65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

السبت، 20 مايو 2023

7. موسوعة خطب المنبر اعداد احمد السني المرأة وواجباتها



 

7. موسوعة خطب المنبر اعداد احمد السني

المرأة وواجباتها{الأسرة والمجتمع المرأة} لمحمد النمر

الطائف

24/4/1420

الهويش

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

 ملخص الخطبة

- النظرة الخاطئة للمرأة في تصور البشرية بعيداً عن الإسلام – اضطراب الغرب عند إرادته تصحيح خطأ نظرته وتصوراته للمرأة – طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في ظل الإسلام ووظيفتها – فضل الزوجة الصالحة وأثرها على الزوج – نماذج من سِيَر الزوجات المسلمات الصالحات

  الخطبة الأولى

وبعد:

فيا عباد الله: إن إدراك البشرية لبعض الحقائق اللازمة في حياتها كفيل بأن يوفر عليها أخطاء أليمة تردت فيها ومن ذلك أنها تصورت في المرأة شتى التصورات السخيفة ورأت فيها منبع الرجس والنجاسة وأصل الشر والبلاء مع أنها مخلوقة من النفس الأولى فطرة وطبعا، خلقها الله عز وجل لتكون لها زوجا وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء فلا فارق في الأصل والفطرة إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء .

ولقد تخبطت البشرية فجردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها فترة من الزمان تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له وهو أن المرأة شيطان لابد منه ووسوسة جبلية وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت ومحبوبة فتاكة ورزء مطلي مموه. وهذا قول لأحد رجال الدين في أوروبا في الماضي ولكنهم عندما أرادوا معالجة هذا الخطأ في النظرة إلى المرأة اشتطوا فوقعوا في انحراف آخر فأطلق العنان للمرأة أنها إنسان خلقت لإنسان ونفس خلقت لنفس وشطر مكملها شطر وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان تقوم علاقتهما على المودة والرحمة ومن خلال هذا المفهوم تعمل المرأة كل ما يرضي زوجها وتساعده على الارتقاء في مدارج التقى وعلى التخلص من الشيطان ووساوسه، ومن خلال المودة والرحمة يكدح الرجل ويرضي زوجته ويحصنها من انفتاح قلب أو جارحة على خطيئة هكذا فهم المسلمون علاقة كل من الجنسين بالآخر. هذه أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما أتت النبي وهو بين أصحابه فقالت يا رسول الله: إني وافدة النساء إليك، إن الله بعثك بالحق للرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، وإنا معشر النساء قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم. وأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الرجل إذا خرج حاجا أو مرابطا أو معتمرا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفلا نشارككم في هذا الخير والأجر يا رسول الله، فالتفت بوجهه الكريم إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن من هذه عن أمر دينها، فقالوا يا رسول الله: ما ظننا امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي إليها ثم قال: ((انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن طاعة الزوج اعترافا بحقه يعدل ذلك وقليل منكن من تفعله))، فانصرفت وهي تهلل حتى دخلت على نساء قومها وعرضت عليهن ما قاله رسول الله ففرحن وآمن جميعهن. إنه الاهتمام الذي يدفع للسؤال عما يرضي الله عز وجل واسمعوا من هذه السير العطرة: تزوج شريح القاضي الفقيه بزينب ابنة جرير من بني حنظلة فحدث الشعبي عن نفسه قائلاً: ((فلو رأيتني يا شعبي وقد أقبل نساؤهم يهدينها حتى أدخلت علي، فقلت: إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم فيصلي ركعتين، فيسأل الله من خيرها، ويعوذ به من شرها قائلا: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، فصليت وسلمت، فإذا هي من خلفي تصلي بصلاتي، فلما خلا البيت ودنوت منها، ومددت يدي إلى ناحيتها قالت: على رسلك يا أبا أمية، كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأبتعد عنه، وقالت: إنه كان لك في قومك منكح، وفي قومي مثل ذلك، ولكن إذا قضى الله أمرا كان وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله به:إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.

قال شريح فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت: ((الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأصلي وأسلم على النبي وآله، وبعد فقد قلت كلاما إن تثبتي عليه يكن ذلك حظّك وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا، ونحن سواء فلا تفرقي، وما رأيت من حسنة فانشريها أو سيئة فاستريها، قالت: وكيف محبتك لزيارة الأهل، قال شريح: ما أحب أن يملني أصهاري، قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل بيتك آذن له ومن تكرهه أكرهه، قال شريح: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت يا شعبي بأنعم ليلة، ومكثت معي حولا لا أري إلا ما أحب، فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء فإذا بعجوز تأمر وتنهي في البيت، قلت: من هذه، قالوا فلانة ختنك، فسُرّي عني ما كنت أجد، فلما جلست أقبلت على العجوز وقالت: السلام عليك يا أبا أمية، قلت: وعليك السلام من أنت، قالت: أنا فلانة ختنك، قلت قربك الله، قالت: كيف رأيت زوجتك، قلت: خير زوجة، فقالت: يا أبا أمية، إن المرأة لا تكون أسوأ حالا منها في حالتين: إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها، فإن رابك ريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شرا من المرأة المدللة، قلت: أما والله لقد أدبت فأحسنت الأدب، وروضت فأحسنت الرياضة، قالت: تحب أن يزورك أختانك، قلت متى شاؤوا)).

قال شريح: فكانت تأتيني في رأس كل حول توصيني تلك الوصية، فمكثت معي عشرين سنة، لم أعتب عليها في شيء إلا مرة واحدة وكنت لها ظالما.

ألا ما أسعد الزوج بالزوجة الصالحة التي نشئت تنشئة إيمانية عرفت حق زوجها وبيتها وأبنائها وإليكم مثلا آخر مما يملأ تاريخنا العظيم، كان عبد الله بن وداعة ممن يتلقون العلم عن الإمام سعيد بن المسيب، وحدث أن تأخر عن الدرس أياما فسأله الإمام عن سبب تخلفه، فقال: توفيت زوجتي فشغلت بأمرها، فلما انتهى الدرس وهمّ عبد الله بالانصراف، ناداه الإمام: هل تزوجت يا عبد الله بعد وفاة زوجتك، قال عبد الله: يرحمك الله ومن يزوجني ابنته وأنا لا أملك غير درهمين أو ثلاثة، فقال سعيد: أنا أزوجك ابنتي فانعقد لسان عبد الله، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك بن مروان كان قد خطبها فأبى سعيد. ثم التفت الإمام إلى من كان قريبا وناداهم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه وعقد له على ابنته وجعل مهرها درهمين. يقول عبد الله: فقمت وأنا لا أدري ما أقول من الدهشة والفرح ثم قصدت بيتي وكنت يومئذ صائما فنسيت صومي وجعلت أقول: ويحك يا أبا وداعة ما الذي صنعت بنفسك، ممن تستدين، وممن تطلب المال، وظللت على حالي هذه حتى أذن للمغرب فأديت المكتوبة وجلست إلى فطوري وكان خبزا وزيتا، فما إن تناولت منه لقمة أو لقمتين حتى سمعت الباب يقرع، فقلت: من الطارق، فقال: سعيد، فوالله لقد مر بخاطري كل إنسان اسمه سعيد أعرفه إلا سعيد بن المسيب ذلك لأنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، ففتحت الباب فإذا بي أمام سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له في أمر زواجي من ابنته شيء، وقلت له: يا أبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك، فقال: بل أنت أحق بأن آتي إليك وقال: إن ابنتي أصبحت زوجة لك وأنا أعلم أنه ليس معك أحد يؤنس وحشتك فكرهت أن تبيت وحدك، فقلت: ويحي جئتني بها فقال: نعم.

ثم انصرف سعيد ودخل عبد الله على زوجته فإذا هي أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله وبحقوق الزوجية، وما إن أسفر الصبح حتى نهض عبد الله يريد الخروج فقالت زوجته: إلى أين، قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، فقالت: اجلس أعلمك علم سعيد.

هذه سير سلفكم أيها الإخوة في الله فمنها اقتبسوا وعلى نهجهم سيروا لتبلغوا المرتقى الذي وصلوا إليه.

-------------------------

الخطبة الثانية

واعلموا رحمكم الله أن من واجبات الزوجة تربية أولادها والحدب عليهم، تلمح هذا من ربط القرآن الكريم المرأة بابنها ورعايته منذ يولد إذ يقول: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة معللا فضلهن على غيرهن بأنهن أحناهن على ولده، فالمرأة التي تترك أولادها للخدم أو للشارع إنما ترمي في الهاوية بمستقبلها وبمستقبل أبنائها.

إن الطفل يتعلم من أمه لغة قومه وطريقة حديثها، ومن احترامها لزوجها يقتبس أولادها ذلك، إن الأم هي معهد التربية الذي يتربى فيه الطفل وإذا قيل: إن كل عظيم وراءه امرأة فتلك المرأة أكثر ما تكون هي الأم. ومن واجبات الزوجة القناعة والحرص على مال زوجها قال الإمام الغزالي: (وأهم حقوق الزوج على زوجه أمران: أحدهما الصيانة والستر، والآخر ترك المطالبة بما وراء الحاجة، والتعفف عن لبسه إذا كان حراما)، ومن واجبات الزوجة أن تتجمل لزوجها، وليس القصد من التجمل أن تضيع وقتها إلى المرآة معجبة بنفسها وإنما القصد حثها على النظافة والترتيب، ومن المؤسف أن تهمل بعض النساء زينتهن ما دمن في بيوتهن فإذا عزمت على الخروج تجملت وتزينت مما يترك آثارا سيئة في نفس زوجها. وجماع القول أن تكون المرأة كما أرادها الله عز وجل سكنا لزوجها تغسل كل متاعبه ومعاناته في عمله باستقبالها له وحسن أخلاقها وقيامها بحفظ أولاده وبيته وماله، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، فاتقوا الله يا عباد الله في بناتكم بإعدادهم الإعداد الصحيح الذي يجعل منهن زوجات صالحات وصلوا على من صلى الله عليه.

(1/433)

________________________________________

البرزخ

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الموت والحشر

-----------------------

محمد النمر

الطائف

17/4/1420

الهويش

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

- حتمية الموت وشدته وسَكراته – حالة الإنسان عند الموت وفي القبر – أسباب الثبات عند الممات والتوفيق للشهادة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا عباد الله: الموت نهاية كل حي يجزع منه الأحياء ويعاني من سكراته المحتضر ولا يملك أحد أن يقدم شيئا على كثرة المحبين المشفقين أو الأطباء الحاذقين فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون نكاد نسمع صوت الحشرجة، ونبصر تقبض الملامح، ونحس الكرب والضيق من خلال هذه الكلمات، كما نكاد نبصر نظرة العجز وذهول اليأس في ملامح الحاضرين.

هنا وقد فرغت الروح من أمر الدنيا، وخلفت وراءها الأرض وما فيها، وهي تستقبل عالما لا عهد لها به، ولا تملك من أمره شيئا إلا ما ادخرت من عمل، وما كسبت من خير أو شر، هنا وهي ترثى ولا تملك الحديث عما ترى، وقد انفصلت عمن حولها وما حولها، الجسد هو الذي يراه الناظرون، ولكنهم ينظرون ولا يرون ما يجري ولا يملكون من الأمر شيئا، هنا تنفق قدرة البشر، ويقف علم البشر، وينتهي مجال البشر، هنا يعرفون أنهم عجزة عجزة،، قاصرون قاصرون، هنا يسدل الستار دون الرؤية، والعلم الإلهي، ويخلص الأمر كله لله بلا شائبة ولا شبهة ولا جدال ولا محال ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون .

وهنا يجلل الموقف جلال الله، فإذا مجلس الموت تجلله رهبة وجلال فوق ما فيه عن عجز ورهبة وانقطاع ووداع. وفي ظل هذه المشاعر الراجفة الواجفة الآسية الآسفة، يجئ التحدي الذي يقطع كل قول وينهي كل جدال فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين .

هذه الآيات من آخر سورة الواقعة تصف لنا حالة الإنسان عند الموت والروح تحشرج في صدر وهو يستدبر الحياة الدنيوية الفانية ويستقبل الحياة الأخروية الباقية ليدخل في عالم لا عهد له به ولا يملك من أمره شيئا إلا ما قدم من عمل أو كسب من خير أو شر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم .

إنها تصور ما يكون عليه الإنسان عند الموت وفي البرزخ إلى يوم القيامة، فالمؤمن يبشر بالجنة فيزداد فرحا وسرورا ويبشر الكافر بالنار فيزداد حسرة وثبورا إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا... الآية: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية... الآية وقال تعالى عن الكفار ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق وقال تعالى عن آل فرعون النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة لنعيم البرزخ أو عذابه.

كما جاء النص الصريح الصحيح أن الميت إذا وضع في قبره تعاد إليه روحه ليسأل ويمتحن في قبره ولكن غير الإعادة المألوفة حتى إنه ليسمع قرع نعال مشيعيه عند انصرافهم، وقد أخبر رسول الله أن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه العبد فما بعده أيسر، وإن لم ينج فما بعده أشد وفي الصحيحين قال رسول الله : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة.

وفي الصحيح والسنن قال رسول الله : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.

كما ثبت عنه أن الميت إذا وضع في قبره أتاه ملكان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيسألانه: من ربه، وما دينه، ومن نبيه، فإن نطق بالشهادتين نجا وإلا عذب، واعلم أخي المسلم أنه لا ينطق بالشهادتين في ذلك المكان المظلم الموحش وأمام الملكين المروعين إلا من رسخ الإيمان في قلبه وحققه قولا وعملا واعتقادا يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت... الآية وقد ثبت أن رسول الله قال: في هذه الآية إنها نزلت في عذاب القبر.

وفي الصحيحين أن رسول الله مر بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)).

وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)).

-------------------------

الخطبة الثانية

واعلموا رحمكم الله أن الذي عليه أهل السنة والجماعة أن كل إنسان يسأل بعد موته قبر أم لم يقبر، فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رمادا ونسف في الهواء أو غرق في البحر وتفرقت أجزاؤه لسئل عن أعماله وجوزي بالخير خيرا وبالشر شرا، ولا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من اللذة أو الألم كما يقول ابن القيم رحمه الله.

والله تعالى أكرم وأرحم وأعز من أن يساوي بين روح أحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه وبدنٍ كانت فيه، وبين روح كفرت به وعصت أمره وتعدت حدوده وبدنٍ كانت فيه، فقد اقتضى عدله وأوجبت أسماؤه الحسنى وكماله المقدس تنعيم أبدان أوليائه وأرواحهم، وتعذيب أبدان أعدائه وأرواحهم، فلابد أن يذيق برحمته بدن المطيع وروحه من النعيم واللذة ما يليق به، ويذيق بعدله بدن العاصي له وروحه من الألم والعقوبة ما يستحقه، فلو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده وروحه من نعيم البرزخ نصيبه وحظه، ولو علق الميت العاصي في مهاب الرياح لأصاب جسده وروحه من عذاب البرزخ نصيبه وحظه فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما، ويجعل الهواء على ذاك نارا وسموما.

(1/434)

________________________________________

خروج المرأة

-----------------------

الأسرة والمجتمع

قضايا الأسرة

-----------------------

محمد النمر

الطائف

26/10/1419

الهويش

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

- تركيز أعداء الإسلام على المرأة وإفسادها – عناية الإسلام بالمرأة ونماذج من النساء الصالحات وحِفاظهنّ على دينهن – وجوب العناية بالمرأة وعدم السماح لها بالخروج إلا للضرورة لتجنّب الفتنة

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد :

فيا عباد الله : أخذت الأرض زخرفها وزينتها وظن أهلها أنهم قارون عليها ، وانصرف الناس عن دينهم إليها ، وانقادوا لغرورها وافتتنوا بحضارة الغرب وزخارف الشرق ، وصادف هذا كله غفلة دعاة الحق ، لكن أعداء الإسلام لم يغفلوا عنا ، فحملوا بخيلهم ورجليهم ، وجردوا الحملات المسلمة بسهام الشهوات وسموم الشبهات لتعيث في قلوب المسلمين فسادا ، وتجرس خلال ديارهم ، لتسلخهم من دينهم الحق الذي ارتضاه الله لهم .

وقد كان هؤلاء الأعداء خبثاء ماكرين في حربهم إذ تفرسوا في أسباب قوة المسلمين وحددوها ، ثم اجتهدوا في توهينها وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء .

علموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي وهم يعلمون أنها سلاح ذو حدين وأنها قابلة لأن يكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير ، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات على تمزيق الأمة وتضييع طاقاتها ، إن المرأة تملك مجموعة من المواهب الضخمة الجديرة بأن تبني أمة ، وأن تهدم أمة ، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال : (( إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتن بني إسرائيل كانت في النساء)) ، وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال (( ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)) .

لقد أراد أعداء الإسلام أن يفتنوا المسلمين عن دينهم فجعلوا من المرأة أهم معاول هذا المهدم وهم يتظاهرون بالشفقة عليها والحرص على حقوقها وخدعت نساء من نساء المسلمين بذلك لجهلهن بدينهم هذا الدين الذي يعتبر المرأة قسيمة الرجل لها ملكه من الحقوق ، وعليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وطبيعتها ، وعلى الرجل بما اختص به من شرف الرجولة ، وقوة الجلو ، وبسطة اليد واتساع الحيلة أن يلي رياستها ، فهو بذلك وليها ، يحوطه بقوته ، ويذود عنها بدمه ، وينفق عليها من كسب يده ذلك ما أجمله الله عز وجل وضم أطرافه وجمع حواشيه بقوله تباركت آياته ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللجر عليهن درجة هذا في وقت كانت المجتمعات الغير إسلامية تعتبر المرأة رجسا أو تعتبر الاقتران بها شرا لابد منه لا بل ظل يناقش أمر المرأة عند أولئك إلى عصور متأخرة أهي تحمل روح إنسان أم حيوان ولم تعطها حق التملك إلا قريبا .

ولقد وعت المرأة المسلمة تكريم الإسلام لها فاعتزت به وأسهمت في بناء المجتمع الإسلامي وفي نشر الإسلام والاعتزاز به فكانت النساء مغارس حكمة ومغاوص آداب إنهن أمهات صدق أقامهن الله على نشئه واستخلفهن على صنائعه وائتمنهن على بناة ملكه وحماة حقه ، لقد كان منهن عمة رسول الله صفية إذ انقلبت لترى ما فعل المشركين بأخيها حمزة في معركة أحد وقد نفذت إليه هند بنت عتبة فبقرت بطنه ونزعت كبده وجدعت أنفقه وسلمت أذنيه ، وجاء أبو سفيان يطعنه برمحه في فمه حتى مزقه ، فاشتد حزن رسول الله وأبصر عمته مقبلة لتنظر ما فعل القوم بأخيها فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام (( دونك أمك فامنعها )) فلما وقف ابنها يعترضها قالت : دونك لا أرض لك ، لا أم لك فرجف بطل قريش واعتقل لسانه وكر رجاعا إلى رسول الله فحدثه حديث أمه فقال (( خل سبيلها)) فأتت أخاها فنظرت إليه ، فصلت عليه واسترجعت ، واستغفرت له ، وقالت لابنتها (( قل لرسول الله ما أرضا بما كان في سبيل الله لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله )) .

ولو ذهبت استقرئ أسماء عظماء في هذه الأمة ومن كان وراءهم لطال في الأمر اقرؤوا تاريخكم : اقرؤوا عن أبناء أسماء بنت أبي بكر عبد الله المنذر وعروة أولا عبد الله بن الزبير واقرؤوا تاريخ علي وتاريخ معاوية الذي كان إذا نوزع الفخر يقول : وأنا ابن هند )) واقرؤوا تاريخ عمر بن العزيز وتاريخ عبد الرحمن الناصر وتاريخ سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث وتاريخ ابن حنبل وتاريخ الأوزاعي وتاريخ ربيعة الرأي ، كلهم قامت عليهم نساء فضليات عرفن حق الله عليهن فرعين أبناءهن خير رعاية ونشأنهم خير تنشئة .

لقد كان منهن من بلغن المنزلة الرفيعة في العلوم ، هذا الإمام مالك كان يقرأ عليه الموطأ فإن لحن القارئ في حرف أو زاد أو نقص تدق ابنته الباب فيقول أبوها للقارئ : ارجع فالغلط معك ، فيرجع القارئ فيجد الغلط .

وكان لعلاء الدين السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء ابنته فاطمة الفقهية العالمة حفظت التحفة لأبيها ، واطلبها جماعة من الملوك فلما صنف أبو بكر الكاساني كتابه ((البدائع)) وهو شرح التحفة ، عرضه على شيخه وهو أبوها ، فازدا به فرحا ، وزوجه ابنته ، وجعل مهرها منه ذلك ، فقالوا في عصره (( شرح تحفته وتزوج ابنته)) .

وما أكثر أسماء من حفظ لنا تاريخنا سيرهن وعلمهن وجهادهن وحسن تربيتهن لأبنائهن ورعايتهن لأزواجهن .

فهل نقرأ هذا التاريخ ، هل تقرأ بناتنا هذه الأسفار فينشأن تلك النشأة ويحفظن حق الله عليهن أم أنهم مشغولات بمتابعة مالا يزيدهن إلا بعدا عن إسلامهن من مسلسلات هابطة في أشرطة فاسدة ومجلات لا تحمل إلا سموما قاتلة تورد وبأسلوب خبيث خادع أن لفلانة مشكلة تعرضها وتقدم المجلة الحلول التي لا نصيب لكرامة المرأة فيها شيء ولعل الأمر كله افتراض وتخيل لإثارة قضايا تدعو المرأة إلى سلوك غير سبيل الإسلام ، لا بل لتخرج المرأة من عفتها وأخلاقها فتكون سلعة تتقاذفها الأيدي القذرة ويسهل اصطيادها في مكان .

لقد جعل الله الرجال قوامين على النساء ، وهؤلاء القوام أوصياء أناء ومن حق الوصي أن يرعى الوصاية ، ويطلب لها الخير والصلاح ، وإن في طليعة ما يجب أن يعني به من حقوق هذه الوصاية توجيه النساء إلى القدوة الحسنة والتأسي بفضليات النساء في الحشمة ، و الترفع عن مجالس الإثم ومزالق الخطيئة ، فالمرأة في بيتها يجب أن تكون مثال الزوجة الصالحة التي وصفها رسول الله بقوله (( خير النساء امرأة إذا نظرت إليه أسرتك وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك)) .

فاتقوا الله في أنفسكم وفي نسائكم وبنائكم فأحسنوا التوجيه والتربية والقوامة فإن أخطر الفساد ما أصاب هذا النصف من المجتمع.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد فيا أيها الأخوة المؤمنون :

نحن جميعا أمناء ومسؤولية عن تطبيق أحكام هذا الدين الذي أنعم الله به علينا فإن نهضنا بذلك سعدنا في حياتنا الدنيا ورجونا أن تكون من الفائزين في الآخرة وإن فرطنا في ذلك فلابد من أن ندفع الثمن من أعصابنا وأبنائنا ومن أعراضنا ، إن كل واحد منا على ثغر فليحذر أن يؤتي الإسلام من قبله ، إن ترك النساء ويخرجن من البيوت ويزاحمن الرجال في الأسواق ويتحدثن لغير المحارم وتكشف بعضهن عما لا يجوز كشفه من أجسادهن إن كل ذلك حرام وعار ومصيره الدمار ، ولقد كان أول جرم بني إسرائيل انطلاق نسائهم متبرجات للفتنة فابتلاهم الله بالطاعون .

إذا دعت الضرورة المرأة إلى السوق فمن حق القيم عليها أن يلزمها الاحتشام ويمنعها من التبرج وإظهار وما حرم الله إظهاره على الأجانب ومن لبس أفخر الثياب ومن المرور وسط مجالس الرجال ، فقد صح عن رسول الله أنه قال ، وقد رأى اختلاط الرجال بالنساء في الطريق (( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق ، عليكن بحافات الطريق)) ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدران من لصوقها به ، وعنه أنه قال (( أيما امرأة استعطرت ، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)) ، إن تفريطا ظاهرا من جانب النساء بتعدي حدود الله وبالتبرج وإظهار الزينة فليسهن ما قال رسول الله (( صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات ، أي يلبسن ثيابا رقاقا تكشف عما تحتها ، مميلات مائلات ، أي زائغات عن الطاعة ، فمتبخترات في مشيتهن ، مميلات للقلوب بتكسره ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )) .

فاتقوا الله عباد الله وقوموا بما أوجه الله عليكم من حقوق على نسائكم وبما أمركم به من رعاية أهليكم والبعد بهن عما يوجب غضب الله وعذابه.

(1/435)

________________________________________

الدم الحرام

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

4/8/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أول ما يحاسب به المرء الصلاة ومن المعاملات يحاسب على الدماء مما يدل على عِظَم شأنها 2- تبيين الوعيد الشديد على من قتل نفساً بغير حق والإشار إلى أن كثرة القتل من علامات الساعة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيوم القيامة هو يوم الحساب والقضاء، والوزن والجزاء، يوم يقف فيه جبريل والملائكة صفا بين يدي الرحمن لا ينطقون بكلمة، قال تعالى: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، في ذلك اليوم ينكشف كل مستور، ويعلم كل مجهول، ويقف كل فرد وحيدا أمام الملك الديان ليُسأل أولا عن أمرين: الصلاة والدماء، قال : ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته))(1)[1]، فالصلاة هي أولى الفرائض العملية التي جاءت لتصديق عقيدة الإيمان.

وقال : ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء))(2)[2]، فالله سبحانه يتولى يوم القيامة القضاء والحكم فيما يتعلق بمعاملات الخلق ويكون أول القضايا في الدماء وسفكها بغير حق، وفي الابتداء بالقضاء في قتل النفس بيان لعظم هذه الفعلة الشنعاء المهلكة التي تورّط صاحبها، قال عليه الصلاة والسلام: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما))(3)[3].

فالإنسان يبقى في فسحة وسعة يستحق رحمة الله وعفوه بأعماله الصالحة ما لم يقتل نفسا، فإن قتل نفسا ورط نفسه فأهلكها، قال ربنا سبحانه: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا .

فالله تعالى حرم القتل ظلما في جميع الشرائع وبنو إسرائيل لما فشا فيهم سفك الدماء حتى قتلوا الأنبياء، خصهم في هذه الآية بالذكر وبين تعالى أنه من أجل فعل ابن آدم الأول كتب وفرض أنه من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا. لذلك استُبعد العفو عن قاتل النفس لقوله تعالى: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما فالله تعالى كرّم الإنسان ووهبه الحياة، والقاتل معاند لله، ولقد ثبت النهي عن قتل الحيوان بغير حق والوعيد على ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بقتل المسلم، فكيف بقتل التقي الصالح، قال : ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت))، هذا في الحيوان، وقال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، هذا في كل نفس معصومة، وقال : ((زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم))(4)[4]، هذا في المسلم الذي رفع الله قدره وأعلى منزلته، قال ابن عمر: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة، ويقول: ((ما أطيبك، وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه))(5)[5].

فمكانة المسلم عند الله تعالى وحرمة ماله ودمه أعظم من حرمة الكعبة، فمن اعتدى على مال مسلم بأن أخذه منه ظلما، أو اعتدى عليه بأن قتله فقد ارتكب جرما يفوق أي اعتداء على الكعبة المشرفة، لذلك حق لابن عٌمر أن يقول: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله)، ولنسأل القاتل: ماذا يكون جوابك عندما تسأل يوم الحساب، قال ابن عباس: سمعت نبيكم يقول: ((يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه (أي حاملا رأسه بيده) متلببا قاتله باليد الأخرى (أي قابضا على عنقه) تشخب أوداجه (أي تجري عروقه دما) حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله عز وجل للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار))، فلو فكر الناس فيما يلحق سفاكي الدماء، من خزي يوم الجزاء، ما سفك دم حرام.

عباد الله، لعلنا اليوم نعيش في الزمن الذي قال عنه رسول الله : ((والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل))(6)[6].

فها هي الأخبار تذاع كل يوم عن حوادث سفك الدماء لسبب أو لغير سبب، فهذا طالب بدولة غربية يطلق النار على زملائه في المدرسة، وهؤلاء لصوص أو مغتصبين لا يكتفون بجريمة السرقة أو الاغتصاب بل يضيفون إليها القتل، وهذه شعوب يباد أهلها في حروب أهلية، يتقاتل فيها الأقارب، وإن مما يدمي القلب أن جل هذا الاقتتال اللامعقول يقع في بلاد الإسلام، وبذلك يتحقق ما أخبر عنه الصادق الأمين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام عندما قال: ((إن بين يدي الساعة لهرجا))، قال الراوي: قلت يا رسول الله ما الهرج؟ قال: ((القتل))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا، فقال رسول الله : ((ليس بقتل المشركين، ولكن بقتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته))، فقال بعض القوم: يا رسول الله ومعنا عقولنا ذلك اليوم؟ فقال رسول الله : ((لا تنزع عقول أكثر ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس لا عقول لهم))(7)[7]. صدق رسول الله فهل من العقل ما يقع اليوم من سفك للدماء في بلاد المسلمين.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) أخرجه أصحاب السنن .

(2) رواه البخاري ومسلم .

(3) رواه البخاري .

(4) جامع الأصول 208-209.

(5) رواه ابن ماجة .

(6) رواه مسلم : كتاب النفس – باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل .

(7) ابن ماجة : كتاب الفتن باب 10 .

(1/436)

________________________________________

اللعن والملعونون

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

24/5/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- معنى اللعن وبعض الأعمال التي لُعِن فاعلها 2- تحريم الشرع للعن والسب وإشارة إلى عظمة حرمة سب الدين ولعنه

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد : يقول ربنا عز وجل: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة:159].

عباد الله : إن الله تعالى يعاقب أقواما في الدنيا والآخرة بلعنهم، واللعن هو الطرد والإبعاد فالملعون مطرود من رحمة الله، لا يقبل الله دعاءه، بل هو في سخط الله إلى أن يتوب من جرمه الذي استحق بسببه اللعن، وقد ذكر ربنا في كتابه الحكيم طائفة من الملعونين، قال تعالى: إن الله لعن الكافرين . وقال عن بني إسرائيل: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم . وقال في حق من يتهم مؤمنة بالفاحشة: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة . وقال عن فرعون وجنوده: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين . وقال: فمن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيه وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما .

وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن طائفة من الملعونين استحقوا اللعن بسبب فساد عقيدتهم أو معاملاتهم، فقال: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) والمشركون كانوا يعبدون غير الله ويذبحون القرابين يتقربون بذبحها لمعبوداتهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم بأنه لا يصلي إلا لله، ولا يتقرب بالذبح إلا إلى الله، قال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . وإن من أعمال الجاهلية الذبح على عتبة الدار بعد بنائها خوفا من الجن أو الذبح تقربا لأصحاب القبور.

ولقد نهانا ربنا عن تقديم الرشوة للحكام، فقال تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام . أي لا تعطوا المال للحكام على سبيل الرشوة ليغيروا الحكم لكم، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)).

والخمر، التي تفاقم شرها، والتي هي مفتاح كل شر، والتي هي أم الخبائث، وهي رجس من عمل الشيطان والتي قال النبي في حق شاربها: ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، والتي تقضي على الأخلاق وتشجع على الفساد، هذه الخمر ومنها المخدرات، ذلك أن الخمر اسم جامع لكل ما غطى العقل – ملعون كل من له يد في رواجها، فقد ((لعن النبي في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)).

ولا شك أن الزنا فساد وأي فساد، وللزنا أسباب تشجع عليه منها الاختلاط والعري، ومنها امتناع الزوجة من معاشرة زوجها، والإسلام حريص على حسن معاشرة الزوجين، قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف ، وكما أن للزوجة حقوقا على زوجها منها النفقة، والإحسان في المعاملة، كذلك للزوج حقوق على زوجته، فعليها أن تعمل على استرضاء زوجها، وأن تحذر من الامتناع عن معاشرته في فراشهما فإن فعلت استوجبت اللعن، قال : ((إذا باتت المرأة هاجر لفراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع)).

عباد الله: إذا كان الله تعالى قد لعن في كتابه الحكيم وعلى لسان نبيه الرحيم طائفة من الذين يستحقون اللعن، فإن في ذلك الإخبار دعوة للتوبة وتحذير من الوقوع فيما يسخط الله، ولذلك كان من أدب الإسلام عدم اللعن، فالنبي عليه الصلاة والسلام – كما جاء في حديث أنس الصحيح: ((لم يكن فاحشا ولا لعانا ولا سبابا)) فليس من أخلاق الإسلام اللعن، وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى وقد اعتبر النبي عليه الصلاة والسلام: ((لعن المؤمن كقتله))، لأنه إذا لعنه فكأنما دعا عليه بالهلاك، فلا ينبغي لعن أحد ولو كان عاصيا، قال العلماء : لا ينبغي تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن، وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم، بل إن المتأدب بأدب الإسلام يعوّد لسانه على أن لا يقول إلا خيرا، فلا يلعن إنسانا ولا حيوانا.

إذا علم هذا علمنا ما يقع فيه أولئك الذين لا تربية عندهم ولا أخلاق ولا أدب بل أولئك الذين لا دين لهم، فلو كان عندهم دين ما سبوا الدين فلعن الدين وسبه هو مما يخرج من الملة، وقد اتفق علماء الإسلام على أن من سب الله أو الرسول أو الدين يقتل ولا يستتاب وقد سأل الرشيد مالكا في رجل شتم النبي وذكر أن فقهاء العراق افتوه بجلده فغضب مالك وقال: ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها، من شتم الأنبياء قتل، ونقول: ما بقاء الأمة بعد سب دينها، وما جدوى حياتنا إذا سب ديننا من طرف أراذلنا، ما شرفنا إذا أهين الدين ووصلت الإهانة إلى سبه، أيعقل أن يغار أحدنا لنفسه إذا سب هو، ولا يغار لدينه وهو يسمع سبه وإهانته.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/437)

________________________________________

المحافظة على الصلاة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

فضائل الأعمال

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

29/5/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- فضل الصلاة وعظمتها والحث على المحافظة عليها وخاصة صلاة الفجر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

الصلاة بعد العقيدة هي أولى واجبات الإسلام، أمر الله بها أنبياءه ورسله وأممهم، فهي تكليف من الله تعالى للبشر كافة، التزم بها المصطفون الأخيار، ودعوا الناس للمحافظة عليها، قال تعالى: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ، وأبوه إبراهيم أبو الأنبياء دعا ربه لنفسه ولذريته فقال: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ، ولما أراد الله تعالى أن يفرض الصلاة على أمة سيدنا محمد دعاه إلى السماء وبلغ مكانا قال عنه : ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام))، أي ارتفع إلى مكان صار يسمع فيه أصوات أقلام الملائكة وهي تكتب ما قضى الله تعالى وقدّر. في ذاك المكان فرض الله الصلاة على هذه الأمة، وحق للصلاة أن تعظم هذا التعظيم، فهي أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله، وهي الصفة اللازمة للمؤمنين فلا يأتي في القرآن وصف لأحوال المؤمنين وأعمالهم إلا كانت الصلاة في مقدمة ذلك، قال تعالى: قد أفلح المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون . وقال سبحانه: طَس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون . وقال تعالى: آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .

والصلاة هي العلامة الحاسمة التي تميز المسلم لأنها عمل دائم يتجدد مرات في اليوم، وكان النبي إذا أسلم الرجل أول ما يعلمه الصلاة، فبها يصبح مسلما. ثم لا تسقط عنه أبدا، فهي تدوم طول عمر الإنسان، وفي كل ظروف الحياة، لا يرفعها عنه عذر من مرض ولا مانع من سفر ولا شاغل من خوف، يؤديها على أي حال كان وحيثما تيسر، قال : ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل))(1)[1]، فالأرض كلها مسجد، وعبادة الله لا تنحصر في مكان محدود والمسلم لا تنفصم شخصيته، فتراه عابدا في بيت الله، فإذا خرج أتبع هواه، بل هو دائم العبادة كيفما تقلب به المكان وتغير الحال.

وأركان الإسلام التي هي واجبات عينية وحقوق لله، قد تسقط عن المسلم فالصوم والحج على المستطيع والزكاة لمن ملك النصاب، أما الصلاة فلا يسقطها عذر، إنما تخفف أركانها لرفع الحرج.

والصلاة هي أوثق أسباب القرب من الله تعالى قال تعالى: كلا لا تطعه أي من دعاك لترك الصلاة واسجد أي صل لله واقترب أي تقرب إلى الله بطاعته وعبادته، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام إن الله قال: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها..)) الحديث(2)[2]. فولي الله الذي هو المؤمن المتقي عندما يدعوا إلى الله وينهى عن المنكر يعاديه ويحاربه الظلمة والفساق فيتعرضون بذلك لإهلاك الله لهم انتقاما لأوليائه.

وبيّن تعلى أن أداء الفرائض، وفي مقدمتها الصلاة، أحب الأعمال إلى الله، فالفرائض هي الأصل والأساس، في الإتيان بها امتثال الأمر واحترام الآمر وإظهار ذل العبودية، فكان التقرب إلى الله بالفرائض أعظم العمل، والنوافل بعد الفرائض أعظم العمل، والنوافل بعد الفرائض تحقق محبة الله لعبده، فيوفقه الله تعالى في الأعمال التي يباشرها بسمعه وبصره ويده ورجله، فهو دائما في رعاية الله وحفظه.

عباد الله، صلاة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار، قال تعالى: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ، فالناشئة وهي قيام الليل أجهد للبدن، لكنها أقوم قيلا ، فالقراءة بالليل أقوم منها بالنهار حيث الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، وقد مدح الله تعالى أولئك الصابرين الذين يغالبون النوم، ويغادرون الفراش ويتوجهون إلى الصلاة، فقال سبحانه: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة:17]. فقابل سبحانه وتعالى قيامهم بالليل لذكر ربهم والركوع والسجود بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وقابل اضطرابهم وقلقهم عند قيامهم إلى صلاة الليل بقرة الأعين في الجنة، في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مصداق ذلك في كتاب الله: فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ))، العشاء والصبح من صلاة الليل، قال : ((لو يعلمون ما في العتمة (أي العشاء) والصبح لأتوهما ولو حبواً))، وسمى الله تعالى صلاة الصبح قرآنا فقال: وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا فحض على صلاة الفجر بقوله: وقرآن الفجر كأنه قال: وعليك قرآن الفجر.وصلاة الفجر صلاةٌ مشهودة يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، وهي الصلاة الوسطى في قول علي وأبيّ التي حض الله عليها، حيث قال: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)) مثلها، لذلك كان على الراغب في عفو الله ورحمته، وكرمه وجنته، أن يحرص عليها، وأن يهجر الفراش في وقتها، وأن يسأل العون من الله تعالى، فما التوفيق إلا منه.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) رواه الشيخان .

(2) رواه البخاري .

(1/438)

________________________________________

المحصنات الغافلات

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

3/2/1419

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الحديث عن المرأة المسلمة وأن الله حرّم قذفها بما يسوء 2- أن الإسلام اعتنى بالمرأة فأمَرها بالحجاب وألا تسافر إلا مع ذي مَحْرَم حفاظاً عليها 3- بعض ما يجب على المرأة مراعاته لتجنّب الفتنة بها

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول ربنا تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم .

عباد الله، المحصنة، وهي المرأة المسلمة العفيفة ذات الحرمة، أعلى الله قدرها، وحفظ شرفها، وفرض العقوبة على من اتهمها، فقال جل شأنه: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ، إن الإتهام بارتكاب جريمة الزنا، أخطر اتهام، وقد يكون سببا في تشتيت أسرة، وضياع أفرادها، لذلك شرع الله هذه العقوبة ردعا لأولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة، بأن يزول التحرج من ارتكابها، فعندما يشيع في مجتمع أن فلانا المعروف بعمله أو بصلاحه يزني، وأن فلانة المتزوجة تزني، فإن هذه الجريمة تصبح شائعة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع، عندما يقول ضعيف الإيمان: إذا كان هؤلاء، وهم من هم يزنون فكيف لا أزني، وبذلك تزول الثقة بالخير والعفة والنظافة.

وشرف المرأة أعز شيء لديها، وهي مطالبة بالحفاظ على عفتها بسلوك سبيل المؤمنات الصالحات القانتات، لذلك أرشدها الإسلام إلى طريق واضح، ومنهج سليم عندما أمرها بلباس الجلباب الذي هو عنوان وعلامة على التزامها بأمر ربها، كما أمرها بأوامر فيها حفظ لشرفها:

أمرها بأن لا تسافر إلا مع محرمها فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم))(1)[1]، فالمؤمنة الملتزمة بأمر ربها لا تسافر إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو أبنها أو ذو محرم منها، بهذا نطق من لا ينطق عن الهوى(2)[2]، إرشادا للمؤمنات.

أمرها إن اضطرت لمخاطبة الرجال الأجانب أن لا ترقق كلامها، كما تفعل الفاسدات، فإن ذلك يطمع الفجار فيها، فقال سبحانه: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وعليها أن تكلمهم بجد يبعث على احترامها، قال تعالى: وقلن قولا معروفا .

أمر الإسلام المسلمة بملازمة بيتها، فلا تخرج منه إلا لضرورة، قال تعالى: وقرن في بيوتكن ، فإذا خرجت فلا يجوز لها أن تظهر زينتها ومحاسنها، قال تعالى: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، والتبرج هو أن تظهر المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره، ومن ذلك استعمال الطيب قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات))(3)[3]. أي دون استعمال الروائح العطرية التي تثير الانتباه إليهن .

إذا علمنا هذا تبين لنا مبلغ الإنحراف الذي وصلته النساء في عصرنا، وهو انحراف يزداد يوما بعد يوم نتيجة لضعف التوجيه ولما يقوم به دعاة الابتعاد عن شرع الله من عمل مدروس تحت غطاء حقوق المرأة والمساواة والحرية، وهم يرون كما نرى المرأة وقد أصبحت سلعة رخيصة، مهانة محتقرة، أضاعت دينها وشرفها وكرامتها، فإلى الله المشتكى هو ولينا ومولانا وإليه المصير.

عباد الله: بدراستنا لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام من توجيه للمرأة المسلمة، نعلم ما هي الأعمال التي يجوز للمرأة المسلمة أن تعملها وما هي الأعمال التي لا تليق بها، إن أعظم مكان لعمل المرأة هو بيتها وأسرتها، إلى هذه المهمة الكريمة العظيمة يشير الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ينوه بنساء قريش الصالحات ويقول: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش: أحناه على طفل وأرعاه لزوج في ذات يده))(4)[4].

أما أن تهجر النساء البيوت إلى المصانع والمتاجر وغيرها فهو فساد واختلال، وربما قال قائل: إذا لم يكن للمرأة مورد ولا كافل فماذا تعمل لكسب رزقها؟ نعم لها الحق شرعا وعقلا في كسب رزقها بعمل يناسبها عمل بعيد عن الفتنة والفاحشة والاختلاط عمل لا يضطرها للسفر مع غير محرمها، أما أن تعمل أي عمل كان، كما هو واقع الآن، فذاك فساد ومهانة للمرأة، ولا خير في مجتمع فسد نساؤه، وفجر رجاله.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) رواه مسلم .

(2) البخاري : كتاب تقصير الصلاة – باب في كم يقصر الصلاة .

(3) رواه أبو داود – كتاب الصلاة – باب خروج النساء إلى المساجد .

(4) رواه البخاري .

(1/439)

________________________________________

المسجد الأقصى

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

27/7/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

مكانة المسجد الأقصى وفضله وأن المسلمين عملوا على تحريره حتى كان ذلك في عهد عمر رضي الله عنه , ثم إن النصارى احتلوه وسفكوا فيه الدماء وأن الله قيّضَ صلاح الدين الأيوبي الذي استعاده منهم , وأن اليهود احتلوه هذه الأيام وأفسدوا فيه وسوف يُهلكهم الله تعالى كما ورد بذلك الخبر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

كان الإسراء من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذان المسجدان مع المسجد النبوي بالمدينة هي المساجد التي قال عنها رسول الله : ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى))(1)[1]، فهي مساجد الأنبياء، الأول قبلة الناس وإليه الحج، الثاني أسس على التقوى، الثالث، كان قبلة الأمم السالفة، وظل كذلك قبلة لأمة نبينا محمد تصلي نحوه ستة عشر شهرا، ثم أمروا بالبيت، وهذه المساجد هي التي يتجه إليها المسلمون من بقاع الأرض لعبادة الله، ولقد عمل المسلمون عام 15 في خلافة عمر على ضم المسجد الثالث إلى أخويه، فما كان لهم أن يتركوا قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم بيد من لا يؤمن بالله ورسوله، فهم يقرؤون في كتاب الله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فإذا كانت راية الإسلام قد ارتفعت فوق جبال مكة حيث كان انطلاق الإسراء، فلا يعقل أن تبقى الأرض التي أم فيها رسول الله الأنبياء تحت حكم أعداء الله، لذلك بعث عمر بن الخطاب أبا عبيدة بن الجراح لفتح دمشق وبعد فتحها اتجه إلى بيت المقدس فحاصرها، وطلب أهلها أن يأتي عمر بنفسه. فجاء ليتمّ فتح مسرى النبي على يد الخليفة الثاني عمر، فدخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله ، وصلى بالمسجد الأقصى معلنا بذلك أن القدس ومسجدها للإسلام، وبقي المسجد الأقصى آمنا يعمره أهل الإيمان إلى أن قام عباد الصليب باحتلاله يوم 23 شعبان 492 هـ، فقتلوا فيه في يوم واحد أكثر من سبعين ألف مسلم بينما لم تسقط نقطة دم عند فتحه على يد عمر وجيش الإسلام، وظل عباد الصليب يفسدون في أرض الإسراء، وساعدهم على ذلك اختلاف حكام المسلمين فيما بينهم وتنافسهم على الكراسي حتى شاء الله تعالى أن يأتي بالفرج على يد صلاح الدين الأيوبي الذي قاد جيشا مباركا، فتح به أرض فلسطين وهزم الصليبين في معركة ((حطين)) عام 583.

والنصر والفتح لا يمنحه الله تعالى إلا للمؤمنين الصادقين المجاهدين لإعلاء كلمة الدين فصلاح الدين عاد بالمسلمين إلى عهد السلف فأقام العدل وابتعد عن اللهو والعبث وأنفق الأموال في مصالح الأمة، وعندما مات لم يخلف في ملكه إلا سبعة وأربعين درهما، وكان محبا للعلماء يحرص على مجالستهم وينتفع بإرشادهم فحرص على الجهاد ورفع راية الإسلام وتحرير أرض فلسطين، فحقق الله آماله، قال تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين ، وعندما اقترب من القدس خاف الصليبيون أن يعاملوا بالمثل فطلبوا الأمان، فأجابهم لذلك، وفتح الله القدس للمسلمين مرة أخرى دون أن تسقط نقطة دم وشاء الله أن يعود بيت المقدس إلى الإسلام يوم الجمعة 27رجب عام 583 بعد أن بقي مدة 92سنة تحت الاحتلال الصليبي .

عباد الله، في سورة الإسراء نقرأ الإشارة إلى حكمة الإسراء لنريه من آياتنا وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل من هلاك وتشريد بسبب إفسادهم وطغيانهم، قال تعالى: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ، فالله تعالى يخبر أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض المقدسة التي بها المسجد الأقصى مرتين، خلال دولتين تقومان على الظلم والبغي والاستكبار، وأنهم كلما ارتفعوا وسيطروا واتخذوا ذلك وسيلة للإفساد سلط الله عليهم من عباده من يقهرهم ويدمرهم، ويذكر العلماء أن الإفساد الأول وقع بقتلهم للأنبياء، ومخالفة أحكام التوراة، وأن المرة الثانية لم تقع بعد، وما يقع الآن في أرض فلسطين مقدمة للمرة الآخرة.

فها هم بنو إسرائيل قد بلغوا من العلو والسيطرة ما لم يبلغوه من قبل، فاحتلوا أرض فلسطين والقبلة الأولى وأخضعوا أقوى دول العالم لسيطرتهم، وهيمنوا على الإقتصاد ووجهوا وسائل الإعلام، وتوددت إليهم مختلف الدول، وأصبح أمرهم هو المطاع وهم يعلنون، بكل وقاحة، أنهم سادة الدنيا وغيرهم عبيد، يقول أحد حاخامتهم (الأغيار، أي غير اليهود، مخلوقات شيطانية كلية لا يوجد فيها ما هو خير إطلاقا ووجود غير اليهودي ليس ضروريا حيث أن كل الخليقة كانت من أجل اليهود وحدهم) هذه عقيدتهم ولذلك تراهم اليوم يعملون على الهيمنة على اقتصاد البلاد الإسلامية، ليكونوا سادة مسيطرين، لكن نحن على يقين أن وعد الله حق، وأن وعد الآخرة آت لا ريب فيه فنبينا عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله وأين هم قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس))(2)[2]، وأخبر أن المسلمين سيقاتلون يهود، وأن الحجر سينطق مخبرا بأماكن وجودهم، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .

عباد الله: قال نبينا : ((خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا - نقصوا - المكيال والميزان إلا منعوا القطر وأخذوا بالسنين - المجاعة - ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر))، فمن أسباب حبس المطر منع الزكاة، فالله تعالى يرحم من عباده الرحماء، والناس اليوم بحاجة ماسة لماء السماء، وهم قبل ذلك بحاجة إلى التوبة وأداء الحقوق والاستغفار: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا .

اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث من السماء، واجعل ما أنزلت قوة لنا وبلاغا إلى حين.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) رواه البخاري .

(2) رواه أحمد: ( 383 22).

(1/440)

________________________________________

المسجد وآدابه

-----------------------

فقه

المساجد

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

24/4/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

لا يعمر مساجد الله إلا مؤمن ثم ذِكر فضل المسجد وبعض آدابه والتنبيه على فضل يوم الجمعة وبعض آدابه وحُكم صلاة الجمعة وعلى من تجب والوعيد لمن تركها

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: قال ربنا عز وجل: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .

عباد الله: المساجد بيوت الله، أمر تعالى بتطهيرها لعبادته، وهي أحب البلاد إلى الله، فيها تتطهر النفوس وتزكوا، وبها يجد المؤمن راحته، حيث يناجي مولاه، ويتوجه إليه بالركوع والسجود، وتلاوة الكتاب والدعاء وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا .

وقد شهد الله تعالى لعمار المساجد بالإيمان، ذلك أن من قصد المسجد ليعمره بالصلاة والتلاوة ومدارسة العلم، إنما يفعل ذلك رجاء ثواب الله ورحمته ورضاه إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله .

لذلك كان على قاصد المسجد أن يراعي آدابه التي منها أن يقول عند الدخول بعد الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وعند الخروج: اللهم إني أسألك من فضلك، وأن لا يجلس قبل صلاة ركعتين لقوله : ((إذا جاء أحدكم المسجد فليصل ركعتين من قبل أن يجلس)).

ونظافة المساجد وإبعاد الروائح الكريهة عنها من أوجب الواجبات فإذا كان النبي قد نهى آكل الثوم والبصل من الدخول إلى المسجد، فما بالك بمن فيه رائحة العرق أو الجوارب أو الدخان، فالروائح الكريهة تتأذى منها الملائكة كما يتأذى منها الإنسان.

والمؤمن مطالب بأن يلبس الثياب الحسنة عند المجيء للمسجد، خاصة لصلاة الجمعة والعيدين، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، روى عن الحسن السبط أنه كان إذا قام للصلاة لبس أجود ثيابه، فسئل عن ذلك فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي، وهو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد .

ومما ينبغي أن يحذره زائر المسجد، أذية عماره من المصلين بتخطي رقابهم، روى أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة أن رجلا جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) أي تأخرت.

وينبغي للجالس بالمسجد أن يحذر من غلبة النعاس، الذي قد ينقض وضوءه، قال : ((إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره)) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح.

وعلى الداخل للمسجد أو الخارج منه أن يمشي بالسكينة والوقار، عن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلي مع النبي إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ((ما شأنكم)) قالوا استعجلنا إلى الصلاة، قال: ((لا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)) رواه الشيخان.

وينبغي الحرص على ملء الصفوف الأولى وأن لا يترك فيها فراغ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله رأى في أصحابه تأخرا عن الصف الأول، فقال لهم: ((تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من وراءكم ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل)) رواه مسلم.

وتسوية الصفوف وسد الخلل مما ينبغي العناية به قبل الدخول في الصلاة، وعلى الإمام أن يأمر بذلك، عن أنس قال: كان النبي يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: ((تراصوا واعتدلوا)) رواه البخاري ومسلم.

ورويا عنه أن النبي قال: ((سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة)).

وإن من علامات الخير حب المساجد والمؤمن يحب بيوت الله ويعمل على عمارتها، ولقد أخبرنا النبي عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد))، والعلاقة شدة الحب، وحب المساجد، علامة على حب الله، وحب دينه ورسوله.

ويوم الجمعة يوم من أيام الله فضله على أيام الأسبوع، وجعله عيدا لهذه الأمة، قال عليه الصلاة والسلام: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) رواه مسلم.

في يوم الجمعة يجتمع المسلمون في مختلف أقطارهم في بيوت الله يذكرون الله ويتوجهون إليه ضارعين خاشعين، فينبغي للمسلم أن يراعي حرمة هذا اليوم، وأن يتأدب بالآداب اللازمة في هذا الجمع المبارك، والتي منها: التبكير إلى صلاة الجمعة، والحرص على ملء الصفوف الأولى، وعدم تخطي الرقاب، والإنصات إلى الخطبة، وعدم الكلام أثناءها، ولو كان آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر.

وينبغي الاجتهاد في الدعاء في هذا اليوم والإكثار فيه من الصلاة والسلام على من أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، فرسول الله سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، فاغتنموا فضل هذا اليوم، وصلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين.

وقد يقع تهاون من البعض في أداء صلاة الجمعة لذلك وجب التنبيه إلى أن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم عاقل مقيم قادر على السعي إليها، خال من الأعذار المبيحة للتخلف، فصلاة الجمعة لا تجب على:

1- المرأة. 2- الصبي. 3- المريض. 4- المسافر. 5- الخائف. 6- المسجون.

هؤلاء تجب عليهم صلاة الظهر، فإن صلوا الجمعة صحت وسقطت فريضة الظهر.

أما المتهاون، فيكفي أن نذكره بقول رسول الله : ((لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيتهم)) رواه مسلم وأحمد.

وقوله: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم.

وقوله: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه)) رواه الخمسة.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/441)

________________________________________

المشكلات الزوجية

-----------------------

الأسرة والمجتمع

قضايا الأسرة

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

8/10/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- من آيات الله أن خلق الذكر والأنثى وجعل بين الزوجين مودة ورحمة 2- الحياة الزوجية عرضة للمشكلات والحثَّ على التَّعَقّل واللجوء إلى الشرع في حَلّها 3- أن الله جعل القوامة للرجل لا للتسلط والاستبداد بل هي قوامة رحمة وشفقة وتشاور فيما يصلحهما

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول ربنا سبحانه: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ الروم:21].

عباد الله، إن من آيات الله الدالة على عظمته وحكمته خلقه للإنسان من تراب، قال تعالى: ومن آياته أن خلقكم من تراب والتراب ميت ساكن بينما الإنسان حي متحرك، فسبحان من أخرج الحي من الميت، وسبحان من جعل قوام الحياة هذه العلاقة المتينة بين الرجل والمرأة، فكلاهما يألف الآخر ويسكن إليه، ويجد في كنفه الاستقرار والأنس والاطمئنان، وجعل بينهما مودة وهي المحبة ورحمة وهي الرأفة والعلاقة بين الزوجين لا يمكنها أن تستمر إذا لم تكن بينهما مودة ورحمة.

غير أن الحياة الزوجية قد تعترضها خلافات ونزاعات تتسبب في نتائج لا تحمد عقباها، وقد تكون أسباب تلك الخلافات واهية، غير أن العناد والمكابرة وقلة التفقه في الدين، كل ذلك يدفع بالزوجين إلى تضخيم المشاكل الصغيرة، وتحمل نتائجها السيئة.

إن الخلاف والاختلاف من طبائع البشر التي فطر الله الناس عليها، والحياة بين الزوجين لا يمكن أن تكون بغير مشاكل، لكن يستطيع الإنسان أن يعالج كل المشاكل بهدي من كتاب الله وسنة رسوله، يقول ربنا سبحانه: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا إن الزوج قد يكره من زوجته أشياء كتقصيرها في خدمة بيتها، أو مخالفته في أمر طلبه منها، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سببا في الفراق، فالآصرة الزوجية أوثق من أن تعصف بها مشكلة عابرة، فكم من امرأة كرهها وحسن معاشرته لها، فكانت أعظم أسباب هنائه وسعادته، وليتذكر الرجل أيضا أنه لا يخلو من عيب تصبر امرأته عليه فالكمال لله تعالى وحده.

والآية ترشدنا إلى أن بعض الأشياء التي نكرهها الآن، قد يكون فيها خير في المستقبل، فهذه قاعدة عامة تجعل الإنسان صابرا مترويا عاقلا.

ولما كان كل من الرجل والمرأة لا يخلو من عيب كان عليهما أن ينظرا إلى المحاسن في الوقت الذي ينظران فيه إلى المساوئ، وإلى ذلك يشير قول النبي : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر))(1)[1]. الفرك هو البغض بين الزوجين، والنبي عليه الصلاة السلام يرشد إلى أنه لابد أن يكون في الإنسان عيب أو نقص، فإذا وجد الزوج في زوجته أمرا يكرهه فعليه أن يتذكر ما فيها من المحاسن، والذي يعمى عن المحاسن ولا يلاحظ إلا المساوئ، لابد أن يقلق ويظلم ويعرّض الحياة الزوجية للخطر.

وإن كثيرا من الخلافات التي تقع بين الزوجين سببها عدم التزامهما بالتشاور فيما بينهما، وقد مدح الله تعالى المؤمنين لالتزامهم بالشورى في جميع أمورهم، قال تعالى: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ، وقد تعتقد المرأة أن فطام الطفل من اختصاصها وحدها، لكن القرآن الحكيم يجعل الفطام مسؤولية مشتركة بين الزوجين، يقول الله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ثم يقول سبحانه: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما والفصال هو الفطام، لأنه يفصل الولد عن أمه، فيكون مستقلا في غذائه عنها، فلما جعل الله تعالى مدة الرضاع حولين، أجاز الاقتصار على ما دون الحولين، بقوله سبحانه: لمن أراد أن يتم الرضاعة فالوالدان إن اتفقا على إرضاع الطفل مدة تقل عن سنتين جاز لهما ذلك لكن لابد من رضائهما وتشاورهما واتفاقهما على أن صحة الطفل تسمح له بالاستغناء عن حليب أمه قبل بلوغه الحولين. وفي هذا الأمر إرشاد إلى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة الزوجية من تشاور وتفاهم يحقق السكينة والسعادة، والمودة والرحمة.

عباد الله: لا شك أن أسباب الخلاف بين الزوجين كثيرة ومتشعبة ومتغيرة، ولا شك أن الخلاف إن طال واستمر، عكّر صفو الحياة، كما أن الزوجين في بعض الحالات لا يستطيعان تحديد سبب الخلاف أو قد يكون الخلاف لسبب تافه كتأخر الزوجة عن إعداد الطعام، لذلك كان على الزوجين أن يتصارحا وأن يناقشا خلافهما بهدوء، وأن يعتذر أحدهما للآخر. فالحقوق والواجبات بينهما متساوية، قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، فما يطلب من الزوجة كالطاعة والأمانة والعفة والإخلاص وحسن المعاشرة والاحترام يطلب أيضا من الرجل، فإذا همّ الرجل بمطالبة زوجته بأمر فليتذكر أنه يجب عليه مثله، وقد أحال ربنا سبحانه معرفة مالهن وما عليهن إلى عرف الناس المستمد من الشريعة والآداب والعادات.

وقوله تعالى: وللرجال عليهن درجة هي درجة الرئاسة، ذلك أن كل جماعة لابد لها من رئيس ينظم أمرها، وبدونه يختل النظام، وقد جعل الله تعالى هذه الرئاسة للرجال لحكم ظاهرة بينة، لكنها ليست رئاسة استبدادية بل تنبني على التشاور والتناصح وتحقيق الخير لجميع أفراد الأسرة.

إن المؤمن يسأل الله تعالى أن يجعل زوجته وأولاده موضع سروره وفرحه، فيتوجه إليه ضارعا قائلا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما .

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) رواه مسلم .

(1/442)

________________________________________

تخطيط الأعداء للمغرب العربي

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

المسلمون في العالم

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أعداء الإسلام لا يزالون يكيدون للإسلام وأهله 2– احتلال الصليبيين لبعض مناطق المغرب العربي وأن المجاهدين استطاعوا تحرير بعضها 3– عمَل الاستعمار على طمس هوية المسلمين في المغرب بنشر الفساد والإفساد 4- سعي المغاربة للاستقلال حتى نالوه وهذه نعمة تحتاج إلى شكر بتطبيق شرع الله في المغرب

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول ربنا عز وجل: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . ويقول سبحانه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم .

عباد الله: منذ أن بزغ نور الإسلام، وصدع رسول الحق عليه الصلاة والسلام يدعوا الناس إلى دين الله، وأعداء الإسلام خاصة من اليهود والنصارى يكيدون للإسلام، يضعون المخططات، ويدبرون المؤامرات لكسر شوكة الإسلام، ومكافحة دعوته، لقد نظر أولئك الأعداء إلى سر العظمة في أمة الإسلام، فعلموا أن هذه الأمة لم تنل العز إلا بالإسلام ولم تنتصر إلا بالإسلام، فالإسلام علّمها النظام، والإسلام دعاها إلى الجهاد والوقوف صفا واحدا في وجه الأعداء المتربصين بالإسلام والإسلام جمع شمل المسلمين رغم اختلاف أقطارهم، فأصحبوا جميعا أمة واحدة متراصة متماسكة متعاونة متحابة، معتصمة بحبل الله المتين.

نظر الأعداء في هذه الحقيقة وهي أن نهضة المسلمين إنما قامت بسبب الدين، فالإسلام هو مبعث وحدة هذه الأمة وقوتها، فسعوا إلى مقاومة الإسلام بكل الوسائل والتي منها احتلال بلاد المسلمين وفرض أنظمتهم مع استغلال خيرات البلاد لصالحهم، والعمل على نشر النصرانية بين المسلمين. فعندما وقعت النكبة الكبرى بسقوط الأندلس في يد الصليبية الحاقدة، تطلع الصليبيون إلى محاولة احتلال المغرب باعتباره الحصن المدافع عن الوجود الإسلامي في غرب بلاد الإسلام، وهكذا عمد البرتغال إلى احتلال سبتة عام 818هـ وعملت أسبانيا على احتلال مليلية عام 903هـ وحجرة بادس عام 914هـ ثم خطط الأسبان والبرتغال والإنجليز لاحتلال الشواطئ المغربية من طنجة إلى بوجدور لكن المجاهدين الأبرار استطاعوا تحرير الصويرة عام 915هـ والمهدية عام 921هـ وأزمور عام 948هـ وآسفى عام 948هـ والقصر الصغير عام 956هـ وأصيلا عام 957هـ وطنجة عام 1095هـ والعرائش عام 1101هـ والجديدة عام 1182هـ وتطوان عام 1278هـ وطرفاية من يد الإنجليز عام 1313هـ.

وما إن هل القرن الميلادي الحالي حتى خطط الاستعمار لاحتلال المغرب وتقسيمه سعيا منه لاستغلال ثرواته، وطمس معالمه الحضارية والقضاء على مقوماته وفي مقدمتها الدين واللغة.

وهكذا سعى الإستعمار إلى فتح المدارس الأجنبية لتربية أجيال من أبناء المسلمين يحملون ثقافة الإستعمار المسمومة ولا يعرفون شيئا عن دينهم ومبادئهم، وهؤلاء صاروا بعد أن رباهم الاستعمار يرفضون حتى التحدث باللغة العربية التي هي لغة القرآن، ويفضلون عليها لغة المستعمر وثقافته. وهكذا استطاع الإستعمار أن يهمش لغة البلاد وأن يفرض لغته وفكره.

كما عمد الإستعمار إلى إلغاء المحاكم الشرعية بعد أن كان في كل بلد صغير أو كبير قاض يحكم بشريعة الله، يقيم الحدود، ويحقق العدل وله السلطات المطلقة التي أعطته إياها شريعة الله، وسعى إلى إحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإلهية.

كما سعى إلى نشر كل الموبقات والمحرمات من خمر وقمار ودعارة ليتمكن بذلك من زرع الاستهانة بأحكام الشرع في نفوس الناس.

ذلك أن تيسير تناول المحرمات يشجع على ارتكابها حتى يتعود الناس عليها، وبذلك يضعف سلطان الإسلام في نفوس المسلمين فيتجرأ كل من هب ودب على ارتكاب المحرمات.

ولقد فطن المغاربة قاطبة لهذه المخططات الإستعمارية، فقاوموا الإستعمار بقوة السلاح لعدة سنوات، ثم انتقلت المقاومة إلى مرحلة أخرى، فقدمت العرائض والاحتجاجات التي تطالب بالإصلاح ونبذ سياسة الإفساد، وتوج ذلك برفع عريضة المطالبة بالإستقلال ليسترد المغرب حريته ووحدته.

عباد الله: يقول الله عز وجل: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر [ الحج:41].

هذا شرط شرطه الله عز وجل على الذين مكن لهم في الأرض وأصبح أمرهم بيدهم أن يقوموا بهذه الأربعة: إقامة الصلاة، بالأمر بها وزجر تاركها، وإيتاء الزكاة بتحصيلها وأدائها لأهلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبارها أساسا في كيان الدولة، ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا توفرا في مجتمع كبح جماح العصاة والمفسدين ولا ينتشر الفساد ويشيع إلا بسبب عدم النهي عن المنكر.

إذا علمنا هذا فلنسأل أنفسنا: هل قمنا بهذه الأربعة بعد أن منّ الله علينا بالإستقلال؟

هل حققنا لأنفسنا في مدة تزيد عن أربعين سنة، وهي المدة التي قضاها المستعمر في بلادنا، ما كنا نطالب به الإستعمار؟

هل قضينا على الموبقات والمحرمات التي نشرها الإستعمار في بلادنا، هل قضينا على الخمر والقمار والدعارة؟

هل عدنا لتحكيم شريعة الله في كل أمر من أمورنا، وهل أعدنا للغة القرآن مكانتها.

لنسأل أنفسنا قبل أن نسأل يوم السؤال ولنعلم أن الله ينصر من ينصره ويدافع عمن يدفع عن نفسه الهلاك والخسران بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه هي أسس الخير، ودعائم الإصلاح.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/443)

________________________________________

عيد الأضحى 1418هـ

-----------------------

سيرة وتاريخ, فقه

الذبائح والأطعمة, القصص

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

10/12/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

قصة إبراهيم عليه السلام وكيف تبرأ من الشرك وأهله بل وحطّم الأصنام وكيف هاجر إلى ربه وكيف ابتلاه الله بأمره بذبح ابنه فأجاب لذلك ففداه الله بِذِبْح عظيم –حثّ الناس على الاقتداء بإبراهيم عليه السلام وذبح الأضاحي في هذا اليوم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول الله تعالى: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ [البقرة:130، 131].

عباد الله، في هذه الأيام المباركة التي فضلها الله وشرفها، في هذا اليوم يوم النحر، يوم العيد الأكبر والمسلمون في بقاع الدنيا يكبرون الله تعالى على ما هداهم إليه من دين قويم وصراط مستقيم، حق للمسلم أن يذكر أبا الأنبياء، وخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أعلن في الناس عقيدة التوحيد في وقت طغى فيه الشرك والضلال، فعبدت الأصنام وهجرت شريعة الرحمن، فعم الفساد، فنادى في قومه: مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءفْكاً ءالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ [الصافات:85-87]، ولم يكتف بالدعوة باللسان بل عمد إلى أصنامهم، وهي رمز انحرافهم وضلالهم، فحطمها، وقال لقومه قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66، 67]، هكذا بكل ثبات أعلن كلمة الحق في وجه من أشرك وعاند وكفر، الله أكبر.

وعلى منهج إبراهيم سار هذا الركب المبارك من أنبياء الله ورسله فدعوا إلى عبادة الله وحده، وتحكيم شرعه قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ [النحل:36]، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع ومطاع في معصية الله، والتشريع حق من حقوق الله، وقد شرع الله لعباده المنهج الواضح والطريق السليم، وقال لرسوله: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الجاثية:18]، فبين سبحانه في كتبه المنزّلة وعلى السنة رسله: الحلال والحرام، وسائر الأحكام وشريعة الله لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أمور الناس إلا وبينت حكم الله فيها، وإنك لتجد فيما بقي سليما من صحف أهل الكتاب، تطابقا واضحا في كثير من الأحكام الشرعية فالمحرمات من خمر وقمار وربا وزنا وسرقة وغصب وغيرها من الفواحش كانت محرمة في سائر الشرائع كذلك الأمر في الأخلاق والمعاملات فقد جاء الرسل الكرام بمكارم الأخلاق، وما كان للبشرية أن تعرف مكارم الأخلاق إلا بواسطة الرسل والأنبياء فبهم عرف الناس الطيب والخبيث، والجميل والقبيح والخير والشر، الله أكبر.

ولا عجب في ذلك فدين الله واحد، قال تعالى: شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ [الشورى:13]، فالدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وتوحيده وطاعة رسله وقبول شرائعه، وقد ألزم الله تعالى الأمم السابقة بتحكيم شرعه وعمل الرسل الكرام على تطبيق حكم الله وشنع رب العزة تعالى على أولئك الذين امتنعوا من تطبيق حكم الله فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [عمران:23].

وبين حقيقتهم فقال: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. لذلك تجدهم يرفضون تحكيم شرع الله الذي أنزله الله في التوراة، كما رفض أهل الإنجيل الحكم بما أنزل الله وبذلك كانوا كفارا ظلمة فاسقين، لا رابطة بينهم وبين إبراهيم مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا [عمران:67]، وقد سمي إبراهيم حنيفا لأنه مال إلى دين الله وهو الإسلام والإسلام هو الخضوع والطاعة والخشوع لله.

فإبراهيم كان مسلما، وقد سمى الله تعالى من اتبع دينه وأطاع أمره مسلما، قال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا [الحج:78]، فسمانا الله تعالى مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن فالمسلم حقا من اتبع ملة إبراهيم وآمن بجميع الرسل وبخاتمهم وإمامهم نبينا محمد سيد البشر، الله أكبر.

والمسلم المستسلم الخاضع لأمر الله لا يرضى إلا بحكم الله، ولا يحكم إلا بشرع الله، ولا يطبق إلا أمر الله، فقد هداه الله إلى الدين الحق، والصراط المستقيم، والمنهج القويم قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]، أما من زهد في دين الله وشرعه وهجر أحكامه، فقد جهل أمر نفسه وأهلكها.

اللهم اجعلنا مسلمين لك، عاملين بأمرك إنك جواد كريم، غفور رحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الله أكبر... لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، نشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله: نذكر في هذا اليوم خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الذي ضرب المثل للأمم والأجيال من بعده: ثار ثورة عملية على الأصنام فحطمها، استهان بطغيان الكفرة الذين أرادوا حرقه بالنار، فكانت بردا وسلاما عليه. تبرأ من أبيه عندما تبين له أنه عدوا لله، هجر قومه فرحل من بلد لبلد وهو يقول: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، وسأل الله تعالى أن يهب له ولدا صالحا يعينه على الطاعة ويؤنسه في الغربة، فبشره الله بإسماعيل فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ [الصافات:102]. أي صار شابا قادرا على مساعدة أبيه قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، الله أكبر.

إنه الامتحان الذي ظهرت نتيجته الباهرة فإبراهيم صدّق الرؤيا وإسماعيل صدّق أباه، والأمر شاق وصعب، إبراهيم شيخ كبير مهاجر ترك الأرض والوطن، رزقه الله غلاما حليما، ما كاد يستأنس به حتى أمره ربه بذبحه، والإبن تلقى الأمر في طاعة واستسلام ورضى فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:103-105]، هذا هو الإسلام، إنه الإستسلام لأمر الله، إنه الطاعة والتسليم والتنفيذ وذاك ما يريده الله من عبده، فلما ظهر ذلك منهما فدى الله هذه النفس المسلمة بذبح عظيم.

وها أنتم معاشر المسلمين ستذبحون ضحاياكم ذكرى لهذا الحادث العظيم، ذكرى لعظمة الإستسلام والطاعة لرب العالمين، فاحمدوا الله على نعمه، واشكروه على أن وفقكم لطاعته، واذكروا أبا الأنبياء الذي هو أبو هذه الأمة المسلمة التي كتب الله عليها أن تقود البشرية بالقرآن على ملة إبراهيم عليه السلام، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير الذي لا يحصر، الله أكبر.

(1/444)

________________________________________

ذكرى الهجرة النبوية

-----------------------

سيرة وتاريخ

السيرة النبوية

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

1/1/1420

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أمر الهجرة وأنه حَدَث عظيم أرّخ به الصحابة لأهميته في الإسلام 2- الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهجرة رسول الله إليها وما حصل في هجرته

-------------------------

الخطبة الأولى

ها نحن بالأمس ودّعنا عاما واستقبلنا اليوم عاما آخر، ودّعنا بالأمس عاما ماضيا شهيدا، واستقبلنا عاما مقبلا جديدا،، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي وماذا نستقبل في عامنا الجديد.

إن من آيات الله تعاقب الشهور والأعوام، وتوالي الليالي، وكل عام يمضي فلن يعود أبدا، لذلك كان على المؤمن العاقل أن يغتنم الأيام بالعمل الصالح الذي سيجد ثوابه في دار الجزاء.

لقد طوى ملف العام التاسع عشر من القرن الخامس عشر، طوى بما كان فيه من عمل صالح أو آثام، وجفت الصحف ورفعت الأقلام، والملائكة الكرام هم الكتاب والشهود على الأنام، فهنيئا لمن أحسن في العام الماضي واستقام، وليحاسب كل منا نفسه، وليتذكر ما قدمه، فإن كان خيرا حمد الله وشكره وإن كان شرا تاب إلى الله واستغفره.

لقد استقبلكم - أيها الأحباب – العام الهجري الذي اتفق الصحابة على جعله مبدأ لتاريخ الإسلام، وذلك لأنهم رأوا في الهجرة أعظم نصر حققه الإسلام، وميلادا جديدا للإسلام هذا الإسلام الذي أحيا به عقولا سممتها الشكوك والشبهات وأحل به من الأغلال أفكارا قيدتها الخرافات، والهجرة مثل رائع للثبات والصبر والتحمل وقوة الإيمان، فلقد قام الرسول بمكة يدعو الناس إلى الله، فأوذي وحورب وحوصر حتى أراد الله إظهار دينه فساق إليه نفرا من الأنصار من أهل المدينة فآمنوا ورجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام، وهكذا هيأ الله لرسوله دار الهجرة.

وقبل الهجرة إلى المدينة هاجر المهاجرون الأوائل إلى الحبشة، ففي الوقت الذي اشتد فيه أذى الكفار لرسول الله ولمن أسلم وجهه لله أذن الرسول في الهجرة إلى الحبشة وقال: ((إن بها ملكا لا يظلم الناس عنده)) فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلا وأربع نسوة في مقدمتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار وتوالت الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فكان المهاجرون إلى المدينة يخرجون متسللين أولهم مصعب بن عمير فقدموا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم ثم أذن الله لرسول الله في الهجرة فخرج من مكة يوم الاثنين في شهر صفر وله إذا ذاك ثلاث وخمسون سنة ومعه أبو بكر الصديق وعامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن الأريقط فدخل غار ثور هو وأبو بكر فأقاما فيه ثلاثا ثم أخذا على طريق الساحل فوصلا إلى المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فنزل بقباء وأسس مسجد قباء، (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) فأقام بها أربعة عشرة يوما ثم خرج يوم جمعة إلى المدينة فصلاها في بني سالم ثم سار راكبا ناقته وجعل الناس يكلمونه في النزول عندهم ويأخذون بخطام الناقة فيقول خلوا سبيلها فإنها مأمورة فبركت عند مسجده اليوم.

ولا يستطيع واصف أن يصف ذاك المشهد العظيم حين خرج أهل المدينة مهللين مكبرين فرحين بمقدم النبي الكريم وخرجت البنات فيما يرويه ابن هشام فرحات بمقدم النبي وهن ينشدن:

نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار

فقال لهن : ((أتحببنني، فقلن نعم، فقال : الله يعلم أن قلبي يحبكن)).

نعم – أيها الأحباب – هاجر المسلمون إلى الحبشة وهاجر النبي إلى الطائف، ثم هاجر مع أحبابه إلى المدينة وهنالك أقيمت دولة الإسلام، وقد شاء الله أن تقوم دولة الإسلام بالهجرة، وأن يحفظ الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيل الدين، وبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة، من أجل هذا شرع مبدأ الهجرة في الإسلام والهجرة ألم وعذاب، فهي ليست هروبا من الأذى بل هي تبديل للمحنة ريثما يأتي الفرج والنصر، وها نحن نرى على مر التاريخ أن الهجرة كانت سبيلا للنصر والعزة، كما كانت هجرة محمد الخامس رحمه الله.

فهجرة النبي من مكة إلى المدينة بحسب الظاهر ترك للوطن وتضييع له لكنها كانت في الواقع حفاظا عليه وضمانة له، فقد عاد بعد بضع سنوات من هجرته عاد إلى وطنه الذي أخرج منه عزيز الجانب منصورا مظفرا من أجل كل ذلك أرخ المسلمون بالهجرة فلقد كانت نصرا وميلادا جديدا للإسلام.

وها نحن في مستهل عامنا هذا نجتمع مستحضرين لهذه الذكرى العزيزة فحق لنا أن نتوجه إلى ربنا خاشعين ضارعين قانتين.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/445)

________________________________________

رمضان وأحكام الصيام

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

3/9/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- فضل شهر رمضان وذكر الذين يُباح لهم الفطر فيه 2- متى يؤمرالصبي بالصوم وشأن الحائض وما يتعلّق بها من أحكم الصيام 3- المخالفات التي تقع في رمضان

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة، ولقد كان سلفنا الصالح يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكان من دعائهم إذا دخل شهر رجب : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، وكان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا، وكان النبي يبشر أصحابه بقدوم رمضان، وكيف لا، وهو شهر يفتح الله فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، شهر فرض الله صيامه كما فرضه على الأمم السابقة، ومن رحمة الله تعالى ولطفه وتيسيره أن سهل الصوم على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة أشياء، منها:

أن الصوم إنما يكون في نهار رمضان، قال تعالى: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل وجاءت السنة تدعوا إلى تعجيل الإفطار وتأخير السحور، وثبت أن أصحاب رسول الله كانوا أسرع الناس إفطارا وأبطأهم سحورا.

وفي أحكام الصيام يتجلى اليسر والتخفيف فالإفطار يباح لسبعة: للمسافر، والمريض، والحامل والمرضع، والهرم، ومن أرهقه الجوع والعطش، والمكره.

فالمرأة الحامل إن خافت على نفسها أو على ولدها أفطرت، وقضت، وكذلك المرضع، أما الشيخ الكبير والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يرجى شفاؤه، فهم يفطرون ويطعمون مسكينا بنحو صاع أو مد أو ما تيسر إن كانوا قادرين على الإطعام، وإلا فالله تعالى كريم جواد لا رب سواه.

ومن اليسر والتخفيف في الصيام أن قطرة الدواء في العين أو في الأذن لا تفطر وكذلك الطيب والكحل، وأخذ الدم للتحليل، والرعاف والحقنة، والشرجية (القوالب) والإبر غير المغذية والغبار، وذوق الطباخ للطعام دون دخوله إلى جوفه، ودواء الربو الذي يؤخذ بطريق الاستنشاق، وتنظيف الأسنان بمعجونها جائز طيلة النهار.

ومن أحكام الصيام التي يجب معرفتها: متى يؤمر الصبي بالصيام، إن الصبيان أمانة في أعناق مربيهم ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، لذلك كان على المربي أن يكلف الطفل ما يطيق وأن يزرع في نفسه الشعور بمسؤولياته تجاه ربه ودينه وقد أرشدنا الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أمر الطفل بالصلاة وهو في سن السابعة تدريبا له على تحمل مسؤوليات العبادة، وقد ذكر العلماء أن الطفل إذا بلغ عشر سنين وأطاق الصيام، أي كانت حالته الصحية تسمح له بالصوم، أخذ به، واستدلوا بأن النبي أمر بالضرب عندها على الصلاة، واعتبار الصوم بالصلاة أحسن لقرب إحداهما من الأخرى، ولقد كان الصحابة يصوّمون أطفالهم فإن بكوا من العطش أو الجوع شغلوهم بلعب يتلهون بها، وذلك لتنغرس العبادة في قلوبهم ويتعودوا عليها.

ومن أحكام النساء في الصيام أن المرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل وجب عليها أن تنوي الصيام ولو لم تغتسل إلا بعد الفجر، وكذلك النفساء متى انقطع عنها دم النفاس لعشرة أيام أو أكثر أو أقل تبادر إلى الاغتسال وتصلي وتصوم، فإذا اغتسلت الحائض والنفساء ثم رأت شيئا من الصفرة أو الكدرة فلا تبالي به بل تصلي وتصوم والحامل إذا رأت شيئا من الدم فإن ذلك الدم ليس بحيض وإنما هو دم فساد، فتصوم وتصلي وتسأل الله تعالى أن يحفظها ويعافيها، ويعينها، ويهبها ذرية صالحة بمنه وفضله وكرمه.

عباد الله: أقسم النبي أنه ما مر بالمسلمين شهر خير لهم من رمضان، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب تنافس الناس في العبادات والإكثار من الصلوات، وبذل الصدقات والإكثار من تلاوة كتاب الله والذكر والدعاء، إنه شهر القرآن لذلك كان على المؤمن أن يجتهد فيه في تلاوة القرآن، وأن ينظر إليه باعتباره شهرا للجد والاجتهاد، وتطهير القلوب من الفساد.

إنه شهر الصيام و((الصيام جُنّة)) كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، أي وقاية وسترة من الإجرام والآثام، من السب واللعن والغيبة والنميمة والكذب، فالمسلم إذا صام، صام سمعه وبصره ولسانه.

ولقد عمل الشيطان على إفساد ليل رمضان على من أطاعه وعصى الرحمان، فدعاهم إلى جعل ليله مناسبة للسهر على اللهو واللعب وزين لهم تقديم السحور مخالفة للسنة، وترك صلاة الفجر في وقتها، وما ذلك إلا من عدم معرفتهم بجلال هذا الشهر ومكانته وفضله وأنه شهر للعبادة والطاعة يتمنى أهل القبور أن لو مد الله في أعمارهم ليملأ ساعاته بما يرضي الله، وما يجدون ثوابه عند الله.

لقد عمل طائفة من الناس على إفساد شهر رمضان عندما جعلوا منه شهرا لاختيار ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وعندما حولوا لياليه إلى ليالي للسهر في اللهو واللعب، ثم جاء عصر التلفاز والفضائيات فزادت الفساد فسادا بأشغال الناس بكل ما يصدهم عن ذكر الله.

رمضان شهر عبادة، فاستقبلوه بالتوبة واحرصوا فيه على الزيادة من كل أعمال الخير: من تلاوة القرآن وصلاة النوافل والذكر والصدقة وزيارة الأقارب وصلة الرحم، لتنالوا من عفوا الله ورحمته.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/446)

________________________________________

غزوة بدر

-----------------------

سيرة وتاريخ

غزوات

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

17/9/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

غزوة بدر ووقوعها في رمضان وأن الله نصر فيها المسلمين مع قلة عَددهم وعُددهم –ذِكر أهمية الجهاد وأنه بتركه ضاعت مواضع من بلاد المسلمين ولن تعود إلا به

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول ربنا سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم .

عباد الله، في شهر الصيام وقعت الغزوة الكبرى التي انتصر فيها الإسلام، والتي سميت في القرآن بيوم الفرقان، والتي قال النبي فيمن حضرها، ((لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة))(1)[1]. في السنة الثانية من الهجرة فرض صيام شهر رمضان، وفي أول رمضان يصام في الإسلام وقعت غزوة بدر الكبرى في يوم الجمعة السابع عشر منه. فقد شاء الله تعالى أن تقع هذه الغزوة في شهر الصبر الذي يطلب فيه من أهل الإيمان أن يغتنموه بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والذكر والصدقة والإحسان، وهكذا أضاف ذاك الجيل المبارك من صحابة رسول الله إلى كل ذلك، جهادا بالنفس والمال لإعلاء كلمة الله وقمع عصابة الشرك والطغيان.

لقد علّمهم النبي عليه الصلاة والسلام أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وعلمهم أنه بالصبر يظهر الفرق بين أصحاب العزائم والهمم وأهل الجبن والضعف، وعلمهم أن العبادة لا تؤدي كما أمر الله إلا بالصبر، وأن المعاصي لا تجتنب إلا بالصبر، وأن على المؤمن أن يصبر على ما قدره الله وقضاه فلا يتسخط ولا يضجر عند نزول البلاء، وتلا عليهم قول الله تعالى: ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، وقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ، أي اصبروا على الطاعة ولازموها واصبروا عن الشهوات وامتنعوا عنها ورابطوا إما في الثغور في مواجهة العدو أو انتظار الصلاة في المساجد ثبت في الصحيح أن النبي قال : ((ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط)).

وبالصبر يتحقق النصر بإذن الله، فهاهم أهل بدر عندما وقفوا في وجه أعداء الله خاطبهم النبي بقوله: ((ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين)) لقد رأى أهل بدر أن عدوهم يبلغ ثلاثة أضعاف عددهم وتتوفر معه مؤونة وسلاح وأنه جاء مستعدا متهيئا للقتال، بينما هم على العكس من ذلك، لقد كان الموقف حرجا جدا، فقريش في عز قوتها، والمسلمون في ضعف مادي شديد، ولذلك كان من دعاء النبي في ليلة بدر: ((اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)) فلو انهزم المسلمون في بدر لما قامت للإسلام قائمة، ولذلك بشر النبي أهل بدر بنزول ثلاثة آلاف من الملائكة، وأنهم إن صبروا على شدة الحرب وثبتوا في المعركة فإن الله تعالى يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة، قال تعالى: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين روى البخاري أن النبي قال يوم بدر ((هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب))، وقال في رواية أخرى: ((جاء جبريل النبي فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم، قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة)).

والنبي قاد المسلمين في غزوة بدر وشارك في القتال، عن علي قال: ((لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله وهو أقربنا من العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا)) فكان يجاهد بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى ويقاتل ببدنه جمعا بين المقامين الشريفين.

وحقق الله تعالى لعباده المؤمنين الصابرين النصر على عدوهم رغم قلة عددهم وعددهم، قال تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنت أذلة بسبب قلتهم ولكن الله تعالى نصرهم لصبرهم وثباتهم والله تعالى ينصر المؤمنين الصابرين الصادقين.

عباد الله، بين الله تعالى في كتابه الحكيم أن الجهاد في سبيله هو التجارة التي تنجي من عذاب أليم، قال العلماء نزل قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم في عثمان بن مظعون وذلك أنه قال لرسول الله : لو أذنت لي فطلقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام بليل أبدا ولا أفطر بنهار أبدا، فقال رسول الله : ((إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني)). فقال عثمان فمن والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها فنزلت الآية.

فبالجهاد في سبيل الله ينجو المؤمن من عذاب الله وبالجهاد في سبيل الله انتصر المسلمون على أعداء الله وعندما ترك المسلمون الجهاد ضاعت الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام، وهاهي اليوم فلسطين تضيع بسبب ترك الجهاد في سبيل الله والمسجد الأقصى وفلسطين لن يعودا إلى المسلمين إلا بالجهاد في سبيل الله، وغزوة بدر ستبقى درسا للمسلمين يتعلمون منها أن الله تعالى يؤيد المؤمنين الصابرين، ويمدهم بمدده الذي لا ينفد، فهو سبحانه وتعالى القائل: وكان حقا علينا نصر المؤمنين .

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) صحيح مسلم (النووي 16:55).

(1/447)

________________________________________

لا عدوى ولا طيرة ولا هامة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة, أمراض القلوب

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

15/2/1416

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

حديث " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " وشرحه

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

عن أبي هريرة ، عن النبي قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر))(1)[1].

عباد الله، جاء الإسلام بدعوة التوحيد الخالص (لا إله إلا الله) فالله وحده هو الإله المعبود الذي يستحق العبادة، وعليه وحده التوكل، ولا يعمل إلا لأجله وتلك كانت دعوة الرسل جميعا، قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .

والله وحده له الحكم والأمر، هو سبحانه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، والكل تحت ملكه وقهره، وإنه لمن الضلال المبين أن يعتقد معتقد أن غير الله قد يضر أو ينفع أو يعطي أو يمنع، قال تعالى: أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون .

ولقد وصل الحال بأهل الشرك والضلال إلى الخوف من أشياء وهمية، فجاء الإسلام ليثبت أن الفاعل الحق هو الله وحده، وهذا الحديث ينفي تأثير هذه الأربعة بنفسها.

أولها العدوى، فقال : ((لا عدوى))، أي على الوجه الذي يعتقده المشركون من إضافة الفعل إلى غير الله، فالإنسان المسلم يبتعد عن ما يسبب انتقال المرض إليه، كابتعاده عن الزنى حتى لا يصاب عن طريق العدوى بأمراضه الخطيرة، وكابتعاده عن المجذوم، وهو في الوقت نفسه على يقين بأنه لا يقع شيء إلا بأمر الله وحده.

ثانيها: الطيرة، فالرسول ينفي حقيقة الطيرة، وأنها اعتقاد باطل، يخالف التوحيد الذي من استمسك به، وتوكل على الله، قطع دابر الظنون الباطلة، وإنك لتعجب ممن ينتسب إلى الإسلام، ويعتقد أن الأمر بيد الله وحده، وهو مع ذلك يتطير من أشياء، وربما ورث ذاك التطير عن الآباء والأجداد.

ثالثها: الهامة، طائر من طير الليل (البومة) وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بها، فإذا نزلت على بيت أحدهم قال: نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري، فأثبت النبي أن لا شؤم بالبومة أو غيرها، قال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر.

فبادر بالإنكار، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، ولينفي بذلك كل اعتقاد خرافي وهمي لا أصل له ولا حقيقة.

رابعها: صفر، وهو شهر من شهور السنة القمرية يأتي بعد الأشهر الحرم، وكان أهل الجاهلية يقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ذلك الاعتقاد، ولذلك سماه المسلمون صفر الخير، ردا على اعتقاد أهل الجاهلية بأنه شهر شؤم وشر، وهذا التشاؤم هو من الطيرة المنهي عنها وإلى عهد قريب كان الناس يتشاءمون بيوم الأربعاء، كما كان العرب في الجاهلية فلا يحلقون فيه حتى كانت دكاكين الحلاقة تقفل أبوابها.

إن الإسلام – معاشر المسلمين – ينبذ ويحارب كل فكر خرافي وثنى، ويدعو الناس إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد الذي له وحده الملك والأمر لا إله إلا هو ولا رب سواه. فادعوه مخلصين له الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) رواه البخاري .

(1/448)

________________________________________

مخالفات نسائية

-----------------------

الأسرة والمجتمع, فقه

المرأة, النكاح

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- حكم زواج الرجل المسلم بغير المسلمة وحكم زواج المسلمة بغير المسلم 2- التحذّير من فتنة النساء

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول ربنا سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .

عباد الله: لما بدأ المسلمون يهاجرون إلى المدينة، كان من الذين يريدون الهجرة نساء مؤمنات، أزواجهن كفار، فنزل حكم الله يقرر أن المرأة إذا أسلمت فقد حرمت على زوجها الكافر، فلا هي تحل له ولا هو يحل لها.

هذا حكم الله، فالزواج من غاياته إقامة الأسرة المسلمة، وتنشئة الأبناء على الإسلام، وهذا أمر لا يتأتى إذا كان الزوج كافرا، والإسلام إنما أباح للمسلم أن يتزوج بكتابية لأن القوامة للزوج وعلى المرأة أن تطيعه في المعروف وزواجه بها قد يكون سببا في إسلامها، فعثمان بن عفان تزوج بنائلة بنت القراقصة، وهي نصرانية فأسلمت عنده، ولذلك بين العلماء أن الزواج بالنصرانية أو اليهودية مكروه، ذلك لأنها قد تفتنه عن دينه، أو يميل لأهل دينها ويبتعد عن أهل دينه، وهذا أمر مشاهد معروف.

أما زواج المسلمة بغير المسلم، على أي دين كان فقد حرمه الإسلام، والحكمة من هذا التحريم بينة ظاهرة.

إذا علم هذا – معاشر المسلمين – فقد ذكرناكم بهذا الحكم الإلهي لأن طائفة لا ندري عددها من نساء المغرب خارج الوطن يعملون في أمور غير مباحة كالدعارة وغيرها.

ولا يمكن أن نسمي تلك العلاقة المحرمة زواجا فللزواج أركان لابد منها فإذا لم تتحقق فإنما هو الزنا، ولذلك فلا يحق لنا أن نقول، إن فلانة تزوجت بفلان النصراني بل نقول إنها تزني معه والأولاد الذين يأتون نتيجة تلك العلاقة هم أولاد زنى.

إن هذا الأمر الخطير يبين لنا إلى أي حد وصل الاستهتار بالدين، وعدم المبالاة بأحكامه وإلى أي مدى بلغت الجرأة على الله، فهذه المرأة التي تعاشر كافرا لم تصل إلى هذا الدرك الأسفل حتى انسلخت شيئا فشيئا من دينها، فلم يعدلها من الإسلام أي التزام، وكل ذلك نتيجة لضعف الإيمان أو عدمه.

إن النبي عليه الصلاة والسلام حذر أمته من فتنة النساء، فقال: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) وهذه الفتنة لا تتحقق إلا إذا خالفت النساء أمر ربهن.

فإذا تركت النساء اللباس الشرعي وتعرين كانت الفتنة.

وإذا نزعن اللباس على الشواطئ، كانت الفتنة وإذا اختلطن بالرجال خاصة في الحفلات كانت الفتنة.

وإذا سافرت المرأة وحدها دون محرم كانت الفتنة، فالفتنة والإفساد، نتيجة حتمية لمخالفة أمر الله.

لما أهبط آدم أوحى الله إليه أربع فيهن جماع الأمر لك ولولدك من بعدك، أما الأولى فلي، وأما الثانية فلك، وأما الثالثة فبيني وبينك وأما الرابعة فبينك وبين الناس؟

أما التي لي فتعبدني ولا تشرك بي شيئا.

وأما التي لك فعملك أجزيكه أفقر ما تكون إليه.

وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة.

وأما التي بينك وبين الناس فتصاحبهم بما تحب أن يصاحبوك به.

أربع من حصل عليها واجتمعت عنده اجتمع له خير الدنيا والآخرة: امرأة صالحة عفيفة، وحديث موافق على طاعة الله ومال من حلال واسع ينفقه في مراض الله وعمل صالح.

اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/449)

________________________________________

مداومة العبادة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

فضائل الأعمال

-----------------------

إسماعيل الخطيب

تطوان

15/5/1418

الحسن الثاني

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- ذِكر قوله تعالى ( وقوموا لله قانتين ) ثم ذِكر معنى القنوت والحث على الحرص عليه 2- فضل المداومة على الأعمال الصالحة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

يقول ربنا سبحانه في كتابه الحكيم: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين .

عباد الله : القنوت هو لزوم الطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى، وأهل الملل المختلفة يقومون في عبادتهم المنحرفة عاصين ضالين، فقيل لهذه الأمة قوموا لله طائعين خاشعين، وطول القيام في الصلاة قنوت، قال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الصلاة طول القنوت))(1)[1]، فالذي يطيل القيام والقراءة والدعاء في الصلاة يسمى قانتا، ودعاء القنوت تطول به الركعة، وقد بين العلماء أن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، لذلك سمى من يدوم على الطاعة قانتا، وقد مدح الله تعالى من قام في الليل وصلى وأطال القيام والسجود، قال تعالى: أمّن هو قانت ءاناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فبين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر فالمؤمن مطيع خاشع في صلاته يطيل قيامها ويدعو ربه وهو على أحسن حال من نظافة القلب، وإخلاص التوجه، ونظافة الثياب وعدم الإلتفات والعبث، فالقنوت الذي هو الطاعة يتنافى مع العبث والالتفات في الصلاة، وهو من صفات المؤمنين، قال تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات.. الآية، وخاطب سبحانه نساء النبي فقال: ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما وأمر تعالى مريم أن تطيل القيام في الصلاة وتديم الطاعة، فقال سبحانه: يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، وبين تعالى أن المرأة الصالحة هي التي تدوم على طاعة ربها وزوجها، فقال سبحانه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ، فالصالحات هن المحسنات لأزواجهن، الحافظات للغيب، يعني غيبة زوجها، فلا تفعل في غيبته ما يكره أن يرى منها في حضوره فهي دائما على العهد والوفاء لزوجها، قال : ((ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله))(2)[2].

ونوّه الله تعالى في كتابه الحكيم بذكر خليله إبراهيم وقال عنه: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين . قال ابن مسعود: الأمة الذي يعلم الناس الخير والقانت هو المطيع لله تعالى، وإبراهيم عليه السلام كان قائما بحق الله صغيرا وكبيرا، ما عبد إلا الله، ودعا قومه إلى عبادة الله، فكسر الأصنام، وواجه قومه بالعداوة في وقت انفرد فيه وحده بالإيمان، وعندما تزوج سارة، قال لها: كما في صحيح البخاري: ((ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك))، وظل دائما مستمسكا بحبل الله، فأعطاه الله فلم يبعث نبياً بعده إلا من ذريته، وأعطاه الله الذكر الجميل في الدنيا، وأوحى الله إلى نبينا محمد وأمته أن اتبع ملة إبراهيم فإنه كان حنيفا أي مخلصا مسلما.

عباد الله: إن القنوت وهو المداومة على العمل عنوان على الإيمان والتمسك بحبل الله، وقد ورد في السنة الترغيب في المداومة على العمل وإن كان قليلا. روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) فأمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بالسداد، وهو تحري الصواب أي أن لا نعمل عملا إلا بدليل من الكتاب والسنة فالله تعالى لا يعبد إلا بما أمر، ثم قال: ((وقاربوا))، أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة فيفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن أحدا لن يدخل الجنة بعمله بل برحمته سبحانه، وحث نبينا عليه الصلاة والسلام على مداومة العمل الصالح وإن كان قليلا. وقراءة القرآن من أجل العبادات وقد قرأه عبد الله بن عمرو في ليلة، فقال له رسول الله : ((إني أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تملّ فاقرأه في شهر)).

وهكذا الأمر في سائر الأعمال: في صلاة الليل وفي الذكر وفي الصوم، على المؤمن أن يسلك السبيل الوسط وأن يداوم على عمله الصالح حتى يلقى الله تعالى، قال سبحانه: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) رواه مسلم .

(2) سنن ابن ماجة – كتاب النكاح ، باب أفضل النساء.

(1/450)

________________________________________

فخ العولمة

-----------------------

أديان وفرق ومذاهب

مذاهب فكرية معاصرة

-----------------------

عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس

مكة المكرمة

جامع الفرقان

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

دعوة العولمة , معناها وخطورتها – بعض مظاهر العولمة – محاذير الإنترنت – المؤتمرات والمؤامرات ( السكان , المرأة .. ) – المنظمات الدولية ودورها الخبيث – أثر الاقتصاد وخطورة الاقتراض من الدول الكافرة – كيف نواجه العولمة

-------------------------

الخطبة الأولى

عباد الله: إن فخا عظيما ينصب لأمة الإسلام اليوم يراد لها أن تقع فيه فتضمحل في غيرها وتفقد خصوصيتها وتخسر خيريتها وشهادتها على الناس إنه فخ العولمة الذي تنصب شراكه هذه الأيام شعاره المصير الواحد للبشرية هدفه إزالة الحواجز الدينية والأخلاقية وتذويب الفروق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة وإشاعة القيم المشتركة التي يراد لها أن تجمع البشر بزعمهم وسيادة المال وحرية التجارة عبر الدول والنفاذ إلى المجتمعات بعيدا عن هيمنة حكوماتها فتضعف بذلك السلطات المحلية ويحل محلها سلطات أخرى تنتظم مجموعة الدول التي وقعت في الشراك عبر شركات كبرى تجوب الأرض طولا وعرضا لا تعوقها حدود ولا تضايقها قيود ولا تراعي خصوصيات لبلد لسان حالها من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ومن مظاهرها التي تم شيء منها وبعضها في الطريق شبكات المعلومات العالمية الإنترنت والتي يصعب السيطرة عليها إلا بإلغاء نظام الإتصال أصلا وهذا لا تفكر أي دولة بالإقدام عليه أما الرؤى والأخلاق والثقافات والمواقف التي تطرح عبر هذه الشبكات فهي بمنأى عن سيطرة الدول وتحكمها وفيها من الإختلاط والتوصل إلى الشعوب ما ينذر بخطر عظيم على ما فيه من خير لا يتطلبه إلا علماء الناس وحكماؤهم وما أكثر الناس بعالمين ومن مظاهرها المواطئة لها شبكات الإتصال والإعلام عبر الأقمار الصناعية من خلال أطباق الإستقبال التي تعلو كثيراً من بيوت المسلمين وتنشر فيهم ثقافات وقناعات وتغرس في أبنائهم وبناتهم قيما ومبادئ وأخلاقا ما كان يعرفها أحد من آبائهم المحافظين حتى أصبح ما يشبه إنفصاما نكدا بين ثقافة الوالدين وقناعاتهم وقيمهم وأخلاقهم وبين كل ذلك في الأولاد واستسلم كثير من الأولياء وأعلن عجزه عن تربية أولاده وما ذاك إلا لأن هناك من يزاحمه بل من يبعده ويحتل موقعه في تربية فلذات كبده وهي هذه القنوات التي تصب عليهم بالليل والنهار أخلاقاً وقيماً ومبادئ وأفكاراً مستمدة من قيم وأفكار ومبادئ القائمين عليها وأكثرهم من اليهود ومن شايعهم من الصليبيين ومنها هذه المؤتمرات التي تعقد بين الفينة والأخرى بهدف فرض رؤى العولمة بفرض رؤى غريبة عن المجتمعات الإسلامية حتى تفقد هويتها وتضمحل في غيرها ومنها مؤتمر السكان بالقاهرة والذي تدخل في أمور شرعية هي من المسلمات عند المسلمين وقاطعته هذه البلاد والحمد لله واستنكره في حينه علماؤنا في هذه البلاد وفي مصر ولله الحمد وفي كثير من بلاد المسلمين ثم مؤتمر السكان بلاهاي ومؤتمر المرأة ببكين ومؤتمر الإسكان بإسطنبول وكلها نوع من العولمة لقيم غريبة غربية محددة لسحب المجتمع الدولي والمجتمع الإسلامي بخاصة إلى الوحل الأخلاقي والإجتماعي الذي انحدر إليه الغرب فالأسرة في المجتمعات الإسلامية تعد ركيزة إجتماعية متماسكة قوية وهي في الغرب تعد من مخلفات الماضي ولذا يحرصون على هدم هذه الركيزة عند المسلمين عبر هذه المؤتمرات عبر إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني والكثافة السكانية وهي قوة بشرية يتمتع بها العالم الإسلامي تمثل هاجساً مخيفاً للغرب يسعى لتقليصه عبر هذه المؤتمرات وتوصياتها أما الوسائل التي عن طريقها تفرض رؤى العولمة فهي المؤتمرات والمنظمات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والمجلس الإقتصادي والإجتماعي ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسكو وغيرها إن المال والإعلام هما السلاحان النافذان في عصر العولمة فمن ملكهما كانت له السيطرة والنفوذ وقد قال أحد حكماء الغرب قبل خمسمائة عام : إذا حاربت بسيف المال فستكون الغالب دائما وقد أخبرنا الله تعالى عن هذا عن اليهود ونظرتهم إلى المال فقال جل وعلا عن قولهم في طالوت: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال وقال جل وعلا عن المنافقين: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا إن من ملك المال والإعلام هو من سيفرض مفاهيمه وقيمه ومبادئه على الآخرين في عصر العولمة وهو الذي سيحدد المعايير ويدفع الهيئات والمؤسسات نحو ما يريد وسيعمل لتحقيق مصالحه خاصة إنه الغرب وعلى رأسه أمريكا فهو الذي سيبقى مسيطرا في عصر العولمة إلى درجة العمل على إفناء الآخرين وإلغائهم ومن عدى الغرب سيصبح مجرد حشو يمكن توظيفه لصالح المستفيد الأول من العولمة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر لله على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله يجب ألا يعزب عن أذهاننا أن تدخل إنجلترا واحتلالها لمصر في القرن الماضي واحتلال فرنسا لتونس في القرن الماضي أيضا هو عن طريق القروض التي أوجدت بتراكمها والعجز عن سدادها أوجدت الذريعة للتدخل السافر للمستعمر وبسبب الديون التي بدأت بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذين يعملان على إغراق الدول المستهدفة بالديون بسببها أصبح إقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً وما كوارث الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا عنا ببعيد والدول العربية وهي إحدى الدول المستهدفة بالعولمة بلغت ديونها الآن مائتان وخمسون مليار دولار وهي تتزايد ربا بمقدار خمسين ألف دولار في الدقيقة الواحدة فيا لهول الأمر وعظم الفاجعة ولعلنا إن شاء الله في خطب لاحقة نكمل الحديث عن خطر العولمة ونبين جوانب الضعف فيها التي لو أحسن المسلمون إستغلالها لقلبوا السحر على الساحر ونبين واجبنا تجاهها ونقول ما قال ولي العهد في تصريحه لا لعولمة الفساد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

(1/451)

________________________________________

الدعوة إلى تحرير المرأة

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس

مكة المكرمة

جامع الفرقان

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

دور العلمانيين والمنافقين في إفساد العقيدة وترويج الفساد , والانحلال – أسلوبهم في إضلال الأمة وإفساد النساء وتدرجهم – مخططات إفساد المرأة السعودية – تاريخ الدعوة لتحرير المرأة بزعمهم – خروج المرأة للعمل , ضوابطه ومخاطره وآثاره على الأسرة والمجتمع

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا عباد الله: لا يزال المنافقون من أهل العلمنة والتغريب ومن اغتر بدعواهم يطالعوننا المرة بعد المرة بأقوال وآراء عبر صحفنا اليومية تخالف ثوابتنا الشرعية ومسلماتنا الإعتقادية يلبسون لبوس الغيرة على الدين أحيانا ولبوس النهضة بالاقتصاد أحيانا أخرى ويطرحون أفكارا خاوية لا تتفق وواقعنا المحافظ على دينه وما هم إلا حفنة قليلة من المتأثرين بالغرب اللاهثين خلف ما يفد منه ولو كان فيه حتفنا ولو كان الغرب قد ذاق مرارته ونادى بالويلات والثبور من جرائه فيصدق عليهم بذلك قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)) إن هؤلاء المسعورين من العلمانيين والمستغربين ومن سار في فلكهم ممن يتباكون على وضع المرأة في بلادنا هم أعداء المرأة حقا ولعلمهم بواقع مجتمعنا واختلافه عن سائر المجتمعات التي عانت من الاستعمار دهورا فإنهم يتسللون بأفكارهم التحررية ودعوتهم للانحلال من خلال قضايا شرعية يحاولون أن يجعلوها مجال نقاش وأخذ ورد فحين يطالب أحدهم مثلا بالبخنق الذي تلبسه نساء ماليزيا أترونه صادقا في مطالبته هل سيرضى بالوقوف عند هذا الحد أم أنها خطوات الطريق الطويل اللاحب الذي يراد جر المرأة إليه في بلادنا وهل قدوته ماليزيا حقا أم إن قدوته هناك حيث العري والاختلاط والعار والشنار وهل واقعه الآن يشهد بحسن سيرته وطيب طويته وسلامه مشربه أم هو بحاجة إلى إصلاح حاله ثم من نصبه وكيلاً لبنات آدم يطالب لهن بحقوقهن بزعمه ثم ينسف في طريقه مسلمات شرعية وثوابت عقدية بصريح العبارة أو بتلويحها ولحنها: أم حسب الذين في صدورهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم لقد طار العلمانيون والمستغربون ومن انخدع بهم بكلمة قالها ولي العهد وعلق عليها مصدر لم يصرح باسمه نشر تعليقه في جريدة الشرق الأوسط وجريدة الحياة ومما جاء في تعليقه: إن الكلمة المشار إليها تعد الطلقة الأولى للحوار حول المرأة السعودية وتحريك دورها وتابع يقول: إن البعض يتناول قضايا هامشية وقشور مثل قيادة المرأة للسيارات وغطاء الوجه فالموضوع الأول تمت مناقشته في مجلس الشورى وهي قضية تقنية بحاجة مثلا لشرطة نسائية تتولى تنظيمها وأما الثاني فهي قضية خلافية هكذا يقول هذا المصدر الذي لم يصرح باسمه وتابع قائلا: وإذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فإننا سنخلق مجتمعاً منقسماً وشاذاً وزاد: حان الوقت لمساهمة المرأة السعودية في المسيرة التنموية وحرص هذا المصدر على تأكيد أن الدين الإسلامي دين يخاطب الجميع وقال: لا وجود لكهنوتية في السعودية هكذا قال هذا المصدر المجهول ولنا مع تصريحه الذي قد جاء بيان يرد عليه بيان توضيحي لكلمة ولي العهد يتبرأ من كل التعليقات التي نسبت إليها والتي تعد نفسها شرحا لها لنا مع هذا التصريح عدة وقفات أولها يلمس أن هناك توجها لبحث قضايا محسومة في هذا البلد من قبل هيئة كبار العلماء تتعلق بالمرأة وطرحها للمفاوضة والنقاش والاعتراض ثانيا وصف القضايا الشرعية كالحجاب ونحوها بأنها قشور وأمور هامشية مما يدعو إلى التوجس والخوف من تلك الدعاوى وإن ألبست بلباس الدين. ثالثاً: الزعم بأن موضوع قيادة المرأة للسيارة تمت مناقشته في لجنة الشورى رغم أنه صدرت فيه فتوى شرعية رسمية وهذا الزعم باطل فقد صرح وزير الداخلية لجريدة اقتصادية بأنه لا توجد أي رغبة أو توجه لدى الدولة بشأن السماح للمرأة بالقيادة في السعودية وبأنه ليس هناك دراسة بهذا الخصوص وأن كل مجتمع له خصوصياته وكأي أمور أخرى تخضع لهذه الاعتبارات لكن أعود وأؤكد أنه لا توجد أي دراسة حول هذا الموضوع انتهى كلامه رابعا أن عمل المرأة الذي يدعى له ويراد فتح أبوابه هو عمل في محيط الرجال وميادينهم كما جاء في التصريح إننا إذا أردنا مجتمعا دون اختلاط فسنخلق مجتمعاً منقسماً شاذاً هكذا قال المصدر المجهول خامسا إلغاء دور المرجعية الدينية والرجوع في كل أمر إلى كتاب الله وسنة رسوله بقوله: لا كهنوتية في السعودية وفي ذلك نسف للثوابت الشرعية وقد تتابعت المقالات الصحفية من جملة من المستغربين من أبناء وبنات هذا المجتمع رغم صدور بيان يرد ويوضح كلمة ولي العهد ويتنصل من كل المقالات التي تعلقت بها رغم ذلك كله فقد تتابعت المقالات من المستغربين في الصحف ومما تضمنته هذه المقالات استغلال كلمة ولي العهد وتوجيهها حسب توجههم المنحرف وجعلها توطئة لعرض ما يريدونه ومن ذلك أن المقالات تضمنت الدعوة الصريحة لتحرير المرأة وتغريبها ورفع الظلم والضيم الذي تعانيه من مجتمعها حسب زعمهم حتى قال بعضهم: المرأة لا تملك الصلاحيات في اتخاذ أبسط القرارات وقال آخر من هؤلاء المستغربين: عمل المرأة كمعلمة بطالة مقنعة وهدر للأموال وقال ثالث : لن تتقدم أمة نصفها مصاب بالشلل شل الله يمينه ويلحظ تبرم واستياء تلك الفئة المنحرفة من حال مجتمعنا المحافظ والدعوة إلى تغيير أوضاعه حتى قال بعضهم: حال المرأة يدعو إلى الرثاء وضع النساء في مجتمعنا لا يطابق المعايير التي يتفق عليها العقلاء النساء في مجتمعنا لا يحصلن على حقوقهن المرأة لا مكان لها في مجتمعنا نساؤنا في العالم العربي لا يتحدثن عن حقوقهن كي تعود المرأة إلى الإنتاج فإننا في حاجة إلى الكثير من الكلام الصريح اللهم أكفنا شر الأشرار وشر الفجار اللهم من أرادنا والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله لقد بدأت حركة ما يسمى بتحرير المرأة قبل مائة عام أي في عام ألف وثمانمائة وتسع وتسعين للميلاد حيث خرج كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الذي دعا فيه المرأة إلى السفور ونبذ الحجاب واختلاطها بالرجال ولم يكن في ذلك الوقت في مصر امرأة تختلط بالرجال سوى امرأة واحدة هي ناظلي فاضل حفيدة محمد على باشا وفي تركيا دعا أحمد رضا عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد أي قبل تسعين سنة إلى إفساد المرأة حيث قال ما نصه: ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علناً مع المرأة على جسر غلطة وهو جسر في تركيا وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستوراً ولا حرية فهكذا دعا هذا الأثيم إلى سفور المرأة قبل تسعين عاماً تقريباً ولكن انظروا ما يحدث الآن حيث وصل الحال إلى إنشاء المراقص وبيوت البغاء وكل أنواع الشرور كما هو مشاهد ومعلوم في بعض البلاد نسأل الله أن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه وإن كثيرا من الكتابات التي نطالعها على صفحات جرائدنا إنما هي نسخة مستلة من دعوة قاسم أمين وهي طبق الأصل من كتاباته وأفكاره هو وأضرابه دعاة السفور والاختلاط وإن عمل المرأة بالصورة التي ينادون بها له من المفاسد الشيء الكثير فمما نذكره باختصار إهمال الأسرة وتمزيق أركانها وتضييع النشء وإفساد الأولاد وكثرة حالات الطلاق وكثرة حالات العنوسة في المجتمع وتحديد النسل إذ أن المرأة العاملة تضطر لإيقاف الإنجاب مراعاة للوظيفة والتضييق على الرجل في الحصول على الوظيفة وهذا مشاهد ملموس بل الواقع يشير إلى بداية ظهور البطالة في المجتمع في أوساط الرجال والرجل مطالب بالعمل لكونه مطالب بالنفقة على المرأة ومن ذلك كثرة السائقين والخادمات والمربيات ومن ذلك ما تحدثه من أثر نفسي على الأطفال نتيجة تنشأتهم في دور الحضانة ومنها أنه لا عائد مادي من عمل المرأة إذ أنه سيصرف في تبعات ذلك خادمة أو مربية أو سائق وسيارة وغيرها من المصاريف ومنها تسهيل اللجان بالفساد والانحراف الأخلاقي وما يتبع ذلك من هتك الأعراض وضياع الحرمات أما بالصورة المحافظة فإن الآثار تكاد تنعدم وبالجملة فمن أراد أن يعرف آثار عمل المرأة بالصورة التي ينادي بها العلمانيون فلينظر إلى المجتمعات التي سبقت إلى مثل هذا العمل وما حل بها من فساد وانحراف يوجب على العقلاء من أبناء هذا المجتمع السعي لكف هذا الشر عن المسلمين ويتعين على الجميع بذل الجهود لحفظ المجتمع وصيانة الأمة من خلال السعي على الحفاظ على خصوصية تعليم المرأة وعملها في هذه البلاد بمنع الاختلاط في التعليم والعمل والسعي الجاد إلى إقرار التقاعد المبكر للمرأة والعمل بنظام الساعة والعمل بهذين الأمرين سيغلق الباب أمام تلك المطالبات والخطوات إذ أن قلة الوظائف المطروحة للمرأة هي حجة أولئك في مطالباتهم ومن ذلك إعادة النظر في سنوات تعليم المرأة وعملها بما يتوافق مع طبيعتها ويتلاءم مع وظيفتها الأساسية كأم وزوجة ومن ذلك إنشاء مستشفيات نسائية خاصة تراعي حرمات المرأة ومن ذلك تعديل مناهج التعليم في المراحل كلها من الإبتدائية إلى الجامعية بما يوائم طبيعة المرأة ويخالف الرجال وفي الختام نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار.

(1/452)

________________________________________

المجادلة بالباطل في آيات الله

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي

-----------------------

عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس

مكة المكرمة

جامع الفرقان

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

المجادلة في الله بغير علم من أعظم أسباب مقت الله , والآيات في ذلك – صفات المجادلين بالباطل – كيف تواجَه شبه الملحدين في رفضهم التحاكم إلى الشريعة – خطورة المجادلة عن المسرفين وأهل الباطل

-------------------------

الخطبة الأولى

عباد الله: إن من أعظم أسباب مقت الله وغضبه المجادلة في الله بغير حجة من الله والمحاجة في دينه بغير هدى منه سبحانه فتلكم يا عباد الله توجب غضبه سبحانه ومقته وتوجب طبعه على قلب صاحبها فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً وهو الضال الذي ذمه الله بقوله: كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ثم بين سبحانه وتعالى من هو المسرف المرتاب في الآية التي بعدها: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم فالمسرف على نفسه المتجاوز قدره الطاغي في شؤونه المرتاب في دينه فلا يقين عنده بوعد الله ووعيده ولا يقين عنده بحكم الله وشرعه ولا يقين عنده بقضاء الله وقدره هم الذين يجادلون في آيات الله الظاهرات البينات التي تتلى من كتابه أو أحاديث رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الثابتة عنه تتلى عليهم فيجادلون فيها بمخاريق من القول وزور من الكلام وهجر من الحديث يجادلون فيها بغير حجة ولا سلطان إلا ما جاء عن الله أو عن رسوله فالحجة والسلطان والبرهان فيهما وكل ما عدا الكتاب والسنة فراجع إليهما ثم يبين سبحانه شدة وعيد من كان هذا شأنه بقوله جل وعلا: كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا أي والله إن الله سبحانه ليمقت على ذلك أشد المقت ويغضب أشد الغضب على من يجادل في آياته البينات الباهرات وحججه الساطعات بموروثات من الأسلاف أو ضغوط من الواقع أو استسلام للعادات وكل هذه ترهات لا يجوز لمسلم أن يجادل بها في آيات الله ثم بين جل وعلا أن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً ولذلك قال سبحانه: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وكم رأينا من ذلك أصنافا ممن يجادل في آيات الله بغير سلطان حتى وصل ببعضهم الحال إلى ما قص الله في كتابه فصار مطبوعاً على قلبه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا فالمعروف عنده هو ما عرفه واشتهاه والمنكر عنده ما كرهه وخالف هواه ولو كان هو مراد الله فالكبر هو الحامل له على إتباع الهوى والمجادلة في آيات الله بلا حجة ولا برهان: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه .

قال ابن كثير رحمة الله عليه: أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله فهؤلاء إن في صدورهم إلا كبر عن اتباع الحق واحتقار لمن جاء بالحق وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع انتهى كلامه رحمه الله فقوله جل وعلا: ما هم ببالغيه أي لن يبلغوا مرادهم وقصدهم وهو إزهاق الحق وإعلاء الباطل فهي كقوله جل وعلا: أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون وقوله سبحانه: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون وقوله سبحانه: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين وقوله جل شانه: وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقوله سبحانه: وما كيد فرعون إلا في تباب أي في خسار وغيروا من الآيات الدالة على أن مجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق ستبوء بالخسران وتنتهي بالخيبة والعاقبة للتقوى والعاقبة للمتقين.

عباد الله: إن شمس الرسالة إذا سطعت على شبه الملحدين والمضلين أحرقتها وجعلت أهلها في ذهول لا يحرون جواباً فكيف إذا انضاف إلى حجج الله الواضحات وآياته البينات كيف إذا انضاف إليها التطبيق العملي لهذه الشرائع والنموذج الواقعي من ثلة مؤمنة تأخذ بها والامتثال الفعلي لتلك التكليفات عندها تعظم الحجة حيث صارت آية وتطبيقا وحديثا وواقعا يعيشه الناس حين تستجيب أمة من الناس لشريعة الله فتطبقها في واقعها يكون هذا ردا عمليا على من يزعمون أن شريعة الله غير قابلة للتطبيق وأنها مثل عليا لكنها مستحيلة التطبيق في دنيا الناس ولذا كان جرم من يحاج في آيات الله بعد استجابة المؤمنين بها لله جرما عظيما واستحق الغضب من الله والعذاب الشديد إضافة إلى ضحود حجته وبطلانها حيث كذبها الواقع الذي يكذبه من استجابوا لهذه الآيات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له أي من بعد ما استجاب له فريق من عباده المؤمنين ومع ذلك تجد فريقا من المعاندين المجادلين يحاجون فيها ويزعمون عدم إمكانية الاستجابة لها: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله علمنا أن من أعظم أسباب سخط الله ومقته وغضبه المجادلة في آيات الله بعد وضوحها وقيام عباده الصالحين بها واستجابتهم لها وأن ذلك من أسباب العذاب الشديد في الآخرة وضحود الحجة وانكسارها في الدنيا عباد الله إن من الناس فريقا عافاهم الله من هذه الحال فاستجابوا لله في ذواتهم وطبقوا شرعه في أنفسهم ورضوا حكمه في خاصتهم ولكن منهم من باع دينه بدنيا غيره ووقع فيما نهى الله عنه في قوله: ولا تكن للخائنين خصيما فأخذ يخاصم لصالح الخائنين المفسدين في الأرض وبقوله جل شأنه: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً .

فالنجاة النجاة يا أهل الصلاة ممن وفقكم الله للتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حذار من المجادلة عن المسرفين في الأرض الذين يبغونها عوجا وقد بغاها الله دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين فالنجاة النجاة يا عباد الله من حال هؤلاء فيا من من الله عليه بالتزام شرعه فليتوج ذلك بمجانبة الزائغين ونصحهم وإرشادهم والأخذ بأيديهم ودلالتهم إلى الطريق المستقيم بدلا من المجادلة عنهم وتبرير واقعهم والتماس المعاذير لهم أو ليلزم نفسه ولا يوردها موارد الهلكة بالمجادلة بالباطل عن من يختانون أنفسهم فيحشر في زمرتهم فالمرء مع من أحب يوم القيامة

(1/453)

________________________________________

من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم تجريد المتابعة له

-----------------------

قضايا في الاعتقاد

الاتباع

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- معنى الشهادة بأنّ محمداً رسول الله – وجوب تقديم النبي وطاعته على مَن سواه من العلماء والأمراء 3- صور من امتثال الصحابة ووقوفهم عند كلام الله ورسوله

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن من أعظم حقوق النبي المصطفي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تجريد المتابعة له ومعني ذلك أن تتبعه فتطيعه صلى الله عليه وسلم هو وحده متبوعك المطاع وهذا هو مضمون الركن الثاني من كلمة التوحيد وشعار الإسلام أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله , فأنت يا مسلم بإقرارك وإيمانك بالرسالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تعطي عهدا على نفسك بأن تتبع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطيعه وحده فيكون هو سيدك المطاع بلا نزاع تقدم أمره على أمر غيره وطاعته على طاعة غيره , هذا هو معنى الركن الثاني من ركني كلمة التوحيد وشعار الإسلام ولقد أمر الله تبارك وتعالى بطاعة رسوله ومصطفاه في أكثر من أربعين آية من القرآن مما يدل على عظم أهمية هذا الأمر وأنه أصل عظيم من أصول الإيمان بل يكفي أنه كما قررنا أحد ركني الدين الذين هما , الركن الأول توحيد الله تبارك وتعالى في العبادة والذي تلتزم به في قولك أشهد أن لا إله إلا الله والركن الثاني تجريد المتابعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي تلتزم به بقولك وأشهد أن محمد رسول الله , فتجريد المتابعة معناه أن طاعتك واتباعك هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده من دون الناس فأي أحد من الناس كائناً من كان أو عالما أو أميرا أو رئيسا أو غير هؤلاء إنما تكون طاعتهم إذا كانت ضمن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يصح اتباعهم إذا كان ذلك ضمن اتباع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن كان في طاعتهم وفي اتباعهم مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحل لك ذلك شرعا, فإن أطعتهم واتبعتهم بالرغم مما في ذلك من مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تكون حينئذ قد أخللت بالركن الثاني من ركني كلمة الإخلاص والتوحيد وهو أشهد أن محمدا رسول الله, قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء:59]. فدلت هذه الآية على أن طاعة أولي الأمر وأولو الأمر هم الأمراء والعلماء مقيدة بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما لو أمر الأمراء أو قال العلماء بشيء يخالف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإن المؤمن لا يقدم على أمر الله وعلى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أي شيء بل يضرب بأمر من خالفهما عرض الحائط , هذا هو منهج سلف هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أعمق هذه الأمة إيمانا وأغزرهم علما وأقلهم تكلفا كانوا إذا سمعوا كلام الله وسمعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدلون بهما أي شيء ولا يعارضون أمر الله وأمر رسوله بأمر أي أحد من الناس كائن من كان , كان أصحاب رسول الله وقافين عند أمر رسول الله وعند أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزونهما أبدا والأمثلة علي ذلك كثيرة اسمعوا بعضا منها:-

المثال الأول: عندما توفي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب الأمر على أصحابه من بعده من هول الصدمة وقوة الفاجعة ومرارة الفراق وكادوا يتنازعون في أمر الخلافة والإمارة وهم مجتمعون في السقيفة فقال الأنصار للمهاجرين: نحن أهل الديار آويناكم ونصرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدنا بين يديه بأسيافنا فنحن أحق بالإمارة منكم.

ثم تنازلوا خطوة فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم منا أمير ومنكم أمير. حتى إذا سمع الجميع مهاجرين وأنصار الصديق أبا بكر يذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: ((الأئمة من قريش))(1)[1], مما يدل على أن أحق أصحاب رسول الله في ذاك الوقت بالخلافة هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه أذعنوا جميعا وانتهى النزاع وانقادت الأنصار لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واحدا منهم لما تلكأ كادت الأنصار أن تطأه بأقدامها وهي تتسابق وتبادر إلى الصديق أبي بكر تبايعه امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فببركة حسن متابعتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم استقامت أحوالهم وبورك لهم في أمورهم ووقاهم الله شر الفتنة وسلموا من عواقب النزاع فإن أمر الخلافة وأمر الإمارة من أشد مسائل الناس خطورة وأعظمها فتنة.

المثال الثاني: خليفة رسول الله أبو بكر الصديق أرجح هذه الأمة إيمانا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أول أمره بالخلافة وقد اضطربت الأمور, انتقضت العرب وخرجت عن الطاعة وارتدت عن الإسلام وانفلت حبل الأمن في مثل هذه الأحوال العصيبة لم يفكر في مقاتلة الروم أقوى دولة في ذاك الوقت ومع ذلك فقد صمم أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أن ينفذ بعث أسامة بن زيد رضى الله عنه وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته قد جهز جيشا بقيادة أسامة لغزو الروم ثم توفي قبل أن يمضى ذاك الجيش إلى وجهته, فأصر أبو بكر علي أن يرسل هذا الجيش فلما نوقش في ذلك وأشار عليه بعض الصحابة بأن لا يفعل ويستعين بالجيش على مقاتلة المرتدين وإعادة الأمن إلي نصابه أبى الصديق وقال: ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضى ذلك الجيش وذهب الجيش لغزو الروم وجعل الله عز وجل الصلاح في هذه الخطوة الصديقية فإنه كان لها أثر نفسي عظيم ورادع في نفوس العرب الذين انتقضوا في ذلك الوقت حتى قال قائلهم: لو لم تكن لديه قوة كافية ما أرسل أبو بكر جيشا لغزو الروم, هذا كله ببركة حسن المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم والتجريد والتوحيد في المتابعة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الفاروق رضى الله عنه وقافا عند كتاب الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أمر الله أو سمع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان يتجاوز هذا أبدا مهما كانت الأحوال, في الصحيح عن أبي وائل جلست إلى شيبة في المسجد فقال جلس عمر بن الخطاب إلي في مجلسك هذا وقال: لقد هممت ألا أدع فيها بيضاء ولا صفراء إلا قسمتها بين المسلمين أي هممت أن أقسم الأموال بين المسلمين لا أترك منها شيئاً في بيت المال. قال فقلت له: ما أنت بفاعل قال: ولم؟ قال: لأن صاحبيك لم يفعلا ذلك، فطأطأ الفاروق رأسه وقال: هما المرءان بهما أهتدي.

أي صرف الفاروق نظره عن تلك الفكرة التي هم بأن يفعلها وينفذها لما ذكره هذا الناصح الأمين بأن هذه الفكرة ليست موافقة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لما كان عليه صاحبه أبو بكر الصديق , لم يتجاوز ذلك بمجرد أن سمعه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن الفزاري أنه لما استؤذن له على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدخل على عمر وقال له: يا ابن الخطاب إنك والله ما تعطي الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب الفاروق غضبا شديدا وهم بأن يقع فيه أي هم بأن يعاقبه فقال له الحر بن قيس كان من جلساء الفاروق ومستشاريه: يا أمير المؤمنين لقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف:199]. فما زاد عليها عمر لما تلا عليه الآية أي سكن إليها وخضع وكف عما هم به بمعاقبة عيينة بن حصن الفزاري لما جابهه تلك المجابهة العنيفة.

هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أحوج ولاة الأمر إلى التأسي بعمر الفاروق في مثل هذه المواقف وما أحوجهم إلى جلساء وإلى مستشارين كالحر بن قيس رضي الله عنه يذكرونهم بأمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وينصحونهم ويصدقون معهم, بل ما أحوجنا جميعا إلى ذلك فقد ضعفت متابعتنا لسيدنا وإمامنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا على أمره مورثات الآباء والأجداد, بعضنا إذا قال له ناصح: إن ما تفعله مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما نفعل ما وجدنا عليه آبائنا وأجدادنا , ضعفت متابعتنا للنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم وقدمنا على أوامره أوامر الرؤساء والأمراء والكبراء وكلام العلماء والمشايخ مشايخ العلم أو مشايخ القبيلة أو مشايخ الطريقة أو غير ذلك إذا أمروا بأمر فيه مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليك أيها المؤمن أن تضرب بأوامرهم عرض الحائط فإنهم حتى ولو حرصوا على الخير قد يضلون وقد يجتهدون ويخطئون لأنهم غير معصومين والدين كل الدين في اتباع المعصوم وهو سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فمن عارض أمره بآراء الرجال خسر الدين.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(2)[1]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

__________

(1) أحمد (3/183).

(2) صحيح مسلم (408).

(1/454)

________________________________________

محبة الصحابة رضوان الله عليهم

-----------------------

غير محدد

غير محدد

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

5/5/1413

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فمن حقوق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيم أصحابه وتبجيلهم واحترامهم والدعاء لهم والترضي عنهم وكف اللسان عنهم وعما شجر بينهم فإنهم سلف هذه الأمة وصفوتها وخيرها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم بهم نصر الله رسوله وأعز دينه وأعلى كلمته وبسببهم اهتدينا إلى الإسلام , فالمنة في هدايتنا إلى الإسلام لله تبارك وتعالى أولا ثم لمصطفاه صلى الله عليه وسلم ثم لأصحاب رسوله الذين جاهدوا بين يديه أحسن جهاد والذين نقلوا إلي الأمة من بعده السنن والشرائع والقرآن. فلولاهم ما عرفنا شيئا عن الإسلام ولولاهم ما عرفنا شيئا من القرآن ولولاهم ما اهتدينا إلى الإيمان.

فحب الصحابة إيمان وبغضهم كفر ونفاق , بوب الإمام البخاري في صحيحه الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله أبوابا في فضائل الصحابة والمهاجرين ثم قال باب "حب الأنصار من الإيمان" فخرج فيه حديثا عن البراء رضى الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله))(1)[1].

وخرج أيضا حديثاً عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار))(2)[2]. فإذا كان هذا في حب الأنصار فحب المهاجرين أحرى وأولى وآكد لأنهم أسبق منهم وأفضل منهم, ثم حب السابقين أولى وأوجب وآكد وعلى رأسهم الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي الذين هم أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهم وأرضاهم.

ثم يا مسلم كيف لا تحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم كل المنة في عنقك, أصحاب رسول الله هم أنصاره وجنده وأتباعه, إنهم حواريوه لما قال عيسى بن مريم من أنصاري إلي الله قال حواريوه نحن أنصار الله ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أنصاري إلى الله)) تسابق أولا المهاجرون إلى الإيمان به ونصرته والذب عنه صلى الله عليه وسلم وتحملوا في سبيل ذلك من الأذى والاضطهاد ما تنهد منه الرواسي الشوامخ ثم تسابق إلي الإيمان به صلى الله عليه وسلم ونصرته الأنصار من الأوس والخزرج, أهل هذه المدينة الطيبة أووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وجاهدوا بين يديه حق الجهاد حتى قال قائلهم في غزوة نبوية يوم بدر: يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيهم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [المائدة:24]. ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه(3)[3], رضي الله عنهم وأرضاهم, هذا مقال لسان الصحابة أجمعين, وهذا كان لسان حالهم دائما جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاهدوا بين يديه أحسن الجهاد حتى أعز الله بهم الملة ورفع بهم الكلمة وأظهر بهم دينه علي الدين كله ولو كره المشركون.

يا مسلم كيف لا تحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أسوته وهم قدوته ؟ فكما اصطفى نبيه وخليله وصفيه كما اصطفاه من بين سائر خلقه, اصطفى له أصحاباً وجنداً وأنصارا هم أحسن الناس يومئذ فصاروا أفضل هذه الأمة بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.

جعلهم الله الأنموذج العملي لهذا الإسلام فما عليك إلا أن تحتذي حذوهم وتتأسى بهم, إنهم التفسير العملي لهذا الدين ولذلك ذكرهم الله تعالى في كتابه ونوه بفضلهم وأثنى عليهم وعلى خلالهم وأوصافهم وأفعالهم من ذلك قوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [التوبة:100]. ومن ذلك قوله تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم [الأنفال:74].

وبين تعالى في كتابه أنه تاب عليهم ورضي عنهم فقال مثنياً عليهم وعلى نصرتهم وجهادهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحلك الأوقات وأصعب الظروف لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم [التوبة:117].

وقال تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منوها بهم وبفضلهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا كريما [الفتح:29].

دلت هذه الآية الكريمة على أنه لا يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كافر إذ قال: ليغيظ بهم الكفار وهل هناك أغيظ على الكفار وأشد حنقا على قلوبهم من نصرة الصحابة لرسوله صلى الله عليه وسلم وجهادهم أعداء الله حتى دوخوا المجوس والروم, ودوخوا أهل الشرك وطواغيت الكفر في الأرض جميعا.

ثم قسم الله الفيء بين المسلمين أجمعين فبدأ بالمهاجرين فقال: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر:8]. ثم ثنى بالأنصار فذكرهم وذكر أوصافهم منوها بها مثنيا عليهم بها فقال سبحانه وتعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].

ثم ذكر سبحانه باقي أهل الإيمان, أهل المنة فوصفهم بهذه الأوصاف فقال تبارك وتعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10]. وصف الله أهل الإيمان وأهل ملة الإيمان بأنهم لا يكنون بغضا ولا غلا لمن سبقهم بالإيمان وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يعظمونهم ويبجلونهم ويعرفون لهم حقهم ومن سبقهم في الإيمان ويدعون لهم ويترضون عليهم.

ودلت هذه الآية على أن من لم تكن تلك صفته فهو ليس من أهل الإيمان وليس من أهل منة الإسلام.

ومن هذا المعنى استدل إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه بهذه الآية على كفر الروافض الذين يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم لا نصيب لهم من الفيء.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

وأثنى الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم على طوائف مخصوصة من الصحابة وأفراد أعيانهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله يوم الحديبية وكان ذلك سنة ست من الهجرة لما خرج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا قاصدا مكة فصدته قريش عن البيت ففاوضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل لهم عثمان بن عفان رضى الله عنه ليفاوضهم فاحتبسه أهل مكة , فظن رسول الله وأصحابه أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبرح حتى نناجز القوم))، فالتف حوله الصحابة يبايعونه تحت الشجرة على الموت فأنزل الله تعالى فيهم قوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [الفتح:18].

ونوه الله تعالى في كتابه الكريم بأبي بكر الصديق وذكر فضله وأثنى على نصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن صحبته له في رحلة الهجرة على وجه الخصوص فقال تبارك وتعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].

ثم لما اشترى الصديق رضي الله عنه بحر ماله بعض الموالي المستضعفين الذين أسلموا فعذبهم أسيادهم, اشتراهم أبو بكر الصديق وأعتقهم فأنزل الله تعالى فيه قوله: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:17-21]. ويا لها من منقبة عظيمة للصديق رضي الله عنه ويالها من بشارة له رضي الله عنه.

وأنزل الله تعالى في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه أنزل قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [البقرة:207]. وسببه أن صهيباً لما أسلم خرج من مكة مهاجرا إلى هذه المدينة الطيبة فتبعه أهل مكة فأخذ كنانته وأخرج منها أربعين سهما ثم قال: لأضعن في كل رجل منكم سهما ثم لأصيرن لسيفي فتعلمن أني رجل وأني تركت بمكة قينيتين فهما لكم فرجعوا عنه لما سمعوا ذلك ووصل صهيب إلى المدينة فاستقبله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرا إياه قائلا له يا أبا يحيى لقد ربح البيع ثم تلا عليه هذه الآية التي نزلت فيه: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد (4)[1]، رضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم أجمعين وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(5)[2]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

__________

(1) البخاري كتاب فضائل الصحابة (3572).

(2) البخاري كتاب الإيمان (17).

(3) صحيح البخاري (3952، 4609).

(4) أخرجه الطبري في تفسيره (2/322).

(5) صحيح مسلم (408).

(1/455)

________________________________________

محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وحكم سابه

-----------------------

الإيمان

الإيمان بالرسل

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- حكم سبّ النبي 2- أدلة القائلين بأنّ سب النبي موجب لقتله 3- محنة إخواننا المسلمين في البوسنة وكشمير 4- دعوة للإنفاق في سبيل الله

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن من أعظم حقوق المصطفى النبي صلى الله عليه وسلم حماية جنابه ومقامه والذب عن عرضه والانتصار له ضد شانئيه والانتقام من محاربيه الذين يسبونه أو يمسون مقامه بأي نوع من أنواع التنقص, فقد أجمع أئمة الإسلام كما روى ذلك إسحاق بن راهويه على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استهزأ به أو تنقص من حقه على أنه كافر خارج من الملة عقوبته القتل مرتدا, قال تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم إلى أن قال سبحانه: والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [التوبة:61]. ثم قال سبحانه وتعالى: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم [التوبة:63]. علم من هذه الآية أن من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص من قدره أنه يحادد الله ورسوله أي محارب لله ورسوله فالمحاددة معناها المحاربة والمحاربة أغلظ وأشد من الكفر لأنها كفر مع المعاداة والمناوئة والمشاققة والمعاندة, فدلت هذه الآية علي أن من يسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص من حقه أنه محارب لله ورسوله وأنه كافر كفرا أكبر خارج من الملة تأملوا قوله سبحانه: فأن له نار جهنم خالدا فيها [التوبة:63]. فإذا صدر إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بسبه أو الاستهزاء به أو التنقص من حقه, إذا صدر ذلك ممن يظهر الإسلام فهو كافر مرتد, أجمع الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه يقتل مرتدا كافرا خارجا من الملة ولا تلزم استتابته قبل ذلك فقد سمع سيف الله المسلول خالد(1)[1] بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه سمع رجل يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقتله دون أن يستتيبه, فإذا كان المسلم يقتل بذلك فالذمي من باب أولى وكذلك الكافر معاهدا كان أو غير معاهد فكل من يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص من حقه من مسلم في ظاهره أو ذمي أو كافر معاهد أو غير معاهد يجب قتله والذي يجب أن يتولى تنفيذ ذلك ولي أمر المسلمين مادام لهم ولي شرعي, فأما إذا كانوا في زمان أو مكان ليس لهم فيه ولي شرعي فعلى المسلمين أن يتولوا تنفيذ ذلك بأنفسهم متى ما قدروا عليه وأمنوا من فتنة أعظم. قال تعالى: يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا فالله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:64-66], دلت هذه الآية على أن من يستهزئ بشيء من القرآن أو يستهزئ بشيء من الدين أو مقام النبوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عن مقام الألوهية فهو كافر مرتد خارج من الملة إن كان ممن يظهر الإسلام ويجب قتله سواء كان مسلما أو ذميا أو كافرا معاهد أو غير معاهد لأنه لا يصدر ذلك إلا من منافق كافر عدو لله ورسوله وقد سمى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسبه عدوا فقال في رجل كان يسبه: ((من يقتل عدوي))(2)[2] قال صلى الله عليه وسلم: ((من لي بعدوي)) أي من يقتل عدوي, وقال في كعب بن الأشرف اليهودي الخبيث قال: ((من لي بكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله))(3)[3]. انتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين لقتل ذلك اليهودي مع أنه كان معاهدا, لماذا لأنه كان يسب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ويهجوه في شعره ويهجو المسلمين ويشبب بناتهم أي يتغزل بنسائهم بغية نشر الفساد الخلقي وكان يؤلب بشعره المشركين على المسلمين فانتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليه نفر من أبطال الأنصار على رأسهم محمد بن مسلمة خرجوا إليه وهو وراء حصنه في قبلي هذا المسجد المبارك فاستنزلوه من حصنه وقتلوه وعفروا التراب بدمه النجس الخبيث.

وإنما أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه مع أنه كان معاهدا لأن المعاهد والذمي ينتقض ما بينه وبين المسلمين بمجرد الطعن في دين الإسلام أو سب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إيذاء المسلمين , فعلى كل مسلم رعاة أو رعية أن يذبوا عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحموا مقامه وجنابه من شناءة أعدائه ومحاربيه وشانئيه وأن ينتصروا له, يجب على الحكومات التي تقول إنها إسلامية أن تحمي مقام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن تذب عن عرضه وأن توقع العقوبة الشرعية عن كل من يسبه أو يستهزئ به ومن التنقص من حقه صلى الله عليه وسلم التنقص من أي من زوجاته الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين , فإن التنقص من أمهات المؤمنين تنقص من عرضه صلى الله عليه وسلم.

يجب على الحكومات التي تقول إنها إسلامية أن تقوم على ذلك فإن لم تفعل فحاشى أن تكون إسلامية أو شرعية, فما بالك من حكومات بدلا من أن تعاقب من يسب الله ورسوله ويتنقص من هذا الدين فإنها تمكن لهم وتهيئ لهم الأسباب, إن مثل الحكومات التي تفعل ذلك حاشا أن تكون إسلامية بل هي حكومات كافرة خبيثة. وعلى كل مسلم أيضا ومسلمة أن يذب عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا سمع مسلم أحدا يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستهزئ به أو يتنقص منه بأي شكل من أشكال التنقص فلم يغضب لرسول الله ولم ينتصر له صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب ذلك الساب أو يسعى لدى ولي الأمر في معاقبته وفي سبيل إقامة الحكم الشرعي عليه , فإذا لم يفعل ذلك مع قدرته عليه فهو منافق معلوم النفاق مشكوك في إيمانه وإسلامه لأن الله تعالى يقول: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [المجادلة:22]. وقد بينا أن من معاني محادة الله ورسوله سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو التنقص من حقه أو الاستهزاء به.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فيا أهل الإيمان ويا أهل الإسلام يا أهل هذه المدينة المباركة لقد اشتد الكرب بإخواننا المستضعفين المنكوبين في البوسنة والهرسك أو في بورما أو في كشمير أو في غير ذلك من بقاع هذه الدنيا وليس لهم ذنب عند المعتدين إلا أنهم مسلمون يقولون ربنا الله لقد سفكت دماؤهم وانتهكت أعراضهم ومزقت حرماتهم وأخرجوا من ديارهم بغير حق فهم يهيمون على وجوههم لا ناصر لهم من الخلق , يمدون أيديهم إلى السماء يشتكون إلى الخالق سبحانه وتعالى فقد خذلهم الخلق أجمعون أما الكفار فلا عجب في ذلك أوربيون أو أمريكيون أو أمم متحدة أو غير متحدة لا عجب في أن يخذل الكافر المسلم, ولكن العجب كل العجب من المسلمين أجمعين يعدون أكثر من مليار بل ربما مليارين ومع ذلك وقفوا يتفرجون على إخوانهم عاجزين عن نصرة من أمرهم الله عز وجل بنصرتهم إذا استنصروهم في الدين. ولماذا عجزوا عن ذلك؟ الجواب على ذلك ذو شجون يوجهه كل واحد منا إلى نفسه يبحث عن جوابه سيجده واضحا كالشمس. ولكن المهم الآن وقد عجزنا عن إنجاد إخواننا بالرجال والسلاح والعتاد والقتال وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نقاتل من أجل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا. لقد خذلهم العالم الإسلامي قبل غيره وقف مكتوف اليدين يتفرج على أولئك المنكوبين من المسلمين لا يفعل شيئا لنصرتهم, فأقل الإيمان علينا الآن خوفا من أن يحل علينا غضب الله علي كل مسلم ومسلمة أن يواسي إخوانه المنكوبين في الإيمان والإسلام وأن يضمد جراحهم وأن يمدهم بما يحتاجون إليه وأن يؤوي أراملهم وأن يكفل أيتامهم علينا أن نواسيهم بما استطعنا بالمال وبغيره. هذا أقل الواجب على جميع المسلمين المتخاذلين العاجزين الذين لم يقوموا بأمر الله بنصرة إخوانهم في الدين.

فبادروا يا أيها المسلمون إلى الإنفاق في مواساة هؤلاء فإن الإنفاق والصدقة مما يطفئ غضب الرب ونحن قوم كثرت ذنوبنا وزادت معاصينا, فعلينا أن نبادر إلى استرضاء ربنا عز وجل بالتوبة من الذنوب والإقلاع عن المعاصي والإنفاق في أوجه الخير فإن الصدقة تطفئ غضب الرب(4)[1] كما روي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(5)[2]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

__________

(1) أخرجه عبد الرزاق (5/307) رقم (9705) وأحمد في الصارم والمسلول.

(2) أخرجه عبد الرزاق (5/237و307) برقم (9477و9704) من حديث ابن عباس.

(3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرهن باب رهن السلاح (2/887).

(4) أخرجه الترمذي برقم (664) وسنده ضعيف.

(5) أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306) رقم (408).

(1/456)

________________________________________

محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

-----------------------

قضايا في الاعتقاد

الصحابة

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة"ثناء الله ورسوله على الصحابة – من فضائل الصحابة – سبب هذه المكانة واجب من بعدهم نحوهم – النجاة في اتباع الصحابة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد أثنى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فاجتمع لهم ثناء الله تعالى في كتابه وثناء رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم , روى البخاري في صحيحه(1)[1] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)), في هذا الحديث يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بتعظيم أصحابه ومعرفة قدرهم وحقهم ويكفي لبيان منزلتهم أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بالصحبة وأضافهم إلى نفسه فقال أصحابي, فكيف وقد بين صلى الله عليه وسلم المنة العظمى في أعناق الأمة لأصحابه صلى الله عليه وسلم لذلك الرعيل الأول الذين حملوا الرسالة مع النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه حق الجهاد وأنفقوا في سبيل الله كل غالٍ ورخيص في أوقات بالغة الأهمية وفي مرحلة عظيمة القدر مع ضيق الحال وقلة ذات اليد , ومع ذلك رضوان الله عليهم أجمعين فقد تحملوا المشاق وكابدوا المتاعب في سبيل نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ولعظيم أثر تلك النصرة وعموم بركتها على سائر الأمة فان ما أنفقه واحد من أولئك الأصحاب الكرام مهما قل مقداره وحجمه فهو أعظم بركة وأثراً وثواباً عند الله تعالى مما ينفقه من جاء بعدهم مهما عظم حجمه وعظمت كميته , فمد من الطعام أو نصف مد أنفقه واحد من الصحابة الكرام في سبيل الله هو أعظم أثراً وبركة وثواباً عند الله من مثل جبل أحد ذهباً ينفقه من جاء بعدهم , عن عبد الله بن عمر(2)[2]رضي الله عنهما قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة-يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة" رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.

فعلى هذه الأمة أن تعرف قدر سادتها وأن تحفظ حق قادتها رعيلها الأول وصدرها المبجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يمثلون أفضل حقبة في تاريخ البشرية , في الصحيحين(3)[3] عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران رضي الله عنه: فلا أدرى أذكر قرنين بعده أم ثلاثة.

وقال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث: ((ثم إن من بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويكثر فيهم السمن)), القرن هم أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران لأن أهل كل زمان يقترنون في أعمارهم وفي أحوالهم والقرن أربعون سنة وقيل ثمانون وقيل مائة سنة وهو الأصح, فعلى شرار القرون أن يتأدبوا مع خير القرون, على أهل هذه الأزمنة الفاسدة التي كثر فيها الخبث وقلت فيها الأمانة وظهر فيها السمن وكبرت الكروش من الترف والنعمة والقعود عن الجهاد, على أهل هذه الأزمنة الفاسدة أن يعرفوا قدر أنفسهم وأن يبقوا على أحوالهم وأن يتقربوا إلى ربهم بحب سلفهم وصدرهم المبجل أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلنا ببركة هذا الحب وبركة هذا التبجيل والتعظيم لأولئك الأسلاف الكرام ندرك النجاة ونسلم من الخسف والنسخ, على حد قول الشاعر:

أحب الصالحين ولست منهم …و أرجو أن أنال بهم شفاعة

إن الأمة التي لا تحافظ على رموزها المبجلين ولا تحمي عرض سادتها الحقيقيين ولا تذب عن سادتها الحقيقيين عن صدرها الأول وعن رعيلها الأول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن أمة لا تعظم رموزها المقدسين المعظمين ولا تذب عن عرضهم ولا تحمى مقامهم لا تستحق الحياة.

وماذا يبقى لنا من كرامة وكيان وعقيدة ودين إذا سبوا سادتنا وأهانوا قادتنا وسلبوا قدوتنا رعيلنا الأول وصدرنا المبجل رضى الله عنهم أجمعين وأرضاهم, أيرضى أحدكم أن يسب أبوه أو يهان ابنه أو أخوه؟ أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليهوسلم  حقهم في أعناقنا أكبر من حق الأباء والأبناء والأخوان , أعظم من حق العشيرة والقبيلة, فكيف لا نغضب من أجلهم ؟ وكيف لا نذب عن عرضهم؟ وكيف لا نفديهم بأنفسنا وبكل ما نملك؟ إن هذه المسألة لا تتعلق فقط بأشخاص نحبهم ولا بأعيان نعظمهم إنما تتعلق بديننا وشريعتنا وعقيدتنا وقرآن ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فكل ذلك متعلق بالصحابة الكرام الذين نقلوه إلينا رضي الله عنهم وأرضاهم.

اللهم إنا نشهدك على حبهم, على حب أصحاب رسول الله وأنصار رسول الله وجند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم الله لرسوله وخليله ونبيه صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نشهدك على حبهم وحب من يحبهم ونشهدك على بغض من يبغضهم. نشهدك على بغض أعدائهم وخصومهم من منافقي هذه الأمة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فعن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه(4)[1].

قوله صلى الله عليه وسلم أمنة أي أمن وأمان فالنجوم إذا ذهبت وانكدرت وتناثرت يوم القيامة اختل نظام السماء فانفطرت وانشقت وذهبت وهكذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمن وأمان لأصحابه ما دام بين ظهرانيهم فلما ذهب صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى أتى الصحابة ما يوعدون ما أنذرهم به النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من الفتن وأول ذلك ارتداد العرب واختلاف قلوب الناس عليهم ولكن بحول الله تعالى وبقوته ثم ببركة قوة إيمان الصحابة وبعلمهم وبفقههم نجت الأمة من تلك الفتن الدهياء, انظر ماذا فعل أبو بكر الصديق بفتنة الردة وهي فتنة دهياء عظيمة فبعد وفاة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة, لم يبق إلا مكة والمدينة وقلة قليلة من غيرهم ثبتوا على الإسلام وارتد باقي العرب أجمعون فعزم الصديق عزمته الإيمانية الصديقية ووضع السيف في أعناق المرتدين حتى أعاد كل أولئك الشاردين إلى حظيرة الإسلام, فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا في حياتهم ماداموا علي قيد الحياة سداً منيعاً أمام الفتن عن الأمة وسداً منيعاً أمام البدع والضلالات الفكرية وقد كان بدأت بوادرها تظهر في عهد الخليفة عليّ رضي الله عنه وأرضاه فعالجها أبو السبطين بكل حزم وقوة, قتل الخوارج قتل عاد وثمود حتى أباد منهم يوم النهروان تسعة آلاف مارق كما أوصاه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم حرق السبئية أجداد الروافض بالنار وذلك أنه لما خرج يوماً من المسجد وجد أن بعض الناس يسجدون له فلما زجرهم وسألهم قالوا: أنت هو. قال: ومن هو. قالوا: الله. فجمعهم وحرقهم بالنار(5)[2]. وكانت بدعة القدرية قد بدأت تظهر في أخر عهد الصحابة(6)[3] فكبتها من بقى من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين فلم تتفشى في الأمة إلا بعد رحيلهم , بعد رحيل الصحابة تفشت البدع والضلالات في الأمة والتي لو انتشرت في أمة أخرى لذهبت وتلاشت وانهدم كيانها وأصبحت أثراً بعد عين وضاع دينها كما وقع للنصارى فالنصارى اليوم ليسوا على الدين الذي أنزل على عيسى ابن مريم بل هم على مجموعة من البدع والضلالات والخزعبلات التي دسها فيهم اليهود ولكن الله تبارك وتعالى وعد رسوله صلى اللهعليه وسلم  ببقاء هذه الأمة بقاء أمته إلى أن تقوم الساعة وجعل السبب الأول في بقائها هو بقاء دينها وحفظ قرأنها وشريعتها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم, تكفل الله بحفظ القرآن وحفظ السنة النبوية وببقاء المنهج منهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فمن انحرف عن هذه الثلاثة القرآن والسنة ومنهج الصحابة هلك مع الهالكين وما أكثرهم ومن تمسك بها فقد أدرك النجاة ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: ((وستفترق أمتي علي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا: وما هي يا رسول الله. قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي))(7)[4], فمن كان على المنهج متمسكاً بالقرآن والسنة فليبشر بالنجاة.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(8)[5]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

__________

(1) أخرجه البخاري في صحيحه في فضائل الصحابة باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا (3/1343).

(2) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/907) برقم (1729) وسنده صحيح.

(3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب فضل أصحاب النبي رضي الله عنهم (3/1335) ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (3/1964).

(4) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب بيان أن بقاء النبي أمان لأصحابه (4/1961).

(5) رواه البخاري في صحيحه (6/2537).

(6) اخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان (1/36).

(7) أخرجه الترمذي برقم (2641) والحاكم (1/218-219) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/99-100) وسنده ضعيف، وضعفه الترمذي والحاكم.

(8) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد (1/306).

(1/457)

________________________________________

محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم

-----------------------

الإيمان

خصال الإيمان

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

آل البيت وحق النبي – المراد ب (آل البيت) – وصية الرسول بهم – نساؤه من آل بيته الواجب لآل البيت – فضح المجوس وأفراخهم خطبة 2 : من آداب صلاة الجمعة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فمن حقوق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة آل بيته الطيبين الطاهرين وتعظيمهم وإكرامهم وتبجيلهم , لقد أثنى الله في كتابه عليهم فقال سبحانه وتعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33]. وآل رسول الله صلى الله عليه وسلم هم قرابته ممن حرم الصدقة وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وقيل تحرم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب وقال مالك رحمه الله: تحرم على بني هاشم فقط , فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هم هؤلاء وعلى رأسهم أهل الكساء فقد روي من أحاديث كثيرة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا حسناً وحسيناً وفاطمة وعلي فجمعهم تحت كساء له وقال: ((هؤلاء أهل بيتي, هؤلاء هم أحق))(1)[1]. ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته خيراً بأهل بيته فقال: ((أما بعد أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال صلى الله عليه وسلم: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)) رواه مسلم في صحيحه(2)[2].

وأزواجه صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات أمهات المؤمنين يدخلن في الآية بلا شك وهي قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33]. وكيف لا يدخلن فيها وهن سبب نزولها والخطاب لهن في السياق فقد بدأ السياق بالخطاب لهن يا نساء النبي ثم استمر الخطاب لهن حتى آخر هذه الآية التي أولها: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجز أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33]. ولا شك في أن زوجات الرجل يدخلن في أهل بيته وإنما جمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناً وحسيناً وفاطمة وعلياً تحت الكساء ليبين أن هؤلاء الأربعة أول أهل بيته وأولى أهل بيته بالتكريم , لم يرد صلى الله عليه وسلم الحصر وإلا فآله وقرابته كثير لم يدخلوا تحت الكساء ابن عمه عقيل ابن أبي طالب وعمه العباس وعمه الحارث بن عبد المطلب وعمته صفية وغيرهم من ذوي قرابته وآله صلى الله عليه وسلم لم يدخلوا تحت الكساء لما ذكرنا من أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد التنبيه إلي أن هؤلاء الأربعة أهل الكساء هم أولى آل بيته بالتكريم, فأزواجه الطاهرات المطهرات داخلات في أهل بيته صلى الله عليه وسلم فمحبتهن وتعظيمهن وتكريمهن وتبجيلهن واجب كتعظيم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكمحبتهم وكتعظيم أهل الكساء ومحبتهم.

أما آل بيته صلى الله عليه وسلم ممن جاؤوا من بعده وذرياتهم إلى يوم القيامة فإنما نحب المتقين منهم, نحب المؤمنين الذين تمسكوا بسنة جدهم وبهديه صلى الله عليه وسلم وتمسكوا بتوقير أزواجه وتمسكوا بتوقير أصحابه , أما من انحرف منهم عن ذلك عن سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم وهديه وعن القرآن الذي أنزل عليه أو أساء الأدب مع زوجاته الطاهرات أو مع أصحابه الكرام فلا والله لا نحبهم بل نبغضهم لأنهم ليسوا أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا من ذوي قرابته , إنهم أعدائه وإن كانوا من ذوي قرابته وهم في ذلك كسلفهم أبي لهب فقد كان من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً فهو عمه ومع ذلك فقد كان من أعدائه لأنه ناصب ما أنزل عليه العداء فلم يشفع به نسبه وتردت به عداوته, فأولياء النبي صلى الله عليه وسلم هم المتقون سواء كانوا من آله أو من غيرهم كما قال سبحانه: وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأنفال:234]. وعن أنس بن مالك(3)[3] رضى الله عنه سؤل رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم أولياؤك فقال: ((كل تقي)) وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: إن أولياؤه إلا المتقون . فمذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه كلهم لهم في أعناقنا حق المحبة وواجب التبجيل والتعظيم فقد كانوا شكلوا هيئة واحدة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مترابطة متآلفة متكاتفة متعاونة على الإيمان برسول الله وعلى محبته صلى الله عليه وسلم وعلى طاعته ونصرته ولكن المجوس دسوا في صفوف بعض المسلمين خرافة التفريق بين هذه الهيئة الواحدة المتآلفة محاولة من المجوس لهدم الإسلام في نفوس المسلمين بل هي محاولة خبيثة منهم لتشويه مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وصورته في نفوس المسلمين بمحاولتهم تصويره صلى الله عليه وسلم بصورة الرجل الفاشل الذي فشل علي حد قولهم في التأليف والتوفيق بين آله وبين أصحابه , بصورة الرجل الذي خانه زوجاته حاشاه صلى الله عليه وسلم والمقصود الخفي للمجوس وفروخ المجوس من تلك الخرافة هو تدمير الإسلام في نفوس أهله, والحق الأبلج الواضح الساطع لكل ذي عينين أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه الطاهرات وأصحابه الكرام كلهم كانوا متحابين متآلفين متآزرين متعاونين يتسابقون ويتفانون في محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإيمان به وفي طاعته وفي نصرته والله أعلم حيث يجعل رسالته , فكما اصطفى نبيه من بين سائر خلقه إذ كان أفضلهم فقد اصطفى لنبيه زوجات هن أحسن النساء يومئذ وأكرمهن واصطفى لنبيه جنداً وأصحاباً وأنصاراً هم أفضل الرجال يومئذ وأكملهم بعد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم , والله أعلم حيث يجعل رسالته وبدون ذلك كيف يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي أمانته ويبلغ رسالته دون زوجات صالحات قانتات يسكن إليهن ويعنّه على شؤون الحياة والبيت, وبدون أصحاب وجند وأنصار يذبون عنه وعن دعوته ويجاهدون بين يديه ويبلغون الأمة رسالاته صلى الله عليه وسلم, بدون ذلك كيف يمكنه أن يبلغ رسالته والله تعالى يقول له: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [الأنفال:64]. أي وحسبك من اتبعك من المؤمنين بنصرتهم لك وطاعتهم لك وجهادهم بين يديك وهذا هو أحد وجهي المعنى في الآية, والمعني الآخر وكلا الوجهان صحيح والله حسب من اتبعك من المؤمنين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فيا أيها المصلون إن من آداب صلاة الجمعة أن يبكر المصلي إليها فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المصلين على التبكير في المجيء إلى المسجد يوم الجمعة وبين ما في ذلك من الثواب العظيم والأجر الكبير, أما من تأخر في المجيء فإن عليه أن يحرص كل الحرص على أن لا يؤذي من سبقه من المصلين يجلس في أدنى مكان يجده ولا يجوز له أن يتخطى رقاب المصلين فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل أذى والأذى لا شك يترتب عليه الإثم والوزر فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يوم الجمعة يتخطى رقاب الناس قال له وهو على المنبر: ((اجلس يا هذا فقد آذيت))(4)[1].

كما أن من آداب صلاة الجمعة وواجباتها أن ينصت المصلي إلى الإمام وهو يخطب على المنبر لا يجوز له أن يشغل نفسه بغير ذلك ولا يجوز له أن يتحدث مع أحد أثناء الخطبة حتى لا يجوز له أن يقول لصاحبه أنصت فمن قال لصاحبه أنصت فقد لغا(5)[2] ومن لغا فقد ضيع الأجر والثواب وهو مهدد بالوزر والإثم. فكم من الناس يأتي يوم الجمعة ليكسب أجراً فإذا به يرجع وقد كسب وزراً وإثماً .فاتقوا الله أيها المصلون وحافظوا على صلاتكم وعلى آداب الصلاة يوم الجمعة , وقد بلغني أن بعض الحريصين على الخير ينهى الناس في هذا المسجد عن الصف بين السواري, لقد ثبت(6)[3]عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن معاوية(7)[4] بن قرة عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: كنا ننهى عن أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ثبت(8)[5] عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل الكعبة صلى بين الساريتين فقال الفقهاء إن النهي موجه للجماعة والإباحة للمنفرد وحملوا كذلك النهي على أنه عند السعة وأما عند الضيق فلا بأس بذلك. قال الفقيه المالكي ابن العربي صاحب أحكام القرآن لا خلاف بين الفقهاء على أنه يجوز ذلك عند الضيق وأنه يكره عند السعة للجماعة وأما المنفرد فلا بأس له بذلك فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين سواريها .

فنقول أنه بناء على ذلك لا ينبغي لأحد أن يشق على الناس فينهاهم عن أن يصفوا بين السواري وخاصة يوم الجمعة في مثل هذا المسجد لأن الضيق متحقق من كثرة المصلين ومن زحام ومن نحو ذلك.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(9)[6]، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

__________

(1) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/577-578) وفيالمسند (4/107) والحاكم (3/159) وغيرهما. والحديث صححه ابن حبان والحاكم.

(2) أخرجه مسلم في صحيحه في فضائل الصحابة باب من فضائل عليبن أبي طالب رضي الله عنه (4/1873).

(3) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (2/152) وسنده ضعيف جداً.

(4) أخرجه أبو داود (1118) وأحمد (4/188) والنسائي (3/103) وابن خزيمة (3/656) والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم.

(5) أخرجه البخاري في صحيحه في الجمعة باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب (1/316).

(6) أخرجه الترمذي (229) والنسائي (2/94) وأبو داود (673) وأحمد (3/131) وسنده صحيح.

(7) أخرجه ابن ماجة (1002) وابن خزيمة (1567) وابن حبان (2219).

(8) أخرجه البخاري في صحيحه (32) الحج باب الصلاة في الكعبة (2/580).

(9) أخرجه مسلم في صحيحه في الصلاة باب الصلاة على النبي في التشهد (1/306) (408).

(1/458)

________________________________________

استقلال الجزائر

-----------------------

سيرة وتاريخ

معارك وأحداث

-----------------------

محمد البشير الإبراهيمي

الجزائر

5/6/1382

كتشاوا

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- استَهَلّ ببيان سُنّة الله في نُصرة الحق وإزهاق الباطل 2- ثم دعا لشهداء الثورة ولغيرهم ممن أبلى في ذلك بلاءً حسناً 3- ثم ذكّر بنعمة الله العظيمة على الشعب الجزائري 4- مقارنة بين الأمس واليوم 5- عدوان الاستعمار على الجزائر 6- وظيفة المسجد 7- الاستعمار كالشيطان 8- نصيحة بالتعاون والتكافل 9- التحذير من الغرور 10- واجب النصح لولاة الأمور

-------------------------

الخطبة الأولى

ونستنزل من رحمات الله الصيبة، وصلواتها الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزة الإسلام كرامة الإنسان وحقوق الوطن.

واستمد من الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوا في هذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم.

وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة، ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة، ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينير السبيل وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام، وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.

ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.

ونحي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلها أوذينا.

أحييك يا مغنى الكمال بواجب وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي

يا أتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرر من كتابها.

وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد، وعاد إليه التوحيد فالتقيتم جميعا على قدر.

إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح، ويطفح على وجوهها البشر لتجسيم لذلك المعنى الجليل، وتعبير فصيح عنه، وهو أن المسجد عاد إلى الساجدين الركع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلا الله عادت لمستقرها منه كأن معناها دام مستقرا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارق العادات في هذه الثورة.

وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوا من غير تعب، وفيئة منه إلى الحق دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال.

يا معشر الجزائريين إذا عدت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين.

ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأن الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا تملك إلا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذاك الوقت، ولكنها نبهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب، وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق.

أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون ذلك غريبا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبا لأن في الإنسان عرقا نزاعا إلى الحيوانات وشيطانا نزاغا بالظلم، وطبعا من الجبلة الأولى ميالا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معا، والمؤلم المحزن معا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشر به عيسى روح الله وكلمته.

يا معشر المؤمنين إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية، فإن المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.

أيها المسلمون: إن الله ذم قوما فقال: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ومدح قوما فقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .

يا معشر الجزائريين، إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك))، فهو قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.

يا معشر الجزائريين: إن الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين، وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليتم وتنسى الأيم حرارة الثكل وينسى المشوه أنه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم.

يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديما ولا حديثا وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة.

إن حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوة، وانصحوها فيما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلا.

وفقكم الله جميعا، وأجرى الخير على أيديكم جميعا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غير متعاونين على الإثم والعدوان.

قال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/459)

________________________________________

قيمة كل إنسان ما يحسنه

-----------------------

التوحيد

الألوهية

-----------------------

محمد البشير الإبراهيمي

الجزائر

1/1/1348

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- قيمة الرجال تُقدّر بالعمال 2- الأعمال الجليلة نوعان 3- نصيحة عامة 4- فضل الجمعة

-------------------------

الخطبة الأولى

أيها الناس: إن يومكم هذا من الأيام المشهودة، وسمه دينكم بسمة هي الغرة اللائحة في جبين الأيام، وهي هذه الشعيرة التي تقيمون أركانها، وتجتمعون لأجلها.

فاحمدوا الله تعالى على الهداية، واسألوه أن تكون كل ساعة تأتي بعد ساعتكم هذه خيراً مما قبلها، وأن يكون اجتماعكم هذا فاتحة اجتماعات في الخير تنقضي مع العمر، تتآمرون فيها بالمعروف وتتناهون عن المنكر، وتتواصون بالحق وتتواصون بالصبر.

عباد الله: لو كانت كلمة الحكمة توازن بالذهب، أو تقدّر بالمال والنسب، لكانت كلمة علي بن أبي طالب هي تلك الكلمة، وفوقها قدراً وقيمة تلك الحكمة التي ثقفتها الفكرة العالية، ومحضتها الخبرة الراقية، وهي قوله – -: ((قيمة كل إنسان ما يحسنه)) بيّن لنا – رضي الله عنه – وهو مصدر البيان، وينبوع التبيان، أن الأعمار هي الأعمال؛ وبالإحسان فيها تتفاوت قيمة الرجال، وأن ذلك لا يرجع إلى وزن بميزان، ولا كيل بقفزان، وإنما هو عقل مفكّر، ولسان متذكّر، ومن لا عمل له، فلا عمر له، ومن لا أثر له في الدين يمتثل به أمر ربه، ولا أثر له في الدنيا تزدان به صحيفة كسبه، فوجوده عدم، وعُقباه ندم وحياته مسلوبة الاعتبار، وإن شارك الأحياء في الصفة والمميزات.

فاحرصوا، رحمكم الله، على أن تكون لحياتكم قيمة، واربأوا عن أن تكون في كفة النحس والهضيمة، واسعوا في الوصول بها إلى القيم الغالية، والحصول منها على الحصص العالية.

وأن الأعمال التي تجمل الحياة وتُغليها، وتقف بها في مستوى الإجلال وتحييها لا تعدو نوعين: وظائف العبادات التي هي سور الوحدانية، والعنوان الصادق على الإخلاص في العبودية، وهي أخف النوعين محملاً وأقربهما تحصيلاً وعملا، لأن الله لم يكلفكم من عبادته إلا باليسير، وشغل بها القليل من أوقاتكم وترك لكم الكثير.

والنوع الثاني السعي فيما تقوم به هذه الحياة الدنيا من الأعمال وتتوقف عليه عمارتها، وهذا يرجع إلى الدين بإخلاص النية، وتمحيض القصد للجري على حكمة الله وتأييد سنته الكونية.

جعلني الله وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكشف عن قلوبنا - لإدراك الحقائق – حجاب الغفلة والسنة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة من آمن به وأخلص توحيده، واعتمد عليه في كل أموره، فرجا وعده وخاف وعيده، ورفع أكف الابتهال والضراعة طالباً لطفه وتسديده، وفضله وتأييده، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله إتماما لنصاب العقيدة. وتنويهاً بمزاياه الحميدة، كما نصر الحق وأكثر عديده، وخذل الباطل وأبلى جديده، وتمّم مكارم الأخلاق بصفاته المجيدة وأقواله السديدة، وبعث آخر الأنبياء فكان لبنة التمام ورويّ القصيدة .

أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وحافظوا على حدوده في السر والنجوى، وامتثلوا أمر ربكم الذي أكسبكم به فخراً وتعظيماً، وهو قوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، واعلموا أن يومكم هذا خصّص للاجتماع والعبادة والحسنى والزيادة، فأقيموا القصد في التقرّب من بعضكم ودعوا الأحقاد والتباغض، وأسبلوا على ما فرط من بعضكم للبعض أذيال الستر والعفو، والزموا خلق الرضا والصفح، فكونوا عباد الله رحماء بينكم، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل ووقاني وإياكم شر مزالق الزلل.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .

(1/460)

________________________________________

من حكم العيد

-----------------------

فقه, قضايا في الاعتقاد

الاتباع, الذبائح والأطعمة

-----------------------

محمد البشير الإبراهيمي

الجزائر

10/12/1939

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- بعض حِكَم صلاة العيد 2- الترغيب في الأضحية 3- شروط الأضحية ومصرفها 4- رأس مال الدين تصحيح العقائد وتصحيح العبادات وتصحيح الأخلاق واتباع السّنة ونبذ البدع 5- الأمر بإخلاص العبادة لله وحده

-------------------------

الخطبة الأولى

الله أكبر! الله أكبر! عباد الله: إن هذا العيد من شعائر الإسلام العظيمة، وسنن الدين القويمة، شرع الله فيه هذه الصلاة لنجتمع بقلوبنا وأجسادنا، ونتعاطف ونتراحم ونتسامح ونتصافح، وتظهر الأخوة الإسلامية على حقيقتها، وشرع فيه الأضحية لنوسع فيها على العيال، وندخل الفرح على النساء والأطفال، ونتصدق منها على الفقراء والسُّؤّال، وبهذا يشترك المسلمون كلهم في هذا اليوم في السرور، ويتقارب الأغنياء والفقراء بالرحمة، وتتواصل أرواحهم وأجسادهم بالأخوّة والمحبّة، ويتذكرون جميعاً ما أتى به الدين الحنيف من خير وصلاح ومعروف وإحسان.

الله أكبر! عباد الله: إن سنة الأضحية مرغب فيها من نبينا من كل قادر عليها لا تجحف بحاله، ولما كانت قربة إلى الله فإنه يشترط فيها أن تكون كاملة الأجزاء، سليمة من العيوب لقوله تعالى في مقام الكمال: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، ولقوله تعالى في مقام الذم: ويجعلون لله ما يكرهون ، وقد كان نبينا يرغّب في التصدق من الحمها على الفقراء في أعوام المجاعة والفقر كعامنا هذا، وينهى عن الادخار في مثل هذه الأحوال، فاجمعوا أيها الناس – على سنة رسول الله – بين الأكل والصدقة على الفقراء، فإن الوقت وقت عسير، وإن عدد الفقراء – وهم إخوانكم – كثير..

عباد الله: إن هذه الشعيرة الدينية وأمثالها من الشعائر هي كالربح في التجارة، لا ينتظره التاجر إذا كان رأس المال سالماً، أما رأس المال في الدين فهو تصحيح العقائد، وتصحيح العبادات، وتصحيح الأخلاق الصالحة، واتباع سنة نبينا في كل ما فعل وترك، والمحافظة عليها والانتصار لها، ونبذ البدع المخالفة لها، ثم صرف الوقت الزائد على ذلك في الأعمال النافعة في الدنيا، فإن الله لا يرضى لعبده المؤمن أن يكون ذليلاً حقيراً، وإنما يرضى له بعد الإيمان الصحيح أن يكون عزيزاً شريفاً عاملاً لدينه ودنياه، معيناً لإخوانه على الخير، ناصحاً لهم، آخذاً بيد ضعيفهم، محسناً له بيده ولسانه وبجاهه وماله.

فصحّحوا عقائدكم في الله، واعلموا أنه واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، هو المتفرد بالخلق والرزق والإعطاء والمنع والضر والنفع.

فأخصلوا له الدعاء والعبادة، ولا تدعوا معه أحدا ولا من دونه أحداً، وطهّروا أنفسكم وعقولكم من هذه العقائد الباطلة الرائجة بين المسلمين اليوم، فإنها أهلكتهم وأضلّتهم عن سواء السبيل، وإياكم والبدع في الدين فإنها مفسدة له، وكل ما خالف السنة الثابتة عن نبينا فهو بدعة.

وصحّحوا عباداتكم بمعرفة أحكامها وشروطها ومعرفة ما هو مشروع وما هو غير مشروع، فإن الله تعالى لا يقبل منكم إلا ما شرعه لكم على لسان نبيه .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/461)

________________________________________

الاستجابة لنداء العلماء المصلحين

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

التربية والتزكية

-----------------------

محمد بن منصور

برج أم نايل

1/11/1354

محمد بن منصور

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- بيان سُنة الله في عباده ببعثة أئمة هداة دعاة يُجدّدون للناس أمر دينهم 2- أن الله عز وجل جعل لهؤلاء الدعاة الهداة أنصاراً أحراراً يشدّ بهم أزرهم ويُقوّي بهم ظهرهم 3- وجّه نداءً إلى المؤمنين بأن يجتهدوا في العمل الصالح وأن يَسْعَوا في اتخاذ الأسباب مع مراقبة تحقيق التوكل على الله عزّ وجل 4- ذكّر بوصية لقمان الحكيم لابنه وبيّن أهميتها 5- حضّ على التمسّك بالقرآن الكريم وتدبّر آياته 6- أوصى بالعناية بتزكية النفس وتطهيرها من الشرك والمعاصي والإكثار من الطاعات والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار

-------------------------

الخطبة الأولى

جرت سنة الله في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا أنهم كلما بعدوا عن الهدى وحادوا عن الصراط السوي لطول الأمد وقساوة القلوب بعث إليهم أئمة يهدون بأمره، ودعاة يدعون إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم، بالبراهين الساطعة، والحجج الدامغة، وجعل لهم في كل وقت أنصاراً، رجالا أحرارا، يعشقون الفضيلة، ويتباعدون عن الرذيلة، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تقهقرهم ملاكمة ملاكم، يشد الله بهم أزر الهداة، ويقوّي بهم ظهر الدعاة، ليزدادوا بذلك نشاطا إلى نشاطهم وقوة إلى قوتهم الموهوبة التي خلقها الله فيهم، وجعلها ممزوجة بلحومهم ودمائهم، لا تغيرها الحوادث، ولا تزعزعها الكوارث، بل تجدهم آناء الليل وأطراف النهار مثابرين على الدعوة إلى الله وإلى توحيده والمحبة فيه، بإظهار آياته الكونية الدالة على كمال قدرته، وعجائب صنعته، وواسع رحمته، تنبيها للقلوب الغافلة، والأفكار الراكدة، ولا عجب ولا بدع أن قيّض الله لأهل هذا العصر الحاضر رجالا من أهل العلم الصحيح أخذتهم الغيرة الدينية، والعاطفة القومية حين رأوا الناس في اضطراب شديد، واختلاف ما عليه من مزيد؛ شرّه متفاقم، وموجه متلاطم، فأسرعوا إلى تلافي هذا الخطر المحدث بكيان هذه الأمة المسكينة التي رميت من كل صوب بمصائب لو نزلت على الجبال لدكّتها دكّا، أو على الجمال لحثّتها حثّا، ونادوا بصوت واحد سمعه أهل القبور في قبورهم: ألا هبّوا أيها النائمون، تنبّهوا من منامكم، وقوموا على أقدامكم، فهذا وقت وعصرٌ تحرّك فيه كل شيء حتى الجماد، فكيف لا تستيقظون أيها العباد، فقام من نومه من قام، وهب ينفض عن نفسه التراب، ويقول: هل من توبة لمن تاب؟ فقيل له: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ الشورى: 25]، فقم الآن للعمل وتباعد عن داء الكسل، ونبّه من غفل، ولا تكن في الأمة عضوا أشلّ فقد ورد: ((إن الله يحب العبد المحترف، ويبغض العبد البطال)).

فاعمل اليوم لتفوز غدا، وتنجو من الهلاك والردى، وتعاط الأسباب، وتوكل على الملك الوهاب، ولا تتكل على عمل غيرك، ظنًا منك أنه ينجيك، أو يقرّبك إلى الله ويدنيك، هل رأيت أحدا صعد إلى سطح دار بغير سلّم؟ هل رأيت أحدا علم من غير أن يتعلّم؟ هل رأيت أحدا حصد ما لم يزرع؟ هل رأيت أحدا بأكل غيره يشبع؟ هل رأيت أحدا وُلد له من غير أن ينكح؟ هل يُعدّ الرجل صالحا من غير أن يصلِح؟ إن الله سبحانه وتعالى ربط المسببات بأسبابها، وأمرنا أن نأتي البيوت من أبوابها، فإذا فعلنا ذلك كنّا ممتثلين أمره راجين وعده، وكان وعده مفعولا، وفضله مأمولا.

وتذكّر أيها العاقل وصية لقمان الحكيم لابنه، فقد ذكرها الحكيم العليم في كتابه الكريم بقوله: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه.. [ لقمان: 13-14] إلى أن قال: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ّ [ لقمان: 15] ثم قال: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردك فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ لقمان: 16-17].

فلو تمسّك الناس بهذه الوصية لأفلحوا وفازوا بكل خير من خيري الدنيا والآخرة، ومهما تأمّل الإنسان في أي آية من آيات القرآن إلا وجدها جمعت فأوعت.

و الله لو قام به العباد لارتفعوا إلى السما و سادوا

لكنهم قد تركوا القرآن و طلبوا سواه حيث كان

فصار حظهم حضيض الجهل و كثرة القول بدون فعل

واختلط السقيم بالصحيح هل يجدْهم بيان من فصيح

عليك بالقول الصحيح يا فتى فهو الذي عن الصحابة أتى

و أخذ الأئمة الأعلام به على حسب ما يرام

ومخضوا الألفاظ مخضا فبدا لكل واحد طريق الاهتدا

فما أتى عنهم فذاك الدين دين الإله حبْله المتين

فلازم درسه و بادر للعمل وجد في الطلب واحذر الكسل

فعليك أيها العاقل بالعمل في هذه الدار التي هي دار عمل لا دار قعود وكسل، وامش ساعيا في مناكب الأرض وكل مما رزقك ربك، وأحسن إلى عباد الله كما أحسن إليك، ولا تبغ بنعمة الله الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين، قال عز وجل: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ الملك: 15]، وقال: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [ القصص: 77].

وأعلم أن الآخرة دار جزاء للعالمين، ولا يغرّنّك المغرورون فتترك طاعة ربك وتطيعهم، فإن من يبخل ويشحّ ولا تسمح له نفسه أن يدفع إليك اليوم درهما كيف يمنحك غدا جنّة واسعة الأطراف والمدى؟ فالجنة خلقها الله للعاملين الذين يقول لهم: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وأعد لهم عنده م لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، فالأعمال الحسنة جعلها الله سببا في تطهير النفوس وتزكيتها، والأعمال السيئة بضدّ ذلك: وما تعمل في هذه الدار تجده هنالك، فطهّر نفسك وزكّها بالأعمال الصالحة، قال الله عز وجل: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها أي نجا من الناس وفاز بالجنة من زكى نفسه وطهرها من الشرك والمعاصي، وكمّلها وصفّاها بالإيمان والأعمال الصالحة، وقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة من دسّاها أي دسّ نفسه ونقصها وأخفاها في ظلمات الشرك ودياجير الكفر والمعاصي، فإن الأعمال الصالحة تكميل للنفس، وتزكية لها، وضدّها نقصان وإخفاء لها، جعلني الله وإياكم ممّن أنار الإيمان مشكاة قلوبهم، وألان اليقين من لبّهم، فالتذوا بالطاعة، وعملوا بقدر الاستطاعة.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/462)

________________________________________

العلم سبيل النجاة

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

-----------------------

محمد بن منصور

الجزائر

5/6/1354

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- سعي الأمم إلى النهوض والرقي 2- غاية المسلم إقامة الدين ولا يتم ذلك إلا بالعلم 3- واجب نشر العلم 4- نداء للفقير والغني بأن يتقوا الله تعالى 5- الوصية بالاقتصاد في المعيشة 6- الوصية بالعلم والمسالمة

-------------------------

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بيده الملك والخلق والتدبير، وهو على كل شيء قدير، خلق الخلق، وتكفّل لهم بالرزق، وأمرهم بالسعي في طلبه، والتمسك بسببه، لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ويريد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تثمر في القلب اليقين، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تعاطوا أسباب النجاة فنجوا، وطلبوا العلو في الكمال فعلَوا.

أما بعد:

فإن كل أمة تأخرت، وعن إدراك ما فيه خيرها وصلاحها عجزت، تجدها لا يقر لها قرار، ولا تهدأ لها أفكار، بل هي آناء الليل وأطراف النهار، تتطلب ضالتها المنشودة، وجوهرتها المفقودة، إلى أن تصل إلى غايتها المطلوبة، ومسألتها المرغوبة، فإن وصلت إلى مناها، ونجحت في مسعاها، كان كل من ساعدها في سبيلها صديقا حميما. وإن شط به المزار، ومن تعرض لها [فهو] بعكس ذلك وإن عد في الجوار.

وإن غايتك المطلوبة، ومسألتك المرغوبة، أيها المسلم، هي أن تعرف ما أمرك به دينك وما نهاك عنه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم، والعلم لا تجده إلا عند العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، ورثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر.

العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء ورّاثه

ما خلّف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه و أثاثه

فخذوا عنهم العلم وكونوا خير آخذ، وعضوا على ما أخذتموه عنهم بالنواجذ، واعلموا أن العلم هو وسيلة لكل خير يطلب، ومغنطيسً لكل ما فيه مرغب، فعلموه أولادكم، وفلذة أكبادكم، فإنكم عنهم يوم القيامة مسؤولون، وعن إهمالهم مناقشون و من نوقش الحساب عذب.

ولا تقل أيها الفقير: " إني فقير"، إذ لا عذر لك في هذا التقصير، فإنا نراك تبذّر فيما لا يعنيك الشيء الكثير، الذي يكفيك في ضرورياتك وتعليم أبنائك، ونراك تؤثر الملاهي في المقاهي، وتركت فلاحة أرضك التي تصون بها ماء وجهك، وتذب بها عن عرضك، وأصبحت تشتغل بما لا يعنيك وعن طاعة ربك معرض، وإذا دعيت لأن تقرض ربك أقل شيء تأخرت ولم تقرض.

ويا أيها الغني، وأنت في الحقيقة مسكين، طالما دُعيت للتصدق فما تصدقت، وطالما دعيت لأن تقرض ربك فما أقرضت، وأكلت أموال الفقراء والمساكين، وكم طردت أجيرا ولم تعطه عرق الجبين، وإذا دُعيت إلى ما فيه صلاحك ونجاحك تصاممت عن قبول الحق، واسترضيت المخلوق وأغضبت رب الخلق، فهلاّ صالحت مولاك بشيء من دنياك، ونظرت في القرآن، ما أعد الله لأهل الإحسان، في دار الرضا والرضوان، وهلاّ قدمت من مالك، ما تجده هنالك، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا .

واعلموا [أيها المسلمون]: أن الاقتصاد أحسن شيء تمسّك به أهل الصلاح والسداد: وإنه خير معين على دفع عبء الدين، وأسهل وسيلة للغنى، لو كان به يعتنى، وقد أرشدنا إلى ذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى بقوله: ((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد)).

فعليكم بالاقتصاد، تبلغوا غاية المراد، وإياكم والتبذير، فإن ضرره خطير، وصاحبه بالفقر جدير، وقد نهى الله عنه، وجعل صاحبه من إخوان الشياطين، في قوله وهو أصدق القائلين: ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، ومما يحسن إنشاده في باب الاقتصاد، قول من أجاد وأفاد، إذ يقول:

ولما رأيت الدهر أنحت صروفه علي و أودت بالذخائر و العقد

حذفت فضول العيش حتى رددته إلى القوت خوفا أن أجيء إلى أحد

و قلت لنفسي أبشري و توكلي على قاسم الأرزاق والواحد الصمد

فإلا تكن عندي دراهم جمّة فعندي بحمد الله ما شئت من جلد

ألا إن لكل شيء أسبابا، وطرقا وأبوابا، منها لا من غيرها الوصول، ولا ينبغي عنها العدول، وإن الطريق الذي يوصل إلى كل شيء هو العلم، فاتخذوه سبيلا، واعتنوا بنشره وتعليمه، وتلقينه وتفهيمه، حتى تغوص في القلوب بشاشته، وتستولي على المشاعر حلاوته، فعند ذلك تؤتي شجرة العلم أكلها في كل وقت وحين، وعليكم بالمسالمة، والإعراض عن كل من يريد مشاغبة، فما خاب امرؤ جعل العلم دليلا، والمسالمة ظلا ومقيلا، إلا أن تهان كرامته، وتداس مسالمته، فعند ذلك لا يحسن الصبر، إذ لا صبر على الوقوف على الجمر، بل أهون من ذلك الاضطجاع في القبر.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/463)

________________________________________

دور العلماء في محاربة البدع

-----------------------

قضايا في الاعتقاد

البدع والمحدثات

-----------------------

محمد بن منصور

برج أم نايل

1/10/1354

محمد بن منصور

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- التذكير بنعمه العظيمة , ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل لهداية الناس إلى الصراط المستقيم 2- بيّن خطورة البدع , وانتشارها بين الناس في ذلك الزمان واستفحال أمرها 3- اختلّت الموازين فأصبحت هذه البدع سُنناً 4- نوّه بجهود العلماء المخلصين في محاربتها وإطفاء نارها 5- بيّن فضلهم ومنزلتهم , وأمر الناس بالرجوع إليهم وسؤالهم عن أمر دينهم 6- الأمر بتقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه , وأن ذلك هو الطريق إلى جنّات النعيم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فإن البدع قبل أن يفتح العلماء أفواههم لدفعها بالحجج، كانت كنار الجحيم تتأجج، وعمّ ضلالها الأقاليم، وما أحد قال فيها: هذا عذاب أليم، بل بعض يحبّذ ويحسّن، وبعض يقول: هذا أمر هيّن، حتى كثر شرّها وظهر ضرها، فقام العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حقا فتداركوا الأمر فأطفأوا بنور العلم نارها، وأزالوا بسيف الحجة عن الأمة عارها، وحاربوها في عقر دارها، واقتلعوها من أسّ جدارها، فذهب أهلها يعثرون في أثواب الخجل، ويلوكون ألسنة العجز والفشل، وشعارهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ، وطالما عد الناس هذه البدع سننا، وحسِبوا نقمتها عليهم مناًّ، إلى أن عم الفساد سائر البلاد، وتوصلوا بذلك إلى ما حرم الله، وصار كل يتبع ما يهواه، ووقعوا في حيرة بعدما عميت منهم البصيرة، ولا ملجأ من الله إلا إليه، ثم أنقذهم بهذه الطائفة التي أخبر بها صاحب الحوض والشفاعة بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)).

وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ))، وقد جاءكم وفد العلماء، فكونوا لوعظهم سامعين، واسأولهم عن أمر الدين، فالسؤال شفاء من داء الجهل، وقد رزقكم الله بنعمة عظيمة ألا وهي العقل، لتسألوا عن الدين حتى لا يغرّنكم إبليس اللعين، فقد قال خير من علّمه ربه وعلّم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ))، ((وإنما العلم بالتعلم ))، وإن العلم لا يذهب إلا بذهاب العلماء، وبقاء جهال الرؤساء، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ))، فشمّروا أيها المؤمنون عن ساعد الجد، تفوزوا مع الفائزين، وامتثلوا أمر ربكم، وانتهوا عما نهاكم عنه تكونوا من المتقين، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

-------------------------

الخطبة الثانية

(1/464)

________________________________________

الدين أساس التربية والتعليم

-----------------------

الأسرة والمجتمع

قضايا الأسرة

-----------------------

مصطفى بن حلوش

الجزائر

19/6/1354

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تفشّي الجهل في نساء المسلمين 2- الغربة التي يصنعها الغرب لدى أبناءنا تجاه أمّتهم حين دراستهم لعلومه 3- الانفصام الموجود بين الآباء والأبناء وذلك بسبب انعدام التعليم الديني العربي , وتوجّه الأبناء إلى التعليم المدني الإفرنجي 4- الدعوة إلى إقامة التعليم الديني للرجال والنساء

-------------------------

الخطبة الأولى

إن الذي يدخّن وينهى ولده عن التدخين ما أنصفه، وإن الذي يقامر ويضرب ولده على القمار أشهد أنه ظلمه، وإن الذي يكذب ويقول لولده لا تكذب فليعلم أنه غشه وما نصحه، وإن الذي لا يرغب في مطالعة الكتب واكتساب المعرفة لا يرغب أبناؤه في ذلك.

إلا لبواعث من غير جهته، وإن الذي يقضي أوقاته كلها في اللهو والمجون لا يأمن على أولاده أن يكونوا أمعن منه في اللهو والمجون.

إذا كان رب الدار بالطبل ضاربا فلا تلم الصبيان فيها على الرقص

[ثم اعلموا أيها المسلمون] قد يكون الرجل عفّا اليد، طاهر القلب، كريم الخلق، محبا في الخير، وغاباً عن الشر، ثم تشغله الشواغل فيترك أولاده لأنفسهم تعمل فيهم الظروف عملها، ولو كانت المرأة في مثل صلاح هذا الرجل، لما بقي الأولاد لأنفسهم بل لوجدوا من أمهم التي تجمع بين متانة الخلق، وصحة العقل، وحسن التربية، وبين الحنان والعطف خير كفيل يكفل، ومشير يشير.

ومن المؤسف المحزن [أيها المسلمون] أن تكون الأم وهي المدرسة الأولى جاهلة لا تعلم، وناقصة لا تكمل، وآسف من ذلك وأحزن أن يضاف إلى جهلها ونقصانها جهل الرجل ونقصانه، فتبقى مدرسة الأسرة عاطلة، لا من ناحية الرجل، ولا من ناحية المرأة.

وهذا هو السبب في الفرق الكبير الذي نراه بين الأبناء وآبائهم والأمهات وبناتهن، في الخلق والعمل وفهم الحياة.

فالابن الذي يتعلم تعلّماً إفرنجيا محضاً، يفنى في علمه، وينكر أكثر أو كل ما يتصل بقومه وأسرته، وتصير كل صفة خلقية أو عملية من صفاتهم نقصانا في حقه، فلا يجمل به وهو المتعلّم أن يتحلّى بها، أو يبدوَ منه حنانٌ إليها، وغايته الانسلاخ من قوميته، والاندماج في قومية غيره، وذلك شر ما نستعيذ بالله منه.

وإذا حنّ حنينه لقومه، وأراد أن ينفعهم بعلمه تعذّر عليه الوصول إلى قلوبهم، لأنه لا يعرف طريقها، وإلى مشاعرهم لأنه لا يُحسن سلوك السبيل إليها، إذ ليس عنده من دين القوم وآدابهم ولغتهم إلا الانتساب إليهم، ولهذا يندفع للعمل ثم لا يثبت إلا قليلا حتى يستولي عليه القنوط، ويستحوذ عليه الضجر، فيهجر العمل، ويتّهم الأمة ويستنقصها، وما كانت – والله- الأمة ناقصة بل هو الناقص الذي لم يدرك أن الأمة تسلسُ قيادُها لمن يقودها [بشعورها] لا بشعوره، ومن زمام قلبها لا من زمام قلبه.

وهذه هي الصفة التي نشكوها من قادتنا [أيها المسلمون] وهي التي لم يستطيعوا معها أن ينفعوا إلا قليلاً.

وذلك حال الابن الذي لم يجد في الأسرة مربياً ولا في المدرسة من ينشئه تنشئة خُلقية قومية، وفرقٌ بينه وبين من يتعلم تعلّماً عربيا قوميا صحيحا، فأخص مميزات هذا عن الأول أنه نشأ على خلق الصبر، واحتمال المكاره، وبُعد الأمل، وعظيم الرجاء، لأن دراسته العربية لا تخلو من اتصال بالدين، والدين [أيها المسلمون] لا يغني عنه كبر العقل، ولا سعة الفكر، ولا عظيم الخلُق.

لهذا يجب [علينا معاشر المسلمين] إن أردنا حياة هنيئة، وسعاد رضية، أن يكون الدين أساسا للتعليم، وأن يشمل الرجل والمرأة على السواء، وأن يكون التطبيق فيه أكثر من النظر.

[حتى ننقذ] شبابنا من براثن التفرنج والاندماج، و[حتى يفهموا] أن حاجة الحياة لا ينافيها الدين بل هو عليها أعظم معين.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/465)

________________________________________

ترشيد التبرعات والنفقات

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

الزكاة والصدقة, الزهد والورع

-----------------------

مبارك بن محمد الميلي

غير محددة

18/6/1354

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أهمية المال 2- السفهاء ومن المقصود بهم ؟ 3- أصحاب الطرق الذين استحوذوا على عقول الناس فأكلوا أموالهم بالباطل 4- الحث على التبرّع للجمعيات الموثوق بها التي تعمل على إعلاء كلمة الله تعالى 5- بيّن أن حب المال لا يُنافي الزهد المشروع وأن حب المال يكون مذموماً إذا كان حُبّاً جمّاً

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيتها الطائفة القائمة بالحق، الداعية إليه باللين والرفق، الناصرة له بالصبر والصدق، فلم يضرها بفضل الله من خالفها من الخلق، فقد قيل: المال قوام الأعمال. وقد نطق بذلك القرآن في آية: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما في قراءة غير نافع وابن عامر، قال البغوي في تفسيره لهذه القراءة: وأصله قواما فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهو ملاك الأمر وما يقوم به الأمر، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به، قال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وبه فكاك الرقاب من النار، وجعل ابن كثير في تفسيره من أنواع السفهاء من يكون سيء التصرف لنقص العقل أو الدين.

وقد ابتليت الأمة منذ دهر بأناس ناقصي العقل بالجهل والجمود والغرور، ناقصي الدين بترك الواجبات وفعل المحرمات ودعوى الخصوصيات، فأنفقوا من جهلهم على الأمة ما جعل جمهورها يأنس إلى الجهل وينفر من العلم، وأنفقوا عليها من جمودهم ما جعلها تسرع إلى قبول المحال لاعتيادها سماعه، وتبادر إلى إنكار الواجب الضروري لغرابته عندها وجدّته بزعمها، وأنفقوا عليها من غرورهم ما جعلها تطمئن إلى وعدهم، وتخشى وعيدهم، ولو كان وعدهم بنص القرآن وعيدا، ووعيدهم بنص الكتاب عند الله وعدا أكيدا، وأنفقوا عليها من نقصان دينهم ما جعلها تضيّع الصلوات وتقيم الأوراد، وتأتي بالمنكرات وتتكل على صلاح الشيوخ والأجداد، وهكذا سلبوا الأمة عقلها ودينها، وأفسدوا عليها آخرتها ودنياها.

هل ترون من هو أحق من هؤلاء بالسفاهة وأبعد في الضلالة؟ لا، لا أحق منهم بالسفاهة ولا أبعد منهم في الضلالة إلا من آتاه الله علماً فخدمهم به، ورزقه مالا فآتاهم إياه.

فاتقوا الله أيها العباد، وراجعوا طريق الرشاد، وانظروا لعاقبتكم بعين الحكمة والسداد، فلا تؤتوا أولئك السفهاء أموالكم التي تجهلون أمر مصيرها، ولا تمسكوها عن الجمعيات [الخيرية] التي تحاسبونها على قليلها وكثيرها.

وإن جمعية من الجمعيات التي تطلعكم كل عام على حسابها، وتدعوكم كل سنة إلى الاطلاع على دفتر ماليتها، وقد وثق العدو قبل الصديق بأمانتها المالية، وإن أقامت الضجة حولها مرارا نفوس من الخير خالية، وبالشر عامرة وإليه ساعية، لا تحمي دينها من الإهمال، ولا قوميتها من الإذلال، بل هي تشاغب رجال العمل، وتحاول أن تنزع ما للأمة فيهم من ثقة وأمل، فقولوا لها: شاهت الوجوه، وإنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه.

فأنا أوصيكم بحب المال، ولكن باعتباره وسيلة للسعادتين، وإنما ذم الله حب المال إذا كان حبا جماً يستولي على القلوب فيزيل منها الرحمة، وعلى العاطفة فيأخذ منها الرقة، وعلى المشاعر فينزع منها غريزة الميل إلى السمعة الحسنة.

وإن حب المال على ما أوصيناكم به هو عين الزهد الذي جاءت به شريعتنا، لا ذلك الزهد المكذوب، المتصوّر بالمقلوب، كأغلب تصوّراتنا الدينية والحيوية.

[وتنبّهوا يا عباد الله] وتنبه قارئ كتاب الحياة إلى أن المشاريع العامة تعتمد على عمارة القلوب، أكثر مما تعتمد على امتلاء الجيوب، فإذا عمرت القلوب بالخير، أنتجت من الآثار ما يدهش كل غير.

فسابقوا إلى إعانة [الجمعيات الخيرية] على تنفيذ برنامجها، وسارعوا إلى إمدادها بل ما تتأيد به على مقتضى إيمانكم بحسن برنامجها، لا على حسب ما ليتكم التي لم تضع الطبيعة حداً لها، وكونوا من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.

وأختم هذه [الخطبة] بآية عسى أن يرسخ معناها الصحيح في قلوبكم، فتظهر آثارها في أعمالكم، وتنقذوا أمتكم من تهلكتها بالاقتصاد في الإنفاق الخاص، وخفة البذل في الإنفاق العام، قال تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/466)

________________________________________

دور العلماء في الأمة

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

قضايا دعوية

-----------------------

فرحات بن الدراجي

الجزائر

5/6/1354

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- فضل الله على الأمة المحمدية ببقاء العلماء فيها 2- العلماء الربانيون وعلماء السوء 3- غاية كل مسلم هي خدمة الإسلام وإحياء اللغة العربية 4- واجب العلماء على الأمة 5- واجب العلماء على الأمة 6- منزلة العلماء من الأمة منزلة القلب من الجسد 7- جهود العلماء المشكورة

-------------------------

الخطبة الأولى

فإن من دلائل التوفيق لهذه الأمة التي طال جمودها، واستمر ركودها، أن يُوفّق علماؤها الذين هم خلاصتها وقادتها بحق إلى [دعوة الناس إلى الحق، وتجديد الدين فيهم] رغم ما يحيط [بهم] من عواصف وحروب.

ورغم ما يعترض [طريقهم] من عراقيل وعقبات، وإذا قلنا علماء الأمة في مثل هذا المقام وهذا الموقف، فإنما نعني به نوعا خاصا من العلماء نعني بهم الذين يعملون على ما يرضي الله ورسوله والعلم وأهله والوطن وواجبه.

نعني بهم الذين يقدسون مصلحة الأمة فوق كل مصلحة، ويضحون بأعز ما لديهم في سبيل إعلاء شأنها، ورفع مستواها بين الأمم الناهضة، والشعوب الراقية.

أما أولئك الذين كل همهم من الحياة أن يملأوا بطونهم وجيوبهم، وإن باءوا بغضب من الله، أولئك الذين يؤجرون على تعمية أمتهم وتجهليها وسوقها إلى حيث شقاؤها المؤبد، وتعاستها الدائمة.

فإن العلم والإسلام والإنسانية تبرأ إلى الله منهم ومن أعمالهم المروّعة.

[أيها المسلمون]:

إن غايتنا التي نسعى في الوصول إليها، وهدفنا الذي نرمي إليه، أن ننهض بالإسلام ونعمل على تنقيته مما ألصق به، ولن يكون ذلك إلا بالرجوع لأصوله الأولى ومصادره الصحيحة حتى يرجع إليه جماله وجلاله، وأن نعمل على إحياء لغة القرآن حتى يرجع إليها سالف مجدها، وغابر عزها وحتى تصبح منتشرة في المدن والقرى، وبين الأفراد والجماعات.

هذه هي الغاية التي لها نعمل ما دام فينا عرق ينبض، ولن يصدّنا عنها تهديد ولا وعيد، لنبرهن بأقوالنا وأعمالنا للذين يحاولون أو يعملون بالفعل على قطع كل صلة تربطنا بالإسلام الصحيح، والعربية الفصيحة، لنبرهن لهؤلاء أن الإسلام روح المسلم، والعربية لسانه، وليس في الإمكان أن يعيش إنسان بلا روح ومن غير لسان.

أيتها الأمة المسلمة:

إن لك على العلماء واجبا، وللعلماء عليك واجب.

فواجب العلماء عليك أن تجودي لهم بثقتك، وأن تكوني مطواعة لأمرهم، ذائدة عنهم، مخلصة لهم، مضحية بالنفس والمال إذا دعوك إلى التضحية، وأن تكوني ملبية لندائهم، واعتقدي دائما أنهم لا يدعونك إلا لما فيه صلاحك ورشدك.

وواجب الأمة على العلماء أن يخلصوا لها النصيحة، وأن لا يقصّروا في نشر العلم بين كبارها وصغارها، من أسهل الطرق وأيسرها، وأن يهيئوا لها الوسائل التي تجعلها في صف الأمم الراقية.

فالأمة بالعلماء، والعلماء بالأمة، كلاهما عضو عامل في بناء المجتمع، وكلاهما مسؤول فيما يجب عليه، غير أن المسؤولية على العلماء أكبر، والوزر عليهم أعظم، إذا هم قصّروا فيما عليهم، لأنهم المكلفون بنفخ روح العمل في الأمة وإعدادها لوسائل التقدم والنهوض، ولهذا كانت منزلتهم من الأمة منزلة القلب من الجسد، والعين من الإنسان.

[أيها المسلمون]:

إنه لجدير بنا أن ننوّه بما [للعلماء الربانيين والدعاة المصالحين] من خدمات للإسلام وأمته، والقرآن ولغته، فبنصائحهم الغالية، وإرشاداتهم السامية، أصبحت [الأمة] حريصة على تلقي العلوم الإسلامية، مقبلة على تعلم العربية، مُشْرئبّة إلى الإصلاح الديني، رغم اضطهاد العربية، والتضييق على رجالها.

وما هذا الانقلاب الفكري، والتطوّر العقلي، الذي أصبح مشاهدا ً ملموساً في [ الأمة إلا أثر من آثار هذه النهضة المباركة التي هي نتيجة جهودهم وآثار أعمالهم.

فإلى الأمام إلى الأمام أيها العلماء المخلصون، وإن الله في عونكم ما دمتم في عون الإسلام وأمته والقرآن ولغته.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/467)

________________________________________

نبذة من نبذ الإصلاح

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا دعوية

-----------------------

حمزة بكوشة

الجزائر

5/6/1354

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- ضرورة المخلوقات إلى الإصلاح حتى الجمادات منها 2- من هو المصلح 3- طريقة الإصلاح وأنها تكون باللين تارة , وبالشدة أخرى وذلك على حسب المدعو 4- نداء إلى العلماء والمصلحين والدعاة والمربّين حثّهم فيه على إيقاظ هذه الأمة النائمة وتعليمها وإصلاحها وذكّرهم بأن ذلك أمانة في أعناقهم

-------------------------

الخطبة الأولى

عباد الله: إن الإصلاح ضروري للمخلوقات في أطوارها التي تطرأ عليها بكرّ العصور، ومر الدهور، فالحديقة الغلباء، والروضة الغناء التي تصدح بها البلابل، وتخترقها الجداول، إذا ذهل البستاني عن إبارها، وتقليم أشجارها، تصبح خاوية كأن لم تغن بالأمس.

والقصر المشيد العامر بالسكان إذا انصدع جداره، وأهمل ترميمه، ينقلب أسفله أعلى، وقد يعجز ربه عن بنيانه فيضحى مأوى للبوم والغربان، وهكذا الأشياء التي لم يتداركها المصلح بإصلاحه إذا طال عليها الأمد، تهيج عليها جنود البلى من كل فج، فتمسي في حيز الفناء.

والمصلح أيها المسلمون من اعتنى بإصلاح نفسه قبل سواها، وطهّرها من أدران الإلحاد وزكاها.

المصلح من تحلَّى بالفضائل وتخلَّى عن الرذائل، وأنذر عشيرته وجيرته عملا بقوله تعالى للسيد الأعظم: وأنذر عشيرتك الأقربين .

المصلح أيها المسلمون من ثبت للعقبات التي تعترضه صباح مساء، وضحّى بماله ونفسه في سبيل مبدإٍ أشرب قلبه حبه، وعادى من عاداه، وأحب من أحبه، وبذلك يستطيع إيقاظ أمته من غفوة الجهل، وإنقاذها من كبوة الفساد.

عباد الله إن للإصلاح طرقا عدة، لا تندّ عن اللين والشدة، فاللين يحمد مع من يكون في هدايتهم رجاء، وهؤلاء في غالب الأمر يكونون من العامة التي لم تنكر الإصلاح لذاته، وإنما تنكره جهالة وتقليدا للقدماء من الآباء، ولقد أنزل المولى جل وعلا في الذين على شاكلة هؤلاء من الأمم الأولى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا .

وبما أن النفوس البشرية مجبولة على حب الذات، كان لزاما على المصلح إذا أوقض له بارق أملٍ في إصلاحها أن يلاينها لئلا تنفضّ من حوله، قال تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك .

أما الشدة يا عباد الله فلا تحسن إلا مع من أضله الله على علم، ومن هؤلاء كثير في أمتنا المسكينة التي نسجت عليها عناكب الجهل والتضليل، فضلّت عن سواء السبيل لولا أن تداركها الله ببعض [العلماء الهداة المصلحين، والدعاة الصادقين الذين] صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأرهقوا وأوذوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين.

الذين أضلهم الله على علم أيها المسلمون قوم يعرفون الحق وينكرونه، والإصلاح ويذرونه، للبانات في النفوس، كحب الرياسة وجلب الفلوس، يغفرفون هدي محمد كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، هؤلاء لا ينبغي للمصلح أن تأخذه بهم رأفة أو هوادة، وليقف أمامهم بعزم شديد، وليضرب على أيديهم بمقامع من حديد، عملابقوله تعالى: واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير .

أيها العلماء المصلحون، أيها الدعاة المربون، أيها المعلّمون المرشدون، إن أمتكم نائمة فأيقظوها، وجاهلة فعلموها، وفاسدة فأصلحوها بما تقتضيه القوانين السماوية، والنظم الاجتماعية، لتطرحوا عن عواتقكم تلك المسؤولية، ويالها من مسؤولية، إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/468)

________________________________________

سرّ الضحيّة

-----------------------

سيرة وتاريخ, فقه

الذبائح والأطعمة, القصص

-----------------------

عبد الحميد بن باديس

قسنطينة

10/12/1352

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- قصة الذبيح إسماعيل 2- مشروعية الأضحية والدعوة إليها 3- الحكمة من الأضحية : دُربة المسلم على التضحية والبذل لدينه

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فهذا يوم الحج الأكبر، والموسم الأشهر، جعله الله عيدا للمسلمين، وشرع فيه ما شرع من شعائر الدين، تزكية للنفوس، وتبصرة للعقول، وتحسينا للأعمال، وتذكيرا بعهد إمام الموحدين، وشيخ الأنبياء والمرسلين، إبراهيم الخليل عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين.

فقد كسر الأصنام، وحارب الوثنية، وحاجّ قومه وما كانوا يدعون من دون الله، وقام يدعو ربه وحده طارحا ما سواه، وحاجّ الملك الجبّار، حتى بهت الذين كفروا، وقذفوا به في النار، فما بالى بهم ولا بها، وثبت وصبر، حتى نجّاه الله، وجعل الذين أرادوا به كيدا هم الأخسرين.

وأوحى الله إليه بذبح ابنه فامتثل، واستشار ابنه إسماعيل فأجاب وقبل، فطرحه للذبح، وأسلما لله في القصد والعمل، ففداه الله بذبح عظيم، وترك عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، وأبقى سنة الضحيّة في الملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية تذكارا بهذا العمل العظيم، والإسلام الصادق لرب العالمين، ليتعلم المسلمون التضحية لله بالنفس والنفيس، وليعلموا أن المسلم من صدق قولَه فعلُه، ومن إذا جاء أمر الله كان لله كلُّه.

فتدبروا أيها المسلمون في هذا السر العظيم، ومرّنوا أنفسكم على الأضحية في كل وقت في سبيل الخير العام بما تستطيعون، ولاتنقطعوا عن التضحية ولو ببذل القليل، حتى تصير التضحية خلقا فيكم في كل حين، واجعلوا قصة هذا النبي الجليل نصب أعينكم، وتدبروا دائما ما قصّه الله منها في القرآن العظيم عليكم، وأحيوا هذه السنة ما استطعتم، وأسلموا لله رب العالمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين .

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/469)

________________________________________

الدين النصيحة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

مصطفى بن سعيد إيتيم

المدينة المنورة

6/2/1416

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية النصيحة ومنزلتها العظيمة في الدين – بيان معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم – زجر من استبدل النصيحة بالفضيحة – إرشاد الناصح إلى أن يبدأ بنفسه

-------------------------

الخطبة الأولى

أيها الناس :

إن الله تعالى قد كتب عليكم الذنب والخطيئة، وجبر ذلك بأن شرع لكم الإصلاح والنصيحة، فالحمد لله الذي جعل الأخ مرآة لأخيه، ينظر من خلالها إلى أخطائه ومساويه، فيصلح من حاله، ويحسن من شأنه، فلا عجب بعد ذلك أن تشتمل النصيحة على جميع خصال الإسلام والإيمان والإحسان. روى مسلم في صحيحه عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) .

فهل شيء أدل على عِظم النصيحة بعد حصر الدين كله فيها؟ ثم إن النبي جعلها من الحقوق الواجبة بين المسلمين، وذلك في قوله: ((وإذا استنصحك فانصح له))، وكان الصحابة رضي الله عنهم يبايعون رسول الله عليها، فعن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.

ثم اعلموا – رحمكم الله – أن للنصيحة مفهوما واسعا، كما بين ذلك الصادق المصدوق .

فإن من النصيحة النصح لله تعالى وذلك بتوحيده، وإخلاص الدين له، ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، وتسبيحه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، والقيام بطاعته ومحابه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه ، والحب فيه والبغض فيه.

وإن من النصيحة النصح لكتاب الله تعالى ، وذلك بالإيمان به ، بأنه كلام الله المنزل على قلب محمد غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، حفظه الله في الصدور والسطور ، وبتلاوته حق التلاوة ، والوقوف مع أوامره ونواهيه وتفهّم علومه وأمثاله ، وتدبّر آياته ، ودفع تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عنه.

وإن من النصيحة النصح لرسول الله وذلك بالإيمان به ، وبما جاء به ، وتوقيره وتبجيله والتمسك بسنته ، وإحيائها بين الناس والتحاكم إليها ، وبمعاداة من عاداه وآذاه في أهله وأصحابه وبالتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه.

وإن من النصيحة النصح لأئمة المسلمين وذلك بمعاونتهم على الحق ، وطاعتهم في المعروف، وجمع الشمل عليهم ، وإسداء النصح لهم ، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد ، ومجانبة الوثوب عليهم.

وإن من النصيحة النصح لعامة المسلمين ، وذلك بإرشادهم إلى مصالحهم وتعليمهم أمور دينهم، وستر عوراتهم وسدّ خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم ، والذب عن أعراضهم ، ومجانبة الغش والحسد لهم.

وعجبا ثم عجبا لقوم تركوا هذا الركن الركين والأساس المتين ، فراحوا يتفكهون بأخطاء إخوانهم ، ويتمتعون بأعراض أقرانهم ، أسلموا هم من العيوب والخطايا؟ أم تصحّف الحديث عندهم فصار : الدين النميمة والغيبة والفضيحة؟ ألم يعلموا أن من تتبّع عورات المسلمين تتبع الله عوراته ، وفضحه ولو كان في جوف بيته ؟ ألا فليتق الله من ابتلى بشيء من ذلك ، وليتق الله في إخوانه ، فإذا رأى من أخيه ما يكره فلينصح له في السر ، وليخلص في النصيحة ، فإنه لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه من الخير.

ثم عليك أيها الناصح أن تبدأ بنفسك ، فتحملها على معالي الأمور.

فإنك إذا ما تأت ما أنت آمر به تُلف من إياه تأمر آتيا

واعلم أن الدين ثقيل متين ، وأن الأمانة عظيمة كبيرة ، أبت حملها السموات الواسعات ، والأرضون الشاسعات ، والجبال الشامخات الراسيات ، وحملها الإنسان لظلمه العنيد ، وجهله الشديد.

أيها الدعاة إلى الله، أيها الناصحون، أيها المرشدون، أيها المربون، لقد تولّيتم أمرا عظيما جللا، لا يجامع مللا، ولا يقبل منكم كسلا ولا كللا، ولا يغفر الناس لكم فيه زللا، الصغائر فيه كبائر، والكبائر فيه مجازر ومقابر، على حد قول الشاعر.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/470)

________________________________________

أحوال العبد والواجب عليه في كل حال – منكرات الأفراح والأتراح

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

أخلاق عامة, التوبة

-----------------------

مصطفى بن سعيد إيتيم

بني مسوس

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الأحوال التي يعيشها كل إنسان ثلاثٌ لا ينفك عنها أبداً .2- فإما أن يكون في نعمة وواجبه فيها الشكر . 3- وإما أن يكون في محنة ومصيبة وواجبه فيها الصبر. 4- وإما أن يكون في معصية وذنب وواجبه فيها التوبة والاستغفار . 5- بيان معنى الشكر 6- شروط التوبة

-------------------------

الخطبة الأولى

أيها المسلمون:

إنه ليس فيكم أحد إلا وله مقام معلوم في أموره وأحواله، ومكان مرسوم في أقواله وأفعاله، وإنها – والله – أطباق ثلاثة، لا ينفصل عبدُ من عباد الله عنها، ولا ينفصم منها.

فنحن دائمو التقلّب بين هذه الأطباق، والتحوّل من طبق إلى طبق، فتنةً من الله واختبارا، وابتلاءً وامتحانا ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم .

عباد الله:

أما الطبق الأول، فهو نعم من الرحمن الرحيم تترى علينا باستمرار، وتترادف آناء الليل وأطراف النهار، لا يأتي عليها الإحصاء والحصر، ولا يبلغها الإحسان والشكر، قال الله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار ، وقال أيضا: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضر فإليه تجأرون ، نِعم في المآكل والمشارب، والمراكب والمناكح، والمساكن والمرافق، والزينة والملابس، والصحة والعافية، والعقل والرشد، والسمع والبصر، وغير ذلك، وأتم هذه النعم وأعظمها على الإطلاق نعمة الإسلام والسنة، والهداية والاستقامة، فنجاة العبد بها مأمون، وصلاح دنياه وآخرته بها مرهون، فمن أدى الأمانة فاز وغنم، ومن ضيّعها خاب وندم، ولا يلومنّ المنذَر إلا نفسه.

وأما الطبق الثاني - يا عباد الله - فهو محنُ من الله عز وجل يبتلي بها عباده ويمحّصهم بها، مِحنُ في الأرزاق والأموال، ومحن في الأهل والأولاد، ومحن في الأنفس والأبدان، ومحن في غير ذلك. قال تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين ، وقال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب .

وقال تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين .

وإن أعظم المصائب، وأخطر المعايب، المصيبة في الدين، فمن أصيب في دينه بشرك أو بدعة أو كبيرة فقد ضاع من دينه ودنياه بقدر ما أصيب. وأما من أصيب في دنياه بخوف أو جوع أو فقر أو غير ذلك فقد نقص من دنياه ما كتب له، ثم إن هو صبر ورضي عوّضه الله خيرا منه في الأولى والآخرة، وأحسن عاقبته في الأمور كلها، وإن هو جزع وسخط جرى عليه القدر وهو راغم، وفاته من الأجر والمثوبة الشيء الكثير إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب .

وأما الطبق الثالث فهو - يا عبد الله - ذنوبك ومعاصيك، وشرور نفسك وسيئات أعمالك، فإنه مهما تحصّن العبد واحترز، وتورّع واحترس فلا بد أن يوقعه الشيطان الرجيم في شيء من ذلك، لأن العبد قد بُلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخول الشيطان عليه من هذه الأبواب الثلاثة، قال تعالى: ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ، وقال تعالى: ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . وقال الصادق المصدوق : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوّابون)).

واعلموا أن أعظم الذنوب الشرك بالله تعالى، وله صور شتى وشعب عديدة، فمن علّق تميمة فقد أشرك، ومن جعل على بيته عجلة أو شوكا أو شيئا يزعم دفع العين به فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، لا يقبل منه صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا حجّا، قال الله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، وقال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما .

ثم اعلموا أيها المسلمون أن عليكم في كل طبق من هذه الأطباق واجبا تؤدونه، ولله عليكم فيه حق توفّونه، فواجبكم وحق الله عليكم في طبق النعم أن تشكروه ولا تكفروه، وأن تعرفوا فضله ولا تنكروه، ولا يتم شكرُ الله تعالى المغدِق علينا بالنعم، والمربّي لنا بجزيل العطايا وعظيم المنن، حتى نعترف بنعمه باطنا، ونتحدث بها ظاهرا، ونصرفها في مرضاته تعالى.

فإن العبد المسلم إذا اعترف قلبه بأن ما به من نعمة فمن الله، وتحدث بها لسان قاله بالحمد، ولسان حاله بظهور الأثر، وصرفتها جوارحه في طاعة الله تعالى، فقد قارب شكره ولن يبلغه، فإن نعم الله تعالى أكثر من أن تحصر، وأكبر من تشكر إلا ما أعان الله عليه، ووفّق إليه.

قال الشاعر:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر

أيها المسلم: إن واجبك وحق الله عليك في طبق المحن أن تصبر وأن ترضى بقضاء الله عز وجل وقدره، واعلم أن الصبر هو حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعاصي كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعر فإن ذلك من أمور الجاهلية، فإذا رضي قلبك بقضاء الله ولم يسخط، ولم يشكُ لسانك لغير الله تعالى، واطمأنت جوارحك واستقامت، كنت من الصابرين الذين تنقلب المحنة في حقّهم منحة، وتستحيل البلية عندهم عطية، ويصير المكروه لديهم محبوبا.

وواجبك يا عبد الله وحق الله عليك في طبق الذنوب والمعاصي أن تستغفره وتتوب إليه، فإن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويفرح بها، ويعفو عن السيئات وهو أرحم الراحمين.

وللتوبة شروط يجب أن تراعى فأولها: الإخلاص لله تعالى، وثانيها: الإقلاع عن الذنب، وثالثها: العزم على عدم العودة، ورابعها: الندم على ما فات، وخامسها: أن تكون في الوقت الذي تقبل فيه أي قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل الغرغرة، وسادسها: رد الحقوق إلى أصحابها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

أيها المسلمون: لقد أشار نبينا إلى تلك الأطباق الثلاثة وواجب العبد فيها، وذلك في خطبة الحاجة التي كان يعلمها أصحابه رضي الله عنهم، فكان يقول في مطلعها: ((الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره)) فالحمد على العطايا والنعم، والاستعانة على البلايا والمحن، والاستغفار من الذنوب والنقم.

إلا أن كثيرا من الناس يخل بهذه الواجبات إما بنوع شبهة وإما بنوع شهوة.

وأنا ضارب لكم مثالين شائعين منتشرين في المجتمع انتشارا ظاهرا، وهما الأفراح والأقراح.

فإن من أعظم نعم الله الكونية والشرعية نعمة الزواج، وكثير من الناس لا يؤدي شكرها بل يبدلها كفرا والعياذ بالله تعالى، وذلك بمعصية الله تعالى بها.

فأنتم يا عباد الله تشاهدون بأعينكم، وتسمعون بآذانكم ما تشتمل عليه الأفراح اليوم من المعاصي، بل من الكبائر بل من الجهر بالكبائر، ومحاربة الله ورسوله بها.

فالأفراح اليوم لا يدعى إليها إلا الأغنياء وأصحاب السيارات الفارهة والمراكب الهنيئة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سوء النية وخبث الطوية، وكان الأولى أن يكون أول من يدعى إليها هم الفقراء والمساكين، الذين لا يجدون ما يطعمون به أنفسهم وذويهم، خاصة في مثل هذا الزمان العصيب.

والأفراح اليوم أول من يدعى إليها أهل المجون والفساد الذين واكبوا العصر، وسايروا التقدم في زعم الزاعمين، والواجب أن يجعل المسلم معياره في ذلك هو الصلاح، صلاح الدين والخلق، فيدعو إلى فرحه أول ما يدعو من يثق بدينه وخلقه وأمانته، من أهل الصلاة والزكاة، ومن أهل البر والتقوى، ومن أهل الحياء والصدق والخلق الحميد، أما المحاربون لله ورسوله بترك الصلاة والزكاة فلا خير فيهم، ولا يرجى منهم خير ما لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، لأن من أضاع الصلاة والزكاة فهو لغيرها من حقوق الله وحقوق عباده أضيع وأضيع.

ومن المعاصي العظيمة أيضا في هذه الأفراح الغناء، فهل يكون شاكرا لله تعالى من أقام فرحه على الغناء الذي دل على تحريمه الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، والنظر الصحيح؟ وهل يكون شاكرا لله تعالى من آذى جيرانه وأهل حيّه بهذا الغناء الماجن؟ أم كيف يكون شاكرا لله تعالى من بذّر ماله وأفنى وقته في هذا الغناء الفاسد؟

ومن المعاصي العظيمة أيضا - يا عباد الله - في هذه الأفراح الاختلاط، اختلاط الرجال بالنساء الذي يدل على قلة الغيرة، وضعف الرجولة، وغلبة النساء وفساد الدين، وتصوروا معي - معاشر المسلمين - تصوروا معي كم يحصل من جراء ذلك من المفاسد الكبيرة، فالمناسبة مناسبة عرس، والحديث كله منصب على موضوع الزواج، والنشوة نشوة فرح، والحاضرون في أحسن الثياب، وأبهى الزينة، وأزكى الرائحة، وقد توفر من الأسباب ما يهيّج الشهوة، ويثير الغريزة من مأكل ومشرب وسماع لغناء ماجن، فكيف تكون - يا أولي الألباب - النتيجة إذا اختلط الرجال والنساء صغارا وكبارا في مثل هذه المناسبة ومثل هذا الظرف؟

ولا يفوتني - معاشر المسلمين - أن أنبهكم إلى أن من المعاصي المنتشرة كذلك في هذه الأفراح التصوير، فاعلموا – رحمكم الله – أنه من كبائر الذنوب، وقد توعد الله عليه بالنار، أسأل الله لي ولكم السلامة والعافية.

وكيف يسوّغ عاقل غيورٌ على محارمه وعوراته أن تؤخذ صور محارمه، صور أخواته وبناته وزوجاته وأمهاته؟

أولا يخشى أن تصير هذه الصور إلى أيدي الذئاب الذين يتمتعون بالنظر إلى محارم الله تعالى.

فالحذر الحذر أيها المسلمون، واتقوا الله في أفراحكم، فإن الزواج الذي يتم بمعصية الله تعالى لا يبارك الله فيه إلا ما رحم.

وأما المثال الثاني فهو المآتم والأتراح، فإن من أعظم المصائب الكونية التي يصاب بها العبد مصيبة الموت، وواجبه فيها كما سبق بيانه هو الصبر، ولكن يدخل الخلل على كثير من الناس في هذا الواجب، إما بسخط القلب، وهذا أكثره في الرجال، وإما بشكوى اللسان وانطلاقه بالصياح والصراخ، واسترسال الجوارح في لطم الخدود، وشق الثياب والجيوب، وهذا أكثره في النساء، فمن فعل شيئا من ذلك فليس بصابر، وفاته أجر الصابرين، ولحقه وزر الساخطين على ربهم وخالقهم.

أسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الصالحين، الذين إذا أنعم عليهم شكروا، وإذا ابتلاهم صبروا، وإذا أذنبوا استغفروا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

(1/471)

________________________________________

احترام المعلّمين

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

التربية والتزكية, العلم الشرعي

-----------------------

حسين الأعمش

متليلي

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الدعوة لاحترام المعلّم وإجلاله 2- التواضع للمعلم 3- حق العالم

-------------------------

الخطبة الأولى

ثم أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

لاشك في أن كل واحد منا يسعى جهده من أجل أن ينجح ابنه ويفرح به متعلما مجتهدا، وعالماً مرموقاً، ويناله الكمد والحزن، إن لم يسعفه القدر، ولفظته مقاعد الدرس، هذا أمر طبيعي وتصرف راشد، لكن كان ينبغي أن نبدأ من البداية، حتى نوفر – بإذن الله – للنهاية السعيدة أسبابها المعقولة وأول ما ينبغي – في اعتقادي – تعويد التلاميذ والأبناء عليه، احترام معلمهم، وتوقيره، والقيام بحقه لا سيما إذا كان هذا المعلم صالحاً فاضلاً، هذا السلوك مبدأ إسلامي ثابت أكده نص الشرع وثبته، جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في أوسطه: ((تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلموا منه )). فالتكبر على المعلم خلق لئيم، لا يمكن للمتعلم معه أن ينجح أو يفلح؛ وإلاستخفاف بالمعلم والاستهزاء به واحتقاره من خصال المنافقين – والعياذ بالله – جاء في الحديث الذي رواه البطراني كذلك في كبيره: ((ثلاث لا يستخف بهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط)).

أيها المسلمون:

إن التواضع للمعلم باب من أبواب الفلاح، وسبب من أسباب التحصيل، هكذا يربينا الإسلام، وهكذا يرشدنا، وهو حق من حقوق المعلم على المتعلم، وعلى المجتمع كله أداء هذا الواجب إزاء العالم، أما إن قهر المعلم العالم، وهمش وأخر، فذلك لا يكون إلا في زمان ملعون أو في مكان ملعون وقد استعاذ النبي من زمان لا يحترم فيه المعلم، ودعا الله أن لا يدركه مثل هذا الزمان الذي يقع فيه مثل هذا المنكر؟ روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد الساعدي: أن الرسول قال: ((اللهم لا يدركني زمان لا يتبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم)). وتأملوا – يرحكم الله – تواضع سيدنا موسى – وهو نبي من أولي العزم – عليهم السلام مع معلمه الخضر عليه السلام كما قص القرآن الكريم علينا في سورة الكهف: قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً وهكذا هو سمت المتعلم، أن يعلم أن ذلّه لمعلمه هو عزّ له، وأن خضوعه فخر، وأن تواضعه رفعة، ورحم الله الشافعي القائل:

أهين لهم نفسي فهم يكرمونها ولن تكرم النفس التي لا تهينها

وقال أبو حامد الغزالي – رحمه الله -: لا يُنال العلم إلا بالتواضع.

وعلى هذا فقد قرر العلماء آداباً للمتعلم، منها ألا ينادي معلماً إلا نداء مقروناً بما يشعر بالاحترام والإجلال: كنداء سيدي أو يا معلمي، أو يا شيخي، أو يا أستاذي، ورحم الله شوقي حين يقول :

أعلمت أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفسناً وعقولا

أيها المسلمون:

نؤكد على هذا لأننا سمعنا عن بعض منا يهينون المعلمين أمام أبنائهم، ويحتقرونهم، وربما يسبونهم، ويلحقون به كل المعايب ثم بعد ذلك ينتظر هؤلاء الآباء نجاحاً لأبنائهم، إن هذا لن يكون أبداً وقديما قال الشاعر:

إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرما

فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه واصبر لجهلك إن جوفت معلما

أقول قولي هذا وأستغفر الله الكريم العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويزيد، سبحانه لا أحصي ثناءُ عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

مما قاله علي رضي الله عنه في تبيان حق العالم على المتعلم، في وصية جامعة مانعة: ((ومن حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيديك، ولا تغمز بعينيك غيره، ولا تقولن قال فلانٌ خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، عليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسارر أحداً في مجلسه، ولا تأخذه بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر أن يسقط عليك منها شيء)).

رضي الله عن الإمام، لقد جمع في وصيته هذه ما فيه الكافية وما يشفي به الغليل، فهل نحن واعون.

اللهم احفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين، اللهم إننا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، اللهم إنا نعوذ بك من المأثم والمغرم، وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

(1/472)

________________________________________

الأخوة الإسلامية

-----------------------

الإيمان

الولاء والبراء

-----------------------

حسين الأعمش

متليلي

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الأخوة من شعائر الإسلام 2- مفهوم الأخوة الإسلامية 3- اختيار الأخ الصالح 4- التحذير من تضييع الإخوان 5- الإحساس بالفقراء والمساكين من لوازم الأخوة 6- مثال للأخوة عند السلف

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

إن الأمة الإسلامية لا يلتئم شملها، ولا يستقيم حالها إلا إذا نظر كل واحد إلى نفسه أنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن سعادة الجميع، ولن يتأتى ذلك حقاً إلا إذا نبذ الأنانية وانتزعها من قلبه وشعر بحواسه أنه المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا)) إن الأخوة جعلها الله شعار المسلمين، إنما المؤمنون إخوة بهذا الأسلوب القوي وهو أسلوب الحصر، وكأن المستفاد من الآية أنه لا يمكن أن يكون المسلم سوى أخٍ للمسلم، هذا الشعار وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).

أيها المسلمون:

ليست الأخوة شعاراً يرفع، بل هي سلوك ينتظم الحياة، ألخصه في أن المسلم يسعى جاداً إلى إفادة غيره، تصوروا – ونحن في موسم الهجرة – ذلك الاستقبال الرائع المثالي الذي أولاه الأنصار – رضي الله عنهم – للمهاجرين، حين خلع كل أنصاري رداء الأنانية عن نفسه، وألقاه جانبا، وضرب مثلا في السمو والرفعة لم يعرف له التاريخ مثلا في القديم ولا في الحديث ولن يعرفه حتى يرث الله الأرض ومن عليها تنازل الأنصاري عن جزء من ماله وما يملك لأخيه المهاجر، بل رضي أن يطلق زوجته – إن كانت له أخرى – ليتزوجها المهاجر بدينه بعد انقضاء عدتها، إنها أخوة الروح قبل أن تكون أخوة الجسد عدّها الله نعمة من جلائل النعم.

أيها المسلم:

إنه لابد لك في هذه الحياة من أخ تبثه شكواك، ويعينك على بلواك، فأختره أخاً لك من أهل الدين والعلم والصدق والمروءة من مثل الذين عناهم الشاعر الحكيم بقوله :

إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك

ومن إذا ريب الزمان صدعك تشتت فيه شمله ليجمعك

فإذا ظفرت بمثل هذا الأخ فحافظ عليه حفاظك على الثمين العزيز، واحذر أن يفلت منك فقديما قيل: أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان الأوفياء الأخلاء، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم، والرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال، لله در الناصح.

لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ولكن إخوان الصلاح الذخائر

وإذا تطلعت نفسك – أيها المسلم – إلى مثل أعلى للصديق فتصور قول أحد علماء الإسلام لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كمّ صاحبه فيأخذ حاجته؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذن بإخوان.

أيها المسلمون:

ليس من الأخوة في شيء أن يبيت أقوام يتنعمون بأطايب الطعام والشراب ووثير الفراش، يتقلب في أنواع النعم، ولا يتألم لإخوان له في الدين والوطن أقعدتهم الحاجة أو لزمهم المرض، أفلا يذكر هؤلاء المترفون قول النبي للذين آمنوا به: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، فلا يحسن بنا أيها الإخوة المسلمون أن نقوم بواجب الجسد فقط، فذلك حظ الأنعام وحظ الذين كفروا بالله: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم .

اللهم إنا نسألك سحائب نعمك فامنن بها علينا حتى نوحدك حق التوحيد ونتوحد بك حق الوحدة، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيرا مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

إن الأخوة التي نحرص على توثيقها ينبغي أن تفجر في النفوس معاني الرحمة وينابيع الحب والتوادد، وإلا فهي مجرد كلام يقال وتذروه الرياح لا يؤثر في واقع ولا ينهض بأمة، ومن أجل هذه الأخوة العملية كان سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقف في السوق فمن رآه يشتري اللحم يومين متواليين ضربه بدرته وقال في غضب: هلاً طويت بطنك لجارك وابن عمك.

اللهم إنا نسألك رحمة عامة وأخوة صادقة تدفعها القلوب قبل الأجسام، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت، وصلي اللهم وسلم على أفضل خلقك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

(1/473)

________________________________________

مسؤولية الكلمة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

آفات اللسان

-----------------------

حسين الأعمش

متليلي

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أهمية الكلمة وخطورتها 2- حال المسلمين بالنسبة للكلام 3- صلاح اللسان 4- خوف السلف من اللسان

-------------------------

الخطبة الأولى

ثم أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

إن الكلمة مسؤولية لابد أن نعي كيف نتعامل معها، فرب كلمة نابية أدت إلى خصومة، ورب كلمة جافية فرقت شمل أسرة، ورب كلمة طاغية أخرجت الإنسان من دينه، والعياذ بالله، ولكن رب كلمة حانية أنقذت حياة، ورب كلمة طيبة جمعت شملا ً، ورب كلمة صادقة أدخلت إلى الجنة، جعلني الله وإياكم من أهلها، ولأهمية الكلمة وأثرها قال رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))، هذا حديث شريف لو فقهه الناس، وصدقوا النية في التعامل معه، لتجنبوا الكثير من المآسي، وكثيرا ما يفسد الود بين الناس كلمة نابية مؤذية ليست في محلها، تنفذ كما ينفذ السهم المسموم، فتفرق ما كان مجتمعا وتفسد ما كان صالحاً.

أيها المسلمون:

إن حالنا في كثير من وجوهه مريض، لأن الكثير منا إذا تكلم لا يتكلم إلا في سوء، لا يتكلم إلا في اللغو والزور، لا يتكلم إلا في الكذب والنفاق والتملق، لا يتكلم إلا مغتابا أو نمّاماً، أو همّازاً أو لمّازاً، أو داعياً إلى فتنة أو بغضاء، ولا يسكت حين يسكت إلا عن خير يسكت عن المنكر، يسكت عن الشر، يسكت عن الظلم والآثام، وإن البغي والانحراف والفساد والبدع والفجور ما قوي واشتد عودها إلا حين سكت أهل الإصلاح وأخرس صوت الحق.

غير أن صلاح اللسان في عرف فقهاء الأمة وأطبائها إنما هو ولد صلاح النفوس والقلوب، فهيهات هيهات أن تصلح الألسنة والقلوب مريضة، ومتى يستقيم الظل والعود أعوج، وما اللسان إلا ترجمان القلوب.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

وما أروع ابن المعتز في حكمته القائلة: (الحكمة شجرة تنبت في القلب وتثمر في اللسان)، وهذا الربط بين القلب واللسان هو المقصود لا محالة.

في الحديث الشريف: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)).

أيها المسلمون:

إن صلاح اللسان لا يقصد به أبداً القدرة على النطق الفصيح والتعبير الجميل، فذلك قد يتأتى حتى لأصحاب النفوس المريضة والسلوكيات المعوجة الذين لا تطابق أقوالهم أفعالهم، والذين شنّع عليهم ربنا – عز وجل – في قوله: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون .

والمسلم في صلاح لسانه مكلف شرعاً بأن يسكت عن كل ما لا يرتضيه الشرع، وأن يجتهد في الصدع بكلمة الحق، وإصلاح ذات البين، وهكذا يكون لسانه كسّاباً للأجر نفاعاً للبشر، أما الثرثرة وإطلاق الكلام دون إدراك مراميه ومخاطره فإنه مهلك لصاحبه، قال : ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه))، ((وكلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله عز وجل )).

كما ورد في حديث آخر عن سيد المرسلين .

أيها المسلمون:

أعود وأكرر، إنه بكلمة قد تخرب جماعة بعد بناء، ويفسد حال أسرة بعد توادد وتعاطف، ويتخاصم الإخوة ويتعادى الأحبة، وقد يهجر الأب ابنه بسبب كلمة تصدر من فاسق منحرف، وهكذا فالكلمة الخبيثة سلاح من أسلحة إبليس ينطق بها فم ملعون رجيم، وصلى الله على سيدنا محمد القائل: ((من صمت نجا)) والصمت المحقق للنجاة – بداهة – هو الصمت عمّا هو معصية أو مؤد إلى معصية.

أقولي قولي هذا وأستغفر الله الكريم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، فصلى الله وسلم على النبي الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

أثر عن الصديق أبي بكر أنه كان كثيراً ما يمسك بطرف لسانه ويقول: ((هذا الذي أوردني الموارد))، فإذا كان أبو بكر وهو من هو في تقواه وورعه وتمسكه بدين الله عز وجل فماذا نقول نحن الذين ظلت ألسنتنا تحصد القليل القليل من الخير الذي تدمره جوارحنا، إنها القساوة في قلوبنا حيث تراكمت فينا الآثام والمعاصي، ألا فلنراقب الله تعالى ولنحترس من ألسنتنا ولنهذبها تهذيبنا لأخلاقنا لنعرض عن السفهاء وكلامهم حتى لا نكون مثلهم وقديماً قال الشاعر:

إذا جاريت في خلق سفيهاً فأنت ومن تجاريه سواء

وليكن قدوتنا في مثل هذا أبو بكر الصديق لما قال له بعض السفهاء: (والله لأسبنك سباً يدخل معك قبرك)، قال الصديق في عزة المؤمن وفي تقوى الصالح: (يدخل معك قبرك وحدك).

وصدق الله العظيم الواصف لعباده الصالحين: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .

اللهم إنها نسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وفي الجد والهزل، اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله ونستعيذ بك من الشر كله عاجله وآجله، اللهم صلي على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.

(1/474)

________________________________________

كيف تعالج المشاكل الزوجية

-----------------------

الأسرة والمجتمع

قضايا الأسرة

-----------------------

حسين الأعمش

متليلي

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أنواع المشاكل الزوجية 2- النكاح ميثاق غليظ 3- طرق معالجة النزاعات بين الزوجين : أ- العظة والنصيحة ب- الهجران في المضجع ج- الضرب د- جلسة الصلح و- الطلاق 4- كيفية الطلاق وقيده 5- الإحسان في الطلاق

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها المسلمون:

قد تعتري الحياة الزوجية أزمات ومنازعات، وخصومات، وقد تكون النزاعات والخصومات بسبب ذاتي، أي بتقصير من الزوجة أو الزوج وقد تكون بسبب طرف خارجي سواء من محيط الأسرة أو من خارجه، وأمام هذه الحال يطيش لب الزوج فيسارع إلى أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق، وقد يطيش لب الزوجة فتطالب بالطلاق وربما استجاب الرجل فشردت العائلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إن مثل هذه التصرفات السخيفة البليدة لا يقرها الشرع - أيها المسلمون - وإنما سطر مسالك أخرى للعلاج، لو طبقت لوُسع الأمر بعد ضيق ولكن الناس يستعجلون.

إن الإسلام أحاط الأسرة بسياج الكرامة، واعتبر العقد ميثاقاً غليظاً قال سبحانه وتعالى: وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منك ميثاقا غليظا وقال صلى الله عليه وسلم: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)). وقال عليه الصلاة والسلام، أيضا: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر)).

ولقد شدد الإسلام – أيها المسلمون – النكير على دعاة السوء الراغبين في تفريق الأسر، كيفما كان موقعهم ولو كانوا والدين لأن الظلم ظلمات، وليس للولد أن يطيع والديه في طلاقه زوجته إن كانت صالحة طيبة، قال : ((من خبب – أي أفسد – زوجة امرئ، فليس منا)).

أيها المسلمون:

قد يتخذ المسلم كل هذه الوقاية الشرعية، ويحتاط كل الاحتياط، ولكنها الحياة، فقد لا تستقيم الأمور، فهل يعجل بالطلاق؟ مسلك الإسلام ليس كذلك، ولكنه خطط لعلاج هذا المرض على المراحل التالية:

أولاً: العظة والنصيحة:

فعلى الزوج أن ينصح نفسه أولاً، فليراقب تصرفاته، وليزنها، فإن تبين له بعد التجرد من الذاتية، وبعد الاستنصاح وعرض قضيته على أهل الرأي والمشورة فإن بينوا له أن الخطأ منه تاب إلى الله عز وجل، وأرضى زوجته بالهدية البسيطة، أو بالكلمة الحانية، أو بالبسمة الصادقة، وإن تبين له أن الخطأ منها، فليذكرها بالله ويخوفها بما ينتظرها من عقابه لتقصيرها وسوء تدبيرها فإن تابت وعادت فهو المطلوب وإلا انتقل إلى الخطوة الثانية.

ثانياً: الهجر في المضجع:

إنه تأديب مشروع يظهر فيه الزوج عدم رضاه عن زوجته الناشز، مدة تكفي لردعها، ولكن دون شتم ولا تقبيح، وهو هجران في المضجع لا يطلع عليه الأهل ولا الأولاد، ولا يعني الصوم على الكلام بحيث لا يكلمها ولا تكلمه إطلاقا، لا سيما إذا تجاوز الأمر ثلاثة أيام، قال الرسول : ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)).

فإن لم يكف هذا العلاج انتقل إلى الخطوة الثالثة:

ثالثاً: الضرب:

والضرب الذي يعنيه الشرع هو ضرب غير مبرّح، وإنما هو إعلان عن الغضب، بحيث يكون باليد وحدها، دون وسائل أخرى كالعصا والسوط وما إليها، فهذا لا يجوز، وإياك إياك، - أخي المسلم – أن تمس الوجه أو الرأس، فذلك محرم، والضرب كما هو معلوم رخصة لتأديب الزوجة – ولا يضرب كريم – ولم يكن أبدا إظهاراً للقوة أو السطوة، فذلك حرام حرام؛ قال رسول الله : ((لا تضربوا إماء الله))، وقال: ((لا يضرب النساء إلا شرار الرجال)) إن نفع هذا فذلك المرتجى وإلا فهناك المرحلة الرابعة وهي:

رابعاً: جلسة الصلح:

ينبغي أن يجتمع بعض من أهل الزوج وبعض من أهل الزوجة من أهل الحكمة والدراية والصلاح، لا من السفهاء والطائشين، يجتمعون على نية الخير، فينظرون في القضية ويقلبون وجوهها، ويفصلون فيها بعدل وحكمة، وصواب، إما بالتوفيق وإما بالتفريق.

هذه المراحل – أيها المسلمون – جمعت في قوله تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .

أيها المسلمون:

قد لا تثمر هذه المحاولات، ويستعصي الحل، وتتنافر القلوب، والقلوب إذا تنافر ودُّها فهي كالزجاجة كسرها لا يجبر، وقد تستحيل العشرة، هنا يشرع الطلاق، وآخر العلاج الكي كما قيل، يشرع الطلاق رخصة شرعية للضرورة ورفعاً للحرج، والحديث الصحيح يقول: ((لا ضرر ولا ضرار )). ولكن دائماً على أساس أنه أبغض الحلال إلى الله، وعلى أساس قوله : ((تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له العرش)).

أقول قولي هذا وأستغفر الله الغفور الكريم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه نحمده حمد الشاكرين لأنعمه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، نصلي ونسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون :

علمنا أن الطلاق هو آخر ما يلجأ إليه ولكن كيف يكون هذا الطلاق؟ وما قيده؟ قيده الإحسان، هكذا جاء في القرآن: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ومن الإحسان في الطلاق اتباع السنة، فلا تطلق المرأة وهي حائض ولا يُوالى في التطليق وإنما يكون طلقة واحدة، ولا يسارع إلى التحريم والتثليث، فإن من أشنع الكلام وأبشعه هذه الكلمات: هي عليه حرام هي مطلقة ثلاث في ثلاث.. الخ.

فاللهم اغفر خطايانا وذنوبنا، اللهم اهدنا إلى صالح الأعمال والأخلاق اللهم اجعلنا من أوجه من توجه إليك، ومن أقرب من تقرب إليك، ومن أفضل من سألك ورغب إليك، وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

(1/475)

________________________________________

انتصاف رمضان

-----------------------

فقه

الصوم

-----------------------

عز الدين عوير

الجزائر

11/9/1413

الرحمة

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- إذا خسرنا في رمضان فمتى نربح ؟ 2- العبد مسئول عن عمره وعلمه وماله وجسمه 3- التحذير من تضييع الوقت في رمضان 4- اغتنام الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى 5- حال المسلمين المزري في رمضان 6- نعمتا الصحة والفارغ 7- حرص السلف الصالح على اغتنام أوقاتهم 8- الحث على صيام رمضان وقيامه وإخلاص النية في ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن شهر رمضان قد اقترب أن ينتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وهل تشوقت أنفسنا لنيل الشرف؟ أيها المحسن فيما مضى منه دم على طاعتك وإحسانك، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولمها، إذا خسرنا في هذا الشهر متى نربح؟ وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد متى نبرح؟

كان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له؛ لما في هذا الشهر المبارك من أسباب المغفرة والرحمة.

فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان، فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه))(1)[1].

نعم إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام التلفزيون وفي لعب الكرة أو في غير ذلك مما لا يعود علينا بكبير فائدة، بل قد يباعدنا عن الله تعالى وعن مرضاته، ويقربنا مما يسخطه والعياذ بالله تعالى؟

فالعجب لنا، نعرف ما في هذا الشهر من الخيرات والبركات، ثم لا تطمئن أنفسنا إلا بتضييع أوقاتنا فيما لا يزيدنا إلا بعداً عن الله تبارك وتعالى، وكأن صحفنا قد ملئت بالحسنات، وضمنا دخول الجنات، إلى متى نرضى بالنزول في منازل الهوان؟ هل مضى من أيامنا يوم صالح سلمنا فيه من الجرائم والقبائح؟ تالله لقد سبق المتقون الرابحون، ونحن راضون بالخسران، أعيننا مطلقة في الحرام، وألسنتنا منبسطة في الآثام، ولأقدامنا على الذنوب إقدام، ونغفل أن الكل مثبت عند الملك الديّان.

عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي أنه قال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))(2)[2].

فالرؤوف الرحيم يوصينا بمبادرة خمسة أشياء قبل حصول خمسة أخرى، نغتنم حال حياتنا قبل موتنا، وحال صحتنا قبل مرضنا، وحال فراغنا قبل انشغالنا، وحال شبابنا قبل كبرنا، وحال غنانا قبل فقرنا، نغتنمها في طاعة الله والتقرب إليه قبل أن يحل بنا ما يمنعنا من ذلك فنندم على ما فرّطنا في جنب الله ولا ينفع يومئذ الندم.

عباد الله، إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها، فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا عز وجل ويباعدنا عن عذابه. هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهرنا، ويتردد في أسماعنا، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيناه خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلوبنا تخشع، ولا عيوننا تدمع، ولا صيامنا يبعد عن الحرام فينفع، ولا قيامنا استقام، فقلوبنا خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا من رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم وزادتهم إيمانا، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار؟! أوليس لنا فيهم اقتداء وأسوة؟! كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال، سيشهد علينا رمضان، وسيشار لكل واحد منا يوم القيامة: شقي فلان وسعيد فلان، اللهم لا تجعلنا من أهل الشقاء، واجعلنا من أهل السعادة والرضوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد: روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )). شبّه النبي في هذا الحديث الإنسان بالتاجر، والصحة والفراغ أي: عدم الشواغل برأس المال لكونهما من أسباب الأرباح ومقدمات النجاح، فمن استعمل صحته وقوته وفراغه ووقته في طاعة الله تعالى ربح في تجارته مع الله عز وجل، ومن استعمل صحته وفراغه ووقته في معصية الله تعالى خسر رأس ماله، فهو مغبون لا يحسن تدبير أموره.

لأجل هذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد الناس حرصًا على اغتنام أوقاتهم في ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وتعلّم دينه والإحسان إلى خلقه، فمن ذلك عامر بن عبد قيس إذ قال له رجل: قف أكلمك، قال: أمسك الشمس، أي إن استطعت أن تمسك الوقت فلا يمر فسأقف، وكان داود الطائي يستف الفتيت، يأكل فتات الطعام، ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية، وكان عثمان الباقلاني دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدّثتم.

هكذا كانوا عليهم رحمه الله، كانوا أشد الناس بخلا فأوقاتهم، فماذا يقولون لو اطلعوا علينا ورأوا كيف نضيع أوقاتنا، في هذا الشهر المبارك خاصة، وفي سائر أيام السنة عامة؟ فكثير منا من يلهي نفسه في رمضان باللعب واللغو، ويقول: نقتل الوقت حتى يصل الإفطار. وما ندري أننا بتضييع أوقاتنا فيما لا يرضي الله تعالى نقتل أنفسنا، وليس الوقت لأن الوقت محسوب من أعمارنا وحياتنا.

فلنستيقظ من غفلتنا أيها المسلمون، ولنستدرك ما فاتنا من رمضان، ولنجعل ما بقي من شهرنا أحسن مما فات، ولنتذكر قوله : ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(3)[1]، وقوله أيضا: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))(4)[2].

فمن صام رمضان لله تعالى، وطاعة له ليس لأجل أنه رأى الناس صاموا فصام، ورجاء ثوابه، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام لياليه مصليا مخلصا لله تعالى ورغبة في مثوبته غفر له ما تقدم من ذنبه وخرج من رمضان كيوم ولدته أمه، بل لقد قال : ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة))(5)[3]، فمن صلى صلاة التراويح مع الإمام حتى ينتهي من آخر ركعة منها، كتب له أجر قيام ليلة بأكملها، هذا من فضل الله على عباده المؤمنين، ولكن أكثر الناس عن شكر هذه النعمة غافلون.

فمن أراد الفوز بالجنة والنجاة من النار، فما عليه إلا اغتنام وقته وصحته وماله في هذا الشهر المبارك خاصة، في طاعة الله تعالى والتقرب إليه، فلعل الواحد منا يكون هذا الشهر آخر رمضان يعيشه، فيكون ممّن أعتق فيه من النار.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

 

__________

(1) أخرجه الترمذي وهو صحيح.

(2) أخرجه الحاكم وهو صحيح ، صحيح الجامع [1077].

(3) متفق عليه عن أبي هريرة.

(4) مسلم عن أبي هريرة .

(5) الأربعة عن أبي ذر وهو صحيح.

(1/476)

________________________________________

لا بأس بالغنى لمن اتقى

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

عز الدين عوير

الجزائر

13/5/1414

الرحمة

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- شرح حديث " لا بأس بالغنى لمن اتقى والصحة لمن اتقى خير من الغنى وطِيب النفس من النعيم " 2- الحث على طلب الرزق الحلال 3- التحذير من فتنة المال 4- نِعم المال الصالح للرجل الصالح 5- التوفيق بين طلب الرزق والتفقه في الدين

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد أخرج ابن ماجه والحاكم وأحمد عن يسار بن عبيد قال: كنا في مجلس فجاء النبي وعلى رأسه أثر الماء، فقال له بعضنا: نراك اليوم طيّب النفس، فقال: ((أجل، والحمد لله)) ثم أفاض القوم في ذكر الغنى. قال: (( لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم)).

فالغنى – يا عباد الله – بغير تقوى هلكة لصاحبه، يجمع المال من غير حقه، ويضعه في غير أهله، ويمنعه من مستحقه، أما إذا كان مع صاحبه تقوى فقد ذهب البأس وجاء الخير، قال محمد بن كعب: الغني إذا اتقى آتاه الله أجره مرتين، لأنه امتحنه فوجده صادقا، وليس من امتحن كمن لم يمتحن.

((والصحة لمن اتقى خير من الغنى))، فإن صحة البدن عون على العبادة، فالصحة مال ممدود، والسقيم عاجز طريقه مسدود، والصحة مع الفقر خير من الغنى مع العجز، لأن العاجز كالميت.

((وطيب النفس من النعيم)) لأن طيبها من روح اليقين وهو النور الوارد الذي أشرق على الصدر ضياؤه، فإذا استنار القلب ارتاحت النفس من الظلمة والضيق والضنك فعن البراء بن عازب أن رسول الله أتاهم إلى البقيع فقال: ((يا معشر التجار حتى إذا اشرأبوا قال: إن التجار يحشرون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق )).

وهذا مما يبين لنا – أيها المسلمون – أن ديننا لا ينهى المتمسكين به عن طلب الرزق، وعن الاستغناء، وإنما ينهانا أن نجمع هذا المال بغير حقه، وأن نصرفه في غير حقه، وذلك لأن المال فتنة لابن آدم إذا لم يرزق القناعة، صح عند الترمذي عن كعب بن عياض مرفوعا: ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال )).

نعم، فتنتنا المال – أيها المسلمون – ألم يحملنا جمع المال على الغش؟ ألم يحملنا جمع المال على الكذب [وشهادة الزور]؟ ألم يحملنا جمع المال على التزوير؟ ألم يحملنا جمع المال على إعطاء الرشوة؟ ألم يحملنا جمع المال على إخلاف المواعيد ونقض العهود؟ ألم يحملنا جمع المال على أكل أموال بعضنا بالباطل؟

نعم هذه هي فتنة جمع المال حتى صار الصديقان المتحابان أعداء لأجل معاملة تجارية بينهما حملت أحدهما على التعدي على الآخر، فإذا هما في أشد العداوة، بعد ما كانا في أعلى مراتب الصداقة.

[واعلموا عباد الله] أن المال كما يكون سببا في طغيان العبد في الدنيا وخسارته في الآخرة، فقد يكون كذلك سببا في سعادته في الدنيا ونجاته يوم القيامة، وذلك إذا طلبه بحقه وأنفقه في مستحقه، ولا يكون ذلك إلا إذا رزق تقوى في قلبه، وقناعة في نفسه، قال : ((نعم المال الصالح للمرء الصالح )). وقال لعثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)).

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد: روى البخاري عن عمر بن الخطاب قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله ، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك.

فلم يمنع الفاروق عمر بن الخطاب ولا جاره طلب الرزق من تعلّم العلم والتفقه في الدين، لأنهم رضي الله عنهم عرفوا كيف يعطون لهذه الدنيا ما تستحق من الوقت، وعرفوا كيف يعطون للآخرة ما تستحق من الوقت، فسعدوا في الدنيا وفازوا في الآخرة.

وعلى نهجهم سار كثير من الصالحين، فوفّقوا بين طلب الرزق في الدنيا وبين التفقه في الدين، والعمل للآخرة، فلقد كان الليث بن سعد إمام أهل مصر في زمانه من الأغنياء، وكان عبد الله بن المبارك من كبار التجار، وكذلك كان أبو حنيفة عليهم رحمه الله، فلم تغوهم تجارتهم حتى ينسوا أخراهم، بل كانت تجارتهم عونا لهم على الآخرة.

فمن منّا اليوم حاله كحالهم، فالواحد منا يخرج صباحا لا يفكّر إلا في كيفية الحصول على المال، لا يهمه كيف يجمعه؟ من حلال أم من حرام، ثم إذا سئل عن الصلاة هل صلاها في وقتها؟ يقول: العمل عبادة والصلاة لها وقتها في آخر النهار. وأما أن يحضر حلق الذكر في المسجد، أو مجالس العلم والتفقه في الدين فهذا يكاد ينعدم فهو أعز من الكبريت الأحمر.

فلنراجع أنفسنا وأعمالنا، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(1/477)

________________________________________

حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم

-----------------------

الإيمان, قضايا في الاعتقاد

الإيمان بالرسل, الاتباع

-----------------------

محمد حموش

تامنفوست

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الغاية من خلق الإنس والجن 2- نعمة بِعثة الرسل 3- فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 4- وجوب مراعاة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم 5- محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الإفراط والتفريط 6- حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم 7- التحذير من الغلو في النبي ومن الابتداع في الدين 8- علامات حب النبي : - طاعته واتباعه – تعلُّم الكتاب والسّنة – محبة أصحابه رضي الله عنهم

-------------------------

الخطبة الأولى

أيها المسلمون، أيتها المسلمات، اعلموا أن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً، بل خلقهم لغاية ذكرها في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال أيضا:ً الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور.

فالحكمة من خلقه سبحانه وتعالى للخلق عبادته، واختبارهم وابتلاؤهم ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك لم يتركهم هملاً وسدى، بل أرسل إليهم رسله عليهم السلام، فكان من سنة الله تبارك وتعالى إرسال الرسل وتعميم الخلق بهم ليقيم هداه وحجته على عباده، قال الله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . فكانت أعظم منة وأكبر نعمة من الله على عباده أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين وواسطة بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه وتعاليم دينه، وكان أعظم الأنبياء قدراً وأبلغهم أثراً وأعمهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بهداية الخلق أجمعين، فختم به النبيين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر وانطماس السبل، فأحيا به ما اندرس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك والكفر وعباد الأوثان، فأقام منار دينه الذي ارتضاه، فكان بحق كما وصفه ربه عز وجل بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فكمل الله به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وألف به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، فأصبح الناس بنعمة الله عز وجل إخوانا وفي دين الله أعوانا، قال الله عزوجل: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال أيضا لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فكان مبعثه النبأ العظيم والحدث الجلل ليرد عليه الصلاة والسلام كل شيء إلى أصله، وكل أمر إلى حقيقته، فملأ القلب إيمانا والعقل حكمة والنفس يقينا والكون عدلا والدنيا رحمة والأيام سلاما والليالي أمنا، فاستحق المقام المحمود، وعلى عباد الله جميع الحقوق التي تضمنتها الشهادة التي تنجي صاحبها من العذاب في ذلك اليوم المشهود: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لذا فقد كان لزاما على كل من ينطق بهذه الشهادة ويدين الله بهذا الدين أن يحيط بتلك الحقوق معرفة، ويلتزم بها اعتقادا وقولا وعملا.

ولكن مما يؤسف له أن كثيرا من المسلمين اليوم على درجة كبيرة من الجهل بهذه الحقوق، فهم بين طرفي نقيض في هذا المقام؛ فإما مقصر لا يقيم لها وزنا ولا يلقي لها بالا، وإما غالٍ حاد عن الصراط، وأخطأ في فهم الصواب، تراه يقوم بأمور ما كان عليها سلفنا الصالح ويظن أنه يحسن صنعا ومؤد لما أوجبه الله من حق نبينا ، وكلا الطرفين صاحب حال مذموم، فكان لزاما علينا أن نبين في هذا المقام حقيقة المحبة للنبي التي أوجبها الله علينا في كتابه حينما قال: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين فكفى بهذه الآية حضا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبة النبي ووجوبها وفرضها وأن تكون مقدمة على كل محبوب سوى الله عز وجل، فمحبته دين يدين به الله كل مسلم، وأن يكون حبه يفوق حب المال والنفس والولد جاء في حديث عمر بن الخطاب أنه قال للنبي : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)) الآن حققت المحبة الحقيقية.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) ولكن أين هذه المحبة في قلوب المسلمين؟ شتان بين المحبة الصادقة والمحبة المزيفة المزعومة، فالمحبة الصادقة تقتضي تحقيق المتابعة له وموافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، فمن أحب الرسول محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الرسول ويكره ما يكره، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الرسول أو ترك بعض ما يحبه مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة عليه، فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وبهذا وصف الله المشركين في كتابه فقال عز وجل: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فالمحبة الصادقة للنبي هي التي تجعل العبد يحقق الأولوية في قوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم هذه الأولية التي توجب على المؤمن أن يكون النبي أحب إليه من نفسه وتستلزم منه كمال الانقياد والطاعة والرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه، قال سبحانه وتعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة للنبي أناس بالغوا في محبته بابتداعهم أمور لم يشرعها الله ورسوله ظنا منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة، حتى صرف بعضهم أنواعا من العبادات له كالدعاء والتوسل به والتمسح بالحجرة التي فيها قبره إلى غير ذلك من البدعيات كالاحتفال بمولده والشركيات التي تفعل بدعوى المحبة للرسول وهي أمور لم يشرعها الله ورسوله ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم، بل وقفوا مع الدليل وساروا على الجادة وأخذوا بالحجة وتعبدوا بالأثر، هجروا التنطّع لأن المعلم بين أظهرهم فيا ترى أي محبة هذه التي يخالف أصحابها شرع بينهم؟ كيف تكون لهؤلاء محبة وهم قد ابتدعوا ما ابتدعوه من أمور لم تشرع في الدين؟ فيجب على هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول وتعظيمه إنما تكون بتصديقه فيما أخبر به عن الله عز وجل وطاعته فيما أمر به ولزوم هديه واقتفاء أثره، إلا الإشراك به والغلو فيه، لذلك ينبغي على كل مسلم أن يعلم أن محبة النبي ليست مجرد دعوى تتحقق بنطق اللسان بها، بل لابد لهذه الدعوى من البرهان الذي يثبت صدقها قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم .

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

إن الله سبحانه وتعالى وضع علامات ودلائل يتسنى من خلالها معرفة من يصدق في دعوى محبته للنبي ، فكل دعوة لابد لها من برهان يدل على صدقها، قال تعالى: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وكلما كان التحقيق لهذه العلامات أكبر كانت درجة المحبة أرفع وأعظم، وأول هذه العلامات ما نبهنا عليه آنفا:

1) محبة اتباعه والأخذ بسنته: فالاقتداء بالنبي واتباعه والسير على نهجه في الدعوة إلى الله، هو أول علامات محبته ، فالصادق في حب النبي هو من تظهر عليه هذه العلامة في عبادته لله، فيحرص على أن تكون صلاته كصلاة النبي وصيامه كصيام النبي ، وكذا معاملته مع الناس، المحب للرسول هو من يحرص على التمسك بسنته وإحيائها وتقديمها على هوى النفس فلا يتصور أن يكون شخص محبا لرسول الله وهو معرض عن اتباع سنته مستهزئ بمن أقامها.

2) من علامات محبته تعلم القرآن والمداومة على تلاوته وفهم معانيه وكذا تعلم سنته وتعليمها ومحبة أهلها فعن ابن مسعود قال: لا يسأل أحد عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله.

3) محبة من أحبهم النبي من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، فمن واجب الأمة نحو أصحاب رسول الله محبتهم والترضي عنه فهم قوم اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه وخصهم في الحياة الدنيا بالنضر إليه وسماع حديثه ونصرته والذب عنه وبعد وفاته كانوا هم الواسطة بينه وبين الأمة، فقد بلغوا عن الرسول ما بعثه الله به من النور والهدى وذبوا عن هذا الدين بسنانهم ولسانهم، ومما يدل على عظم فضل الصحابة ما جاء في حديث أبي سعيد الخذري قال رسول الله : ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل حد ذهاب ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه )).

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم)).

فلما كان الصحابة بهذه المنزلة الرفيعة، فعلينا أيها المسلمون أن نتبعهم في محبتنا للنبي وأن نسير على نهجهم دون أن نغالي أو نبتدع، فهم الذين حققوا إيمانهم بالمحبة حكما وقاموا بمقتضاها اعتقادا وقولا وعملا، فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وقاموا بما يلزم من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله وهم مع قيامهم بهذا لم يتجاوزوا ما أمروا به من المحبة فلم يغالوا ولم يبالغوا، لأنهم علموا أنه ليس من المحبة في شيء الغلو في حقه وقدره، بل هذه المحبة تحكمها قواعد الكتاب والسنة.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يحبه ويحب نبيه وأن يوفقنا لكل عمل يقربنا إلى حبه وحب نبيه هو ولي ذلك والقادر عليه وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

(1/478)

________________________________________

تنبيه على أخطاء يرتكبها الحاج

-----------------------

فقه

الحج والعمرة

-----------------------

صالح بن فوزان الفوزان

الرياض

البساتين

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

وجوب تطهير الأعمال من البدع لتُقبل - أخطاء يقع فيها الحجاج : 1- أخطاء عقدية : دعاء الموتى والتبرك بهم - زيارة المزارات المزعومة 2- أخطاء عملية تتعلق بالحج في الإحرام والطواف , والحلق أو التقصير , والوقوف بعرفة ومزدلفة والرمي

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله ، واحرصوا على أن يكون حجكم وسائر أعمالكم خالصا لوجه الله من جميع البدع والخرافات ، حتى يكون عملكم متقبلا ، وحجكم مبرورا ، وسعيكم مشكورا . لأن من الحجاج من يرتكب أخطاء كثيرة في حجه.

وهذه الأخطاء منها ما يتعلق بالعقيدة ، ومنها ما يتعلق بأحكام الحج العملية.

فالذي يتعلق بالعقيدة: هو أن بعض الحجاج ، سواء في مكة أو في المدينة ، يذهبون إلى المقابر ليتوسلوا بالموتى ويتبركون بقبورهم أو يسألوا الله بجاههم وما أشبه ذلك من الأعمال الشركية، أو البدعية المخالفة لسنة رسول الله - - في زيارة القبور ،لأن سنة الرسول أن تُزار القبور اللاعتبار وتذكر الآخرة ، والدعاء لأموات المسلمين بالمغفرة والرحمة ، وأن يكون ذلك بدون سفر وشد رحال. وأن تكون الزيارة للرجال دون النساء، كما قال - -: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)) وهذا خطاب للرجال, خاصة لأن الرسول - - لعن زوارات القبور، وكان إذا زار القبور دعا لأصحابها بالمغفرة والرحمة. هذا هَدْيه- - في زيارتها , أنه لأجل اعتبار الزائر واتعاظه. والدعاء للميت المزور بالمغفرة والرحمة.

أما أن تُزار القبور بقصد الدعاء عندها ، أو التبرك والتوسل بأصحابها ، أو الاستشفاع بهم ، فهذا مخالف لهدي النبي - - وهو إما شرك بالله أو وسيلة للشرك يتنافى مع أعمال الحج ومقاصده.

ومن الحجاج من يتعب بدنه، ويضيع وقته وماله في الذهاب إلى المزارات المزعومة في مكة والمدينة ، ففي مكة يذهب إلى غار حراء وغار ثورٍ وغيرهما, مما لا تشرع زيارته ، وفي المدينة يذهب إلى المساجد السبعة ومسجد القبلتين وأماكن معينة للصلاة فيها والدعاء عندها والتبرك بها ، وزيارة هذه الأماكن في مكة أو المدينة والتعبد فيها هو من البدع المحدثة في دين الاسلام ، فليس هناك مساجد في الأرض تقصد للصلاة فيها إلا المساجد الثلاثة : ( المسجد الحرام ، ومسجد الرسول - - والمسجد الأقصى ) ، ومسجد قباء لمن كان بالمدينة . وليس هناك مغارات ولا أمكنة تزار في دين الاسلام لا في مكة ولا في المدينة ولا غيرهما لأنه لا دليل على ذلك ، والحاج إنما جاء يطلب الاجر والثواب من الله ، فليقتصر على ما شرعه الله ورسوله.

ولو أن الحاج وفر وقته للصلاة في المسجد الحرام إذا كان في مكة ، وفي مسجد الرسول إذا كان في المدينة . ووفر ماله للانفاق في سبيل الله والصدقة على المحتاجين ، لحصل على الأجر والثواب ، أما إذا أضاع هذه الإمكانيات في البدع والخرافات ،فإنه يحصل على إلاثم والعقاب ، فالواجب على الحاج أن يتنبه لهذا ، ولا يغتر بالجهال والمبتدعة . أو بما كتب في بعض المناسك من الترويج لهذه المبتدعات والدعاية لها . وعليه أن يُراجع المناسك الموثوقة التي أُلّفَتْ علي ضوء الكتاب والسنة لأجل المحافظة على سلامة عقيدته وحجه ، ويستشير هل أهل العلم فيما أشكل عليه .

وأما الأخطاء التي تتعلق بأعمال الحج فمنها :-

أولا :في الإحرام :

بعض الحجاجٍ القادمين عن طريق الجو يؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة، فيحرموا منها أو دونها مما يلي مكة وقد تجوزوا المقيات الذي مروا به في طريقهم ، وقد قال في المواقيت : (( هي لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ))، فمن مر بالميقات الذي في طريقه أو حاذاه في الجو أو في الأرض وهو يريد الحج أو العمرة ، وجب عليه أن يُحْرم منه أو من محاذاته ، فإن تجاوزه وأحْرم من دونه أثِمَ وترك واجبا من واجبات النسك يجبره بدم ،لأن جدة ليست ميقاتا لغير أهلها ومن نوى النسك منها .

بعض الحجاج إذا أحرموا أخذوا لهم صورة تذكارية يحتفظون بها ويطلعون عليها أصدقاءهم ومعارفهم ، وهذا خطأ من ناحيتين :

أولا : أن التصوير في حد ذاته حرام ومعصية للأحاديث الواردة في تحريمه والوعيد عليه ، والحاج في عبادة فلا يليق به أن يفتتح هذه العبادة بالمعصية .

ثانيا : أن هذا يدخل في الرياء ،لأن الحاج إذا أحب أن يطلع الناس عليه وعلى صورته وهو محرم فإن هذا رياء ، والرياء يحبط العمل ، وهو شرك أصغر ، وهو من صفات المنافقين .

يظن بعض الحجاج أنه يجب على إلانسان إذا أراد أن يحرم أن يحضر عنده كل ما يحتاجه من الحذاء والدراهم وسائر الأغراض وأنه لا يجوز له أن يستعمل الأشياء التي لم يحضرها عند الإحرام ، وهذا خطأ كبير وجهل فظيع ،لأنه لا يلزمه شيء في ذلك ، ولا يَحْرُم عليه أن يستعمل الحوائج التي لم يحضرها عند الإلحرام . بل له أن يشتري ما يحتاج إلى شرائه ، ويستعمل ما يحتاج استعماله ، وأن يغير ملابس الإحرام بمثلها ، وأن يغير حذاءه بحذاء آخر ، ولا يتجنب إلا محظورات إلاحرام المعروفة .

بعض الرجال إذا أحرموا كشفوا أكتافهم على هيئة الاضطباع ، وهذا غير مشروع إلا في حال الطواف ( طواف القدوم ، أو طواف العمرة ) وما عدا ذلك يكون الكتف مستورا بالرداء في كل الحالات .

بعض النساء يعتقدن أن الإحرام يتخذ له لون خاص ، كالأخضر مثلاً ، وهذا خطأ ، لأنه لا يتعين لون خاص للثوب الذي تلبسه المرأة في الإحرام . إنما تُحِْرم بثيابها العادية . إلا ثياب الزينة ، أو الثياب الضيقة أو الشفافة ، فلا يجوز لبسها لا في إلاحرام ولا في غيره .

بعض النساء إذا أحرمن يضعن على رؤوسهن ما يشبه العمائم أو الرافعات لأجل غطاء الوجه حتى لا يلامس الوجه . وهذا خطأ وتكلف لا داعي له ولا دليل عليه ، لأن في حديث عائشة رضي الله عنها أن النساء كن يُغَّطيَن وجوههن عن الرجال وهن محرمات, ولم تذكر وضع عمامة أو رافع .

بعض النساء إذا مرت بالميقات تريد الحج أو العمرة وأصابها الحيض قد لا تحرم ظنا منها أو من وليها أن الإحرام تشترط له الطهارة من الحيض. فتتجاوز الميقات بدون إحرام ، وهذا خطأ واضح لأن الحيض لا يمنع الإحرام . فالحائض تحرم وتفعل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت فإنها تؤخره إلى أن تطهر. كما وردت به السنة . وإذا أخرت إلاحرام وتجاوزت الميقات بدونه ، فإنها إن رجعت إلى ذلك الميقات وأحرمت منه فلا شيء عليها، وإن أحرمت من دونه فعليها دم لترك الواجب عليها.

ثانيا : الطواف :-

كثير من الحجاج يلتزم أدعية خاصة في الطواف يقرؤها من مناسك ، وقد يكون مجموعات منهم يتلقونها من قارئ يلقنهم إياها ويرددونها بصوت جماعي ، وهذا خطأ من ناحيتين :

الأولى : أنه التزم دعاء لم يرد التزامه في هذا الموطن ،لأنه لم يرد عن النبي - - في الطواف دعاء خاص .

الثانية : أن الدعاء الجماعي بدعة وفيه تشويش على الطائفين ، والمشروع أن يدعو كل شخص لنفسه وبدون رفع صوته .

بعض الحجاج ُيقََبَل الركن اليماني ، وهذا خطأ . لأن الركن اليماني يُسْتَلم باليد فقط ولا ُيَقَّبل . وإنما يُقَبل الحجر الأسود . فالحجر الأسود يستلم ويقبل إن أمكن ، أو يشار مع الزحمة إليه وبقية الاركان لا تستلم ولا تقبل .

بعض الناس يزاحم لاستلام الحجر الأسود وتقبيله ، وهذا غير مشروع ،لأن الزحام فيه مشقة شديدة وخطر على الإنسان وعلى غيره . وفيه فتنة مزاحمة الرجال للنساء . والمشروع تقبيل الحجر واستلامه مع إلامكان ، وإذا لم يتمكن أشار إليه بدون مزاحمة وخاطرة وافتتان ، والعبادات مبناها على اليسر والسهولة . لا سيما وأن استلام الحجر وتقبيله مستحب مع إلامكان … ومع عدم إلامكان تكفي الإشارة إليه . والمزاحمة قد يكون فيها ارتكاب محرمات، فكيف ترتكب محرمات لتحصيل سنة ؟ .

ثالثا: في التقصير من الرأس للحج أو العمرة :

بعض الحجاج يكتفي بقص شعرات من رأسه وهذا لا يكفي ولا يحصل به أداء النسك ، لأن المطلوب التقصير من جميع الرأس لأن التقصير يقوم مقام الحلق ، والحلقْ لجميع الرأس ، فكذا التقصير يكون لجميع الرأس قال تعالى : مُحَلَِّقيَن رؤوسكم وُمقَصَّرين لا تخَافوَن والذي يقصر بعض رأسه لا يقال : إنه قصر رأسه ، وإنما يقال قصر بعضه .

رابعا : في الوقوف بعرفة :

بعض الحجاج لا يتاكد من مكان الوقوف ولا ينظر إلى اللوحات الإرشادية المكتوب عليها بيان حدود عرفة فينزل خارج عرفة ، وهذا إن استمر في مكانه ولم يدخل عرفة أبدا وقت الوقوف لم يصح حجه . فيجب على الحجاج الاهتمام بهذا الأمر والتأكد من حدود عرفة ليكونوا داخلها وقت الوقوف .

يعتقد بعض الحجاج أنه لابد في الوقوف بعرفة من رؤية جبل الرحمة أو الذهاب إليه والصعود عليه ، فيكلفون أنفسهم عنتا ومشقة شديدة ، ويتعرضون لأخطار عظيمة من أجل الحصول على ذلك . وهذا كله غير مطلوب منهم ، وإنما المطلوب حصولهم في عرفة في أي مكان منها لقوله - - : ((وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة )) سواء رأوا الجبل أو لم يروه ، ومنهم من يستقبل الجبل في الدعاء والمشروع استقبال الكعبة .

بعض الحجاج ينصرفون ويخرجون من عرفة قبل غروب الشمس وهذا لا يجوز لهم ، لأن وقت الانصراف محدد بغروب الشمس ،فمن خرج من عرفة قبله ولم يرجع إليها فقد ترك واجبا من واجبات الحج ويلزمه به دم مع التوبة إلى الله ، لأن الرسول ما زال واقفا بعرفة حتى غروب الشمس ، وقد قال : ((خذوا عني مناسككم )).

خامسا : في مزدلفة :

المطلوب من الحاج إذا وصل إلى مزدلفة أن يصلي المغرب والعشاء جمعا ويبيت فيها فيصلي بها الفجر ويدعو إلى قبيل طلوع الشمس . ثم ينصرف إلى منى . ويجوز لأهل الأعذار خاصة النساء وكبار السن والأطفال ومن يقوم بتولي شؤونهم الانصراف بعد منتصف الليل ، ولكن يحصل من بعض الحجاج أخطاء في هذا النسك ، فبعضهم لا يتأكد من حدود مزدلفة ويبيت خارجها . وبعضهم يخرج منها قبل منتصف الليل ولا يبيت فيها ، ومن لم يبت بمزدلفة من غير عذر فقد ترك واجبا من واجبات الحج يلزمه به دم جبرا مع التوبة والاستغفار .

سادسا: في رمي الجمرات :

رمي الجمرات واجب من واجبات الحج وذلك بأن يرمي الحاج جمرة العقبة يوم العيد ، ويجوز بعد منتصف الليل من ليلة العيد ويرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد زوال الشمس ، لكن يحصل من بعض الحجاج في هذا النسك أخطاء.

فمنهم: من يرمي في غير وقت الرمي ، بأن يرمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل في ليلة العيد ، أو يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق قبل زوال الشمس . وهذا الرمي لا يجزئ لأنه في غير وقته المحدد له ، فهو كما لو صلى قبل دخول وقت الصلاة المحدد لها .

ومنهم: من يخل بترتيب الجمرات الثلاث فيبدأ من الوسطى أو الأخيرة . والواجب أن يبدأ بالصغرى ثم الوسطى ثم بالكبرى وهي الأخيرة .

ومنهم: من يرمي في غير محل الرمي وهو حوض الجمرة ، وذلك بأن يرمي الحصى من بعد فلا تقع في الحوض . أو يضرب بها العمود فتطير ولا تقع في الحوض . وهذا رمي لا يجزئ ، لأنه لم يقع في الحوض . والسبب في ذلك الجهل أو العجلة أو عدم المبالاة .

ومنهم: من يقدم رمي الأيام الأخيرة مع رمي اليوم الأول من أيام التشريق ، ثم يسافر قبل تمام الحج ، وبعضهم إذا رمى لليوم الأول يوكل من يرمي عنه البقية ويسافر إلى وطنه . وهذا تلاعب بأعمال الحج وغرور من الشيطان ، فهذا الإنسان تحمل المشاق وبذل الأموال لأداء الحج ، فلما بقي عليه القليل من اعماله تلاعب به الشيطان فأخل بها وترك عدة واجبات من واجبات الحج ، وهي رمي الجمرات الباقية ن وترك المبيت بمنى ليلة أيام التشريق ، وطوافه للوداع في غير وقته ،لأن وقته بعد نهاية أيام الحج وأعماله . فهذا لو لم يحج أصلا وسلم من التعب وإضاعة المال لكان أحسن . لأن الله تعالى يقول: وأتموا الحج والعمرة لله ومعنى إتمام الحج والعمرة : إكمال أعمالهما لمن أحرم بهما على الوجه المشروع ، وأن يكون القصد خالصا لوجه الله تعالى.

من الحجاج من يفهم خطأ في معنى التعجل الذي قال الله تعالى فيه: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه فيظن أن المراد باليومين يوم العيد ويوم بعده ، وهو اليوم الحادي عشر ويقول: أنا متعجل . وهذا خطأ فاحش سببه الجهل ،لأن المراد يومان بعد العيد . هما اليوم الحادي عشر والثاني عشر . من تعجل فيهما فنفر بعد أن يرمي الجمار بعد زوال الشمس من اليوم الثاني فلا إثم عليه ، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فرمى الجمار بعد زوال الشمس فيه ثم نفر فهذا أفضل وأكمل . فاتقوا الله عباد الله ، وأدوا حجكم على وفق ما شرع الله خالصا لوجهه تفوزوا بثوابه .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون [البقرة:230]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/479)

________________________________________

الحث على المسارعة إلى الخيرات

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

فضائل الأعمال

-----------------------

صالح بن فوزان الفوزان

الرياض

البساتين

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

وجوب المبادرة بالطاعة قبل الموت , والأمر بذلك – حرص الشيطان على تعويق المرء عن الطاعة , ومن ذلك التأخر عن الجمعة , والجماعة , وخطورة ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:-

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وبادروا حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها بفعل الخيرات والاكثار من الطاعات، فإن الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الانسان وبين العمل غير مامونة، وأنت أيها العبد بين زمان مضى لا تستطيع رده، وزمان مستقبل لا تدري: هل تدركه أو لا؟ وزمان حاضر إن استفدت منه، وإلا ذهب منك وأنت لا تشعر، فاستدرك ما مضى بالتوبة مما فرطت فيه، واستغل حاضرك بإغتنام أيامه ولياليه، واعزم على الاستمرار في الطاعة فيما تدرك من مستقبلك يكتب لك ثواب نيتك إن لم تدركه، وتوفق إن أدركته لعمل ما نويته فيه.

عباد الله: إن الله سبحانه قد أمرنا بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات قبل فواتها قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين ، قال تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد:21].

والمسارعة والمسابقة تعنيان المبادرة إلى تحصيل شيء يفوت بالتاخير عن طلبه ويندم على فواته. لا سيما إذا كان ذلك الفائت شيئا عظيما تتعلق به النفوس، ولا شيء أعظم من الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض. ومن فاتته فليس له بديل عنها إلا النار، فما أعظم الحسرة، وما أفدح الخسارة، ويا هول المصيبة. لقد وصف الله رسله وصفوة خلقه ومن اتبعوهم بأنهم يسارعون في الخيرات. فقال تعالى: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء:90]، وقال تعالى: أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [المؤمنون:61].

وهؤلاء هم القدوة لأنهم اصحاب العقول النيرة، والبصائر التي تدرك العواقب، وتعرف المصالح والمضار، بما أعطاهم الله من نور الايمان، وفهم القران، وبما عرفوا قدر المطلوب وقيمته وهو الجنة وسرعة زوال الوقت وفواته، وبادروا بالطلب قبل فوات الأوان، ومدحهم الله واثنى عليهم في محكم القران، ليكونوا قدوة صالحة لبني الانسان.

إن الإنسان قد أعطي إمكانات يستطيع بها المسارعة إلى الخيرات إذا استغلها لذلك، أعطي صحة في جسمه، ووقتا للعمل، وفراغا له، وكل واحدة من هذه الامكانات لها مضاد يبطلها إن لم تستغل قبل حصوله، فالصحة يعرض لها المرض، والوقت ينقضي ويزول، والفراغ يشغل بأمور أخرى، فالواجب على الانسان استغلال هذه الطاقات بالخير، قبل أن تعطل بالعوارض.

عباد الله: إن الشيطان يحرص على تفويت الخير على ابن ادم ويحاول حبسه عنه مهما استطاع، فإن استطاع منع ابن آدم من فعل الخير بالكلية وشغله بالشر فإنه لا يالوا جهدا في ذلك، كما فعل بالكفار والمنافقين، وإن لم يستطع منع ابن ادم من الخير فإنه يكسله عنه ويشغله عنه حتى يفوته عليه، كما يكسل عن الصلاة وإخراج الزكاة، وكما يفعل مع كثير من الناس اليوم ممن يرتادون المساجد للجمعة والجماعة، فإنه في صلاة الجمعة يكسلهم عن التبكير بالحضور إليها، فبعضهم لا ياتي الا عند دخول الخطيب، وبعضهم لا ياتي إلا عند الاقامة، وبعضهم لا ياتي إلا في آخر الصلاة، فيفوت عليهم ثواب التبكير إلى الجمعة، وقد ورد في حديث ابي هريرة – - أن رسول الله قال : (( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى فكانما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكانما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ))، متفق عليه.

ومن الناس من يفوته هذا الاجر ويفوته استماع الخطبة ايضا فلا يحضر إلا عند الاقامة أو في آخر الصلاة.

وإستماع الخطبة أمر مطلوب من المسلم؛ لأن النبي – - حث على إستماعها، ونهى عن الكلام والامام يخطب؛ لأنه يشغل عن ذلك، عن علي بن ابي طالب – - قال : إذا كان يوم الجمعة خرجت الشياطين يرّيثون الناس إلى اسواقهم – أي: يؤخرونهم – وتقعد الملائكة على ابواب المساجد يكتبون الناس على قدر منازلهم، السابق والمصلي والذي يليه حتى يخرج الامام، فمن دنا من الامام فأنصت واستمع ولم يلغ كان له كِفْلان من الأجر، ومن نأى، أي : بعد عن الامام، فاستمع وانصت ولم يلغ كان له كِفْل من الاجر، ومن دنا من الامام فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كِفْلان من الوزر … الحديث، قال علي بن ابي طالب – - : سمعته من نبيكم – - ورواه احمد وأبو داود بلفظ آخر.

وعن أبي هريرة – - قال: قال رسول الله – - : ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام ))، رواه مسلم وغيره، ومعنى : غُفر له، أي : غُفرت ذنوبه الصغائر وذلك بشرط اجتناب الكبائر.

وفي هذين الحديثين أن استماع الخطبة أمر مقصود ومطلوب من المسلم يؤجر عليه إذا فعله. ويأثم إذا تركه. ويفوته الانتفاع بما يرد في الخطبة من الوعظ والتذكير والارشاد إلى ما فيه الخير والتنبيه على الأخطاء التي قد يكون مرتكبا له وهو لا يدري.

وبعض الناس يستهين بشأن الخطبة ولا يلقي لها بالا، بل يعتبرها أمرا عاديا، فلذلك يحرمون من فوائدها وأجر الاستماع لها، والله سبحانه قد أمر بالسعي إليها وحضورها في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ، وذكر الله: هو الخطبة في قول كثير من المفسرين. مما يدل على أهمية الخطبة وتأكد حضورها واستماعها. ومما يفوت على الذي يتأخر في حضوره لصلاة الجمعة: حصوله على مكان في الأول والتنفل بالصلاة وقراءة القرآن قبل الخطبة وذلك نقص عظيم لما روي عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله – - يقول : ((من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الامام فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سَنة أجر صيامها وقيامها )). رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.

فاتقوا الله – عباد الله – ولا تفوتوا على أنفسكم هذه الخيرات، والذي يطلب منكم إنما هو زمن يسير تتقدمون فيه إلى الجمعة وتحصلون فيه على هذه الخيرات العظيمة. والوعود الكريمة، ولو ذكر لأحدكم طمع دنيوي - ولو كان يسيرا - لبادر إلى طلبه وصبر على ما يعترضه من المشاق ولم يتأخر عنه. فهل أنتم ممن يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، وهل ترضون لأنفسكم بالصفقة الخاسرة ؟.

فاتقوا الله – عباد الله – وامتثلوا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إلى آخر السورة [الجمعة:9-11].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، شهد لِعُمَّار بيوته بالايمان، فقال : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الاخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش الا الله ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله واصحابه ومن اهتدى بهداه، وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واستبقوا الخيرات قبل فواتها، وحاسبوا أنفسكم على زلتها وهفواتها، وكفوها عن الإغراق في شهواتها، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الاماني.

عباد الله : من الناس من يتأخر عن حضوره صلاة الجماعة، فلا يأتي الا عند الإقامة، أو بعد ما يفوت بعض الصلاة أو كلها، فهو يقوم إلى الصلاة ويأتي إليها، ولكنه كقيام واتيان الذين قال الله فيهم: واذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى [النساء:142]، وقال فيهم: ولا ياتون الصلاة إلا وهم كسالى [التوبة:54].

والبعض الاخر يتأخر نهائيا عن الحضور ويصلي في بيته منفردا، وبعدما يخرج وقت الصلاة، فيكون من المضيعين للجماعة والمضيعين للوقت، وذلك في الحقيقة تضييع للصلاة. كما قال تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً [مريم:59]. وقال فيهم: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [طاعون:4-5]. وذلك بسبب تلاعب الشيطان بهم وشغله إياهم بأنواع من الملهيات عن ذكر الله وعن الصلاة، بعضهم يشغله بلهو الحديث الذي هو استماع الملاهي والأغاني ومشاهدة الأفلام والمسلسلات حتى يضيع عليه الجماعة أو وقت الصلاة وقد يسهر على ذلك وينام عن صلاة الفجر، فيكون من الذين قال الله تعالى فيهم: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ، ولهو الحديث هو الأغاني وما يصحبها من الات اللهو كالمعازف والمزامير. وما جد في هذا الزمان من الافلام والمسلسلات،فإنه يدخل في لهو الحديث، ومن الناس من يصده الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة بشرب المسكرات، وتناول المخدرات ولعب القمار، وقد قال الله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذلك الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [المائدة:91]، فيجمعون بين ترك الصلاة وفعل المحرمات.

ومن الناس من يصده الشيطان عن ذكر الله وعن الصلاة بطلب الدنيا والبيع والشراء، ومزاولة الاعمال الدنيوية وقت الصلاة، وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون .

وقد مدح الله الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة، ووعدهم بالثواب الجزيل فقال تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [النور:36-38].

ومن الناس من يحضر الصلاة في الجمعة والجماعة، ولكنه يترك في بيته رجالا لا يحضرون الصلاة من أبنائه أو إخوانه، أو من يسكنون معه لا يأمرهم ويلزمهم بالحضور معه، وهذا يعتبر قد أدى واجبا بحضوره، لكنه ترك واجبا بترك من خلفه ممن مكلف بأمرهم وإلزامهم والقيام عليهم.

فاتقوا الله – عباد الله – بأداء ما أوجب الله عليكم في خاصة انفسكم، وما أوجب الله عليكم نحوا أولادكم ومن تحت ولايتكم (( كلكم راع ومسؤول عن رعيته )).

واعلموا ان خير الحديث كتاب الله

(1/480)

________________________________________

حفظ اللسان

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

آفات اللسان

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

24/4/1420

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الأمر بحفظ اللسان. 2- فضيلة الصمت. 3- خطورة ما يصدر عن اللسان. 4- الدعوة لحبس اللسان.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى وامتثلوا ما أمركم به على لسان نبيه من حفظ اللسان وكف الأذى عن الجيران وعدم الكلام إلا بما يرضي الرحمن فقد روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) متفق عليه.

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى

إن البلاء موكل بالمنطق

سوف يكون حديثي في هذا اليوم عن فضل الصمت والسكوت وذم الكلام والثرثرة والتشدّق والكلام فيما لا يعني ولا يفيد، وما يفضي إليه كثرت الكلام من الإثم والخطأ والزلل.

ولهذا قال الأحنف بن قيس (الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول وهيبة لصاحبه).

فالكلمة الطيبة صدقة فعليك يا أخي المسلم ألا تتكلم إلا بخير وبما يعود بالنفع ولهذا كان الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم فإنه أكثر ما يندم إذا نطق، وأقل ما يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءا وأعظمه بلاءا من ابتلي بلسان مطلقٍ لا يسكت ولا يكِلّ ولا يتعب ولقد أحسن الذي يقول:

إن كان يعجبك السكوت فإنه قد كان يعجب قبلك الأخيار

ولئن ندمت على سكوت مرة فلقد ندمت على الكلام مرارا

إن السكوت سلامة ولربما زرع الكلام عداوة وضرارا

أيها الإخوة:

إن الصمت خصلة من خصال الإيمان وسبب موجب لصاحبه إن كان مؤمنا لدخول الجنان فقد ورد عن النبي العدنان عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال: ((من صمت نجا)) وقال أيضا: ((من يضمن لي ما بين لحييه – يعني اللسان وما بين فخذيه أضمن له الجنة)).

ولهذا يقول ابن مسعود : (ما شيء أحوج إلى طول حبس من لسان) وقد كان أبوبكر الصديق يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد).

فحفظ اللسان من كثرة الكلام ولزوم الصمت سلامة من الشر، ومنجاة من الهلكة، والمرء مخبوءٌ تحت لسانه فإذا تكلم بان وظهر، ورحم الله امراء قال فغنم وسكت فسلم: ((ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))، ولهذا عندما أوصى النبي عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل بوصايا كثيرة فقال يا رسول الله أوصني بملاك هذا كله فقال له: - وأشار إلى لسانه – ((أمسك عليك هذا)) فقال معاذ: أو إنّا مؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) وقد أكثر العلماء والحكماء وغيرهم في الأمر بحفظ اللسان وترك الكلام فيما لا خير فيه، وقد رأى النبي ثقبا صغيرا يخرج منه ثور كبير ويحاول الرجوع إليه فلا يستطيع فسأل عنه فقيل له: هذا مثل الكلمة تخرج من فم الإنسان يستطيع ردّها، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا تكون عليه حسرة وندامة يوم القيامة وكما قيل: إن اللسان صغير جِرمه كبير جُرمه كما قد قيل في المثل.

وما خلق الله للإنسان لسانا وأذنين إلا ليسمع أكثر مما يقول وقد عدّ بعض العلماء للسان عشرين آفة كلها من الكبائر ولهذا يقول الأوزاعي: (ما بلي أحد في دينه ببلاء أضر عليه من طلاقة لسانه).

أيها الإخوة: إن قلة الكلام ولزوم الصمت أدب من الآداب التي ينبغي لكل فرد منا ولكل مسلم أن يتحلى بهذا الأدب الرفيع ولذلك فإن العلوم التي لها صلة بأدب اللسان وأدب الكلام تعتبر مفروضة فرض عين لما يترتب على ذلك من آثار بنّاءة أو مدمرة في قضية الفرد أو الأسرة أو المجتمع.

وإذا نسي المسلم أدب الكتمان ولزوم الصمت فكم يترتب على ذلك من مآسي قد تبلغ التدمير للأمة فضلا عن الفرد، وكما قيل: رب كلمة قالت لصاحبها دعني، وإذا نسي المسلم تحريم الغيبة أو النميمة فكم يترتب على ذلك من فساد وإفساد في أكثر من محيط وعلى أكثر من مستوى.

وإذا فات المسلم أن يزن كلمته التي ينطق بها فكم يترتب على ذلك من أخطاء وآثار وجراح ومشاكل قد لا تنتهي فينبغي للمسلم أن يزن كلمته وأن يحذر الاسترسال في الكلام فإن للكلام سقطات وكما قال عمر بن الخطاب : (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه)، وكما قيل:

احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

وقال ابن المبارك رحمه الله:

جربت نفسي فما وجدت لها من بعد تقوى الإله كالأدب

في كل حالاتها إن كرهت أفضل من صمتها عن الكذب

أو غيبة الناس إن غيبتهم حرمها ذو الجلال في الكتب

قلت لها طائعا وأكرهها الحلم والعلم زين ذي الحسب

إن كان من فضة كلامك يا نفس فإن السكوت من ذهب

وقد ورد عن النبي أحاديث كثيرة في حفظ اللسان وفضل الصمت وقد سئل مرة: ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: ((الأجوفان الفم والفرج))، وقال في حديث آخر: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) رواه أحمد. فاللسان بريد القلب وترجمانه والمعبر عنه وهو الجارحة التي تخضع لها بقية جوارح البدن وكما ورد في الحديث أن النبي قال: ((إذا أصبح ابن آدم، أصبحت الأعضاء كلها تكفر اللسان - أي تذل وتخضع له- وتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا)) وفي الترمذي من حديث ابن عمر أن النبي قال: ((لا تكثر الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي)) وقيل: إن اللسان يقول كل يوم للجوارح: كيف أنتن؟ فيقلن له: نحن بخير ما تركتنا، وإذا كان من الخير ومن تمام الإيمان أن تقول خيرا أو تصمت فالنطق بالخير أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وتعلّم الجاهل، وتذكر الغافل وتنذره من عقاب الله، وترشد الضال إلى طريق الهداية ومن ذلك تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل، والإصلاح بين المتخاصمين، وإفشاء السلام ومخاطبة الناس بطيب الكلام لا سيما أهل الإسلام وقولوا للناس حسنا ، والدعاء بما تريد من الصالحات وبما تريد من خيري الدنيا والآخرة والصلاة على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وغير ذلك من الأمور التعبدية المرغب في العمل بها بما يوافق الشرع.

وأما كف اللسان ولزوم الصمت وحفظه عن الشر فمن ذلك الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والسب والشتم واللعن وقذف المحصنات والسخرية من الآخرين والهمز واللمز وإفشاء السر وبذاءة اللسان والخصومة والجدال بغير الحق وكثرة المزاح باللسان فإنه ثقيل على القلب ويجرح مشاعر الآخرين ويورّث الحقود الكمينة، ويحرك الضغينة وكذا فضول الكلام، الذي لا حاجة إليه والكلام بما لا يعنيه، والتشدق في الكلام والتقعر فيه، لا ليأتي صاحبه بالحكمة البالغة، والموعظة المؤثرة، ولكن ليظهر فضله على الناس ويتعالى عليهم ويحب المدح منهم بما ليس فيه وفي الحديث الحسن: ((شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون بالكلام)) وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بلسانها))، ومن الناس من يعجبه كثرة الكلام ولو كان فيه حتفه، قوال، وثرثار مكثار، إذا جلس معك أقحمك بالخوض في الباطل، والحديث فيما لا يعنيه، قد جرد لسانه مقراضا لتمزيق الأعراض والاستثمار بالآخرين والطعن في الصالحين أو الاستطالة على من هم دونه في العلم والجسم، وربما حرص أن يتكلم في جمعٍ من الناس، فكذب ولحن في القول والفعل، وجعل الصواب خطأ، والخطأ صوابا، والحق باطلا، والباطل حقا ومع ذلك يحب أن يتكلم في كل مجلس بنوع مشاركة سواء كان الحديث مناسبا أم لا؟ فهو يهرف بما يعرف وما لا يعرف.

ولا شيء أخطر على أحد من لسانه كالمرأة التي تتكلم بلا حساب، ولا تسكت عن ذكر جاراتها وما فعلن، وكيف كان الاجتماع يوم أمس واليوم في بيت فلانة وما يقول النساء هناك وما يصنعن، وبعضهن يذكرن ما يقع بينها وبين زوجها من المعاشرة، وبعضهن يحتقرن الأخريات من النساء فهذه في نظرها قصيرة وهذه سمينة، وهذه قبيحة وهذه لا تعجبني وهذه متكبرة وهذه كيت كات وهكذا فنجد مثلا مجالس النساء كلها إلا ما ندر بمثل الحال التي ذكرنا والسبب في ذلك عدم الوعي وقلة المعرفة وضعف الدين وانطماس البصيرة والركون إلى الدنيا ومسايرة الركب حتى لا يقال عنها أنها لا تحسن معاشرة الناس وليست لديها أي اهتمام بما يحدث ويصير فتضطر أن تركب الصعب وتترك الخير ولا تلزم الصمت فتقع في المحظور.

وبعض من ليس له حظ من العلم يغتاب الأحياء والأموات بحجة تحذير الناس وتيين الخطأ من الصواب، ولا يترك حيا ولا ميتا من أهل الفضل إلا ويقول فيه شرا أو ينسب إليه ما هو منه بريء أو يحمل عليه حملة منكرة لزلة قلم أو سبق لسان وسبحان من لا عيب فيه، ولا تخفى عليه نيات عباده وكما قيل:

شر الورى من بعيب الناس مشتغل

مثل الذباب يراعي موضع العلل

وكثرة الجدال والمراء ومجاراة السفهاء من آفات اللسان والحكيم الرشيد من حفظ نفسه، وكف لسانه إلا عن حق ينصره، أو باطل ينكره أو غيبة يردها عن أخيه المسلم الغائب وقد ورد في الحديث: ((من حمى مؤمنا من منافق يعيبه، بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم)) رواه أبو داود وهو حديث حسن.

معشر المسلمين: يا من تريدون النجاة في الآخرة إن النجاة لا تكون إلا بحفظ اللسان كما ذكرنا، وقد ورد في الحديث الصحيح أن عقبة بن عامر لحق النبي فقال له: ((ما النجاة؟ فقال: أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) رواه الترمذي وأحمد.

فاتقوا الله أيها المسلمون واحرصوا كل الحرص على الكلام وليكن صمت الواحد منا فكراً أو نطقه ذكرا ونظره عبرا حتى نسلم من غضب الله وعقوبته وبطشه فالصمت تفكر وذكر ودعاء ومناجاة والكلام لخير في الدين أو الدنيا وما سوى ذلك فهو من اللغو الذي نهانا الله عنه، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بلغني أن العبد ليس على شيء من جسده بأحسن منه على لسانه يوم القيامة، إلا أن يكون قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم).

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا .

والكلام أربعة أقسام:

ضرر محض كالكذب والنميمة وغيرها من الصفات التي ذكرنا آنفا، وقسم نفع محض وهذا كله خير كالذكر والأمر والنهي، وغير ذلك، وقسم فيه نفع وفيه ضرر فالمصلحة والامتناع منه خشية أن يزيد ضرره على نفعه ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقسم لا ضرر فيه ولا منفعة وهو الكلام الفاضي الذي أكثر الناس عليه من قصص ومغامرات ونكت فهذا ينبغي تركه.

-------------------------

الخطبة الثانية

أيها الإخوة: بعد الذي ذكرنا من آفات اللسان والترغيب في لزوم الصمت نذكر الآن بعض ما ورد من الأحاديث التي ذكر فيها الوعيد الشديد لمن ألقى الكلام جزافا دون التفكر في عاقبته فمن ذلك ذكر للنبي امرأة كانت تكثر من صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال عليه الصلاة والسلام: ((هي في النار))، رواه أحمد والبيهقي.

وورد أيضا في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))، وفي مسند الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة بسند صحيح عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له من رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه))، فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث.

وقال سلمان : (أكثر الناس ذنوبا يوم القيامة، أكثرهم كلاما في معصية الله)، فبالله عليكم كيف يكون حال المغنيين الذين يصدون الناس بالباطل عن الله، فمن تكلم بالباطل فهو شيطان ناطق.

ولهذا قال عبد الله : (أكثر الناس خطايا يوم القيامة، أكثرهم خوضا في الباطل)، وقال إبراهيم: (المؤمن إذا أراد أن يتكلم نظر، فإن كان كلامه له تكلم، وإلا أمسك عنه، والفاجر إنما لسانه رسلا رسلا).

وذكر ابن كثير رحمه الله عن ابن عباس في قوله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت، وذكر أيضا عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه الذي مات فيه، فبلغه عن طاووس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن الإمام أحمد رحمه الله حتى مات.

وكان طاووس رحمه الله، يعتذر من طول السكوت، ويقول: إني جربت لساني، فوجدته لئيما وضيعا. وقال أحد السلف: إن ترك فضول الكلام والطعن في الناس أشق على النفس من قيام الليل: وقال آخر: كثرة الكلام تذهب بالوقار، وقال عمر بن قيس: أن رجلا مر بلقمان الحكيم والناس مجتمعون حوله، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال :بلى، قال: ألست الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فما الذي بلغ بك ما أرى؟ قال: (بصدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني)، وأما ما ورد عن السلف في حفظهم لمنطقهم وكلامهم فمن ذلك يقول ميمون بن سياه: ما تكلمت بكلمة منذ عشرين سنة، لم أتدبرها قبل أن أتكلم به، إلا ندمت عليها، إلا ما كان من ذكر الله)، وعن أبي عبيد قال: (ما رأيت رجلا قط أشد تحفظا في منطقه من عمر بن عبد العزيز ))، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله (كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة).

وعن أرطأة بن المنذر قال: (تعلم رجل الصمت أربعين سنة، بحصاة يضعها في فمه، لا ينزعها إلا عند طعام أو شراب أو ذكر أو نوم).

وقال شداد بن أوس مرة لغلامه (إئتنا بسفرتنا فنعبث ببعض ما فيه فقال له بعض أصحابه: ما سمعت منك كلمة منذ صاحبتك، أرى أن يكون فيها شيء من هذه؟ قال: صدقت ما تكلمت بكلمة مذ بايعت رسول الله إلا ألزمها وأخطمها إلا هذه، وأيم الله لا تذهب مني هكذا، فجعل يسبح ويكبر ويحمد الله عز وجل) وقال سفيان الثوري رحمه الله (طول الصمت مفتاح العبادة)، وقال كعب (قلة المنطق حكم عظيم فعليكم بالصمت فإنه خلق حسن وقلة وزر، وخفة من الذنوب) وفي الحديث: ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)).

أيها الأخ المسلم: اعلم أنه قد وكل بك ملك عن اليمين وعن الشمال فأما الذي عن يمين فيحفظ الحسنات وأما الذي عن الشمال فيحفظ السيئات، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، وحسبك أن تستشعر وأنت تهم بأية حركة أو بأية كلمة أن عن يمينك وعن شمالك من يسجل عليك الحركة والكلمة، لتكون في سجل حسابك بين يدي الله الذي لا يضيع عنده فتيل ولا قطمير، ولذلك فإن الإنسان منا يجد كتابه قد حوى كل شيء صدر منه، وعندما يرى الكل كتب أعمالهم يوم القيامة فإنهم يقولون: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ، فقل خيرا تغنم وإلا فاعلم أنك ستندم فهل بعد الذي سمعنا يكون هناك مطمع في كلام أو رغبة في ملام؟ فاحذروا رحمكم الله من ألسنتكم واعلموا أن قبل اللسان شفتان وأسنان فهل يحجزاكم عن الكلام؟ أرجو أن يكون كذلك اللهم انفعنا بما سمعنا ووفقنا لحسن القول ولزوم الصمت إنك على كل شيء قدير.

(1/481)

________________________________________

في التحذير من الذنوب وعقوباتها

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

آثار الذنوب والمعاصي

-----------------------

صالح بن فوزان الفوزان

الرياض

البساتين

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

آثار المعاصي , وكونها من الإفساد في الأرض – تفاوت الذنوب وتفاوت مفاسدها , وأقسامها التحذير من كبائر الذنوب , وبيان لبعض الكبائر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد :-

أيها الناس : اتقوا الله تعالى واحذروا المعاصي فإن لها أثرا سيئا على العاصي وعلى المكان والسكان، قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [الأعراف: 56] أي: لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي والظلم بعد إصلاحها بالتوحيد والعدل والطاعة وإرسال الرسل.

فالمعاصي تضر بالقلوب كضرر السموم في الأبدان . وهل ما في الدنيا والآخرة من شرور وعقوبات إلا وسببه الذنوب والمعاصي ، فما الذي أهلك الأمم الماضية الا الذنوب والمعاصي.

قال تعالى: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [العنكبوت: 40] .

والذنوب تتفاوت وتنقسم إلى كبائر وصغائر وتتفاوت مفاسدها وعقوباتها في الدنيا والآخرة، قال الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله : ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة اقسام : ((مَلكِية، وشيطانية ، وسَبْعية ، وبهيمية )) لا يخرج عن ذلك .

فالذنوب الملكية : أن يتعاطى ما لا يصلح له من صفات الربوبية ، كالعظمة والكبرياء والجبروت والقهر والعلو بغير الحق واستعباد الخلق ونحو ذلك ، ويدخل في هذا الشرك بالرب تبارك وتعالى ، وهذا القسم أعظم انواع الذنوب . ويدخل فيه القول على الله بلا علم في خلقه وامره ، فمن كان من أهل هذه الذنوب فقد نازع الله سبحانه في ربوبيته وملكه وجعل نفسه له ندا . وهذا أعظم الذنوب عند الله ولا ينفع معه عمل .

وأما الشيطانية : فالتشبه بالشيطان في الحسد والبغي والغش والغل والخداع والمكر والأمر بمعاصي الله وتحسينها ، والنهي عن طاعة الله وتهجينها ، والابتداع في دينه والدعوة إلى البدع والضلال ، وهذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة وإن كانت مفسدته دونه .

وأما السبعية :فذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء والتوثب على الضعفاء والعاجزين.

وأما الذنوب البهيمية : فمثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج . ومنها يتولد الزنى والسرقة وأكل أموال اليتامى والبخل والشح والجبن والهلع والجزع وغير ذلك .

وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية ومنه يدخلون سائر الاقسام.

عباد الله : لقد حذر النبي - - من المعاصي وعقوباتها عموما . وحذر من كبائر الذنوب خصوصا لأن خطرها أشد ، ففي الصحيح عنه – - أنه قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله . فقال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور)) وفي الصحيح أيضا عنه – - : ((اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : وما هن يارسول الله ؟ قال : الإشراك بالله والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ألا بالحق، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )). وفي الصحيح أيضا عنه – - أنه سئل : أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ، قيل : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك ))، فأنزل الله تعالى تصديقها: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [الفرقان: 68] .

ولما كان الشرك أكبر الكبائر ، لأنه ضد التوحيد الذي خلق الله الخلق من أجله … حرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد . وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته ، وأبي الله سبحانه أن يقبل من مشرك عملا ، ويقبل فيه شفاعة ، أو يستجيب له في الآخرة دعوة أو يقبل له فيها رجاء. ولما كان السحر من عمل الشيطان كما قال تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [البقرة : 102] .

لأن الساحر في الغالب يتعامل مع الشياطين يخضع لهم ويتقرب إليهم ؛ صار مفسدا للعقيدة ومفسدا للمجتمع ، لما يحدثه من الأضرار بإحداث التباغض بين المتحابين ، كما قال تعالى: فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه [البقرة : 102 ] ، ويحدث أمراضا وقتلا ، لما كان يشتمل على هذه الأضرار وغيرها صار قرينا للشرك ويليه في المرتبة ، وحكم الشارع بكفر السحرة وثبت الأمر بقتلهم عن جماعة من الصحابة لإراحة المجتمع من شرهم ، ونهى النبي – - عن الاتصال بهم والذهاب إليهم .

ويلي الشرك في كبر المفسدة القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وفي عبادته وتحليله وتحريمه من وصفه بما لم يصف به نفسه ، أو نفي ما وصف به نفسه أو إحداث عبادة لم يشرعها ، أو تحليل ما حرمه أو تحريم ما أحله . فإن ذلك كله ابتداع في دين الله وتنقص لجلال الله .

والبدعة أحب إلى إبليس من كبار الذنوب كما قال بعض السلف الصالح : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها وهي اتباع للهوى . قال إبليس – لعنه الله - : أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني ب لا إله إلا الله وبالاستغفار . فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الاهواء ، فهم يذنبون ولا يتوبون . لأنهم يَحَسبون أنهم يحسنون صنعا ، والمذنب ضرره على نفسه فقط . والمبتدع ضرره على الناس . وفتنة المبتدع في أصل الدين. وفتنة المذنب في الشهوة … والمبتدع يصد الناس عن الدين الصحيح إلى البدع المحدثة والدين الباطل .

ومن الكبائر الموبقة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقد قال الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [النساء : 93]، وقال تعالى: من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكانما أحيا الناس جميعاً [ المائدة : 32] .

وإنما صار قاتل النفس الواحدة ظلما وعدوانا كالقاتل للناس جميعا ،لأنه لما تجرأ على سفك الدم الحرام فإن من قتل نفسا بغير استحقاق بل لمجرد الفساد في الارض ، أو لأخذ مال المقتول ، فإنه يتجرأ على قتل كل من ظفر به وأمكنه قتله ، فهو معاد للنوع الإنساني ، لأن الله جعل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، فإذا أتلف القاتل عضوا من ذلك الجسد فكانما أتلف سائر الجسد وآلم جميع أعضائه ،فمن آذى مؤمنا واحدا فقد آذى جميع المؤمنين ، وفي أذى جميع المؤمنين أذى لجميع الناس ،فإن الله إنما يدافع عن الناس بالمؤمنين الذين هم بينهم ،لأن من قتل نفسا بغير حق فقد جرأ غيره على القتل ، وسن سنة سيئة لغيره من الاعتداء على الناس جميعا ، وقد قال النبي – - : ((لا تقتل نفس ظلما بغير حق إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها ، لأنه أول من سنّ القتل ))، وقتل النفس بغير حق يتفاوت إثمه وضرره بحسب مفسدته ، فقتل الانسان ولده الصغير الذي لا ذنب له خشية أن يطعم معه أو يشاركه في ماله من أعظم أنواع الظلم وأكبر الكبائر ، وكذا قتله لوالديه تجتمع فيه جريمة القتل وجريمة العقوق وجريمة قطيعة الرحم . وكذلك قتله لبقية قرابته فيه جريمة القتل وجريمة القطيعة ، وهكذا تتفاوت درجات القتل بحسب قبحه وسوء أثره ، ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي . ويليه من قتل إماما عادلا أو عالما يأمر الناس بالقسط .

ومن الكبائر الموبقة جريمة الزنا ، فهو من أعظم المفاسد لأنه يترتب عليه فساد نظام العالم في حفظ الأنساب وحماية الفروج وصيانة الحرمات ، وهو يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، ويسبب حدوث الأمراض الخطيرة ، وكل من الزناة يفسد زوجة الآخر وأخته وبنته وأمه، وفي ذلك خراب العالم ، ولهذا كانت جريمة الزنا تلي جريمة القتل في الكبر ، ولهذا نهى الله عن قربه، وأخبر أنه فاحشة وساء سبيلا في قوله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً [ الاسراء : 32 ].

والنهي عن قربه أبلغ من النهي عن فعله ، لأنه نهي عنه وعن الوسائل المفضية إليه . كالنظر المحرم والخلوة بالمراة الأجنبية ، واختلاط المراة بالرجال ، وحرم التبرج والسفور وسفر المراة بدون محرم ، كل ذلك من أجل الابتعاد عن الزنا . وقال الإمام ابن القيم : ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العالم ،فإن المراة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس ، وإن حملت من الزنا ، فإما أن تقتل ولدها فتجمع بين الزنى والقتل ، وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله أجنبيا ليس منهم ، فورثهم وليس منهم ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم . وأما زنى الرجل فإنه يوجد اختلاط الأنساب وإفساد المراة المصونة وتعريضها للتلف والفساد . ففي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين ؛ فكم في الزنا من استحلال محرمات وفوات حقوق ووقوع مظالم ، ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس . ومن خاصيته أيضا أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته .

ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان ، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدة الزنا . ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ( يعني أن الزاني يجب رجمه بالحجارة حتى يموت ) ولو بلغ الرجل أن امراته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت .

وخص سبحانه حد الزنى بثلاث خصائص من بين سائر الحدود ، أحدهما : القتل فيه باشنع القتلات ، والثاني : أنه نهى عباده أن تاخذهم بالزناة رأفة في دينه ، بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم .

الثالث : أنه أمر سبحانه أن يقام حد الزنا بمشهد من المؤمنين ، فلا يكون في خلوة حيث لا يراه احد.

فاتقوا الله – عباد الله – واجتنبوا الذنوب والمعاصي ما ظهر منها وما بطن .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً [ الفرقان : 68-70 ] .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين ، حرَّم الفواحش ما ظهر منا وما بطن ، وأمر بتقواه في السر والعلن . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله – - وسلم تسليما كثيرا… أما بعد :

أيها الناس : اتقوا الله تعالى واجتنبوا الإثم والفواحش لعلكم تفلحون .

عباد الله : ومن الكبائر الموبقة جريمتان عظيمتان مهلكتان كثر وقوعهما اليوم وتساهل الناس فيهما . وهما ترك الصلاة وأكل الربا .

فأما ترك الصلاة فإنه كفر مخرج من الملة – على الصحيح – وإن لم يجحد وجوبها ، قال تعالى: فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [القيامة: 31-32]، وقال تعالى عن أصحاب النار: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين [المدثر: 42-43] ، وقال النبي – - : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )) رواه الامام أحمد وأهل السنن .

وقال الترمذي حديث صحيح إسناده على شرط مسلم ، قال الإمام ابن القيم : لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، وأن إثمه أعظم عند الله من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر ،وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والاخرة

فاتقوا الله – يا من تهاونتم بالصلاة – فإنكم ضيعتم أعظم أركان دينكم بعد الشهادتين ، وضيعتم عمود الإسلام فماذا بقي عندكم من الدين؟ وما هي حجتكم عند رب العالمين اتقوا الله يا من تتركون في بيوتكم رجالا لا يصلون ولا يدخلون المساجد ليلا ولا نهارا كأنهم يهود أو نصارى . لقد آويتم أعظم العصاة والمجرمين وعرضتم أنفسكم ومن في بيوتكم لأعظم العقوبات .

وأما أكل الربا فقد أصبح متفشيا بين أصحاب الأموال والمستثمرين ، غير مبالين بوعيد الله وعقوبته ، وقد أعلن الله الحرب منه ومن رسوله على أَكَلَةِ الربا ، فليلبسوا سلاحهم لمحاربة الله ورسوله وليستعدوا للقدوم على النار وسوء القرار ، إن لم يتوبوا إلى ربهم

عباد الله : إن باب التوبة مفتوح أمام كل تائب ، فبادروا بالتوبة إلى الله قبل غلق هذا الباب ، قال تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً اليماً .

وعلموا أن خير الحديث كتاب الله

(1/482)

________________________________________

حقيقة الصيام

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

الصوم, فضائل الأعمال

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

5/9/1413

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- دعوة لاغتنام الأوقات في طاعة الله. 2- ضرورة التغيير في أحوالنا مع مقدم رمضان. 3- الصيام الحقيقي صيام الجوارح. 4- دور عبادة الصيام في التربية وإلجام الشهوات. 5- من حكم الصيام معرفة نعم الله والتذكير بالفقراء. 6- دعوة للاقبال على بعض الطاعات في رمضان. 7- ليلة القدر وفضلها. 8- تلاوة القرآن فضلها وآدابها.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا ربكم العظيم واشكروه إذ بلغكم هذا الشهر الكريم وسلوه سبحانه أن يحبب إليكم فعل الخيرات وأن يعينكم على أداء ما شرع لكم من الطاعات والواجبات والمستحبات وعلى ترك المحرمات والمشتبهات لتكونوا من المؤمنين حقا والمتقين صدقا، اعمروا أوقاتكم بالأعمال الصالحة فإنها هي التجارة الرابحة وفرصتها اليوم سانحة فقد أعطاكم الله المهلة من الزمان ومكنكم من العمل وبلغكم رمضان ورغبكم في خصال الإيمان فلا تضيعوا هذا الشهر الشريف وهذا الموسم العظيم في غير طائل أو فيما يمكن استدراكه في غيره وتفويت خير النهار بالنوم والكسل والغفلة عن صالح العمل، احفظوا صيامكم فلا تعرضوه لما يفسده أو يخل به أو يذهب أجره من الأعمال المحرمة والأقوال الآثمة فإن الكثير من الناس يضيعون أوقاته وشريف لحظاته بمشاهدة سيئ الأفلام وسماع الأغاني وغيرها من محرم الكلام، ومن تأمل حال الكثير من الناس يجد أن حالهم لم يتغير في رمضان وكأن شهر رمضان هو الإمساك عن الأكل والشرب فقط، وما علموا أن شهر رمضان هو ترويض للنفس لفعل الطاعات من صلاة مع الجماعة في المسجد ومن صيام وقيام وتلاوة قرآن واجتناب كل ما يخدش الصيام من غيبة ونميمة وغش وسماع لآلات الموسيقى والنظر فيما حرم الله وغير ذلك من الآداب الواجبة على الصائم.

فالصائم الحقيقي هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش والغيبة والنميمة وقول الزور وبطنه عن الأكل والشرب وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه نافعا صالحا، وكذلك أعماله، فهي بمنزلة الرائحة التي يشمّها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، وقد ورد في الحديث عن النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري، وفي الحديث الآخر: ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.

فالصوم الحقيقي إذن: هو صوم الجوارح من الآثام وصوم البطن عن الطعام والشراب، فكما أن الطعام والشراب يقطعه فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم، قال جابر بن عبد الله : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة ولا يكن يوم صومك ويوم فطرك سواء).

لهذا كان لابد للصائم من آداب تجب مراعاتها والعمل بها في الصوم والإفطار وإلا لم يكن له من حظ صومه إلا الجوع والعطش.

فمنها غض البصر عما حرم الله من النظر المحرم إلى العورات وإلى النساء سواء كان ذلك في مجلة أو تلفاز أو فيديو لا يجوز للمسلم أن ينظر إلى هذه الصور قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ومنها صون السمع عن الإصغاء إلى كل محرم كالغناء والموسيقى لأن الإنسان مسؤول عن سمعه كما هو مسؤول عن بصره فقائل القبيح والمستمع إليه شريكان في الإثم، ومنها حفظ اللسان عن النطق بالفحش والبهتان وقول الزور والخصومة والسب والشتم وأن يلزم الصمت إذا شتمه أحد ليس عجزا عن الأخذ بالثأر ولكن بتبين حاله أنه صائم إشارة إلى أنه لن يقابل من شتمه بالمثل قال : ((الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)) وغير ذلك من الآداب.

أيها المسلمون: إن في الصيام تتجلى عند الصائمين القوى الإيمانية والعزائم التعبدية يدعون ما يشتهون ويصبرون على طاعة ربهم، وفي الصيام يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله، وهجر الرغائب، والمشتهيات، يدعون رغائب حاضره لموعد مغيب لم يروه إنه قياد للشهوات وليس انقيادا لها، وفي النفوس نوازع شهوة وهوى، وفي الصدور دوافع غضب وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق ولا يدافع ذلك إلا بالصبر والمصابرة ولا يحتمل العناء إلا بصدق المنهج وحسن المراقبة، وما الصوم إلا ترويض للغرائز وضبط النوازع، والناجحون عند العقلاء هم الذين يتجاوزون الصعاب ويتحملون التكاليف ويصبرون، وفي الشدائد تعظم النفوس ويعلو أصحابها حين تترك كثير من الملذات وتنفطم عن كثير من الرغائب.

ومتى كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

أيها الإخوة: إن من حكم الصيام أن يعرف المرء مقدار نعم الله عليه فالإنسان إذا تكررت عليه النعم، قل شعوره بها، فالنعم لا تعرف إلا بفقدانها فالحلو لا تعرف قيمته إلا إذا ذقت المر، والنهار لا تعرف قيمته إلا ذا جن الليل وبضدها تتميز الأشياء، ففي الصوم معرفة لقيمة الطعام والشراب والشبع والري، ولا يعرف ذلك إلا إذا ذاق الجسم مرارة العطش ومرارة الجوع، ومن أجل ذلك ورد عن النبي أنه قال: ((عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.

ومن أسرار الصيام الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، لأن الذي نبت في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله وأنه مادام يجد فالناس يجدون ومادام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخير فلن يحرم الناس الخبز والطعام، ولكن الصوم يجعل الغني يشعر أن هناك معدات خاوية وبطونا خالية وأحشاءا لا تجد ما يسد الرمق ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الإنسان وإسلام المسلم، وإيمان المؤمن أن يرق قلبه وأن يعطى المحتاجين وأن يمد يده بالعون إلى المساكين، فإن الله رحيم وإنما يرحم من عباده الرحماء فكما يكون الإنسان لعباد الله يكن الله له.

أيها الإخوة: جدير بشهر هذه بعض فضائله وأسراره وتلك بعض خصاله أن يفرح به المتعبدون ويتنافس في خيراته المتنافسون.

واعلموا أن حصيلة المؤمن في دنياه غير محدودة بالساعات والثواني وكسبه المبذول رصيد مدخر بالأعمال المنجزات من غير كسل ولا تواني، يتقلب في عمر الحياة بقدر ما كتب له من فسحه، ويكدح فيها لينال أكبر المغانم، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل فمن كانت حصيلته ملأى بالخير من مختلف صنوفه فليهنأ وليتمسك بالعروة الوثقى ثم ليفرح بفضل الله عليه وأما من كان غارقا في الشهوات والنزوات ولا يستغل المواسم المباركة في الطاعات فهذا قد طال عناؤه وعظم شقاؤه وكان في حياته كالأنعام بل هو أضل سبيلا.

أمة الصيام والقيام والقرآن: لقد دخل علينا شهر رمضان وهو شهر مليء بالفضائل والأعمال الصالحة فينبغي لنا اغتنام هذا الشهر قبل أن يفوت وقد يكون آخر رمضان تعيشه فبادروا بعمارة أيامه ولياليه بالأعمال الصالحة التي تتأكد فيه ومن هذه الأعمال: صلاة التراويح وهي صلاة القيام ولكنها في رمضان تتأكد لأن لها مزية وفضيلة على غيرها لقول النبي : ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ومعنى قوله: (إيمانا) أي إيمانا بما أعده الله من الثواب للقائمين، ومعنى قوله: (احتسابا)، أي طلبا لثواب الله لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعه ولا طلب مال ولا جاه وإنما سميت تراويح لأن الناس كانوا يطيلونها جدا فكلما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلا، وكان النبي أول من سن الجماعة في صلاة التراويح في المسجد ثم تركها خوفا من أن تفرض على أمته، ولما انقطع التشريع بموته أحيا عمر بن الخطاب هذه السنة وأمر بصلاتها جماعة خوفا من أن تنسى بعد ذلك، ولهذا لا ينبغي للرجل أن يتخلف عن صلاة التراويح في الشهر كله لينال ثوابها وأجرها ولا ينصرف منها حتى ينتهي الإمام من صلاة الوتر ليحصل له أجر قيام الليل كله، لما ورد عن النبي أنه قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) بسند صحيح.

وأحب أن أنبه كل مصل ألا يستعجل وينصرف من صلاة التراويح لأني أرى الكثير من الناس يصلي حتى إذا لم يبق إلا الوتر خرج وضيع على نفسه أجر قيام ليلة، فانتبهوا لهذا الأمر. ومن الأعمال التي تتأكد في هذا الشهر، العمرة، فقد ثبت عن النبي أنه قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)) رواه البخاري ومسلم وفي رواية قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي)) فهنيئا لك يا مسلم بحجة مع النبي تؤديها بسهولة ويسر وترجع منها مغفور الذنب لقول النبي : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)) رواه الجماعة. وقال أيضا: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد)) رواه النسائي وهو حديث صحيح.

ومن الأعمال التي تتأكد في هذا الشهر تحري ليلة القدر، وقد روي في فضلها أن من قامها ابتغاءا لها غفر له ما تقدم من ذنبه قال : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه، وقال تعالى: ليلة القدر خير من ألف شهر فقال مجاهد في تفسيرها: أي خير من ألف شهر عملها وصيامها وقيامها.

وقد ذكر ابن جرير بسنده: عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ففعل ذلك ألف شهر يعني ثلاثة وثمانين سنة وثلاثة أشهر، فأنزل الله هذه الآية: ليلة القدر خير من ألف شهر فقيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل، فعمل في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

وهذه الليلة العظيمة كان النبي يتحراها ويأمر أصحابه بتحريها وكان يشد مئزره ويوقظ أهله رجاء أن يدركها ويوافقها.

وفي المسند بإسناد صحيح: ((من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))، ومن حرم خير هذه الليلة فهو الشقي المحروم أي وربي، كيف وقد عرف هذه الفضائل ثم ضيعها ولم يجتهد فيها ولم يتحراها فنسأل الله عز وجل أن يبلغنا إياها وأن يوفقنا لقيامها وأن يتقبلها منا فيغفر لنا فيها ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. ومن الأعمال التي تتأكد أيضا: الصدقة وقد كان النبي أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقد قال : ((أفضل الصدقة صدقة رمضان))، رواه الترمذي، فلا تبخلوا تصدقوا وأنفقوا فإنه ما نقصت صدقة من مال بل تزيده ولا تنسوا إخوانكم في البوسنة والصومال وكشمير وغيرهم ممن أنهكهم الجوع والمرض والحروب والتقتيل والتشريد.

فيا من أضاع عمره في اللهو واللعب والغفلة، هذه الفضائل خذ بها كلها في شهر الرضا والمزيد ولا تزهد في الأجر واستدرك ما فاتك وتحر ليلة القدر فإنها تحسب من العمر والمحروم والله من فاته الشهر ولم يفز بشيء من فضائله.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

أما بعد:

ومن الأعمال التي تتأكد في شهر الرضا والمزيد قراءة القرآن، فشهر رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته، والقرآن الكريم له في رمضان طعم ومذاق، يعيد ذكرى نزوله، وأيام تدارسه وأوقات اهتمام السلف به.

ورد عن النبي أنه قال: ((كان جبريل يعارضني القرآن في كل عام من رمضان مرة وقد عارضني القرآن في هذا العام مرتين)).

وقد كان سلفنا الصالح إذا قدم شهر رمضان فتحوا المصاحف وقضوا أوقاتهم مع القرآن ثبت عن الإمام مالك أنه إذا دخل عليه رمضان، ترك قراءة الحديث ومجالس العلم وأقبل على القرآن. وكان الإمام الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام، وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال دائما وفي رمضان في ثلاث، وكان النخعي يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث، وينبغي لمن يقرأ القرآن أن يتدبر معانيه وأن يتفكر في ألفاظه قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .

ولا يكون التدبر إلا إذا كانت القراءة بتأن وترتيل قال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أقرأ القرآن كله، وقد نهي عن الإفراط في الإسراع في قراءة القرآن وقد ذكر الزهري أن قراءة النبي كانت آية آية وهذا هو الأفضل وكان يرتل السورة حتى تكون أطول منها قال ابن مسعود: (لا تهذوه هذ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة)، ومن كانت هذه صفته عند تلاوة القرآن كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنسَ بما يستوحش غيره وكان همّه عند قراءته: متى أتعظ بما أتلوه؟ كيف يرق قلبي ومتى تذرف عيناي؟ ولم يكن مراده متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى ازدجر؟ متى اعتبر؟ لأن تلاوة القرآن عبادة والعبادة لا تكون بغفلة وشرود ذهن وملل.

ولذلك يستحب لمن يقرأ القرآن أن يبكي فإن لم يستطع فليتباكى، وكان من هدي النبي البكاء عند تلاوته أو سماعه، فعند تلاوته كان لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وعند سماعه قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء فلما بلغ إلى قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال لابن مسعود: حسبك، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان.

ولقد كان من هدي الصحابة والتابعين من بعدهم البكاء من قراءة القرآن ولسان حالهم:

وإني ليبكيني سماع كلامه فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا

تلا ذكر قولاه فحن حنينه و مشوق قلوب العارفين تجددا

وأما الأجر المترتب على تلاوته فعن عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف وميم حرف)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.

وأما القارئ للقرآن والمتعاهد له والقائم به فهو في المقام الرفيع والمنزلة العالية فقد قال : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران)) متفق عليه.

وأما ما ورد في فضل تعليمه وتعلمه، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وغير ذلك من الفضائل والآداب المتعلقة بكتاب الله وقد فصلت القول فيها في خطبة مضت وأقتصر هنا على ذكر بعضهاخشية الإطالة.

أيها الأحبة: إنه لثواب عظيم وأجر موفور يناله المسلم بسبب حبه لكتاب الله وعنايته به وإقباله عليه، فيا ليت شعري ما لقاريء القرآن من الأجر؟ هل نواظب على قراءة القرآن فلا يمر بنا يوم إلا وقد قرأنا جزءا وتمعّنا بما فيه فانزجرنا بزواجره وأتمرنا بأوامره وابتغينا ما فيه من الأجر والمثوبة؟

وهل لنا أن نعيش مع القرآن في رمضان وغير رمضان؟ وهل لنا أن نعرف عظمة القرآن الكريم فنملأ حياتنا نورا بالقرآن الكريم، وإشراقا مع القرآن الكريم؟ هل لنا أن نفعل ذلك؟

أسأل الله عز وجل أن يسهل علينا ذلك.

اللهم ارزقنا تلاوة كتابك على الوجه الذي يرضيك عنا، واهدنا به سبل السلام وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، واجعله حجة لنا لا علينا يا رب العالمين، اللهم ارفع لنا به الدرجات وأنقذنا به من الدركات وكفر عنا به السيئات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

(1/483)

________________________________________

خشية الله والخوف منه

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

أعمال القلوب

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- جرأة الناس على معاصي الله. 2- الخوف من الله صفة المؤمنين ، وتتافوة هذه الصفة بقدر إيمانهم. 3- مراتب الخوف. 4- أقوال السلف في الخوف. 5- أحوال السلف في الخوف. 6- ضعف جانب الخوف عند آخرين. 7- مم خاف السلف وبكوا؟

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى وخافوه واخشوه وحده ولا تخشوا أحدا غيره وكما قال الفضيل: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد قال تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين .

أيها الإخوة: سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مقام الخوف من الله عز وجل وسبب اختياري لهذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بعد الناس عن الله وتجرؤهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب التي ما ارتكبها هؤلاء الناس إلا بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم وبسبب غفلتهم عن الله ونسيان الدار الآخرة، فالخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة فالخوف هو الذي يهيج في القلب نار الخشية التي تدفع الإنسان المسلم إلى عمل الطاعة والابتعاد عن المعصية.

ولهذا إذا زاد الإيمان في قلب المؤمن لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله، والناس في خوفهم من الله متفاوتون ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله مما جعل خوفهم مقرون بالخشية كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء والخشية درجة أعلى وهي أخص من الخوف، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية، كما قال النبي : ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) قال الإمام أحمد: هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف. والخوف: هو اضطراب القلب ووجله من تذكر عقاب الله وناره ووعيده الشديد لمن عصاه والخائف دائما يلجأ إلى الهرب مما يخافه إلا من يخاف من الله فإنه يهرب إليه كما قال أبو حفص: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف هارب من ربه إلى ربه قال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ، قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب. وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.

وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق. وقال أبو حفص: الخوف سوط الله، يقّوم به الشاردين عن بابه.

والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الخوف المحمود: هو ما حجزك عن محارم الله وهذا الخوف من أجلّ منازل السير إلى الله وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد.

ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات فلا يأكل مالا حراما ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا ولا يخون عهدا ولا يغش في المعاملة ولا يخون شريكه ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يزني ولا يلوط ولا يتشبه بالنساء ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين ولا يتعاطى محرما ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة ولا يهجر مساجد الله ولا يترك الصلاة في الجماعة ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة بل تجده يشمر عن ساعد الجد يستغل وقته كله في طاعة الله ولهذا قال : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة)) رواه الترمذي وهو حديث حسن والمراد بهذا الحديث التشمير في الطاعة والاجتهاد من بداية العمر لأن الجنة غالية تحتاج إلى ثمن باهظ ومن سعى لها وعمل صالحا وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله.

ولهذا كان السلف الصالح يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة حتى يزدادوا من طاعة الله ويكثروا من ذكره ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح.

أيها الإخوة: إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا وبدون الخوف لا يصلح قلب ولا تصلح حياة ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله، وما الذي يهدئ فيها هيجان الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله في السر والعلن سوى خوف الله، فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه. فتذكر الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف يجعل عند الإنسان حسا مرهفا يجعله دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه في الآخرة، ففي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلت ليزيد! ما لي أرى عينيك لا تجفّ؟ قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام لكان حريا أن لا يجف لي دمع.

وروى ضمرة عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي. ولهذا من خاف واشتد وجله من ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر فعن أبي هريرة عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)) رواه أبن حبان في صحيحه.

أيها الأخوة: لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة عاشوا مشاهد الآخرة فعلا وواقعا كأنهم يرونها حقيقة ولم يكن في نفوسهم استبعاد لذلك اليوم بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعا تشهده قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بطاعة الله وكأن النار إنما خلقت لهم قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما. وحق لهما أيها الإخوة ولكل مؤمن أن يخاف من النار وأن يستعيذ بالله منها لأن الخبر ليس كالمعاينة يقول : ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)) رواه مسلم وقال في وصف النار محذرا منها: ((نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إذا رأى أحدهم نارا اضطرب وتغير حاله فهذا عبد الله بن مسعود مر على الذين ينفخون على الكير فسقط مغشيا عليه وهذا الربيع بن خثيم رحمه الله مر بالحداد فنظر إلى الكير فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول: (يا ابن الخطاب هل لك صبر على هذا). وكان الأحنف رضي الله عنه: يجئ إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه فيه ثم يقول: (حس، حس ثم يقول يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا يحاسب نفسه) وفي الحديث: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)).

أيها الاخوة :إن أمر القيامة أمر عظيم رهيب، يرجّ القلب ويرعب الحس رعبا مشاهده يرجف لها القلوب والله سبحانه أقسم على وقوع هذا الحادث لا محالة فقال في سورة الطور إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فهو واقع حتما، لا يملك دفعه أحد أبدا والأمر داهم قاصم ليس منه دافع ولا عاصم كما أن دون غد الليلة، فما أعددنا لذلك اليوم، وما قدمنا له وهل جلس كل منا يحاسب نفسه ما عمل بكذا وما أراد بكذا بل الكل ساهٍ لاه، والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون وكأن أحدهم بمنأى من العذاب وكأنهم ليس وراءهم موتا ولا نشورا ولا جنة ولا نارا ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين يقول الحسن البصري رحمه الله: (إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي ما أردت بحديثي، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاقب نفسه). فحقيق بالمرء أن يكون له مجالس يخلو فيها يحاسب نفسه ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها.

أيها الأحبة: لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلا وواقعا عاشوا مع الآخرة واقعا محسوسا، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار وهي تسري وتحرق وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته حتى أنه وعظ أصحابه يوما فقال: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني شجرة تعضد)) رواه البخاري وفي رواية قال: ((عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر)) ثم ذكر الحديث فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين و الخنين هو البكاء مع غنّه، ولطول المطلع وشدة الحساب وتمكن العلم والمعرفة لدى رسول الله تمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها فكيف بنا نحن؟ عجبا لنا نتمنى على الله الأماني مع استهتارنا بالدين وبالصلاة وبكل شيء فماذا نرجو في الآخرة؟ وكما قيل:

يا آمنا مع قبح الفعل منه هل

أتاك توقيع أمن أنت تملكه

جمعت شيئين أمنا و اتباع هوى

هذا وإحداهما في المرء تهلكه

والمحسنون على درب الخوف قد ساروا

و ذلك درب لست تسلكه

فرطت في الزرع وقت البذر من سفه

فكيف عند حصاد الناس تدركه

هذا وأعجب شيء فيك زهدك في

دار البقاء بعيش سوف تتركه

نعم والله هذا حال الكثير من الناس اليوم لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون أن يتذكروا فإذا ذكرت لهم النار قالوا: لا تقنط الناس، وهذا والله هو العجب العجاب يريدون أن يبشروا بالجنة ولا يذكروا بالقيامة وأهوالها ولا بالنار وسمومها وعذابها وهم على ما هم فيه من سيئ الأعمال وقبيح الصفات، قال: الحسن البصري: لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم، وقد ورد في الترمذي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)) والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء، لقد كان بعض السلف من شدة خوفه ووجله وكثرة تفكيره في أحواله الآخرة لا يستطيع النوم ولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا، فهذا شداد بن أوس كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم ويقول (الله إن النار أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يصبح)، وهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفسا، أو قتلت قتيلا؟ فقال: يا أمه أنا أعلم بما صنعت نفسي، وهذا معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا. يقول الحسن بن عرفه: رأيت يزيد بين هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان، فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.

والبكاء من خشية الله سمة العارفين قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف درهم.

ولما جاء عقبة بن عامر إلى النبي يسأله: ما النجاة؟ نعم والله ما النجاة كيف ننجو من عذاب الله؟ فقال له: ((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) وفي رواية قال: ((طوبى لمن ملك نفسه ووسعه بيته وبكى على خطيئته)).

وقد بين أن من بكى من خشية الله فأن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال ((...ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع))، وفي رواية قال: ((حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله)) وكلا الحديثين صحيح.

وفي الأثر الإلهي: ((ولم يتعبد إلي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي)).

أيها المسلمون :إن سلفنا الصالح كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل وطمع الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته والخوف من غضبه والطمع في رضاه والخوف من معصيته والطمع في توفيقه يدعون ربهم خوفا وطمعا والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة حتى لكأنها مجسّمة ملموسة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين إنها الصورة المشرقة المضيئة لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا يخافون ويرجون وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله قال تعالى عنهم: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال أيضا: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ، فبالخوف والخشية تحترق الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة والتواضع والخضوع، ويفارق الكبر والحسد، بل يصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك، فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره. هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين يقول بلال بن سعد: عباد الرحمن، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم تقبلت منكم أو شيء من خطاياكم غفرت لكم والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم من العبادة، وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ، ويقول أيضا: رب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر، فويل لمن بان له الدليل ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله عز وجل أنه من أهل النار فيا ويل لك روحا والويل لك جسدا فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد. فبمثل هذه العبارات كان الرسول وكان السلف يجاهدون أنفسهم ويعظون غيرهم حتى ينتبه الناس من غفلتهم ويصحوا من رقدتهم ويفيقوا من سكرتهم رجاء أن يدركوا من سبقهم إلى الطريق المستقيم ويكون الخوف دافعا لهم على الاستقامة ما كانوا على وجه الأرض أحياء مكلّفين.

وفي الختام أحب أن أذكر نماذج من خوف بعض الصحابة والتابعين:

فهذا أبو بكر أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله نظر إلى طير وقع على شجرة فقال: ما أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير ليتني كنت مثلك، وكان كثير البكاء وكان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله، وهذا عمر الرجل الثاني بعد أبي بكر قال لابنه عبد الله وهو في الموت: (ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني ثم قال: بل ويل أمي إن لم يغفر لي ويل أمي إن لم يغفر لي)، وأخذ مرة تبنة من الأرض فقال: (ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت منسيا)، وكان يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياما معاد يحسبونه مريضا، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته وقال: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصيرُ)، وهذا علي كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية يقول: كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضا على لحيته يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا: إلي تعرضت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.

وهذا ابن عباس كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء.

وهذا أبو عبيدة يقول عن نفسه: وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي، وهكذا كان حال صحابة رسول الله مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة فهذا علي رضي الله عنه يصفهم ويقول: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أرَ أحدا يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا أو قياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقعون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب العزي من طول سجودهم إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبتل جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب. وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول: والله لقد خفت من الله خوفا أخاف أن يطير عقلي منه وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه.

أيها الإخوة: هل من مشمر؟ هل من خائف؟ هل من سائر إلى الله؟ بعد هذا الذي سمعناه أرجو أن نكون مثل سلفنا علما وعملا خوفا ورجاء ومحبة فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة و السلام على من لا نبي بعده.

ثم أما بعد:

أيها الإخوة: لم يكن سلفنا الصالح يخافون ويبكون ويتضرعون نتيجة تقصيرهم أو نتيجة عصيانهم وكثرة ذنوبهم، كلا بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم ولهذا لما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عن قوله تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أهو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه))، قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية وإن المنافق جمع إساءة وأمنا.

وكان خوفهم أيضا من أن يسلب أحدهم الإيمان عند قوته يقول ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع خصال: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الرب فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكات، وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت له فيراها هدى ومن زيغ القلب ساعة ساعة أسرع من طرفة عين قد يسلب دينه وهو لا يشعر.

وهذا سفيان الثوري رحمه الله كان يكثر البكاء فقيل له: يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفا من الذنوب، فأخذ سفيان تبناً وقال: والله للذنوب أهون على الله من هذا ولكن أخاف أن أسلب التوحيد. وهذا أبو هريرة كان يقول في آخر حياته: (اللهم إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل كبيرة في الإسلام)، فقال له بعض أصحابه: يا أبا هريرة ومثلك يقول هذا أو يخافه وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات، وقد شافهت النبي وبايعته وأخذت عنه، قال: (ويحك، وما يؤمنني وإبليس حي).

وكان بلال بن سعد يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من زيغ القلوب، وتبعات الذنوب ومن مرديات الأعمال ومضلات الفتن، قال أبو الدرداء : (مالي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم، والله لو أن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، ما خاف عبد على إيمانه إلا منحه وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه) وكان من دعائه : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك وطاعة رسولك)، ولما احتضر عمر بن قيس، الملائي بكى فقال له أصحابه: على ما تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت غضيض العيش أيام حياتك فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفا من أن أحرم الآخرة.

يقول الإمام الغزالي: ولا يسلم من أهوال يوم القيامة إلا من أطال فكره في الدنيا فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة وليست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عينيك ويرق قلبك حال الموعظة ثم تنساه على القرب، وتعود إلى لهوك ولعبك، فما هذا من الخوف في شيء فمن خاف شيئا هرب منه، ومن رجا شيئا طلبه، فلا ينجيك إلا خوف يمنعك من المعاصي ويحثك على الطاعة، وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة فقال أحدهم: استعنت بالله اللهم سلم سلم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم، فالشيطان يضحك من استعاذته كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن فإذا رأى أنياب السبع وصرلته من بعد قال بلسانه: أعوذ بهذا الحصن الحصين وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه، فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه فأني يغني عنه ذلك من السبع وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول: لا إله إلا الله صادقا ومعنى صدقه أن لا يكون له مقصود سوى الله تعالى ولا معبود غيره)، فالله أسأل أن يجعلنا ممن إذا خافه أطاعه وابتعد عن معاصيه.

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

(1/484)

________________________________________

في فضل الاستغفار

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الدعاء والذكر

-----------------------

صالح بن فوزان الفوزان

الرياض

البساتين

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- الأنبياء يستغفرون الله 2- فوائد الاستغفار 3- أوقات يُندب فيها الاستغفار 4- معنى الاستغفار 5- صيغ الاستغفار

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله قد أمرنا بالتوبة إليه، والاستغفار من ذنوبنا، في آيات كثيرة من كتابه الكريم، وسمى ووصف نفسه بالغفار وغافر الذنب وذي المغفرة، وأثنى على المستغفرين ووعدهم بجزيل الثواب، وكل ذلك يدلنا على أهمية الاستغفار، وفضيلته، وحاجتنا إليه. وقد قص الله علينا عن أنبيائه أنهم يستغفرون ربهم، ويتوبون إليه، فذكر عن الأبوين عليهما السلام أنهما قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [الأعراف:23]، وذكر لنا عن نوح - عليه السلام - أنه قال: وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين [هود:47]، وقال أيضا: رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات [نوح:28]، وذكر عن موسى - عليه السلام - أنه قال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [القصص:16]، وذكر عن نبيه داود - عليه السلام - أنه قال: فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب [ص:24]، وذكر عن نبيه سليمان - عليه السلام - أنه قال: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ، وأمر خاتم رسله نبينا محمداً بقوله: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، وأمرنا بالاستغفار فقال: فاستقيموا إليه واستغفروه [فصلت:6]، وفي الحديث القدسي يقول سبحانه: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)).

عباد الله: وللاستغفار فوائد عظيمة، منها: أنه سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، كما في الحديث: ((فاستغفروني أغفر لكم ))، وكما قال تعالى: ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً [النساء:110]. وفي الحديث: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)).

ومن فوائد الاستغفار: أنه يدفع العقوبة ويدفع العذاب قال الله تعالى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .

ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لتفريج الهموم، وجلب الأرزاق والخروج من المضائق ففي سنن أبي داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب )).

ومن فوائد الاستغفار: أنه سبب لنزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين ونبات الأشجار وتوفر المياه، قال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً [نوح:10-12]، وقال عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم [هود:52].

عباد الله: والاستغفار مشروع في كل وقت، وهناك أوقات وأحوال مخصوصة يكون للاستغفار فيها مزيد فضل، فيستحب الاستغفار بعد الفراغ من أداء العبادات؛ ليكون كفارة لما يقع فيها من خلل أو تقصير، كما شرع بعد الفراغ من الصلوات الخمس، فقد كان النبي إذا سلم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثا؛ لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو.

كما شرع الاستغفار في ختام صلاة الليل، قال تعالى عن المتقين: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17-18]. وقال تعالى: والمستغفرين بالأسحار .

وشرع الاستغفار بعد الإفاضة من عرفة والفراغ من الوقوف بها قال تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة:199].

وشرع الاستغفار في ختم المجالس حيث أمر النبي عندما يقوم الإنسان من المجلس أن يقول: (( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ))، فإن كان مجلس خير كان كالطابع عليه، وإن كان غير ذلك كان كفارة له.

وشرع الاستغفار في ختام العمر، وفي حالة الكبر، فقد قال الله تعالى لنبيه عند اقتراب أجله: بسم الله الرحمن الرحيم: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً [سورة النصر]. فقد جعل الله فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، علامة على قرب نهاية أجل النبي ، وأمره عند ذلك بالاستغفار، فينبغي لكم أيها المسلمون ملازمة الاستغفار في كل وقت، والإكثار منه في هذه الأوقات والأحوال المذكورة، لتحوزوا هذه الفضائل، وتنالوا هذه الخيرات، فقد كان نبينا يكثر من الاستغفار.

فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((إننا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك التواب الرحيم ))، وفي سنن ابن ماجه بسند جيد عن النبي أنه قال: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)).

عباد الله: والاستغفار معناه طلب المغفرة من الله بمحو الذنوب، وستر العيوب، ولا بد أن يصحبه إقلاع عن الذنوب والمعاصي. وأما الذي يقول: أستغفر الله بلسانه، وهو مقيم على المعاصي بأفعاله فهو كذاب لا ينفعه الاستغفار. قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: استغفار بلا إقلاع توبة الكذابين، وقال آخر: استغفارنا ذنب يحتاج إلى استغفار ! يعني: أن من استغفر ولم يترك المعصية، فاستغفاره ذنب يحتاج إلى استغفار. فلننظر في حقيقة استغفارنا، لئلا نكون من الكذابين الذين يستغفرون بألسنتهم، وهم مقيمون على معاصيهم.

عباد الله: هناك ألفاظ للاستغفار وردت عن النبي ينبغي للمسلم أن يقولها، منها: قوله : (( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم ))، وقوله: (( أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ))، وقال : (( سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة. ومن قالها من الليل وهو موقن به فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة )) رواه البخاري.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، إلى قوله: ونعم أجر العاملين [آل عمران:133-136].

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

(1/485)

________________________________________

آداب تلاوة القرآن الكريم

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

-----------------------

محمد بن صالح المنجد

الخبر

عمر بن عبد العزيز

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- حث الشرع على تلاوة القرآن الكريم وتدبره 2- آداب تلاوة القرآن الكريم

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد:

لاشك أن هذا الكتاب هو حبل الله الممدود من ربنا إلينا، من تمسك به هُدي ومن اعتصم به فاز، والفوز هو الجنَّة.

والله عز وجل قد أوصانا بكتابه في كتابه بوصايا كثيرة فيها الأمر بتلاوة القرآن وترتيله: ورتّل القرآن ترتيلا [المزمل:4]. من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون كتاب الله آناء الليل وهم يسجدون [آل عمران:113]. والذين يذكرون الّله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم [آل عمران:191]. أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [الزمر:9]. ويقرأ كتاب الله عزوجل لاشك أنه هو الفائز يوم القيامة.

وهذ الكتاب العزيز تلاوته لها آداب، ومن آداب هذه التلاوة: ((ويجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يارب حلّه، فيُلْبس تاج الكرامة، ثم يقول: يارب زدهُ، فيُلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يارب ارض عنه فيرضى عنه، فيقول إقرأ وارق، ويُزاد بكل آيةٍ حسنة)). رواه الترمذي وهو حديث حسن .هذا شيء من فضل تلاوة القرآن وما لقارئ القرآن من الأجر، وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي أوصانا بها كما روى الإمام أحمد - رحمه الله تعالى _ في مسنده عن أبي سعيد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((أوصيك بتقوى الله تعالى فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض)).

1- الإخلاص لله سبحانه وتعالى:

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا يوم القيامة عمَّن تُسعربهم النار، وهم ثلاثة: فمنهم قارئ للقرآن والسبب ولاشك في تسعير النار به يوم القيامة هو أنه لم يكن من الذين أخلصوا لله سبحانه وتعالى في ذلك وكذلك هؤلاء الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار قال النبي عليه الصلاة والسلام فيهم: ((إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعوا به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلتُ على رسولي؟! قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت بما علمت؟! قال: كنت أقومُ به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك - أخذت أجرك في الدنيا. أخذت أجرك في الدنيا ثم يُسحب به إلى النار)) والعياذ بالله.

فأولاً لا بُدَّ من الإخلاص لله سبحانه وتعالى في التلاوة.

2-أن يتلوَه على طهارة:

ولاشك أن تِلاوته على طهارة أفضل من تلاوته على غير طهر.

3-التسوك:

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: ((إن أفواهكم طرق للقرآن فطيّبوها بالسواك)). وقد جاء عدد من الأحاديث في هذا الموضوع فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا تسوّك أحدُكم ثم قام يقرأ طاف به الملك يستمع القرآن حتى يجعل فاه على فيه فلا تخرج آية من فيه إلاّ في فيّ الملك))، وهذا الحديث صححه الشيخ ناصر وغيره، فمن فوائد السواك لقاريء القرآن أنه لايخرج من فمه أذى يؤذي الملك، فلا يقرأ آيةً إلا دخلت في فم الملك، وأن الملك يضع فاه على فم قارئ القرآن القائم بالليل.

4-الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:

لأن الله تعالى قال: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [النحل:98]. والمعنى: إذا أردت القراءة.

قال بعض أهل العلم: يجب التعوّذ عند قراءة القرآن لظاهر الأمر، وجمهور العلماء على استحباب ذلك.

ومن أفضل الصيغ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه. كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

5-البسملة:

على القاريء أن يحافظ على قراءة البسملة أولَ كلِ سورة غير سورة "براءة " فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفُ انقضاء السورة بابتداء السورة التي تليها بالبسملة، إلا في موضع واحد وهو ما بين الأنفال وبراءة.

6- ترتيل القرآن:

لأن الله قال: ورتل القرآن ترتيلاً . ونعتَت أم سلمة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها قراءة مفصّلةً حرفاً حرفاً.

وفي البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مداً. ثم قراً: " بسم الله الرحمن الرحيم "، يمدّ " اللّه "- يعني المدّ الطبيعي حركتين - ويمد "الرحمن " ويمد " الرحيم " وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال عبدالله: هذاً كهذ الشعر؟! - ينكر عليه يعني الإسراع في القراءة - إن قوماً يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. وقال ابن مسعود كما أخرج الآجوري: لا تنثروه نثر الدقل - يعني التمرالرديء- ولا تهذوه كهذّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

والترتيل لا شك أنه مما يعين على تدبر القرآن والتأثر به.

7 - الإجتماع لتلاوته:

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده))، فإذاً الاجتماع لتلاوة القرآن ومدارسته من السنن والمستحبات العظيمة.

8- تحسين الصوت بالقرآن:

الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فِي الْعِشَاءِ وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً بخ.

لقوله صلى الله عليه وسلم: ((حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)) وفي رواية: ((حسنُ الصوت زينة القرآن)) وكلاهما حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم. فتحسين الصوت: يعني تجميلهُ وتزينهُ والإعتناءُ به و الإبداعُ فيه.

9 - أن يتغنى بالقرآن:

وهذا تابع لما ذكر من تحسين الصوت به. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن))، وكذلك حديث: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يتغنى به)) فالتغني بالقرآن من آداب التلاوة ومستحباتها، فمعنى التغني: تحسين الصوت.

10- تفخيم التلاوة:

التفخيم يعني ألاّ يقرأه بصوت كصوت النساء إذا كان القاريء رجلاً، وألاّ تقرأ المرأة بصوت كصوت الرجال، وإنما يقرأ كل شخصٍ بطبيعته، الرجل بطبيعته والمرأه بطبيعتها، فلا تشبّه ولا ميوعة عند تلاوة كلام الله.

11- أن لا يجهر شخص على شخص بالقراءة فيرفع صوته:

لأن في رفع الصوت في هذه الحال إيذاء لمن جاوره جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا كلكم مناجٍ لربه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا، ولايرفع بعضكم على بعض في القراءة)).

12-إذا نعس كفّ عن القراءة:

فقد روى أحمد ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم من الليل، فاستُعجِم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع))، يعني: يذهب وينام لئلا يخلط القرآن بغيره، أوتلتبس عليه الآيات، فيقدم ويؤخر، أويهذي ويذكر حروفاً ليست فيه، ونحو ذلك مما يفعله النعسان، فإذا جاءه شيء من ذلك فإن عليه أن يذهبَ وينام.

13- الاعتناء بالسور التي لها فضل والإكثار من قراءتها:

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فإنه من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد في ليلة فقد قرأ ليلته ثُلث القرآن)) وفي رواية أنه قال: ((أحشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ثم قرأ عليهم سورة قل هو الله أحد)) فإذاً المتابعة والإعتناء بالآيات أو السور التي فيها فضل عظيم وأجر مضاعف مما ينبغي لتالي القرآن الكريم أن يحرص عليه. الكهف في الجمعة، والسجدة في صلاة فجرها، وتبارك قبل النوم والمعوذات كذلك وفي أدبار الصلوات، وآية الكرسي كذلك.

14- أن لا يقرأ القرآن في الركوع والسجود:

لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أيهاالناس: إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أوترى له، ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أوساجداً، فأماالركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)) وعلة هذا ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - أنَّ الركوع والسجود من مواضِع الذل، فلا ينبغي أن يقرأ القرآن في مواضع الذل، وإنما فيه تسبيح، تسبيح الله سبحانه وتعالى.

15- أن يصبر الشخص الذي يجد صعوبة في التلاوة عليها:

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران)) فإذاً لو صبر على هذه المشقة وحاول أن يتعلم ما استطاع فلاشك أنه يؤجر أجراً عظيماً.

16- البكاء عند تلاوة القرآن الكريم:

لقوله تعالى ممتدحاً المؤمنين: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مسعود قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي. فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا قَال:َ أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)) رواه البخاري.

وقال أحد الصحابة: ((أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَل))ِ يَعْنِي يَبْكِي. رواه النسائي.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ((قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ)).

ومعلوم قصة أبي بكر في مرض وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث قالت عائشة رضي الله عنها: ((إنّهُ رجلٌ رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء)). وفي رواية: ((إن أبا بكر رجلُ أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس)).

وسمع نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من وراء الصفوف لما قرأ في سورة يوسف قوله تعالى: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله حتى سالت دموعهُ على ترقوته.

وعائشة رضي الله عنها مرّ عليها القاسم وهي تقرأ: فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ترددها وتبكي وتدعو.

وعبد الله بن عباس رضي الله عنه لمّا قرأ: وجاءت سكرة الموتِ بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق:19] جعل يرتل ويكثر النشيج. وعبد الله بن عمر ما قرأ قول الله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [البقرة:284] إلا كان يبكي.

والبكاء عند قراءة القرآن دليل خشوع إذا كان بكاءً صادقاً. فإن البكاء على أنواع: منه مايكون بكاء رحمة ورقّة، ومنه مايكون بكاء خوفٍ وخشية، منه مايكون بكاء محبة وشوق، منه ما يكون بكاءً من الفرح والسرور، ومنه مايكون بكاء حزن، وبكاء جزع.

فالبكاء المطلوب عند تلاوة القرآن هو بكاء الخشوع، وليس بكاء النفاق، ولا البكاء المستعار كالتظاهر بالبكاء لأجل أن يقول الناس عنه خاشع.

وبكاء خشوع هو البكاء الذي إذا سمعه الشخص إرتاح إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعتهُ يقرأ رأيتَ أنه يخشى الله)) رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.

أما التباكي فهو تكلف البكاء والتباكي منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم. فالتباكي المحمود هو الذي يستجلب رقة القلب وخشية الله، وليس تباكي رياء وسمعه. مثل ما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبوبكر في شأن أسرى بدر: أخبرني مايبكيك يارسول الله، فإن وجدتُ بكاءً بكيت وإن لم أجد تباكيتُ لبكائكما، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. كما أنه جاء عن بعض السلف قوله: أبكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا. أما التباكي المذموم الذي يستجلب به حمد الخلق وثناءهم عليه، فيتظاهر بالبكاء أمام الناس فهذا تباكي نفاق. فكما أن هناك بكاء نفاق، هناك تباكي نفاق.

وقد سُئل الشيخ عبدالعزيز ابن باز - نفع الله بعلمه - عن ظاهرة إرتفاع الأصوات بالبكاء .. فأجاب: لقد نصحتُ كثيراً ممن اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي، لأن هذا يؤذي الناس ويشقُ عليهم، ويُشوش على المصلين وعلى القارئ، وهذا ما يلاحظ في بعض المساجد في رمضان حيث يكون الوضع مزعجاً جداً، وكثير من الناس لايستطيع أن يفهم قراءة الإمام ولا يسمع صوته وسط زعيق وصياح بعض الناس، وهذا ليس من الخشوع في شيء.. ولاهو طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة. لقد كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بكاءً مكتوماً، وما كان صياحاً ولا زعيقاً. فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن لا يُسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء، فإن الشيطان قد يجره إلى الرياء، فينبغي له أن لا يؤذي أحداً بصوته. ومعلوم أن بعض الناس ليس ذلك باختياره بل يغلب عليه من غير قصد وهذا معفوٌّ عنه إذا كان بغير اختياره. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قرأ يكون لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وجاء في قصة أبي بكر أنه إذا قرأ لايُسمع الناس من البكاء إلى آخره. ولكن ليس معنى هذا أن يتعمد رفع صوته بالبكاء. وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله عزوجل.

كذلك سئل الشيخ عن التباكي فأجاب: ورد في بعض الأحاديث: ((إن لم تبكوا فتباكوا))، ولكن لا أعلم صحته وقد رواه أحمد. إلا أنه مشهور على ألسنة العلماء، لكن يحتاج إلى مزيد عناية، والأظهر أنه لا يتكلف، بل إذا حصل بُكاء فليجاهد نفسه على أن لايزعج الناس، بل يكون بكاء خفيفاً ليس فيه إزعاج لأحد،حسب الطاقه والإمكان.

والمهم أن يحضر الانسان قلبه عند التلاوة ولا يذهب يمينا وشمالا: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ كَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مِنْ أَفَاضِلِ النَّاسِ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ أَنِّي أَكُونُ كَمَا أَكُونُ عَلَى أَحْوَالٍ ثَلاثٍ مِنْ أَحْوَالِي لَكُنْتُ، حِينَ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَحِينَ أَسْمَعُهُ يُقْرَأ،ُ وَإِذَا سَمِعْتُ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم،َ وَإِذَا شَهِدْتُ جِنَازَةً وَمَا شَهِدْتُ جِنَازَةً قَطُّ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي بِسِوَى مَا هُوَ مَفْعُولٌ بِهَا وَمَا هِيَ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ.

17- أنه يتدبر عند تلاوته:

وهذا الأمر يكاد أن يكون أهم آداب التلاوة على الإطلاق وهو الثمرة الحقيقية للتلاوة.. التدبر عند تلاوة القرآن الكريم, وقد قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب وهو لا يحصل إلا لمن تفكر في كلام الله عز وجل واستحضر عظمته سبحانه وتعالى وتأمل في مخاطبات القرآن واستحضر أنه يقرأ مريدا التفهم والعمل بالمتلو. أما أن يقرأ القرآن بلسانه وقلبه في واد آخر فلا تحصل له الثمرة المرجوة من تلاوة القرآن.

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . ((عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْت:ُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. فَمَضَى فَقُلْت:ُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَتَيْن.ِ فَمَضَى فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَة.ٍ فَمَضَى فَافْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ..)) الحديث النسائي.

قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ نَاسًا يَقْرَأُ أَحَدُهُمْ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً فَقَالَتْ أُولَئِكَ قرؤوا وَلَمْ يقرؤوا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ اللَّيْلَةَ التَّمَامَ فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ وَسُورَةَ النِّسَاءِ ثُمَّ لا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إِلا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغِبَ وَلا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إِلا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَعَاذَ.

لقد حدّثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج بأنهم قوم يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاثٍ))

وعَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ جَالِسَيْنِ فَدَعَا مُحَمَّدٌ رَجُلاً فَقَال:َ أَخْبِرْنِي بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ فَقَالَ الرَّجُل:ُ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ أَتَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ تَرَى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي سَبْعٍ فَقَالَ زَيد: حَسَنٌ وَلأنْ أَقْرَأَهُ فِي نِصْفٍ أَوْ عَشْرٍ أَحَبُّ إِلَي:َّ وَسَلْنِي لِمَ ذَاك؟َ قَال:َ فَإِنِّي أَسْأَلُك.َ قَالَ زَيْدٌ: لِكَيْ أَتَدَبَّرَهُ وَأَقِفَ عَلَيْه ,أخرجه مالك في الموطّأ وإنما يُتدبّر للعمل عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.

18- التلاوة بين الجهر والإسرار:

أما قضية الجهر بالقرآن فقد وردت فيها أحاديث مثل قوله صلىالله عليه وسلم في الصحيحين: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهرُ به))، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)).

فيجمع بينهما بما ذكره الإمام النووي قال: الجمع بينهما أن: الإخفاء أفضل حيثُ خاف الرياء، أوتأذّى المصلون، -حيث أنه يلبّس على المصلين صلواتهم أو القارئين قراءتهم أو يوقظ النائم - فعند ذلك يكون الإسرار أفضل. والجهر أفضل في غير ذلك لأن العمل فيه أكثر من رفع صوت و بذل طاقة وجهد، ولأنه يوقظ قلب القارئ ويجمعُ همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه - فيستفيد القارئ ذاته ويكون أكثر تركيزاً، وأطردَ للشيطان وأبعد للنوم وأدعى للنشاط. وكان ـ أبو بكر يُسر وعمر يجهر فسئل عمر فقال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان فأمر أبوبكر أن يرفع شيئا ما، وأمر عمرأن يخفض شيئاً ما. ولاحرج في أن يجهر القاريء بالقرآن فترةً فإذا تعب خفض صوته ثم يجهر مرّةً أخرى إذا تنشّط.

19- القراءة في المصحف و القراءة من الحفظ :

جاء مدح القراءة من المصحف في حديث صحيحٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)) صححه الشيخ ناصر. فهذا دليل على فضل القراءة في المصحف، فالقراءة في المصحف مشروعة.

20 ـ حكم القراءة عند التثاؤب أوخروج الريح:

إذا كان يقرأ فخرجت منه ريح أمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح ـ ثم الأفضل أن يتوضأ لمواصلة القراءة وكذلك لو عُرض له تثاؤب فإنه يُمسك عن القراءة لأجل التثاؤب حتى لا يتغير الصوت وتخرج الكلمات غير كلمات القرآن.

21ـ سجود التلاوة:

فإذا مرّ بسجدة للتلاوه سجد، وقال أبو حنيفة بالوجوب والراجح قول عمر رضي الله عنه: أن سجود التلاوة مستحب وليس بواجب وهو قول جمهور العلماء. وصفة السجود أن يكبّر ويسجد.

وذكر شيخ الاسلام - رحمه الله - أن الأفضل أن نكون في حال القيام، لأن قول الله تعالى: ويخرون للأذقان الخرُّ يكون من الوقوف أو القيام.

فإذا سجد يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى قياساً على الصلاة، و قد ورد أيضاً دعاء صحيح ثابت في الترمذي وابن خزيمة أن رجلاً قال: ((يارسول الله إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة، فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها أجرا، وضع عنّي بها وزرا، واجعلها لي عندك ذُخرا، وتقبّلها مني كما تقبلت من عبدك داود، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم السجدة بعد ذلك ثم سجد قال ابن عباس: فسمعتهُ يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)). وجاء في روية أخرى: ((وارفعني بها درجة)).

22- استقبال القبلة:

23- أن يكون حال القراءة على هيئة الأدب ما أمكنه:

يجوز للقارئ أن يقرأ القرآن قاعداً أو واقفاً أو ماشياً أو مضطجعاً، كل ذلك جائز، لأن الله تعالى قال: الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض [آل عمران:191] لكن لو جلس متخشعاً كان أفضل من أن يجلس متكئاً على جنبه مثلاُ، فمن ناحية الجواز لا بأس بذلك، لكن الأفضل أن يجلس جلسة المتخشع المتذلل. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتربّع بعد صلاة الفجر ويستقبل القبلة يذكر الله حتى تطلع الشمس. ومن آداب التلاوة كذلك.

24- أن لايُطيل العهد بالقرآن:

فتمر عليه سنوات لا يختم القرآن، والقرآن لا يُقرأ في أقل من ثلاث و لكن لا يُطال عنه العهد. وقد جاءت عدة أحاديث في ذلك. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لشخص: ((اقرأ القرآن في أربعين))، وقال: ((إقرأ القرآن في خمس))، وقال: ((إقرأ القرآن في ثلاث إن استطعت))، وقال: ((كل شهر إقرأه في عشرين ليلة، إقرأه في عشر، إقرأه في سبع، ولاتزد عن ذلك )). هذه الروايات المختلفة تدل على أن الناس طاقات، أشغالهم مختلفة، وجودة تلاوتهم وسرعتها و تمكنهم. كل ذلك يختلف. إذاً كلٌ يقرأ بحسب طاقته وأشغاله، لكن أكثر شي كما ورد: ((أقرأ القرآن في أربعين)). ولعل أفضل مايكون قراءته في أسبوع كما ورد عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وأنهم كانوا يختمونه في أسبوع بحيث يقسّمون القرآن سبعة أحزاب.

25- أن لايقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام:

لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يفقهُ من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))، كما روى ذلك أبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر مرفوعاً.

26- الوقوف عند رؤوس الآي:

من أدب التلاوة الوقوف عند رؤوس الآي وإن تعلقت في المعنى بما بعدها، لأنه قد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه كان يُقطِّع قراءته آية آية. الحمد لله رب العالمين، ثم يقف،الرحمن الرحيم ثم يقف)).

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين

(1/486)

________________________________________

في الأخوة الإيمانية وثمراتها

-----------------------

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء

-----------------------

صالح بن فوزان الفوزان

الرياض

البساتين

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أخوة الدين تعلو أخوة النسب 2- من حقوق الأخوة الإصلاح بين المسلمين 3- من حقوق الأخوة عدم الاعتداء على حُرُماتهم 4- من حقوق الأخوة محبة الخير للمؤمنين 5- من حقوق الأخوة النصيحة للمسلمين 6- حقوق المسلم الست

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأخوة في الدين تعلو الأخوة في النسب، فالله أمر بالمؤاخاة بين المؤمنين والمسلمين، ولو اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

وأمر بمعاداة الكافرين ولو تقاربت أنسابهم، فقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23].

ولهذه الأخوة بين المسلمين والمؤمنين حقوق عظيمة وثمرات كريمة قد بينها الله ورسوله في الكتاب والسنة، تجب مراعاتها والقيام بها، ولا يجوز إهمالها والتهاون بها.

ومن هذه الحقوق والثمرات وجوب الإصلاح بين المسلمين عندما يحصل بينهم اختلاف ونزاع، أو تظهر بينهم عداوة وقطيعة، قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9-10].

ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تعظيم بعضهم لحرمات بعض، وعدم تنقص بعضهم لبعض، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

ينهى سبحانه المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن سخرية بعضهم من بعض رجالا ونساء، فربما يكون المسخور منه خيراً من الساخر في الدنيا والآخرة، والسخرية لا تصدر إلا من ناقص. ونهى سبحانه عن اللمز، وهو الطعن في حق المسلم، وعن التنابز بالألقاب، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به، واللقب ما يسوء الشخص سماعه.

قال بعض المفسرين، ومنه قول: يا فاسق، يا كلب، يا حمار،.. و قد سمى الله السخرية واللمز، والتنابز بالألقاب فسوقاً، مما يدل على قبح ذلك وشناعته ووجوب الابتعاد عنه.

ومن حقوق الأخوة بين المسلمين والمؤمنين: تجنب إساءة الظن فيما بينهم، والتجسس من بعضهم على بعض، واغتياب بعضهم لبعض، قال تعالى: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وذلك بأن يظن بأهل الخير شراً وَلاَ تَجَسَّسُواْ [الحجرات:12]. والتجسس هو البحث عن عيوب الناس، نهى الله عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً [الحجرات:12].

وفسر النبي الغيبة بأنها ذكرك أخاك بما يكره، والغيبة محرمة بالإجماع تحريما شديدا. وقد شبهها الله بأكل اللحم من الإنسان الميت، فقال سبحانه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12].

أي: كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوا ذاك شرعا، فإن عقوبته أشد من هذا ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، والتعاون على تحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم. قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

وقال النبي : ((مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم، وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).

فالمسلم يفرح لفرح أخيه المسلم ويسره ما يسره، ويتألم لألم أخيه...

ومن حقوق الأخوة الإيمانية والإسلامية: التناصح بين المسلمين والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].

وقال النبي : ((الدين النصيحة)) ثلاث مرات، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)).

ومن حقوق الأخوة الإسلامية والإيمانية: أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه. كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، والمراد المحبة الدينية لا المحبة البشرية، فإن بعض النفوس البشرية قد تحب الشر.

فالواجب على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب من الخير والنفع لنفسه، ومن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه كان حسودا، والحسد مذموم.

ومن حقوق الأخوة في الإيمان والإسلام: عدم الغش والخديعة للمسلمين قال : ((من غشنا فليس منا))، ومن ذلك الغش في البيع والشراء.

فإن كثيرا من الناس اليوم اتخذوا البيع والشراء وسيلة احتيال يحتالون بهما للاستيلاء على أموال الناس بالكذب والخداع والغش.

عن حكيم بن حزام : أن رسول الله قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ويمحقا بركة بيعهما، واليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

وعن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أنه خرج مع رسول الله إلى المصلى، فرأى الناس يتبايعون فقال: ((يا معشر التجار))، فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى الله وبر وصدق))، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، وابن حبان في (صحيحه)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

وعن أبي ذر عن النبي قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرا ت، فقلت: خابوا وخسروا يا رسول الله، ومن هم؟ قال: ((المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم وغيره.

ومن حقوق المسلمين والمؤمنين بعضهم على بعض: احترام حقوقهم التي سبقوا إليها، فلا يبع بعضهم على بيع بعض، بأن يقول لمن اشترى سلعة بثمن: أنا أعطيك مثلها أو أحسن منها بأقل من ذلك الثمن. ولا يسُم بعضهم على سوم بعض، وذلك إذا سام سلعة وأراد صاحبها أن يبيع عليه جاء آخر وقال له: لا تبع، أنا أزيد في السّوم.

ولا يخطب على خطبة أخيه، وذلك إذا خطب امرأة رضيت به جاء آخر يخطبها، فقد نهى النبي عن هذه الأشياء كلها فقال: ((لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته))، وفي رواية: ((لا يسم على سومه)).

ومما نهى عنه الرسول : التناجش يبن المسلمين، وهو أن يزيد في السلعة المعروضة للبيع من لا يريد شراءها، وإنما يريد رفع قيمتها على المشتري، قال : ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)).

والتدابر: أن يعرض عن الإنسان ويهجره ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر.

ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض: التزاور فيما بينهم، وإفشاء السلام، وقضاء حوائجهم، والرفق بضعفائهم، وتوقير كبارهم ورحمة صغارهم وعيادة مرضاهم واتباع جنائزهم، قال : ((حق المسلم على المسلم خمس: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.

ومن حقوق المسلمين: دعاء بعضهم لبعض. قال تعالى لما ذكر المهاجرين والأنصار: وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].

وقال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].

فالمؤمنون أخوة في جميع الأزمان من أول الخليقة إلى آخرها، وفي جميع أقطار الأرض وإن تباعدت ديارهم يدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض، ويحب بعضهم بعضا، ويعين بعضهم بعضا على البر والتقوى، وينصح بعضهم لبعض، ويصدقون في تعاملهم فيما بينهم، ويحترم بعضهم حقوق بعض، لأن الله ربط بينهم برابطة الإيمان التي هي أقوى من رابطة النسب والوطن واللغة.

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وراعوا حقوق هذه الأخوة، ولا تضيعوها فتكونوا من الخاسرين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:102-105].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن ِمن الناس مَن يدعي الإيمان مكرا وخداعا لأذية المؤمنين، وهو في باطن الأمر مع الكافرين، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:8-15].

همهم تتبع عورات المسلمين ومحاولة تفريق كلمتهم، وفيهم قال رسول الله : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتتبع عوراتهم يتتبع الله عورته ومن يتتبع الله عورته يفضحه في بيته)) رواه أبو داود.

ومن الناس من يكون مؤمنا ضعيف الإيمان، فيتصف ببعض صفات المنافقين، فيكذب في الحديث ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، وفي مثل هؤلاء قال النبي : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) وفي رواية: ((وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وكونوا مؤمنين حقاً كما أمركم الله بذلك، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...

(1/487)

________________________________________

الإصلاح بين الناس

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

محمد بن صالح المنجد

الخبر

عمر بن عبد العزيز

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- حث الشارع وترغيبه في الإصلاح بين الناس 2- أن الإنسان لو حلف على ما فيه إفساد ذات البين فعليه أن يُكَفّر عن يمينه ويأت الذي هو خير 3- ذِكر ما يدل على التعامل بحكمة مع الخلافات الزوجية وغيرها من الخلافات بين الناس 4- ما يدل على جواز الكذب للإصلاح

-------------------------

الخطبة الأولى

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

فقوله تعالى: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أي واتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه وأطيعوا الله ورسوله أي في قسمه بينكم على ما أراده الله فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف وقال ابن عباس هذا تحريض من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد وقال السدي فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أي لا تستبوا.

ولنذكر ههنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله في مسنده فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عبدالله بن بكير حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه "قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: ((رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى:أعط أخاك مظلمته قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال: رب فليحمل عني أوزاري قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ. لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك قال: يا رب فإنى قد عفوت عنه قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة)).

قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .

فقوله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم يعني كلام الناس إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث حدثنا محمد بن زيد بن حنيش قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردده علي فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر)) فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا فهو هذا بعينه أو ما سمعت الله يقول في كتابه: والعصر إن الإنسان لفي خسر الخ فهو هذا بعينه.

عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين قال: وفساد ذات البين هى الحالقة)) ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية وقال الترمذي حسن صحيح.

ولهذا قال: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله أي مخلصا إلى ذلك محتسبا ثواب ذلك عندالله عز وجل: فسوف نؤتيه أجراً عظيماً أي ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.

قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي الجنف الخطأ وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعة الشيء الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيد أو نحو ذلك من الوسائل إما مخطئا غير عامد، بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمداً آثما في ذلك، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل والله أعلم.

قال تعالى: ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

المعنى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم . فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:- ((والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه)) وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به. ورواه أحمد عنه به ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية هو ابن سلام عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى اللهعليه وسلم :- ((من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة)). وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.

ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:- ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها)) وثبت فيهما أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعبدالرحمن بن سمرة: ((يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)) وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير)).

التدخل الحكيم من أهل الزوجين:

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّك؟ِ قَالَت:ْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِنْسَان:ٍ انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ. قُمْ أَبَا تُرَابٍ)).

قوله: (أين ابن عمك) فيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب لأنه ابن عم أبيها لا ابن عمها, وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك لما فيه من الاستعطاف بذكر القرابة, وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم ما وقع بينهما فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة القريبة التي بينهما. قوله: (فلم يقل عندي) بفتح الياء التحتانية وكسر القاف, من القيلولة وهو نوم نصف النهار, وفي حديث سهل هذا من الفوائد أيضا جواز القائلة في المسجد, وممازحة المغضب بما لا يغضب منه بل يحصل به تأنيسه, وفيه التكنية بغير الولد وتكنية من له كنية, والتلقيب بالكنية لمن لا يغضب, وفيه مدارة الصهر وتسكينه من غضبه, ودخول الوالد بيت ابنته بغير إذن زوجها حيث يعلم رضاه.

أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَال:َ هَذَا فُلانٌ لأَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَدْعُو عَلِيًّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ يَقُولُ لَهُ: أَبُو تُرَابٍ فَضَحِكَ قَال:َ وَاللَّهِ مَا سَمَّاهُ إلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ فَاسْتَطْعَمْتُ الْحَدِيثَ سَهْلا وَقُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ ثُمَّ خَرَجَ فَاضْطَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ ((أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ قَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَوَجَدَ رِدَاءَهُ قَدْ سَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ وَخَلَصَ التُّرَابُ إِلَى ظَهْرِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ فَيَقُولُ اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ مَرَّتَيْنِ)).

قوله: (فاستطعمت الحديث سهلا) أي سألته أن يحدثني, واستعار الاستطعام للكلام لجامع ما بينهما من الذوق للطعام الذوق الحسي وللكلام الذوق المعنوي, وفي رواية الإسماعيلي " فقلت يا أبا عباس كيف كان أمره".

قوله: (أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد) في رواية الطبراني كان بيني وبينه شيء فغاضبني. قوله: (وخلص التراب إلى ظهره) أي وصل, في رواية الإسماعيلي "حتى تخلص ظهره إلى التراب" وكان نام أولا على مكان لا تراب فيه ثم تقلب فصار ظهره على التراب أو سفى عليه التراب.

قوله: (اجلس يا أبا تراب. مرتين) ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لأبو تُرَابٍ وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إلا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضَبَ يَوْمًا مِنْ فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ في الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ فَقَالَ هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامتلأ ظَهْرُهُ تُرَابًا فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُول: ((اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ)).

قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب, وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. قلت: ويحتمل أن يكون سبب خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو علي ليترضاه, ومسح التراب عن ظهره ليبسطه, وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته, ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده, فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم, لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: "حدثني بعض أهل العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها, بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول: مالك يا أبا تراب؟" فهذا سبب آخر يقوي التعدد, والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم.

فضّ الخصومة بين المتنازعين المتداينين.

عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: ((يَا كَعْبُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه.ِ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْب:ٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ فَاقْضِه))ِ.

قوله: (عن كعب) هو ابن مالك, أبوه. قوله: (دينا) وقع في رواية زمعة بن صالح عن الزهري أنه كان أوقيتين أخرجه الطبراني. قوله: (في المسجد) متعلق بتقاضى. قوله: (سجف) بكسر المهملة وسكون الجيم وحكى فتح أوله وهو الستر.

قوله: (أي الشطر) بالنصب أي ضع الشطر, لأنه تفسير لقوله: "هذا " والمراد بالشطر النصف وصرح به في رواية الأعرج. قوله: (لقد فعلت) مبالغة في امتثال الأمر. وقوله: "قم" خطاب لابن أبي حدرد, وفيه إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل.

وفيه الاعتماد على الإشارة إذا فهمت, والشفاعة إلى صاحب الحق, وإشارة الحاكم بالصلح وقبول الشفاعة, وجواز إرخاء الستر على الباب.

قوله: (تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد, فارتفعت أصواتهما) معنى تقاضاه طالبه به, وأراد قضاءه. وحدرد بفتح الحاء والراء. وفي هذا الحديث جواز المطالبة بالدين في المسجد, والشفاعة إلى صاحب الحق, والإصلاح بين الخصوم, وحسن التوسط بينهم , وقبول الشفاعة في غير معصية, وجواز الإشارة واعتمادها قوله: (فأشار إليه بيده أن ضع الشطر).

ومن الإصلاح ما يكون بالموعظة:

عن عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُول:ُ وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ)).

اقتراح ما فيه مصلحة الطّرفين مشكلتنا أننا إذا تدخّلنا أحيانا نضرّ أكثر مما ننفع:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلامٌ وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا)).

صنيع البخاري يقتضي ترجيح ما وقع عند وهب لكونه أورده في ذكر بني إسرائيل. قوله: (عقارا) قال عياض: العقار الأصل من المال, وقيل المنزل والضيعة, وقيل متاع البيت فجعله خلافا. والمعروف في اللغة أنه مقول بالاشتراك على الجميع والمراد به هنا الدار, قوله: (فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب, فقال له: خذ ذهبك فإنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع الذهب) وهذا صريح في أن العقد إنما وقع بينهما على الأرض خاصة, فاعتقد البائع دخول ما فيها ضمنا, واعتقد المشتري أنه لا يدخل. وأما صورة الدعوى بينهما فوقعت على هذه الصورة وأنهما لم يختلفا في صورة العقد التي وقعت, والحكم في شرعنا على هذا في مثل ذلك أن القول قول المشتري وأن الذهب باق على ملك البائع, ويحتمل أنهما اختلفا في صورة العقد بأن يقول المشتري لم يقع تصريح ببيع الأرض وما فيها بل ببيع الأرض خاصة, والبائع يقول وقع التصريح بذلك, والحكم في هذه الصورة أن يتحالفا ويستردا المبيع، وهذا كله بناء على ظاهر اللفظ أنه وجد فيه جرة من ذهب, لكن في رواية إسحاق بن بشر أن المشتري قال إنه اشترى دارا فعمرها فوجد فيها كنزا, وأن البائع قال له لما دعاه إلى أخذه ما دفنت ولا علمت, وأنهما قالا للقاضي: ابعث من يقبضه وتضعه حيث رأيت, فامتنع, وعلى هذا فحكم هذا المال حكم الركاز في هذه الشريعة إن عرف أنه من دفين الجاهلية, وإلا فإن عرف أنه من دفين المسلمين فهو لقطة, وإن جهل فحكمه حكم المال الضائع يوضع في بيت المال, ولعلهم لم يكن في شرعهم هذا التفصيل فلهذا حكم القاضي بما حكم به. قوله: (وقال الذي له الأرض) أي الذي كانت له, ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق بيان المراد من ذلك ولفظه: "فقال الذي باع الأرض: إنما بعتك الأرض".

وقوله: "فتحاكما" ظاهره أنهما حكماه في ذلك , لكن في حديث إسحاق بن بشر التصريح بأنه كان حاكما منصوبا للناس, فإن ثبت ذلك فلا حجة فيه لمن جوز للمتداعيين أن يحكما بينهما رجلا وينفذ حكمه, وهي مسألة مختلف فيها: فأجاز ذلك مالك والشافعي بشرط أن يكون فيه أهلية الحكم وأن يحكم بينهما بالحق سواء وافق ذلك رأي قاضي البلد أم لا واستثنى الشافعي الحدود, وشرط أبو حنيفة أن لا يخالف ذلك رأي قاضي البلد, وجزم القرطبي بأنه لم يصدر منه حكم على أحد منهما, وإنما أصلح بينهما لما ظهر له أن حكم المال المذكور حكم المال الضائع, فرأى أنهما أحق بذلك من غيرهما لما ظهر له من ورعهما وحسن حالهما وارتجى من طيب نسلهما وصلاح ذريتهما.

ووقع في روايته عن أبي هريرة: "لقد رأيتنا يكثر تمارينا ومنازعتنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أيهما أكثر أمانة". قوله: (ألكما ولد)؟ بفتح الواو واللام, والمراد الجنس, لأنه يستحيل أن يكون للرجلين جميعا ولد واحد, والمعنى ألكل منكما ولد؟

قوله: ((أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا)).

وقد وقع في رواية إسحاق بن بشر ما يشعر بذلك ولفظه: "اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا وجهزوهما من هذا المال وادفعا إليهما ما بقي يعيشان به".

فيه: فضل الإصلاح بين المتنازعين, وأن القاضي يستحب له الإصلاح بين المتنازعين كما يستحب لغيره.

التدخل لإزالة القطيعة بين الأقارب:

عن عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمِّهَا أَنَّ(( عَائِشَةَ حُدِّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَقَالَتْ أَهُوَ قَالَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَم.ْ قَالَتْ: هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتْ الْهِجْرَةُ فَقَالَتْ: لا وَاللَّهِ لا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا وَلا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَقَالَ لَهُمَا أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَال:ا السَّلامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ أَنَدْخُل؟ُ قَالَتْ عَائِشَة:ُ ادْخُلُوا. قَالُوا كُلُّنَا. قَالَت:ْ نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ. وَلا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِهَا إلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ وَيَقُولانِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنْ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي وَتَقُول:ُ إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ فَلَمْ يَزَالا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتْ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا)).

ففي رواية الأوزاعي عنه: "حدثني الطفيل بن الحارث وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان".

قوله: (أن عائشة حُدّثت) كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول, ووقع في رواية الأصيلي: "حدثته" والأول أصح, ويؤيده أن في رواية الأوزاعي: "أن عائشة بلغها", ووقع في رواية معمر على الوجهين, ووقع في رواية صالح أيضا: "حدثته". قوله: (في بيع أو عطاء أعطته عائشة) في رواية الأوزاعي: "في دار لها باعتها, فسخط عبد الله ابن الزبير بيع تلك الدار". قوله: (لتنتهين عائشة) زاد في رواية الأوزاعي: "فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها" وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره, وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال: "كانت عائشة لا تمسك شيئا, فما جاءها من رزق الله تصدقت به" وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها, وقوله: "لتنتهين أو لأحجرن عليها " هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة " ينبغي أن يؤخذ على يدها".

قوله: (لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا) في رواية عبد الرحمن بن خالد "كلمة أبدا" وفي رواية معمر "بكلمة" وفي رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا "حتى يفرق الموت بيني وبينه".

قوله: (فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة).

زاد في رواية الأوزاعي: "فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله, فاستشفع بكل جدير أنها تُقبل عليه" في الرواية الأخرى عنه: "فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل" وفي رواية عبد الرحمن بن خالد "فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين" وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله بن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال: "فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها: أين حديث أخبرتنيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الهجر فوق ثلاث". قوله: (فقالت لا ولله لا أشفع) بكسر الفاء الثقيلة. قوله: (فيه أحدا) في رواية الكشميهني: "أبدا ".

قوله: (ولا أتحنث إلى نذري) في رواية معمر: "ولا أحنث في نذري" وفي رواية الأوزاعي: "فقالت والله لا آثم فيه" أي في نذرها.

قوله: (فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة).

"فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة" وقد بينت هناك معنى هذه الخؤولة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه. قوله: (أنشدكما بالله لما) بالتخفيف و"ما" زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض, يعني ألا, أي لا أطلب إلا الإدخال عليها.

وفي رواية الكشميهني: "ألا أدخلتماني" زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما.

قوله: (لا يحل لها أن تنذر قطيعتي) لأنه كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا. قوله: (فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته) في رواية معمر: "فقالا السلام على النبي ورحمة الله" فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة. قوله: ( أندخل؟ قالت: نعم. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم) في رواية الأوزاعي: "قالا: ومن معنا؟ قالت: ومن معكما".

قوله: (فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي) في رواية الأوزاعي: "فبكى إليها وبكت إليه وقبلها" وفي روايته الأخرى عند الإسماعيلي: "وناشدها ابن الزبير الله والرحم". قوله: (ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال).

(تنبيه): ادعى المحب الطبري أن الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا, ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير.

ولا يخفى ما فيه, فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث, وترك السلام داخل في ترك الكلام, وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت, ويؤيده ما كانت تعتقه في نذرها ذلك.

قوله: (فلما أكثروا على عائشة من التذكرة) أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم والعفو وكظم الغيظ.

قوله: (والتحريج) بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما ورد في القطيعة من النهي, وفي رواية معمر "التخويف".

قوله: (فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير) في رواية الأوزاعي "فكلمته بعدما خشي أن لا تكلمه, وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه".

قوله: (وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة) في رواية الأوزاعي "ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به أربعون رقبة فأعتقتها كفارة لنذرها" ووقع في رواية عروة المتقدمة "فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم" وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا, ولا ينافي رواية الباب أن تكون هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم , وقد وقع في الرواية الماضية "ثم لم تزل حتى بلغت أربعين".

قوله: (وكانت تذكر نذرها) في رواية الأوزاعي: "قال عوف بن الحارث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر نذرها ذلك". ووقع في رواية عروة أنها قالت: "وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه", وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا.

الإصلاح بين الجماعات والقبائل:

عن أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((إِلَيْكَ عَنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِك.َ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ مِنْهُم:ْ وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك.َ فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَه،ُ فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)).

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)).

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ بِلال،ٌ فَأَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاة،ِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَال:َ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ فَقَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَأَقَامَ الصَّلاةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأوَّلِ.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: ((اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ)).

بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:((إن ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)).

جواز الكذب للإصلاح:

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: ((لَيْسَ الْكَذابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)).

قوله: (فينمي) بفتح أوله وكسر الميم أي يبلغ, تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير, فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد كذا قاله الجمهور.

قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبا لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به, وهذا ساكت, ولا ينسب لساكت قول.

وما زاده مسلم والنسائي من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه في آخره "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث" فذكرها, وهي الحرب وحديث الرجل لامرأته والإصلاح بين الناس.

قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال, وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة, أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء مطلقا، وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس, وهو يريد قوله اللهم اغفر للمسلمين. ويعد امرأته بعطية شيء ويريد إن قدر الله ذلك.

واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها, وكذا في الحرب في غير التأمين. واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار, كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم. والله أعلم.

قال ابن القيم رحمه الله: فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين فهذا أعدل الصلح وأحقّه وهو يعتمد العلم والعدل فيكون المصلح عالما بالوقائع عارفا بالواجب قاصدا للعدل فدرجة هذا المصلح من درجة الصائم القائم.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد .

(1/488)

________________________________________

زلزال مصر

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

آثار الذنوب والمعاصي

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

2/7/1416

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تنوع صور البلاء في المجتمعات. 2- عقوبة الأمم السابقة.. 3- ما ينزل بالناس من مصائب قد يكون عقوبة وقد يكون بلاءً. 4- فشو المنكرات وحرب الدعاة في بلاد المسلمين. 5- من رحمته تعالى أنه لا يعاملنا بعدله. 6- فشو المنكرات سبب في عموم العذاب. 7- من الغفلة نسبة الأحداث إلى أسبابها الكونية فقط. 8- من علامات الساعة كثرة الزلازل. 9- دعوة للتوبة والتضرع إلى الله وأخذ العبرة مما وقع.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: إن في هذه الدنيا مصائب وفتن ومحن وزلازل مدمرة وأعاصير مهلكة وفيضانات مفرقة آلام تضيق بها النفوس ومزعجات تورث الخوف والجزع، كم ترى من شاكي وكم تسمع من لوام وكم تبصر من مبتلى، تتنوع الابتلاءات وألوان الفتن يبين الناس أفرادا ومجتمعات حسب ابتعاد الناس عن المنهج الإلهي وبحسب قربهم من هذا المنهج وهو التزام كتاب الله وسنة نبيه يكون التخفيف من البلاء والمحنة، والمعصية عندما تكون جماعية يفعلها القاصي والداني في المجتمع المسلم يكون لها أثر مدمر ومخيف لاتساع المساحة التي يظهر فيها شؤم هذا الأثر، فهي تعرض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه، وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرضه لأدنى هزة.

أيها الإخوة:

لقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي الجماعية وذكرنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب مثل قوم عاد وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، ومثل قوم لوط فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد ، ومثل قوم شعيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود ثم يبين الله تعالى سنته المطّردة في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها المعاصي التي يتواطأ عليها المجتمع ويقرها أهله فيقول عز من قائل: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، والعذاب والبأس الذي ينزله الله بمن يتعارفون ويتميزون بهذه المعاصي والمنكرات ويفتخرون بها ويبذلون الأموال الطائلة في استنباتها وترسيخها بين الناس، قد يكون من الكوارث والزلازل والأعاصير والجوائح التي تجعلها نكالا لمن يأتي من بعدهم كما عذب القرون السابقة وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التي تسلبهم نعمة الأمن والاستقرار وتضر بهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض وكما فعل الله بقارون فقال عز من قائل: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وكما فعل أيضا بالذي جرّ إزاره كبرا وفخرا وتيها فقد قال : ((بينما رجل يجرّ إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) رواه البخاري والإمام أحمد والنسائي.

والإنسان عندما يتصور العذاب الذي يأتيه من فوق أو يأتيه من تحت يكون أشد وقعا في النفس من تصوره آتياً عن يمين أو شمال، فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال أما العذاب الذي يصب عليه من فوق أو يأتيه من تحت فهو عذاب غامر قاهر ولا يدبر أمره إلا الله اللطيف الخبير.

أيها المسلمون: لقد فشا في كثير من المجتمعات الربا والزنا وشربت الخمور والمسكرات وأدمنت المخدرات، كثر أكل الحرام وتنوعت الحيل شهادات باطلة وأيمان فاجرة وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، حورب الدين وأهله وسيم الدعاة والمصلحون أشد العذاب والنكال سخر منهم واستهزيء بهم ونال سفلة القوم الترحيب والرفعة وصدروا في المجالس وأصبح قدوة الشباب الفنان فلان والمطرب فلان حين ابتعد الناس عن الطريق المستقيم كثر الكفر والفسوق وقل الشكر وإرجاع الحقوق، كذب وتزوير للحقائق غيبة ومراودة، استبشار بالذنوب، خيانة خداع، أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإصرار على الذنوب وعدم التوبة، عدم ذكر الله تبرج وسفور، زنا ولواط، الإشمئزاز من ذكر الله التجسس، النميمة، منع الخير، الجدال في الله، ترك الصلاة إلى غير ذلك من الذنوب والآثام التي تؤذن بعذاب الله وعقابه وكان حقا على الله أن يعاقب من فعل بعض هذه المنكرات فكيف بها جميعا.

ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى .

وقال: ولو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة .

فمن فضل الله ورحمته أنه لا يؤاخذ الناس بكل ذنب ولكن إذا نسوا تذكير الله لهم خوفهم بالآيات التي تهتز لها المشاعر والأبدان كالزلازل والبراكين وسيلان الأودية بالنيران وما يقع في بعض البلدان من الفيضانات وما ذاك إلا ليخوف الله به الإنسان إذا تمادى في الطغيان ولعذاب الآخرة أكبر ولأمر الله أعظم.

كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إن الأمة حين تغفل عن سنن الله تغرق في شهواتها وتضل طريقها حتى تقع في مصارع السوء، إنها سنة الله حين تفشوا المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام، والانحلال الخلقي وفشو الدعارة وسلوك مسالك اللهو والترف حينها ينزل الله العذاب والعقاب، والعذاب يعم الصالح والفاسد كما ورد في الحديث ((...أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)).

فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون .

أيها الإخوة: لقد طغت النظرة المادية على كثير من أبناء هذا العصر فضعف عندهم الربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها لهذا عندما زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب سأل عائشة عن سبب هذا فقالت له: (كثرت الذنوب) فقال عمر: (والله لئن عادت فزلزلت لا أساكنكم فيها). قد يقول قائل ممن يدرس الجيولوجيا إن سبب هذه الظاهرة الطبيعية هو تقلص القشرة الأرضية وما إلى ذلك، ونحن نقر بهذا التحليل العلمي النظري ولكن ما وراء ذلك من الأسباب، وما السبب في تقلص القشرة الأرضية وحدوث الزلزال إنها الذنوب والمعاصي.

ولقد ورد في علامات آخر الزمان أنه تكثر الزلازل والخسف فقال : ((لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يكون في آخر الزمان خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) رواه الترمذي، وهو حديث صحيح.

وقد جاء الوعيد للعصاة من أهل المعازف وشاربي الخمور بالخسف والمسخ والقذف، روى الترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله قال: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)). وهو حديث صحيح.

لولا الذين له ورد يصلونا وآخرون له سرا يصومونا

لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا لأنكم قوم سوء ما تطيعونا

والخسف قد وجد في مواضع في الشرق والغرب قبل عصرنا هذا ووقع في هذا الزمن كثير من الخسوفات والزلازل في أماكن متفرقة من الأرض والسبب في كثرة الزلازل في هذه الأيام هو أن فساد الناس في هذا الزمن قد فاق أضعاف أضعاف فساد الناس في الأزمان السابقة ففي هذا العصر تفنن الناس في الفساد وأنواعه ولهذا كان وقوع الزلازل في هذا العصر كثير جداً، بالمعصية بدل إبليس بالإيمان كفرا وبالقرب بعدا وبالجنة نارا تلظى وبالمعصية عم قوم نوح الغرق وأهلكت عادا الريح العقيم وأخذت ثمود الصيحة.

إنها الحقيقة المرة الصارخة فكلا أخذنا بذنبه تلكم الذنوب وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين ببعيد، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ، وكما هو معلوم أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ولهذا عندما استغرب الصحابة هزيمتهم في يوم أحد أنزل الله تعالى قوله: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ، أنفسكم هي التي عصت أمر الله وابتعدت عن منهجه فكان جزاؤها العقاب والهزيمة، فمن مقتضى قدرة الله أن تنفذ سنته وأن يحكم ناموسه، وأن تمضي الأمور وفق حكمته وإرادته، وألا تتعطل سننه التي أقام عليها الكون والحياة والأحداث، فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لابد أن تنطبق عليه مسلما كان أو مشركا ولن نجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.

أيها الإخوة: لقد سمعنا عن الزلزال الذي تعرضت له مصر الأسبوع الماضي لقد سمعنا بالزلزال الذي ضرب مناطق عدة من دول المنطقة وشمال المملكة وتجمدت قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد تابع الجميع بقلق بالغ هذا ونحمد الله عز وجل أنه كان خفيفا ولم ينتج عنه أي أضرار في الأرواح والممتلكات سوي أخبار الحادث المؤلم ونحن نتوجه إلى الله العلي القدير أن يلطف بمصر وأرضها وشعبها وأن يحفظه دائما لأمته الإسلامية وأن يلهم المصابين وذويهم الصبر والسلوان إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وأنا أنبه من ابتلي ومن لم يبتلى أن يستدرك أمره وأن يصلح ما فسد من حاله وأن يرجع إلى الله وأن يتوب إليه وأن يعلم أن ما أصابه إنما هو بسبب ما اقترفت يداه وجنته نفسه فالرجوع إلى الله في وقت الشدة بالذات أمر مطلوب ومحبوب إلى الله أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .

وقال: فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ، أي رجعوا إلى الله ولجؤا إليه في وقت الشدة وتذللوا له ونزلوا عن عنادهم واستكبارهم ومعاصيهم ودعوا الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة حينئذ يرفع الله عنهم البلاء ويفتح لهم أبواب الرحمة ويخفف عنهم الوطأة.

فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه واستغفروه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون

(1/489)

________________________________________

في الحث على الإحسان

-----------------------

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

خصال الإيمان, مكارم الأخلاق

-----------------------

صالح بن فوزان الفوزان

الرياض

البساتين

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- جزاء الإحسان في الآخرة 2- الإحسان في العلاقة مع الله 3-الإحسان في العلاقة مع الخلق 4- وجه من وجوه الإحسان

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإن ذلك هو طريق النجاة، واعلموا أن الله سبحانه أمر بالإحسان في آيات كثيرة، وأخبر أنه يحب المحسنين، ولا يضيع أجر من أحسن عملا.

وقال تعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، قال ابن عباس وغيره في معنى الآية: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة؟.

وقال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [يونس:26].

وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة.

قال ابن رجب رحمه الله: وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان، لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه المراقبة لله وحضور القلب كأنه يراه وينظر إليه، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين:15]، فإن ذلك جزاء لحالهم في الدنيا لما تراكم من الذنوب على قلوبهم، فحجبهم عن معرفة الله ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم أن حجبوا عن رؤية الله في الآخرة.

عباد الله: والإحسان ضد الإساءة، قال تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم:31].

وهو أنواع كثيرة: منهما ما يكون في عبادة العبد لربه، كما بينه الرسول لما قال له جبريل عليه السلام: أخبرني عن الإحسان، قال: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).

ومعناه بأن يعبد ربه مستحضرا لقربه منه واطلاعه عليه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضا إخلاص العبادة لله وتحسينها وإكمالها، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أعلى مراتب الدين.

ومن أنواع الإحسان: الإحسان في العمل بأن يكون موافقا لما شرعه الله على لسان رسوله خاليا من البدع والمخالفات، قال تعالى: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:112]، وقال تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22].

وإسلام الوجه لله، وإلى الله، معناه: إخلاص العمل من الشرك.

والإحسان للعمل معناه: متابعة السنة فيه ومجانبة البدعة، وأي عمل لا يتوفر فيه هذان الشرطان يكون هباءً منثورا ووبالا على صاحبه.

ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى الخلق من الآدميين والبهائم، بإغاثة الملهوف وإطعام الجائع والتصدق على المحتاج وإعانة العاجز، والتيسير على المعسر والإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، وقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان ، وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [النساء:36]، فقد أمر الله سبحانه بالإحسان إلى هذه الأصناف بإيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم، وقال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات:15-19]. فبين الله سبحانه سبب حصولهم على هذه الكرامة العظيمة وأن ذلك بما أسلفوه من الإحسان في الدنيا من صلاة الليل والاستغفار بالأسحار والتصدق على المحتاجين، وقال تعالى: إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين [المرسلات:41-44].

والآيات في ذلك كثيرة تبين ما للإحسان من عاقبة حميدة، وثواب عظيم.

ومن أنواع الإحسان: الإحسان إلى البهائم، عن أبي هريرة ، عن رسول الله قال: (( دنا رجل إلى بئر فنزل فشرب منها، وعلى البئر كلب يلهث فرحمه فنزع أحد خفيه فسقاه، فشكر الله له ذلك فأدخله الجنة ))، رواه ابن حبان في صحيحه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء النبي فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لإبلي ورد علي البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك أجر؟ فقال رسول الله : ((إن في كل ذات كبد أجرا))، رواه أحمد ورواته ثقاة مشهورون.

وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه الحر، فوجد بئرا فنزل فيه فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له ))، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: ((في كل كبد رطبة أجر ))، رواه مالك، والبخاري، ومسلم.

ففي هذه الأحاديث فضل الإحسان إلى البهائم بما يُبْقي عليها حياتها، ويدفع عنها الضرر، سواء كانت مملوكة أو غير مملوكة، مأكولة أو غير مأكولة، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن رسول الله قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحد أحدكم شفرته ولْيُرح ذبيحته ))، فيه فضيلة الإحسان إلى البهائم المأكولة في حال ذبحها، وهذا شيء يغفل عنه بعض الناس، فيسيؤن إلى البهائم في كيفية ذبحها.

والإحسان قد أمر الله به في مواضع من كتابه، منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب، فهو في كل شيء بحسبه.

فالإحسان في معاملة الخالق بفعل الواجبات وترك المحرمات واجب، وفي فعل المستحبات وترك المكروهات متسحب، والإحسان في معاملة الخلق، منه ما هو واجب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بالبر والصلة، ومنه ما هو مستحب كصدقة التطوع، وإعانة المحتاج، والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب بإزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها، من غير زيادة في التعذيب، وهكذا مطلوب من المسلم أن يكون محسنا في كل شيء مما يأتي وما يذر، محسن في عمله، محسن في تعامله مع الله ومع خلقه، ومحسن في نيته وقصده، قال الله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم [التوبة:91]، فهؤلاء الذين لا يستطيعون القتال لعجزهم الجسمي والمالي مع سلامة نياتهم وحسن مقاصدهم، قد عذرهم الله لأنهم محسنون في نياتهم، لم يتركوا الجهاد لعدم رغبتهم فيه، وإنما تركوه لعجزهم عنه، ولو تمكنوا منه لفعلوه، فهم يشاركون المجاهدين في الأجر لنياتهم الصالحة وحسن قصدهم، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، وأصله في الصحيحين أن رسول الله قال: ((لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم )).

وكما يكون الإحسان في الأعمال والنيات يكون في الأقوال أيضا، قال تعالى: وقولوا للناس حسنا [البقرة:83]، أي: قولوا لهم قولا حسنا، بأن تخاطبوهم بالكلام الطيب، الذي يجلب المودة، ويرغب في الخير، ويؤلف القلوب.

وهذا يشمل الصدق في الحديث، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد جاء في الحديث: (( والكلمة الطيبة صدقة ))، فاتقوا الله – عباد الله – وكونوا من أهل الإحسان لتنالوا من الله الأجر والرضوان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين [العنبكوت:69].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، على فضله وإحسانه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن وجوه الإحسان كثيرة، ينبغي للمسلم أن يسهم فيما يستطيع منها، ولا سيما منْ منّ الله عليهم بوفرة المال، فإن المجالات الخيرية أمامهم واسعة، من بناء المساجد، وتوفير المياه للشرب، وطباعة الكتب الدينية، وتوزيع المصاحف، ومساعدة مشاريع تعليم القرآن الكريم، ومساعدة المراكز الإسلامية في الخارج، وإعانة المجاهدين في سبيل الله، ومواساة المنكوبين والمشردين من المسلمين والمصابين بالمجاعة.

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (( سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ))، رواه البزار، وأبو نعيم في الحلية. ومعنى كرى نهرا: أي حفره.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال أتى النبي رجل فقال: ما عملٌ إن عملت به دخلت الجنة؟ قال: ((أنت ببلد يجلب به الماء؟ ))، قال: نعم، قال: ((فاشتر سقاء جديدا، ثم اسق فيها حتى تخرقها، فإنك لن تخرقها حتى تبلغ بها الجنة )) رواه الطبراني في الكبير.

وفي (الصحيحين) عن أنس عن النبي قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة ))، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النبي قال: ((ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما شرق منه له صدقة، وما أكل السبع مه فهو له صدقة، ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة ))، وفي رواية له أيضا: ((فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ))، وظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها الزارع والغارس ونحوهما، إذا نوى واحتسب الأجر عند الله سبحانه، ولكن المؤسف أن كثيرا من الأثرياء يحبسون أموالهم عن الإسهام في الخير، ويحرمون أنفسهم من الثواب، وهم قادرون على ذلك، فكانوا ممن جمع فأوعى، فيا حسرة من كان جمّاعا للمال منّاعا للخير لا يقدم لنفسه ما يجده عند الله خيرا وأعظم أجرا، يتعب في جمع المال وحفظه ويتركه لغيره ولا يقدم منه لنفسه.

فاتقوا الله – عباد الله – وقدموا لأنفسكم: واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين

واعلموا أن خير الحديث كتاب الله...

(1/490)

________________________________________

سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه

-----------------------

سيرة وتاريخ

تراجم

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- لماذا نتحدث عن سيرةمصعب أو غيره. 2- حال مصعب قبل الإسلام. 3- التغير التام لحياة مصعب بعد الإسلام. 4- هجرة مصعب إلى الحبشة. 5- مصعب في المدينة يدعو إلى الإسلام وينجو فيها. 6- إسلام سعد بن معاذ على يديه. 7- ولاء وبراء في قصة لمصعب يوم بدر. 8- شهادته يوم أحد.

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله واقتدوا بسلف هذه الأمة من صحابة رسول الله فهم القدوة الصالحة لشبابنا التائهين المقتدين بفساق اليوم من مطربين وممثلين وغيرهم ممن لا يصلحون لأن يكونوا قدوة للأنعام فضلا عن بني الإنسان.

أيها الإخوة: إنني سأتكلم في هذه الخطبة عن سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله كان شابا غنيا مترفا منعما حسن الوجه لطيف المعاملة والمعاشرة، وكلما تعمق القاريء في ترجمته ازداد له هيبة وامتلأ إعجابا وإكبارا له، فهو ممن وضعوا البُني الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته ورفعته في مدينة رسول الله بين الأنصار أوسهم وخزرجهم، ولا أقصد بكلامي عن هذه الشخصية الكريمة مجرد التفاخر والتواكل والاعتماد في الحاضر على الأحساب والأمجاد الأولى، فهذا لا يفيدنا شيئا في مجال البناء والنهضة بشبابنا الضائع وأمتنا التائهة.

وإنما أقصد بحديثي استلهام روح البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح ليصبح الحديث عنهم عنوانا طيبا صالحا لبعث الحياة فيهم من جديد، وتجديد الأمل، واستعذاب المنى وتفجير الطاقات والقوى، وإحداث التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل والعمل من أجل غد مشرق ومستقبل باسم مليء بالأمجاد لا مجال فيه لمتخاذل أو مستضعف أو متردد أو مبتدع مارق، فليس الكلام الشيق المفصل عن حياة أي صحابي مجرد قصة أو ترجمة عابرة للتسلية وشغل الوقت كأغلب قصص وثقافات السوق الرائجة وإنما لتبيين موطن العبرة وموضع العظة ومعرفة طريق الأمل والنور.

لهذا قال مؤرخو السير والتراجم: القصد من ذكر أخبار الأخيار شرح أحوالهم وأخلاقهم ليقتدي بهم السالك أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده .

هذا الصحابي هو السيد الشهيد السابق البدري القرشي العبدري: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي أحد السابقين إلى الإسلام أسلم قديما والنبي في دار الأرقم وكان محببا إلى والديه يغدقان عليه بما يشاء من أسباب الراحة والترف والنعيم ولهذا كان من أنعم فتيان مكة وكان فتى مكة شبابا وجمالا وتيها، وكانت أمه غنية كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، وكان رسول الله يذكره ويقول: ما رأيت بمكة أحسن لِمّة ولا أرق حُلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير، ولكن هل منع مصعب ما كان فيه من الراحة والنعمة ألا يدخل في الإسلام بعد أن سمع به؟ كلا لم يحدث شيء من هذا بل لما سمع بالإسلام دخل فيه مباشرة وكان يعلم أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه وسوف يتبدل حاله من العز إلى الذل ومن السعة إلى الضيق، ومن النعيم إلى الجحيم ومن الراحة إلى التعب، ومن الغنى إلى الفقر، ولكنه آثر الآخرة على الدنيا، نعم لم يفعل كما يفعل المترفون اليوم من عدائهم للمتمسكين بهذا الدين والاستهزاء بهم، ولم يقل: إن هذا الدين كبت وجرح للمشاعر ولم يجمع حوله الشباب الضائع المائع المتكسّر البعيد عن الرجولة لينشغل بمغازلة النساء، ولم يقل: أنا شاب الآن عندما أكبر أتوب وأرجع إلى الله كلا لم يفعل ولم يقل شيئا من ذلك الهراء كما يفعله شباب اليوم.

بل دخل في دين الله متحديا بذلك قريشا بعتادها وقوتها لما كان يرى من تعذيبهم للمستضعفين في رمضاء مكة.

أسلم مصعب فعلمت به أمه وكانت تحبه حبا شديدا فحاولت أن تثنيه عن الإسلام ولسان حالها ومقالها: لا تتشدد يا بني ماذا تريد من هذا الدين أتريد أن تمنع نفسك من الغناء ومن النساء ومن الشهوات إن الدين يبعد عنها ويمنعك منها وأنت تعلم أن الحياة لا تصفوا إلا بهذه الأمور، ولكن مصعبا يعلم أن ما حرمه الله عليه في الدنيا سوف يجده عند الله في الجنة أما الغناء فسوف يسمع الحور العين يغنين له في الجنة أما النساء ففي الجنة ما يروي عطش الظمآن ويطفئ سعار شهوة اللهفان من حور عين لو اطلعت إحداهن على أهل الدنيا لأضاءت لها الأرض ولافتتن أهل الدنيا بها ولخمارها خير من الدنيا وما فيها، وأما الخمر ففي الجنة، فهو من خمر لذة للشاربين لا تزيل العقل ولا تضعف البدن، فليست هناك مقارنة في الأصل بين الدنيا والآخرة ومع هذا كله فللمؤمن مغفرة من الله وله من كل الثمرات ومن كل ما تشتهي نفسه وتلذّ عينه مع خلود أبدي لا موت ولا فوت هل هذا كمن هو خالد في النار وسقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم؟ كلا ليست هناك مقارنة وليس هناك أي تنازل عند مصعب أمام والدته وليس لديه خيار آخر غير الإسلام فضيقت عليه ومنعته من كل نعيم كان فيه ووصل الحال إلى سجنه وهو مع هذا كله لم يزدَدْ إلا ثباتا ورسوخا ولسان حاله، ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي فلن أترك ديني مهما حل بي من ضيق وشدة، ولقد عانى معاناة شديدة وهو يعذب والسبب في ذلك أنه عاش حياة الرفاهية تصوروا عندما تغير به الحال وهو الشاب الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والترف لم يثنه شيء من ذلك عن دينه يقول عنه سعد بن أبي وقاص : (وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسيّ ثم نحمله على عواتقنا) أ.هـ.

ومع هذا الألم صبر وصابر محتسبا الأجر عند الله سبحانه، كيف لو حدث مثل هذا لبعض شبابنا اليوم هل تظنون أنه سوف يثبت على دينه أو يتركه بالكلية؟ إننا نرى في بعض من لم يلتزم بهذا الدين يخاف من كل شيء من الوهم من الخيال، فهو يظن الهمس وعده، فينبغي للمؤمن ألا يخاف إلا من ربه وأن يعلم أن الحياة فانية وأنها دار اختبار تحتاج إلى مجاهدة ومصابرة ولنجتهد حتى ينجح الواحد منا في الدار الآخرة حيث يقول: هاؤم اقرؤوا كتابيه يفرح ويفتخر بشهادة الله له بالفوز في دار النعيم المقيم والخلود الأبدي، وما قيمة شهادات الدنيا أمام الشهادة الأخروية.

ولما اشتد أذى المشركين بمصعب وإخوته من صحابة رسول الله وضاقت بهم مكة ذرعا أذن لهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الأولى وقال لهم: ((إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحدا)) فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر وكان عددهم اثني عشر رجلا وأربع نسوة وأمروا عليهم عثمان بن مظعون.

ولكن مصعبا لم يستمر طويلا في الحبشة إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشا قد أسلمت وكان الأمر غير ذلك. وتمرّ الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ويأتي عام الحزن وينتهي وتأتي في موسم الحج طلائع من أهل يثرب سنة إحدى عشرة من النبوة وأسلم منهم ستة نفر وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته الى قومهم وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلا اجتمع هؤلاء مع النبي عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّم المسلمين هناك شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه المهمة الشاقة شابا من شباب الإسلام من السابقين الأولين ألا وهو مصعب بن عمير .

قال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.

كان مصعب يقدر المسؤولية التي أنيطت به ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامّه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم ومعه فلول الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام فعليه إذا أن يجتهد في الدعوة وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجا، نزل في المدينة عند رجل من أوائل من أسلم من الأنصار ويسمى أسعد بن زرارة ولعلنا لا نجد لهذا الصحابي ذكرا كثيرا في كتب السيرة والسبب في ذلك أنه توفي بعد هجرة الرسول بقليل، وأخذ مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يبثان الإسلام في أهل يثرب بجدّ وحماس حتى صار يدعى مصعبا بالقاري والمقري.

ولقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير أنه خير سفير للإسلام اعتمده النبي لدى أهل يثرب، فقد قام بمهمته خير قيام إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيرا من أهل يثرب على الإسلام حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ .

ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب يريد دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجالا من المسلمين – وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك – فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما عن أن يأتيا ديارنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.

فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما: فلما رآه أسعد قال لمصعب، هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، وجاء أسيد فوقف عليهما متشمتا، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفها ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته نكفّ عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس فكلمه مصعب عن الإسلام، وتلا عليه القرآن قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ فقالا له: كيف يفعل فاغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلا إن أسلم لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن، ثم ذهب إلى سعد بن معاذ فلما رآه سعد قال لقومه: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما وقف أسيد على النادي قال لسعد: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، ثم حث سعدا على الذهاب فلما ذهب سعد ورآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: جاءك والله من وراءه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد وجاء سعد فوقف عليهما متشمتا، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته فجلس، ولي وقفة هنا وأقول يا إخوة ألا ليت الذين يعادون الدين وأهله يسمعون كلام دعاته فإن هم رضوا انضموا إلى ركب الدعاة إلى الله والسائرين إليه وإن لم يرضوا وحاشاهم كانوا من المنافقين أعداء الدين كأمثال أبي بن سلول وأبي عامر الفاسق وأبي جهل وأبي لهب الذين عادوا الإسلام وحاربوه، الشاهد أن مصعبا عرض الإسلام على سعد وقرأ عليه القرآن فانشرح صدره لأنه صاحب ضالة وجدها في هذا الدين، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم فقال: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك، ثم أخذ حربته فأفقبل إلى نادي قومه فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به.

ثم بدأ هنا سعد بن معاذ يدعوا إلى دين الله الذي اعتنقه وصدّق به، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمنُنا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة إلا رجلا واحدا، الأصيرم وتأخر إسلامه إلى يوم أحد.

وأقام مصعب يدعو إلى الله حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون منها. هذا هو مصعب قد قام بمهمته خير قيام وقبل حلول موسم الحج عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر النصر والفوز ويقصّ عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير وما لها من قوة ومنعة لنصرة هذا الدين، فسر النبي وبايع الأنصار في هذا الموسم في السنة الثالثة عشرة من النبوة وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى نصرة رسول الله النصرة التامة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال قائل منهم: فما لنا يا رسول الله، قال: ((لكم الجنة))، قالوا: رضينا، ثم انتهت البيعة وأذن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى يثرب وسماها بعد ذلك المدينة النبوية.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

أيها الأحبة: وبعد بيعة العقبة الثانية هاجر الصحابة إلى المدينة وهاجر رسول الله مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق وهنا بدأ العمل الجاد لنشر الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية وكانت معركة بدر حمل فيها راية المسلمين مصعب بن عمير ودافع عنها وقاتل قتال الأبطال حتى انتصر المسلمون انتصارا ساحقا كما هو معروف، وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين وهو أسير لدى أحد الأنصار فقال له: أشدد عليه وثاقه فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك؟ فقال أبو عزيز لمصعب: أهذه وصاتك بأخيك؟ قال مصعب: إن هذا الأنصاري هو أخي دونك.

نعم إن أخوة الدين أقوى وأسمى من أخوة النسب، ثم كانت بعد غزوة أحد وكانت راية المسلمين أيضا بيد مصعب بن عمير فقاتل قتال الأبطال حتى قتل قتله ابن قمئة الليثي يظنه رسول الله، وفي مصعب وإخوانه الذين قتلوا في أحد نزل قوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .

لك الله يا مصعب يا من ذكرك عطر للحياة تلك هي الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين الصادقين الذين قدموا كل ما يملكون من راحة نفس ونعمة ومال وغال ونفيس في سبيل هذا الدين ولم يعقهم أي عائق فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان لهم من الله الرضا والمغفرة والفوز بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وهكذا مضى مصعب الصحابي الشاب الأسد كما يمضي كل الناس ولكنه مضى عزيزا وكبيرا قد أعذر إلى الله بعمله الدؤوب وجهده المضيء فكانت فرحته عند ربه حينما قال فيه وفي من قتل معه ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون نعم أحياء ولكن ليس كحياتنا ينعمون في الجنة ويسرحون فيها حيث شاءوا، مضى مصعب ذلك الشاب الغني المترف الذي كان يلبس أحسن الثياب وينتعل أفضل النعال مضى من الدنيا ولا يملك شيئا سوى ثوبه الذي عليه إن غطوا رأسه بدت رجلاه وإن غطوا رجليه بدا رأسه.

يقول خباب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله لم يأكل من أجره شيئا منهم: مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله : ((غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر))، وهو نبات معروف طيب الريح، متفق عليه.

قتل مصعب ولم يطلب في يوم من الأيام نعمة ولا ثراء، ولا سلطة ولا وجاهة ولم يكن يفكر يوما بمنصب أو رئاسة ولم يكن له هم سوى انتصار دين الله على الكفر وأهله فآتاه الله أجره وأعطاه هو وإخوانه من كل شيء، أعطاه من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاه هو وإخوانه كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وشهد لهم سبحانه بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد، وأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب فقال: والله يحب المحسنين تلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثله على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح؟ وهل لشبابنا أن يتغنّوا ببطولات هؤلاء الرجال من صحابة رسول الله بدل بطولات لاعبي الكرة ومغامرات الزناة ومدمني المخدرات؟

إلى متى يظل مستوى شبابنا يتدنى إلى الحضيض والسفالة؟ إلى متى؟

أيها الإخوة: إذا أردنا أن ننهض بشباب الأمة فيجب علينا أن نربيهم على سيرة رسول الله وعلى سيرة الرعيل الأول كأمثال حمزة ومصعب وجعفر وابن رواحة وابن عمر وابن عباس وأسامة بن يزيد وغيرهم وهم كثير ولله الحمد ونغرس فيهم التفاني من أجل الدين ونرتفع بهم من ثقلة الأرض إلى علو السماء ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة وأن نؤدبهم على ذلك من الصغر حتى تصبح عزة أحدهم بدينه طابعا لا تطبعا وخلقا لا تخلقا، فحينئذ نجني الثمرة المرجوة من شبابنا اللهم إنا أحببنا صحابة نبيك محمد أصدق الحب وأعمقه، فهبنا يوم الفزع الأكبر لأي منهم فإنك تعلم أننا ما أحببناهم إلا فيك يا أرحم الراحمين.

(1/491)

________________________________________

ظلم العباد بعضهم بعضا

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- نصوص في التحذير من الظلم. 2- معنى الظلم. 3- صور من الظلم. 4- عقوبة الظلم ودعوة المظلوم. 5- الدعوة إلى التملل من المظالم في الدنيا.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله واحذروا الظلم وعواقبه الوخيمة، فإن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقد حذر الله منه في كتابه أيما تحذير وبين أن عاقبة الظالم أليمة وأن مصيره إلى النار وبئس القرار، فحذر سبحانه من مطلق الظلم بجميع أنواعه وبين أن أشده الشرك به ومعه سبحانه فقال: إن الشرك لظلم عظيم وقد تكلمت في الخطبة السابقة عن الشرك وأما اليوم فسوف تكون الخطبة عن النوع الثاني من الظلم وهو ظلم العباد بعضهم بعضا، وهذا الديوان الذي لا يتركه الله حتى يقتص من الظالم للمظلوم، فمرتع الظلم وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه إلى النار، وخراب الدار، ولو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما، وما حرم الله شيئا كالظلم، وقد توعد الله الظلمة قال تعالى: إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا .

وقال أيضا: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما .

وقال سبحانه في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا))، وهذا الحديث مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده، قال تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ، فالظلم أن يعاقبك بذنب غيرك والهضم أن ينقص لك من جزاء حسناتك.

ومعنى الظلم: وضع الأشياء في غير مواضعها وقيل: التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فمن عصى الله أو آذى خلقه فقد وقع في الظلم.

وقوله تعالى: وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يعني أنه حرم الظلم على عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم أخاه المسلم في أي شيء بل حتى لا يجوز له أن يظلم البهائم يؤذيها ويضربها، فقد دخلت امرأة النار في هرة سجنتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشائش الأرض.

فما الظن بمن يظلم إنسانا مثله فيأخذ حقوقه ويستولي على أمواله تعديا وظلما، أو يغصب أرضه أو يسرق ماله أو يختلس دراهمه بالرشوة وبالربا أو يطفف المكيال والميزان أو يؤخر أجر العامل أو يحرمه حقه أو يخصم من راتبه بغير حق أو يضربه ويشتمه ويسبه ويلعنه أو يهزأ منه، أو يحقر من شأنه كقوله: هذا هندي أو هذا مصري أو هذا كذا وكذا وغير ذلك وكأنك أيها الظالم نزلت من كوكب آخر وخلقت من غير أب وأم، أم ماذا؟ لماذا هذا التمايز والتفاخر لماذا نرى أننا أصحاب مكانة غير الآخرين هل بيننا وبين الله نسب لماذا نسخر من إخواننا ونقول: هذا زبال وهذا فراش وهذا فقير ولا تعير لهم أي اهتمام؟ أين نحن من قول النبي ، كما ثبت في الصحيحين: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))؟ وكما قيل:

الناس من جهة الشال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء

نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظم خلقت فيها وأعضاء

فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين و الماء

فليس هناك فضل بين أحد إلا بالتقوى ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه.

ومن الظلم أن تأكل مال اليتيم والضعيف ومن الظلم المماطلة بحق الغير مع القدرة على السداد وفي الحديث: ((مطل الغني ظلم)) فلم المماطلة؟ ومن الظلم أن يظلم الرجل زوجته بضربها لغير حق والتقصير في نفقتها وكسوتها وأن يرى أنه أفضل منها نسبا وعلما وفهما وغير ذلك من الأمور، ومن ذلك الاعتداء على الضعفاء والمساكين مستخفا بهم، ومن الظلم أيضا ألا تنصر أخالك في موطن النصرة بحيث تراه يضرب أو يهان فلا تعينه وتنصره، هذه الصور كلها من الظلم الذي مقت الله صاحبه وقال فيه وفي أمثاله: ألا لعنة الله على الظالمين وهو مع ذلك درجات متفاوتة والجزاء على كل شيء بحسبه، فإن الجزاء من نفس العمل. وكما تدين تدان ومن ظلم ظُلم ومن أساء ندم.

قال : ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه مسلم.

وقال أيضا: ((اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) متفق عليه.

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم

فلا تظن أيها الظلاّم القوي المستبد أن الله لا ينتقم منك لهؤلاء المساكين الذين يصبحون ساخطين عليك، ويبيتون يدعون عليك والله يعلم ما كان منك وما يكون منك وما الله بغافل عما تعملون .

واحذر أيها الظالم يوم الأذان، وقد روي أن طاووس بن كيسان دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: إني أحذرك يوم الأذان، فقال هشام: وما يوم الأذان؟ قال طاووس: وأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين فصعق هشام بن عبد الملك.

وقيل لما حبس خالد بن برمك وولده، قال: يا أبتي بعد العز صرنا في القيد والحبس، فقال: يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها:

واحذر من المظلوم سهما صائبا

واعلم بأن دعاءه لا يحجب

وكان يزيد بن حكيم يقول: ما هبت أحدا قط هيبتي لرجل ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله وهو يقول لي: حسبي الله، والله بيني وبينك.

أيها المسلمون: إن الدين الإسلامي يأمر بكل خلق كريم وينهى كل خلق سافل مهين فهو يأمرنا بالكف عن الظلم والعدوان وإيذاء الخلق أجمعين، قال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) متفق عليه، فيسلمون من يده من البطش والضرب والسرقة وأكل الحرام وغير ذلك، ويسلمون من لسانه من غيبة ونميمة وشتم وقذف وإثارة فتن وغير ذلك، فلا يتم إسلام مسلم، ولا يكمل إيمان مهاجر إلى الله، إلا بكف الأذى عن الناس وترك ما حرم الله، فليس الدين محض صلاة وصيام وتسبيح وتلاوة وحج وصدقة فحسب أي نعم هي الأركان المهمة لهذا الدين ولكن الدين أمر ونهي فينبغي لنا كما ائتمرنا بالأوامر أن ننزجر عن النواهي والزواجر وترك الذنوب والمعاصي فالدين فعل وترك وعمل وكف، فالنواهي من الظلم وغيره لم تشرع إلا ليسود الأمن ويحفظ النظام وتحيا الفضيلة وتصح الأجسام والعقول، وتصان الحقوق والأموال، عن الانتهاك والتبذير، ويعيش الناس في محبة وود ووئام نتيجة بعدهم عما نهاهم الله عز وجل عنه من الظلم وغيره.

وأما إذا لم ننزجر ونترك الظلم فستصير حياتنا كشريعة الغاب يأكل القوي الضعيف فلا يأمن أحد من أحد فتسود الفوضى وينعدم الأمن.

واستمعوا لهذه القصة التي ذكرها الإمام الذهبي في كتاب الكبائر يقول:

أن رجلا مقطوع اليد من الكتف كان ينادي في النهار من رآني فلا يظلمن أحدا فقال له رجل: ما قصتك؟ قال: يا أخي قصتي عجيبة، وذلك أني كنت من أعوان الظلمة، فرأيت يوما صيادا قد اصطاد سمكة كبيرة فأعجبتني، فجئت إليه وقلت له: أعطني هذه السمكة، فقال: لا أعطيكها أنا آخذ بثمنها قوتا لعيالي، فضربته وأخذتها منه قهرا ومضيت بها، قال: فبينما أنا ماش بها إذا عضت إبهامي عضة قوية وآلمتني ألما شديدا حتى لم أنم من شدة الوجع وورمت يدي فلما أصبحت أتيت الطبيب وشكوت إليه الألم، فقال: هذه بدوّ آكلة اقطعها وإلا تلفت يدك كلها، قال: فقطت إبهامي ثم ضربت يدي فلم أطق النوم ولا القرار من شدة الألم فقيل لي: اقطع كفك فقطعتها وانتشر الألم إلى الساعد فآلمني ألما شديدا ولم أطق النوم ولا القرار وجعلت أستغيث من شدة الألم، فقيل لي: اقطعها من المرفق فانتشر الألم إلى العضد، فقيل لي: اقطع يدك من كتفك وإلا سرى إلى جسدك كله فقطعتها، فقال لي بعض الناس: ما سبب هذا فذكرت له قصة السمكة، فقال لي: لو كنت رجعت من أول ما أصابك الألم إلى صاحب السمكة، فاستحللت منه واسترضيته، لما قطعت يدك فاذهب الآن وابحث عنه واطلب منه الصفح والمغفرة قبل أن يصل الألم إلى بدنك قال: فلم أزل أطلبه في البلد حتى وجدته فوقعت على رجليه أقبلهما وأبكي، وقلت: يا سيدي سألتك بالله إلا ما عفوت عني، فقال لي: ومن أنت؟ فقلت :أنا الذي أخذت منك السمكة غصبا وذكرت له ما جرى وأريته يدي، فبكى حين رآها، ثم قال: قد سامحتك لما قد رأيت من هذا البلاء، فقلت :بالله يا سيدي، هل كنت دعوت علي؟ قال: نعم، قلت: اللهم هذا تقوّى علي بقوته علي وضعفي وأخذ مني ما رزقتني ظلما فأرني فيه قدرتك. أ.هـ.

إذا ما الظلوم استوطأ الأرض مركبا

ولج غلوا في قبيح اكتسابه

فكله إلى صرف الزمان فإنه

سيبدى له ما لم يكن في حسابه

قال بعض السلف: لا تظلمن الضعفاء فتكون من شرار الأقوياء.

فكم قد رأينا ظالما متمرداً

يرى النجم تيها تحت ظل ركابه

فاتق دعوة المظلوم يا ظالم فإنها ليس بينهما وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام ويقول: ((وعزتي وجلالي لأنصرنك، ولو بعد حين)) فكيف ستعيش؟ أو إلى أين تهرب إذا كان الله خصمك وحجيجك؟

أيها الإخوة: لو تأملنا القصص التي وردت في شأن الظالمين لوجدنا في ذلك العظة والعبرة فيما حل بهم، ولكان في ذلك ما يوقف الظالم عند حدّه ويخفف من طمعه، ويخوفه من العلو والفساد في الأرض: وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، ولو أخذ الناس على يد الظالم ونصروا المظلوم لما تجبر الظالم ولما تعرضوا لعقاب الله.

وأخيرا: فاحفظ يا أخي رحمك الله يدك ولسانك وسائر جوارحك عن أذية الناس ولا تبع دينك بعرض من الدنيا قليل واقنع بما قسم الله لك ولا تبغ الفساد في الأرض ولا تكن جبارا سفاكا، فإنما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين بما أعده الله للطائعين والعاصين من النعيم المقيم، أو العذاب الأليم، وإذا قدرت على الظلم فتركته لله، واستطعت أن تجمع المال من الحلال ولم تمدّ عينيك إلى ما نهاك الله عنه كنت مؤمنا حقا، وممتثلا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

أيها الإخوة: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، نعم إن الله يؤخر الظلمة ليوم تشخص فيه الأبصار فليس هو غافلا عنهم بل يحصي ذلك عليهم ويعده عدا ليوم لا ينفع والد ولده ولا ولد أباه ولا ينفع نسب ولا حسب ولا جاه ولا منصب إنما ينفع فيه ما عمله الإنسان من خير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه فهؤلاء الظلمة يؤخرهم ليوم لا ريب فيه يوم عصيب تشخص فيه الأبصار من الهلع والفزع، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة، لا تطرف ولا تتحرك لما ترى من الرعب، والقلوب كذلك فزعة خاوية نادمة، هذا هو اليوم الذي يؤخر إليه الظالمون حيث يقفون هذا الموقف ويعانون هذا الرعب، ولهذا نبه النبي الناس إلى الإقلاع عن الظلم والتحلل من المظلومين في الدنيا فقال: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.

وروى مسلم أيضا عنه قوله: ((أتدرون من المفلس))؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)). وقال أيضا: ((لتؤدّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) رواه مسلم.

وقال أيضا: ((من ظلم شبرا من أرض طوقه الله من سبع أراضين يوم القيامة)).

وعن جابر قال: لما رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله قال: ((ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة))؟ فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله بينما نحن يوما جلوس إذ مرت عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت المرأة على ركبتيها وانكسرت قلتها، فلما قامت التفتت إليه وقالت له: سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون سوف تعلم ما أمري وأمرك عنده غدا قال : ((صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم)).

وكان شريح القاضي يقول: سيعلم الظالمون حق من انتقصوا، إن الظالم لينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصر والثواب.

وفي الصحيحين: أن رسول الله قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله عليه النار وحرّم عليه الجنة قيل: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك)).

فيا راضيا باسم الظالم عليك بالتحلل من المظالم؟ فإن السجن جهنم والله سبحانه هو الحاكم .

فخف القصاص غدا إذا وفيت ما كسبت يداك اليوم بالقسطاس

في موقف ما فيه إلا شاخص أو مهطع أو مقنع للراسِ

أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم نار و حاكمهم شديد الباس

إن تمطل اليوم الحقوق مع الغنى فغدا تؤديها مع الإفلاس

اعلم أيها الظالم أن الله أعد لك نارا ذات سرادق يحيط بالظالمين فلا سبيل إلى الهرب ولا أمل في النجاة والإفلات، ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة أو يكون فيه استرواح وإن يستغيثوا يغاثوا بزيت مغلي أو بماء كالصديد الساخن يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه ولا تكاد تسيغه، فماذا أعددت لذلك اليوم؟

ولذا فإني أحذر من على هذا المنبر كل ظالم أن يتحلل ممن ظلمه اليوم قبل يوم القيامة فإن في الحياة فسحة للتوبة والندم والرجوع إلى الله والعمل الصالح وفي الممات ضيق وحسرة على التفريط والإضاعة وندم على التسويف في التوبة في دار المهلة، فهل من تائب؟ وهل من نادم؟ أرجو أن يكون ذلك، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.

(1/492)

________________________________________

فضائل القرآن

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

7/8/1416

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تكفل الله بحفظ القرآن الكريم. 2- كتابة القرآن في عهد الصديق. 3-جمعه في عهد عثمان. 4- فضل تلاوة القرآن في الآخرة. 5- فضل تعلم القرآن الكريم. 6- رفعة منازل أهل القرآن في الدنيا والآخرة. 7- آداب تلاوة القرآن الكريم. 8- تعاهد القرآن وعدم نسيانه. 9- قيام الليل بالقرآن.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الإخوة: لقد تكلمت في الأسبوع الماضي عن وجوب التمسك بكتاب الله وعدم هجره والآثار المترتبة على ذلك، وأما اليوم فسوف أتحدث عن فضل تعلم كتاب الله وفضل مدارسته وحفظه وما يندرج تحت هذه الفضائل من المهمات المتعلقة بذلك خاصة ونحن لا نزال في شهر القرآن شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فأقول وبالله التوفيق:

مما ينبغي أن يعلم أن الله جل وعلا قد تكفل بحفظ كتابه فقال عز وجل: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف، والدليل على ذلك ما نراه اليوم تحريف جميع الكتب السماوية إلا القرآن ونحن ننظر اليوم من وراء القرون إلى وعيد الله الحق بحفظ هذا الذكر فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب رغم الظروف والملابسات والفتن والمنازعات التي مرت بها هذه الأمة ولقد كان هذا الوعد بحفظه على عهد رسول الله مجرد وعد وأما هو اليوم من وراء كل تلك الأحداث الضخام ومن وراء كل تلك القرون الطوال فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب والتي تدل على صدق وعد الله لنبيه .

ولهذا لما استحرّ القتل في صحابة رسول الله في اليمامة، حث عمر أبا بكر الصديق لكتابة القرآن وجمعه من صدور الرجال فجمعه زيد في مصحف واحد وبقي هذا المصحف عند أبي بكر ولما توفي بقي عند عمر ولما قتل عمر بقي عند حفصة ولما كثر المسلمون واختلطت بهم الأجناس بدأ الناس يختلفون في القرآن فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان وأمره أن يتدارك أمر هذه الأمة من الاختلاف قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف لنسخه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وعددها سبعة مصاحف وبعث إلى كل جهة من بلاد المسلمين بنسخة وبقي لديه مصحف واحد، مع العلم بأن المصحف الذي لدينا الآن هو ذاك الذي كتب في عهد عثمان وهو بترتيبه هذا كما هو في اللوح المحفوظ، وكان هذا الإتفاق من الصحابة وكتابة كتاب الله عز وجل سببا لبقاء القرآن وتحقيقا لوعيد الله سبحانه في حفظه.

أيها المسلمون: تمسكوا بكتاب ربكم وحافظوا على تلاوته فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ويبلغكم به رفيع الدرجات فقد صح عنه أنه قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) رواه أبو داود وهو حديث صحيح قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة، فيقال للقارئ ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن فمن استوفى قراءة جميع القرآن حصل على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جزءا كان رقيه في الدرج على قدر ذلك فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة، والمقصود أن الله يوصل العبد إلى منازل النعيم والعز بقدر قراءته لكلامه سبحانه، وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله يقول: ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما)) رواه مسلم.

وأما ما ورد في فضل تعلمه ما رواه البخاري عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله : ((خيركم من تعلم القرآن وعلّمه)) وقد عمل راوي هذا الحديث، عن عثمان وهو عبد الرحمن السلمي فقال: هذا الحديث أجلسني مجلسي هذا وكان يعلم الناس كتاب الله من عهد عثمان إلى إمرة الحجاج، وروى مسلم وابن حبان في صحيحيهما من حديث عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله قال: ((أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق، فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين زهراوين يأخذهما في غير إثم ولا قطيعة رحم))؟ قالوا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك، فقال رسول الله: ((فلأن يغدوا أحدكم إلى المسجد، فيتعلم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين وثلاث من ثلاث خير وأربع خير من عدادهن من الإبل))، فتعلم كتاب الله خير للمرء من حطام الدنيا الفاني لأن هذا الذي يبقى للإنسان في آخرته وأما ما أتعب فيه نفسه من السعي وراء الكمال المزيف فهذا لا يفيده بل سيندم عليه ولات ساعة مندم ولهذا من تمسك بكتاب الله نجا من الانحراف سواء في السلوك أو في العقيدة أو في العبادة، فقد ورد عن النبي أنه قال لأصحابه يوما: ((أبشروا وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟)) قالوا: نعم، قال: ((فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا)) رواه ابن حبان وهو حديث حسن.

وثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: دخلنا على يزيد بن إبان فقلنا له: لقد رأيت خيرا، صحبت رسول الله وصليت خلفه؟ فقال: نعم، وإنه خطبنا يوما، فقال: ((إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة )).

نعم أيها الإخوة إن ما نراه اليوم من انحراف الناس عن دين الله والتخبط يمينا وشمالا وراء كل ناعق وما ابتلوا به من فساد التصور وانحراف السلوك والتخبط في العقيدة كان سببه هو البعد عن كتاب الله عز وجل تعلما وعملا به.

ولهذا من جعل القرآن إمامه وعمل به قاده إلى الجنة ومن جعله وراء ظهره بترك العمل به ساقه إلى النار فعن جابر ، عن النبي قال: ((القرآن شافع مشفع وما حل مصدق، من جعله إمامه، قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار))، رواه ابن حبان وهو حديث صحيح، بل إن الله عز وجل يرفع حفظة كتابه في الدنيا قبل الآخرة برفع قدرهم وذكرهم بين الناس ولو كانوا من أقل الناس نسبا وبيتا فعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث خرج يستقبل عمر بن الخطاب فلقيه بعسفان فقال له عمر: من استخلفت على أهل مكة، قال: استخلفت عليهم ابن أبزى قال عمر: ومن ابن أبزي؟ قال: مولى من موالينا، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى، فقال: يا أمير المؤمنين رجل قارئ للقرآن، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: ((إن الله يرفع بالقرآن أقواما ويضع آخرين)) رواه مسلم. وهذا والله مشاهد وملموس قد جبل عليه الناس ونشؤوا عليه وهو أن صاحب القرآن مرفوع القدر لديهم وقد قيل:

العلم يرفع بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف

ولهذا كان التنافس في حفظ هذا القرآن من أفضل أنواع القربات وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومن أجل ذلك يغبط الإنسان ويحسد من سبقه إلى حفظ كتاب الله وقد بين ذلك في قوله: ((لا حسد إلا في اثنتين)) وذكر منها ما نحن بصدده ((رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) والحسد المقصود في الحديث هو الغبطة وهي: أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود وإن كان في المعصية فهو مذموم.

وقد بين الفرق بين المؤمن الذي يقرأ القرآن ويتعاهده ويكثر من تلاوته وبين المؤمن الذي لا يقرأ القرآن ولا يكثر من قراءته فقال : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب، وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو)) متفق عليه، والأترجة هي الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والرائحة فأفاد أن قارئ القرآن رائحته زكيه، ومنافعه جليلة وقربه رحمة، ومصاحبته طاعة ومودته رضوان وكلامه مثمر فهو كحامل المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، وهذا والله هو سمت أهل القرآن لا تمل مجالستهم بل تذكر بالله رؤيتهم وهم أهل الله كما ورد بذلك الحديث قال : ((إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))، فمن منا معشر المسلمين لا يتمنى أن يكون كذلك، بالطبع كلنا لهذا يجب علينا أن نحرص على كثرة قراءة القرآن وتدبره والعمل بما فيه، ولا يقل قائل إن قراءة القرآن تصعب علي وتشق علي، ويجعل هذا سبب في عدم قراءته بل ينبغي أن يجاهد نفسه ويصابر نفسه في قراءة كتاب الله وقد ورد في الحديث المتفق عليه أجر من جاهد نفسه على قراءة القرآن مع مشقته عليه فقال : ((الماهر بالقران من السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق فله أجران)) وفي رواية: ((والذي يقرؤه، وهو يشتد عليه له أجران)).

وينبغي لمن يقرأ كلام الله أن يحسن صوته به وأن يتغنى به والمراد من ذلك أن تكون قراءته حسب قواعد التجويد لا تخرج عن الإطار لا تمطيط ولا تغني كغناء المطربين ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله: أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم. ويستحب مع تحسين الصوت تحزينه أي القراءة بحزن لأنه أوقع في النفوس وأنجع في القلوب القاسية، قال : ((إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله)) رواه ابن ماجه، وهو حديث صحيح. وهذا الهدي هو هدي نبينا فقد كان يقرأ القرآن ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء أي يجيش جوفه ويغلي بالبكاء بل كان يبكي حتى من استماع القرآن فعن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي : ((اقرأ علي))، قلت: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، قال: ((حسبك الآن)) فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان . قال النووي رحمه الله: البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعائر الصالحين وقال الغزالي: يستحب البكاء مع قراءة القرآن وعندها وطريق تحصيله أن يحضر قلبه الحزن والخوف يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والوثائق والعهود ثم ينظر في تقصيره، فإن لم يحضره حزن فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب. وعلى كلٍّ فالبكاء من قراءة القرآن كان من هدي الصحابة رضي الله عنهم أيضا فهذه عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما تقول عن أبيها أبي بكر : (إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام إلى الصلاة يبكي) وهذا عمر قرأ في الفجر بسورة يوسف فلما وصل إلى قوله تعالى: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله بكى حتى سمع نشيجه من آخر المسجد وغير ذلك من القصص التي يطول المقام بذكرها.

فمن أكرمه الله بحفظ كتابه أو بعض منه فينبغي له أن يتعاهده ويراجعه دائما فقد ورد في الصحيحين عن أبي موسى ، عن النبي قال: ((تعاهدوا القرآن (أي حافظوا على قراءته، وواظبوا على تلاوته) فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها)) وفي رواية: ((بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل نُسّي، واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم)).

فنسيان القرآن من الذنوب ولهذا قال في الحديث: واستذكروا أي راجعوا حفظكم حتى لا تنسوه قال الضحاك بن مزاحم :ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه وذلك أن الله تعالى يقول: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ونسيان القرآن من أعظم المصائب، قال أبو عبيد: وأما الذي هو حريص على حفظه، دائب في تلاوته إلا أن النسيان يغلبه، فليس من ذلك في شيء بدليل ما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله رجلا يقرأ القرآن بالليل، فقال: ((يرحمه الله فقد أذكرني آية كذا وكذا كنت أنسيتها)).

وأخيرا أيها الإخوة: وبعد الذي سمعنا فهل نبدأ ونقرأ كتاب الله وننعم بما فيه، أم نصرّ ونعاند ونبتعد عن الخير بعد أن عرفنا طريقه والأجر المترتب عليه؟.

إن من الأسباب على عدم تغيير الناس من الانحراف الذي هم فيه عن طريق الحق إلى الطريق المستقيم أن كل واحد منا لا يريد أن يشعر نفسه أنه هو المخاطب بالموعظة أو الخطبة أو النصيحة أو غير ذلك من وسائل التوجيه، بل إن الكثير من الناس يظن غيره هو المخاطب ولهذا لا نجد تغيرا في المجتمع بل إن الناس يسيرون من السيئ إلى الأسوأ نتيجة هذا الفهم السقيم، سبحان الله وإن لم تكن أنت المعني أو المخاطب يجب أن تقبل النصح وتعتبر هذه النصيحة موجهة إليك أنت فمن منا قد أوتي الكمال، بالطبع لا أحد، فلهذا ينبغي لكل واحد منا أن يصلح نفسه وأن يبحث عن الحق من أي طريق كان لأن الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أولى بها.

ومن هذا المنطلق ينبغي لكل شخص أن يختم القرآن في كل شهر مرة وإن كان فيه جلد وقوة يقرأه في عشرين يوما فإن كان يطيق في أقل من ذلك يقرؤوه في عشرة أيام فإن كان يجد استطاعة وتحملا يقرؤه في أسبوع وأقل حد هو ثلاث ولا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث كما ورد بذلك الحديث، وذلك سهل ويسير على من سهله الله عليه وفي استطاعة الواحد منا أن يقرأ جزءا في كل يوم ويكون ذلك قبل كل صلاة فريضة يقرأ أربع صفحات في خمس صلوات تصبح عشرين صفحة وهي تعدل جزءا كاملا وفي شهر يكون قد ختم ختمة واحدة وهذا والله من أعظم الغنيمة والكسب، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، فكيف بمن يقرأ القرآن كم له من الحسنات؟.

قال خباب بن الأرت : (تقرّب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه) وقال الحسن: فضل القرآن على الكلام، كفضل الله على عباده، وقال البوشنجي: من حمل القرآن أي من حفظه وقرأه لم تمسّه النار يوم القيامة، وقال أبو أمامة: (احفظوا القرآن فإن الله لا يعذب بالنار قلبا وعى القرآن).

أخي المسلم إنك ولابد ميت وإن طالت بك الحياة ولا دوام إلا لله الواحد الماجد القبر أول منزل من منازل الآخرة وهو كما تعلم ضيق وموحش ومظلم ويوم القيامة شره مستطير، والقرآن نعم المؤنس في القبر ونعم الشافع والمشفع يوم الحشر والنشر أنزله الله مع أمين السماء على أمين الأرض محمد ليدل الناس على سبيل رشدهم ويبلغهم رسالة ربهم ويعلمهم القصد من خلقهم وإيجادهم ويبشرهم برحمة الله وثوابه وينذرهم بطشه وعقابه، فاستمسك يا أخي المسلم بهذا القرآن واعضض عليه بنواجذك واجعله يمتزج بلحمك ودمك علما وقراءة وعملا واعتقادا، فهو القاعدة الكبرى لدين الإسلام والوسيلة العظمى لمعرفة شرائعه والدعوة إليه والمعجزة الكبرى التي دعابها وإليها ، فها هو ذا بين يديك يا أخي غضا، سليما، محفوظا فطيب بقراءته وحفظه نفسك ورطب بكلمه لسانك ونوّر بتدبره قلبك وأصلح بالعمل به أمرك واشرح بنور حكمته صدرك فهو لك في الدنيا صراط ومنهج ولك في الآخرة شفيع ومكرم ومنجي وبشر وكرامة وعلو منزلة في الجنة.

فاتقوا الله عباد الله وتمسكوا بكتاب ربكم وساهموا في تعليمه ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسعون

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

أيها المسلمون: واعلموا أن هناك آدابا ينبغي أن يتحلى بها حامل القرآن فمنها، أن يقصد به وجه الله وأن لا يقصد بقراءته توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا من مال أو رياسة أو وجاهة أو ارتفاع على أقرانه أو تناد عند الناس أو صرف وجوه الناس إليه أو نحو ذلك.

وينبغي أن يحافظ على قراءته ليلا ونهارا وحضرا وسفرا، قال ابن مسعود: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه، إذا الناس يختالون، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن.

وينبغي لمن أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره أو بالفرشاة ومعجون الأسنان وغير ذلك.

ويستحب أن يقرأ على طهارة فإن قرأ محدثا جاز بإجماع المسلمين.

ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ولهذا استحب جماعه من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعا للنظافة وشرف البقعة، وإن قرأ في بيته فهو حسن لأن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.

ويستحب للقارئ في غير الصلاة، أن يستقبل القبلة ويجلس متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، فهذا هو الأكمل ولو قرأ قائما أو مضطجعا أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر، فإذا أراد الشروع في القراءة استعاذ وقال: أعوذ بالله في الصلاة أو في غيرها وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة سوى سورة براءة، فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر والدلائل عليه أكثر من أن تحصد وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها والأحاديث فيه كثيرة وأقوال السلف فيه مشهورة، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها حتى الصباح وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة ومات جمع منهم حال القراءة، فهذا زرارة بن أوفى التابعي الجليل أم الناس في صلاة الفجر فلما بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتا وهذا علي بن الفضيل بن عياض صلى الفجر خلف أبيه فلما وصل إلى قوله تعالى من سورة الأنعام: ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين خر ميتا والقصص في ذلك كثيرة، ويستحب أيضا ترديد الآية للتدبر فهذا رسول الله قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح قوله تعالى: إن تعذبهم فإنهم عبادك رواه النسائي ويستحب أن يبكي فإن لم يبك فليتباكى كما بينا ذلك قبل قليل قال تعالى: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا . وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل للتدبر ولغيره ولهذا نعتت أم سلمة قراءة النبي فقالت: كانت قراءته مفسّرة حرفا حرفا وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله).

ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشرور والعذاب وإذا مر بآية تسبيح سبح وهكذا فقد ورد عن النبي ذلك، ومما ينبغي أن يعتني به ويتأكد الأمر به احترام القرآن من أمور قد يتساهل فيها بعض الغافلين القارئين مجتمعين، فمن ذلك اجتناب الضحك واللغط والحديث خلال القراءة إلا كلاما يضطر إليه وليمتثل قوله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون .

وأما أفضل الأوقات المختارة للقراءة فهي ما كان في الصلاة وأما القراءة في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل والنصف الأخير منه أفضل من الأول والقراءة بين المغرب والعشاء مستحبة ومما ورد في فضل قراءته في الليل قوله : ((من قرأ عشر آيات في ليله لم يكتب من الغافلين))، وفي رواية: ((من قرأ في ليلة مائة آية كتب له قنوت ليله)) أو ((كتب من القانتين)) وكلا الحديثين صحيح.

وروى الطبراني في الكبير والأوسط بسند حسن أن النبي قال: ((من قرأ عشر آيات في ليلة كتب له قنطار من الأجر والقنطار خير من الدنيا ومن فيها، فإذا كان يوم القيامة يقول ربك عز وجل أقرأ وارق بكل آية درجة، حتى ينتهي إلى آخر آية معه يقول الله عز وجل للعبد :اقبض فيقول العبد بيده: يا رب أنت أعلم، يقول: بهذه - أي اليمين- الخلد، وبهذه – أي الشمال - النعيم)) وأفضل ما يقرأ في صلاة الليل فقد ورد في الحديث الحسن أن رسول الله قال: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه.

وأما قراءة النهار فأفضلها ما بعد صلاة الصبح ولا كراهة في القراءة في أي وقت من الأوقات هذا ما تيسر لي جمعه من فضائل تعلم كتاب الله وآداب قارئه وتركت بعضا من الآداب خشية الإطالة وفيما ذكرت لكم قد أتيت بمجمله والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

(1/493)

________________________________________

فضائل النبي صلى الله عليه وسلم

-----------------------

الإيمان, سيرة وتاريخ

الإيمان بالرسل, الشمائل

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- لكل حب بواعثه ، وفضائل النبي تبعث لمحبته. 2- مظاهر الاصطفاء للنبي من بعض الأحداث التي وقعت قبل إرساله. 3- عصمة الرسول. 4- ختمه للنبوة ، وسيادته للعالمين. 5- أمر الله بتعظيمه وتوقيره. 6- للرسول خصائص في الآخرة (الوسيلة – الكوثر – الشفاعة) 7- رفعة أخلاق النبي. 8- المحبة تستلزم الاتباع والتأسي. 9- بعض صور مخالفتنا لهديه . 10- علامات محبة النبي. 11- حول زيارة قبره .

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد:

أيها الأحبة سوف أتكلم في هذه الجمعة عن بعض فضائل النبي التي تستوجب محبته واتباعه في كل ما أمر واجتناب كل ما نهى عنه وزجر ولأن الحب يرتبط في قلب الإنسان بدوافع وبواعث تبعث عليه مهمتها أن تحرك القلب وتدفعه نحو محبوباته، وتتعدد هذه الدوافع وتتنوع بحسب تنوع المحبوبات واختلافها، فمن الحب ما تدفع إليه البواعث الحسية أو العقلية أو القلبية وذلك لوجود صفات قامت بالمحبوب والوصف بها من كمال أو جمال أو إحسان أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الجالبة للحب وإذا نظرنا إلى محبة الرسول فسنجد أن البواعث عليها متنوعة ومتعددة، وذلك لكثرة ما خصّه الله به من أنواع الفضائل وصفات الكمال وما أجراه الله على يديه من الخيرات لأمته إلى غير ذلك من الدواعي التي ترجع إلى مجموع خصائص النبي وصفاته.

وقد ظهرت آثار اصطفاء الله لنبيه في جوانب كثيرة منها:

طهارة نسبه فلم ينل نسبه الطاهر شيء من سفاح الجاهلية فكان من سلالة آباء كرام ليس فيهم ما يشينهم أو يعيبهم بل كانوا سادات قومهم في النسب والشرف والمكانة وفي مسلم قال : ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)).

ومنها: تعهّد الله له برعايته وحفظه من الصغر فقد أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وشق عن قلبه وأخرجه وغسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم واستخرج منه علقة، وقال له: هذا حظ الشيطان منك. رواه مسلم.

ومنها عصمته : عصمته من تسلط أعدائه عليه بالقتل أو منعه من تبليغ رسالة ربه قال تعالى: والله يعصمك من الناس .

وعصمته مما يقدح في رسالته ونبوته قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ومنها أن الله كمّل له المحاسن خُلقا وخَلقا، فكان أكمل الناس خلقا من حيث جمال صورته وتناسب أعضائه وطيب ريحه وعرقه ونظافة جسمه واكتمال قواه البدنية والعقلية كما كان أكمل الناس خلقا إذا جمع محاسن الأخلاق وكريم الشمائل وجميل السجايا والطباع قال تعالى وإنك لعلى خلق عظيم ، ومنها تشريفه بنزول الوحي عليه قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .

ومنها كونه خاتم النبيين قال تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين .

ومن أدلة فضله وشرفه أنه ساد الكل كما في حديث عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله : ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه)) رواه البخاري ومسلم.

ولما كان ذكر مناقب النفس إنما تذكر افتخارا في الغالب أراد أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أنه يذكر ذلك افتخارا فقال: ((ولا فخر)).

ومنها أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك بل الظاهر أنه لم يخبرهم لأن كل واحد منهم إذا طلبت منه الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) فإذا أتوا النبي قال: ((أنا لها أنا لها)) كما في حديث الشفاعة الطويل.

فهو أول من يشفع في الخلائق يوم القيامة وهذه الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود الذي اختص به نبينا قال تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .

ومن فضله وشرفه أن معجزة كل نبي تصرّمت وانقضت ومعجزته وهي القرآن المبين باقية إلى يوم الدين.

ومنها أن الله تعالى وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه فقال: يا أيها النبي ، وقال: يا أيها الرسول فنادى الله عز وجل الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وقال: يا نوح اهبط بسلام منا وقال: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وقال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وما خاطب الله عز وجل نبينا إلا بقوله: يا أيها النبي أو بقوله: يا أيها الرسول .

ولا يخفى على أحد أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العَلَم.

ومن فضله وشرفه أن الله عز وجل أمر الأمة بتوقيره واحترامه، فأخبر عز وجل أن الأمم السابقة كانت تخاطب رسلهم بأسمائهم الأعلام كقولهم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهه وقولهم: يا هود ما جئتنا ببينة ، وقولهم: يا صالح آتنا بما تعدنا ونهى الله عز وجل أمة النبي محمد أن ينادوه باسمه فقال عز وجل: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، وعن ابن عباس في هذه الآية قال: (كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله عن ذلك إعظاما لنبيه قال: فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله).

ونهى الله عز وجل أمته أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته إعظاما له فقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون يقول ابن القيم في هذه الآية: (فحذر الله المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها) فما الظن بمن قدّم على قول الرسول وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟

أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟

ومن شرفه أنه بعث إلى الناس كافة وإلى الثقلين من الإنس والجن.

ومنها أنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة لا تنبغي لعبد من عباد الله وهي له .

ومنها نهر الكوثر الذي أعطاه الله إياه وهو ونهر في الجنة ويصب في الحوض الذي في الموقف يوم القيامة، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أنس قال: بينما رسول الله بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر .

ثم قال: ((أتدرون ما الكوثر))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).

ومن فضله أنه أحلت له الغنائم ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((أعطيتُ خمسا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) رواه البخاري ومسلم. ومن فضله أن الله عز وجل وهبه سبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وجوههم مثل القمر ليلة البدر، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وليس هذا لأحد غيره .

وهذه المآثر والفضائل التي وهبها الله لنبيه محمد كثيرة جدا نقتصر على ما ذكرنا خشية الإطالة.

ومع هذا لو لم يكن له من نعمة الله وفضله عليه إلا أخلاقه العظيمة لكفته فخرا لأن المطالع في سيرته ومواقفه المتعددة يجد أن رسول الله قد حاز من كل خلق أرفعه وتسنّم ذرى الأخلاق حتى سما بها فكان كما وصفه الله بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم .

وكما قال حسان في مدحه :

وأحسن منك لم ترقطّ عيني وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

وما عسى أن يقول المادحون في وصف من مدحه الله وأثنى عليه بمدائح؟ وهو سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، فمهما كتب الكاتبون ونظم الشعراء المادحون فلن يستطيعوا أن يجمعوا كل صفاته وفضائله، فصلوات الله عليه في الأولين والآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

فقد كان أكرم الناس خلقا، وأوسعهم صدرا وأصدقهم لهجة وأكرمهم عشيرة، وأوفاهم عهدا، وأوصلهم للرحم، قريبا من كل بر، بعيدا من كل إثم، لا يقول إلا حقا ولا يعد إلا صدقا، جواد بماله، فما قال لأحد: لا. قط، إلا في تشهده وما جرى لفظه على نعم، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، شجاعا يتقي به أصحابه عند شدة البأس، صابرا محتسبا في جنب الله كل مكروه وأذى، يسبق حلمه غضبه ويعفو عند المقدرة، رحيم القلب، طيب النفس، آتاه الله الكمال في الخلق والخُلق، والقول و العمل، وجمّله بالسكينة والوقار وكساه حسن القبول، فاستمال القلوب وملك زمامها، فانقادت النفوس لموافقته، وثبتت القلوب على محبته وفدته النفوس بكل عزيز وغال.

فهذا هو رسول الله فيجب على كل من عرف صفات نبيه أن يحاول أن يتأسى به وأن يحبه أكثر من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، لهذا كان المؤمنون المستقيمون على الصراط المستقيم على الجادة والطريق الوسط عرفوا منزلته وقدره وجعلوا محبته قرة عيونهم وشغاف قلوبهم واتباع سنته شعارهم ووقروه وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أثبتوا له كل ما خص به ربه من كريم الشمائل وجليل الخصال وما فضله به على النبيين وسائر البشر أجمعين، لكنهم لم يغلوا فيه قيد شعرة ولم يجاوزوا به قدره فهو عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وسيد ولد آدم الذي كان أعظم ما دعا إليه هو توحيد الله وتعريف الناس برب العالمين. وما يجب له سبحانه على عباده من حقوق وما وعدهم به في الآخرة فلم يستغيثوا به عند الشدائد فصلوات الله وسلامه عليه وجزاه عنا خير ما يجزي به نبيا عن أمته.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:

أيها الأحبة: إن الكثير من الناس في هذه الأيام يدعون محبة الرسول ولكن هذا الإدعاء لا حقيقة له فترى الكثير ممن يزعمون محبته أول المفرطين في الصلاة التي هي عماد الدين فتجدهم لا يحافظون على الصلوات في المسجد جماعة بل إن بعضهم لا يصلي إلا في المناسبات أو في الجمع والأعياد والبعض الآخر لا يصلي مطلقا بل ولا يعرف طريق المسجد.

فهل هذا من المحبة؟ وآخرين تجدهم منحرفي السلوك إلى درجة كبيرة فالشكل الخارجي لهم يدل على أن منهم من تأبّط فسقا وفجورا فتجدهم في لباسهم ومشيتهم يتشبهون بالنساء أو بالمخنثين من الرجال يتسكعون في الشوارع والطرقات كالأنعام بل هم أضل والبعض منهم يحلق لحيته يتشبه بالمجوس والنصارى واليهود فقد قال: ((حفوا الشوارب وأوفوا اللحى وخالفوا المجوس واليهود)).

من المعلوم أنه قد ملأت لحيته وجهه الشريف ولم يثبت عنه أنه أخذ منها شيء البتة. ومنهم من يسبل ثوبه وبنطلونه إلى ما تحت الكعبين وقد ورد في إسبال الإزار من الوعيد الشديد فقال : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) حديث صحيح.

والإسبال يا أحبتي من الكبر ومن خصال المتكبرين فقد قال : ((وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة)).

وبعضهم يجاهر بشرب الدخان لا يستحي من أحد يؤذي كل من جالسه أو قاربه أو صلى بجواره والدخان خبيث نص العلماء على تحريمه فهل هذا من المحبة أم الإدعاء؟ وبعضهم يبغض المتدينين من الشباب الصالحين ويتندر بهم في المجالس ويستهزئ بهم وقد ترك معاداة الكافرين من العلمانيين والنصارى واليهود وسخر جهده في معاداة الصالحين وهو مع ذلك يدعى محبة رسول الله .

وبعضهم يقيم الموالد ويحييها ظنا منه أنه يفعل قربة وعملا صالحا وأن هذا من محبة الرسول كلا والله ليس هذا العمل من محبته بل هو بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

وبعضهم يأخذ من الدين شيء ويترك شيئا آخر ظنا منه أنه بالخيار يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويفعل ما يشاء ويذر ما يشاء وقد ذم الله من يفعل ذلك فقال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعلمون .

إلى غير ذلك من التناقض والإدعاء الكاذب في المحبة الصادقة فإن كنت صادقا فيما زعمته فإن المحب مطيع لمن أحبه.

فالحب أيها الإخوة وإن كان من أعمال القلوب إلا أنه لا بد وأن تظهر آثاره على الجوارح قولا وفعلا ولما كان الحب أمرا يمكن أن يستتر وراء المزاعم ويقع في الاشتباه كان لابد من التمييز بين الصادق فيه وبين الدعي الكاذب وبين من سلك في حبه لرسوله مسلكا صحيحا وبين من انحرف حبه عن الصواب، وقد جرت العادة أن الدعاوى لا تقبل إلا ببينات، فالبينة على من ادعى ولو يعطى الناس بدعواهم لاختل ميزان الحق والعدل.

فمن علامات محبة رسول الله :

أولا: طاعته واتباعه: فالاتباع هو دليل المحبة الأول وشاهدها الأمثل وهو شرط صحة هذه المحبة وإذا كان الله قد جعل اتباع نبيه دليلا على حبه هو سبحانه فهو من باب أولى دليل على حب النبي ، قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله).

الثاني: تعظيم النبي وتوقيره والأدب معه، وتعظيم النبي يكون بالقلب واللسان والجوارح.

فالتعظيم بالقلب هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولا اصطفاه الله برسالته وخصه بنبوته وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضّله على سائر الخلق أجمعين كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والناس أجمعين.

وأما التعظيم باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه أو أثنى عليه ربه من غير غلو ولا تقصير وأن يصلي عليه حين يذكر.

وأما التعظيم بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجريد متابعته وموافقته في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه والسعي في إظهار دينه ونصرة شريعته والذب عنه وصون حرمته.

الثالث: كثرة تذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه وسؤال الله اللحاق به على الإيمان وأن يجمع بينه وبين حبيبه في مستقر رحمته وقد أخبر بأنه سيوجد في هذه الأمة من يودّ رؤيته بكل ما يملكون فأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)).

فهذا بلال عندما احتضر قالت امرأته: واحزناه فقال: (بل وافرحتاه غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه) فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إليه .

رابعا: ومن مظاهر محبته: محبة سنته والداعين إليها والمتمسكين بها وأهل العلم الذين لهم في هذا الدين قدم صدق وسبق وهم الدعاة العاملون الذين يجوبون البلاد طولا وعرضا يدعون إلى الله على بصيرة.

خامسا: محبة قرابته وآل بيته وأزواجه وأصحابه.

ويتمثل هذا في توقيرهم ومعرفة فضلهم وحفظ حرمتهم ومكانتهم وبغض من أبغضهم أو آذاهم، وحبهم ومعرفة قدرهم والثناء عليهم بما هم أهله.

هذه علامات محبته أسأل الله عز وجل أن يجعلنا صادقين في ذلك، وأحب أن أنبه إلى أنه يكثر الذاهبون إلى المدينة المنورة حرسها الله في هذه الأيام فأقول لهؤلاء: يجب أن تصححوا النية أولا وذلك بأن ينووا زيارة المسجد النبوي لا القبر استناداً لقوله : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)).

فإذا وصلتم إلى المدينة النبوية وأتيتم المسجد النبوي وأردتم الدخول فيقال عند الدخول: دعاء دخول المسجد (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشطيان الرجيم اللهم افتح لي أبواب رحمتك) ثم تصلي ركعتين تحية المسجد ثم تتجه نحو القبر فتسلم على رسول الله قائلا: (السلام عليك يا رسول الله) ثم تتجه نحو اليمين قليلا موازيا لقبر أبي بكر فتقول: السلام عليك يا أبا بكر ثم تتجه قليلا نحو اليمين فتقول: السلام عليك يا عمر ولا تقف تدعو متجها إلى القبر ثم تخرج الزيارة بهذه الكيفية مستحبة لمن قدم إلى المدينة قاصدا مسجد رسول الله ، أو لمن كان يريد السفر من أهل المدينة وهذا الاستحباب مأخوذ من الأحاديث العامة الواردة في فضل زيارة القبور ولم يثبت بخصوص زيارة قبره حديث صحيح يحتج به عند أهل العلم وأما حديث: ((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) فهو حديث موضوع لا يحتج به وحديث: ((من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي)) وهذا حديث منكر ساقط الإسناد وحديث: ((من حج البيت فلم يزرني فقد جفاني)) هذا حديث موضوع، وهناك بعض الناس يقف أمام القبر الشريف كهيئة المصلي.

(1/494)

________________________________________

ليلة القدر والعشر الأواخر

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

20/9/1416

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- خصوصية الليالي العشر. 2- اجتهاد رسول الله بالعبادة في هذا العشر. 3- غفلة البعض تزيد في هذا العشر. 4- فضل ليلة القدر والترغيب في تحريها وقيامها.

-------------------------

الخطبة الأولى

ثم أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعملوا بطاعته فقد بدأ وقت الجد والتشمير للعمل الصالح فقد دخل علينا العُشر الأخير من رمضان وكما تعلمون في فضائل هذه العشر أنها خصت من بين سائر الشهر بخصائص عظيمة، فكما فضل الله شهر رمضان على الشهور فقد جعل العشر الأخير منه أفضل لياليه وأيامها كمثل أيامه وخصها بخصائص، من بقية أيام وليالي الشهر فمن هذه الخصائص: أن النبي كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، كما روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)).

ومن ذلك أنه كان يحي الليل فيها، وكان اجتهاده وإحياؤه لليالي العشر شاملا لجميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة قرآن وذكر وصدقة واعتكاف، وكما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره، أي اعتزل نساءه، وأحيا ليله وأيقظ أهله، وكان يوقظ أهله في هذه الليالي للصلاة والذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة بما هي جديرة به من العبادة، لا كما يفعله الناس اليوم من السهر على المسلسلات والأفلام والأغاني أو بالسهر في المقاهي على شرب الشيشة ولعب الورق فيحرموا أنفسهم خير هذه الليالي ولا يحرم خيرها إلا كل محروم.

ومن الملاحظ أن كثيرا من الناس كلما اقترب الشهر على الانتهاء يزداد تقصيره وتفريطه مخالفا بذلك سنة نبيه وما علم المسكين أن فضل الشهر في آخره.

فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوّت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله فما هي إلا ليال معدودة، ربما تكون آخر أيام وليالي في الحياة، لعل الإنسان منا أن يدرك فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون السعادة في الدنيا والآخرة.

وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الفادحة أن نرى كثيرا من المسلمين يمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم يسهرون معظم الليالي في اللهو والباطل فإذا جاء وقت القيام ناموا وفوتوا على أنفسهم خيرا كثيراً لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا أبدا، وهذا من تلاعب الشيطان بهم ومكره بهم وصدهم عن سبيل الله وإغوائه لهم.

فانتبهوا يا مسلمون لهذا الأمر:

والغرض من إحياء ليالي العشر الأخير من رمضان هو تحري ليلة القدر ورجاء موافقتها ونحن في طاعة الله عز وجل حتى تغفر لنا الذنوب لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)).

وفي المسند بإسناد صحيح: ((من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))، فمن حرم خير هذه الليلة فهو الشقي المحروم أي وربي! كيف لا؟ وقد عرف هذه الفضائل ثم ضيعها ولم يجتهد فيها ولم يتحراها، وقد ذكر الله في فضلها قوله سبحانه: ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر . وكما ذكرنا في خطبة مضت وكما هو معلوم أن قيامها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، عملها وصيامها وقيامها.

وألف شهر تعدل: ثلاثا وثمانين سنة وثلاثة أشهر: وقد أنزل الله القرآن في هذه الليلة قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وقال أيضا: إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فهذه الليلة مباركة وتتنزل فيها الملائكة والروح، أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.

والروح هو جبريل عليه السلام خصه بالذكر لشرفه.

ووصفها بأنها سلام أي سالمة لا يستطيع أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد، ويكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.

وفي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له، ولكن يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم.

وكما ذكرنا أن الله يغفر لمن قامها إيمانا واحتسابا ما تقدم من ذنبه، وقد أخفى الله علمها على العباد رحمة بهم حتى يكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثوابا وأخفاها ليتبين بذلك من كان جادا في طلبها حريصا عليها من الكسلان المتهاون، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به وكما قيل:

عذابه فيك عذب وبعده منك قرب

حسبي من الحب أني لما تحب أحب

أيها الإخوة: ليلة القدر يفتح فيها الباب ويقرب فيها الأحباب ويسمع فيها الخطاب ويرد الجواب ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر والثواب، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها فهذا أوان الطلب واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب.

اللهم اجعلنا ممن صام الشهر وأدرك ليلة القدر وفاز بالثواب الجزيل والأجر، اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الهاربين عن المنكرات الآمنين في الغرفات مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللهم أعذنا من مضلات الفتن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك.

واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

أيها المسلمون: ومما ينبغي أن يُعلم أن ليلة القدر تكون في أوتار العشر أوكد لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر))، رواه البخاري. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: لكن الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ويكون باعتبار ما بقي كما قال النبي : ((التمسوها في تاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى))، فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يوما يكون ذلك في ليال الأشفاع وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وإن كان الشهر تسعا وعشرين، كان التاريخ الباقي كالتاريخ الماضي.

وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه، كما قال النبي : ((تحروها في العشر الأواخر)) رواه البخاري.

وهي في السبع الأواخر أكثر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي رأووا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي : ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) وفي رواية لمسلم قال : ((التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها هي ليلة سبع وعشرين) رواه مسلم. فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال: بالآية التي أخبرنا رسول الله : ((أخبرنا أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها كأنها طسْت حتى ترتفع)).

فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي من أشهر العلامات في الحديث .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ليلة القدر سمحة، طلقة لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء)) رواه ابن خزيمة والبزار وسنده حسن.

ويستحب مع الصلاة والذكر وقراءة القرآن فيها الإكثار من الدعاء فقد ورد عن السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قلت: ((يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) متفق عليه.

فالعفو من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو ويحب أن يعفو عن عباده.

قال يحي بن معاذ: لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب، أكرم الناس عليه، يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب ليعاملهم بالعفو، فإنه سبحانه يحب العفو.

وفي الحديث: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي))، وكان بعض المتقدمين يقول: جرمي عظيم، وعفوك كبير فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم.

يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر

أكبر الأوزار في جنب عفو الله يصغر

يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء و قد هفا

يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا

حمل الذنوب على الذنـ ـوب الموبقات وأسرفا

وقد استجار بذيل عفوك من عقابك محفا

يا رب فاعف و عافه فلأنت أولى من عفا

أيها المسلمون: لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار وأكثروا من الابتهال والتضرع والدعاء لكان الجواب من الله الغفور الرحيم أشهدكم أني قد غفرت لكم، رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين ثم تعود برد الجواب كما ذكرنا بلا كتاب، والمحبون تطول عليهم الليالي فيعدونها عدا لانتظار ليالي العشر في كل عام حتى يقوموا فيها بما يرضى الرحمن، يا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدام القانتين اركعي لربك، واسجدي، يا ألسنة السائلين جدي في المسألة واجتهدي.

يا رجال الليل جدوا رب داع لا يرد

ما يقوم الليل إلا من له عزم وجد

ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر، فيامن ضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر.

(1/495)

________________________________________

مفهوم الغيرة

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

مكارم الأخلاق

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

1/4/1419

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- خروج النساء وتبرجهن مظهر لضعف الغيرة. 2- الغيرة على النساء في المجتمع الجاهلي (قبل الإسلام). 3- التأكيد على هذه الصفة في المجتمع الإسلامي. 4- تشريعات الإسلام في حفظ أخلاق المجتمع وغيرته. 5- مظهر وصور لضعف الغيرة في مجتمعنا.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

اتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بأوامر الله واجتنبوا نواهيه تفلحوا ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار.

أيها الإخوة: سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مفهوم الغيرة الصحيح في الإسلام، ومما دعاني إلى كتابة هذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من انتكاس هذا المفهوم لدى كثير من الناس اليوم.

فالنساء مثلا أصبحن يملأن الشوارع والأسواق والبقالات بل وفي كل مكان مليء بالرجال نجد مزاحمة النساء لهم وهن متبرجات متهتكات سافرات عن الوجوه قد وضعن على وجوههن جميع أنواع المساحيق والزينة والعجيب في الأمر أنك ترى مع المرأة المتبرجة السافرة أخاها أو أباها أو زوجها وهو يمشي معها ويضاحكها على مرأى من الناس وهو مع ذلك لا يستحي من نفسه ولا يخجل من مشاهدة الناس له بل ولا يغار على زوجته أو ابنته أو أخته وقد خرجت سافرة متبرجة في أبهى زينة قد عصت الله ورسوله، ترمقها أعين الذئاب الجائعة وهو يعرضها بهذه الهيئة المبتذلة الخارجة عن الستر والحياء والعفة وكأنه لم يصنع شيئا بدعوى التقدمية الديوثية.

وإنني والله لأعجب أشد العجب عندما أرى رجلا تقوده زوجته في البقالة تزاحم الرجال لتشتري ما تريد وقد حسرت عن ذراعيها وكشفت عن وجهها أو عينيها وهو معها كأنه مجرد خادم أو دمية لا يحرك ساكنا.

فهل وصل بنا الحال يا أمة الإسلام أننا لا نستطيع شراء شيء من البقالة إلا مع الزوجة، ألا تستطيع أيها الرجل أن تكتب الطلبات في ورقة وتشتريها أنت من البقالة؟ وهل شراء المعلبات من البقالة يحتاج إلى خروج الأسرة كلها لتقضي ما بين العصر والمغرب أو ما بين المغرب والعشاء في البقالة وتزاحم الرجال ويكون الغزل في كثير من الأحيان من بعض هؤلاء النسوة في هذه الأمكنة؟ وأعجب من ذلك خروج المرأة مع السائق الأجنبي وقد كشفت عن وجهها وهي في السيارة وكأنها مع أحد محارمها بل أصبح السائق في كثير من البيوت وكأنه أحد أفراد العائلة وتخرج المرأة معه إلى أي مكان تريد ولي أمرها غائب لا يسأل عنها، ولا يسألها متى خرجت وإلى أين ذهبت؟ لأنه مشغول بتوافه الأمور حتى أصبح الأصل للنساء اليوم هو السوق أو الشارع أو البقالات وليس البيت.

مع أن الله عز وجل جعل الأصل هو البيت حيث قال سبحانه: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .

والسبب في خروج النساء بهذا الشكل هو ضعف الغيرة لدى الناس اليوم إن لم أقل بانعدامها.

وما عجبي أن النساء ترجلت ولكنّ تأنيث الرجال عجاب

أيها الإخوة: لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم وعنوان عرضهم ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها والدفاع عنها زوجة وأما وابنة وأختا، وقريبة وجارة، حتى يظل شرفهم سليما من الدنس وعرضهم بعيدا عن أن يمس، ولم يكن شيء يثير القوم كالإعتداء على نسائهم أو المساس بهن ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهن كل صعب ولا يبخلون بكل غال، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم وكأنهم أرضعوها فعلا مع لبن الأمهات.

على عكس ما نراه اليوم.

وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف كان لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف لأن العدوان على العرض يجر الويلات والحروب وكان لابد من الغيرة على العرض لا يخدش والعفة شرط من شروط السيادة فهي كالشجاعة والكرم.

وكان العرب أغير من غيرهم: لأنهم أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها وقد وصل الحال بهم في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهن.

وكان من نخوة العرب وغيرهم أنه كان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال والرّعاء ثم النساء إذا صدرت كل الفرق المتقدمة حيث يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات ممن يزعجهن فمن تأخر من الرجال عند الماء حتى لقينه النساء فهو عندهم في غاية الذلة والمهانة.

وهذا في الجاهلية، أما اليوم فنجد المرأة هي التي تزاحم الرجال في كل مكان وتتجرأ عليهم وتتقدم عليهم وهي في أبهى زينة وأحسن منظر، فأين نحن من أولئك؟

وكان للغيرة عند القوم مظاهر كثيرة: منها حبهم لعفة النساء عامة ونسائهم خاصة ومنها حبهم لحيائهن وتسترهن ووفائهن ووقارهن.

وكان من مظاهر الغيرة عند العرب ستر النساء ومنعهن من الظهور أمام الرجال يقول الأفوه الأودي:

نقاتل أقواما فنسبي نسائهم ولم يرَ ذو عزٍ لنسوينا حجلا

بمعنى أنه لا يرى أي إنسان خلخال المرأة التي تلبسه في قدميها لشدة تحريهم في عدم إظهار نسائهم.

وأما اليوم فيرى الشعر والوجه واليدان والفستان والقدمان وأحينا إلى منتصف الساق والعباءة على الكتف والصدر رأوا النحر قد بدا منها وأما الحلي فحدث ولا حرج كالأساور والقلائد وما أدري ما السبب في حب إظهار المرأة زينتها أمام الرجال الأجانب؟

وكان العرب مع هذه يفخرون بغض البصر عن الجارات ويعتبرون ذلك من العفة والغيرة على الأعراض وما أجمل قول عروة بين الورد:

وإن جارتي ألوت رياح بيتها تغافلت حتى يستر البيت جاريته

وقول عنترة:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يوارى جارتي مأواها

أين من هؤلاء بعض الشباب اليوم الذين يتسكعون في الأسواق أو يتلصصون حول الحرمات ليس لهم همّ سوى الجري وراء شهوة الجنس وسعار الشهوة؟

أيها المسلمون: هذه هي أخلاق العرب لو بذل في سبيل ذلك:

النفس والمال

أصون عرضي بمالي لا أبدده

لا بارك الله بعد العرض في المال

ولما جاء الإسلام حمد تلك الغيرة وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حميّة ودفاعا عن الأعراض والمؤمن الحق غيور بلا شطط يغار على محارم الله أن تنتهك يغار على أي امرأة أجنبية كانت أم قريبة يغار عليها من كل مجرم أثيم .

وفي الحديث الصحيح أن سعد بن معاذ قال كلاما بين يدي النبي دل على غيرته الشديدة فقال : ((أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني)) رواه البخاري.

وفي الحديث الآخر قال : ((إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله)) رواه البخاري وروى أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)).

وقال أيضا: ((ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش)).

هذه هي الغيرة، غيرة الإسلام على المحارم والأعراض المنبثقة من غيرة رب العباد والمتمثلة في خاتم المرسلين فقد كان أشد الآدميين غيرة لأنه كان يغار لله ولدينه ولهذا كان لا ينتقم لنفسه، وهي ليست خافية على أحد من الناس ولهذا يقول ابن القيم: إن أصل الدين الغيرة ومن لا غيرة له لا دين له ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله والجنة عليه حرام، أ.هـ.

ومن أجل أن يكون المجتمع المسلم نظيفا، أمر الإسلام بعدد من النواهي والأوامر ليحفظ هذا المجتمع طاهرا نقيا وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية ومن علامات هذا النقاء محب الستر ولذلك فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن وعدم إبداء زينتهن يقول تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ، وقال: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، أي ألزمن بيوتكن ولا تخرجن إلا لحاجة ونهى عن تبرج الجاهلية الأولى فكيف بالله بمن خرجت تزاحم الرجال وتعمل مع الرجال وتختلط مع الرجال بلا حياء ولا خجل ولا خوف من الله؟ وحرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير محارمهن كما حرم الخلوة بهن قال : ((إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقاربه وقال : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله امرأتي خرجت حاجة واكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: ارجع فحج مع امرأتك)) الله أكبر.

تطهير وتحصين لهذا المجتمع الفاضل فلا خلوة ولا ريبة، حتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته فلا تسافر وحدها.

هذه روح الشرع الحنيف والمتأولون كل يوم يطلعون علينا بجديد.

ومن لوازم هذه الغيرة: الحياء قال : ((الحياء خير كله)).

وقال أيضا: ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة))، فالحياء يمنع المؤمن والمؤمنة من انتهاك محارم الله.

ومن لوازم الغيرة غض البصر قال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن.. .

يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون فالنظرة تثير والحركة تثير والدعابة تثير والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية. انتهى كلامه.

ولا يستطيع الإنسان أن يكبح جماح هذه الشهوات العارمة إلا إذا كانت الغيرة متأصلة فيه متمسك بركابها عامل بمقتضياتها حسب المنهج الإسلامي السديد فلا مجال للمرأة أن تخرج من بيتها في كل وقت ولا مجال لها أن تتبرج ولا أن تسفر عن وجهها ولا أن تتزين للرجال الأجانب ولا أن تزاحم الرجال وتخالطهم سواء كان ذلك في مجال العمل أو في الحياة اليومية الطارئة، فالحيلولة دون هذه الاستثارة وإبقاء الدافع النظري بين الجنسين سليما هو إحدى وسائر الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف خال من الفتن والشهوات . ومن يعص الله ورسوله ويتعدى حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

أيها الإخوة: عرفنا مما تقدم أن الغيرة خلق عربي أصيل ارتفع به الإسلام آفاقا عالية سامية وقمما شامخة في ظل مجتمع وارف الضلال.

ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين، مع ضعف الوازع الديني وهجمة الغرب الشرسة، حتى بدت المظاهر الإسلامية النظيفة عجيبة في العلاقات الاجتماعية والأخلاقية.

ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف وحتى غيرة أهل الجاهلية، انحدرت وتلاشت في كثير من الأوساط إذ أصبح الاختلاط بين ما يسمى بالأسر التقدمية شائعا حيث الأحاديث المشتركة والموائد المختلطة.

وفي المطارات ما يراه المسلم من مظاهر شائنة لا تحرك غيرة ولا رجولة لقد حاولت بعض الأقلام الهابطة أن تنتزع عن الفتاة المسلمة كل خلق أو تقليد حتى الحياء الذي كانت تتميز به الفتاة المسلمة لتجعلها كالفتاة الغربية في ترجلها وتكسيرها وتغنجها وعريها ولكن باءت محاولتهم بالفشل ولله الحمد.

ونحن نحسب أن هذه الأمة قد استيقظت من رقادها وأنها قد عرفت ما الذي ينفعها هل هو دين الله أم تقليد الغرب الكافر؟

فرجوع الناس إلى دين الله ملحوظ ولله الحمد سواء بين أوساط الرجال أو أوساط النساء وبدأت الغيرة تدب من جديد لدى الجيل المسلم الصاعد المتمسك بدينه المطبق لتعاليمه ليس له هم سوى إرضاء الله لو سخط عليه من سخط ولو غضب عليه من غضب.

وبدأت طلائع هذا الجيل تطوع القيم الإنسانية والأخلاق الإسلامية كما هي في ميزان الله وحين يسود المجتمع المسلم هذه الخلق النبيل فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما بالمعنى الصحيح لا بالمعنى المنكوس الذي يفهمه أتباع الغرب أو بالمعنى الاصطلاحي يكون مجتمعا ربانيا مسلما.

وأخيرا يا أخي المسلم: فإن معايير الأخلاق قد اهتزت في عصرنا الحاضر ولابد أن نوليها الاهتمام الكافي الذي يوجبه علينا ديننا.

والأمل كبير في الأجيال المؤمنة ليتقوّم الانحراف وتزرع الفضيلة وتكون قدوة حسنة وواقعا حيا لما كان عليه سلف هذه الأمة.

وفي الختام أنبه من كان فيه تهاونا من ناحية إخراجه أهله متبرجات وسافرات أن يتقي الله عز وجل وأن يعلم أنه قد ورد وعيد شديد فيمن لا يغار على أهله فقد روى النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه والمرأة المترجلة، والديوث)) وهو حديث صحيح.

والديوث: هو الذي لا يغار على أهله.

فضعف الغيرة من خوارم المروءة لظهور قلة اكتراث المتلبس بها بمروءته لأن حفظ الأنساب مطلوب شرعا وقطع أسباب الفتنة واجب شرعا أيضا ففاقد الغيرة مخالف للشرع والطبع وفي فعله هذا إعانة على الحرام.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم .

(1/496)

________________________________________

موعظة عن النار

-----------------------

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

الجنة والنار, اليوم الآخر

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- فائدة المجالس التي يرهب فيها من الله وعذابه. 2- تعهد رسول الله أصحابه بالموعظة. 3- أوصاف النار وأحوالها وعذابها. 4- أسباب دخول النار.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعداء دينه من العذاب والنكال، وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم، والسلاسل والأغلال إلى غير ذلك مما فيها من العظائم والأهوال.

ولهذا سوف تكون خطبتنا لهذه الجمعة عن ذكر النار وما أعده الله فيها من العذاب الشديد والنكال الوجيع لمن عصاه ولم يلتزم شرعه، ليكون ذلك قامعا للنفوس عن شهواتها وفسادها، وباعثا لها على المسارعة إلى فلاحها ورشادها، فإن النفوس ولا سيما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتواني، واسترسلت في شهواتها وأهوائها وتمنت على الله الأماني، والشهوات لا يذهبها من القلوب إلا أحد أمرين إما خوف مزعج محرق أو شوق مبهج مقلق، وقد قيل للحسن: يا أبا سعيد: كيف نصنع؟ نجالس أقواما، يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير، فقال: والله إنك أن تخالط قوما يخوفونك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف.

فأقول وبالله التوفيق لقد قست القلوب فهي بين شواغل الدنيا وملهياتها، إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، وأما الحديث عن الرقائق والرغائب فهو غريب عن القلوب، غريب على الآذان قلما تنصت إليه قلما تسمعه، كم كان يتعاهد أصحابه بمواعظ تذرف منها العيون وتوجل منها القلوب وترتعد منها الفرائص، يقف رسول الله يخاطب أصحابه بكلمات يسيرات فيقول: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله))، فما هو إلا أن ينتهي من كلامه عليه الصلاة والسلام حتى يخفض الصحابة رؤوسهم ويكبوا بوجوههم ولهم ضجيج وخنين بالبكاء، أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر وأن نذكرها بما خوف الله به عباده وحذرهم منه، وقد حذر سبحانه وتعالى عباده أشد التحذير، وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار من دار الخزي والبوار فقال جل جلاله وتقدست أسماؤه فأنذرتكم نارا تلظى وقال: إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر فوالله ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار وصف لهم حرها ولظاها وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حرارتها وغايتها، وصف أصفادها وسرابيلها وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، ويسمع وصف جهنم كأنما أقيم على شفرها فهو يراها رأي عين يرى كيف يحطم بعضها بعضا كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها ويجرجرون في أوديتها كل ذلك من المولى جل وعلا إنذارا وتحذيرا، وكذا خوف نبينا عليه الصلاة والسلام من النار وأنذر وتوعد وحذر، وكان شديد الإنذار شديد التحذير من النار، وقف مرة على منبره فجعل ينادي ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) وعلا صوته حتى سمعه أهل السوق جميعا، وحتى وقعت خميصة كانت على كتفيه فوقعت عند رجليه من شدة تأثرة وانفعاله بما يقول، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا آخذ بحجزكم عن النار وأقول إياكم وجهنم والحدود))، إياكم وجهنم والحدود فهو آخذ بحجز أمته ويقول: ((إياكم عن النار هلّم عن النار وهم يعصونه ويتقحمونها)).

أيها الإخوة في الله: ثم أصبح الحديث عن النار وأهوالها حديثا خافتا لا تكاد تتحرك به ولا تستشعره القلوب، ولا تذرف منه العيون، حديثا غريبا على المسامع بعيدا عن النفوس مع أن ربنا جل جلاله قد ذكرنا بها غاية التذكير وحذرنا غاية التحذير، ألا فلنشعر القلوب بشيء من أحوالها ولنذكر النفوس بشيء من أهوالها لعل قسوة من قلوبنا تلين وغفلة من نفوسنا تفيق.

فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة وعذاب شديد، إن سألت عن حرها وقعرها، وحميمها وزقومها، وأصفادها، وأغلالها، وعذابها وأهوالها، وحال أهلها، فما ظنك بنار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى أبيضت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة.

ما ظنك بحرها، نارنا هذه جزء واحد من سبعين جزءا من نار جهنم.

أما بُعدْ قعرها فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها والله لتملأن والله لتملأن والله لتملأن.

أما طعامها وشرابها فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم وقوله: أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم .

أما شرابها فاستمع إلى ما يقول ربنا وخالقنا: وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا .

فهذا الطعام ذا غصة وعذاب أليم وهذا الشراب يسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن وراءه عذاب غليظ .

يقول عليه الصلاة والسلام في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم))، فكيف بمن تكون طعامه، يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا، اغيثوا بشجر الزقوم فإذا أكلوه غلا في بطونهم كغلي الحميم فيستقون، فيسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوا وجهه فإذا شربه قطّع أمعاءه حتى يخرج من دبره فسقوا ماءا حميما فقطّع أمعاءهم أما سلاسلها وأغلالها فاستمع إلى وصفها: ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه فيؤخذ بالنواصي والأقدام أي أن ناصية رأسه تجمع إلى قدميه من وراء ظهره، وينشيء الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال لهم: يا أهل النار أي شيء تطلبون، فيقولون الشراب، فيستقون، فتمطرهم تلك السحابة السوداء أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرا يتلهب عليهم، أما عذاب أهل النار وكل ما مضى من عذابها، فما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذابا من كان له نعلان يغلي منهما دماغه ما يرى أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم، أما حال أهلها فشر حال وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب وما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى انقطعت أعناقهم عطشا واحترقت أكبادهم جوعا، ثم انصرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها فلو رأيتهم وقد أسكنوا دار ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك مبهمة المهالك قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي يسحبون فيها على وجوههم مغلولين النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم، لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين فغطاؤهم من نار وطعامهم من نار وشرابهم من نار ولباسهم من نار ومهادهم من نار فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع، وجر السلاسل يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، تغلي بهم كغلي القدر وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور، يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق يتفجر الصديد من أفواههم وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كلما نضجت جلوده بدلناهم جلودا غيرها ليذقوا العذاب أمانيهم فيها الهلاك وما لهم من أسرها فكاك، فما حال دار إذا تمنى أهلها تمنوا أن يموتوا؟ كيف بك لو رأيتهم وقد اسودت وجوههم؟ فهي أشد سوادا من الحميم، وعميت أبصارهم وأبكمت ألسنتهم وقصمت ظهورهم، ومزقت جلودهم وغلّت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم ويطأون حسك الحديد بأحداقهم ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتتت منا الكبود، يا مالك العدمُ خير من هذا الوجود، فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقوى خطاب وأغلظ جواب إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون فينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا فإن عدنا فإنا ظالمون فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبهم بتوبيخ أشد من العذاب اخسئوا فيها ولا تكلمون فعند ذلك أطبقت عليهم وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزاد حسراتهم وتنقطع أصواتهم فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء، يبكون على تضييع أوقات الشباب ويتأسفون أسف أعظم من المصاب، ولكن هيهات هيهات ذهب العمل وجاء العقاب.

لقد خاب من ولد آدم من مشى إلى النار مغلول القيادة أزرقا

يساق إلى نار الجحيم مسربلا سرابيل قطران لباسا محرما

إذا شربوا منها الصديد رأيتهم يذوبون من حر الصديد تمزقا

ويزيد عذابهم شدة وحسرتهم حسرة، تذكرهم ماذا فاتهم بدخول النار، لقد فاتهم دخول الجنان ورؤية وجه الرحمن ورضوان رب السماء والأرض جل جلاله، ويزيد حسرتهم حسرة وألمهم ألما أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه بلذة فانية وشهوة ذاهبة:

مآرب كانت لأهلها في الحياة عذابا

فصارت لهم بعد الممات عذابا

لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس دراهم معدودة بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانت وما كانوا.

ثم لقوا عذابا طويلا وهوانا مقيما فعياذا بالله من نار هذه حالها وعياذا بالله من عمل هذه عاقبته وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بيان للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب .

اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك ولا صبر لنا على عذابك اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما .

والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير .

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

أيها المسلمون: وبعد أن سمعنا عن عذاب النار وأهوالها وعن حال أهلها نريد أن نعرف أسباب دخولها والأعمال التي تدني الإنسان منها فمن أهم الأعمال الشرك بالله والكفر ولو ببعض جزيئات الدين أو بما هو معلوم من الدين بالضرورة كمن ينكر الصلاة أو الزكاة أو غير ذلك قال تعالى الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين .

ومن الأعمال: النفاق وقد توعد الله المنافقين بالنار وهو وعيد قطعه على نفسه لا يخلفه وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم وأخبر أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وهو أشدها حرا وأكثرها إيلاما.

ومن الأعمال الكبر: وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار قال تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر)). ومصداق هذا قوله تعالى: أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وقوله: فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق .

ومن الأعمال: عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية قال تعالى: ما سلككم سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ومن الأعمال: طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصد عن دين الله ومتابعة المرسلين قال تعالى: إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا .

والأعمال كثيرة نذكرها إجمالا فمن ذلك: الحسد والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، والإعتداء على حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعه ومخالفة الكتاب والسنة، اعتقادا وعملا وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب للباطل والاستهزاء بالدين أو بأهله الصالحين، والاستمرار على ارتكاب المعاصي والمحرمات كمشاهدة أفلام المجون والخلاعة وكشرب المسكرات والزنى واللواط وجميع الفواحش التي حذرنا منها.

والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، والتصوير والتبرج والسفور والتهتك وتقليد أعداء الدين والشرب في آنية الذهب أو الفضة والافتخار، وغير ذلك من الأعمال التي تدخل صاحبها في النار والعياذ بالله.

أيها الإخوة: إننا ما نزال في فسحة من العمر وطيب من العيش وصحة وعافية أما آن لنا أن نتوب؟ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ، حتى متى ونحن نصر على معصية الله ومحاربة دينه وأوليائه أحتى يفجأنا الموت، فنقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت .

أم ماذا؟ إننا ما نزال في دار المهلة ووقت العمل فمن عمل الخير واستقام حاله وابتعد عن رفقاء السوء وجانب الذنوب والعصيان فقد رجحت كفة الخير لديه فليحمد الله ومن كان على غير طريق الحق ولا يزال يصرّ على البعد عن دين الله فلا يلومن إلا نفسه وسوف يندم ويعض على أصابعه باكيا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا .

فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى و فيها المخيم

وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش فاليوم موسم

وحي على واد هنالك أفيح و تربته من اذخر المسك أعظم

منابر من نور هناك وفضة و من خالص العقيان لا تتقصم

فيا بائعا غال ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

(1/497)

________________________________________

العلم والبر

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

على كل مسلم واجبان : 1- العلم الضروري 2- العمل بهذا العلم – الواجب معرفته والإيمان به أركان الإيمان الستة – الواجب معرفته وتطبيقه عبادة الله وحده – الواجب نحو المخلوقين الحذر من الوقوع في الكبائر , وأعظمها الشرك – الواجب تجاه الأسرة لإنقاذها من النار

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: سأل سائل بعدما سمع الأحاديث الماضية عن الإيمان فقال: ماذا يجب علىّ أن أفعل. ما هو الواجب على كل مسلم ؟

كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي فيقول: ((أحدهم دلنا على عمل يقربنا إلى الجنة ويباعدنا عن النار))(1)[1].

وسأله وفد عبد القيس(2)[2] فقالوا: مرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة، نعم ماذا يجب على كل مسلم أن يفعل ؟ على كل مسلم واجبان هما العلم والعمل.

أما العلم: فعليه أن يتعلم الضروري من أمور دينه عليه أن يتعلم ما يصحح به إيمانه واعتقاده، وعليه أن يتعلم ما يصحح به عمله.

هذا القدر من العلم واجب على كل مسلم ومسلمة لا يُعذر أحد بتركه كائنًا من كان فإذا تعلم المسلم شيئًا قال رسول الله : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))(3)[3].

يشير إلى ذلك القدر الضروري من تعلم أمور الدين.

فإذا تعلم المسلم شيئًا فعليه أن يطبقه. كلما تعلم شيئًا من أمور دينه عليه أن يبادر إلى تطبيقه. هكذا كانت طريقة أصحاب رسول الله كانوا رضوان الله عليهم أجمعين كلما نزلت خمس آيات أو عشر آيات تعلموا ما فيهن من العلم والعمل(4)[4].

فإذا بدأت مسيرتك نحو العلم والعمل فاعلم أن هناك ما يجب أن تعرفه وتؤمن به وهناك ما يجب أن تعرفه وتعمله.

أما ما يجب عليك أن تعرفه وتؤمن به فأمور الإيمان الستة، الأركان الستة وهى: معرفة الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

وأما ما يجب أن تعرفه وتعمله وتبادر إلى تطبيقه فأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً وتجاهد في سبيل الله بمالك ونفسك.

وأما ما يجب عليك نحو المخلوقين فأولاً وقبل كل شيء أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك أن تكف أذاك وشرك عن إخوانك المسلمين.

ثم بعد ذلك تكون رحيمًا بهم ناصحًا لهم لا تظلم أحدًا منهم ولا تغشهم ولا تخذلهم.

وتحب في الله وتوالي في الله وتكره الكفر والطاغوت، يجب عليك أن تبغض الكفر والطاغوت وأهل الكفر وعبد الطاغوت وتعاديهم في الله وتجاهدهم بكل ما استطعت من نفسك ومالك وقلمك ولسانك وسعيك وجهدك وعقلك ورأيك كما يجب عليك أن تؤمن بالله وتحب أهل الإيمان وعليك أن تكفر بالطاغوت وتبغض أهل الكفر وعبد الطاغوت وتجاهدهم بمالك إن كنت ذا مال بنفسك بقلمك ولسانك بأي شيء تملك.

أيها المسلم وعليك مع ذلك كله أن تحذر من الوقوع في الكبائر. أن تحذر في الوقوع في أكبر الكبائر على وجه الخصوص وأكبر الكبائر هو الشرك بالله فإن الشرك بالله يحبط العمل كله. لو أتيت بكل ما ذكرنا وفعلت كل ما ذكرنا وبذلت فيه كل جهدك وطاقتك ثم لقيت ربك بالشرك فقد حبط عملك كله.

إن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعًا إلا الشرك فإنه لا يغفره.

قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا [النساء:48] وقال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].

فاحذر أيها المسلم من الوقوع في الشرك، العبد قد يقع في الشرك فلا غفران مع الشرك ولا يستحق مرتكب هذه الكبيرة لا يستحق الرحمة أبدًا. لكن قد يقع إنسان في باقي الكبائر والمعاصي فهو حينئذ تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بعدله وإن شاء غفر له بفضله.

قال الرب سبحانه في الحديث القدسي: ((من لقيني بقراب الأرض خطيئة (بقراب الأرض أي بملء الأرض) وهو لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة))(5)[5] رواه مسلم. فصحح إيمانك أيها المسلم أولاً وقبل كل شيء صححه من أدران الشرك حتى تلقى ربك سبحانه بإيمان سليم غير مشوب بشرك.

صحح إيمانك أولاً حتى يصح اعتقادك ويصح عملك ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. تغزل وتجتهد وتبذل جهدها وسعيها حتى إذا أتمت غزلها أتت عليه كله فنقضته، هذا مثال الإنسان الذي جاء بأعمال صالحة وأنواع من البر والخير ثم لم يتورع من الوقوع في الشرك وأعمال الشرك إما جهلاً منه وإما تقليدًا واتباعًا للآباء والأجداد فهذا والعياذ بالله أحبط بشركه عمله كله أحبط بشركه كل تلك الأعمال الصالحة وكل تلك الأنواع من البر والخير. كما أخبر رب العزة والجلال مخاطبًا سيده وحبيبه محمداً والمراد أمته: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر:65].

يا أيها المسلم ابدأ مسيرتك نحو الجنة لا تماطل نفسك ولا تسوف.

ابدأ مسيرتك نحو الجنة ابدأ بنفسك ثم بمن تعول. ابدأ ومعك أهلك وأولادك وأسرتك ومن حولك، لا تبدأ وتضع نفسك في طريق الجنة وتنسى أهلك وفلذة كبدك وتتركهم في طريق الهلاك والدمار.

يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].

أول ما بدأ رسول الله بدأ بنفسه فكان وهو شاب في مقتبل حياته كان يعرض عما يقع فيه أترابه من شباب مكة وينزه نفسه عن ذلك ثم حُبب إليه الخلاء فذهب يتعبد ربه في غار حراء(6)[6] ولبث على ذلك برهة من الزمن حتى فاجأه الوحي وهو في أحسن حال.

وبم بدأ معه الوحي، الوحي بدأ مع النبي بنفسه فقيل له: اقرأ باسم ربك الذي خلق [العلق:1] فأُمر عليه الصلاة والسلام بالعلم. ثم قيل له: قم الليل إلا قليلاً [المزمل:2] فأُمر بالعمل ثم جاءه الأمر بالبلاغ، بم يبدأ البلاغ؟ أُمر أولاً أن يبدأ بأهله فقيل له: وأنذر عشيرتك الأقربين [الشعراء:214]. الأهل والعشيرة الأقربين أولاً ثم بعد ذلك جاءه الأمر بالبلاغ العام للناس جميعًا فقيل له: فاصدع بما تُؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94].

هذا هو الترتيب الرباني لهذا الأمر. فعلينا أن نرتب حياتنا كما أمرنا الله عز وجل نبدأ بما بدأ الله ونختم بما ختم الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعلمون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين، والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [الطور:17-21].

 

-------------------------

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.

أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].

وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علىَّ وعن سائر آل بيتك الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين وعن سائر الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين (3 مرات) وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأهلك اليهود والصليبين والشيوعيين والباطنيين وجميع الزنادقة والملحدين اللهم ارفع علم الجهاد وانصر المجاهدين (مرتين).

اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك ويُذل فيه أهل معصيتك ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

__________

(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (30) الزكاة (1) باب وجوب الزكاة (2/506) برقم 1396.

(2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان (38) باب : أداء الخمسمن الإيمان (1/29) برقم (53).

(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/23) برقم (15) وغيره.

(4) أخرجه ابن سعد في الطبقات (6/172) والقسوي في المعرفة والتاريخ (2/589-590) وغيرهاما عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود ومسنده صحيح.

(5) أخرجه مسلم في صحيحه (48) في كتاب الذكروالدعاء والتوبة والاستغفار (6) باب فضل الذكر والدعاء (4/2068) برقم (2687).

(6) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (1) بدء الوحي (1) باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/4) برقم (3).

(1/498)

________________________________________

فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم

-----------------------

سيرة وتاريخ, فقه

الصلاة, تراجم

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

10/11/1406

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

واجب المرأة والرجل تحقيق العبودية لله والإخلاص له – لكلٍ منهما وظيفته التي هيأه الله لها ولكلٍ منهما مكانه – من النماذج الراقية للمرأة كما أرادها الله : خديجة وأم سلمة رضي الله عنهما ومريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم – منزلة فاطمة رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم – حياتها رضي الله عنها وزهدها , ومهرها وخدمتها في بيتها – جملة من آداب الجمعة : التبكير , عدم تخطي الرقاب

-------------------------

الخطبة الأولى

فلازلنا في الحديث عن المرأة كما أرادها الله تعالى مصدرًا للسكينة وراعية للبيت الذي هو مركز السكينة ومقر المؤسسة الأولى في مجتمع الإسلام مؤسسة الأسرة، إن واجب الرجل والمرأة على السواء هو تحقيق العبودية لله تعالى وإخلاص العبادة له، والله تعالى هو الذي حدد مكان كل منهما وميدانه فكل منهما يؤدي رسالته من المكان الذي حدده الله، مكان المرأة وميدانها البيت، وميدان الرجل خارج البيت، هكذا قُسمت الوظائف بينهما كما أراد الله تعالى.

أما ما يريده القردة والخنازير وأذنابهم من المتفرجنين فأمر غير ذلك إنهم يريدون اتباع الشهوات وأن تميلوا ميلاً عظيمًا حتى يعم الخراب ويظهر الفساد.

وقد عشنا في الجمعة الماضية مع النماذج الإسلامية الراقية للمرأة كما أرادها الله تعالى، عشنا مع نموذجين من حياة اثنتين من أزواج رسول الله السابقة إلى الإسلام أم المؤمنين خديجة بنت خويلد الأسدية القرشية وأم المؤمنين أم سلمة المخزومية القرشية رضي الله عنهما.

والنماذج الراقية للمرأة كما أرادها الله تعالى كثيرة زاخرة في تاريخ المسلمين، روى أبو هريرة رضي الله عنه وغيره من الصحابة أن رسول الله قال: ((خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة))(1)[1].

في رواية(2)[2]: ((خير نساء أهل الجنة أربع خديجة وفاطمة ومريم وآسيا))، وفي صحيح(3)[3] مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله أخبر فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة وذلك في حديث طويل أصله في صحيح البخاري(4)[4] إلا في هذه العبارة.

فلنعش اليوم نماذج من حياة هذه المرأة الكريمة العظيمة سيدة نساء هذه الأمة وريحانة رسول الله إنها ابنة أكرم الخلق وسيد ولد آدم رسول الله وأحب بناته وأهله إليه، كان إذا رجع من سفر أو غزا بدأ بالمسجد(5)[5] ثم صلى فيه ثم أتى ببيت فاطمة فسلّم عليها ثم يأتي أزواجه .

روى الطبراني(6)[6] بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت أحدًا قط أفضل من فاطمة غير أبيها)) . هذا كلام أم المؤمنين عائشة.

وفي صحيح مسلم(7)[7] أن النبي قال: ((إنما فاطمة بضعةٌ مني)). فهذه الابنة الكريمة ابنة أكرم الخلق الذي أخبر الصادق الأمين أنها سيدة نساء هذه الأمة كيف عاشت حياتها؟

أعاشت حياتها مثل حياة بنات الجبابرة والقياصرة؟ أم عاشت حياتها مثل بنات المترفين ترفل في حلل النعيم بالترف؟

كلا والله فإنها بنت نبي، لقد عاشت سيدة نساء هذه الأمة، عاشت في حياة التقشف وزهدت في بهارج الدنيا، إنها بنت بني من ربّى أمته على تحقيق العبودية لله تعالى وإخلاص العبادة له سبحانه، أفينسى ريحانته ؟ كلاّ فقد رباها على هذا المبدأ قبل غيرها، رباها على إخلاص العبودية لله والاشتغال بعبادة الله عن بهارج الدنيا. أتدرون كيف زوج سيد ولد آدم سيدة نساء هذه الأمة؟

اسمعوا يا آباء واسمعن يا أمهات واسمعن يا بنات هذه الأمة اسمعن كيف زُوجت سيدتكن وانقشن قصتها في قلوبكن لعلكم جميعًا تذكرونها كلما نفخ الشيطان في ثيابكم بأوهام الخيلاء الكاذبة والفخر الزائف، حتى جعلتم بخيلائكم وفخركم جعلتم الحلال عسيرًا بينما شياطين الإنس والجن قد جعلوا الحرام مبذولاً يسيرًا في زمان الفتنة هذا وفساد الزمن.

روى الإمام أحمد في مسنده(8)[8] أن عليًا رضي الله عنه لما خطب فاطمة من رسول الله قال له رسول الله : ((وهل عندك من شيء؟)).

قال: لا يا رسول الله، قال: ((وما فعلت درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟)).

فقال علي: هي عندي.

فقال: ((فأعطها إياها)).

لقد نسي علىّ تلك الدرع فلم يعبأ بها عندما سأله رسول الله هل عنده من شيء؟ لأن تلك الدرع لم تكن تساوي شيئًا يُذكر، كانت درعا صغيرة من شر الدروع فلم يتذكرها علىّ رضي الله عنه ومع ذلك كانت كافية لتكون مهرًا لسيدة نساء هذه الأمة. وكان علىّ فقيرًا معدمًا، ابن عم رسول الله، لم يكن يملك من زينة هذه الدنيا وبهارجها شيئًا فأولم أتدرون ما كانت وليمته؟

آصع من شعير وتمر وحيس فلما رأى ذلك حمزة سيد الشهداء في رواية من الروايات(9)[9] نحر ناقتين في وليمة علىّ رضي الله عنه. ثم جُهزت سيدة نساء العالمين، جهزها سيد ولد آدم الذي كانت الدنيا كلها بين يديه لو أشار إليها ببنانه لساقها إليه رب العزة والجلال، ومع ذلك أعرض عنها هو وأهل بيته، أتدرون ما جهز سيد الخلق ابنته سيدة نساء هذه الأمة؟ جهزها بخميلة أي ثوب واحد من قطيفة وقربة ووسادة من أدم - من جلد - حشوها ليف وفي رواية أنه زاد على ذلك رحى.

هذا هو جهاز سيدة نساء هذه الأمة فاسمعن يا بنات هذه الأمة ويا نساء هذه الأمة، هذا جهاز سيدتكن، ثم زُفت فاطمة إلى علىّ رضي الله عنه ولم يكن يملك مسكنًا فصبرت حتى التمس مسكنًا أخلاه له أحد الصحابة الكرام حارثة بن النعمان رضي الله عنه أخلاه له وانتقل إلى بعض بيوته فسكنه علىّ بفاطمة، وقامت سيدة نساء هذه الأمة خير قيام، ورعت بيتها وزوجها أكرم رعاية.

كانت تكون في خدمة بيتها تطحن وتعجن وتخدم بيتها وزوجها، تطحن بالرحى حتى أثرت الرحى في يديها فخشنت وتجرحت يداها رضي الله عنها.

بنات الجبابرة في القصور يرفلن في حلل النعيم والترف لا يقنعهن القليل والكثير من الديباج والذهب والحرير وبنت سيد الخلق في بيت زوجها تطحن بالرحى حتى أثر الرحى بيديها.

روى البخاري(10)[10] في صحيحه عن علىّ رضي الله عنه قال: شكت فاطمة ما تلقى من الرحى فجاء سبي إلى النبي أي من أسرى الجهاد - سبايا من النساء - فانطلقت إلى أبيها فلم تجده فوجدت أم المؤمنين عائشة فأخبرتها بما تلقى فلما جاء النبي أخبرته أم المؤمنين عائشة بمجيء فاطمة.

يقول علىّ: فجاء النبي إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال النبي على مكانكما فقعد بيننا - بين علىّ وزوجه فاطمة - قال علىّ حتى وجدت برد أنامله على صدري فقال ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعًا وثلاثين وتسبحا ثلاثًا وثلاثين وتحمدا ثلاثًا وثلاثين هو خير لكما من خادم.

وفي رواية قال علىّ رضي الله عنه: ((فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن )).

الله أكبر هذه هي التربية الراقية في بيت النبوة، أليست المهمة الحقيقة للرجل والمرأة هي إخلاص العبودية لله تعالى فليشتغلا إذن بعبادة الله ينسيان الدنيا ببهارجها وتهون عليهما مصائبها، وعليهما أن يشتغلا بذكر الله تعالى لتطمئن قلوبهما، خادم لم يرض النبي أن يعطي ريحانة قلبه جارية تخدمها ولكنه اختار لها العزيمة والصبر وأمرها أن تستعين على شئون حياتها بذكر الله وعبادته.

أليست سيدة نساء الأمة فعليها أن يكون مثالاً يحتذى في الصبر والمصابرة وتحقيق العبودية للرب سبحانه وتعالى.

وما كان لرسول الله ليحابي أحدًا من المسلمين حتى لو كانت بضعة قلبه وريحانة فؤادي فاطمة رضي الله عنها، ففي رواية(11)[11]أنه لما جاءت فاطمة وعلىّ يكلمانه في شأن الخادم قال: لا والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيع السبي فأنفق عليهم.

وأهل الصفة هم فقراء أهل المدينة في هذا العصر المبارك. كانوا يأوون إلى مؤخرة المسجد النبوي فعُرف ذلك المكان بالصفة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا [الأحزاب:33].

 

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) أخرجه ابن عبد البر في الاسيعاب (4/382) وغيره .

(2) أخرجه أحمد (4/188) والنسائي (3/103) وأبو داود (1/360) وغيرهم وسنده حسن .

(3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الصلاة (1/306) رقم 408.

(4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب (3/1326-1327) برقم 3624

(5) ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب (4/449) وسنده ضعيف.

(6) أخرجه الحاكم في مستدركه (3/175) برقم 4756.

(7) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1374).

(8) أخرجه أحمد في مسند (1/80) وغيره وفيه رجل لم يسم.

(9) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر (3/1568) برقم 1979.

(10) 10] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الخمس (3/1133) برقم 3705.

(11) 11] أخرجه أحمد (1/79و84و106) والحميدي برقم (44) وابن ماجه برقم (4152).

(1/499)

________________________________________

محاسبة النفس

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

أعمال القلوب, التربية والتزكية

-----------------------

عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري

المدينة المنورة

3/12/1406

قباء

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية محاسبة النفس ولزومها للمسلم – أثر محاسبة النفس وثمرتها , وعاقبة تركها - من فوائد محاسبة النفس التذكير بالاستعداد للآخرة , وبنعم الله عليه , والاستقامة , ومعرفة علاجها – الطريق لإقامة المحاسبة الإكثار من مطالعة السيرة وحال السلف – حال السلف مع القرآن ومحاسبة النفس – غفلة الناس عن محاسبة أنفسهم من أسباب البلاء وفساد القلوب

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: عباد الله محاسبة النفس أمر مطلوب من كل مسلم.

محاسبة النفس أمر عظيم ينبغي أن يسعى إليه كل مسلم وكل مؤمن ليملك قياد نفسه وزمامها ليضبط سيرها وليكبح جماحها يدفعها إلى الطاعة ويردعها عن المعصية فيعرف ربحه من خسارته ولا يستطيع ذلك إلا إذا كان محاسبًا لنفسه.

ومحاسبة النفس يا عباد الله أمر عظيم يسهل الكلام عنه بالألسنة ولكن القيام به من أعظم الأمور.

فإذا قام الإنسان على محاسبة نفسه استطاع أن يعرف مقدارها.

ومن أجل ذلك يا عباد الله يكون المؤمن في جهاد مع نفسه لا ينقطع وفي صراع دائم لا ينتهي حتى تألف النفس طاعة ربها وتعتاد السير في سبيل الله المستقيم والانتهاء عن سبل الشياطين.

عند ذلك يسهل ضبطها ومحاسبتها وإن لم يكن ذلك وأطلق لها العنان فسوف تستعذب الباطل وتحب المعاصي والمنكرات حتى تصل إلى غضب ربها سبحانه وتعالى.

وكلما قام الإنسان على محاسبة نفسه أحبت الطاعة وأقبلت عليها واستأنست بها وبأهلها وكلما أهمل الإنسان محاسبة نفسه كلما كرهت الطاعة وأنست بالمعصية وأحبت أهلها.

يقول الله تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات:37-41].

والله تعالى يقسم بالنفس اللوامة وهي التي تلوم صاحبها إن قصّر في خير أو اقترف شر: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة [القيامة:1-2].

يقول الحسن رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (إن المؤمن والله لا نراه إلا وهو يلوم نفسه ما أردتُ بكلمتي ما أردتُ بأكلتي ما أردتُ بحديث نفسي أما الفاجر فيمضي قُدُمًا قُدُمًا لا يعاتب نفسه).

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أنها تذكر الإنسان وتبعث فيه الاستعداد للقاء الله عز وجل الذي سوف يكون بين يديه الحساب ولا حول ولا قوة إلا بالله ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم غدًا في الحساب أن تحاسبوها وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله إنها تعرِّف الإنسان بنعمة الله عليه فيشكرها ويستخدمها في طاعة الله ويحذر من التعرض لأسباب زوالها: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7].

والله تعالى يقص علينا قصة صاحب الجنة حينما افتخر على صاحبه بالمال والولد وما ذكرّه به صاحبه مما قصه الله تعالى في كتابه فقال: ولولا إذا دخلت جنتك قُلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك ولدًا فعسى ربي أن يؤتيني خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا من السماء فتصبح صعيدًا زلقًا أو يصبح ماؤها غورًا فلن تستطيع له طلبًا [الكهف:40-41].

وتُعرِّف المؤمن بنعمة الله عليه في الابتلاء فيصبر لذلك ويحتسبه عند الله تبارك وتعالى كما روي عن عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال : (ما أصابتني مصيبة إلا وعلمتُ أن لله علىّ فيها ثلاث نعم:

الأولى: أن الله تعالى خففها وهو قادر على أن يصيبني بأعظم منها.

والثانية: أن الله تعالى جعلها في دنياي ولم يجعلها في ديني.

والثالثة: أن الله تعالى يدخر لي الأجر عليها يوم القيامة).

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن هذا يساعد على ترويضها والسلوك بها في السبيل المستقيم والحد من نزواتها وشهواتها ومن تعصبها وإعجابها فما ترى إنسانًا يحاسب نفسه ويراقبها إلا وهو سريع الاستجابة لأمر إلهه وكثير الحذر مما يغضب الله وسريع الرجوع إلى الحق إذا علمه وتبين له وكلما أطلق الإنسان لنفسه زمامها ولم يقم على محاسبتها كلما تغلبت عليه الأهواء والشهوات والمعاصي والمنكرات حتى تتغير موازينه ومقاييسه ويقع فيما حذر منه رسول الله : ((حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العامة))(1)[1].

ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله أن الإنسان يعرف بذلك مقدار نفسه فيتخذ الشيء الذي يراه مناسبًا لإصلاحها ولا صلاح لها إلا بما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى وما جاء في السنة الصحيحة عن رسول الله . وما أُثر عن العلماء الصالحين المخلصين العاملين.

روي أن الشافعي رحمه الله تعالى مرض مرضًا شديدًا فقال: اللهم إن كان هذا لك رضًا فزده فبلغ ذلك إدريس الخولاني رحمه الله تعالى فبعث إليه فقال: يا عبد الله لستُ أنا وأنت من أهل البلاء.

فأرسل إليه الشافعي رحمه الله تعالى: يا أبا عمر ادع الله لي بالعافية.

وإذا أراد الإنسان أن يقيم في نفسه هذا الأمر.…وإذا أراد أن تقوم لديه المحاسبة للنفس لتنبعث في نفسه خشية الله عز وجل والخوف من عذابه والرجاء فيما عنده فليكثر من قراءة سيرة رسول الله وسيرة أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان في كل زمان ومكان ليعرف كيف كانوا مع أنفسهم وكيف كانت محاسبتهم لها لعل ذلك يساعده على محاسبة نفسه ومراقبتها.

الرسول يقول(2)[2] لابن مسعود رضي الله عنه: اقرأ علىّ القرآن فيقول بن مسعود: اقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا [النساء:41].

قال حسبك قال بن مسعود رضي الله عنه: فنظرتُ فإذا عينا رسول الله تذرفان.

فلو كانت محاسبة النفس قائمة في قلوبنا اليوم لذرفت أعيننا من خشية الله تبارك وتعالى ومن الخوف منه وطمعًا في الرجاء لما عنده.

وخليفته الصديق رضي الله عنه يقول وقد دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يزجر لسانه فقال له عمر: (مه ما هذا الذي تفعله يا أبا بكر؟). قال أبو بكر رضي الله عنه: (إن هذا أوردني المهالك).

ولما قدم قوم من اليمن في زمانه كانوا إذا سمعوا القرآن يبكون فقال: (كنا هكذا ولكن قست القلوب).

وعمر رضي الله عنه يقول: (لولا ثلاث لوددتُ أني قد لقيتُ الله لولا أن أضع جبهتي لله ولولا أن أجلس مجالس يُنتقى فيها طيب الكلام كما ينتقى طيب التمر، ولولا أن أسير في سبيل الله عز وجل).

وهو الذي قال رضي الله عنه: (وددتُ أني كبش لأهلي يسمنونني حتى أكون أسمن ما أكون يقدم عليهم قوم يحبونهم فيذبحوني ويقدموني فيجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا ثم يأكلونني ولم أكن بشرًا). وهو الفاروق رضي الله عنه.

وهو الذي يقول يوم دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين بعدما طُعن رضي الله عنه قال له: (أبشر يا أمير المؤمنين فإن الله قد مصّر بك الأمصار وقضي بك على النفاق وأفشى بك الرزق) قال له: (أفي الإمارة تثنى علىّ يا بن العباس؟) قال: (إي والله في غيرها). قال: (والله لوددتُ أني خرجتُ منها كما دخلتُ فيها لا أجر ولا وزر) ويقول رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لو قام في الناس منادي: يا أيها الناس إنكم من أهل الجنة أجمعون إلا رجلاً واحدًا لخفتُ أن أكون أنا هو، ولو قام منادي وقال: يا أيها الناس ادخلوا أجمعين إلى النار إلا رجلاً واحدًا لرجوتُ أن أكون أنا هو) رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ونسأل الله أن يتبعنا آثارهم وأن يحشرنا في زمرتهم.

وعثمان رضي الله عنه يقول: (لو كنتُ بين الجنة والنار ولا أعلم إلى أيهما يُؤمر بي لوددتُ أن أكون رمادًا ولا أعلم إلى أيهما أصير)(3)[3].

وهو الذي يقول: (وأيم الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام وما ازددت بالإسلام إلا حياءً).

وعليّ رضي الله عنه الذي سبق أن ذكرنا قوله وهو يخاطب الدنيا: (إلىّ تغرغرت إلىّ تشوفت هيهات هيهات غُري غيري قد بتتك ثلاثًا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق).

وغيرهم من الصحابة ومن التابعين ومن الذين تبعوهم بإحسان في كل زمان ومكان يحاسبون أنفسهم قبل أن يردوا إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

نشكو إلى الله ضعفنا ونسأله أن يرحم ضعفنا ويغفر خطايانا أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين نحمده تعالى ونشكره ونثني عليه الخير كله وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله لو كانت المحاسبة للنفوس قائمة لكان الحال غير الحال ولرأيت الصلاح في البشر ورأيت الصلاح في العباد وفي البلاد ولكن كثيرًا من الناس غافلون عن محاسبة أنفسهم.

لو كانت المحاسبة للنفوس قائمة لما رأيت معصية لما رأيت شركًا ولا نفاقًا ولا رأيت غيبة ولا نميمة ولا رأيت ربًا وزنًا ولا خمرًا ولا رأيت صغيرة ولا كبيرة، ما رأيت إيمانًا كاذبًا ولا غشًا ولا خداعًا ولا ظلمًا ولا جورًا ولا عدوانًا، لو كانت المحاسبة في النفوس قائمة ما حصلت مشاكل في مال وما قامت منكرات لم تسبق فيمن سبق من العالمين كان نتيجتها على التفرق والتمزق الذي يعيشه المسلمون اليوم.

لو حاسب الناس أنفسهم وأقاموها على أمر الله تبارك وتعالى لرأيت الحال غير الحال إن كثيرًا من الناس لا يرتاح في نوم حتى يعرف حساب تجارته هل آلت به إلى الربح أم إلى الخسران، بل قد ينهض من فراشه مرات كلما تذكر أمرًا من الأمور وقد تمر عليه الليلة كاملة ولا يستحل بنوم أبدًا.

وإن بعضًا من الناس يمر عليه الليل وهو يتلوى من الحسرة والندامة على صفقة خسرها أو فاتته مشاركة فيها.

بل إن بعضًا من الناس يمسي يعض أصابع الندم حينما يرى نعمة أنعم الله بها على أحد من إخوانه وقد تكون ابتلاءً واختبارًا من الله تعالى.

بل إن بعض الناس أيضًا قد يتجاوز الحق إلى الباطل استبدادًا لرأيه وتعصبًا لهواه وميلاً مع شهوته.

فلو كانت المحاسبة في النفوس قائمة ما رأيت هذه الأمور ولا غيرها مما يغضب الله تبارك وتعالى ولصلحت أحوال المسلمين ولن تصلح إلا إذا حاسبوا أنفسهم واستعدوا إلى لقاء الله تعالى الذي سيحاسبهم وهو يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية فهو علام الغيوب سبحانه وتعالى.

فاتقوا الله يا عباد الله وحاسبوا أنفسكم وراقبوها وقوموها على أمر الله تعالى وحاسبوا أنفسكم في أسبوع مضى من حاسب نفسه على طاعة فازداد منها أو على معصية وقع فيها فتاب منها من الذي فعل ذلك.

من حاسب نفسه فتذكر نعمة الله عليه فازداد شكرًا لها.

من حاسب نفسه فانبعثت في قلبه خشية الله فذرفت عينه حتى تطفئ النار يوم القيامة فعينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.

وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

__________

(1) سنن أبي داود (4341) سنن الترمذي (3058) سنن ابن ماجة (4014).

(2) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير باب (4/1673).

(3) أبو نعيم في الحلية (1/60) وفي سنده انقطاع.

(1/500)

________________________________________

فضائل الصحابة رضي الله عنهم

-----------------------

قضايا في الاعتقاد

الصحابة

-----------------------

أحمد فريد

الإسكندرية

غير محدد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- معنى الصحابي في الاصطلاح. 2- ثناء القرآن على الصحابة. 3- ثناء الرسول وشهادته للصحابة. 4- درجات الصحبة. 5- أقوال للصحابة في شرف الصحبة. 6- مذهب أهل السنة في الصحابة. 7- صفحات مضيئة لبعض الصحابة.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

نعطر مجلسنا عباد الله بذكر فضائل أصحاب محمد ، ورضي الله عنهم أجمعين، والصحابي: هو من رأى النبي ، أو رآه النبي ومات على الإيمان، وإن تخللت بينهما ردة على الراجح، واشترط بعض العلماء في الرائي أن يكون بحيث يميز ما يرى.

قال ابن حجر رحمه الله: محل نظر، وعمل من صنف في الصحابة يدل على أنه يكتفى بمجرد حصول الرؤية، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر، وإنما ولد قبل وفاة النبي بثلاثة أشهر وأيام، واشترط بعضهم أن يكون صحب النبي سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا، والعمل على خلاف ذلك، لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة، لم يجتمعوا مع النبي إلا في حجة الوداع.

قال الإمام البخاري: ومن صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه، وقد وردت عباد الله الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، في فضائل الصحابة رضي الله عنهم:

فمن ذلك قوله عز وجل: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم [التوبة :100].

قال ابن كثير رحمه الله: فقد أخبر الله العظيم أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض بعضهم أو سب بعضهم.

وقال عز وجل: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلِم ما في قلوبهم فأنزل السكنية عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً [الفتح: 18-19].

وهذه البيعة هي بيعة الرضوان، وكانت بالحديبية، وعدد المبايعين فيها من الصحابة ألف وخمسمائة، ومن رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر لأن العبرة بالوفاة على الإسلام.

وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله : ((لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة))(1)[1]).

وقال عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس [آل عمران:110].

فأثبت الله عز وجل لهم الخيرية على سائر الأمم ولا شيء يعدل شهادة الله تعالى لهم بذلك.

وقال عز وجل: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً [البقرة:143].

والصحابة رضي الله عنهم هم المشافهون بهذا الخطاب ولا يكون الأخير والشاهد إلا عدلا.

وقال عز وجل: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:8].

وقال عز وجل: يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم [التحريم:8].

وقال عز وجل: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعلموا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً [الفتح:29].

أما الأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم:

فمنها ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس، فيقولون: فيكم من صاحب رسول الله ؟ فيقولون لهم: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس، فيقال: فيكم من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم))(2)[2]).

ومثل هذا حديث واثلة رفعه: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني))(3)[3]).

وروى البخاري أيضا عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا ((ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السّمن))(4)[4]). والمراد بالسّمن التوسع في المآكل والمشارب.

والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، قال ابن حجر رحمه الله: ووقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم، ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور.

واقتضى هذا الحديث أن يكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ وإلى الثاني نحا الجمهور والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي ، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئا من ماله بسببه، لا يعدله في الفضل أحد كائنا من كان، وأما ما لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا [الحديد:10].

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله : ((لا تسبوا أحدا من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه))(5)[5]).

فيقول النبي لخالد ونحوه: ((لا تسبوا أصحابي)) يعني عبد الرحمن وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، والمقصود أنه نهى من له صحبة متأخرة أن يسب من له صحبة متقدمة، لامتيازهم عنهم في الصحبة، بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

وقال ابن مسعود : إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه .

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كان أصحاب رسول الله خير هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه.

وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: ((إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر)) (6)[6]).

وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال: لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي ، خير من عمل أحدكم أربعين سنة.

قال العلماء: ولو لم يرد شيء من الآيات والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم، لأوجبت الحالة التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، والصبر والورع واليقين القطع بتعديلهم والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع الجائين بعدهم.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله مبينا عقيدة أهل السنة والجماعة: (ونحب أصحاب رسول الله ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) .

فقوله رحمه الله: ( ولا نفرط في حب أحد منهم ) فيه رد على الشيعة في تفضيلهم علي على أبي بكر وعمر وعثمان، وتكفيرهم الصحابة رضي الله عنهم إلا القليل، لقد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة قيل لليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للشيعة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد ، ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة.

وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة المبشرين، ثم البدريين، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

وقوله رحمه الله: (وحبهم دين وإيمان) لأنه موافقة لله عز وجل ولرسوله .

روى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله يقول: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني، فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)) (7)[7]) .

لله درّ أقوام أخلصوا الأعمال وحققوها، وقيدوا شهواتهم بالخوف وأوثقوها، وسابقوا الساعات بالطاعات فسبقوها، وخلصوا أعمالهم من أشراك الرياء وأطلقوها، وقهروا بالرياضة أغراض النفوس الردية فمحقوها، فعن إبعاد مثلهم وقع نهي النبي: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [الأنعام:52].

صعدت صحائفهم من الأكدار صافية، وارتفعت أعمالهم بالإخلاص ضافية، وأصبحت نفوسهم عن الدنيا متجافية، والناس في أخلاط والقوم في عافية، ففاق المولى منهم على الرئيس القرشي: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [سورة الأنعام :52].

قال سعد بن أبي وقاص لقيت عبد الله بن جحش يوم أحد، فقال: يا سعد ألا تدعو الله عز وجل؟ فخلوا في ناحية فدعا سعد ... فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: يا رب إن لقيت العدو غدا فلقني رجلا شديدا بأسه أقاتله فيك، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا قلت: يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت.

قال سعد: فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط (8)[8]).

لله در أقوام تعبوا فأريحوا، وزهدوا فأبيحوا، جلّيت أبصارهم فشاهدوا، وأعطوا سلاح المعونة فجاهدوا، وتأملوا الدنيا وسبروها وعرفوا حالها وخبروها.

أقبل مصعب بن عمير يوما إلى رسول الله وعليه قطعة من نمرة قد وصلها بإهاب فقال رسول الله : ((لقد رأيت هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه ثم أخرجه من ذلك الرغبة في حب الله ورسوله))(9)[9]).

ولما كان يوم أحد كان معه لواء المهاجرين فضربه ابن قمئة فقطع يده، ومصعب يقول: (وما محمد إلا رسول)، فأخذ اللواء بيده اليسرى وحنى فضرب يده اليسرى فقطعها فحنى على اللواء وهو يقول: (وما محمد إلا رسول)، فقتل ولم يوجد له كفن إلا نمرة إذا وضعوها على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعوها على رجليه خرج رأسه فجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر.

واعلموا عباد الله أن فضائل الصحابة رضي الله عنهم ظاهرة وكان لسبقهم سببان:

أحدهما: خلوص البواطن من الشك بقوة اليقين.

والثاني: بذل النفوس للمجاهدة والاجتهاد.

كان أبو طلحة يقول لرسول الله يوم أحد: نحري دون نحرك، وقتل يومئذ زوج امرأة وأبوها وابنها وأخوها فقالت: يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب.

فسبحان من خصهم بهذه الفضائل، وحرسهم من القصور والرذائل، وصلى الله على محمد وآله وأصحابه البررة وسلم تسليما.

 

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد .

__________

(1) رواه مسلم (16/57، 58) عن أم مبشر الأنصارية في الفضائل : باب فضائل أصحاب الشجرة ، وأم مبشر الأنصارية هي امرأة زيد بن حارثة.

(2) رواه البخاري (7/2) في فضائل الصحابة ومسلم (16/83، 84) فضائل باب فضل الصحابة رضي الله عنهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهو المسند (3/7).

(3) رواه ابن أبي شيبة وقال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن .

(4) البخاري (5/258،259) الشهادات : باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد ، وفي فضائل أصحاب النبي وفي الرقاق وفي الإيمان ومسلم (16/87،88) الفضائل : باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ، ورواه الترمذي في الفتن وأبو داود في السنة والنسائي في الأيمان والنذور .

(5) رواه البخاري (7/21) فضائل الصحابة : باب قول النبي : ((لو كنت متخذا خليلا)) ومسلم (16/23) فضائل الصحابة :باب تحريم سب الصحابة وهو في المسند (3/11) والترمذي وأبي داود ، والنصيف بمعنى النصف أي لو أنفق أحد من الذين أتوا بعد السابقين من الصحابة مثل أحد ذهبا ما بلغ ثواب أحدهم مد من طعام ولا نصفه

(6) الذي رواه مسلم قال عروة : قالت لي عائشة : يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله ، فسبوهم . أما حديث جابر قال في هامش جامع الأصول : في المطبوع أخرجه رزين – جامع الأصول (8/554).

(7) رواه أحمد (د/87) ، (5/45،57) في المناقب باب من سب أصحاب النبي وعبد الرحمن بن زياد قال الذهبي لا يعرف ومع ذلك فقد صححه ابن حبان (2284) وحسنه الترمذي – شرح السنة (14/71) تحقيق شعيب الأرناؤوط .

(8) قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح – مجمع الزوائد (9/301،302).

(9) لم أقف عليه مع كثرة البحث ، نسبه صاحب موسوعة أطراف الحديث النبوي لابن سعد (3/1/82) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...