65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج9.شفاء الغرام

 حدثني جدي قال: أخبرنا الزنجي، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي خراش، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم المقبرة هذه، مقبرة أهل المدينة"3. وبه إلى الأزرقي قال: أخبرني جدي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن الوليد بن هشام، عن يحيى بن محمد بن عبد الله بن صيفي، أنه قال: من قبر في هذه المقبرة بعث آمنا يوم القيامة يعني مقبرة مكة4... انتهى. قلت حديث ابن عباس رضي الله عنهما رويناه أعلى من هذا في "معجم الطبراني الكبير"5. ورواه أحمد والبزار في مسنديهما، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا ابن أبي خراش، ولم يضعفه أحمد6. وقال الجندي فيما رويناه عنه في "فضائل مكة" له: حدثنا عبد الله بن أبي غسان قال: حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمري، عن شقيق بن سلمة بن وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية -ثنية المقبرة- وليس بها ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مقبرة أهل مكة، وبها قبور كثير من الصحابة. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 208. 3 أخرجه أحمد 1/ 367، الطبراني في الكبير 11/ 137، عبد الرزاق 3/ 579، البخاري في التاريخ 1/284، الفاكهي في أخبار مكة 4/ 50. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 209. 5 المعجم الكبير للطبراني 11/ 137 رقم "11282". 6 مسند أحمد "1/ 367". ج / 1 ص -375- يومئذ مقبرة فقال: "يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا، يدخلون الجنة بغير حساب، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا، وجوههم كالقمر ليلة البدر". فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يا رسول الله من هم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "الغرباء"1... انتهى هذا الإسناد، وفيه سقطٌ بين عبد الرحيم وشقيق. ومما ورد في فضل هذه المقبرة: ما وجدته بخط عبد الله بن المرجاني في "تاريخه للمدينة" قال: سمعت والدي يقول: سمعت الشيخ أبا عبد الله الدلاصي يقول: سمعت الشيخ أبا محمد الدبشي يقول: كشف لي عن أهل المعلاة، فقلت: أتجدون نفعا بما يُهدَى إليكم من قراءة أو نحوها؟ فقالوا: ليس نحن محتاجين إلى ذلك، قال: فقلت لهم: ما منكم أحد واقف الحال؟ قالوا: ما يقف حال أحد في هذا المكان... انتهى. ومن ذلك ما رويناه في "تاريخ ابن السمعاني" الحافظ أبي سعد في ترجمة أبي نصر محمد بن إبراهيم بن الفخار الأصبهاني، لأنه ذكر: أن أبا زكريا بن منده الحافظ سمع محمد بن منصور بن عليك التاجر، قال: سمعت من ثقات المجاورين بمكة، قالوا: سمعنا أبا نصر محمد بن إبراهيم بن الفخار الأصبهاني بمكة يحدث أنه رأى في المنام كأن إنسانا مدفونا بمقبرة المعلاة استخرج، ومروا به إلى موضع آخر، قال: فسألت عن حاله لم استخرجتم هذا الميت؟ قالوا: هذه المقبرة منزهة عن قبول أهل البدعة، فلا تقبل أرضها مبتدعا... انتهى، وهذا إن صح فيستخرج منها من دفن فيها من أهل البدعة. ويقرب من هذه الحكاية ما يحكى: أن شخصا يقال له "الشريشير" من كبار الرافضة بالمدينة المنورة، توفي بها ودفن بالبقيع، ثم بعد مدة رؤي بعض أهل الخير الغرباء يقرأ على قبره ويلازم القراءة عليه، فليم على ذلك، فقال لهم: كان لي شيخ توفي بغير المدينة فرأيته في المنام، فقال لي: أنا نقلت إلى قبر الشريشير بالمدينة، ونقل الشريشير إلى قبري، فأنا ألازم القراءة على هذا القبر لهذا المعنى. هذا معنى الحكاية، وهي مشهورة عند أهل المدينة وغيرهم، والله أعلم. ومن ذلك: ما سمعته من شيخنا المفتي تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الخير الشريف الفاسي قال: سمعت الشيخ خليل المالكي يقول: إن الدعاء يستجاب عند ثلاثة أماكن بالمعلاة، منها القبور التي يقال لها: قبور سماسرة الخير بقرب قبة الملك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الديلمي كما جاء في كنز العمال 12/ 262، وما تفرد به الديلمي ضعيف، والهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 13 وعزاه للطبراني في الكبير. ج / 1 ص -376- المسعود، وعند قبر المتبولي، وعند قبر إمام الحرمين يعني به عبد المحسن بن أبي العميد الحقيقي إمام مقام إبراهيم... انتهى بالمعنى. وزيارة هذه المقبرة مستحبة، لما حوته من سادات الصحابة والتابعين وكبار العلماء والصالحين ولا يعرف فيها تحقيقا قبر أحد من الصحابة، وليس في القبر الذي يقال له قبر خديجة بنت خويلد1 أثر يعتمد، والله أعلم. ومن مقابر مكة المباركة: المقبرة العليا، وقد ذكرها الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عند بالسند المتقدم: أخبرني جدي، عن الزنجي قال: وكان يدفن في المقبرة التي عند ثنية أذاخر آل أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وفيها دفن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومات بمكة في سنة أربع وسبعين، وقد أتت له أربع وثمانون سنة، وكان نازلا على عبد الله بن خالد بن أسيد في داره، وكان صديقا له، فلما حضرته الوفاة أوصاه أن لا يصلي عليه الحجاج، وكان الحجاج بمكة واليا بعد مقتل ابن الزبير فصلى عليه عبد الله بن خالد بن أسيد ليلا على ردم عبد الله، على2 باب دارهم، ودفنه في مقبرته هذه عند ثنية أذاخر بحائط خرمان، ويدفن في هذه المقبرة مع آل أسيد أل سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهم يدفنون فيها جميعا إلي اليوم3... انتهى. وقال الأزرقي في موضع آخر: كان أهل مكة يدفنون موتاهم في جنبتي الوادي يمنة وشأمة في الجاهلية وفي صدر الإسلام، ثم حول الناس قبورهم في الشعب الأيسر، لما جاء فيه من الرواية، ثم قال: ففيه اليوم قبور أهل مكة إلا آل عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن عبد شمس، وآل سفان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فهم يدفنون بالمقبرة العليا بحائط خرمان4... انتهى. قلت: حائط خرمان هو والله أعلم الموضع الذي يقال له: الخرمانية، وهو أودان بأعلى الموضع المعروف بالمعابدة بظاهر مكة، وثنية أذاخر فوق هذا المكان، وهي ثنية مشهورة، وكانت تنتهي المقبرة إليها في الجاهلية، ومنها دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، على ما ذكر الأزرقي وغيره، وما نقله الإمام الأزرقي عن جده عن الزنجي من أن عبد الله بن عمر مدفون في هذه المقبرة5، يرد ما يقال إنه مدفون بالجبل الذي عند باب المعلاة، على يسار الهابط إلى مكة ويمين الصاعد منها، ولا أعلم لما يقال من أن ابن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الصحيح أنها مدفونة بالأبواء بين المدينةومكة على نحو 13 ميلا من رابغ. 2 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 209. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 209، 210. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 211. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 210. ج / 1 ص -377- عمر رضي الله عنهما مدفون في هذا الجبل دليلا، وهو بعيد من الصواب، والله أعلم. ومنها: المقبرة المعروفة بمقبرة المهاجرين بالحصحاص1، رويناه بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: الحصحاص: الجبل المشرف على ظهر ذي طوي، إلى بطن مكة2. قال: وبطن ذي طول ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء، يهبط إلى قبور المهاجرين دون فخ3... انتهى. قلت: مقتضى هذا أن يكون مقبرة المهاجرين عند الثنية التي يتوجه منها إلى المعلاة، وتسميها الناس الحجون الأول، والله أعلم. وذكر سليمان بن خليل ما يقتضي أن الحصحاص عند الجبل الذي تسميه أهل مكة البكاء، وهو معروف بطريق العمرة، لأنه قال لما تكلم على الإحرام من التنعيم: قال الفاكهي في كتابه: في طريق هذه العمرة أيضا جبل يسمى المقلع قال: والمقلع جبل الذي بأسفل الحصحاص، بين يديه حجارة كثيرة يقال إنه بكى على النبي حين هاجر إلى المدينة، وتسميه أهل مكة اليوم الجبل البكاء... انتهى. وفخ: هو وادي الزاهر على ما قال السيد علي بن وهاس الحسيني فيما نقله عنه ياقوت في "مختصر معجم البلدان"، وذكر أن فخ اسم لمكانين هذا أحدهما، وذكر الآخر، ويذكر كلامه بنصه قال باب: فخ موضعان بفتح الفاء والخاء معجمة مشددة، وفخ واد من نواحي مكة، قال السيد على بن وهاس العلوي: فخ وادي الزاهر فيه قبور جماعة من العلويين قتلوا فيه في واقعة4 كانت لهم مع أصحاب موسى الهادي بن المهدي بن المنصور في سنة تسع وتسعين5 ومائة في ذي الحجة، وللشعراء فيهم مراث كثيرة. وفخ: ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم بن الحرث المحاربي، ذكره الحازمي6 ... انتهى. ومن المقابر المباركة بمكة المشرفة: المقبرة المعروفة بالشبيكة، بأسفل مكة دون باب الشبيكة، وهي مشهورة عند الناس، لما حوته من أهل الخير الغرباء وغيرهم، وذكر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 213. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 299. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 297. 4 في معجم البلدان: "وقعة". 5 هكذا ورد في جميع النسخ، والصحيح أنه سنة تسع وستين ومائة كما جاء عند ياقوت، وهو يتفق مع خلافة الهادي التي استمرت حتى سنة 170هـ. 6 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 330، 331". ج / 1 ص -378- الفاكهي بعد ذكر مقبرة مكة التي بأعلاها وشيئا من فضلها السابق، وكانت مقبرة المطيبين بأعلى مكة، ومقبرة الأحلاف بأسفل مكة1... انتهى. والظاهر أن مقبرة الأحلاف في هذه المقبرة، لأنه لا يعرف بأسفل مكة مقبرة سواها، ودفن الناس بها إلى الآن مشعر بأن الناس كانوا يدفنون فيها فيما مضىن والله أعلم. والمطيبون هم بنو عبد مناف بن قصي، وبنو أسد بن عبد العزي، وابن زهرة بن كلام، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر. والأحلاف هم بنو عبد الدار بن قصي، وبنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي بن كعب، ولتسمية هؤلاء بالأحلاف والآخرين بالمطيبين سبب مشهور، ذكرناه في أصل هذا الكتاب. ومن القبور التي ينبغي زيارتها: قبر أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنه وهو معروف بطريق وادي مر، ولا أعلم بمكة ولا فيما قرب منها قبور أحد ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هذا القبر، لأن الخلف يأثر ذلك عن السلف، والموضع الذي فه قبر ميمونة رضي الله عنها يقال له: سرف، بسين مهملة مفتوحة وراء مهملة مكسورة وفاء، وذكر صاحب "المطالع" في مقدار ما بينه وبين مكة أربعة أقوال: ستة أميال، وسبعة بتقديم السين، وتسعة بتقديم التاء على السين واثنى عشر ميلا، وهو الموضع الذي بني بها النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوجها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 60. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -379- الباب الثاني والعشرون: في ذكر أماكن بمكة المشرفة وحرمها وقربه التي لها تعلق بالمناسك: وهي ستة وعشرون موضعا مرتبة على ترتيب حروف المعجم: الأول: باب بني شيبة1 الذي يستحب للمحرم دخول المسجد الحرام منه، وهو أول باب بالجانب الشرقي مما يلي الجانب الشامي، بين رباط الشرابي ورباط السدرة، وعليه "منارة المسجد الحرام، وأمامه في خارجه بلاط مفروش من حجارة، وفي عتبته حجارة طوال، يقال إنها كانت أوثانا تعبد في الجاهلية، وليس ذلك بصحيح، على ما نقل الأزرقي عن جده2. والأصل في استحباب دخول المسجد الحرام من هذا الباب، ما رويناه عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا، رواه البيهقي، وقال: إنه مرسل جيد، قال: ورويناه عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا في دخوله من باب بني شيبة، وخروجه من باب الحناطين... انتهى. والمراد بباب بني شيبة في هذا الخبر: جهة هذا الباب، لا هذا الباب نفسه، فإنه لم يكن إلا في عمارة المهدي. والمراد بباب بني مخزوم: باب الصفا، فإنه ينسب لبني مخزوم. وباب الحناطين باب كان للمسجد فيما بين باب الحزورة وباب بني جمح الذي في وزانه الآن: باب الزيادة بالجانب الغربين ولا أثر الآن لباب الحناطين، والمراد به جهته، لأنه لم يكن إلا عقب موت المهدي العباسي فيما أمر به من الزيادة الثانية في المسجد الحرام، فينبغي للخارج من المسجد مسافرا أن يخرج من باب الحزورة، أو هي باب الزيارة المشار إليها لقربها من باب الحناطين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 يعرف الآن بباب السلام، وكانت نسب لآل شيبة سدنة الكعبة. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78. ج / 1 ص -380- وفي "النوادر" لابن أبي زيد المالكي ما يقتضي أن الخارج من المسجد الحرام مسافرا خرج من باب المسجد المعروف الآن بباب العمرة في الجانب الغربي، فينبغي للمسافر أن يخرج منه أو من باب زيادة إبراهيم، أو من باب الحزورة، والله أعلم. ونص ما في "النوادر" على ما نقل الأشنائي في شرحه لمنهاج النووي بعد أن ذكر أن "النوادر" أهمل بيان الباب الذي يخرج منه المسافر من المسجد الحرام، ففي "النوادر" عن ابن جبير: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد من باب بني شيبة، وخرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وإلى المدينة من باب بني سهم1... انتهى. وباب بني سهم: هو باب المسجد الذي أشرنا إليه، كما يقتضيه كلام الأزرقي وغيره كالأشنائي، باستحباب الخروج منه للمسافر إلى بلده. وذكر عن الرافعي: أن الأصحاب أطلقوا استحباب دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة لمن كان في طريقه، ولمن لم يكن في طريقه، ولا كذلك الثنية العليا، فإن الدخول منها إنما يستحب لمن كانت في طريقه، على خلاف في ذلك. والفرق بينه وبين باب بني شيبة: أن دوران المسجد لأجله لا عسر فه، ولا كذلك الدوران للدخول من الثنية العليا إذا لم يكن في الطريق، والله أعلم. الثاني: التنعيم المذكور في حد الحرم من جهة المدينة النبوية، وهو أمام أدنى الحل، على ما ذكر المحب الطبري، قال: وليس بطرف الحل، ومن فسره بذلك تجوز وأطلق اسم الشيء على ما قرب منه، وأدنى الحل إنما هو من جهته، ليس موضع في الحل أقرب إلى الحرم منه، وهو على ثلاثة أميال من مكة، والتنعيم أمامه قليلا في صوب طريق وادي مر الطهران... انتهى بنصه2. وقال صاحب "المطالع": التنعيم من الحل بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، وقيل: على أربعة أميال، وسميت بذلك لأن جيلا عن يمينها يقال له: نعيم، وآخر عن شمالها يقال لها: ناعم، والوادي: نعمان... انتهى. والإحرام من الحل الذي في جهة التنعيم للمقيم بمكة أفضل من الإحرام من الحل الذي في بقية جهات الحرم، ما خلا الجعرانة، فإن الإحرام منها أفضل عند مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من العلماء رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. الثالث: ثبير، الذي يقولون في الجاهلية إذا أرادوا أن يدفعوا من المزدلفة: أشرق ثبير كيما نغير، ولا يدفعون حتى يروا الشمس عليه، وهو جبل بالمزدلفة على ما ذكر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 83، 84". 2 القرى "ص: 99". ج / 1 ص -381- الأزرقي ونص كلامه: وثبير الموضع الذي فيه سداد الحاج، وهو جبل المزدلفة الذي هو على يسار الذاهب إلى منى، وهو الذي كانوا يقولون في الجاهلية إذا أرادوا أن يدفعوا من المزدلفة: أشرق ثبير كيما نغير. ولا يدفعون حتى يروا الشمس عليه1... انتهى. وثبير الذي يستحب للحاج إذا طلعت الشمس عليه سار إلى عرفة لينزل بنمرة، ثم يذهب منها بعد صلاة الظهر والعصر مع الإمام إلى موقف عرفة، وهو جبل كبير بمنى على يسار الذاهب إلى عرفة، نص على ذلك الشخ الإمام المحب الطبري، لأنه لما تكلم على قول صاحب "التنبيه" في صفة الحج: "ثم يخرج إلى منى في اليوم الثامن، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت بها، ثم يصلي الصبح، فإذا طعلت الشمس على ثبير سار إلى الموقف"، قال: ثبير بثاء مثلثة مفتوحة وباء موحدة مكسورة أعلى جبل بمنى. وقال الجوهري: بمكة، ولعله أراد بقرب مكة فتجوز، وقال غيره: بالمزدلفة، والمشهور الأول وهو يشرف على منى من جمرة العقبة إلى تلقاء مسجد الخيف، وأمامه قليلا على يسار الذاهب إلى عرفة... انتهى. وممن ذكر أن ثبيرا بمنى: الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالمسند المتقدم: اسم الجبل الذي مسجد الخف بأصله الصفائح، واسم الجبل الذي وجاهه على يسارك إذا أتيت من مكة المقابل ثبير، وهو من الأثبرة2... انتهى. وممن ذكر أن ثبيرا بمنى: سليمان بن خليل، لأنه قال: وثبير جبل كبير بمنى وكذلك النووي في "التهذيب"، لأنه قال لما ذكر منى: وهو شعب ممدود بين جبلين، أحدهما: ثبيرن والآخر: الصائح3، كذا رأيت في نسخة من "التهذيب" ولعله: والآخر الصفائح، كما يقتضيه كلام الأزرقي، والله أعلم. وإذا تقرر أن ثبيرا بمنى وثبيرا بمزدلفة: فلا مانع أن يكون ثبير الذي إذا طلعت عليه الشمس سار الحاج من مبيته بمنى إلى عرفة، كما قال الفقهاء ثبير بمنى، لكونه إلى مبيت الحاج أقرب من ثبير الذي بالمزدلفة، ولا مانع من أن يكون ثبير الذي عناه المشركون بقولهم أشرق ثبير كيما نغير من المزدلفة، لأنهم كانوا يقولون ذلك بالمزدلفة، ولا يدفعون منها حتى تطلع الشمس على ثبير التي بها، وهو إلى أبصارهم أقرب من ثبير الذي بمنى، كيف وقد قال الأزرقي: إن ثبيرا الذي عناه المشركون ثبير المزدلفة، وأثبت أن بمنى ثبيرا سواه! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 180. 3 في التهذيب: الضائعط بدل "الصائح "انظر:تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157. ج / 1 ص -382- وأما قول النووي في "التهذيب" وغيره أن ثبيرا جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى، ويمين الذاهب من منى إلى عرفات، وأنه المذكور في صفة الحج، والمراد في مناسك الحج، فقد اعترضه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي، وقال: إنه قول فيه مقال، ورجم بالغيب، ومخالفة لإجماع أئمة اللغة والتواريخ، ثم قال شيخنا: نعم في المزدلفة جبل يسمى ثبيرا، وليس هو المراد في مناسك الحج... انتهى، والله أعلم. وذكر ياقوت في "معجم البلدان"1 أن ثبيرا اسم لثمانية مواضع فنذكر كلامه لإفادة ذلك، ونص كلامه: باب: ثبير: ثمانية مواضع بفتح أوله كسر الباء الموحدة ثم ياء ساكنة وراء. الأول: ثبير من أعظم جبال مكة، بين مكة وعرفة، وهو المراد بقولهم في الجاهلية: أشرف ثبير، كيما نغير. الثاني: ثبير الزنج بمكة أيضا، قالوا: لأن الزنج كانوا يجتمعون عنده للعب واللهو. الثالث: ثبير الأعرج "وثبير الأحدب"2. الرابع ثبير الخضراء. الخامس: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة. السادس: ثبير غينا3 وهذه السبعة بمكة، ويقال لها: الأثبرة. الثامن: ثبير: ماء في بلاد مزينة أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم شريح بن ضمرة المزني4... انتهى. هكذا وجدت في نسخة سقيمة من "مختصر معجم البلدان لياقوت" ولا يستقيم ما فيها من أن بمكة سبعة أثبرة إلا بأن يكون سقط من النسخة ذكر ثبير السابع، أو يكون ثبير الأعرج وثبير الأحدب اثنين، فإن الموجود في النسخة يوهم أنهما واحد، ويكون سقط الرابع قبيل قوله: وثبير الأحدب، ويكون على هذا قوله: الرابع والخامس والسادس سهوا في العدد، وهذا الاحتمال أظهر5، لأن الرضى الصاغاني قال: من الأثبرة ثبير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 النص المذكور في المتن ليس من "معجم البلدان" بل هو من المشترك وضعا والمفترق صقعا" لياقوت أيضًا "ص: 86، 87". 2 ما بين القوسين ليس في "المستدرك". 3 في المشترك: "السابع ثبير الأحدب". 4 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 76: 87". 5 الواضح أن المؤلف اطلع على نسخة سقيمة من "المشترك" ويسميه "مختصر معجم البلدان"، وهي التي جعلته يسهب في التحليل والتعليق، ولو اطلع على نسخة سليمة كالتي وصلتنا مطبوعة لوقف على أسماء الأثبرة كاملة. ج / 1 ص -383- غَيْنَا، وثبير الأعرج، وثبير الأحدب، وسمعت أعراب هذيل يسمونه: الأحيدب مصغرا... انتهى، وهذا يدل على أن ثبيرا الأعرج غير ثبير الأحدب. وذكر الأزرقي من الأثبرة التي ذكرها ياقوت: ثبيرا الأول، وذكر أن اسمه القابل، وثبير النصع جبل المزدلفة، وثبير الأعرج، ونص ما ذكره فيه: وثبير الأعرج المشرف على حق الطارقيين بين المغمس والنخيل1... انتهى. وفي هذا إشارة إلى تعريف محله. وذكر الزمخشري2 من هذه الأثبرة ثبير غينا وثبير الأعرج، وأفاد في كلامه ضبط غينا، وأن ثبير غينا وثبير الأعرج متقاربان، ولم أقف على المحل الذي ذكر فيه ذلك، وإنما نقل عنه ذلك شيخنا القاضي مجد الدين اللغوي الشيرازي، لأنه قال: وقال الزمخشري: وثبير غينا بالغين المعجمة المتفوحة بعدها مثناة تحتية ثم نوف وألف وثبير الأعرج جبلان يصب بينهما أفاعية بضم الهمزة وبعدها فاء وألف وعين مهملة مكسورة ومثناة تحتية مفتوحة مخففة بعدها هاء وهي واد يصب من منى... انتهى. وثبير الزنج الذي ذكره ياقوت يقال: إنه جبل بأسفل مكة تسميه أهلها النوبي، والله أعلم. وثبير الخضراء هو الجبل المشرف على الموضع الذي يقال له الخضيرا، بطريق منى وهو مكان مشهور، والنصع بكسر النون وسكون الصاد المهملة هكذا ضبطه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي، وفي كلام ياقوت إشارة إلى أن ثبيرا الذي كانوا يقولون فيه: "أشرق ثبير كيما نغير": هو ثبير مني، الذي قال له ثبير الأثبرة، وذلك يخالف ما ذكره الأزرقي، والله أعلم. الرابع: الجعرانة، الموضع الذي أحرم فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف بعد فتح مكة، وهو موضع مشهور بين الطائف ومكة، وهو إلى مكة أقرب بكثير، لأن بينه وبين مكة نحو ثمانية عشر ميلا على ما ذكر الباجي المالكي. وقال الفاكهي: والجعرانة حيث اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم على بريد من مكة3... انتهى باختصار. وهذا يخالف ما ذكره الباجي، والله أعلم بالصواب. وحد الحرم من جهته على تسعة أميال بتقديم التاء على السين وقيل: يزيد، وهو اثنا عشر ميلا كما سبق في حدود الحرم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 280. 2 غريب الحديث الزمخشري. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 69، والحديث حسن نقله ابن حجر في الفتح 8/ 64 حسبما قال محقق كتاب الفاكهي. ج / 1 ص -384- وذكر السهيلي أن هذا الموضع سمي باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة، واسمها: ريطة بنت سعد بن زيد مناة بن تميم، وقيل: هي من قريش... انتهى، ذكر ذلك بالمعنى لما تكلم عن قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92] الآية: ولم يبين السهيلي القائل بأنها من قريش، وقد بين ذلك الفاكهي لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين الأزدي، عن رجلين، عن ابن الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} نزلت في امرأة من قريش من بني تيم بن مرة يقال لها: ريطة بنت كعب، ولقبها جعرانة، وهي أم أسد بن عبد العزى، التي قامت عنه، وكانت حمقاء. وروى الفاكهي بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قال: كانت امرأة تسمى حرفا بمكة كانت تغزل، فإذا أبرمت غزلها نقضته. وقال: قال ابن جريج: قال أبو الهذيل: حرفا كانت بمكة تنقضه بعد ما تبرمه. وروي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} قال: هن النساء من أهل نجد ينقضن حبلهن وينفشنه ثم يخلطنه بالصوف فيغزلنه... انتهى. ذكر الموضع الذي أحرم منه رسول الله من الجعرانة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن الزنجي، عن ابن جريج قال: أخبرني زياد بن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة، فأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة قال: ومن ههنا أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأعرف أول من اتخذ المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش سماه، واشترى بمال عنده نخلا، فبنى هذا المسجد، قال ابن جريج: فلقيت أبا محمد بن طارق فسألته فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالجعرانة، فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، قال: وأما هذا مجاهد فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط1... انتهى. ونقل ابن خليل عن ابن جريج أن الرجل الذي بنى المسجد الأديني هو عبد الله بن خالد الخزاعي. وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة، فأما الأدنى فبناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط عنده، ولم يجز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلا محرمًا... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 207. ج / 1 ص -385- وكان إحرامه صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، نقل ذلك عن الواقدي المحب الطبري قال: ومنها يحرم أهل مكة كل عام ليلة سبع عشرة من ذي القعدة، وذلك خلاف ما ذكره الواقدي1... انتهى. وما ذكره المحب الطبري يخالف ما أدركنا عليه أهل مكة، فإنهم يخرجون من مكة في اليوم السادس عشر من ذي القعدة، ويقيمون اليوم السابع عشر بالجعرانة، ويصلون المغرب بها ليلة الثامن عشر، ويحرمون ويتوجهون إلى مكة، وهو يلائم ما ذكره الواقدي، إلا أن في بعض السنين يحصل للناس خوف فيخرجون من الجعرانة محرمين قبل الغروب من اليوم السابع عشر، وربما خرجوا منها قبل صلاة العصر، وما ذكره الواقدي في تاريخ عمرة النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة هو المعروف. وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي خبرا ضعيفا يخالف ذلك، ونصه على ما ذكر الحافظ أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري في جوابه عن المسائل التي سأله عنها ابن أيبك الدمياطي: وقد ذكر ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن سابق قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عقبة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال2. قال أبو الفتح المذكور: هذا والذي قبله ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم بعمرة، ودخل مكة... انتهى. والجعرانة أفضل مواقيت العمرة من مكة، لإحرام النبي صلى الله عليه وسلم من هذ المكان، على مذهب مالك، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم. واختلف في وسط العين والراء من الجعرانة، فقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": "الجعرانة بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء، هكذا صوابها عند إمامنا الشافعي، والأصمعي، وأهل اللغة، ومحققي المحدثين، وغيرهم، ومنهم من يكسر العين ويشدد الراء، وهو قول عبد الله بن وهب وأكثر المحدثين، قال صاحب مطالع الأنوار، أصحاب الحديث يشددونها، وأهل الإتقان والأدب يخطوئنهم ويخففونها، وكلاهما صواب، حكى إسماعيل القاضي عن علي بن المديني قال: أهل المدينة يثقلونها ويثقلون الحديبية، وأهل العراق يخففونهما3... انتهى باختصار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 99". 2 عيون الأثر لابن سيد الناس 2/ 280. 3 تهذيب الأسماء: "ص: 58، 59" وفيه "يخففونهما". ج / 1 ص -386- ومن فضائل وادي الجعرانة ما ذكره الجندي في "فضل مكة" لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا عبد الوهاب بن فليح، حدثني سعيد بن سالم القداح، عن سعيد بن بشير، عن عبد الكريم الجردي، عن يوسف بن ماهك، قال: اعتمر من الجعرانة ثلاثمائة نبي، وصلى في مسجد الخيف سبعون نبيا. وبالجعرانة ماء شديد العذوبة يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم فحص موضع الماء بيده المباركة فانبجس، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم وسقى الناس، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غرز رمحه فنبع الماء موضعه، وهذان الخبران في كتاب الفاكهي1. الخامس: الجمار المذكور في صفة الحج: هي بمنى، ونقل عن ابن سيده2 اللغوي صاحب "المحكم" ما يقتضي أنها بعرفة، وهو وهم قطعا، ذكرناه لغرابته، وقد نقل ذلك عنه السهيلي في كتابه "الروض الأنف"، لأنه نقل عن ابن سيده شيئا قاله في كتابه "المحكم" وخطأه فيه، ثم قال السهيلي: وقال يعني ابن سيده في الجمار في غير هذا الكتاب هي التي بعرفة، وهذه هفوة لا تقال، وعثرة لا لعا لها، وكم له من هذا إذا تكلم في النسب وغيره، والله ولي التوفيق. والأولى منها: هي التي تلي مسجد الخيف، والوسطى التي بينها وبين جمرة العقبة، والأخيرة هي جمرة العقبة، وهي أقرب الجمار إلى مكة، ورميها على هذا الترتيب مطلوب على مذهب الإمام مالك رحمه الله، ومتى وقع على غير هذه الصفة ولم يتدارك في وقت الأداء وهو النهار على المشهور لزم فاعل ذلك الدم. وقد ذكر الأزرقي في ذرع ما بين هذه الجمار وما بين الجمرة الأولى وأوسط أبواب مسجد الخيف بمنى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ومن جمرة العقبة وهي أول الجمار مما يلي مكة، إلى الجمرة الوسطى: أربعمائة ذراع وسبعة وثمانون ذراعا واثنا عشر أصبعا، ومن الجمرة الوسطى إلى الجمرة الثالثة وهي التي تلي مسجد منى: ثلاثمائة ذراع وخمسة أذرع، ومن الجمرة التي تلي مسجد منى إلى أوسط أبواب المسجد: ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وواحد وعشرون ذراعا3... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 68، والحديث عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 3م 279-280 إلى الطبراني، وقال: فيه من لم أعرفه، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير 2/ 380 للطبراني وأبي نعيم. وذكره البكري في معجم ما استعجم 1/ 158. 2 هو الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي، كان إماما في اللغة والعربية حافظا لهما، وكتابه "المحكم" كتاب جامع رتبه ترتيب كتاب " العين"، وتوفي سنة 458هـ. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185. ج / 1 ص -387- قلت: وقد حرر بعض أصحابنا ذرع ذلك وأنا معه، فكان مقدار ما بين جمرة العقبة والجمرة الوسطى مائتي ذراع وثمانية أذرع بذراع الحديد، وكان مقدار ما بين جمرة الوسطى والجمرة الأولى: مائتي ذراع وخمسة وسبعين ذراعا بذراع الحديد، وكان مقدار ما بين الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف إلى باب مسجد الخيف الكبير على يمين الذاهب إلى عرفة: ألف ذراع ومائتي ذراع وأربعة وخمسين ذراعا ذراعا بذراع الحديد. وقد ذكر الأزرقي شيئا من خبر جمرة العقبة، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: "ذكر ما غير من فرش أرض الكعبة": وكانت الجمرة زائلة عن غير موضعها، أزالها جهال الناس برميهم الحصا، وغفل عنها، حتى أزيحت من موضعها شيئا يسيرا منها ومن فوقها، فردها إلى موضعها الذي لم يزل عليه، وبنى من ورائها جدارا أعلاه عليها، ومسجدا متصلا بذلك الجدار، لئلا يصل إليها من يريد الرمي من أعلاها، وإنما السنة لمن أراد الرمي أن يقف من تحتها من بطن الوادي، فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه، ويرمي كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا أصحابه من بعده1... انتهى. والذي أشار إليه الأزرقي بقوله: فردها، وبقوله: وبنى: هو إسحاق بن سلمة الصائغ الذي أنفذه المتوكل العباسي لعمل أمور تتعلق بالكعبة وغير ذلك. السادس: الحجون المذكور في حد المحصب2: وهو جبل بالمعلاة، مقبرة أهل مكة على يسار الداخل إلى مكة، ويمين الخارج منها إلى جهة منى وغير ذلك، وهو الجبل الذي يزعم الناس أن فيه قبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وليس لذلك حقيقة كما نبهنا عليه، ويحتمل أن يكون الجبل المحاذي له الذي يكون على يسار الداخل إلى الشعب الذي تسميه الناس: شعب العفاريت، والجبلان مشرفان على هذا الشعب، ولعله الشعب الذي يقال له شعب الصفا صفى الشباب، والله أعلم. وما ذكرنا من كون الحجون في هذه الجهة من المعلاة صريح من كلام أبي الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" ومن كلام إسحاق بن أحمد الخزاعي راوي كتاب الأزرقي، وأدخل الخزاعي ذلك في كتاب الأزرقي عند ذكر الأزرقي لحد المحصب: وهذا ما ذكرناه من تعيين كون الحجون أحد الجبلين المشار إليهما، يدل له كلام الأزرقي3. وما ذكره الخزاعي في تعيين جهة الحجون يدفع ما يقوله الناس من أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 303. 2 هو موضع الحجارة بمنى. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 160. ج / 1 ص -388- الحجون هو الجبل الذي فيه ثنية كداء، بفتح الكاف والمد، والتي يستحب للمحرم دخول مكة منها. ووقع للمحب الطبري في "القرى" ما يوافق ذلك؛ لأنه قال: الحجون بفتح الحاء وضم الجيم مخففة، الجبل المشرف عند المحصب، وهو مقبرة أهل مكة، قال الشاعر: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر وذكر أبو موسى المديني في "يتيمته" أنه الجبل المشرف مما يلي شعب الجزارين بمكة، قلت: ويشبه أن يكون ما ذكره هو الجبل الذي على يمين المنهبط من الثنية العليا على المقبرة، فإن إلى جانبه شعبا يقال له شعب الجزارين، ويحتمل أن يكون الجبل المشرف على المقابر على يسار المنهبط من الثنية، وتكون المقبرة بينه وبين الصفا على ما قال الشاعر: انتهى كلام المحب الطبري. والشعب الذي ذكر أنه يقال له شعب الجزارين يقال له شعب النور، وهو الذي فيه قبر الشيخ أبو لكوط1. وفي كون هذا الشعب شعب الجزارين نظر، وكذا في الاحتمال الآخر الذي ذكره في تفسير شعب الجزارين، وكذا فيما يقوله الناس من أن الحجون هو الجبل الذي فيه الثنية المشار إليها، وهو مقتضى كلام المحب الطبري، لكون ذلك مخالفا لما ذكره الأزرقي في تفسير الحجون، مع موافقة الخزاعي له على ما ذكره من أن الحجون في الجهة المقابلة لجهة الثنية، كما أشرنا إليه. والأزرقي والخزاعي بذلك أدرى، والتعويل عليهما في ذلك أولى. ونص ما ذكره الأزرقي في الترجمة التي بين فيها ما في شق معلاة مكة اليماني من المواضع والجبال والشعاب، وما أحاط به: الحجون الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة الذي يقال له مسجد الحرس، وفيه ثنية يسلك إليها من حائط عوف، عند الماجلين الذين فوق دار "مال الله" إلى شعب الجزارين، وبأصل شعب الجزارين كانت المقبرة في الجاهلية2... انتهى. ونص كلام الخزاعي: الحجون الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد، وهو أيضا مشرف على شعب الجزارين في أصل دار أبي دب إلى موضع القبة مسجد سبيل أم زبيدة بنت جعفر بن أبي منصور... انتهى. ووجه الدلالة من كلام الخزاعي على ما ذكرناه في تعيين جهة الحجون، ذكره للحجون من شق معلاة مكة اليماني، ولا ريب أنها الجهة التي أشرنا إليها، ووجه الدلالة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هكذا في الأصل، وفي منتخب شفاء الغرام: "ابن لكود". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 273. ج / 1 ص -389- من كلام الخزاعي: قوله في تعريف الحجون: على يمينك وأنت مصعد، ولا يكون الحجون على يمين المصعد من مكة إلا إذا كان في الجهة التي أشرنا إليها. وذكر النووي في "شرح مسلم" في تفسير الحجون نحو ما ذكره الخزاعي باختصار، لأنه قال في تفسير حديث قوله: "قرب الحجون" هو بفتح الحاء وضم الجيم، وهو من حرم مكة، وهو الجبل المشرف على مسجد الحرم بأعلى مكة، على يمينك وأنت مصعد عند المحصب... انتهى. والدلالة من كلام النووي على ما ذكرناه في تفسير الحجون كالدلالة على ذلك من كلام الخزاعي، وقد سبق ذلك. وذكر الفاكهي ما يوافق ما ذكره الأزرقي في كون الحجون بشق معلاة مكة اليماني وفي تعريفه له1، والفاكهي من العارفين بأخبار مكة، فيتأيد بما ذكره في الحجون ما قاله الأزرقي والخزاعي في الحجون، والله أعلم. "وشعب الجزارين": لا يعرف الآن، إلا أن بين سور مكة الآن وبين الجبل الذي يقال له جبل ابن عمر موضعا يشبه الشعب، فلعله شعب الجزارين. وشعب الجزارين هو شعب أبي دب على ما ذكر الأزرقي، وذكر أنه رجل من بني سواءة بن عامر2. و "حائط عوف" الذي ذكره الأزرقي في تعريف الحجون لا يعرف، ولعله أحد البساتين التي في الجبل الذي يقال له جبل ابن عمر، فإن منها يتوصل إلى الجبل المذكور. ولعل هذا يؤيد أحد الاحتمالين اللذين ذكرناهما في تعيين كون هذا الجبل الحجون، ويتأيد ذلك أيضا بقربه من الماجلين اللذين ذكرهما الأزرقي، وهما في غالب الظن البركتان المنسوبتان للصارم، التي إحداهما ملاصقة لسور مكة، والله أعلم. وأغرب السهيلي في تفسير الحجون، لأنه قال في "الروض الأنف": والحجون على فرسخ وثلث من مكة3... انتهى. وهذا مخالف للمحسوس والمنقول. وما ذكره المحب من كون الحجون بفتح الحاء وضم الجيم سبقه إلى ذلك النووي في "شرح مسلم" وضبطه أيضا بفتح الحاء صاحب "المطالع"، وضبطه ابن خلكان بضم الحاء، والمعروف فيه الفتح، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 143. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 272. 3 الروض الأنف 1/ 138. ج / 1 ص -390- وهذا الموضع من جملة المواضع التي أصلحتها في هذا الكتاب بعد تأليفي له، لأني لم أكن نظرت فيما كتبته أولا إلا كلام المحب، وتأيد عندي بما يقوله الناس في تفسير الحجون، فلما راجعت كلام الأزرقي، والخزاعي ظهر لي أنه الصواب، فكتبت هذا الفصل على هذا الوجه، والله أعلم بالصواب. السابع: الحديبية الموضع الذي نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من المدينة محرما يريد دخول مكة، فعاقه حينئذ المشركون عن ذلك. يقال إنه الموضع الذي فيه البئر المعروفة ببئر شميس بطريق جدة، والله أعلم. قال صاحب "المطالع": إن الحديبية قرية ليست بالكبيرة، وسميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة... انتهى. والشجرة والحديبية لا يعرفان الآن، وقد سبق في حدود الحرم الخلاف في الحديبية، هل هي في الحرم كما قال مالك، أو في طرف الحل، كما قال الماوردي، أو أن بعضها في الحل وبعضها في الحرم، كما قال الشافعي وابن العطار، والله أعلم. وليست الحديبية بالموضع الذي يقال له الحدة1 في طريق جدة بقرب هذا الموضع من جدة، وبعده من مكة، والحديبية دونه بكثير إلى مكة، واختلف في الياء الثانية من الحديبية هل هي مخففة أو مشددة، والقولان مشهوران على ما ذكر النووي في "التهذيب"، لأنه قال: الحديبية بضم الحاء وفتح الدال وتخفيف الياء، كذا قاله الشافعي رضي الله عنه وأهل اللغة، وبعض أهل الحديث، وقال أكثر المحدثين بتشديد الياء وهما وجهان مشهوران2... انتهى. والحديبية أفضل مواقيت العمرة بعد الجعرانة، والتنعيم، عند الشافعية، ما خلا الشيخ أبا حامد، فإن الحديبية عنده مقدم على التنعيم، والله أعلم بالصواب. الثامن: ذو طوى الموضع الذي يستحب فيه الاغتسال للمحرم، هو على مقتضى ما ذكره الأزرقي: الموضع الذي يقال له بين الحجونين، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: بطن ذي طول: ما بين مهبط ثنية المقبرة التي بالمعلاة إلى الثنية القصوى التي يقال لها الخضراء مهبط على قبور المهاجرين3... انتهى. وفي "صحيح البخاري" ما يؤيد هذا، وصرح به القاضي بدر الدين بن جماعة فيما نقله عنه ابن القاضي عز الدين، على ما أخبرني عنه خالي، وقال النووي: إنه موضع بأسفل مكة في طريق العمرة المعتادة، ويعرف اليوم بآبار الزاهر4... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصل "الحدبة"، وليس بطريق جدة مكان يقال له الحدبة. 2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 81. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 297. 4 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 1: 115 وقال النووي: إن طوى بفتح الطاء على الأفصح، ويجوز ضمها وكسرها، وبفتح الواو المخففة. ج / 1 ص -391- وقال الداودي فيما نقله عن صاحب "المطالع": إن ذا طوى هو الأبطح وهو بعيد، والله أعلم بالصواب، وطاؤه مثلثة وهو مقصور، واستحباب الغسل بذي طوى للمحرم هو مذهب الأئمة الأربعة، إلا أن أصحابنا لا يستحبونه للحائض والنفساء، لأنهما لا يؤمران بالطواف عند قدومهما مكة، والغسل شرع لأجل الطواف، والله أعلم. وإنما يطلب من المحرم الاغتسال فيه إذا كان في طريق. التاسع: الردم، الذي ذكر بعض الشافعية أن المحرم يقف عنده للدعاء إذا قدم مكة، وهو ردم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأعلى مكة، وهو معروف عند الناس. وسبب ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه له: أنه جاء في خلافته السيل المعروف بسيل أم نهشل، فدخل المسجد الحرام وذهب بالمقام عن موضعه، وأخفى موضعه، فشق ذلك على عمر رضي الله عنه وعمل هذا الردم صونا للمسجد1. العاشر: الصفا، الذي هو مبدأ السعي، وهو في أصل جبل أبي قبيس، على ما ذكره غير واحد من العلماء، ومنهم أبو عبيد البكري، والنووي2، وهو موضع مرتفع من جبل له درج، وفيه ثلاثة عقود، والدرج الذي أعلى العقود: أربع درجات، ووراء هذه الأربع ثلاث مصاطب كبار، على قمة الدرج يصعد من الأولى إلى الثانية منهن بثلاث درجات في وسطها، وتحت العقود درجة، وتحتها فرشة كبيرة، ويليها ثلاث درجات، ثم فرشة مثل الفرشة السابقة تتصل بالأرض، وربما علا التراب عليها فغيبت، وعرض الفرشة العليا التي تحت العقود: ذراعان وثلثا ذراع، وعرض الثلاث الدرجات التي بين الفرشتين، ذراعان ونصف ذراع، كل ذلك بذراع الحديد، وتحت الفرشة السفلى التي تتصل بالأرض درج مدفون وهو ثماني درجات، ثم فرشة مثل الفرشة السابقة، ثم درجتان، وتحت هاتين الدرجتين حجر كبير يشبه أن يكون من جبل، وهذا الدرج المدفون لم نره إلا في محاذاة العقد الأوسط من عقود الصفا. والظاهر والله أعلم أن في مقابلة العقدين الأخيرين مثل ذلك. وذرع ما بين وجه العقد الأوسط على الصفا إلى منتهى الدرج المدفون: ثمانية عشر ذراعا بالحديد، وكان تحرير ذلك بحضوري بعد الأمر بالحفر عن الدرج المشار إليها في سابع عشر شوال سنة أربع عشرة وثمانمائة3، وكان ابتداء حفرنا عن ذلك يوم السبت خامس عشر شوال المذكور. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 والردم هو ما يسمى الآن بالمدعى. 2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 180. 3 إتحاف الورى 3/ 487، 488، العقد الثمين 7/ 264. ج / 1 ص -392- وكان الناس يأتون لمشاهدة ما ظهر من الدرج أفواجا أفواجا، وحصل لهم بذلك غبطة وسرور، لأن كثيرا من الساعين لا يرقون في الدرج الظاهر الآن، خصوصا الساعي راكبا، وسبب حفرنا عن ذلك: أنه حال في نفس بعض فقهاء مكة في عصرنا عدم صحة سعي من لم يرق في الدرج الظاهر، لأن بعض متأخري فقهاء الشافعية أشار إلى أن في الصفا درجا مستحدثا ينبغي للساعي الاحتياط بالرقي عليها، إلى أن يستيقن... انتهى بالمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك بنصه. وهذا الكلام يوهم أن بعض الدرج الموجود الآن محدث، لأنه ليس هناك درج سواها حتى يحمل الكلام عليها، وذاكرني الفقيه المشار إليه بما حاك في نفسه فقلت له: الظاهر -والله أعلم- أن المراد بالدرج المحدث غير الدرج الظاهر، ويتحقق ذلك بالحفر عنه، فحفرنا حتى ظهر لنا من الدرج ما ذكرناه، ويبعد جدا أن يكون مجموع الدرج المدفون، والظاهر محدثا في غير محل السعي، حتى لا يجري الوقوف عليه في السعي، وإنما المحدث بعض الدرج المدفون، لكونه في غير محل السعي على ما يقتضيه كلام الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا: مائتا ذراع واثنان وستون ذراعا وثمانية عشر أصبعا1... انتهى. والصفا الذي ذكر الأزرقي ذرع ما بينه وبين الحجر الأسود هو محل السعي2 وما ذكره الأزرقي في ذرع ما بين الصفا والحجر الأسود إما أن يكون إلى مبدأ الدرج، أو إلى مبدأ الدرج الظاهر تحت العقود، أو إلى العقود، أو إلى ما وراء ذلك، وفي كل الوجوه نظر غير الوجه الثاني. أما الأول: فلان من الحجر الأسود إلى مبدأ الدرج المدفون: مائتي ذراع وواحدا وعشرين ذراعا وربع ذراع وثمن ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد، مائتي ذراع وثلاثة وخمسين ذراعا بذراع اليد، على ما حررناه، وذلك دون ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الحجر الأسود والصفا بعشرة أذرع إلا ربع، فدل ذلك على أنه لم يرده لمخالفته المقدار الذي ذكره، والله أعلم. وأما الوجه الثالث: فلأن من الحجر الأسود إلى العقد الوسد الذي بالصفا: مائتي ذراع وثلاثة وسبعين ذراعا بتقديم السين وأربعة أسباع ذراع، على ما حررناه، وذلك يزيد على مقدار ما ذكره الأزرقي عشرة أذرع وخمسة أسباع ذراع وثلاثة أرباع خمس سبع ذراع، فدل ذلك على أنه لم يرده لمخالفته القدر الذي ذكرناه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 118. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 181. ج / 1 ص -393- وأما الوجه الرابع: فالنظر فيه كالنظر في الوجه الثالث، لأنه إذا كان الوجه الثالث غير المراد لما فيه من المخالفة لما ذكره الإمام الأزرقي بسبب الزيادة، فالوجه الرابع غير المراد من باب أولى، لكثرة الزيادة فيه على الزيادة التي في الوجه الثالث، خصوصا إذا قيل إن المراد موضع جدار البيت المشرف على الصفا، فإن من العقد الوسط إليه: سبعة عشر ذراعا بتقديم السين بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد: تسعة عشر ذراعا -بتقديم السين- وثلاثة أسباع ذراع، والله أعلم. وإذا كان في كل من هذه الوجوه نظر، تعين أن يكون المراد الوجه الثاني، لموافقته كلام الأزرقي، لأن من أول الفرشة التي تحت الدرجات الثلاث إلى آخر الفرشة التي فوقها تحت الدرجة التي تحت العقد الوسط: عشرة أذرع باليد، وذلك هو العقد الزائد على ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الحجر الأسود والصفا، وإنما ذكر الأزرقي ذرع ما بين الحجر الأسود والصفا ليبين أن ما وراء ذلك محل للسعي، والفرشة السفلى المشار إليها من وراء الذرع المذكور فتكون محلا للسعي على هذا، ويصح إن شاء الله تعالى سعي من وقف عليها، فلا يقصر الساعي عنها، ولا يجب عليه الرقي على ما وراءها، والله أعلم. والفرشة المشار إليها: هي التي سبق أن التراب يعلو عليها، وأما الكلام الموهم بخلاف ذلك فهو ما ذكره المحب الطبري في "شرح التنبيه"، لأنه قال: وبني في ذيل الصفا درج، فينبغي أن يحتاط مريد السعي بالرقي عليها، فإن الأرض ربت بحيث يرى البيت من غير رقي ... انتهى. ومن ذلك ما ذكره النووي في "الإيضاح"، لأنه قال: إن من واجبات السعي أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، حتى لو كان راكبا، واشترط أن تسير دابته حتى تضع حافرها على الجبل أو إليه، حتى لا يبقى من المسافة شيء ويجب على الماشي أن يلصق في الابتداء أو الانتهاء رجله بالجبل، بحيث لا يبقى بينهما فرجة، فيلزمه أن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه، ويلصق رءوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، فيلصق في الابتداء بالصفا عقبه، وبالمروة أصابع رجليه، فإذا عاد عكس ذلك، هذا إن لم يصعد، فإن صعد فهو الأكمل، وقد زاد خيرا، وليس الصعود شرطا بل هو سنة متأكدة، ولكن بعض الدرج مستحدث فليحذر أن يخلفها وراءه، فلا يتم سعيه، وليصعد بعد أن يستيقن، وقال بعض أصحابنا يجب الرقي على الصفا والمروة بقدر إقامة، وهذا ضعيف، والصحيح المشهور لا يجب، لكن الاحتياط أن يصعد للخروج من الخلاف... انتهى. وذكر الأزرقي ذرع ما بين الصفا والمروة، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: ومن الصفا إلى المروة طواف واحد: سبعمائة ذراع وستة وستون ذراعا ونصف ذراع. ج / 1 ص -394- يكون سبع بينهما: خمسة آلاف وثلاثمائة ذراع وخمسة وستين ذراعا ونصف ذراع1... انتهى. وقد حررت أنا ذرع ذلك فجاء من وسط جدار الصفا وهو من محاذاة نصف العقد الوسط من عقود الصفا إلى الدرج الذي بالمروة من داخله: ستمائة ذراع وثلاثة وسبعون ذراعا بتقديم السين وسبعة أثمان ذراع، يكون ذلك بذراع اليد: سبعمائة ذراع وسبعون ذراعا وسبع ذراع، بتقديم السين في السبعمائة ذراع، وفي السبعين، وفي السبع، ومن محاذاة نصف العقد الوسط من عقود الصفا إلى الدرجة العالية بالمروة التي كهيئة الدكة الكبيرة من داخل الدرج: ستمائة ذراع وثمانون ذراعا إلا ثمن ذراع، بذراع الحديد، يكون ذلك باليد سبعمائة ذراع وسبعة وسبعين ذراعا، بتقديم السين في السبعمائة وفي السبعة وفي السبعين. وما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين الصفا والمروة دل على أنه لم يرد به إلى ما وراء الدرج، وإنما مراده: إليه أو ما قرب منه، لأنه لو أراد ما وراء الدرج لم يكن المقدار الذي ذكره موافقا لذلك، لما فيه من النقص عن ذلك، والله أعلم. وما ذكرناه في مقدار ما بين وسط عقود الصفا والدرج الذي بالمروة في اعتبار ذرع ذلك باليد يقرب مما ذكره الأزرقي ثلاثة أذرع ونصف ذراع وسبع ذراع، ولعل الأزرقي لم يعتبر ما ذكره من الموضع الذي اعتبرناه منه، وإنما اعتبر ذلك من طرف العقد الذي يلي العقد الوسط، والله أعلم. وذرع عقود الصفا الثلاثة: أحد وعشرون ذراعا إلا ثمن ذراع بالحديد، وطول الدرجة الأخيرة من درج الصفا السفلى التي تلي الأرض في محاذاة الثلاثة العقود التي بالصفا: اثنان وعشرون ذراعا بالحديد. وذكر النووي أن عرض فتحة الدرج الذي كان على الصف نحو خمسين قدما... انتهى. وذكر الأزرقي شيئا من خبر درج الصفا والمروة، فنذكر ذلك لإفادته، لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثني أحمد بن محمد، قال: كانت الصفا والمروة يشتد2 فيهما من سعى بينهما، ولم يكن بينهما بناء ولا درج حتى كان عبد الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر المنصور، فبنى درجهما التي هي اليوم درجهما، فكان أول من أحدث بناءها، ثم كمل بالنورة في زمن مبارك الطبري وذلك في خلافة المأمون... انتهى. وذكر الأزرقي أن درج الصفا اثنتا عشرة درجة3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 120 "يسند". 3 ودرج المروة خمس عشرة درجة. "أخبار مكة للأزرقي 2/ 119" وفي رحلة ابن جبير: ص: 84"، و"أدراج المروة خمسة". ج / 1 ص -395- وذكر ابن جبير أن درج الصفا أربع عشرة درجة1. وذكر النووي أن درج الصفا إحدى عشرة درجة2. وسبب هذا الاختلاف أن الدرج يعلو عليها التراب فيخفيها، وما أظن النووي شاهد ما ذكره من عدد درج الصفا، وإنما قلد في ذلك الأزرقي وغيره من المصنفين، لأنه يبعد أن تعلو الأرض من عهد النووي إلى اليوم علوا يغيب به من درج الصفا القدر الذي وجدناه مدفونا، والله أعلم. ويتأييد ذلك بأن سليمان بن خليل قال في الرد على أبي حفص بن الوكيل من الشافعية في إيجابه الرقي على الصفا والمروة، وتعليله إيجاب ذلك بأنه لا يمكنه استيضاح ما بينهما إلا بالرقي عليهما، وقد كان هذا قبل أن يعلو الوادي، لأن الدرج كانت كثيرة، وكان الوادي نازلا حتى أنه كان يصعد درجا كثيرا ليرى البيت حتى قيل: إنه كانت عبر الفرسان في المسعى والرماح قائمة معهم، ولا يرى من في المسجد إلا رؤوس الرماح، فأما اليوم فإنه يرى البيت من غير أن يرقى على شيء من الدرج... انتهى. ووجه الدلالة من هذا على ما أشرنا إليه أن عصر سليمان بن خليل، وعصر النووي متقاربان، وسليمان مات قبل النووي بنحو خمسة عشر سنة، وإذا كان البيت يرى في عصره من غير رقي على الصفا لعلو الأرض فيكون الحال هكذا في عصر النووي، والله أعلم. الحادي عشر: طريق ضب التي يستحب للحاج أن يسلكها إذا توجه إلى عرفة، وهي طريق مختصر من المزدلفة إلى عرفة في أصل المأزمين عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة، هكذا عرفها الأزرقي، وإنما يستحب للحاج سلوكها، لأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم سلكها حين غدا من منى إلى عرفة، نقل ذلك الأزرقي عن بعض أهل المكيين، وروى عن عطاء أنه سلكها، وقال: هي طريق موسى بن عمران3. الثاني عشر: عَرَفَة موضع الوقوف، هي خارج الحرم قريب منه، روينا في تاريخ الأزرقي، ووادي عرنة بالنون4 وفي بعض نسخه: ووادي عرفة بالفاء، ذكر ذلك المحب الطبري في شرحه للتنبيه، وقال هكذا نقلته من نسخة معتنى بها، ووادي عرفة بالفاء وضبطها بفتح العين. وحكاه شيخنا أبو عمرو بن الصلاح أنه قال إلى ملتقى وصيف، ووادي عرنة بالنون، وأكد ذلك فقال بعده: وبطن عرنة ووادي عرنة مضافان إلى عرنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 84". 2 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 182. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 193. 4 عُرَنَة: بضم أوله وفتح ثانية وثالثه، وهو ما بين العلمين اللذين هما حد عرفة والعلمين اللذين هما حد الحرم. ج / 1 ص -396- بضم العين وفتح الراء والنون قال المحب قلت: وفيما ذكره نظر، لأنه أراد تحديد عرفة أولا وآخرا، فجعله من الجبل المشرف على بطن عرنة بالنون، فيكون آخره ملتقى وصيف، وبطن عرفة بالفاء، ولا يصح أن يكون وادي عرفة بالنون، لأن وادي عرنة لا ينعطف على عرفة، بل هو ممتد مما يلي مكة يمينا وشمالا، فكان التقييد بوادي عرفة أصح، والله أعلم، قال: وهذا التحديد يدخل عرنة في عرفة... انتهى. وقال المحب الطبري أيضا في "القرى": قال الشافعي في الأوسط من مناسكه: وعرفة ما جاوز وادي عرنة وليس الوادي ولا المسجد منها، إلى الجبال المقابلة مما يلي حائط ابن عامر وطريق الحضن، وما جاوز ذلك فليس من عرنة، حكى ذلك صاحب "الشامل"، وحكى الشيخ أبو حامد الأسفراييني الشافعي: أن الشافعي قال في القديم: وعرفة ما بين الجبل المشرف إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا، ثم قال يعني الشيخ أبا حامد الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا مما يلي حوائط ابن عامر وطريق الحضن، قال المحب الطبري بعد حكايته لذلك قلت: وهذا موافق لما حكاه الشيخ أبو حامد، إلا أنه أضاف الجبل المشرف إلى بطن عرنة فكأنه يشير إلى الجبل الطويل في آخر عرفة. حتى يكون مشرفا على أول عرفة، وهذا مغاير لما ظنه الشيخ أبو حامد أنه جبل الرحمة، وما ذكره في "البيان" هو الصواب. والحمل على جبل الرحمة لا يصح، لأن عرفة يطيف بها، ولو جعلنا الخندمة لخرج ما خلفه من عرفة ولا خلاف عند أهل الخبرة بها أنها منه، ولذلك يقف فيما خلفه من السهل والجبل طوائف من أنواع العرب متطابقين على ذلك من غير إنكار، ويكون ذكره صاحب "البيان" من الإضافة إلى بطن عرفة1 يريد به عرفة موضع الوقوف، ولعله وسطها، حتى يكون بطنا، وربما صحف قوله: بطن عرفة بالفاء، فقيل بطن عرنة بالنون، وظن أن التقييد بالفاء غلط، وليس كذلك، بل هي بطن عرفة بالبفاء، واستدل على ذلك بما يؤيده... انتهى. قلت: وحد عرفة من جهة مكة الذي فيه هذا الاختلاف الآن بَيّنٌ، وهو علمان بين العلمين اللذين هما حد الحرم إلى جهة عرفة، وكان ثمة ثلاثة أعلام، فسقط أحدهم وهو إلى جهة المغمس وأثره بين، ورأيت عنده حجرا ملقى مكتوبا فيه: أمر الأمير الأصفهسلار الكبير مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل حسام أمير المؤمنين بإنشاء هذه الأعلام الثلاثة بين منتهى أرض عرفة ووادي عرنة، لا يجوز لحاج بيت الله العظيم أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس. وفيه: كان ذلك بتاريخ شعبان من شهور سنة خمس وستمائة. ورأيت مثل ذلك مكتوبا في حجر ملقى في أحد العلمين الباقيين، وفي هذين العلمين مكتوب، أمر بعمارة علمي عرفات، وأضاف كاتب ذلك: هذا الأمر للمستنصر العباسي، ثم قال: وذلك في شهور سنة أربع وثلاثين وستمائة2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل. 2 إتحاف الورى 3/ 52. ج / 1 ص -397- ذكر مقدار ما بين باب بني شيبة وهذين العلمين: من باب بني شيبة إلى العلمين المشار إليهما: أربعون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وأحد وثمانون ذراعا وستة أسباع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: أحد عشر ميلا ونصف ميل وربع سبع يزيد ستة أذرع وستة أسباع ذراع. ومن باب المعلاة إلى العلمين المذكورين: ثمانية وثلاثون ألف ذراع ومائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعا وستة أسباع ذراع بذراع اليد أيضا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: عشرة أميال وأربعة أخماس ميل وعشر ميل وخمس سبع ميل يزيد أربعة أذرع وستة أسباع ذراع بالذراع المذكور، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك على مقتضى الأصول الثلاثة في مقدار الميل، في اعتبار المسافة من باب المعلاة، وفي اعتبار المسافة من باب بني شيبة. ذكر تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة: قد قام على تحريره جماعة من العلماء ولم أر لأحد منهم في ذلك مثل ما رأيت للقاضي بدر الدين بن جماعة، ولذلك اقتصرت هنا على ذكره في ذلك: أخبرني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري رضي الله عليه، قال: أخبرني القاضي عز الدين بن جماعة، قال في منسكه: وينبغي تحري موقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اجتهد والدي تغمده الله برحمته في تعيينه وجمع فيه بين الروايات، فقال: إنه الفجوة المستعلية المشرفة على الموقف، وهي من وراء الموقف صاعدة في الرابية، وهي التي عن يمينها وورائها صخرتان متصلتان بصخر الجبل المسمى بجبل الرحمة، وهذه الفجوة بين الجبل المذكور والبناء المربع عن يساره، وهي إلى الجبل أقرب بقليل، بحيث يكون الجبل قبالة الواقف إذا استقبل القبلة، ويكون طرف الجبل تلقاء وجهه، والبناء المربع عن يساره بقليل. وقال: ذكر والدي رحمه الله أنه وافقه على ذلك من يعتمد عليه من محدثي مكة وعلمائها حتى حصل الظن بيقينه، قال: فإن ظفر بموقف النبي صلى الله عليه وسلم فهو الغاية في الفضل، وإن خفي عليه وقف بين الجبل والبناء المربع على جميع الصخرات والأماكن التي بينهما لعله أن يصادف الموقف الشريف النبوي فتفاض عليه بركاته... انتهى. ج / 1 ص -398- قلت: البناء المربع المشار إليه في هذا الكلام هو الذي يقال له بيت آدم بعرفة، وكان سقاية للحاج، أمرت بعملها العجوز والدة المقتدر العباسي، على ما هو مكتوب في حجر في حائطها القبلي، ومن ركن هذه السقاية الذي يلي جبل الرحمة من جهة مكة إلى الموضع الذي فيه الآن المحامل بعرفة: مائة ذراع وأحد عشر ذراعا بالحديد، يكون ذلك بذراع اليد: مائة ذراع وستة وعشرين ذراعا وستة أسباع ذراع، ومن موقف المحامل الآن بعرفة إلى ما يقابله من جهة جبل الرحمة: سبعة -بتقديم السين- وثلاثون ذراعا بالحديد، يكون ذلك بذراع اليد: اثنين وأربعين ذراعا وسبعي ذراع. ومن موقف المحامل بعرفة إلى ركن مسجد نمرة الذي يلي عرفة والطريف: ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع وخمسة وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وربع ذراع يكون ذلك بذراع اليد ثلاثة آلاف وثمانمائة ذراع وستة وسبعين ذراعا -بتقديم السين- وذلك ميل وثلاثة أرباع سبع ميل يزيد ذراعا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع. ومن جدار باب بني شيبة إلى الموضع الذي يقف فيه المحامل الآن بعرفة ثلاثة وأربعون ألف ذراع وثمانية وثمانون ذراعا وسبع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: اثنى عشر ميلا وخمس ميل وعشر ميل وعشر عشر ميل يزيد ثلاثة أذرع وسبع ذراع. ومن عتبة باب المعلاة إلى موقف المحامل الآن بعرفة: أربعون ألف ذراع وتسعمائة ذراع -بتقديم التاء- وإحدى وستون ذراعا وسبع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: أحد عشر ميلا وثلاثة أخماس ميل وعشر ميل وخمس سبع عشر ميل، يزيد ذراعا وسبع ذراع، ولا فضيلة للوقوف على الجبل الذي يقال له جبل الرحمة بعرفة، لأن مالكا رحمه الله كره الوقوف على جبل عرفة، وكان هذا الجبل صعب المرقى فسهله الوزير الجواد الأصفهاني، وبنى فيه مسجدا ومصنعا للماء، والقبة التي فيه الآن جددت في سنة تسع وتسعين وسبعمائة1 بعد سقوطها في التي قبلها، وعمارتها من مال أنفذه الملك الظاهر برقوق صاحب مصر، وما عرفت في أي وقت عمرت هذه القبة بهذا الجبل، وكانت موجودة في سنة تسع وسبعين وخمسمائة على ما ذكر ابن جبير، وذكر أنها تنسب لأم سلمة رضي الله عنها2، والله سبحانه وتعالى أعلم بصحة ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 406، العقد الثمين 3/ 257، درر الفرائد "ص: 316". 2 رحلة ابن جبير "ص: 153". ج / 1 ص -399- ذكر مسجد عرفة وحكم الوقوف فيه: مسجد عرفة هو الذي يصلي فيه الإمام بالناس يوم عرفة، وما ذكرناه من أنه مسجد عرفة يوافق ما ذكره الأزرقي في غير موضع من كتابه. وذكر المحب الطبري1 أن المتعارف فيه عند أهل مكة وتلك الأمكنة مسجد عرفة بالفاء، وقيل: إنه من عرنة بالنون، وهو موافق لما ذكره الشافعي، كما سبق في حد عرفة، وتقييد ابن الصلاح على ما نقل عنه المحب الطبري، لأنه قال: ويقال له مسجد عرنة بالنون وضم العين، كذلك قيده ابن الصلاح في منسكه، ثم عقب ذلك بقوله: والمتعارف فيه إلى آخر كلامه، وجزم النووي في "الإيضاح" بأن مسجد عرنة بالنون، وذكر ابن الجلاد من أصحابنا المالكية ما يقتضي أنه ليس من عرفة بالفاء، وذكر ابن المواز أن حائط القِبلي على حد عرفة، ولو سقط لسقط في عرفة... انتهى. وقيل: مقدم هذا المسجد من عرنة بالنون، ومؤخره من عرفة بالفاء، ذكر ذلك جماعة من الأئمة الشافعية الخراسانيين، منهم: الشيخ أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والقاضي الحسين في تعليقه، والرافعي، قال الشيخ أبو محمد: ويتميز ذلك بصخرات كبار فرشت في ذلك الموضع... انتهى. وتظهر ثمرة هذا الخلاف في رجل أخر الوقوف به، وتوقف مالك في إجزاء الوقوف بهذا المسجد، وفيه لأصحابنا قولان: المنع لأصبغ، والإجزاء لمحمد بن المواز، وهو مقتضى كلام الشيخ خليل الجندي في مختصره الذي صنفه لبيان ما به الفتوى، مع كراهة الوقوف بهذا المسجد، وما قاله الفقهاء المشار إليهم من أن هذا المسجد كله من عرفة أو بعضه يخالف مقتضى رأي من جعل حد عرفة من جهة مكة الأعلام الثلاثة التي عمرها المظفر صاحب إربل، وعمر منها المستنصر العباسي العلمين الموجودين الآن، لأن فيهما مكتوبا أن صاحب إربل أمر بإنشائهما بين منتهى أرض عرفة ووادي عرفة، ووجه مخالفة ذلك: ما ذكره الفقهاء في هذا المسجد أن من ركن المسجد المشار إليه مما يلي عرفة إلى محاذاة العلمين الموجودين الآن: سبعمائة ذراع -بتقديم السين- وأربعة وسبعين ذراعا -بتقديم السين- أيضا وربع ذراع وثمن ذراع كل ذلك بذراع الحديد يكون ذلك بذراع اليد: ثمانمائة ذراع وخمسة وثمانين ذراعا، ومقتضى كون هذه الأعلام علامة لحد عرفة أن يكون المسجد المشار إليه ليس من عرفة، وكذلك المسافة التي بين المسجد وبين الأعلام المشار إليها، وذلك يخالف ما ذكره الفقهاء المشار إليهم، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 384". ج / 1 ص -400- ويقال لهذا المسجد مسجد إبراهيم، وإبراهيم المنسوب إليه هذا المسجد هو الخليل عليه السلام كما هو مقتضى كلام الأزرقي في غير موضع1 وجزم به الرافعي والنووي، وأنكر ذلك القاضي عز الدين بن جماعة، قال: ليس لذلك أصل، وخطأ الشيخ جمال الدين الأستاذ الرافعي، والنووي فيما ذكراه من نسبة هذا المسجد للخليل عليه السلام وذكر أن ابن سراقة سبقهما إلى هذا الخطأ في كتابه "الأعداد"، وفيما ذكره الإسنوي وابن جماعة نظر، لمخالفته ما يقتضيه كلام الأزرقي، وهو عمدة في هذا الشأن، كيف وقد وافقه عليه غير واحد من كبار العلماء، منهم ابن المنذر فيما نقله عنه سليمان بن خليل، والله أعلم. ولم يذكر الأزرقي الوقت الذي بني فيه هذا المسجد. وذكر ابن عبد البر أنه بعد مصير الأمر لني هاشم بعشر سنين، هكذا نقله عن ابن عبد البر الشيخ خليل في توضيحه على مختصر ابن الحاجب، وبه فسر قوله: وإنما حدث بعد بني هاشم بعشر سنين، لأنه يوهم أنه حدث بعد انقراضهم، وعلى هذا فإن هذا المسجد بني في أوائل عشر الخمسين ومائة، والله أعلم2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202. 2 في مرآة الحرمين: أن مسجد عرفة بناه الوزير محمد بن علي بن المنصور المعروف بالجواد الأصفهاني، في سنة 559هـ كما جاء في كتاب "منائح الكرم" "ص 44 مرآة الحرمين". ذكر ذرع هذا المسجد وشيء من صفته: طوله من بابه إلى جداره القِبلي: مائة ذراع وأحد وتسعون ذراعا وربع ذراع، وعرضه من وسط جداريه: مائة وأربعون ذراعا إلا ثلث ذراع وارتفاع محرابه: ستة أذرع إلا ثلث، ودخوله في الجدار: ذراعان، وسعة فتحته: ثلاثة أذرع إلا ثمن، والمنبر: عشر درجات مبنية بالحجارة، وارتفاعه إلى الدرجة العليا: أربعة أذرع ونصف، والذراع المشار إليه في هذا الاعتبار هو ذراع الحديد المتقدم ذكره. وهذا المسجد جميعه مكشوف ليس فيه رواق، وقد ذكر الأزرقي في تاريخه صفة هذا المسجد في زمنه1، وذرعه بذراع اليد، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب واقتصرنا على ما ذكرناه هنا من ذرعه لأنه أبلغ في التعريف، وكان تحرر ما ذكرنا بحضوري. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 187 وما بعدها. ج / 1 ص -401- ذكر تسمية عرفة بعرفة وما يتعلق بجمعها وصرفها، وحكم الإحياء بها: أما سبب تسميتها عرفة: فلتعارف آدم وحواء فيها، لأن آدم عليه الصلاة والسلام أهبط بالهند، وحواء بجدة، فتعارفا بالموقف، قاله الضحاك، وقيل: لأن جبريل عليه السلام عرف الخليل عليه السلام فيها المناسك يوم عرفة وقيل: لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم وقيل: غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أصل هذا الكتاب، وهي تسعة أقوال، والله أعلم بالصواب. وأما جمعها وصرفها: فذكر جوازه جماعة من العلماء منهم النووي، لأنه قال وجمعت على عرفات وإن كان موضعا واحدا، لأن كل جزء منه يسمى عرفة، ولهذا كانت معروفة كقصبات، قال النحويون: ويجوز ترك الصرف كما يجوز ترك صرف غايات1 وأذرعات على أنها اسم مفرد لبقعة2... انتهى. وأما حكم الإحياء بها: فإنه لا يجوز ولا يملك، على ما قال الحسين بن علي الطبري، فيما نقله عنه ابن خليل، وعلل ذلك بأنها متعبد ومنسك لعامة الناس، فصارت كالمساجد. وحكى النووي في ذلك ثلاثة أوجه، قال: والأصح المنع مطلقا،وهذا أشبه بالمذهب... انتهى. الثالث عشر: عرنة بالنون، الموضع الذي يجتنب الحاج الوقوف فيه، وهو بين العلمين اللذين هما حد عرفة، والعلمين اللذين هما حد الحرم من هذه الجهة وذكر ابن حبيب المالكي أنها من الحرم، وذلك لا يصح على ما ذكر المحب الطبري في "القرى"3، وذكر أنها عند مالك من عرفة، وحكاه ابن المنذر أيضا عن مالك، وفي صحة ذلك عنه نظر، لأنه توقف في إجزاء الوقوف بمسجد عرفة مع كونه مختلفا فيه: هو هو من عرفة أو من عرنة؟ أو بعض من عرفة بالفاء، وبعضه من عرنة بالنون؟ فكيف يرى أن عرنة بالنون كلها من عرفة بالفاء عند مالك؟ ولعل من نسبه إليه أنه يرى أن عرنة بالنون كلها من عرفة بالفاء، أخذ ذلك مما وقع لمالك من إجزاء الوقوف بهذا المسجد، لأن ابن الجلاد ذكر أن الوقوف ببطن عرنة مكروه. قال: ومن وقف به أجزأه وقوفه، قال: وبطن عرنة هو المسجد الذي يصلي فيه الإمام... انتهى. ولا يلزم من كون مالك يرى إجزاء الوقوف بهذا المسجد أنه يرى عرنة -بالنون- كلها من عرفة -بالفاء- لاحتمال أنه يرى أن هذا المسجد من عرفة بالفاء، لما حصل عنده من ضعف الشبهة التي توقف لأجلها في إجزاء الوقوف بهذا المسجد، والله أعلم. وذكر المحب الطبري أن حد عرفة الذي ذكره الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي دخول عرنة في عرفة4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في تهذيب الأسماء: "عامات". 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 56. 3 القرى "ص: 383". 4 القرى "ص: 384". ج / 1 ص -402- وقد سبق في ذكر عرنة ما ذكره الأزرقي في حد عرفة، واستدلال المحب الطبري منه على دخول عرنة في عرفة، ثم قال تلو ذلك: ويؤيد ذلك ما استدل به أصحابنا على أنها ليست منها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وارتفعوا عن بطن عرنة". ولا دلالة فيه على ما قالوه، بل دليل على مذهب مالك، فإن أمره بالارتفاع عنها يشعر بذلك، وتؤيده الرواية الأخرى: "عرفة كلها موقف إلا عرنة"، والاستثناء دليل على دخول المستثنى في المستثنى منه، والاستثناء المنفصل على خلاف الأصل. نعم فيه دليل على اختلاف حكم الوقوف فيه وفي عرفة، وهو عند مالك كذلك، وعلى المذهب: فمتى وقف في شيء من حدود عرفة صح حجه. وإذا وقف في غيره لا يصح حجه... انتهى. وعرنة بضم العين وفتح الراء المهملة هذا هو المشهور فيها. وقيل: إنها بضم العين والراء. وقيل: بضم العين وسكون الراء، ذكره ابن عبد السلام المالكي في شرحه لابن الحاجب الفرعي. الرابع عشر: قُزَح، الموضوع الذي يستحب فيه للحاج أن يقف عنده غداة يوم النحر، هو مكان بالمزدلفة، وهو المكان الذي يجتمع الناس عنده للدعاء غداة يوم النحر، ويعرف بالمشعر الحرام. أشار إلى ذلك المحب الطبري وغيره، قال في "شرح التنبيه": وقزح بقاف مضمومة ثم زاي مفتوحة ثم حاء مهملة، في وسطه: مزدلفة، ويكثر من التلبية، ويدعو بما تقدم، ولا ينبغي أن يفعل ما تطابق الناس على فعله من النزول بعد الوقوف عليه من درج في وسطه ضيقة يزدحم فيها الناس. وذلك بدعة. بل يكون نزوله من حيث رقيه من الدرج الظاهرة. وذكر الإمام أبو عمرو بن الصلاح: أن قزح جبل صغير من آخر المزدلفة ثم قال: وقد استبدل الناس بالوقوف على الموضع الذي ذكرناه ببناء مستحدث في وسط المزدلفة. ولا يتأدى به هذه السنة، قال المحب: والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل كما تقدم، والمشاهدة تشهد بصحة ذلك، ولم أر ما ذكره لغيره... انتهى ما ذكره المحب الطبري بنصه، وذكر في كتابه "القرى" مثله1. وذكر النووي في "الإيضاح" أن الأظهر أن للحاج تحصيل السنة بالوقوف على البناء المستحدث. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب صفة البناء الذي على قزح قديما وحديثا، وخبر الوقيد فيه، ونشير هنا إلى شيء من ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 426". ج / 1 ص -403- أما صفة البناء الذي عليه قزح الآن1 فإنه بناء مربع يشبه المنارة، وفي أعلاه اثنتان وعشرون شرافة، منها في الجهة القبلية سبع شرافات، وفي بقية الجهات خمس من كل جهة. وله درج من ظاهره وباطنه. وعدد الذي من ظاهره أربع وعشرون، والذي من باطنه عشرون، وارتفاعه في السماء ثلاثة عشر ذراعا، بذراع الحديد المستعمل في القماش بمصر ومكة. وذلك من الأرض إلى أعلى الشراريف، وارتفاعه من الأرض إلى أعلى السطح بغير الشراريف ينقص عن ذلك ذراعين ونصف تقريبا، وذرع تربيعه من كل ناحية اثنا عشر ذراعا ونصف ذراع، بالذراع المشار إليه، إلا أن الجهة الشرقية منه تنقص عن بقية الجهات ثلث ذراع، وكان اعتبار ما ذكرناه من ذرعه وصفته في ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثمانمائة، بحضوري. وصفته هذه تخالف صفته التي ذكرها الأزرقي2، واقتصرنا عليها لكونها أبلغ في تعريفه، ولم أعرف متى بني هكذا. وبناه في الجاهلية قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم، على ما ذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد"3. وأما خبر الوقيد عليه: فإنهم كانوا يوقدون فيه بالشمع في خلافة الرشيد، فلما مات كانوا يوقدون عليه بمصابيح كبار، ثم صاروا يوقدون عليه بمصابيح صغار وفتله دقاق، هذا ملخص ما ذكره الأزرقي في خبر الوقيد عليه، وذكر أنه كان يوقد عليه في خلافة الرشيد النار والحطب4، وما عرفت هل أراد بذلك في الجاهلية أو في الإسلام، والله أعلم. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذرع ما بين قزح وبين باب بني شيبة، وما بين قزح وبين باب المعلاة عند ذكر المشعر الحرام، والأصل في استحباب الوقوف على قزح ما رويناه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع 5 أتى قزح فوقف عليه وقال: "هذا قزح وهو الموقف، وجمْعٌ كلها موقف"، أخرجه أبو داود6. والترمذي7 وقال حسن صحيح ... انتهى. الخامس عشر: كداء، الموضع الذي يستحب للمحرم دخول مكة منه، وهو الثنية التي بأعلا8 مكة التي يهبط منها إلى المقبرة المعروفة بالأبطح، ويقال لها الحجون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أي سنة 811هـ وهي السنة التي ذرع الفاسي فيها هذا الموضع، كما سيأتي في المتن. 2 راجع أخبار مكة للأزرقي 2/ 188. 3 لم أجد هذه المعلومة في "العقد الفريد". 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 187. 5 "جمع" بفتح فسكون، هو المزدلفة، سمي بذلك لاجتماع الناس فيه. 6 سنن أبي داود 2/ 193 رقم 1935 كتاب المناسك. 7 الترمذي "885" في الحج "باب ما جاء أن عرفة كلها موقف". وهو فيه طويل. 8 كذا في الأصل. ج / 1 ص -404- الثاني. وما ذكرناه في تعريف كداء هذا، ذكر الفاكهي ما يوافقه لأنه قال في تعريفه لما في شق معلاة مكة الشامي كداءك الجبل المشرف على المقبرة والوادي، وله يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه يوم الفتح: عدمت ثنيتي إن لم تروها تثير النقع عن كتفي كداء1 وقال الفاكهي بعد أن ذكر شعب المقبرة في هذه الجهة وشيئا من خبره: ومن ثنية المقبرة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع2. وقال بعضهم: قيل: إن ثنية المقبرة هو اسمها، يقال لها: ثنية المقبرة، ويقال اسمها هذا، وهي ثنية المعلاة... انتهى. ويقال: اسمها كداء، وهو مشعر بتضعيف هذه المقالة، لكونها حكيت بصيغة التمريض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان دخل من هذه الثنية إلى مكة في حجة الوداع تعين أن تكون هذه الثنية كداء، لأن الأخبار وافرة صحيحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حج من المدينة دخل إلى مكة من كداء. وفي تاريخ الأزرقي ما يوافق ما ذكره الفاكهي من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من هذه الثنية3، وذلك يقتضي أن تكون هذه الثنية: كداء، للمعنى السابق، والله أعلم. وفي كلام غير واحد من المتأخرين تسمية هذه الثنية كداء، منهم: سليمان بن خليل، والمحب الطبري، والنووي، وقال المحب: هي بالفتح والمد تصرف على إرادة الموضع، وبتركه على إرادة البقعة... انتهى. وقد ذكر الأزرقي شيئا من خبر هذه الثنية، وهي الآن يحاميم الأحداب التي بين دار السري إلى ثنية المقبرة، وهي التي قبر أمير المؤمنين أبي جعفر بأصلها، قال: يعرفها باليحاميم وأولها القرن الذي بثنية المدنيين على رابية بيوت ابن أبي حسين النوفلي، والذي يليه القرن المشرف على دار منارة الحبشي فيما بين ثنية المدنيين وهي التي كان ابن الزبير مصلوبا عليها، وكان أول من سهلها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثم عملها عبد الملك بن مروان، ثم كان آخر من بنى ضفائرها ودرجها وجدرها4 المهدي... انتهى. وذكر ذلك الفاكهي إلا أنه لم يجزم بكون معاوية رضي الله عنه أول من سهل هذه الثنية وحكاه بصيغة التمريض، وقال أيضا: ويقال إن ابن الزبير أول من سهلها... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هكذا ورد في النسختين، والصحيح أن روايته هكذا: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء وسيأتي البيت صحيحا بعد قليل، وفي أخبار مكة للفاكهي كما أثبتناه "4/ 180". 2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 179. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286. 4 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 286: "جددها". ج / 1 ص -405- انتهى. فيستفاد مما ذكره الأزرقي والفاكهي قولان في أول من سهل هذه الثنية، والله أعلم بالصواب. وفي سنة إحدى عشرة وثمانمائة1 سهل بعض المجاورين موضعا مستصعبا في رأسها فالله تعالى يثيبه، وسهل أيضا غير من المجاورين بمكة أثابه الله في النصف الثاني من سنة سبع عشرة وثمانمائة طريقا في هذه الثنية غير الطريق المعتاد2، وهذه الطريق تكون على يسار الهابط من هذه الثنية إلى المقبرة والأبطح، وكانت حزنة ضيقة جدا، فتحت ما يليها من الجبل بالمعاول حتى اتسعت، فصارت تسع أربع مقاطير من الجمال محملة، وكانت قبل ذلك لا تسع إلا واحدا، وسهلت أرضها بتراب ردم فيها حتى استوت، وصار الناس يسلكونها أكثر من الطريق المعتادة، وجعل بينهما حاجزا من حجارة مرصوصة، وكان في بعض هذه الطريق قبور فأخفي أثرها. السادس عشر: كدي، الموضع الذي يستحب الخروج منه لمن كان في طريقه: هو الثنية التي بأسفل مكة التي بني عليها بابها المعروف بباب الشبيكة على ما يقتضيه كلام المحب الطبري في "شرح التنبيه" لأنه قال فيه: وكدى التي يخرج منها الحاج مضمومة مقصورة، وقد بني عليها باب مكة الذي يتوجه منه إلى عمرة التنعيم... انتهى. وباب مكة الذي أشار إليه المحب هو باب الشبيكة، لأن الناس تتوجه منه إلى عمرة التنعيم غالبا. وذكر النووي ما يؤيد ما ذكره المحب الطبري في ضبطها ومكانها، لأنه قال في الإيضاح" في الباب الثالث: الرابعة: السنة أن يدخل مكة من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهي بأعلى مكة ينحدر منها إلى المقابر، وإذا خرج راجعا إلى بلده خرج من ثنية كدًى -بالضم والقصر والتنوين، وهي بأسفل مكة بقرب جبل قعيقعان، وإلى صوب ذي طوى... انتهى. وذكر القاضي بدر الدين بن جماعة في منسكه ما يقتضي أن كدى هذه هي الثنية التي عندها الموضع المعروف بقبر أبي لهب بطريق العمرة، ونص كلام ابن جماعة: وإذا يخرج من ثنية كد -بالضم والقصر من أسفل مكة، وهي الثنية التي يخرج إليها من باب مكة المعروف بباب الشبيكة، وهي الثنية التي يخرج منها إلى المرجم المعروف بقبر أبي لهب، يسلك منه إلى الزاهر المتقدم ذكره وغيره، ومنه يخرج المعتمرون... انتهى. وكلام ابن جماعة هذا يخالف ما قاله المحب الطبري في كدى التي يخرج منها، والمحب الطبري الذي يعتد به في معرفة ذلك، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 465، 466. 2 إتحاف الورى 3/ 522. ج / 1 ص -406- ومن هذه الثنية دخل قيس بن سعد بن عبادة يوم فتح مكة على ما ذكر الأزرقي1، وذكر ما يقتضي أن حسان بن ثابت عناها بقوله السابق في كداء بالفتح، وأنشد على غير ما أنشده الفاكهي لأنه قال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء2 ... انتهى. وبأسفل مكة ثنية يقال لها: كديّ، بالضم وتشديد الياء وتنوينها، يخرج منها إلى جهة اليمن، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن ويخرجون، هكذا قال في "شرح التنبيه"، وقال في "القرى": والثالثة كدي، بالضم وتشديد الياء مصغر، موضع بأسفل مكة، والأوليان هما المشهورتان، وهذه يخرج منها إلى جهة اليمن، هذا ضبط عن المحققين، ومنهم: أبو العباس أحمد بن عمر العذري، فإنه كان يرويه عن أهل المعرفة بمواضع مكة من أهلها، حكاه عنه الحميدي3... انتهى. وما ذكره من أنه بني على الثنية التي يقال لها كدي بالتصغير باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن ويخرجون، يخالف ما يقوله الناس فيها، لأنهم يذكرون أنها الثنية التي يهبط منها إلى خم، وخم: شعب مشهور، وليس هو خم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عند غديره: "من كنت مولاه فعلي مولاه" الوارد في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه موضع عند الجحفة، وبينها وبين باب مكة الذي أشار إليه المحب الطبري غلوتان، والله أعلم. وممن ذكر هذا الموضع سليمان بن خليل، لأنه قال: وأما كدي بالتصغير بضم الكاف وفتح الدال، فإنه جبل بأسفل مكة يخرج منها إلى اليمن... انتهى. وما ذكرناه في ضبط كداء العليا، وكدي السفلى التي بني عليها باب الشبيكة هو الصواب، وضبط بعضهم العليا بالضم، وهذه السفلى بالفتح، ونسب النووي قائل ذلك إلى الغلط والتصحيف4 وذكر صاحب "المطالع" ما يشهد لمن ضبط العليا بالضم، ولكن المشهور فيها الفتح، والله أعلم. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن بأعلى مكة موضعا آخر يقال له كداء غير كداء الذي هو ثنية المقبرة، لأنه قال: كداء: الجبل المشرف على الوادي مقابل مقبرة أهل مكة، اليوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 286. 2 البيت من قصيدة مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء 3 القرى "ص: 254". 4 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 123، 124. ج / 1 ص -407- تحته بيوت عبد الرحمن بن يزيد، وابن خلف مولى العباس بن محمد، وهو ممتد إلى دار الأراكة... انتهى1، ذكر هذا في تعريفه لما في شق معلاة مكة اليماني، وذكر ما سبق في كداء الذي هو ثنية المقبرة في شق معلاة مكة الشامي، وتغاير الجهتين يقتضي مغايرة المكانين، وذكر في موضع آخر ما يقتضي أن كدا موضعا بأعلى مكة غير كداء الذي هو ثنية المقبرة، ولم يتعرض لضبط ذلك، فتصير المواضع أربعة، اثنان لا تعلق لهما بالمناسك، واثنان لهما تعلق بالمناسك، وهما كداء الذي هو ثنية المقبرة، وكدي الذي هو في طريق المدينة، وإنما استحب الخروج منه والدخول إلى مكة من آذاخر، لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع، وأما في فتح مكة فدخل صلى الله عليه وسلم من ثنية أذاخر بأعلى مكة، على ما ذكره ابن إسحاق في سيرته، والأزرقي، وذكر موسى بن عقبة ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح من كداء بأعلى مكة، وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه2، والله أعلم بالصواب. وأما في عمرته في الجعرانة فدخل صلى الله عليه وسلم مكة من أسفلها وخرج من أسفلها، كذا في خبر ذكره الفاكهي بإسناده، وفيه من لم أعرفه، والله أعلم. السابع عشر: المأزمان اللذان يستحب للحاج أن يسلك طريقهما إذا رجع من عرفة، هو الموضع الذي تسميه أهل مكة الآن: المضيق بين المزدلفة وعرفة، قال صاحب "المطالع" المأزمان مهموز مثنى، قال ابن شعبان: هما جبلا مكة وليس من المزدلفة... انتهى. وقال النووي في "التهذيب" والمأزمان جبلان بين عرفات ومزدلفة بينهما طريق. هذا معناهما عند الفقهاء فقولهم: على طريق المأزمين أي الطريق التي بينهما، وأما أهل اللغة فقالوا: المأزم الطريق الضيق بين جبلين"3... انتهى باختصار. وذكر المحب الطبري معنى ذلك، قال: وأنكر بعض الناس على الفقهاء ترك همز المأزمين وعده لحنا، وهذه عبارة غير محررة، فإن ترك الهمز في المثال جائز باتفاق أهل العربية، فمن همز فهو الأصل، ومن لم يهمز فعلى التخفيف، فهما فصيحان... انتهى. وذكر الأزرقي أن ذرع ما بين مأزمي عرفات مائةٌ ذراع واثنا عشر إصبعا، وذكر ذلك ابن خليل هكذا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 145. وقال محقق الكتاب: وأرى أن وجود هذه الترجمة وهم من النساخ لا أنسبه للفاكهي؛ لأن ما هو مذكور في شرح الترجمة سيذكره الفاكهي في "ثنية كدي"، ودار الأراكة ودار ابن خلف مولى العباس ذكرهما الفاكهي وحدد موضعهما على "ثنية كدي". 2 السيرة النبوية للإمام المعافري 4/ 91. 3 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 148. ج / 1 ص -408- قلت: ومن أول هذين المأزمين مما يلي المزدلفة إلى العلمين اللذين هما حد عرفة اثنا عشر ألف ذراع وثلاثة وتسعون -بتقديم التاء- وثلاثة أسباع بذراع اليد المتقدم، وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في مقداره، ومن أول هذين المأزمين مما يلي المزدلفة إلى العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة ثمانية آلاف ذراع وتسعمائة ذراع -بتقديم التاء- واثنان وعشرون ذراعا، وذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ذلك بالأميال، ولذلك تركنا ذكره هنا. الثامن عشر: "محسر" الموضع الذي يستحب الإسراع فيه، هو واد بين منى والمزدلفة على حدهما، وليس منهما، أشار إلى ذلك النووي في "الإيضاح"، والمحب الطبري في "القرى"، وذكر أن في حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أنه من منى، والحديث في الصحيحين. ونقل صاحب "المطالع" ما يدل على أن بعض "محسر" من منى، وبعضه من المزدلفة، وصوب ذلك. وذكر سليمان بن خليل، والمحب الطبري ما يدل على أن "محسر" الموضع الذي يقال له وادي النار، وهو مشهور بذلك إلى الآن، ويقال ذلك أيضا للموضع الذي ينزله الآن بنو حسن بمنى، وبينه وبين محسر فلوات، ولعل ذلك لقربه من محسر، والله أعلم. ويقال لمحسر: المهلل؛ لأن الناس إذا وصلوا إليه في حجهم هللوا فيه وأسرعوا السير في الوادي المتصل به، والمهلل المشار إليه مكان مرتفع عنده بركتان معطلتان بلحف قرن جبل عال، ويتصل بهما آثار حائط ويكون ذلك كله على يمين الذاهب إلى عرفات ويسار الذاهب إلى منى. ولما عرفه ابن صلاح قال: وأول محسر من القرن المشرف من الجبل الذي على يسار الذاهب إلى منى. ثم قال: وأهل مكة يسمونه وادي النار... انتهى. وكون محسر عند الموضع الذي يقال له: المهلل، أمر مشهور عند الناس، والله أعلم. ويتأيد لذلك بأن من رأس المهلل إلى منتهى منى من جهة مكة، فهو طرف العقبة التي هي حد منى سبعة آلاف ذراع ومائة ذراع وتسعة -بتقديم التاء- وثلاثين ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، وذلك يقارب ما ذكره الأزرقي في قدر منى، وهو على ما ذكر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186. ج / 1 ص -409- وذكر المحب وابن خليل: أنه سمي محسرا لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيا. قلت: وفي ذلك نظر، لأن ابن الأثير ذكر في "نهاية الغريب" أن هذا الفيل لم يدخل الحرم، ذكر ذلك في مادة حبس، عند قوله: حبسها حابس الفيل1. وذكر الأزرقي أن وادي محسر خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا2... انتهى. واتفق الأئمة الأربعة على استحباب الإسراع فيه قدر رمية حجر للراكب والماشي. وحكى الرافعي وجها ضعيفا أن الماشي لا يستحب له الإسراع، والأصل في استحباب الإسراع في هذا المكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فيه، وجاء في بعض الأحاديث ما يقتضي خلاف ذلك، لكن الأحاديث في الإسراع أكثر وأصح، وقدمت على ما خالفها لأنها مثبتة، واختلف في تحريكه صلى الله عليه وسلم راحلته في هذا الموضع فقيل: يجوز أنه فعل ذلك لسعة الموضع، وقيل: إنه فعل ذلك لأجل أن مأوى الموضع للشياطين، فاستحب صلى الله عليه وسلم الإسراع فيه، ولعله المشار إليه بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أفاض من عرفة إلى المزدلفة: إليك تعدو قلقا وضينها مخالفا دين النصارى دينها ومحسر بميم مضمومة ثم حاء مفتوحة ثم سين مشددة مكسورة ثم راء مهملة هكذا ضبطه النووي وغيره. التاسع عشر: المحصب3 الذي يستحب للحاج النزول فيه بعد انصرافه من منى، وهو مسيل بين مكة ومنى، وهو أقرب إلى مكة بكثير، وقد صرح الأزرقي بحده من جهة مكة، ووقع في كلامه ما يوهم حده من جهة منى، ونص كلامه: وحد المحصب من الحجون مصعدا في الشق الأيسر وأنت ذاهب إلى منى إلى حائط خرمان، مرتفع على بطن الوادي4... انتهى. والحجون المشار إليه في هذا الحد هو الجبل المتقدم ذكره، وقد تقدم لنا أنه أحد الجبلين اللذين بينهما الشعب الذي تسميه الناس: شعب العفاريت، بالمعلاة على يمين الذاهب إلى منى، ويعرف أحد الجبلين بجبل ابن عمر، لأن فيه ما يقال قبر عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو الذي على يمين الداخل إلى الشعب المشار إليه، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 النهاية لابن الأثير باب الحاء مع الباء. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 189، 190. 3 المحصب: بالضم ثم بالفتح وصاد مهملة مشددة، اسم المفعول من الحصباء، والحصب هو الرمي بالحصى، وهو مسيل ماء بين مكة ومنى. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 160. ج / 1 ص -410- وإذا تقرر أن الحجون بهذا المكان، فيكون ذلك حد المحصب من جهة مكة، كما هو مقتضى كلام الأزرقي المتقدم ذكره. ووقع للشيخ تقي الدين بن الصلاح في منسكه، والشيخ محيى الدين النووي في إيضاحه وغيره، والشيخ محب الدين الطبري في "القرى" ما يوهم أن حد المحصب من جهة مكة دون الموضع الذي أشرنا إليه في تفسير الحجون. ونص كلام ابن الصلاح: والمحصب بالأبطح، وهو ما بين الجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة إلى الجبل الذي يقابله مصعدا في الشق الأيسر، وأنت ذاهب إلى منى مرتفعا عن بطن الوادي، وليست المقبرة منه، وإنما سمي المحصب لأن السيل يجمع فيه الحصباء... انتهى. وكلام النووي والمحب مثل هذا... انتهى. وللقاضي عز الدين بن جماعة في منسكه الكبير في حد المحصب كلام مثل هذا ولا تضاد بين ما ذكرناه في كون حد المحصب من جهة مكة الموضع الذي ذكرناه في تفسير الحجون، وبين ما قاله ابن الصلاح، ومن ذكر من العلماء أن المقبرة ليست من المحصب لأن سواد هؤلاء العلماء المشار إليهم أجمعوا على التحديد بالجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة، في تعريفهم المحصب: الجبل الذي على يسار الهابط من ثنية كداء بفتح الكاف والمد، فإن مقبرة أهل مكة عنده، أو الجبل الذي على يمين الهابط من الثنية المشار إليها، فإن عنده أيضا مقبرة لأهل مكة، وأيهما كان المراد، فهو يقابل الموضع الذي ذكرناه في تفسير الحجون، فيكون هذا الموضع حد المحصب من جهة مكة، ويكون ما حاذاه من المقبرة مستثنى من عرض المحصب لا من طوله، ويتفق كلام هؤلاء من جهة مكة عند ابن الصلاح، ومن قال بقوله من الأئمة المشار إليهم، دون الموضع الذي أشرنا إليه في حد المحصب، وأن المقبرة غير داخلة في حده طولا، لقالوا حده من جهة مكة طرف المقبرة من أعلاها، ولم يحتاجوا إلى التنبيه على أن المقبرة لا تدخل فيه، فإن هذه العبارة وما شابهها يقتضي ذلك، ولكن لما كان المحصب من جهة مكة الموضع الذي أشرنا إليه ولم يكن في محاذاته سوى أحد الجبلين اللذين بينهما الثنية المشار إليها، قالوا في تعريفه: هو ما بين الجبل الذي عنده مقبرة أهل مكة، والجبل المقابل له؛ يعنون الحجون واستثنوا المقبرة مما بين الجبلين، لأن موضعهما ليس محصبا لمزدلفة، فإن المحصب هو ما سهل من الأرض لأن العلماء فسرو المحصب بأنه الموضع الذي يجتمع فيه حصب من السيل، وموضع المقبرة ليس بهذه الصفة، ويدل لصحة هذا التأويل أن المحصب هو الأبطح، والبطحاء على ما قال المحب الطبري، ولا ريب في كون الموضع الذي أشرنا إليه من الأبطح، والله أعلم. ج / 1 ص -411- وأما حد المحصب من جهة منى: فوقع في كلام الأزرقي ما يوهم أنه إلى حائط خرمان، وهو الأودان المعروفة بالخرمانية بأعلى المعابدة، ولفظ الأزرقي الذي أوهم كون هذا الموضع حد المحصب قوله في الحد السابق إلى حائط خرمان، ويحتمل أن لا يكون تعرض لحده، وإن أراد أن الموضع الذي ينزل من المحصب يكون على يسار الذاهب إلى منى، وعلى يسار الذاهب إلى حائط خرمان، وهو أقرب والله اعلم، لأني وجدت في كلام منقول عن الشافعي ما يقتضي أن حد المحصب من جهة منى جبل المقبرة وهو بقرب السبيل الذي يقال له سبيل الست، وطريق منى إلى جهته لا إلى جهة منى ونص الكلام الذي رأيته للشافعي في ذلك على ما نقل سليمان بن خليل في منسكه، قال الشافعي رضي الله عنه: المحصب ما بين الجبلين، جبل المقبرة، والجبل الآخر وهو على باب مكة بالأبطح، هكذا نقل الشيخ أبو حامد في التعليق... انتهى من منسك ابن خليل، وهو يقتضي أن حد المحصب من جهة جبل المقبرة، وجبل العيرة حد الميل الثاني من الأميال التي ذكرها الأزرقي، فيما بين باب بني شيبة وموقف الإمام بعرفة، لأنه قال لما ذكر هذه الأميال: والميل الثاني في حد جبل المقبرة، وقال في موضع آخر: المقبرة الجبل الذي عند الميل على يمين الذاهب إلى منى... انتهى. وقد اعتبرنا من باب بني شيبة إلى السبيل الذي يقال له سبيل الست فجاء ميلين، كل ميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، فاستفدنا من هذا أن جبل المقبرة عند هذا السبيل، وأنه حد المحصب من جهة منى، والله أعلم. وأما قول صاحب المطالع": المحصب بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، فليس بظاهر، وقد نبه على ذلك النووي، والله أعلم، والمحصب هو خَيْف بني كنانة التي تقاسمت فيه قريش على الكفر. العشرون: المروة، الموضع الذي هو منتهى السعي، هو في أصل جبل قعيقعان، على ما قال أبو عبيد الله البكري، وقال النووي: إنها أنف من جبل قعيقعان1. وذكر سليمان بن خليل سبب تسمية الصفا والمروة، وكذلك المحب الطبري ونص ما ذكره سليمان بن خليل: وقال جعفر بن محمد: نزل آدم عليه السلام على الصفا، وحواء على المروة فسمي الصفا باسم آدم المصطفى، وسميت المروة باسم المرأة، وهي الصخرة الملساء، وجمع المروة المروات بمثل تمرة وتمرات. ونص ما ذكره المحب الطبري في شرح التنبيه: والصفا مقصور، وهو في الأصل: جمع صفا، وهو: الصخرة الملساء، والحجر الأملس، والمروة في الأصل: الحجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تهذيب الأسماء واللغات 1/ 2: 181. ج / 1 ص -412- الأبيض البراق، وقيل: الذي يقدح منه النار، فسمي الجبلان بذلك لتضمنهما هذا المعنى، والله أعلم ثم قال: وقد بني على الصفا والمروة أبنية حتى سترتهما، بحيث لا يظهر منهما شيء غير يسير في الصفا، قال: والمروة أيضا في وجهها عقد كبير مشرف، والظاهر أنه جعل علما لحد المروة، وإلا كان وضعه ذلك عبثا، وقد تواتر كونه حدا بنقل الخلف عن السلف، وتطابق الناسكون عليه، فينبغي للساعي أن يمر تحته ويرقى على البناء المرتفع عن الأرض... انتهى. وذكر الأزرقي، والبكري في درج المروة ما يخالف حالها اليوم، أما الأزرقي فإنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: قلت: البناء المرتفع الذي أشار إليه المحب كهيئة الدكة، وله درجة ذكر وذكر ذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا، وذرع ما بين الصفا والمروة: وعلى المروة خمس عشرة درجة1... انتهى. وذكر في هذه الترجمة درج الصفا، ونص كلامه على الصفا اثنتي عشرة درجة من حجارة ... انتهى. وذكر البكري في درج المروة مثل ما ذكره الأزرقي. وذكر ابن جبير أن درج المروة خمس درجات2، وذكر النووي أن فيها درجتين، والذي فيها الآن واحدة. والعقد الذي بالمروة جدد بعد سقوطه في آخر سنة إحدى وثمانمائة أو في التي بعدها، وعمارته هذه من جهة الملك الظاهر برقوق3، صاحب مصر، واسمه مكتوب بسبب هذه العمارة في أعلى هذا العقد، وفي الصفا أيضا، وما أظن أن عقد الصفا بني، وإنما أظن أنه نور وأصلح، وسبب ترددي في ذلك أني رحلت من مكة في آخر سنة إحدى وثمانمائة رحلتي الثانية إلى الديار المصرية والشامية. ومن تحت هذا العقد4 إلى أول درجة الدركة التي بالمروة داخل العقد: سبعة أذرع، ومن تحت العقد الذي بالمروة إلى الذي يستدبره مستقبل القبلة: ثمانية عشر ذراعا وثلثا ذراع، كل ذلك بذراع اليد، واتساع هذا العقد ستة عشر ذراعا بذراع الحديد المصري. والمروة أفضل من الصفا على ما قاله شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، وتلميذه الشهاب القرافي، لكونها تزاد من الصفا أربعا، والصفا لا يزاد منها إلا ثلاثا، وما كانت العبادة فيه أكثر فهو أفضل. وذكر القاضي عز الدين بن جماعة أن في ذلك نظرا، وقالوا: لو قيل بتفضيل الصفا لأن الله سبحانه وتعالى بدأ به لكان أظهر، ولو قيل بتفضيل المروة باختصاصها بالنحر والذبح دون الصفا لكان أظهر مما قالاه، والله أعلم... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119. 2 رحلة ابن جبير ص " 84". 3 توفي برقوق عام 801هـ. 4 إتحاف الورى 3/ 416. ج / 1 ص -413- الحادي والعشرون: المزدلفة، الموضع الذي يؤمر الحاج بنزوله والمبيت فيه بعد دفعه من عرفة ليلا، هو ما بين مأزمي عرفة ومحسر، ومأزمي عرفة هو الذي يقال له المضيق، وقد ذكر حد المزدلفة بما ذكرناه جماعة من العلماء، منهم: عطاء كما في تاريخ الأزرقي عنه1، والإمام الشافعي في كتابه "الأم"، لأنه قال: المزدلفة حدها من حيث يفيض من مأزمي عرفات إلى أن يأتي قرن محسر، هكذا على يمينك وشمالك من تلك المواطن القوائل، والظواهر، والنجاد، والوادي، كل ذلك من المزدلفة ... انتهى. وسميت مزدلفة لازدلاف الناس إليها، أي اقترابهم، وقيل: لمجيء الناس إليها زلفا من الليل، أي ساعات، وقيل غير ذلك، ويقال للمزدلفة: جمع سميت بذلك لاجتماع الناس بها، وقيل: لاجتماع آدم وحواء فيها، وقيل: لجمع الصلاتين فيها. وبها مسجد حول قزح، وهو صغير مربع ليس بالطويل الحيطان، طوله إلى جهة القبلة ستة وعشرون ذراعا إلا ثلث ذراع غير أن الجهة التي عن يسار المصلي تنقص في الطول عن الجهة اليمنى خمسة أذرع إلا ثلث ذراع، وعرضه اثنان وعشرون ذراعا، وفي قبلته محراب فيه حجر مكتوب فيه: أن الأمير يلبغ الخاصكي جدد هذا المكان بتاريخ ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة2. وقد ذكر الأزرقي صفة مسجد المزدلفة وذرعه3، وذكرنا كلامه بنصه في أصل هذا الكتاب، وكان تحرير ما ذكرناه من ذرع هذا المسجد بحضوري، والذراع الذي حررناه به هو ذراع الحديد المتقدم ذكره، وطول المزدلفة من حدها الذي يلي منى، وهو طرف وادي محسر إلى حد مزدلفة الذي يلي عرفة، وهو أول المأزمين مما يلي المزدلفة سبعة آلاف ذراع وسبعمائة ذراع وثمانون ذراعا وأربعة أسباع، ومن جدار باب بني شيبة إلى حد مزدلفة من جهة منى ومكة عشرون ألف ذراع وخمسمائة ذراع وسبعة أذرع -بتقديم السين- وثلاثة أسباع ذراع، يكون ذلك أميال على القول بأن الميل ثلاثة ألاف ذراع وخمسمائة ذراع: خمسة أميال وستة أسباع ميل يزيد سبعة أذرع -بتقديم السين- وثلاثة أسباع ذراع، ومن باب المعلاة إلى حد المزدلفة المشار إليها ثمانية عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثمانون ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 191، 192. 2 وفي سنة 842هـ أمر السلطان جقمق الأمير سودون بتعمير هذا المسجد، وفي سنة 874هـ في سلطة السلطان قايتباي أمر أمير مكة الشريف محمد بن بركات بتبيضه، وفي سنة 1072هـ عمره سليمان بك والي جدة من قبل السلطان محمد الفاتح. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186 وما بعدها. ج / 1 ص -414- بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: خمسة أميال وربع ميل يزيد خمسة أذرع وثلاثة أسباع ذراع، والله أعلم. الثاني والعشرون: المشعر الحرام الذي يستحب للحاج الوقوف عنده للدعاء والذكر، غداة يوم النحر، هو موضع معروف بالمزدلفة، وهو قزح الذي تقدم ذكره وحديث جابر رضي الله عنه الطويل يدل على أن المشعر الحرام موضع من المزدلفة لا كلها، لأنه قال فيه بعد أن ذكر نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ومبيته بها، وصلاته فيها الصبح: ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا وكبر وهلل ووحد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا ودفع قبل أن تطلع الشمس1. وفي حديث علي رضي الله عنه السابق عند ذكر قزح ما يؤيد ذلك2، لأن قزح هو المشعر الحرام، والله أعلم. وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما: المشعر الحرام المزدلفة كلها، ومثله في كثير من كتب التفسير، في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] فهو محمول على المجاز، أشار إلى ذلك المحب الطبري، والأفصح في المشعر الحرام فتح الميم، وكسرها لغة، حكاه الجوهري وغيره، ولم ترد إلا بالفتح،ومعنى المشعر الحرام أي الذي يحرم فيه الصيد وغيره، ويجوز أن يكون معناه ذا الحرمة، والله أعلم. وأحدث وقت بني فيه المشعر الحرام فيما علمت سنة تسع وخمسين وسبعمائة3، أو في التي بعدها. ومن جدار باب بني شيبة إلى جدار المشعر الحرام الذي يلي مكة المكرمة خمسة وعشرون ألف ذراع وسبعمائة ذراع -بتقديم السين- وثمانية أذرع وأربعة أتساع ذراع ومن عتبة باب المعلاة إلى حد المشعر الحرام الذي يلي مكة ثلاثة وعشرون ألف ذراع، وستمائة ذراع وواحد وثمانون ذراعا وأربعة أسباع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: ستة أميال وخمسة أسباع ميل ونصف عشر ميل، يزيد ستة أذرع وأربعة أسباع ذراع، والله أعلم. الثالث والعشرون: المطاف المذكور في كتب الفقهاء، وهو ما بين الكعبة ومقام إبراهيم الخليل عليه السلام وما يقارب ذلك من جميع جوانب الكعبة، وقد أشار إلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه مسلم "1218" في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو داود "1905، 1907، 1908، 1909" في المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي 5/ 143، 144ن في الحج وابن ماجه "3974" في المناسك باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 سنن أبي داود "1935"، والترمذي "885" في الحج. 3 إتحاف الورى 3/ 274، العقد الثمين 5/ 40. ج / 1 ص -415- تعريفه بما ذكرناه الشيخ أبو محمد الجويني فيما نقله عنه ابن الصلاح في منسكه، لأنه قال: قال الشيخ أبو محمد: المطاف المعتاد الذي يستنكر ويستبعد مجاوزته هو ما بين الكعبة والمقام، ومن كل جانب في العادة أمارات منصوبة لا يكاد الناس يخرجون عنها ... انتهى. قلت: وهذا الموضع مفروش بالحجارة المنحوتة حول الكعبة من جوانبها، وعمل ذلك دفعات، حتى صار على ما هو عليه اليوم، وكان مصيره هكذا في سنة ست وستين وسبعمائة، والمعمول منه في هذه السنة جانب كبير جدا، وهاتان العمارتان من جهة الملك الأشرف شبعان صاحب مصر1. وعمر المطاف من ملوك مصر: الملك المنصور لاجين المنصوري2، واسمه مكتوب بسبب ذلك في رخامة بين الركن اليماني والحجر الأسود، وعمره من الخلفاء: المستنصر العباسي في سنة إحدى وثلاثين وستمائة3، واسمه مكتوب بسبب ذلك في الحفرة التي عند باب الكعبة. قد بين الفاكهي أول من فرش الحجارة في موضع الطواف ومقدار ذلك، وما كان يضع في موضعه، لأنه قال: ذكر فرش الطواف بأي شيء هو، قال بعض المكيين: إن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما بنى الكعبة وفرغ من بنائها وخلقها وطلاها بالمسك، وفرش أرضها من داخلها، بقيت من الحجارة بقية، ففرش بها حول المطاف كما يدور البيت نحوا من عشرة أذرع، وذلك الفرش باق إلى اليوم، إذا جاء الحاج في الموسم، جعل على تلك الحجارة رمل من رمل الكثيب الذي بأسفل مكة يدعى كثيب الرمضة، وذلك أن الحجبة يشترون له مدر ورملا كثيرا فيجعل في الطواف، ويجعل الرمل فوقه، ويرش بالماء حتى يتلبد، ويؤخذ بقية ذلك الرمل فيجعل في زاوية المسجد الذي يلي باب بني سهم، فإذا خف ذلك الرمل والمدر أعادوه عليه ورشوا عليه الماء حتى يتلبد، فيطوف الناس عليه، فيكون ألين على أقدامهم في الطواف، فإذا كان الصيف وحمي ذلك الرمل من شدة الحر فيؤمر غلمان زمزم وغلمان الكعبة أن يستقوا من ماء زمزم في قرب، ثم يحملونها على رقابهم حتى يرش به رمل الطواف فيتلبد ويسكن حره، وكذلك أيضا يرشون الصف الأول، وخلف المقام كما يدور الصف حول البيت ... انتهى. وقد اعتبر بعض أصحابنا بحضوري مقدار ما بين منتهى ذلك وبين الكعبة المعظمة من جميع جوانبها، فكان مقدار ما بين الحجر الأسود وطرف البلاط المحاذي له على ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 304، العقد الثمين 5/: 10، 11. 2 تولى السلطنة سنة 696 وقتل سنة 698هـ "البداية والنهاية 13/ 348- 14/ 3". 3 إتحاف الورى 3/ 50، العقد الثمين 3/ 325، وفيه أن العمارة كانت سنة 635هـ. ج / 1 ص -416- الاستواء في الجهة اليمنية خمسة وعشرين ذراعا إلا ثلث ذراع، وما بين الحجر الأسود وطرف البلاط المحاذي لوسط مقام الحنابلة اثنتين وعشرين ذراعا وثلث ذراع، وما بين الحجر وجدار زمزم ثلاثون ذراعا وثلثي ذراع، وما بين الركن الشامي الذي يقال له العراقي وآخر تدوير المطاف المسامت له إلى الجهة الشرقية أربعة وعشرون ذراعا ونصف، ومن الركن الشامي إلى آخر البلاط المحاذي له في الجهة الشامية سبعة وثلاثون ذراعا وربع ذراع، وما بين الركن الغربي وآخر البلاط المحاذي له من الجهة الشامية والغربية ثلاثون ذراعا، وما بين نصف الجهة الغربية من الكعبة وآخر البلاط المقابل له من الجهة الغربية تسعة وعشرون ذراعا إلا ثلث ذراع، وما بين الركن اليماني وآخر البلاط المقابل له من جهته اليمنى سبعة وعشرون ذراعا وثلث ذراع، وكذلك ما بين وسط الجهة اليمانية من الكعبة وآخر البلاط المحاذي له، والذراع المحرر به هو الذراع الحديد المتقدم ذكره. وينبغي للطائف أن لا يخرج عن هذا المكان في طوافه، لأن في "الجواهر" لابن شاش على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه: لا يطوف من وراء زمزم ولا من وراء السقائف، فلو فعل مختارا أعاد، ما دام بمكة، فإذا رجع إلى بلده فهل يجزيه الهدي أم يلزمه الرجوع؟ للمتأخرين قولان... انتهى، ونحوه لابن بشير، وابن الحاجب في مختصره، وقد بسطنا هذه المسألة في أصل هذا الكتاب، والسقائف، أروقة المسجد الحرام. وأما مقدار الطواف بالكعبة: فذكره الأزرقي، وسليمان بن خليل وبينهما في ذلك اختلاف، لأن الأزرقي ذكر أن طواف سبع بالكعبة ثمانمائة ذراع وستة وثلاثون ذراعا وعشرون أصبعا1... انتهى. وذكر سليمان بن خليل أن ذرع موضع الطواف مائة ذراع وسبعة أذرع... انتهى. وما ذكره سليمان بن خليل في مقدار موضع الطواف يقتضي أن يكون الطواف بالكعبة: سبعمائة ذراع وتسعة -بتقديم التاء على السين- وأربعين ذراعا، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار ذلك: سبعة وثمانين ذراعا وعشرين إصبعا، والله أعلم بالصواب. وذكر ابن خرداذبه ما يوافق ما ذكره ابن خليل، لأنه قال: ودور البيت مائة ذراع وسبعة أذرع2... انتهى، ولعل ابن خليل قلده في ذلك، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 وذرع جميع الكعبة مكسرا: أربعمائة ذراع وثمانية عشر ذراع. "أخبار مكة للأزرقي 1/ 290". 2 المسالك والممالك "ص: 133". ج / 1 ص -417- الرابع والعشرون: منى الموضوع الذي يؤمر الحاج بنزوله والإقامة به حتى تطلع الشمس على ثبير، في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفيما بعده من أيام التشريق، والمبيت به في ليالي أيام التشريق، والمبيت به في ليالي التشريق، لأن رمي الجمار هو من أعلى العقبة التي فيها الجمرة التي تلي مكة المعروفة بجمرة العقبة، إلى وادي محسر، وقد حد منى بذلك عطاء بن أبي رباح، فيما ذكره عنه الفاكهي، لأنه قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني يحيى بن محمد ثوبان، عن رباح عن الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حد منى رأس العقبة مما يلي منى إلى النحر1... انتهى. وقوله: إلى النحر تصحيف صوابه إلى محسر، لأنه حد منى من جهة المزدلفة على ما قال غير واحد من العلماء، ولم يقل أحد إن النحر حد بمنى، وما ذاك إلا لبعد حدها عن محسر وقربه إلى حد منى من جهة مكة. وفي تاريخ الأزرقي عن عطاء ما يوافق ما ذكرنا أنه الصواب، والله أعلم، وما ذكرناه عن عطاء نفهم أن أعلى العقبة من منى. وذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه ما يقتضي أن العقبة ليست من منى، لأنه قال: وحد منى ما بين قرى وادي محسر إلى العقبة التي عندها الجمرة الدنيا إلى مكة، وهي جمرة العقبة التى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار عندها، وليست محسرا، ولا العقبة من منى، وسواء سهل ذلك وجبلها، وعامرها وخرابها، فأما الجبال المحيطة بجانبيها مما أقبل منها على منى فهو منها، وما أدبر من الجبال فليس منها... انتهى. هكذا نقل عنه سليمان بن خليل في منسكه. وقال المحب بعد أن ذكر في حد منى، معنى هذا: والعقبة التي ينسب إليها الجمرة منه2، قلت: كلام المحب الطبري في "القرى" صريح في أن جمرة العقبة من منى. ونقل عنه ابن جماعة في منسكه على ما أخبرني عنه خالي أنه قال: إن العقبة من منى، ولم يقل عن أحد أن الجمرة ليست من منى... انتهى. وهذا يخالف ما يقتضيه كلام الشافعي، والنووي من أن العقبة ليست من منى، والله أعلم بالصواب. وقد ذكر الإمام الأزرقي في ذرع منى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: وذرع منى من جمرة العقبة إلى وادي محسر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع، وعرض منى عن مؤخر المسجد الذي يلي الجبل إلى الجبل3 بحذائه العقبة ستة وعشرون ذراعا، وعرض الطريق الأعظم حيال الجمرة الأولى، وهي الطريق الوسطى ثمان وثلاثون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 246. 2 القرى "ص: 430". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185 "الجبل الذي". ج / 1 ص -418- ذراعا1، ثم قال: وذرع الطريق طريق العقبة على الجدار إلى الجدار الذي بحذائه سبعة وستون ذراعا، وعرض الطريق الأعظم من العقبة المدرجة: ستة وثلاثون ذراعا2. وذكر الفاكهي أن الطريق الوسطى طريق النبي صلى الله عليه وسلم التي سلكها النبي صلى الله عليهوسلما يوم النحر من قزح إلى جمرة العقبة ولم تزل أئمة الحج تسلكها حتى تركت سنة المائتين3... انتهى باختصار. واختلف في سبب تسمية منى4، فقيل: لما بها من الدماء المشروعة في الحد بمنى، أي يراق ويصب، وهذا هو المشهور الذي قاله جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم على ما قال النووي5، وقيل: لِمَنِّ الله عز وجل على الخليل بفداء ابنه فيها، وقيل: لِمَنِّ الله تعالى فيها بالمغفرة على عباده، وهذان القولان في "منسك ابن خليل". وقيل: لاجتماع الناس بها: والعرب تقول لكل مكان يجتمع فيه الناس منى، ذكره الفاكهي بهذا اللفظ، وقيل غير ذلك من الأقوال التي ذكرناها في أصل هذا الكتاب. واختلف في صرف منى، واقتصر ابن قتيبة في "أدب الكاتب" على أنها لا تصرف6، واقتصر الجوهري في "الصحاح" على أن منى مصروف، والأجود فيه، الصرف على ما ذكر النووي، وقال إنها بكسر الميم. وقد بسطنا هذه المسألة أيضا في أصل هذا الكتاب. ومنى علم لمكان آخر غير منى، كما ذكر أبو الفرج الأصبهاني صاحب "الأغاني" لأنه أنشد أبياتا للبيد بن ربيعة أولها: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها7 ثم قال: عفت: درست، ومنى: موضع في بلاد بنى عامر ليست بمكة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 2/ 186. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 185. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 307. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 186. 5 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157. 6 تهذيب الأسماء 2/ 2: 157، نقلا عن أدب الكاتب "ص: 231". 7 الأغاني 15/ 378. ج / 1 ص -419- ذكر حكم البناء بمنى: أخبرني إبراهيم بن محمد الدمشقي1 سماعا بالمسجد الحرام أن أحمد بن أبي طالب أخبره قال: أخبرنا ابن اللتي قال: أخبرنا أبو الوقت قال: أخبرنا الداوودي قال: أخبرنا ابن حمويه قال: أخبرنا عيسى بن عمر قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أخبرني إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: أخبرنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهاك، عن أمه مسيكة وأثنى عليها خيرا عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا يظلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، إنما هو مناخ من سبق". أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بهذا الإسناد، ولفظه: قال: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا إنما، هو مناخ من سبق"2. أخبر به أبو داود عن أحمد بن حنبل والترمذي. قال أبو اليمن ابن عساكر3 بعد إخراجه لهذا الحديث: ومفهوم هذا الخطاب يدل على أنه لا يجوز إحياء شيء من مواتها، ولا تملك جهة من جهاتها فلا ينبغي لأحد أن يختص بمكان من أماكنها دون غيره، فيحظر عليه حظارا أو يتخذه دارا، بل الناس في النزول بها شرع واحد وأهل مكة وسواهم في ذلك سواء، قال الله سبحانه وتعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] الضمير في قوله "فيه" مختلف فيه بين أهل العلم، فمن قال أراد به جميع الحرم وهو الأكثر منع من جواز إحياء مواتها وتملكها، ومن ملك منها شيئا قبل ذلك كان هو وسواه في منافعه سواء، فلا يجوز له بيعه ولا كراؤه، ثم قال: ومن تأول الآية على المسجد أجاز بيع دورها وكراءها، وبه قال أبو يوسف والشافعي، وكره مالك رحمه الله على جميعهم البيع والكراء. وفي جواز إحياء موات عرفة ومزدلفة اختلاف بين أهل العلم، وما ذكرناه من منى أولى بالمنع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو مناخ لمن سبق" وإنما في كلام العرب لإثبات المذكور ولنفي ما سواه، والله سبحانه وتعالى أعلم... انتهى باختصار من كلامه عن بعض ما استدل به على عدم الاختصاص في ذلك. وقال المحب الطبري في "القرى" لما تكلم على هذا الحديث، وقد احتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها، ثم قال: قلت: فيحتمل أن يكون ذلك مخصوصا بمنى لمكان اشتراك الناس في النسك المتعلق بها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد اقتطاع موضع فيها للبناء ولا غيره، بل الناس فيها سواء، وللسابق حق السبق، وكذلك الحكم في عرفة ومزدلفة إلحاقا بها... انتهى. وجزم النووي في "المنهاج" من زوائده بأن منى ومزدلفة لا يجوز إحياء مواتها كعرفة، والله أعلم... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو: برهان الدين أبو بكر إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي الصوفي المؤذن بالجامع الأموي بدمشق نزيل الحرم. ويعرف بابن الرسام. توفي سنة 806هـ "الضوء اللامع 1/ 147، 148". 2 مسند أحمد 6/ 187، 206. 3 هو: عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسين أمين الدين الدمشقي المكي. مات سنة 686هـ "لحظ الألحاظ" ص: 81، 82. ج / 1 ص -420- ونقل عن الشافعي أنه بنى بمنى مضربا ينزل فيه أصحابه إذا حجوا، روى عنه ذلك أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك به بعضهم على جواز البناء بمنى. وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين: أحدهما: أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث الوارد في النهي عن البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو فى معنى الصحيح لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر، لأنه وقع للنووي مثله في غير مسألة، ولعله لحظ هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء موات منى ومزدلفة، مع قياسهما على عرفة لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم، والله أعلم. والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم يكن يحجز بناءه على أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى لأجل الارتفاق به من جهة الظل وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك فلا يقاس عليه من لم يقصد ببنيانه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند الشافعي لا يحسن، والله أعلم. وسمعت قاضي الحرم جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة1 أبقاه الله تعالى إن جدي لأمي قاضي مكة أبا الفضل النويري رحمه الله كان ينكر البناء بمنى ويشدد فيه، وينهى أشد النهي... انتهى بالمعنى. وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي مؤلف "مختصر الروضة" من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها فإن ذلك غير سديد نقلا ونظرا، وأما النقل فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري، وغيرهم، وأما النظر، فلأن أعظم ما يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤهن ومنى من الحرم، فيملك ما أحيا فيها ويجري فيه أحكام الملك، وهذا لا يستقيم لأن في منى أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا لعامة المسلمين، فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء، إذ هو ممتنع فيه، فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه، ويجري حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة لمساواتها لعرفة في السبب الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو محمد بن عبد الله بن ظهيرة قاضي مكة وفقيهها وناظر حرمها وأوقافها والحسبة بها وشيخها في الفتوى والتدريس. ولد سنة 751 ومات سنة 817هـ. "لحظ الألحاظ 253- 255، الضوء اللامع 8/ 92-95 رقم 194". ج / 1 ص -421- ما جاء في فضل منى وما ذكر فيها من الآيات: أما فضل منى فمشهور، ولم نذكره إلا للتبرك به، وقد تقدم منه ما ذكرناه عند ذكر مسجد الخيف، ومنه ما رويناه في "صحيح ابن حبان" وغيره من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت بين الأخشبين من منى -ونفخ بيده نحو المشرق- فإن هناك واديا يقال له: وادي السرر، به سرحة سر تحتها سبعون نبيا"... انتهى باختصار. قال المحب الطبري بعد أن أخرج هذا الحديث: شرح قوله: سرر تحتها أي قطعت سررهم، والسرر ما تقطعه القابلة من المولود، والباقي مع القطع يقال له السرة، والمقطوع السَّرر والسُّرر، والمراد أنهم ولدوا تحت تلك السرحة، والموضع الذي هي فيه يسمى وادي السرر بضم السين، وقيل بفتحها وقيل بكسرها، والراء مفتوحة في الأحوال الثلاثة1... انتهى. ولم يبين المحب موضع هذا الوادي وما عرفته أنا أيضا، وأخشبا منى: الجبلان اللذان هما بينهما، وهما ثبير الذي على يسار الذاهب إلى عرفة وما يليها، والصفائح وهو الذي يلحقه مسجد الخيف. وأما الآيات التي بمنى فخمس آيات منها: رفع ما يقبل من حصى الجمار بمنى، ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين. وقد روينا في رفع المتقبل من ذلك أخبار، منها ما رويناه بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم عن ابن خثيم عن أبي الطفيل قال: قلت له يا أبا الطفيل هذه الجمار ترمى في الجاهلية والإسلام كيف لا يكون هضابا يسد الطريق ؟! قال: سألت عنها ابن عباس فقال: إن الله عز وجل وكل بها ملكا، فما يقبل منه رفع، وما لم يتقبل منه ترك2، ورويناه في تاريخ الأزرقي في رفع ما يقبل من حصى الجمار عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري. وقال المحب الطبري في "شرح التنبيه": وقد أخبرني شيخنا أبو النعمان بشير بن أبي بكر حامد التبريزي شيخ الحرم الشريف ومفتيه أنه شاهد ارتفاع الحجر عيانا، واستدل المحب على صحة ذلك، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب، وذكر هذه الآية شيخنا القاضي مجد الدين قال: وقد خمنت مرة فاقتضى قياس العقل والحساب وعدد السنين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 540". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 176، 177. ج / 1 ص -422- والأعوام التي حج فيها البيت، ورميت الجمار أن يكون المتراكم عند كل جمرة من الحصى ما يوازي مساحة خمسين ذراعا في مثلها في وجه الأرض، ويرتفع في العلو ارتفاع جبل ثبير، ولكن لله عز وجل فيها سر كريم من أسراره الخفيات لا إله سواه... انتهى. ومن الآيات التي بمنى اتساعها للحجاج في أيام الحج مع ضيقها في الأعين عن ذلك، روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني محمد بن يحيى قال: أخبرنا سليم بن مسلم عن عبد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يسأل عن منى، ويقال له: عجبا لضيقه في غير الحج، فقال ابن عباس: إن منى يتسع بأهله كما يتسع الرحم للولد1. ومنها: كون الحدأة لا تخطف اللحم بمنى أيام التشريق. ومنها: أن الذباب لا يقع في الطعام، وإن كان لا ينفك عنه في الغالب، كالعسل وشبهه، ذكر هاتين الآيتين المحب الطبري مع آية الجمار، ونص كلامه: الثانية أن الحدأة مع تولعها بخطف اللحم حيث رأته حتى لو رأت بيد إنسان خرقة حمراء انقضت عليه حتى تخطفها منه، وفي منى اللحم مشرق على الجدارات والأسطحة والجبال، والحدأة تحوم حوله ولا تستطيع أن ترزأ أصحابه منه شيئا. الثالثة: أن الطعام الحلو المقتضي لاجتماع الذباب في الأمكنة الخالية يكثر بمنى في أيام منى، ولا يقع الذباب على شيء منه، فضلا عن غيره من الأطعمة، ولو أكل في غير هذه الأيام بمنى أو غيرها ما يهنأ الإنسان لكثرة اجتماع الذباب عليه، هذا مما شاهدناه مكررا في أعوام... انتهى. ومن الآيات التي بمنى في أيام الحج: قلة البعوض بها على ما ذكر أبو سعيد الملا في "شرف النبوة" فيما حكى عنه شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى"، لأنه قال: وقال أبو سعيد في "الوفا بشرف المصطفى" صلى الله عليه وسلم: كنت ليلا بمنى في غير أيام الموسم وكنت ساهرا أكثر الليل أتأذى من البعوض، فلما كان من الغد سألت بعض أهل الحرم عن البعوض فقال: جميع السنة يكون كثيرا إلا أيام منى فإنه يقل فيها... انتهى بنصه، والله سبحانه وتعالى أعلم. ذكر مقدار ما بين منى ومكة: ومنى ستة أميال، وتعقب ذلك النووي قال: إن بينهما ثلاثة أميال، وجزم بذلك في غير موضع من كتبه2، وذكر المحب الطبري في "القرى" أن منى من مكة على أربعة أميال3، ذكر ذلك في الترجمة التي ذكر فيها اتساع منى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 179. 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 157. 3 القرى "ص: 543". ج / 1 ص -423- وأسماءها: وقد حررنا ذلك بالأذرع، والأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، فأما مقدار ما بين باب بني شيبة ومنى بالأذرع فإنه ثلاثة عشر ألف ذراع وثلاثمائة وذراع وثمانية وستون ذراعا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وأربعة أخماس ميل وخمس عشر ميل ينقص ذراعين. وما مقدار ما بين باب المعلاة وحد منى من جهة مكة، فهو أحد عشر ألف ذراع ومائة ذراع، وأحد وأربعون ذراعا وسبع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وخمس ميل وخمس خمس عشر ميل، يزيد ذراعا وسبع ذراع. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب مقدار ما بين باب بني شيبة ومنى، وما بين باب المعلاة ومنى بالأميال على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل. الخامس والعشرون: الميلان الأخضران اللذان يهرول الساعي بينهما في سعيه بين الصفا والمروة: هما العلمان اللذان أحدهما: بركن المسجد الذي فيه المنارة التي يقال لها: منارة باب علي، والآخر: في جدار المسجد الذي يقال له: باب العباس، والعلمان المقابلان لهذين العلمين: أحدهما في دار عباد بن جعفر، ويعرف اليوم بسلمة بنت عقيل، والآخر في دار العباس، ويقال لها اليوم: رباط العباس، ويسرع الساعي إذا توجه من الصفا إلى المروة إذا صار بينه وبين العلم الأخضر الذي بالمنارة المشار إليها، والمحاذي له نحو ستة أذرع، على ما ذكر صاحب "التنبيه" وغيره، قال المحب الطبري في شرحه للتنبيه: وذلك لأنه أول محل الأنصاب في بطن الوادي، قال المحب الطبري في شرحه للتنبيه: وذلك لأنه أول محل الأنصاب في بطن الوادي، وكان ذلك الميل موضوعا على بناء، ثم على الأرض في الموضع الذي شرع منه ابتداء السعي، وكان السيل يهدمه ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السنين أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخرا عن محل ابتداء السعي بستة أذرع... انتهى. وذكر سليمان بن خليل نحو ذلك بالمعنى، وسبقهما إلى نحو ذلك إمام الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله ولم يذكر الأزرقي سبب هذا التغيير مع كونه ذكر أن بالمنارة المشار إليها علم السعي، وهذا يقتضي أن يكون التغيير المشار إليه وقع في عصره أو قبله، ويبعد أن يكون لتغيير ذلك سبب، ولا يذكره الأزرقي، كما يبعد خفاء سبب ذلك عليه، إلا أنه كثير العناية بهذا الشأن، والله أعلم. ومقتضى ما ذكره من إسراع الآتي من الصفا إلى المروة قبل هذا العلم بنحو ستة أذرع، أن الساعي إذا قصد الصفا من المروة لا يزال يهرول حتى يجاوز هذين العلمين بنحو ستة أذرع، لأجل العلة التي شرع لأجلها الإسراع في التوجه إلى المروة، والله أعلم. ج / 1 ص -424- وذكر الأزرقي صفة هذه الأعلام: وأن ذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس رضي الله عنه عرض المسعى: خمسة وثلاثون ذراعا ونصف، وقال: من العلم الذي على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي في حد المنارة وبينهما الوادي: مائة ذراع وأحد وعشرون ذراعا1. يعني طول ما بين هذين العلمين لا عرض ما بينهما، وقد حررنا مقدار ما بين هذه الأعلام طولا وعرضا، وذلك أن من العلم الذي في حد باب المسجد الحرام المعروف بباب العباس عند المدرسة الأفضلية إلى العلم الذي يقابله في الدار المعروفة بدار العباس: ثمانية وعشرون ذراعا إلا ربع ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد إحدى وثلاثين ذراعا وخمسة أسباع ذراع، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار هذين العلمين. ومن العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة: أربعة وثلاثون ذراعا ونصف ذراع وقيراطان، بذراع الحديد، يكون ذلك بذراع اليد سبعة -بتقديم السين- وثلاثين ذراعا ونصف ذراع وسدس سبع ذراع، ومن العلم الذي بباب المسجد المعروف بباب العباس إلى العلم الذي بمنارة باب علي: مائة ذراع وثلاثة أذرع وربع ذراع بذراع الحديد، يكون ذلك باليد مائة ذراع: وثمانية عشر ذراعا. ومن الميل الذي بدار العباس إلى الميل الذي بالدار المعروفة الآن بدار سلمة ستة وتسعون ذراعا -بتقديم التاء- وثلث ذراع بالحديد، يكون ذلك باليد مائة ذراع وعشرة أذرع وثلثي سبع ذراع1. وذكر الأزرقي أن من العلم الذي على باب المسجد إلى المروة خمسمائة ذراع ونصف ذراع. وقد حررنا مقدار ما بين العلم المشار إليه والأزج الذي بالمروة، فكان ذلك أربعمائة ذراع واثنين وتسعين ذراعا -بتقديم التاء- وثلث ذراع بذراع اليد، وحررنا ما بين العلم الذي بالمنارة ووسط عقد الصفا، فكان من سمت الميل الذي بالمنارة إلى عقود الصفا: مائة ذراع وستين ذراعا بذراع اليد. وذكر الأزرقي ما يقتضي أن موضع السعي فيما بين الميل الذي بالمنارة والميل المقابل له لم يكن مسعى إلا في خلافة المهدي العباسي بتغيير موضع السعي قبله في هذه الجهة، وإدخاله في المسجد الحرام في توسعة المهدي له ثانيا، لأنه قال: حدثني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 119. ج / 1 ص -425- جدي قال: لما بنى المهدي المسجد الحرام، وزاد فيه الزيادة الأولى: اتسع أعلاه وأسفله وشقه الذي يلى دار الندوة والشامي، وضاق شقه اليماني الذي يلي الوادي والصفا، فكانت الكعبة في شق المسجد، وذلك أن الوادي كان داخلا لاصقا بالمسجد في بطن المسجد اليوم، قال: وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه في موضع الوادي اليوم، إنما كان موضعه دور الناس وإنما كان ذلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي، ثم يسلك في زقاق ضيق، حتى يخرج إلى الصفا من التفات البيوت فيما بين الوادي والصفا. وكان السعي في موضع المسجد الحرام اليوم، وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر عند جدار ركن المسجد الحرام اليوم، عند موضع المنارة الشارعة في بحر الوادي، فيها علم المسعى، وكان الوادي يمر دونها في موضع المسجد الحرام اليوم. ثم قال الأزرقي بعد أن ذكر شيئا يتعلق بالزيادة، في هذا الجانب: فابتدءوا عمل ذلك في سنة سبع وستين ومائة، واشتروا الدور وهدموها، فهدموا أكثر دار ابن عباد بن جعفر العائذي، وجعلوا المسعى والوادي فيها1... انتهى. والظاهر والله أعلم أن إجراء المسعى بموضع السعي اليوم، وإن كان تغير بعضه عن موضع المسعى قبله لتوالي الناس من العلماء وغيرهم على السعي بموضع المسعى اليوم، ولا خفاء في تواليهم على ذلك، كما لا خفاء في شهرة كتاب الأزرقي شرقا وغربا، وإحاطة العلماء المتأخرين بما فيه، سيما علماء الحرم، ولو سلم أن من تأخر عن الأزرقي لم يعلموا بما في كتابه، فهو معروف عند علماء الحرم وغيرهم ممن وقع ذلك التغيير في زمنهم لمشاهدتهم له، وما حفظ عن أحد منهم إنكار لذلك، ولا أنه سعى في غير المسعى اليوم، وحال من بعد هؤلاء العلماء كحالهم، إلا في عدم مشاهدتهم لتغيير ذلك، فيكون إجزاء السعي بمحل المسعى اليوم مجمعا عليه عند من وقع التغيير في زمنهم وعند من بعدهم. والله أعلم. السادس والعشرون: نمرة، الموضع الذي يؤمر الحاج بنزوله إذا توجه من منى في يوم عرفة، وهو بطن عرنة، بالنون، على ما ذكره ابن خليل في منسكه. وقال المحب الطبري في "القرى": ونمرة بفتح النون وكسر الميم وبراء مهملة، موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمين الخارج من المأزمين،أي الموقف، وقد كانت عائشة تنزل بها، ثم تحولت إلى الأراك، قاله ابن المنذر2. وقال في "شرح التنبيه": ونمرة، بفتح النون وكسر الميم، موضع عند الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الوقوف، وتحت جبل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78- 80. 2 القرى "ص: 147". ج / 1 ص -426- نمرة غار أربعة أذرع أو خمسة، ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزله يوم عرفة حتى يروح إلى الموقف، ومن الغار إلى مسجد عرفة ألفا ذراع وأحد عشر ذراعا. وقال البغوي وغيره: وهي موضع قريب من عرفة. وقال ابن الصباغ: هي من عرفة، والمشهور أنها ليست منها، وعليه الأكثر... انتهى. وقال النووي: ونمرة موضع معروف بقرب عرفات، خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات، وقال: وهو بفتح النون وكسر الميم1. ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها، فتبقى ثلاثة أوجه في نظائرها... انتهى. وقيل: إن نمرة هذه من الحرم، روي عن سفيان بن عيينة، حكاه عن الماوردي في حاويه، على ما ذكر المحب الطبري في "القرى"، لأنه قال: وذكر الماوردي في كتابه "الحاوي" عن سفيان بن عيينة، أن قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم في يوم عرفة، ويقفون بنمرة دون عرفة في الحرام2... انتهى باختصار، ذكر ذلك المحب الطبري في كتابه "القرى" في الباب العاشر، وقال بعد أن حكى عن سفيان بن عيينة ما ذكرناه، ثم قوله: إن نمرة من الحرم فيه نظر، وكلام الجمهور يدل أنها ليست منه3... انتهى. وذكر الأزرقي ما يوافق ما ذكره سفيان في نمرة، لأنه روى عن ابن عباس خبرا فيه ذكر الحمس وشيء من خبرهم، وفيه: يقصرون عن مناسك الحج، والموقف من عرفة، وهو من المحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة بمفضى المأزمين، يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة... انتهى. ونمرة أيضا: موضع آخر بقديد، ذكره المحب في "القرى"... انتهى، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 177. 2 القرى "ص: 147". 3 أخبار مكة 1/ 180، 181. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -427- الباب الثالث والعشرون: ذكر المدارس بمكة المشرفة: المدارس الموقوفة بمكة إحدى عشرة مدرسة فيما علمت: منها بالجانب الشرقي من المسجد الحرام: مدرسة الملك الأفضل عباس ابن الملك المجاهد صاحب اليمن، على فقهاء الشافعية، وقفت قبيل سنة سبعين وسبعمائة بتقديم السين فيهما وفي هذه السنة ابتدأ التدريس بها1. ومنها بالجانب الشامي منه: مدرسة بدار العجلة، وهي التي على يمين الخارج من باب المسجد المعروف بباب العجلة، ولم أدر من وقفها ولا متى وقفت؟ ثم عمل فيها الآمر أُرْغُون النائب درسا للحنفية قبيل العشرين وسبعمائة أو بعدها بيسير، في أوائل عشر الثلاثين وسبعمائة. ومنها بالجانب الغربي منه: ثلاث مدارس، وهي: مدرسة الأمير فخر الدين عثمان بن علي الزنجيلي نائب عدن، على باب العمرة، وتعرف الآن بدار السلسلة، وقفها على الحنفية سنة تسع وسبعين وخمسمائة2، ومدرسة طاب الزمان الحبشية عتيقة المستضيء العباس، وهو الموضع المعروف بدار زبيدة، وقفتها في شعبان سنة ثمانين وخمسمائة على عشرة من الفقهاء الشافعية3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 309. 2 إتحاف الورى 2/ 549، العقد الثمين 6/ 35، ورحلة ابن جبير "ص: 146- 149". 3 إتحاف الورى 2/ 553، العقد الثمين 8/ 261. ج / 1 ص -428- ومدرسة الملك المنصور عمر بن علي ابن رسول، صاحب اليمن بين هاتين المدرستين وعمارتها في سنة إحدى وأربعين وستمائة1 على يد الأمير فخر الدين الشلاج أمير مكة، من قبل واقفها، ولأبيه الملك المظفر عليها وقف جيد، وربما نسبت إليه، وهي على الفقهاء الشافعية والمحدثين. ومنها بالجانب الجنوبي منه: مدرسة الملك المجاهد صاحب اليمن، على الفقهاء الشافعية، وتاريخ وقفها في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة2. ومنها بالجانب اليماني أيضا: مدرسة الملك الممدوح بجميع الصفات، مغيث أهل الحرمين الشريفين بجزيل الصلات، مولانا السلطان الملك المنصور غياث الدين3 أبي المظفر أعظم شاه ابن السلطان السعيد الشهيد إسكندر شاه ابن السلطان شمس الدين المغفور صاحب بنجاله بلغه الله آماله وهي على الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، فكان المتولي لشراء عرضتها وعمارتها ووقفها من ندبه لذلك وغيره من مصالحها التي تذكر، وفوض إليه هذا النظر: خادمه المسكين، ونعته الأمين، الجانب العالي الافتخاري ياقوت السلطاني الغياثي، لا زالت الخيرات على يديه جارية، والنعم عليه متوالية، وكان الشراء لعرصتها والنخيل وسقيه يوقف عليها، ويأتي ذكرها باثني عشر ألف مثقال في أول شهر رمضان من سنة ثلاثة عشرة وثمانمائة، ثم أعيد عقد البيع على ذلك في شهر شوال من السنة المذكورة لموجب اقتضاه الحال، وفي شهر رمضان المذكور ابتدئ في هدم ما كان في موضعها من الأبنية، وفيه أيضا ابتدئ في بنائها، وفرغ من ذلك في آخر صفر سنة أربع عشرة وثمانمائة. وفي شهر ربيع من هذه السنة وجمادي الأولى منها بيض باطنها والصهريج الذي في جوفها وغالب ظاهرها، وعمل فيها أيضا كثيرا مما يطلب عمله في العمائر، وأحكمت منها العمارة، فاستحسنها ذوو البصائر، وكان وقفها في السابع عشر من المحرم سنة أربع عشرة4، بعد الفراغ من عمارة سفلها وغالب علوها، وقرر واقفها فيه أربعة من المدرسين، وهم قضاة مكة الأربعة يومئذ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 60، العقد الثمين 3/ 324، 325. 2 في "منتخب شفاء الغرام ص 104" تعريف بالمدارس الثلاث خلافا لما هنا، وهي كما ذكرها: مدرسة الأمير فخر الدين عثمان بن علي الزنجيلي نائب عدن، وقفها على الحنفية سنة 579هـ، ومدرسة طاب الزمان الحبشية وقفتها عام 580هـ على فقهاء الشافعية، ومدرسة الملك المنصور صاحب اليمن عمرها سنة 641هـ على يد الأمير فخر الدين الشاج أمير مكة. 3 قال السخاوي في ترجمته: "إنه ابتنى بمكة عند باب أم هانئ مدرسة صرف عليها وعلى أوقافها اثني عشر ألف مثقال مصرية، وقرر بها دروسه للمذاهب الأربعة، وانتهت، ودرس فيها في جمادى الآخرة سنة أربعة عشرة"... "الضوء اللامع 2/ 313 رقم 992". 4 إتحاف الورى 3/ 485- 489، والعقد الثمين 3/ 320، 321. ج / 1 ص -429- وستين نفرا من المتفقهين، عشرين من الشافعية، وعشرين من الحنفية، وعشرة من المالكية، وعشرة من الحنابلة، وجعل الإيوان الغربي محل تدريس المالكية والحنابلة، وجعل لوقف المنازل التي تعلوها وهي إحدى عشرة خلوة محلا لسكنى جماعة من الفقراء، خلا واحدة منها فإنه جعلها خاصا للمدرسة المذكورة. وكان ابتداء التدريس فيها في يوم السبت سابع جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وثمانمائة على الحالة التي قدرت حين الوقف في تعيين أوقات التدريس بها في أيام الأسبوع، فكان تدريس الشافعي ضحوة يوم السبت وضحوة يوم الاثنين، وكان تدريس الحنفي من ضحوة يوم الأحد وضحوة يوم الأربعاء وضحوة يوم الخميس، وكان تدريس الحنفي من ضحوة يوم الأحد وضحوة يوم الأربعاء، وضحوة يوم الخميس، وكان تدريس الحنبلي فيما بين الظهر والعصر من يومي الأربعاء والخميس، ووقف الواقف المتقدم ذكره على المدرسين والفقهاء والسكان بالمدرسة المذكورة وعلى مصالحها ما اشتراه لذلك، وذلك حديقتان وسقية ماء، فأما الحديقتان: فتعرف إحداهما بسلمة، والأخرى بالحل، وهما بالضيعة المعروفة بالركاني بوادي مر، من أعمال مكة المشرفة. وأما السقية: فأربع رحيات، من قرار عين الضيعة المذكورة، وجبتان منها تعرفان بحسين منصور ليله ونهاره، والوجبتان الآخرتان تعرفان بحسن يحيى ليله ونهاره. وجعل الواقف المذكور ربع ما يتحصل من ذلك في كل سنة يقسم خمسة أقسام: قسم للمدرسين الأربعة بالسوية بينهم، وثلاثة أقسام للطلبة بالسوية بينهم، وقسم منه يقسم ثلاثة أقسام: قسم منه يصرف في مصالح المدرسة المذكورة من الزيت والماء وغير ذلك والقسمان الآخران من هذا القسم يصرفان للسكان بالمدرسة المذكورة بالسوية بينهم، وكان وقفه لذلك في اليوم التاسع عشر من المحرم سنة أربع عشرة وثمانمائة. وفي النصف الأخير من ذي الحجة من السنة المذكورة سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقف الواقف المذكور على المدرسة المذكورة دارا تقابلها تعرف بدار أم هانئ، اشتراها الواقف بخمسمائة مثقال. وعمرها في السنة المذكورة، وأوقفها على مصالح المدرسة المذكورة1. وسافر الواقف من مكة بعد حجه في هذه السنة لإعلام مخدومه السلطان غياث الدين بذلك، فلم يقدر اجتماعهما، لأن ياقوت مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس عشرة وثمانمائة2 بجزيرة هرموز، ومات السلطان غايث الدين في آخر سنة أربع عشرة أو في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة، والأولى أقرب للصواب، لأنه أشيع موته بمكة في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3م 485. 2 الضوء اللامع 10/ 214 رقم 929، إتحاف الورى 3/ 485. ج / 1 ص -430- موسم سنة أربع عشرة، ولم يصح ذلك، ثم جاء الخبر بصحة وفاته في سنة خمس عشرة، تغمدهم الله برحمته، آمين. ومنها: مدرسة أبي على بن أبي ذكرى1 قرب المدرسة المجاهدية، وتعرف بأبي طاهر المؤذن. وتاريخ وقفها سنة خمس وثلاثين وستمائة على ما في حجرها، وواقفها فيه مترجم بالإمام الشهيد، وما عرفت حاله2. ومنها مدرسة الأرسوفي بقرب باب العمرة، وهو العفيف عبد الله بن محمد الأرسوفي3، وهي معروفة به، وما عرفت متى وقفت، إلا أن لها أزيد من مائتي سنة، ولعله وقفها في تارخ وقفه رباطه الذي بقربها المعروف برباط أبي رقيبة لسكناه به، وسيأتي تاريخه. ومنها: مدرسة ابن الحداد المهدوي بقرب هذه المدرسة، وتعرف الآن بمدرسة الأشرف الأدراسة لاستيلائهم عليها، وتاريخ وقفها شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وهي على المالكية. ومنها: مدرسة النهاوندي بقرب الموضع الذي يقال له الدريبة، ولها نحو مائتي سنة فيما أحسب، والله أعلم. ذكر الربط بمكة المشرفة: بمكة ربط موقوفة على الفقراء، منها: الرباط المعروف برباط السدرة بالجانب الشرقي من المسجد الحرام على يسار الداخل إلى المسجد الحرام من باب بني شيبة، لا أدرى من وقفة ولا متى وقفه، إلا أنه كان موقوفا في سنة أربعمائةن وموضعه هو دار القوارير التي بنيت في زمن الرشيد على ما ذكر الأزرقي4. ومنها: رباط قاضي القضاء أبي بكر محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم المراغي الملاصق لهذا الرباط، ورباط عند باب المسجد المعروف باب الجنائز، ويعرف الآن بالقيلاني5 لسكناه به، وتاريخ وقفه سنة خمس وسبعين وخمسمائة، كذا في الحجر الذي على بابه، وفيه أن واقفه وقفه على الصوفية الواصلين إلى مكة المقيمين والمجتازين من العرب والعجم6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في إتحاف الورى 3/ 54: "ذكرى". 2 إتحاف الورى 3/ 54، والعقد الثمين 1/ 118. 3 توفى بمصر سنة 493هـ وهو مشهور بكثرة البر والصدقات بمصر والحجاز "التكملة 1/ 277 رقم 379". 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 113. 5 في إتحاف الورى 2/ 542: "بكيلاني". 6 إتحاف الورى 2/ 542، العقد الثمين 2/ 67. ج / 1 ص -431- ومنها: رباط الأمير إقبال الشراب المستنصري العباسي عند باب بني شيبة، على يمين الداخل من باب السلام إلى المسجد الحرام، وتاريخ عمارته له في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وللشرابي عليه أوقاف كثيرة من الكتب والمياه وغير ذلك بوادي مر ونخله1. ومنها: رباط أم الخليفة الناصر العباسي، ويعرف بالعطيفية، لأن الشريفة عطيفة صاحب مكة كان يسكنه، وتاريخ وقفه سنة تسع وسبعين2 وخمسمائة. كذا في الخشب الذي على بابه، وفيه أنه وقفه على الفقراء والصوفية ذوي التقى والعبادة والعفاف والزهادة والصلاح والرشاد والتجريد والانفراد3. ومنها: رباط الحافظ أبي عبد الله بن منده ملاصق لزيادة دار الندوة، وبابه على بابها الذي يخرج منه إلى السويقة، ويعرف الآن بالبرهان الطبري، وعلى بابه الذي عند باب زيادة دار الندوة حجر مكتوب فيه: إنه وقفه على القادمين من أصبهان أربعين يوما، وعلى سائر الناس عشرة أشهر وعشرين يوما. ومنها: رباط الشيخ أبي حفص عمر بن المجيد الميانشي قرب هذا الرباط، ومنه داران في شارع السويقة، وما عرفت نسبته للميانشي، هل هو لأجل وقفه أو لسكناه فيه؟ ومقتضى ما ذكر من نسبة الميانشي: أن يكون له أزيد من مائتي سنة وثلاثين سنة. ومنها: رباط عند الباب المنفرد في هذه الزيادة يقال له: رباط الفقاعية، وتاريخ وقفة سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. كذا في الحجر الذي على بابه، وفيه أن قهرمانة المقتدي الخليفة العباسي وقفته على المنقطعات الأرامل4. ومنها: رباط قربه، يقال له: رباط صالحة، لا أعرف من وقفه ولا متى وقف. ومنها بالجانب الشمالي أيضا: رباط يعرف برباط القزويني، وما عرفت واقفه ولا من وقفه، إلا أنه كان موجودا في أثناء القرن السابع، وبابه عند باب السدة من خارج المسجد. ومنها: رباط قبالته يقال له: رباط الخاتون، ويعرف الآن بابن محمود، وتاريخ وقفه سنة سبع وسبعين وخمسمائة، كذا في الحجر الذي على بابه، وفيه أنه وقف على الصوفية الرجال الصالحين من العرب والعجم. وأن الذي وقفته الشريفة فاطمة بنت الأمير أبي ليلى محمد بن أنو شروان الحسني5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 60، العقد الثمين 1/ 331. 2 في "منتخب شفاء الغرام" المطبوع في أوروبا ص 108: "وتسعين". 3 إتحاف الورى 2/ 552 العقد الثمين 1/ 118، 8/ 238. 4 إتحاف الورى 2/ 489. 5 إتحاف الورى 2/ 544. ج / 1 ص -432- ومنها: رباط الزنجيلي قبالة مدرسته عند باب العمرة من خارج المسجد، بينه وبين المسجد دار، وتاريخهما واحد. ومنها: الرباط المعروف برباط الخوزي بخاء وزاي معجمتين بزيادة باب إبراهيم، وقفه الأمير قرامر بن محمد بن قرامر الأقدري1 الفارسي على الصوفية الغرباء والمتجردين، كذا في الحجر الذي على بابه، وتاريخه فيما أظن سنة سبع عشرة وستمائة. ومنها: رباط رامشت عند باب الحزورة ورامشت هو الشيخ أبو القاسم، واسمه إبراهم بن الحسين الفارسي، وقفه على جميع الصوفية الرجال دون النساء أصحاب المرقعة، من سائر العراق، وتاريخه سنة تسع وعشرين وخمسمائة2. وظفرت بنسخة كتاب وقفه، وكان قد احترق جانب كبير من هذا الرباط في الليلة التي احترق فيها المسجد الحرام وهي ليلة الثامن والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانمائة، وأول ما كان الحريق في البيت الذي على بابه الذي بالمسجد، ثم خرجت النار من شباكه حتى تعلقت بسطح المسجد3، ثم وفق الله غير واحد للتقرب بعمارته، فعمر منه جانب كبير من سفله الذي يلي المسجد وبعض المجمع الذي فوقه، ثم صرف الشريف حسن بن عجلان أمير مكة مائتي مثقال ذهبا لعمارته أوائل سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فعمر بها جميع ما كانت محترفا من الرباط المذكور من البيوت العلوية وغير ذلك مما يحتاج إلى العمارة علوا وسفلا، وصرف من ذلك جانبا فيما يحتاج إليه من أبواب بيوت الرباط وغير ذلك من مصالحه، وجاءت عمارته حسنة. ومنها: رباط السيد الشريف بدر الدين حسن بن عجلان الحسني نائب السلطنة بمكة وجميع الأقطار الحجازية، زاده الله رفعة، وهو الذي أنشأه، وهذه منقبة ما عرفت مثلها لأحد ممن تقدم من أمراء مكة، وتاريخه سنة ثلاث وثمانمائة، وهو مقابل المدرسة المقابلة للمدرسة المجاهدية، وله عليه أوقاف بمكة ومنى ووادي مر4. ومنها: رباط الجمال محمد بن فرج المعروف بابن بعلجد5 قريبا من هذ الرباط وباب الحزورة، وتاريخه سنة سبع وثمانين وسبعمائة، وهو وقف على الفقراء المنقطعين بمكة6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في "منتخب شفاء الغرام": "الأقزري". 2 إتحاف الورى 2/ 504. 3 إتحاف الورى 3/ 420. 4 إتحاف الورى 3/ 423، العقد الثمين 4/ 96. 5 هذه الكلمة من زيادة كتاب منتخب شفاء الغرام "ص: 110. 6 إتحاف الورى 3/ 349، والعقد الثمين 2/ 254. ج / 1 ص -433- ومنها: رباط قبالة باب المسجد الحرام المعروف بباب أجياد، أمر بإنشائه وزير مصر تقي الدين عبد الوهاب بن عبد الله المعروف بابن أبي شاكر1 قبل أن يلي الوزارة في سنة خمسة عشرة وثمانمائة، ومات قبل كمال عمارته، وبعد عمارة غالب سفله، فاستصاره الأمير فخر الدين2 عبد الغني بن أبي الفرج الأستادار الكبير الملكي المؤيدي فيما ذكره بوجه شرعي، وأمر أمير مكة الشريف حسن بن عجلان بتكميل عمارته، فبني بأمره جانب كبير من علوه ومن سفله في سنة عشرين وثمانمائة، وفي ذي القعدة من السنة قبلها مات ابن أبي شاكر، ومات ابن أبي الفرج في نصف شوال سنة إحدى وعشرين وثمانمائة قبل كمال عمارته، والفقراء الآن فيه ساكنون، وله باب في باب أجياد الصغير غير بابه الذي بالشارع الأعظم3. ومنها: رباط السلطان شاه شجاع4 صاحب بلاد فارس قبالة باب الصفا، ويقال له: رباط الشيخ غياث الدين الأبرقوهي الطبيب لتوليه لأمره وعمارته، وله فيه سعى مشكور أعظم الله له فيه الأجور، وتاريخه سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وهو وقف على الأعاجم من بلاد فارس المجردين المتقين دون الهنود5. ومنها قربه رباط يقال له رباط البانياسي على يسار6 الذاهب إلى الصفا، وتاريخه سنة خمس وعشرين وستمائة، وقفه الأمير فخر الدين أياز بن عبد الله البانياسي على الفقراء المعروفين بالتدين والصلاح في التاريخ المذكور7. ومنها: الدار المعروفة بدار الخيزران قرب الصفا مبدأ المسعى، ولا أعرف واقفها ولا متى وقفت. ومنها: الرباط المعروف برباط العباسي بالمسعى وفيه العلم الأخضر وكان مطهرة ثم جعل رباطا، والذي عمله مطهرة الملك لمنصور لاجين المنصوري، والذي عمله رباط: ابن أستاذه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي أعظم الله أجرهما، واسمهما مكتوب فيه على ما بلغني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 توفي سنة 819هـ "الضوء اللامع 5/ 102، 103 رقم 384". 2 ذكره الفاسي في العقد الثمين وقال إنه أمر بتكملة عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الوزير قبله تقي الدين عبد الوهاب... وهو برأس زقاق جياد الصغير مقابل المسجد الحرام بينهما مسيل الوادي. "الضوء اللامع 4/ 248- 251 رقم 649". 3 إتحاف الورى 3/ 500. 4 هو شاه شجاع بن محمد بن مظفر اليزدي. مات سنة 787هـ. وقيل: 786هـ "الدرر الكامنة 2/ 187". 5 إتحاف الورى 3/ 311. 6 في "منتخب شفاء الغرام" "ص: 111": يمين، وفي إتحاف الورى 3/ 44: "يسار". 7 إتحاف الورى 3/ 44. ج / 1 ص -434- ومنها: رباط الشيخ أبي القاسم بن كلالة الطيبي بالمسعى قرب هذا الرباط، وتاريخه سنة أربع وأربعين وستمائة1. ومنها بالمسعى أيضا: رباط المروة على يسار الذاهب إليها يقال له رباط التميمي والذي وقفه هو الشخ أبو العباس ويقال: أبو جعفر أحمد بن غبراهيم بن عبد الملك بن مطرق التميمي المرين الفنجيري2، وقفه على الفقراء من أهل الخير والدين والفضل من العرب والعجم المتأهلين وغيرهم، على ما يليق بكل واحد منهم من المنازل، في العشر الأوسط من شوال سنة عشرين وستمائة، ووقف عليه الحمام الذي بأجياد، وقد ظفرت بكتاب وقف الحمام ثم ذهب مني3. وبأعلى مكة عدة ربط، منها: رباط علي بن أبي بكر بن عمران العطار المكي، ولم يثبت وقفه إلا بعد موته، في سنة موته وهي سنة إحدى وثمانمائة4. ومنها: رباط يعرف بأبي سماحة لسكناه به قرب المجزرة الكبيرة من أعلاها على يمين الذاهب إلى المعلاة، وقفه الأمير قايماز بن عبد الله السلطاني سلطان الروم والأرمن أبي الفتح قلج بن أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي على المجاورين والمقيمين والمنقطعين بمكة من أصحاب الإمام أبي حنيفة في سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، هذا معنى ما في الحجر الذي على بابه5. ومنها: بأعلى مكة أيضا ثلاثة ربط، يقال لها ربط الأخلاطي، بعضها وقف على النساء الحنفية من المجاورات والقادمات، وبعضها وقف على أهل مدينة أخلاط الصالحين القاصدين لبيت الله الحرام، وبعضها وقف في سنة تسعين وخمسمائة6، وبعضها في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة7. ومنها: رباط يقال له: رباط الوتش بتاء مثناة من فوق وشين معجمة قرب هذا الرباط. ومنها: رباط العطية بن خليفة المطيرن8 أحد تجار مكة في عصرنا. وبزقاق الحجر بمكة رباطان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 64، العقد الثمين 1/ 120. 2 في العقد الثمين 3/ 5: الفنجيري". 3 إتحاف الورى 3/ 37. 4 الضوء اللامع 5/ 205، 206 رقم 683، إتحاف الورى 3/ 417، العقد الثمين 6/ 147. 5 إتحاف الورى 2/ 545، العقد الثمين 120، 7/ 84. 6 إتحاف الورى 2/ 561. 7 إتحاف الورى 2/ 562، والعقد الثمين 5/ 247. 8 في المنتخب "ص: 112" والزهور المقتطفة: "المطيبين" وهو الصواب. ج / 1 ص -435- أحدهما: رباط المعز إبراهيم بن محمد الأصبهاني سبط الشيخ قطب الدين القسطلاني1 وقفه على الفقراء والمساكين المجاورين بمكة من أهل الخير والديانة من أي صنف كانوا من العرب والعجم، في سلخ رجب سنة تسع وأربعين وسبعمائة2. والثاني: رباط السيدة أم الحسين بنت قاضي مكة شهاب الدين الطبري وقفته على الفقراء والمساكين في شعبان سنة أربعة وثمانين وسبعمائة3. وبسوق الليل عدة ربط: منها رباط يقال له: رباط سعيد الهندي لسكناه فيه وما عرفت واقفه ولا تاريخه. ومنها: الموضع الذي يقال له: بت المؤذنين، وواقفه هو واقف رباط الخوزي على شرطه، وتاريخ وقفه سنة سبع عشرة وستمائة4. ومنها: الموضع الذي يقال له: زاوية أم سليمانن وتاريخها سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة5. وبأجياد عدة ربط: منها الموضع الذي يقال له: رباط الزيت لا أعرف واقفه ولا متى وقف. ومنهاك رباط يقال له: رباط غزي بغين وزاي معجمتين وقفه على بن محمد المصري على الفقراء والمساكين المجردين من أي جنس كان من المسلمين سنة اثنتين وعشرين وستمائة. ومنها: رباط يعرف برباط الساحة، وكان موجودا في أثناء القرن السابع، ووقفه جماعة من النسوة، منهن والدة الشيخ قطب الدين القسطلاني على الفقراء والغريبات المتدينات. ومنها: الرباط المعروف برباط ربيع، وهو واقفه على موكله في ذلك السلطان الملك الأفضل نور الدين علي6 ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتاريخ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في النتخب "ص: 112": القسطلاني" وسيأتي هكذا بعد قليل في المتن. 2 إتحاف الورى 3/ 238، العقد الثمين 1/ 334. 3 إتحاف الورى 3/ 430،والعقد الثمين 1/ 121، 8/ 331. 4 إتحاف الورى 3/ 31. 5 إتحاف الورى 3/ 313،والعقد الثمين 8/ 343. 6 تسلطن بدمشق وتوفى سنة 622هـ. انظر عنه: مفرج الكروب لابن واصل 2/ 423، ذيل الروضتين لأبي شامة "ص: 145"، شفاء القلوب "ص: 256"، التكملة للمنذري 3/ 140، البداية والنهاية 13/ 108، أمراء دمشق 58، النجوم الزاهرة 6/ 262، شذرات الذهب 5/ 101، ترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب للزبيدي 69. ج / 1 ص -436- وقفه في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة، وهو وقف على الفقراء المسلمين الغرباء1. ومنها: رباط بقرب رباط ربيع، أمر بإنشائه أمير مكة السيد حسن بن عجلان، وهو ملاصق لحوش داره التي أنشأها بأجياد. وقد عمر غالب سفله إلا قليلا منه وجانب من علوه، وفي سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة استؤجر بعض البناة بمكة على تكميل عمارته وشرع في ذلك، وكان أمر الشريف حسن بإنشائه في سنة عشرة وثمانمائة وأدخلت فيه البئر المعروف ببئر عفراء2. ومنها: رباط يعرف برباط بنت التاج، ولا أعرف واقفه في الابتداء، وله أزيد من مائتي سنة، وعلى باب حجر مكتوب فيه أنه وقف على النساء الصوفيات الأخيار والمجاورات. ومنها: رباط يعرف برباط المسكينة. ومنها بالحزامية بزاي معجمة: الرباط المعروف برباط الدمشقية، وقف على الصوفية والعلماء والقراء والفقراء من أهل دمشق والعراقيين العرب والعجم في رجب سنة تسع وعشرين وخمسمائة3. ومنها: الرباط المعروف برباط الدوري، وقفه الشيخ نجيب الدين أبو الحسن بن محمد بن جبريل الزرندي على أهل سادة زرند القادمين إلى حج البيت الله الحرام، وله أزيد من ثلاثمائة سنة. ومنها: رباط يعرف برباط السبتية بسين مهملة وباء موحدة ثم تاء مثناة من فوق ثم ياء مثناة من تحت كان موجودا في سنة تسع وعشرين وخمسمائة. ومنها: رباط خلف رباط الدوري للنسوة، وكان موجودا في أثناء القرن السابع. ومنها: رباط بقرب هذه الربط يقال له رباط بنت الحرابي بحاء وراء مهملتين وألف وباء موحدة لسكناها به، وبلغني أنها وقفته. ومنها: رباط يعرف برباط الوراق بقرب باب إبراهيم لا أعرف واقفه ولا متى وقف. ومنها: رباط الموفق جمال الدين علي بن عبد الوهاب الإسكندري، وقفه على فقراء العرب الغرباء ذوي الحاجات المتجردين، ليس للمتأهلين فيه حظ ولا نصيب في سنة أربع وستمائة، كذا هو مكتوب في الحجر الذي على بابه، وفيه العرب مضبوطة بفتح اليعن والراء المهملتين، وهذا الرباط بأسفل مكة4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 564. 2 إتحاف الورى 3/ 508. 3 إتحاف الورى 2/ 504. 4 إتحاف الورى 3/ 6، العقد الثمين 6/ 204. ج / 1 ص -437- وفي جهة الشبيكة بالمسفلة عدة ربط: منها: الرباط الذي يقال له: رباط أبي رقيبة، لسكناه به ويقال له رباط العفيف والعفيف المشار إليه: هو الأرسوفي صاحب المدرسة التي بقربه، وقفه عن نفسه وعن موكل شريكه فيه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عل البيساني1 سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، على ما في الحجر الذي على بابه، وفيه أنه وقف على الفقراء والمساكين العرب والعجم، الرجال دون النساء، القادمين إلى مكة والمجاورين، على أن لا يزيد الساكن في السكنى على ثلاث سنين إلا أن تقطع أقدامه، وسكناه في السفر إلى مسافة القصر. ومنها: رباط به بقربه يعرف برباط الطويل، بنى في عشر السبعين وسبعمائة فما أحسب. ومنها: رباط الجهة، وهي الآدر الكريمة جهة الطواشي فرحات زوج الملك الأشرف إسماعيل بن لفضل صاحب اليمن وأم أولاده ضاعف الله أجرها وأعلى قدرتها، ويقال له: رباط الشيخ على البغدادي لتوليته لأمره وعمارته، وتاريخ وقفه سنة ست وثمانمائة، وهو وقف على الفقراء الآفاقين المجردين عن النساء المستحقين للسكنى2. ومنها: رباطان قرب الموضع الذي يقال له الدريبة: أحدهما يعرف برباط ابن السوداء لسكناه به، وعلى بابه حجر مكتوب فيه: أن أم خليل خديجة، وأم عيسى مريم: ابنتي القائد أبي ثامر المبارك بن عبد الله القاسمي وقفتاه على الصوفيات المتدينات الخاليات من الأزواج، الشافعيات المذهب، في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة تسعية وخمسمائة3، ويقال له أيضا: رباط الهريش بتشديد الراء المهملة. والآخر: يعرف بابن غنايم، وعلى بابه حجر مكتوب فيه ما معناه: وقفه السلطان الملك العادل ملك الجبال والثغور والهند محمد بن أبي على، على الصوفية الرجال العرب والعجم، على أن يكون عدد الساكنين فيه عشرة لا غير سواء كانوا مجاورين أو مجتازين، وبعضهم مقيم وبعضهم مجتاز، وذلك سنة ستمائة4... انتهى. فهذه الربط المعروفة الآن بمكة أجل الله ثواب واقفيها ومن أحسن النظر فيه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي، وتوفي سنة 596هـ. ترجمته في: خريدة القصر "القسم المصري" 1/ 35، معجم البلدان 1/ 788، مرآة الزمان 8/ 873، ذيل الروضتين، الجامع لابن الساعي 9/ 28، وفيات الأعيان الترجمة 347، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 4/ 53، البداية والنهاية 13/ 24، التكملة 1/ 351، الفلاكة للدلجي 89، السلوك للمقريزي 1/ 153، حسن المحاضرة 1/ 270، شذرات الذهب 4/ 324. 2 إتحاف الورى 3/ 438. 3 إتحاف الورى 3/ 561. 4 إتحاف الورى 2/ 570، العقد الثمين 1/ 123. ج / 1 ص -438- وبمكة أوقاف كثيرة على جهات من القربات، غالبها الآن غير معروف لتوالي الأيدي عليها، ومن المعروف منها: البيمارستان المستنصري العباسي بالجانب الشمالي من المسجد الحرام، وتاريخ وقفه سنة ثمان وعشرين وستمائة1، وعمره في عصرنا هذا الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة عمارته التي هو عليها الآن، وزاد فيه على ما كان عليه أولا إيوانين: أحدهما: في جهته الشامية، والآخر: في جهته الغربية، وأحدث فيه صهريجا ورواقا فوق الإيوانين اللذين أحدثهما، وفوق الإيوان الشرقي الذي كان فيه من قبل، وجدد هو عمارته، وفوق الموضع الذي فيه الشباكان المشرفان على المسجد الحرام، وأدخل فيه البئر التي كان يستقي منه للميضأة الصرغتمشية، ووقف جميع ما بناه وما يستحق منافعه في الموضع المذكور للمدة التي يستحقها على الضعفاء والمجانين، ووقف عليه منافع الدار المعروفة بدار الإمارة عند باب بني شيبة بعد عمارته لها حين تخربت بالحريق الذي وقع في آخر ذي القعدة من سنة أربع عشرة وثمانمائة2، وذلك بعد استئجاره لها واستئجاره للبيمارستان المذكور لتخربهما، من القاضي الشافعي بمكة لمدة مائة سنة، وأذن له في صرف أجرة الموضعين في عمارتها، وكان استئجاره لذلك في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وثمانمائةن وفيها شرع في عمارتها وكان وقفه لذلك في صفر سنة ست عشرة وثمانمائة3. ووقف المنافع يتمشى على رأي البعض من متأخري المالكية، وحكم به بعض طلبة المالكية ليثبت أمره، وإن كان بعض المعتبرين من المالكية لا يرى جوازه، كما هو مقتضى مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رحمة الله عليهم والله يوقفنا أجمعين للخير آمين. ذكر السقايات والبرك بمكة المشرفة وحرمها وعرفة: بمكة وحرمها عدة سقايات، تسمى أيضا السبل بسين مهملة وباء موحدة مضمومتين جمع سبيل، وشهرتها عند الناس بالسبل أكثر، وهي كثيرة إلا أن بعضها صار لا يعرف لخرابه وبعضها معروف مع الخراب. فمن ذلك: سبيل عطية بن ظهيرة بأعلى مكة4، وسبيل قاسم الزنكي عند مسجد الراية، وسبيل السيدة أم الحسين بنت القاضي شهاب الدن الطبري بالمسعى عند موضع الجزارين والخرازين، وسبيل لابن بلعجد عند عين بازان التي بالمسعى قرب الميل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 49، العقد الثمين 1/ 123،غاية المرام 2/ 293. 2 إتحاف الورى 3/ 487، 488، والعقد الثمين 1/ 50. 3 إتحاف الورى 3/ 507. 4 جردة القاضي أبو السعادات بن ظهيرة في أوائل سنة ست وخمسن وثمانمائة. ج / 1 ص -439- الأخضر الذي بمنارة باب علي والمقابل له، وسبيل السيد الشريف حسن بن عجلان سلطان الحجاز في عصرنا برباطه الذي أنشأه، بلغه الله مناه. ومنها بأعلى مكة سبيل لأم المتصوفة عند تربتها بالمعلاة قرب دار المعلاة. ومنها: سبيل أنشأه القاضي زين الدين عبد الباسط1 ناظر الجيوش المنصورة في سنة ست وعشرين وثمانمائة بالمعلاة على يمين النازل من الحجون2. ومنها سبيل لعطية المطير في طرف المقبرة من أعلاها عند البئر التي يقال لها بئر الطواشي. ومنها: السبيل الذي أنشأه القائد سعد الدين جبروه. ومنها: السبيل المعروف بسبيل ابن صنداد، وليس هو المبتكر له، لأن بعض أمراء الملك الكامل ولد الملك المسعود صاحب مكة عمر ذلك. ومنها: سبيل فوق هذا السبيل إلى جهة منى للسيد الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة أمر بعمارته في سنة اثني عشرة وثمانمائة وعنده مسجد. ومنها: السبيل الذي يقال له سبيل الست، وهو مشهور بطريق منى، والست المنسوبة إليها عمارته هي أخت الملك الناصر حسن صاحب مصر، وتاريخ عمارتها سنة إحدى وستين وسبعمائة3. ومنها: سبيل المعلم عبد الرحمن بن عقبة المكي بقرب منى. ومنها سبيل بمنى لعطية المطير. وبمنى عدة سبل عامرة، وبمزدلفة، وعرفة. وبطريقهم سبل متخربة معطلة، وبعضها لا يعرف، وقد أشرنا إليها في أصل هذا الكتاب. وبأسفل مكة مما يلي التنعيم عدة سقايات منها: سبيل الزنجيلي، ويقال له: سبيل أبي راشد لتجديده له، ويقال له: سبيل المكيين لتجديده له أيضا، وتاريخ عمارة الزنجيلي له سنة عشرين وستمائة. كذا في حجر فيه، وهي عمارة تجديد، لأن الزنجيلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو عبد الباسط بن خليل الدمشقي القاهري: ولد سنة 784 بدمشق، وتوفي بالقاهرة سنة 854هـ. قال السخاوي: وله من المآثر والقرب المنتشرة بأقطار الأرض ما يفوق الوصف؛ فمن ذلك كل من المساجد الثلاثة وبدمشق وغزة والقاهرة مدرسة .... وأصلح كثيرا من مسالك الحجاز، ورتب سحابة تسير في كل سنة من كل من دمشق والقاهرة إلى الحرمين ذهابا وإيابا برسم الفقراء والمنقطعين "الضوء اللامع 3/ 24- 27 رقم 81". 2 إتحاف الورى 3/ 559، 600، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 212". 3 إتحاف الورى 3/ 286. ج / 1 ص -440- توفي قبل ذلك على ما ذكر ابن شاكر الكتبي بسبع وثلاثين سنة، وتاريخ عمارة أبي راشد سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وتاريخ عمارة المكين سنة ثمان وثمانمائة1. ومنها: السبيل الذي يقال له: سبيل بنت القاضي عبد الرحمن بن عقبة المكي، وسبيل آخر أنشأته السيدة زينب بنت القاضي شهاب الطبري صدقة عن أخيها القاضي نجم الدين محمد ابن القاضي شهاب الدين الطبري2 سنة خمس وستين وسبعمائة، وهو الآن معطل لخرابه. ومنها: سبيل الملك المنصور صاحب اليمن وهو مشهور. ومنها: السبيل المعروف بسبيل الجوخي، وهو الآن لخرابه. ورأيت فيه حجرا ملقى مكتوبا فيه: أن المقتدر العباسي ووالدته أمرا بعمارة هذه السقاية والآبار التي وراءها وتصدقا بها، وفيه: أن ذلك سنة اثنتين وثلاثمائة3. ومنها: سبيل دون هذا السبيل إلى مكة عمره الشهاب المكين السابق أجزل الله ثوابه في سنة ثمان وثمانمائة، وإلى جانب ذلك حوض للبهائم1. وكان بمكة سقايات أكثر مما ذكرنا بكثير، لأن الفاكهي قال: لما ذكر السقايات وبمكة في فجاجها وشعابها من باب المسجد إلى منى ونواحيها ومسجد التنعيم نحوا من مائة سقاية... انتهى. ذكر البرك بمكة وحرمها: بمكة وحرمها عدة برك لا أدري من أنشأها، ويقال لها: المصانع. منها بركتان عند باب المعلاة متلاصقتان جددتا في دولة الملك الناصر حسن، صاحب مصر، وذلك في ولايته الأولى سنة تسع وأربعين وسبعمائة4، وعمرتا بعد ذلك غير مرة. منها: في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة5، وعمارتها في هذه السنة عمارة حسنة لإصلاحهم بالنورة ما يحتاج إلى الإصلاح فيهما، ونوروا في بعض الجدران ما لم يكن منورا قبل ذلك، ورفعوا جميع جوانبها عن الأرض، والذي رفعوه من ذلك نحو ذراع، وفي بعض المواضع أكثر، وعمدوا إلى الحاجز الذي بين البركتين فهدموا الجدار الذي يليه إلى صوب الطريق العظمى، وبنوا هناك ثبرتين6، وعملوا عليهما عقدا مشرفا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 449. 2 إتحاف الورى 3/ 301، العقد الثمين 6/ 338، وفيه: "لأنه توفي في هذا العام". 3 إتحاف الورى 3/ 363، العقد الثمين 3/ 416، غاية المرام 2/ 537، 3/ 129. 4 إتحاف الورى 3/ 237، والسلوك 3/ 2: 766- 768، 769. 5 إتحاف الورى 3/ 560. 6 الثبرة: حفرة تمسك الماء كالصهريج. ج / 1 ص -441- وعملوا في موضع العقد بابا شبحا من عرعر يغلق دون الصغار، ومن يريد النزول إلى الماء، خوفا على الماء من تغيره بالنزول فيه، وعملوا تحت الباب درجا. والآمر بهذه بالعمارة علاء الدين القائد. ومنها: بركتان متلاصقتان: إحداهما يلصق بسور باب المعلاة ببستان الصارم، وكانتا معطلتين فعمرت إحداهما في النصف الثاني من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وملئت في عين بازان بعد جريها، والذي أمر بعمارتها وإجراء الماء فيها الشهاب بركوت المكين1. ومنها: بركتان عند مولى النبي صلى الله عليه وسلم بسوق الليل تنسبان للمسلماني على ما بلغني. ومنه: بأسفل مكة بركة يقال لها: بركة باب الماجن، لأنها عند باب مكة المعروف بباب الماجن. ومنها: بحرم مكة مما يلي منى وعرفة عدة برك، منها: البركة المعروفة ببركة السلم، لا أدري من أنشأها، وجددها الأمير المعروف بالملك نائب السلطنة بمصر، وعمر العين التي تصل إليها من منى، وذلك في سنة خمس وأربعين وسبعمائة2. وبطرف منى مما يلي المزدلفة في طريق عرفة برك أخر معطلة أيضا لخرابها، أشرنا إليها في أصل هذا الكتاب. وبعرفة عدة برك، وغالبها الآن ممتلي بالتراب حتى صار ذلك مساويا للأرض، وبعضها من عمارة العجوز والدة المقتدر، وذلك خمس برك، وتاريخ عمارتها سنة خمس عشرة وثلاثمائة3. وبعضها عمره المظفر صاحب إربل في سنة أربع وتسعين وخمسمائة4، وفيما بعدها، وبعضها عمره إقبال الشرابي المستنصري العباسي في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة5، وعمارتها للبرك المكتفة بعين عرفة أيضا. واسم إقبال باق على بعض البرك التي حول جبل الرحمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في المنتخب: "وهو شهاب الدين عتيق سعيد المكيني مكين الدين اليمني، مات سنة 830هـ. قال السخاوي: "ومن مآثره بطريق أنس: سبيل وحوض البهائم" "الضوء اللامع 3/ 15 رقم 61" وانظر تلك العمارة في إتحاف الورى 3/ 482. 2 إتحاف الورى 3/ 228، العقد الثمين 3/ 331. 3 إتحاف الورى 2/ 373، درر الفرائد 234. 4 إتحاف الورى 2/ 564، درر الفرائد 267. 5 إتحاف الورى 3/ 50، العقد الثمين 3/ 325. ج / 1 ص -442- عمر بعضها الملك نائب السلطة بمصر، ثم عمر بعضها في دولة الملك الأشرف شعبان صاحب مصر. ذكر الآبار التي بمكة وحرمها: ذكر الأزرقي شيئا من خبر الآبار الجاهلية والإسلامية بمكة وحرمها وبعرفة، وليس يعرف ههنا الآن مما ذكره الأزرقي إلا القليل كما سنبينه، ولذلك اقتصرنا هنا على تعريف هذه الآبار بما تعرف به الآن. وجملة الآبار التي يحتوي عليها سور مكة ثمانية وخمسون بئرا منها: برباط السدرة، وهي سجلة1 -بسين مهملة وجيم- حفرها هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وقيل: حفرها قصي ووهبها عبد المطلب بن هاشم للمطعم بن عدي، وقيل: إن جبير بن مطعم ابتاعها من ولد هاشم2. ومنها: بئر برباط الشرابي. ومنها: بئر بالمدرسة الأفضلية. ومنها: بئر بالميضأة الصرغتمشية. ومنها: بئر برباط أم الخليفة، وهو العطيفية. ومنها بئر برباط الفقاعية. ومنها: بئر برباط الميناشي. ومنها: بئر بالمدرسة المنصورية. ومنها: بئر عند باب الحزورة، عليها جميزة كبيرة حفرها المهدي العباسي. ومنها: بئر في الدار المعروفة بالملاعنة. ومنها: بئر بالمدرسة المجاهدية. ومنها: بئر برباط كلالة بالمسعى. ومنها: بئر بالمطهرة الناصرية عند باب بني شيبة. ومنها: بئر بميضأة الملك الأشرف شعبان، عمرها جده الملك الناصر سنة ست وسبعمائة لأجل رباط العباس فيما أحسب، فإن منها إليه قناة ليسكب فيها الماء. ومنها: بئر الحمام الذي بسوق الليل. ومنها: بئر بقرب مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسوق الليل، تعرف بالسماطية لعلها بئر عبد شمس بن عبد مناف بن قصي المعروفة بالطوى التي ذكرها الأزرقي3، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سجلة؛ بفتح أوله وسكون ثانية، والسجل: الدول إذا كان فيه ماء سوء قل الماء أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة سجل. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 217. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 218. ج / 1 ص -443- ومنها: بئر بقربها ينسب لأبي مغامس أحد تجار مكة، لأنه عمرها، وعندها مسجد. ومنها بقرب ذلك: بئر في دار عطية المطيري. ومنها: بئران في المعلاة بالشعب الذي تسميه الناس شعب عامر، وهو شعب عبد الله بن عامر بن كربز، إحداهما في بستان في هذا الشعب، والأخرى بفم الشعب1. ومنها: بئر في البستان الذي عند باب المعلاة، ويقال لها: المنقوس. ومنها: بئر تعرف بأم الفاغية عند سبيل ابن ظهيرة. ومنها: بئر عند مسجد الراية، وهي بئر جبير بن مطعم التي ذكرها الأزرقي2، والله أعلم. وبأجياد عدة آبار منها: بئر برباط في جانب الوادي. ومنها: بئر يقال لها: أم الزين، عند بيت الشريفة فاطمة بنت ثقبة صاحب مكة. ومنها: بئر يقال لها: الوردية. ومنها: بئر يقال لها: بئر عكرمة، ذكرها الأزرقي3. ومنها بئر يقال لها: بئر مسعود، ويقال له أيضا: أم الفاغية. ومنها: بئر يقال لها: بئر المعلم ومنها: بئر عند بيوت الداجوة يقال لها: أم حجر. ومنها: بئر برباط بنت التاج. ومنها بئر عند حمام أجياد. وبالحزامية بأسفل مكة بالحاء المهملة وزاي معجمة عدة آبار، منها: بئر برباط الدمشقية، عمرتها فيما أحسب زوجة تقي الدين ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة تسع وثمانين وخمسمائة. ومنها: بئر برباط الدوري. ومنها: بئر برباط السبتية. ومنها: بئر يقال لها: بئر النبي صلى الله عليه وسلم، والناس يستشفون بماء هذه البئر، ولعلها والله أعلم السنبلة، بئر خلف بن وهب الجمحي التي ذكرها الأزرقي رحمه الله، وقال: يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم: بصق فيها، وإن ماءها جيد4 من الصداع، والله أعلم. وبالحجارية من المسفلة عدة آبار: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 يوجد بفم الشعب الآن بئر يقال لها: "بئر أبو دية" لعلها هي. 2 هي بئر شجلة عند الأزرقي في أخبار مكة 2/ 217. 3 بأجياد الصغير في الشعب الذي قال له الأيسر "أخبار مكة للأزرقي 2/ 225". 4 كذا بالأصل، وفي أخبار مكة للأزرقي 2/ 219 أيضا ولعله أراد: "جيد يشفي من الصداع". ج / 1 ص -444- منها: بئر عند بيوت عرفطة، يقال لها: أم الحمرة بحاء مهملة مضمومة وميم وراء مفتوحتين1. ومنها: بئر عند البيوت المعروفة بالأشراف ذوي علي، مما يلي باب الماجن، وهما بقرب الموضع الذي يقال له: بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ومنها: بئر في زقاق ضيق نافذ بقرب أم الحمرة2. ومنها: بئر في بستان علي بن يوسف بن أبي الأصبع عند باب الماجن. ومنها: بئر قبالة هذه البئر في الودنة. وبمسيل وادي إبراهيم بالمسفلة وما يليه من البيوت عدة آبار، منها: البئر المعروفة بباب إبراهيم3. ومنها: بئر برباط الموفق. ومنها: بئر ينسب للقائد زين الدين شكر4 مولى الشريف حسن بن عجلان صاحب مكة، ومنها: بئر بجنبها إلى أسفل مكة في البيت المعروف بأحمد بن عبد الله الدوري الفراش بالحرم الشريف. ومنها: بئر بقربها في بيت يعرف ببيت الينبوعي على يسار الذاهب إلى باب الماجن5. ومنها: بئر في جهة الشبيكة يقال لها: بئر النشوة. ومنها: بئر في الشبيكة أيضا بقرب المقبرة عند بيوت رقية، يقال لها: مجنة، ولها قرنان. ومنها بئر قرب باب الشبيكة عمرها العفيف الهبي، وبنى عليها سبيلا6 هو الآن خراب، ومنها بأسفل مكة: بئر أيضا بالموضع الذي يقال لها خرابة قريش التي عمرها الشهاب بركوت بن عبد الله المكين ومنها: بئر في وسط السويقة، عليها بيت ينسب للبليني، يقال: إنها من عمارة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه والله أعلم. ومنها: بئر في الموضع المعروف بدار الحفرة بالسويقة. ومنها: بئر بقعيقعان عند وقف على بن أبي بكر بن عمران العطار. فهذه الآبار التي حواها سور مكة فيما علمت، ولم أذكر فيها الآبار التي لا ماء فيها، وجميعها مسبلة إلا البئر التي في بيت المطيبيز بأعلى مكة، والبئر التي في بيت القائد زين الدين شكر، والبئر التي في بيت أحمد الدوري، والبئر التي في بيت الينبوعي، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ما زال ذلك الزقاق يسمى باسم "زقاق الخمرة" ولكن البئر التي هناك، وهي موجودة إلى الآن اسمها بئر المدعون. 2 المعروف الآن عند بيت أبي بكر الصديق "البازان المسمى بازان القبة" وفي أول زقاق القبة الضيق بئر مهجورة اسمها بئر زقاق القبة، ومن الجهة الجنوبية لبركة الصديق بئر أخرى ما زالت باقية إلى الآن. 3 هذه البئر ما زالت موجودة يستقي منها الناس، وهي في دهليز المدرسة المسماة بالمدرسة الفخرية في باب إبراهيم. 4 توفي سنة 845هـ بعد أن أوصى ببيت من بيوته يجعل رباطا وبآخر يوقف عليه، وبعد سنين بنى ابنه "بديد" رباطا ووقف البيت عليه "الضوء اللامع 3/ 306 رقم 1174". 5 لعلها البئر الموجودة حتى الآن بين بيت الشريف العمري، وبيت السيد الغلالي، على ناصية زقاق المسفلة. 6 في الأصل: "وبنى عندها سبيلا". ج / 1 ص -445- ذكر الآبار التي بين المعلاة ومنى: بين باب المعلاة ومنى سبع عشرة بئر -بتقديم السين- منها: بئر قرب باب المعلاة تنسب لأم سليمان المتصوفة عند تربتها، وتنسب أيضا للملك المسعود صاحب مكة، ومنها: بئر يقال لها: بئر الطواشي عند طرف المقبرة من أعلاها. ومنها: بئر بالبستان الذي أنشأه القائد سعد الدين جبروة. ومنها: بئر ببستانة الذي أمامه إلى جهة منى. ومنها: بئر ببستان له بن هذين البستانين إلى جهة شعب البياضية. ومنها: بئر خلف سبيل ابن شداد1 السابق ذكره. ومنها: بئر في بستان ينسب لابن فطيس أمام هذا السبيل ومنها: بئر في محاذاة المعابدة فيها الماء، ويقال لها: أم قرنين. ومنها: بئر لا ماء فيها في الموضع الذي يقال لها: الخرمانية، وهو أودان برأس المعابدة على جادة الطريق على يمين الهابط إلى مكة. ومنها: البئر التي يقال لها: بئر آدم على يمين الذاهب إلى منى وليست على جادة الطريق، وممن عمرها الأمير شيخون2 العمري الناصري في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة3. ومنها: بئر يقال لها: البياضية. ومنها: بئر ميمون بن الحضرمي أخي العلاء بن الحضرمي، وهي التي الآن بالسبيل المعروف بسبيل الست بطريق منى، وممن عمرها: المظفر صاحب إربل في سنة أربع وستمائة على ما وجدت بخط عبد الرحمن بن أبي حرمي المكي في حجر بهذه البئر يتضمن عمارة صاحب إربل لها4، وعرفها ببئر ميمون الحضرمي، ورأيت لبعضهم ما يقتضي أن بئر ميمون بطريق وادي مر الظهران، وهو وهم، والله أعلم. ومنها: بئر محاذية لبركة السلم على يسار الذاهب إلى منى. ومنها بئر يقال لها: بئر النجار، وتعرف بالمعلم عبد الرحمن بن عقبة المكي على يسار الذاهب إلى منى أيضا، وممن عمرها الأمير شيخون في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة3، وعَمرها بعده الأمير جركتمر المارديني5 صاحب الحجاب بالقاهرة، ومقدم العساكر بمكة6 في سنة إحدى وستين وسبعمائة. ومنها: بئر أمام هذه البئر إلى منى في وجهتها إلى جهة منى عند رأس الشعب الذي يقال له: شعب البيعة الذي فيه مسجد البيعة السابق ذكره، وتعرف هذه البئر ببركة مسهر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الأصل: "صنداد". 2 هو شيخون الناصري مدير المملكة للسلطان الناصر حسن بن محمد بن قلاوون. مات سنة 758هـ. "الدرر الكامنة 2/ 196، 197 رقم 1950". 3 إتحاف الورى 3/ 272. 4 إتحاف الورى 3/ 6. 5 مات قبيل سنة 77هـ. الدرر الكامنة 1/ 534، 535 رقم 1448". 6 إتحاف الورى 3/ 280. ج / 1 ص -446- ومنها: البئر المعروفة بصلاصل، وهي من الآبار الإسلامية على ما ذكره الأزرقي1. ومنها: بئر بقرب هذه البئر يقال لها: الجنينة بجيم مضمونة ونون مفتوحة وياء مثناة من تحت ونون، وهي وصلاصل في الجانب الذي يكون على يمين الذاهب إلى منى، وكلام الأزرقي يقتضي أن البئر المعروفة ببركة مسهر في صلاصل، لأنه قال: وبئر الصلاصل بفم شعب البيعة عند العقبة، عقبة منى... انتهى، والله أعلم. ولم يبين الأزرقي سبب تسميتها بصلاصل، ولعل ذلك نسبتها إلى صلصل بن أوس بن مخامس بن معاوية بن شريف من بني عمرو بن تميم، لأن الفاكهي روى بسنده عن هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: كانت العرب في أشهر الحج على ثلاثة أهواء، منهم من يفعل المنكر وهم المحلون الذين يحلون الأشهر الحرم فيغتالون فيها ويسرقون، ومنها من كان يكف عن ذلك، ومنهم أهل هوى شرعه صلصل بن أوس بن مجاسر بن معاوية بن شريف من بني عمرو بن تميم في قتال المحلين، ثم قال بعد أن ذكر المحرمين: وكانوا يسمونهم الصلاصل، لأن صلصلا شرع ذلك، وكانوا ينزلون على بئر قريبة من مكة، ثم يتفرقون في الناس منها، وكانت البئر تسمى ببئر صلاصل... انتهى. ولكن يعكر على نسبة هذه البئر لصلاصل المشار إليه ما ذكره الأزرقي من أن صلاصل البئر التي ذكرها من الآبار الإسلامية فإن مقتضى ما ذكره الكلبي أن تكون من الآبار الجاهلية، والله أعلم بالصواب. وذكر الأزرقي ما يخالف ما ذكره من أن صلاصل من الآبار الإسلامية، لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: ذكر الآبار الإسلامية، وهي التي ذكر فيها ما سبق ذكره عنه في صلاصل تلو قوله: عقبة منى، وفيها يقول أبو طالب: وتسمله حتى يصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم في الحديد إليكم نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل2 ...انتهى. وإذا كان أبو طالب ذكر هذه البئر فهي جاهلية. ذكر الآبار التي بمنى وهي خمس عشرة بئرا: منها: بئر تعرف بالحجامية بقرب جمرة العقبة في بستان عندها. ومنها: بئر يقال لها: كدانة بدال مهملة مشددة ونون بعد الألف في منزلة المحمل المصري. ومنها: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 226. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 227. ج / 1 ص -447- بئر يقال لها: عمارة بفتح العين وتشديد الميم في الشعب الذي يلي ذلك، وهي حلوة، ومنها: بئر يقال لها: الكليبية، حلوة أيضا، ومنها: بئر يقال لها: بئر إسماعيل ويقال لها: دغبح. ومنها: بئر في بيت الجاعفرة عند بيت أبي مغامس في الطريق الوسطى ومنها: بئر بقرب الشعب الذي يقال له: سمير، ينسب لموسى بن غصون ومنها: بئر بقربها تنسب لابن فطيس .. ومنها: بئر بقربها يقال لها: أم النخلة، وتنسب لابن معيوف، ومنها: بئر يقال لها. أم الحمام، حلوة: ومنها: بئر بقرب أم النخلة، عمرتها زوجة الملك المنصور صاحب اليمن، في سنة خمس وأربعين وستمائة. ومنها: بئر يقال لها: العسيلة في منزلة بني حسن بمنى. ومنها: بئر في الشعب الذي يقال له: سمير. ومنها: بئر يقال لها: العراقيب، حلوة، في الشعب الذي يقال له: شعب عمرو، على يسار الذاهب إلى عرفة. وبمنى آبار أُخر في بعض بيوتها لا تعرف على ما بلغني. ذكر الآبار التي بمزدلفة: بمزدلفة ثلاثة آبار: منها: بئر قبالة المشعر الحرام على يمين الذاهب إلى عرفة، ومنها: بئر بقربها في الجهة اليمنى يقال لها: بئر البقرة، ومنها: بئر في الجهة اليسرى محاذية للمشعر الحرام في منزلة الركب العراقي، وفيما بين مزدلفة وعرفة: بئر يقال لها: السقيا على يسار الذاهب إلى عرفة. ذكر الآبار التي بعرفة: بعرفة آبار، فيها الآن الماء، فمنها: بئر يقال لها: الزيادة الكبرى، ومنها: بئر يقال لها: الزيادة الصغرى، ومنها: بئر يقال لها: الشمردقية، وفيها عدة آبار أخر لا ماء فيها، عمرها المظفر صاحب إربل. وقد ذكرناها مع تاريخ عمارة المظفر لها في أصل هذا الكتاب، والله أعلم. ذكر الآبار التي بظاهر مكة من أعلاها: فيما بين بئر ميمون بن الحضرمي والأعلام التي هي حد الحرم في طريق جادة وادي نخلة،وفيما بين بئر ميمون والأعلام المشار إليها خمس عشرة بئرا: منها أربعة آبار تعرف بآبار العسيلة، وفي رأس طي بعضها ما يقتضي أن المقتدر العباسي أمر بحفر بئرين منها، وفي طي بعضها ما يقتضي أن العجوز والدة المقتدر عمرتها مع سقايات هناك، ومسجد لا يعرف الآن منه شيء، وقد ذكرنا نص المكتوب في أصل هذا الكتاب والبئر الرابعة من آبار العسيلة جددها بعد دثورها بعض الآمراء ج / 1 ص -448- المصريين في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة1. وبقية الآبار لا ماء فيها إلا بئر لأبي بكر الحصار، وهي تلي آبار العسيلة. ذكر الآبار التي بأسفل مكة في جهة التنعيم: فيما بين باب مكة المعروفة بباب الشبيكة والتنعيم ثلاث وعشرون بئرا بجادة الطريق. منها: بئر الملك المنصور صاحب اليمن عند سبيله، وتعرف بالزاكية، وقد ذكرنا هذه الآبار في أول هذا الكتاب أوضح من هذا. ومنها: الآبار المعروفة بآبار الزاهر الكبير، وبعض هذه الآبار من عمارة المقتدر العباسي، وبقرب الشبيكة آبار أخر يقال لها: الزاهر الصغير، وهي ثلاثة آبار منها واحدة لا ماء فيها ولها قرنان، في أحدهما حجر مكتوب فيه تاريخ عمارتها. وبقرب هذه الآبار بئر ببطن ذي طول على مقتضى ما ذكره الأزرقي في تعريف ذي طول2. وبأسفل مكة أيضا: بئر يقال لها. الطنبداوية3. وبأسفل مكة مما يلي بابها المعروف بباب الماجن عدة آبار، منها بئر بقربه من خارجه، وبئر بالشعب الذي يقال له: "خم" بخاء معجمة4. ذكر عيون مكة المشرفة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال في العيون التي أجريت في الحرم: كان معاوية رضي لله عنه قد أجرى في الحرم عيونا، واتخذ له أخيافا، وكانت حوائط وفيها النخل والزرع، وسردها الأزرقي5، وذكرنا كلامه في أصل هذا الكتاب. قال: وقد كانت عيون معاوية رضي الله عنه تلك قد انقطعت وذهبت، فأمر أمير المؤمنين الرشيد بعيون، فعملت وأحييت وصرفت في عين واحدة، ثم قال: ثم كان الناس بعد تقطع هذه العيون في شدة الحاجة إلى الماء، وكان أهل مكة والحجاج يلقون في ذلك المشقة حتى أن الراوية لتبلغ في الموسم عشرة دراهم، وأقل وأكثر، فبلغ ذلك أم جعفر بنت أبي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 378، وذكر أن الذي جددها الأمير قطلوبك الناصري. 2 أخبار مكة للأزرق 2/ 107. 3 هي الطنبداوية، وبها سمي الطنبداوي: وهو حي من أحياء مكة. 4 خم: بضم أوله. قال الفاكهي بئر خم قريبة من المثيب، وكان الناس يأتون خما في الجاهلية والإسلام في الدهر الأول يتنزهون به ويكونون فيهن قال عبد شمس: حضرتخما وحفرت رما حتى ترى المجد لنا قد نما وكان عبد الله بن عمر يقول وهو بخم: لا نستقي إلا بخم والحفر معجم البلدان 2/ 389، 390". 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 227. ج / 1 ص -449- الفضل جعفر ابن أمير المؤمنين المنصور، فأمرت في سنة أربع وسبعين ومائة بعمل بركتها التي بمكة، فأجرت لها عينا من الحرم فجرت بماء قليل، فلم يكن فيه ري لأهل مكة، وقد غرمت في ذلك غرما عظيما، فبلغها فأمرت المهندسين أن يجروا لها عينا من الحل. ثم أمرت من يزن عينها الأولى فوجدوا فيها فسادا، فأنشأت عينا أخرى إلى جنبها، وأبطلت تلك العيون، فعملت عينها هذه بأحكم ما يكون من العمل، وعظمت في ذلك رغبتها، وحسنت نيتها، فلم تزل تعمل فيها حتى بلغت ثنية خل1، فإذا الماء لا يظهر في ذلك الجبل، فأمرت بالجبل فضرب فيه، وأنفقت في ذلك من الأموال ما لم تكن تطيب به نفس كثير من الناس، حتى أجراها الله على يديها وأجرت فيها عيونا من الحل، منها عين المشاش2، واتخذت له بركا تكون فيها السيول إذا جاءت تجتمع فيها، ثم أجرت لها عيونا من حنين واشترت حائط حنين، فصرفت عينه إلى البركة، وجعلت حائطه سدا يجتمع فيه السبل. فصارت لها مكرمة لم تكن لأحد قبلها، وطابت نفسها بالنفقة فيها بما لم تطب به نفس أحد غيرها ... انتهى باختصار. وقد ذكرنا ذلك كله في أصل هذا الكتاب3. وذكر أبو الحسن المسعودي في "تاريخه" مقدار ما صرفت زبيدة على هذه العين، لأنه ذكر أن القاهر العباسي سأل محمد بن علي العبدي الخراساني الإخباري أن يبسط له في أخبار زبيدة، فذكر أن لها في الجد والعزم ما بررت به على غيرها، فأما الجد فالآثار الجميلة التي لم يكن في الإسلام مثلها، مثل حفرها العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنها حفرتها ومهدت الطريق لمائها في كل خفض ورفع، وسهل ووعر، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلا إلى مكة، وكان جملة ما أنفقت عليها فيما ذكروا قدر بألف ألف وسبعمائة ألف دينار4... انتهى باختصار. وهذه العين في غالب ظني عين مكة المعروفة بعين بازان5 -بباء موحدة وألف ثم زاي معجمة ثم ألف ونون- لأنها من هذه الجهة، وقد عمر هذه العين جماعة من الخلفاء والملوك، منهم المستنصر العباسي غير مرة، منها: مرة في سنة خمس وعشرين وستمائة6. ومنها: مرة في سنة أربع وثلاثين وستمائة. ومنهم: الأمير جوبان7 نائب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ثنية خلة ويقال لها: خل الصفاح،وهي عند منتهى الحرم من طريق العراق، وطريق السيل للطائف. 2 عين المشاش: بضم الميم. قال ياقوت: يتصل بجال عرفات جبال الطائف، ومنها مياه كثيرة، منها المشاش وهو الذي يجري بعرفات ويتصل إلى مكة "معجم البلدان 5/ 131". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 230- 232. 4 قارن بمروج الذهب 4/ 317. 5 وتعرف الآن بعين زبيدة. 6 إتحاف الورى 3/ 44. 7 إتحاف الورى 3/ 52. ج / 1 ص -450- السلطنة بالعراق، عن السلطان أبي سعيد بن خرابندا ملك التتار، وذلك في سنة ست وعشرين وسبعمائة1، ووصلت إلى مكة في العشر الأخير من جمادى الأولى من هذه السنة، وعم نفعها وعظم. وكان جريانها هذا نعمة من الله تعالى ورحمة منه لأهل مكة، فإن الناس كانوا بمكة في جهد عظيم لقلة الماء بمكة. ولجد والدي لأمه الشيخ دانيال بن علي بن يحيى المرستاني2 أحد كبار مشيخة العجم بمكة في جريانها سعي مشكور، أجزل الله له ولمن أعانه على ذلك الثواب فيه. وجملة ما صرف على هذه العين في هذه العمارة: مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم على ما قيل، وكانت تحتمل من المصروف زيادة على هذا القدر مثله وأكثر، والسبب في الاقتصار على القدر المعين: الاستغناء به عن غيره بسبب ماء وجد فيها حين عمارتها من العين المعمولة المهيأة من قديم الزمان، وهي أكثر من الثلث وأقل من النصف. وعمرت بعد ذلك غير مرة في سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وهذه العمارة من جهة السيد الشريف حسن بن عجلان نائب السلطنة بمكة والأقطار الحجازية أعلى الله قدره، وكان دخولها مكة في آخر العشر الأوسط من جمادى الأولى منها، وجرت جريا حسنا بحيث امتلأت منها بركة الماجن بأسفل مكة وتعدى الماء إلى غيرها، وكثر الدعاء له بسبب ذلك لما حصل بها من عظيم النفع، وبيعت منها الراوية بربع مسعودي، بعد أن كانت بدرهمين مسعوديين وأزيد، فلله الحمد والشكر، ثم حصل في جريانها قصور في آخر السنة، ثم انصلح حالها في أول سنة اثنتي عشرة وثمانمائة من غير عمل، ثم تغير حالها قليلا، ثم عمرت وانصلح حالها كثيرا ثم تغير حالها كثيرا في آخر هذه السنة. ثم جرت جريا حسنا في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وهي مستمرة على جريانها إلى الآن. غير أن الماء يكثر حينا ويقل حينا، ونسأل الله تعالى تيسير الخير، والشهاب بركوت المكين سلمه الله يحسن في أمرها، لأنه يقوم بمصالحها من سنة ثلاث عشرة وثمانمائة إلى تاريخه، وهو سنة سبع عشرة وثمانمائة. ثم بعد ذلك قل ماؤها ولقي الناس بمكة شدة بسبب ذلك، وعرف بهذا الأمر مولانا السلطان الأعظم الملك المؤيد أبو النصر شيخ صاحب الديار المصرية والشامية والحمرين، آدام الله تعالى توفيقه وتأييده ونصره، فتطوع بألفي مثقال ذهبا لعمارة هذه العين، لأنه ما زال بمصالح أهل الحرمين كثير الاهتمام، وقد يكون منه عليهم الجزيل من الإنعام. وندب القائد علاء الدين3 لعمارة ذلك، فشرع في العمارة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 181. 2 في منتخب شفاء الغرام "ص: 128": "اللرستاني". 3 مات في سنة 828هـ "الضوء اللامع 11/ 163". ج / 1 ص -451- والتنظيف والإصلاح حتى وصل الماء لمكة المشرفة وحصل به النفع، وتضاعفت الأدعية من سكان الحرم لمولانا السلطان بسبب ذلك. وكان حصول هذا الخير بمكة في شعبان سنة إحدى وعشرين وثمانمائة1. وابتدأ العمل في جمادى الآخرة من السنة المذكورة. ثم قل جريان الماء في العين المذكورة بعد قليل من جريانها الأول، ويسر الله دخول سيل فيها فجرت جريا أحسن من جريها الأول، وصرفت إلى بركتي المعلاة اللتين على يمين الداخل إلى مكة، فامتلأتا وحصل بهما للحجاج نفع كثير، ولم يبق فيهما بعد سفر الحاج ما فيه كثير نفع، وعلى الماء كثيرا، وشق ذلك على الناس، فوفق الله تعالى القائد علاء الدين بعمارة العين، وبعث إليها عمالا ومهندسا يعمرون فيها ما لم يعمروا في النوبة الأولى، وبعض ما عمر فيها لتخربه بالسيل، ووصل الماء إلى مكة بعد ذلك في آخر صفر سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة2، وكان جريه قليلا، فزادوا في العمارة حتى جرى الماء وعظم النفع به بحيث بيعت الراوية بنصف مسعودي، وبما يزيد، وبدرهم، وهذا أكثر مما بيعت به الراوية بعد عمارة العين في النوبة الثانية وبلغني أنها بيعت بجايز. وقد وصل الماء أي ماء العين إلى البركة التي بأسفل مكة المعروفة ببركة الماجن خارج باب مكة المعروف بباب الماجن، بعد تنظيف الطريق إليها وزرعوا بماء العين أودانا بقرب بركة الماجن، فلله الحمد، وفاز القائد علاء الدين بدعاء جزيل. وكان جريانه القوي في العمارة الثانية في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، فالله تعالى يثيبه ويحسن إليه ويجزيه خيرا بمحمد وآله أجمعين. ومن العيون التي أجريت بمكة: عين أجراها الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر، في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة3 في مجرى عين بازان، على ما ذكر البرزالي في "تاريخه" نقلا عن كتاب العفيف المطري إليه، لأنه ذكر في أخبار هذه السنة أنه ورد عليه كتاب من العفيف المطري فيه أمور: ومنها: أجريت عين أخرى كانت تعرف بعين جبل ثقبة مما يلي جبل حراء على مجرى العين الجوبانية، وأنفق عليها قدر يسير، قدر خمسة آلاف درهم، ووصلت إلى مكة، وخرجت من أسفلها، وكان ذلك على يد ابن هلال الدولة مشيد العمائر، وتاريخ كتاب العفيف سلخ ربيع الأول سنة ثمان وعشرين4... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 560. 2 إتحاف الورى 3/ 566. 3 إتحاف الورى 3/ 187، والسلوك 2/ 1: 303، درر الفرائد "ص: 302". 4 إتحاف الورى 3/ 187، درر الفرائد 302، السلوك 2/ 1: 303. ج / 1 ص -452- ومنها: عين أجراها الأمير المعروف بآل ملك نائب السلطنة في مصر في سنة خمس وأربعين وسبعمائة، من منى إلى بركة السلم بطريق مني1. ونختم هذه الترجمة بحكاية عجيبة تتعلق بعين مكة، وهذه الحكاية ألفيتها مذكورة في الكتاب المسمى "آكام المرجان في أحكام الجان"2، ونصها فيه: ونقلت من خط الشيخ العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي رحمه الله وحدثني به أيضا، قال: وقعت هذه الواقعة بعينها في مكة سنة أجرى العين بها. فأخبرني إمام الحنابلة بمكة وهو الذي كان أجراها على يده، وتولى مباشرتها بنفسه نجم الدين خليفة بن محمود الكيلاني قال: لما وصلنا في الحفر إلى موضع ذكره خرج أحد الحفارين من تحت الحفر مصروعا لا يتكلم، فمكث كذلك طويلا، فسمعناه يقول: يا مسلمون، لا يحل لكم أن تظلمونا. قلت له أنا: وبأي شيء ظلمناكم؟ قال: نحن سكان هذه الأرض، ولا والله ما فيهم مسلم غيري وقد تركتهم ورائي مسلسلين وإلا كنتم لقيتم منها شرا، وقد أرسلوني إليكم يقولون لا ندعكم تمرون، فهذا الماء في أرضنا حتى تبذلوا لنا حقنا، قلت: وما حقكم؟ قال: تأخذون ثورا فتزينوه بأعظم زنية، تلبسونه وتزفونه من داخل مكة حتى تنتهوا به إلى هنا، فاذبحوه ثم اطرحوا لنا دمه وأطرافه ورأسه في بئر عبد الصمد وشأنكم بباقيه، وإلا فلا ندع الماء يجري في هذه الأرض أبدا، قلت: نعم أفعل ذلك، قال: وإذا بالرجل قد أفاق فمسح وجهه وعينيه ويقول: لا إله إلا الله. أين أنا؟! قال: وقام الرجل ليس به قلبه، فذهبت إلى بيتي، فلما أصبحت ونزلت أريد المسجد إذا برجل على الباب لا أعرفه، فقال لي: الحاج خليفة ههنا؟ فقلت: وما تريد به؟ قال: حاجة أقولها له، قلت له: قل لي الحاجة وأنا أبلغها إياها فإنه مشغول، قال لي: قل له إني رأيت البارحة في النوم ثورا عظيما قد زينوه بأنواع الحلي واللباس، وجاءوا يزفونه حتى مروا به على دار الخليفة فوقفوه إلى أن أخرج وراءه. وقال: نعم. هو هذا، ثم أقبل به يسوقه والناس خلفه يزفونه حتى خرج به من مكة، فذبحوه وألقوا راسه وأطرافه في بئر. قال: فعجبت من منامه وحكيت الواقعة والمنام لأهل مكة وكبرائهم، فاشتروا ثورا وزينوه وألبسوه، وخرجنا به نزفه حتى انتهينا إلى موضع الحفر، فذبحناه وألقينا رأسه وأطرافه ودمه في البئر التي سماها، قال: ولما كنا قد وصلنا إلى ذلك الموضع كان الماء يفور ولا ندري أين يذهب أصلا، ولا نرى له عينا ولا أثرا، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 اتحاف الورى 3/ 228، العقد الثمين 3/ 331. 2 الكتاب مطبوع وهو من تأليف قاضي طرابلس الشام بدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي "755- 769هـ". ترجمته في: الدرر الكامنة 4/ 107. الوافي بالوفيات 3/ 378. تاج التراجم "ص: 63". المنهل الصافي 5/ 56، النجوم الزاهرة 11/ 100، كشف الظنون 1/ 141، 2/ 1609، هدية العارفين 2/ 164، الأعلام 7/ 112. ج / 1 ص -453- قال: فما هو إلا أن طرحنا ذلك في البئر، حتى كان من أخذ بيدي وأوقفني على مكان وقال: احفروا ههنا، قال: فحفرنا، فإذا بالماء يموج في ذلك الموضع، وإذا طريق منقورة في الجبل يمر تحتها الفارس بفرسه، فأصلحناها ونظفناها فجرى الماء فيها نسمع هديره، فلم يكن إلا نحو أربعة أيام، وإذا بالماء بمكة، وأخبرنا من حول البئر أنهم لم يكونوا يعرفون في البئر ما يريدونه، فما هو إلا أن امتلأت وصارت موردا... انتهى. والشيخ شمس الدين الحنبلي المذكور في هذه الحكاية هو ابن قيم الجوزية1، وقال بعد ذكرها: وهذا الرجل الذي أخبر بهذه الحكاية كنت نزيله وجاره، وخبرته فرأيته من أصدق الناس وأدينهم وأعظمهم أمانة، وأهل البلد كلمتهم واحدة على صدقه ودينه، وشاهدوا هذه الواقعة بعيونهم... انتهى. وبئر عبد الصمد المذكور في هذه الحكاية لا تعرف الآن، والعين المشار إليها عين بازان، ويغلب على ظني أن الماء جرى فيها لما عمرها أصحاب جوبان، والله أعلم. ذكر المطاهر التي بمكة: بمكة مطاهر أعظمها نفعا: مطهرة الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر عند باب بني شيبة، وكان اشترى موضعها من الشريفين عطيفة2 ورميثة3 ابني أبي نمى أميري مكة نيابة عنه بخمسة وعشرين ألف درهم، وكانت عمارتها في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وفيها وقفت4. ومنها: مطهرة الأمير المعروف بآل ملك نائب السلطنة بمصر عند باب الحزورة، وأظن أنه عمرها في سنة خمس وأربعين وسبعمائة5، والله أعلم، وهي الآن معطلة. ومنها: مطهرة الأمير صرغتمش الناصري أحد كبار الأمراء في دولة الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهي فيما بين البيمارستان المستنصري ورباط أم الخليفة، وتاريخ عمارتها سنة تسع وخمسين وسبعمائة، ثم عمرها في عصرنا بعض تجار الشام وأدارها في سنة ثمان وثمانمائة أو في التي بعدها، وعمرت في سنة إحدى عشرة وثمانمائة من وصية أوصى بها بعض تجار العجم وأدبرت فيها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو العالم المعروف محمد بن أبي بكر بن أيوب. ولد سنة 691، وتوفي سنة 751هـ. 2 هو عطيفة بن محمد بن حسين، مات بعد سنة 738هـ "الدرر الكامنة 2/ 455، 456 رقم 2628". 3 رميثة: أسد الدين أبو عرادة بن أبي نمى -بالنون مصغر ولي إمرة مكة مع أخيه حميضة، توفي سنة 748هـ "الدرر الكامنة 2/ 206، 207 رقم "1728". 4 إتحاف الورى 3/ 187. 5 إتحاف الورى 3/ 229. ج / 1 ص -454- ومنها: مطهرة الملك الأشرف شعبان بن حسين ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بالمسعى قبالة باب المسجد الحرام المعروف بباب علي، وكان المتولي على عمارتها الأمير أبو بكر بن سنقر الجمالي في سنة ست وسبعين وسبعمائة، وللأشرف عليها وقف بمكة، ربع فوقها، ودكاكين، ووقف بضواحي القاهرة. ومنها: مطهرة خلفها للنسوة، عمرتها أم سليمان المتصوفة صاحبة الزاوية بسوق الليل، وفرغ من عمارتها في سنة ست وسبعين وسبعمائة. ومنها: مطهرة الأمير زين الدين بركة العثماني رأس النوب1 بالقاهرة، وخشداش2 الملك الظاهر صاحب مصر، وهي التي بسوق العطارين الذي يقال له: سوق النداء عند باب بني شيبة، وكان إنشاؤها وإنشاء ربعها ودكاكينها في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ومنها: مطهرة تنسب إلى الأمير الطنبغا المعروف بالطويل أحد الأمراء المقدمين بالقاهرة في أوائل عشر السبعين وسبعمائة، وأظنها عمرت في هذا التاريخ، وهي بقرب الموضع المعروف بخرابة قريش، وبينهما الطريق إلى باب الشبيكة وإلى السويقة3 وغير ذلك. ومنها: مطهرة عند باب الحزورة يقال لها: مطهرة الواسطي، وما عرفت الواسطي المنسوبة إليه ولا متى وقفت4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رأس نوبة النوب: هو لقب الذي يتحدث على مماليك السلطان أو الأمير وتنفيذ أمره فيهم "صبح الأعشى 5/ 450". 2 خشداش أو خجداش، معرب عن اللفظ الفارسي "خواجا تش" بمعنى الزميل، والخشداشية في عصر المماليك هم الذين نشئوا عند أستاذ واحد "النجوم الزاهرة 15/ 161". 3 هذه المطهرة باقية إلى الآن من باب العمرة، وبمناسبة توسعة الحرام هدمت بعض هذه المطاهر. 4 ومن المطاهر مطهرتان أنشأتهما زوجة الملك الأشرف أينال سنة 865هـ وهما بالصفا، ومنها المطهرة المنسوبة للواسطي، وقفها الملك العادل نور الدين الشهيد سنة 564هـ، وجددها القاضي جمال الدين يوسف سنة 585هـ. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -455- الباب الرابع والعشرون: ذكر شيء من خبر بني المحض بن جندل ونسبهم: قال المسعودي في "تاريخه": وقد تنازع أهل الشرائع في قوم شعيب بن نويل1 بن عوائيل2 بن مدين بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام وكان لسانه العربية، منهم: من رأى أنهم من العرب الدائرة والأمم البائدة، وبعض من ذكرنا من الأجيال الخالية. ومنهم من رأى أنهم من ولد المحض بن جندل بن يعصب بن مدين بن إبراهيم الخليل، وأن شعيبا أخوهم في النسب، وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة، فمنهم المسمى: بأبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت. وهم على ما ذكرنا بنو المحض بن جندل، وأحرف الجمل هي3 أسماء هؤلاء الملوك، وهي الأربعة4 والعشرون حرفا التي عليها حساب الجمل. ثم قال المسعودي: فكان أبجد: ملك مكة وما يليها من الحجاز، وكان هوز، وحطي ملكين ببلاد وج، وهي أرض الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد، وكلمن وسعفص وقرشت ملوكا بمدين، وقيل: ببلاد مصر. وكان كلمن على ملك مدين. ومن الناس من رأى أنه كان ملك جميع من سمينا مشاعا متصلا على ما ذكرنا، وأن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "تويل" وفي نسخة "نوفل". 2 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "رعويل" بالعين المهملة، وقيل: "رعبيل بن عنقاء بن مدين ....". 3 عند المسعودي: "على" بدل "هي". 4 وفي نسخة للمسعودي "التسعة". ج / 1 ص -456- ثم قال المسعودي: وقد ذكرهم المنتصر بن المنذر المزني بأبيات، يقول فيها: ملوك بني حطي وسعفص ذي الندى وهوز أرباب الثنية1 والحجر هم ملكوا أرض الحجاز ووجه2 كمثل شعار الشمس أو صورة البدر ولهذه4 الملوك أخبار عجيبة5... انتهى باختصار. ذكر شيء من أخبار العماليق ملوك مكة ونسبهم: أما نسبهم: فذكره غير واحد من أهل الأخبار، منهم ابن إسحاق؛ لأنه قال في "سيرته" تهذيب ابن هشام: وطسم، وعملاق، وأمير: بنو لاوذ بن سام بن نوح، عرب كلهم... انتهى. وعمليق الذي ذكره الزبير بن بكار، هو عملاق الذي ذكره ابن إسحاق، لأن ابن هشام قال بعد ذكره لخبر فيه ذكر العماليق: وهو ولد عملاق، ويقال: عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح... انتهى. وتحصل مما قالوا إن والد عملاق يقال له: لوذ ولاوذ، وسقط فيما ذكروه من نسب عملاق: "إرم" بين لاوذ وسام بن نوح على ما ذكره المسعودي في غير موضع من تاريخه، لأنه قال لما ذكر ديانات العرب وآراءها في الجاهلية وتفرقها في البلاد: وسار بعد جديس عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح بولده ومن اتبعه، وهو يقول بعد أن ذكر شعرا: فنل هؤلاء أكناف الحرام والتهائم، ومنهم من صار إلى بلاد مصر والمغرب. وقال المسعودي لما ذكر أخبار نوح عليه السلام ما يوافق ذلك أيضا6. وذكر المسعودي في موطن آخر ما يقتضي سقوط "إرم" في نسب عملاق، ولا منافاة بين من أثبته في النسب وبين من أسقطه، لأن من أثبته ذكر النسب على وجهه، ومن أسقطه نسب "لاوذ" إلى جده "سام" لأنه يجوز أن ينسب الإنسان إلى أبيه وإلى جده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "البنية". 2 كذا في الأصل، وعند المسعودي: "وهم ملكوا أرض الحجاز وأوجها". 3 عند المسعودي: "وفي" بدل "أول". 4 عند المسعودي: "ولهؤلاء". 5 مروج الذهب 2/ 148- 150 وفيه زيادة في الشعر. 6 مروج الذهب 2/ 134. ج / 1 ص -457- وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن العماليق من ولد "العيص" ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام ذكر هذا القول المسعودي في "تاريخه" في غير موضع، لأنه قال لما ذكر مكة وأخبارها، وبناء البيت الحرام، ومن تداوله من جرهم وغيرها: وقد كانت العماليق بغت في الأرض، فسلط عليهم ملوك الأرض فأفنتها. وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكر الروم وأنسابهم من ألحق ولد1 عملاق وغيرهم ممن ذكرنا بولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وأن علماء العرب تنسبهم إلى غير ذلك، وهو الأشهر في الناس2. وذكر في باب أخبار الروم ما يقتضي: أن العماليق عند من قال في نسبهم هذه المقالة: من ولد اليعاز بن عيصو، وأن عيصوا هو العيص بن إسحاق3. وروينا في "تاريخ الأزرقي" خبرا عن ابن عباس رضي الله عنهما فيه ما يقتضي أن العماليق من حمير4. وروينا في تاريخ الأزرقي" مثله، عن عبد الله بن خيثم، وسنذكر إن شاء الله تعالى هذين الخبرين فيما بعد. وفي كون العماليق من حمير نظر، لأن العماليق من ولد إرم بن سام بن نوح، على ما ذكر المسعودي، وحمير من ولد أرفخشذ بن سام بن نوح، وهو: حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه: يقطن على ما قال الحازمي في العجالة" ابن عابر، ويقال: ابن غبير بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، هذا مقتضى ما نسبه ابن إسحاق في نسب حمير. وذكر أن اسم أبيه: سبأ عبد شمس، قال: وإنما سمي سبأ، لأنه أول من سبا في العرب... انتهى. وقد اتضح مما ذكرناه نسب العماليق وشيء من خبرهم، ونتبع ذلك بشيء من خبرهم. قال الفاكهي: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي العائدي قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح قال: قال عثمان بن ساج: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: كان البيت في زمن هود معروفا، والحرم قائما فيما يذكرون والله أعلم وأهل مكة يومئذ العماليق، وإنما سموا العماليق، لأن أباهم عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح. وكان سيد العماليق ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 زيادة من مروج الذهب 2/ 52. 2 مروج الذهب 2/ 52. 3 مروج الذهب 1/ 308. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89. ج / 1 ص -458- فيما يزعمون يومئذ رجل يقال له: بكر بن معاوية، وهو الذي نزل عليه وفد عامر حين بعثوا إلى مكة يستسقون1. قال الفاكهي: وحدثنا محمد بن علي المروزي قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل قال: قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصن، عن عروة بن الزبير، قال: كانت الحجاز أسحر أرض الله وأكثرها ماء، وإنما كانت الخرق مظلة عليها. قال: يقول عروة: لقد بلغني أن العماليق تسرح بها في الغداة الواحدة ألفي ناضح، بين أحمر وجون2... انتهى. وروى الفاكهي بسنده إلى أبي جهو بن حذيفة أخبارا فيها ذكر شيء من حال العماليق، فنذكر ما فيها من ذلك: ففي بعضها: أن جبريل عليه السلام كان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول له جبريل: لا، حتى مر به على مكة، وهي إذ ذاك عضاه وسلم. والعماليق يومئذ حول الحرم، وهم يكونون بعرنة، وهم أول من نزل حول مكة، وكانت المياه يومئذ قليلة2. وفي بعض الأخبار بعد أن ذكر إخراج الله الماء لإسماعيل عليه السلام وأقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرين لهما قد أخطأه، فقد عطشا وأهلهما بعرنة، فنظرا إلى طير يهوي قبل الكعبة، فاستنكر ذلك، ثم قال بعد أن ذكر استدلالهما على الماء بالطير: فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبي قبيس، فنظرا إلى الماء وإلى العريش، فنزلا وكلما هاجر، وسألاها: متى نزلت؟ فأخبرتهما، وقالا: لمن هذا الماء؟ فقالت: لي ولابني، فقالا: من حفره؟ فقالت: سقيا الله، فعرفا أن أحدا لا يقدر أن يحفر هنالك ماء، وعهدهما بما هنالك قريب، وليس به ماء، فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما، وأخبراهم، فتحولوا حتى نزلت معهما على الماء، وأنست بهم، ومعهم الذرية، ونشأ إسماعيل عليه السلام مع ولدانهم. وكان إبراهيم عليه السلام يزور هاجر في كل شهر على البراق، يغدو غدوة فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله الشام، ونظر من هنالك من العماليق وإلى كثرتهم، وعمارة الماء، فسر بذلك وقرت به عينه. خروج العماليق من مكة: وكان العماليق ولاة الحكم بمكة، فضيعوا حرمة البيت، واستحلوا منه أمورا عظاما، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام فيهم رجل يقال له: عملوق، فقال: يا قوم، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 137. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138. ج / 1 ص -459- أبقوا على أنفسكم ولا تفعلوا المنكر، تواصلوا، ولا تستخفوا بحرم الله وبيته، فلم يقبلوا ذلك، وتمادوا في هلكة أنفسهم. وفيه: فكثر العماليق، فنازعوهم يعني جرهما وقطورا فنفوهم وأخرجوهم من الحرم كله، فكانوا في أطراف الحرم، لا يدخلون الحرم، فقال لهم صاحبهم عملوق: ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة البيت، ولا تنتهكوا به، ولا تتجبروا؟ فغلبتموني... انتهى. وذكر الأزرقي شيئا من خبر العماليق، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، قال: حدثني جدي، عن سعد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بمكة حيٌّ يقال لهم: العماليق، فكانوا في عز وكثرة وثروة، وكانت لهم أموال كثيرة من خيل وإبل1 وماشية، وكانت ترعى بمكة وما حولها من "مر" "ونعمان" وما حول ذلك، وكان "الجرف" عليهم مظلة، والأربعة مغدقة، والأودية تنسال2، والعضاه ملتفة، والأرض مبقلة، فكانوا في عيش رخي، فلم يزل بهم البغي والإسراف على أنفسهم، والإلحاد بالظلم، وإظهار المعاصي، والإضطهاد لمن قاربهم، ولم يقابلوا ما أوتوا بشكر3 الله، حتى سلبهم الله تعالى ذلك، فبغضهم4 بحبس المطر عنهم، وتسليط الجدب عليهم، وكانوا يكرون بمكة الظل، ويبيعون الماء، فأخرجهم الله تعالى من مكة بالذر، سلطه الله عليهم حتى خرجوا من الحرم، فكانوا حوله، ثم ساقهم الله بالجدب يضع الغيث أمامهم ويسوقهم بالجدب، حتى ألحقهم الله تعالى بمساقط رءوس آبائهم، وكانوا قوما عربا من حمير، فلما دخلوا بلاد اليمن تفرقوا وهلكوا، فأبدل الله عز وجل الحرم بعدهم بجرهم، فكانوا سكانه، حتى بغوا فيه، واستخفوا بحقه، فأهلكهم الله عز وجل جميعا5. قال الأزرقي: وحدثني جدي إبراهيم بن محمد الشافعي قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن خيثم قال: كان بمكة حيٌّ يقال لهم: العماليق، فأحدثوا فيها أحداثا، فجعل الله تعالى يقودهم بالغيث، ويسوقهم بالسنة، يضع الغيث أمامهم فيذهبون ليرجعوا، فلا يجدون شيئا، فيتبعون الغيث، حتى ألحقهم الله بمساقط رءوس آبائهم، وكانوا من حمير، ثم بعث الله عز وجل عليهم الطاعون قال أبو خالد الزنجي: فقلت لابن خيثم: وما الطاعون؟ قال: الموت6... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 قارن بأخبار مكة للأزرقي 1/ 89. 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 89: "نجال". 3 في الأصل: "لشكر" والتصويب من أخبار مكة للأزرقي 1/ 89. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 90: "فنقصها". 5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89، 90. 6 أخبار مكة للأزرقي 1/ 89. ج / 1 ص -460- وهذان الخبران هما اللذان أشرنا غلى أنهما يقتضيان أن العماليق من حمير، وليس فيهما ما يشعر بأن أحدا من الناس أخرجهم من مكة قهرا. وقد ذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن جرهما وقطورا أخرجوا العماليق من مكة1، وسيأتي هذا الخبر إن شاء الله تعالى في أخبار جرهم. وما ذكرناه عن الفاكهي يقتضي ذلك أيضا، والله أعلم بالصواب. وسيأتي إن شاء الله تعالى في أخبار جرهم ما يقتضي أن العماليق كانوا ولوا مكة حينا مع جرهم، ولا معارضة بين هذا الخبر وبين الخبر الذي يقتضي أن العماليق كانوا ولاة مكة قبل جرهم، لأنه يجوز أن يكون طائفة من العماليق ولوا مكة قبل جرهم، وطائفة من العماليق غير الأولين ولوا مكة مع جرهم، والله أعلم. ووقع في خبر ذكره الفاكهي ما يوهم أن العماليق كانوا بعد جرهم، لأنه قال: وحدثنا حسين بن حسن قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا موسى بن أعين، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عمر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أول من بنى البيت إبراهيم ثم هدم فبنته جرهم، ثم هدم البيت، فبنته العماليق، ثم هدم فبنته قريش2... انتهى. ووقع في الخبر الذي رويناه عن ابن عباس في أخبار العماليق: أن أموالهم كانت ترعى بمكة وما حولها من "مر" و"نعمان"، فأما "مر" المشار إليه فهو: مر الظهران الذي يسميه أهل مكة: الوادي، ويقال له أيضا: وادي مر. وقد ذكر السهيلي خلافا في سبب تسميته بمر فقال: وسمي مرا، لأنه في عرق من الوادي من غير لون الأرض، شبه الميم الممدودة وبعدها راء خلقت كذلك، قال: ويذكر عن كثير أنه قال: سميت مرا لمرارتها، ولا أدري ما صحة هذا3... انتهى كلام السهيلي. ونقل الحازم عن الكندي: أن مر: اسم للقرية، والظهران: اسم للوادي ... انتهى. وبين مر ومكة: ستة عشر ميلا، على ما قال البكري4. وقيل: ثمانية عشر ميلا، وقيل: أحد وعشرون، حكاه ابن وضاح، والله أعلم. وأما نعمان المشار إليه فهو موضع مشهور فوق عرفة على طريق الطائف من عرفة، وفيه مزارع حسنة، والشعراء تذكره في شعرها5، وهو بفتح النون الأولى، وفيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 85. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 138. 3 الروض الأنف 1/ 114. 4 معجم ما استعجم 4/ 1212. 5 معجم ما استعجم 4/ 1316. ج / 1 ص -461- أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، لأن ابن الأثير في "كامله" قال: روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أخذ الله الميثاق على ذرية آدم بنعمان من عرفة، ثم قال ابن الأثير: نعمان بفتح النون الأولى1... انتهى. ذكر ولاية طسم البيت الحرام: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم، قال: حدثنا مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن قتادة قال: إن عمر بن الخطاب رضي لله عنه قال لقريش: إنه كان ولاة هذا البيت قبلكم طسم، فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته، فأهلكهم الله، ثم وليته بعدهم جرهم، فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته، فأهلكم الله، فلا تهاونوا به، وعظموا حرمته2... انتهى. وطسم، أخو عملاق، وقد سبق نسبه، فأغنى عن إعادته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الكامل 1/ 40. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 80. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -462- الباب الخامس والعشرون: ذكر نسبهم: أما نسبهم فإنهم من ولد جرهم بن قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوج عليه السلام هذا مقتضى ما ذكره ابن إسحاق في "سيرته" وابن هشام في نسب جرهم. وذكر ابن هشام أن جرهما هو ابن قحطان أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها مع ابن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح... انتهى. وقيل: إن جرهما بن مالك من الملائكة، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه عنه الفاكهي في "تاريخه" لأنه قال: وحدثني حسن بن حسين أبو سعيد قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي، عن أبي المقوم الأنصاري واسميه يحيى بن ثعلبة عن الكلبي، عن أبي صالح قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما فذكرنا جرهما، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الملك من الملائكة إذا أذنب ذنبا عظيما أهبط إلى الهوى، ونزعت منه روحاينة الملائكة وجعل في خلق ابن آدم، فأذنب ملك من الملائكة يقال له: عرعرا أو نحوها ذنبا فكان في الهوى، ثم هبط مكة، فتزوج امرأة من العماليق فولدت له جرهما، فذلك قول الحارث بن مضاض الجرهمي1: اللهم إن جرهما عبادك الناس طرف وهم قلادك2 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شاعر جاهلي قديم، وقوله: "وهم قلادك": أي أن أهل مكة كالقلادة، والحرم منهم قلادك أي قلاد بيتك. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 139. ج / 1 ص -463- ... انتهى. وشعر الحارث في هذا المعنى طويل، ذكره الفاكهي، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وقد أنكر السهيلي هذا الخبر لأنه قال: وجرهم هو الذي تتحدث به العرب في أكاذيبها، وكان من خرافاتها في الجاهلية أن جرهما ابن ملك أهبط من السماء لذنب أصابه، فغضب عليه من أجله، كما أهبط هاروت وماروت، ثم ألقيت فيه الشهوة، فتزوج امرأة، فولدت له جرهما، وقال فيه قائلهم: اللهم إن جرهما عبادكا الناس طرف وهم تلادكا ثم قال: من كتاب "الأمثال" للأصبهاني1... انتهى. وقال: وقد قيل: إنه كان مع نوح في السفينة وذلك أنه من ولده2... انتهى. ولم يبين السهيلي قائل هذه المقالة، وقد بين ذلك الفاكهي في كتابه "أخبار مكة" لأنه روى فيه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان في السفينة ثمانون إنسانا وفيهم جرهم3... انتهى. وذكر السهيلي اختلافا في نسب قحطان الذي ينسب إليه جرهم، وفوائد تتعلق بقحطان، فنذكر ذلك لما فيه من الفائدة، ونص كلامه: أما قحطان فاسمه مهرم فيما ذكر ابن ماكولا، وكانوا أربعة إخوة فيما روي عن ابن منبه: قحطان، وقاحط، ومقحط، وفالغ. وقحطان أول من قيل له: أبيت اللعن، وأول من قيل له: عم صباحا. واختلف فيه، فقيل: هو ابن غابر4 بن شالخ5، وقيل: هو ابن عبد الله أخو هود، وقيل: هو "هود" نفسه، فهو على هذا القول ابن إرم بن سام، ومن جعل العرب كلها من إسماعيل قالوا فيه: هو ابن تيمن بن قيدر بن إسماعيل، ويقال له: هو ابن الهميسع بن يمن. ثم قال: وقال ابن هشام: يمن هو ابن6 يعرب بن قحطان ثم قال الإمام السهيلي: وقد احتجوا لهذا القول أعني أن قحطان من ولد إسماعيل عليه السلام بقول: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 138، 139. 2 الروض الأنف 1/ 139. 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 139. 4 في الروض الأنف 1/ 12 "عابر" بالعين المهملة. 5 الروض الأنف 1/ 12. 6 ليس في الروض كلمة "ابن". ج / 1 ص -464- النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" قال هذا القول لقوم من أسلم بن قصي وأسلم أخو خزاعة، وهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وهم من سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ولا حجة عندي في هذا الحديث لأهل هذا القول، لأن اليمن لو كانت من إسماعيل مع أن عدنا كلها من إسماعيل بلا شك لم يكن لتخصيص هؤلاء القوم بالنسب إلى إسماعيل معنى، لأن غيرهم من العرب أيضا أبوهم إسماعيل، ولكن في الحديث دليل والله أعلم على أن خزاعة من بني لمعة1 أخي مدركة بن إلياس بن مضر2... انتهى. وقد اختلف في نسب قحطان المنسوب إليه جرهم اختلافا كثيرا. فقال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة فيما رواه عنه ابن عبد البر: اختلف النسابون جميعا في نسب قحطان على ثلاثة مقالات، تفرق كل أهل مقالة منها على ثلاثة مقالات، فنسبته طائفة إلى إرم بن سام بن نوح، وقالت فيه ثلاث مقالات. ونسبته طائفة إلى غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وقالت فيه ثلاث مقالات ونسبته طائفة إلى إسماعيل بن إبراهيم، وقالت فيه ثلاث مقالات... انتهى. وقد بان بما ذكرناه في هذه الترجمة التي ذكرت شيء من نسب جرهم وقحطان وشيء من خبرهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في الروض الأنف 1/ 19: "قمعة". 2 الروض الأنف 1/ 19. ذكر من ملك مكة من جرهم ومدة ملكهم لها وما وقع في نسبهم من الخلاف وفوائد تتعلق بذلك: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني ابن إسحاق فذكر شيئا من خبر إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبني إسماعيل، ثم قال: "ثم توفي نابت بن إسماعيل، فولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جد نابت بن إسماعيل أبو أمه وضم بني نابت بن إسماعيل وبني إسماعيل إليه، وصاروا مع جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو ومع أخوالهم من جرهم، وجرهم وقطورا يومئذ أهل مكة، وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكا عليها وعلى قطورا رجل منهم يقال له: السميدع ملكا عليهم وكانا حينا ظعنا من اليمن أقبلا سيارة، وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، فلما نزلا مكة رأيا بلدا طيبا وأراما1 وشجرا، فأعجبهما ونزلا به، فنزل مضاض بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في أخبار مكة للأزرقي "وإذا ماء". ج / 1 ص -465- عمرو بمن معه من جرهم أعلا مكة وقعيقعان، فحاز ذلك، ونزل السميدع أجياد وأسفل مكة، فيما حاز ذلك. وكان مضاض بن عمرو يعشر من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من دخل مكة من أسفلها ومن كداء1، وكل في قومه على حاله، لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه. ثم إن جرهما وقطورا بغى بعضهما على بعض، وتنافسوا الملك بها، فاقتتلوا بها حتى نشبت الحرب أو شبت الحرب بينهم على الملك، وولاة الأمر بمكة مع مضاض بن عمرو بني نابت بن إسماعيل، وبني إسماعيل، وإليه ولاية البيت دون السميدع فلم يزل البغي حتى سار بعضهم على بعض، فخرج مضاض بن عمرو من قعيقعان في كتيبة سائرا إلى السميدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب، يقعقع ذلك معه، ويقال: ما سميت قعيقعان إلا بذلك. وخرج السميدع بقطوراء من أجياد ومعه الخيل والرجال، ويقال: ما سميى أجياد إلا بخروج الخيل الجياد مع السميدع حتى التقوا بفاضح، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع وفضحت السميدع وفضحت قطوراء، ويقال: ما سمي فاضح فاضحا إلا بذلك. ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ شعب بأعلى مكة يقال له: شعب عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس فاصطلحوا بذلك الشعب، وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو، فلما جمع أمر مكة وصار ملكها له دون السميدع: نحر للناس وأطعمهم، وطبخ الناس وأكلوا فيقال: ما سمي المطابخ إلا بذلك. قال: وكان الذي بين مضاض بن عمرو والسميدع أول بغي كان بمكة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...