تأميره عتابا -رضي الله عنه؛ لأنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى حنين استخلف معاذ بن جبل الأنصاري، ثم السلمي -رضي الله عنه- على أهل مكة، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين، ثم قال: ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائدا إلى المدينة، وخلف معاذ بن جبل -رضي الله عنه- في أهل مكة... انتهى. وذكر أبو عمر بن عبد البر عن الطبري ما يوهم خلاف ذلك أيضا؛ لأنه قال: هبيرة شبل بن العجلان بن عتاب الثقفي، هو أول من صلى بمكة جماعة بعد الفتح؛ أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكان إسلامه بالحديبية واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة؛ إذ سار إلى الطائف فيما ذكره الطبري3... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 حنين: واد قريب من مكة معروف إلى الآن بهذا الاسم، ومن وادي حنين تأتي عين زبيدة إلى مكة؛ لأن المياه تجتمع فيه لانخفاضه وإحاطة الجبال به. 2 السيرة لابن هشام 4/ 74. 3 الاستيعاب 3/ 615، 616. ج / 2 ص -189- وذكر ابن ماكولا نحو ما ذكره ابن عبد البير، وعزاه إلى الكلبي1. وذكر ابن عبد البر ما يوافق ما ذكره ابن إسحاق في ترجمة عتاب -رضي الله عنه. وما ذكره ابن إسحاق، في تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة هو المعروف؛ لكون جماعة من أهل الأخبار ذكروا ذلك، وسيأتي ذلك عن بعضهم2. وسبق ما يدل لذلك في باب فضل أهل مكة وهو الباب السادس. وذكر مغلطاي ما يوضح تاريخ تأميره صلى الله عليه وسلم لعتاب على مكة، أكثر مما سبق؛ لأنه قال في "سيرته": ثم خرج صلى الله عليه وسلم لست ليال خلون من شوال، ويقال: لليلتين بقيتا من رمضان إلى حنين... انتهى. وأفاد السهيلي شيئا يستغرق في سبب تولية النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة؛ لأنه قال: وقال أهل التعبير: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أسيد بن أبي العيص واليا على مكة مسلما، فمات على الكفر، وكانت الرؤيا لولدة عتاب حين أسلم، فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وهو ابن أحد وعشرين سنة... انتهى. وذكر الأزرقي ما يوهم أن لتولية النبي صلى الله عليه وسلم عتابا -رضي الله عنه- على مكة سببا غير السبب الذي ذكر السهيلي؛ لأنه قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد المكي قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد رأيت أسيدا في الجنة وأنى يدخل أسيد الجنة"؛ فعرض له عتاب بن أسيد فقال: "هذا الذي رأيت، ادعوه لي" فدعى له، فاستعلمه صلى الله عليه وسلم يومئذ على مكة، ثم قال لعتاب: "أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوص بهم خيرا، يقولها ثلاثا"3... انتهى. ويمكن أن يجمع بين ما قال ابن إسحاق وغيره، من تأمير النبي صلى الله عليه وسلم لعتاب -رضي الله عنه- على مكة، وبين ما ذكره عقبة والطبري، بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل عتابا -رضي الله عنه- أمير مكة، ومعاذ -رضي الله عنه- في الإمامة "هبيرة" المذكور، ولا يعارض ذلك ما قيل في ترجمة هبيرة -رضي الله عنه- من أنه أول من صلى بمكة جماعة بعد الفتح، لإمكان أن يكون حان وقت الصلاة وهبيرة حاضر من الناس، ومعاذ -رضي الله عنه- غير حاضر، لشغل عرض له، فبادر هبيرة -رضي الله عنه- فصلى بالناس، لتحصيل فضيلة أول الوقت، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الإكمال لابن ماكولا 5/ 25. 2 الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار "ص: 333". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 151، وأبو يعلى 1/ 185، والإصابة 4/ 430، والبيهقي في السنن 5/ 339. ج / 2 ص -190- ويحتمل أن هبيرة -رضي الله عنه- كان يصلي بالناس قبل معاذ -رضي الله عنه، ثم يصلي معاذ بمن لم يدرك الصلاة خلف هبيرة والله أعلم. وأهل أولى من جعل الأخبار متعارضة في ولاية عتاب. وكان من أمره في ولاية مكة ما ذكره الزبير بن بكار؛ لأنه قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب عامله على مكة... انتهى. وذكر ابن عبد البر ما ذكره الزبير، وزاد عليه في مدة ولايته؛ لأنه قال: أسلم يوم فتح مكة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة يوم الفتح، في حين خروجه إلى حنين؛ فأقام للناس الحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان. وحج المشركون على ما كانوا عليه. ثم قال: فلم يزل عتاب أمير على مكة، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر -رضي الله عنه؛ فلم يزل عليها إلى أن مات، وكانت وفاته فيما ذكر الواقدي يوم مات أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وقال محمد بن سلام وغيره: جاء نعي أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى مكة يوم دفن عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- بها... انتهى. وذكر ابن عبد البر ما يخالف ما ذكره في ولاية عتاب على مكة، في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنه قال في ترجمة الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هشام بن عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي الهاشمي، بعد أن ذكر شيئا من حاله عن مصعب الزبيري، والواقدي، وقال غيرهما: ولي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الحارث بن نوفل -رضي الله عنه- مكة، ثم انتقل إلى البصرة من المدينة1... انتهى باختصار. ورأيت في "مختصر تاريخ ابن جرير" أن عتاب بن أسيد كان على مكة في سنة أربع عشرة2، وخمس عشرة3، وست عشرة4، وسبع عشرة5، وثمان عشرة6، وتسع عشرة، وكل ذلك وهم، ذكرناه للتنبيه عليه، والله أعلم. ورأيت في "تاريخ ابن الأثير" ما يقتضي أنه كان على مكة في سنة أربع عشرة7، وخمس عشرة8، وكل ذلك وهم ذكرناه للتنبيه عليه، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الاستيعاب 3/ 397. 2 تاريخ الطبري 3/ 597، إتحاف الورى 2/ 5، البداية والنهاية 2/ 207. 3 تاريخ الطبري 3/ 623، إتحاف الورى 2/ 6. 4 تاريخ الطبري 4/ 94، إتحاف الورى 2/ 6. 5 تاريخ الطبري 4/ 94، إتحاف الورى 2/ 9. 6 تاريخ الطبري 4/ 160، إتحاف الورى 2/ 10، البداية والنهاية 2/ 238. 7 الكامل لابن الأثير 2/ 489. 8 الكامل لابن الأثير 2/ 508. ج / 2 ص -191- وممن ولي مكة في خلافة الصديق -رضي الله عنه: المحرز بن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، في سفرة سافرها عتاب، على ما ذكر ابن عبد البر1 رحمه الله. ثم وليها المحرز المذكور لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه، في أول ولاية عمر -رضي الله عنه، على ما ذكر ابن عبد البر أيضا، وذكر ابن حزم ولايته على مكة لعمر رضي الله عنه. وذكر الزبير بن بكار ولايته على مكة بعد عتاب -رضي الله عنه. ثم ولي مكة في خلافة عمر -رضي الله عنه: قنفذ بن عمير بن جدعان التيمي، بعد عزل المحرز، على ما ذكر ابن عبد البر2. ثم وليها نافع بن عبد الحارث الخزاعي، بعد عزل قنفذ، على ما ذكر ابن عبد البر أيضا3. ثم وليها لعمر -رضي الله عنه: خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي بعد عزل نافع. ورأيت في "الكامل" لابن الأثير ما يقتضي أن نافع بن عبد الحارث كان على مكة في سنة ثلاث وعشرين4، ولا أدري هل هذه السنة أول ولايته بمكة؟ ولا متى انقضت ولايته عنها، والله أعلم. وممن ولي مكة في خلافة عمر -رضي الله عنه: طارق بن المرتفع5 بن الحارث بن عبد مناة، على ما ذكره الفاكهي؛ وعبد الرحمن بن أبزي الخزاعي6 مولى خزاعة، نيابة عن مولاة نافع بن عبد الحارث، لما لقي نافع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعسفان7، وأنكر عمر -رضي الله عنه: إنه قارئ، لكتاب الله، عالم بالفرائض، وفي رواية: أن نافعا قال لعمر -رضي الله عنه- لما أنكر عليه استخلافه عليه استخلافه ابن أبزى هذا على أهل مكة: إني وجدته أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بدين الله تعالى، ولذلك سكن غيظ عمر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الاستيعاب 3/ 483. 2 جمهرة أنساب العرب "ص: 78". 3 الاستيعاب 3/ 280، وأخبار مكة للفاكهي 3/ 164. 4 الكامل لابن الأثير 3/ 77، وإتحاف الورى 2/ 131. 5 يجعل المؤرخون قبله: أحمد بن خالد بن العاص "ص: 82". الرحلة الحجازية، وكما ذكر هنا. 6 تاريخ الخليفة "ص: 153". 7 عسفان: ماء في طريق مكة المدينة بعد مر الظهران، ويعرف بهذا الاسم إلى الآن. ج / 2 ص -192- -رضي الله عنه- على نافع، وخبر توليته لابن أبزى، وما كان ببنه وبين عمر من المقال المشار إليه مذكور في تاريخ الأزرقي وغيره1. وممن ولي مكة لعمر -رضي الله عنه- على ما قيل: الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب القرشي الهاشمي المقدم ذكره؛ لأنا الزبير، قال في ترجمته: وذكر أن أبا بكر -رضي الله عنهما- استعمله على مكة2... انتهى. ورأيت في "تاريخ الإسلام" للذهبي ما يقتضي الجزم بولاية الحارث هذا على مكة لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما؛ لأنه قال في ترجمته: له صحبة، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض صدقات مكة، وبعض أعمال مكة، ثم استعمله أبو بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم- على مكة1... انتهى، والله أعلم بالصواب. ثم ولي مكة: علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي؛ ولاه عليها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حين ولي الخلافة، على ما ذكر ابن عبد البر3. وذكر ابن حزم ولايته على مكة لعثمان -رضي الله عنه، ولم يقل كما قال ابن عبد البر أنه ولاه مكة حين ولي الخلافة، ثم ولي مكة خالد بن العاص المخزومي المقدم ذكره لعثمان أيضا، على ما ذكره ابن عبد البر، ذكر ما يقتضي أنه أقام على ولاية مكة إلى أن عزله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وسيأتي هذا قريبا. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه: الحارث بن نوفل السابق ذكره، كما ذكره الذهبي. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه- فيما ذكر الفاكهي: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي ابن أخي عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- المقدم ذكره4. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه: عبد الله بن عامر الحضرمي على ما ذكره ابن الأثير5، وذكر أنه كان عامل عثمان -رضي الله عنه- على مكة في سنة خمس وثلاثين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تاريخ الإسلام 2/ 26. 2 الاستيعاب 1/ 297، وفيه يذكر عبد البر ولاية الحارث بن نوفل في عهد أبي بكر فقط. 3 الاستيعاب 2/ 26. 4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 164. 5 ابن الأثير 3/ 207، إتحاف الورى 2/ 23. ج / 2 ص -193- وذكر في أخبار هذه السنة ما يشعر أنه كان على مكة وقت قتل عثمان -رضي الله عنه؛ لأنه ذكر أن عائشة -رضي الله عنها، لما توجهت من مكة عبد الحج في هذ السنة، بلغها قتل عثمان -رضي الله عنه، فرجعت إلى مكة وحرضت على الطلب بدمه؛ فقال لها عبد الله بن عامر العامري الحضرمي، وكان عامل عثمان -رضي الله عنه- على مكة: ها أنذا أول طالب؛ فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك... انتهى بالمعنى، وهذا يشعر بخلاف ما ذكره ابن عبد البر من أن خالد بن العاص لم يزل على مكة إل أن عزله علي -رضي الله عنه- في أول خلافته. وممن ولي مكة لعثمان -رضي الله عنه- على ما قيل: نافع بن عبد الحارث الخزاعي السابق ذكره؛ لأن الزبير ذكر أنه كان على مكة في سنة ثلاث وعشرين عاملا لعمر -رضي الله عنه، وأن عمر -رضي الله عنه- لما طعن في هذه السنة أوصى أن تقر عماله سنة، فأقر عثمان -رضي الله عنه- عمال عمر -رضي الله عنه- سنة على ما قيل؛ فعلى هذا يكون نافع عاملا على مكة لعثمان -رضي الله عنه، والله أعلم. ثم ولي مكة في خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحارث بن ربعي، وقيل: النعمان بن ربعي، وقيل غير ذلك. ثم قثم العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، بعد عزل أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، على ما ذكر ابن عبد البر1؛ لأنه قال في ترجمة قثم هذا: وكان قثم بن العباس واليا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على مكة، وذلك أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما ولي الخلافة، عزل خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي عن مكة، وولاها أبا قتادة الأنصاري -رضي الله عنه، ثم عزله وولي قثم بن العباس -رضي الله عنهما، فلم يزل واليا عليها حتى قتل على بن أبي طالب -رضي الله عنه، هذا قول خليفة2... انتهى. وذكر ابن الأثير ما يوافق ما ذكره خليفة في ولاية قثم -رضي الله عنه- لمكة، في خلافة علي -رضي الله عنه، وذكر ما يقتضي أن ولايته في سنة ست وثلاثين، وأنه ولي مع مكة الطائف، وما اتصل بمكة3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الاستيعاب 3/ 275، إتحاف الورى 2/ 28. 2 تاريخ خليفة: "ص: 201". 3 أسد الغابة 1/ 213، تهذيب الأسماء للنووي 2/ 59، سير أعلام النبلاء 3/ 292، والإصابة 3/ 219، جمهرة أنساب العرب "ص: 18". ج / 2 ص -194- وممن ولي مكة لعلي -رضي الله عنه، على ما قيل: معبد بن العباس بن العباس بن عبد المطلب أخو قثم السابق؛ ذكر ذلك ابن حزم في "الجمهرة"1؛ لأنه قال لما ذكر أولاد العباس: ومعبد ولي مكة لعلي -رضي الله عنه- وقال قبل ذلك: وقثم ولي المدينة لعلي؛ وما ذكره ابن حزم في بيان معبد يخالف ما ذكره خليفة، وأما ما ذكره في شأن قثم فلا؛ لإمكان أن يكون علي -رضي الله عنه- جمع لقثم بين ولاية المدينة ومكة. ويصح تعريفه بأنه ولي المدينة، والله أعلم. ورأيت في نسخه من "الثقات" لابن حبان ما صورته: قتادة بن ربعي له صحبة، كان عمل علي -رضي الله عنه- بمكة... انتهى، وهذا -والله أعلم- أبو قتادة السابق ====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...