65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الأربعاء، 17 مايو 2023

ج1. رياض الصالحين

ج1.   رياض الصالحين للنووي
    المتوفى سنة ( 676 ه‍ )
    تحقيق وتعليق
    الدكتور ماهر ياسين الفحل
    بسم الله الرحمن الرحيم
    إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .
    (( وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم ، والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماماً للمتقين ، وحجةً على الخلائق أجمعين ))1.
    ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (
    [ آل عمران : 102[ . )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً( ] النساء : 1[ . ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً( ] الأحزاب : 70-71 [ .
    أما بعد : فإني أحمد الله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً على إنهاء العمل بهذا الكتاب العظيم " رياض الصالحين " ، ذلك الكتاب الذي كان من أول كتب العلم قراءةً لي ، وكنت دائماً أرجع إلى هذا الكتاب وأحفظ من أحاديثه وأنصح الناس في العناية به ؛ لأنَّه كتاب كله نور ، كيف لا وقد ضمّ بين دفّتيه أهم ما يحتاجه المسلم في حياته وعباداته ؛ لذلك انعقدت النية على العناية به عنايةً متميزةً مع التأكيد في التعليق على اتباع منهج السلف الصالح .
    والكتاب قد طبع طبعاتٍ عديدة واعتنى به عدد من الأفاضل من المختصين بهذا الشأن فأردت أنْ أُشرك نفسي معهم في طبعةٍ متميزةٍ راجياً من الله أنْ ينفعني بها يوم الدين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم

 وقد كلفت الأخ الفاضل الدكتور سليمان بن عبد الله الميمان بالحصول على نسخ خطية للكتاب تعود إلى عصر المؤلف ، وقد تأخر الأمر عليَّ أكثر من عامٍ ونصف فاجتهدت في ضبط النص على النسخ المطبوعة مع الرجوع إلى موارد المصنف من كتب السنة المشرفة . أما التخريج فجعلته مختصراً على ما يذكره المصنف خشية تضخم حواشي الكتاب . وفيما يتعلق بالصحيحين فقد أحلت إلى صحيح البخاري بالجزء والصفحة على الطبعة الأميرية ثم أردفته برقم الحديث من فتح الباري ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، وأحلت إلى صحيح مسلم بالجزء والصفحة للطبعة الإستانبولية ثم أردفته برقم الحديث في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي ؛ وذلك لانتشار هذه الطبعات وتداولها . وأما التعليق على الأحاديث فقد شرحت بعض الغريب الذي لم يذكره المصنف وعلّقت على بعض الأشياء مما يحتاجه المسلم في حياته وعبادته ، وكان جُلُّ ذلك بالاعتماد على كتب أهل العلم لا سيما كتاب شرح النووي على صحيح مسلم ، وفتح الباري ، وشرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين رحم الله الجميع .

وأنا أنصح كل مسلم بالاهتمام بهذا الكتاب العظيم كتاب " رياض

الصالحين " ، وأنصح بمداومة قراءته مرة بعد مرة ، والاهتمام بحفظ أحاديثه ، وعلى صاحب العائلة أنْ يفقّه عائلته بهذا الكتاب . وكذا أنصح كل مسلم بالاهتمام بتوحيد الله (( فَإنَّ التَّوحيدَ حقيقتُهُ : أَنْ تَرى الأُمورَ كُلَّها مِنَ اللهِ تَعالى رؤيةً تقطعُ الالتفاتَ عن الأسبابِ والوسائطِ ، فلا ترى الخيرَ والشَّرَّ إلاَّ منه تعالى . وهذا المقامُ يُثمرُ التوكُّلَ ، وتركَ شِكايةِ الخلقِ ، وتركَ لومِهِم ، والرِّضا عن اللهِ تعالى ، والتّسليمَ لحكمِه .

وإِذا عرفتَ ذلكَ ؛ فاعلمْ أَنَّ الرُّبوبيَّةَ منه تعالى لعبادِهِ ، والتَّألُّه من عبادِه له سبحانه، كما أَنَّ الرحمةَ هي الوصلةُ بينهم وبينَهُ U .

واعلَم أَنَّ أَنْفسَ الأَعمالِ ، وأَجلَّها قدراً : توحيدُ اللهِ تعالى غَير أَنَّ التوحيدَ له قِشران :

الأوَّل : أَنْ تقولَ بِلِسَانِك : (( لا إله إلاَّ اللهُ )) ويُسمَّى هذا القولُ : توحيداً ، وهو مناقضُ التَّثْليثِ الذي تعتقدُه النَّصارى .

وهذا التوحيدُ يصدُرُ – أَيضاً – من المنافقِ الَّذي يُخالفُ سرُّه جهرَه .

والقِشْرُ الثَّاني : أَنْ لا تكونَ في القلبِ مخالفةٌ ، ولا إِنكارٌ لمفهومِ هذا القولِ ، بل يشتملُ القلبُ على اعتقادِ ذلك ، والتصديق به ، وهذا هو توحيدُ عامةِ النَّاسِ .

ولُبابُ التَّوحيد : أَنْ يَرى الأُمورَ كُلَّها من اللهِ تعالى ، ثم يقطعُ الالتفاتَ عن الوسائطِ ، وأَنْ يعبدَه سبحانه عبادةً يفردُه بها ولا يعبد غيرَه )) . ([2])

أخي قارئ هذا الكتاب ، يقول الله تعالى في كتابه العزيز : ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (

[ الحديد : 16 ] فأنت أيها المسلم الغيور تتميز عن غيرك من الناس بسمات الشرف والكرامة والغيرةِ على نفسك وعلى إخوتك المسلمين ، فاحرص كل الحرص على أنْ لا تفوتك فرصة كسب الثواب من الله بنشر ما يرضيه سبحانه ، واعلم أخي الكريم : ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً( ] الإسراء : 36[ .

أخي الكريم : إنَّ رحمة الله لا تنال بالأماني ولا بالأنساب ولا بالوظائف ولا بالأموال ، إنما تنال بطاعة الله ورسوله واتباع شريعته وذلك يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلنحذر جميعاً كل ما يغضب الله ولنمض إلى الله قدماً بلا تردد بتوبة صادقة قبل فوات الأوان )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ] النور : 63[ ، واعلم أنَّ الله خلق لكل إنسان أنفاساً معدودة وساعات محدودة ، عند انقضائها تقف دقات قلبه ، ويطوى سجله ، ويحال بينه وبين هذه الدار ، إما إلى دار أنس وبهجة ، وإما إلى دار شقاء ووحشة ، فمن زرع كلمات طيبة وأعمالاً صالحة أدخله الله الجنة ونعّمه بالنعيم المقيم ، ومن زرع أعمالاً سيئة وكلمات قبيحة دخل النار ، قال تعالى : ] وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً [ [ الكهف : 29] وتذكّر قوله تعالى : ] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [ [ الزلزلة : 7-8 ] فكل ما تعمله في هذه الدنيا الفانية تنال جزاءه إن خيراً فخير وإن شراً فشرٌ ، وتذكّر دائماً أنَّ الحياة نفس يذهب ولا يرجع ، ولا ينفع الندم بعدها فاعمل لنفسك ولا تقدّم ما يفنى على ما يبقى .

أخي الكريم : إنَّ أجمل سعادة وأعظم لذة يجدها الإنسان في هذه الحياة الفانية هي طاعة الله ومحبته والقرب إليه وكثرة الدعاء وقد صرّح تائبون كثيرون بأنّهم وجدوا أعظم متعة تمتعوها هي القرب إلى الله تعالى وحسن الظن به وكثرة مراقبته ، وأكثِرْ من الدعاء والذكر والاستغفار فلك في كل تسبيحة عشر حسنات ، حاولْ أنْ لا تجعل وقتك يذهب سدى ، أكثرْ من قراءة القرآن فلك في كل حرف عشر حسنات ، اقرأْ كتب العلم والأحاديث النبوية ، فَقِّه نفسك بأمور دينك ، عليك بكثرة التطوع والإكثار من صلاة النافلة ، وقد قال النبي r : (( إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة ))([3]) . كُنْ داعياً إلى الله تعالى ، كُنْ آمراً للناس بالمعروف وناهياً لهم عن المنكر ، قال تعالى : ] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ [ فصلت : 33 ] ، إياك وأعراض الناس لا تذكر أحداً بسوء ، ولا تغتب أحداً ، ولا تؤذي أحداً ، وقد قال النَّبيُّ r : (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )) ([4]) ، وقال أيضاً : (( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله ))([5]) ، وهذا نبينا الكريم قد حذرنا من احتقار المسلمين فقال : (( بحسب امرئ من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم )) ([6]) فإذا كان استحقاره عظيماً عند الله فكيف بإنزال الضُّرِّ به .

كُنْ رقيباً على نفسك ولسانك فكل كلام تنطقه تحاسب عليه إنْ كان

خيراً فخيرٌ وإنْ كان شراً فشرٌ، وقد قال النَّبيُّ r : (( إنَّك لم تزل سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك )) ([7]) ، وقال أيضاً : (( رحم الله عبداً قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فسلم )) ([8]) حافِظْ على نظرك فلا تنظر إلى محرّم ، وحافظ على سمعك فلا تسمع محرّماً ، قال تعالى : ) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً( ] الإسراء : 36[ . حافظ على جوارحك فلا تفعل محرّماً . ولا تنظر إلى صغر المعصية وتحسب الأمر هيناً ، ولكن انظر إلى من تعصي .

الزم هذا الدعاء : (( اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة )) .

هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

وكتب

ماهر بن ياسين بن فحل الدكتور

العراق - الأنبار - الرمادي

دار الحديث

26/2/1426ه‍

مقدمة المؤَلف الإمَام النوَوي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمْدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ ، العَزيزِ الغَفَّارِ ، مُكَوِّرِ([9]) اللَّيْلِ على النَّهَارِ ، تَذْكِرَةً لأُولي القُلُوبِ والأَبصَارِ ، وتَبْصرَةً لِذَوي الأَلبَابِ واَلاعتِبَارِ ، الَّذي أَيقَظَ مِنْ خَلْقهِ مَنِ اصطَفاهُ فَزَهَّدَهُمْ في هذهِ الدَّارِ ، وشَغَلهُمْ بمُراقبَتِهِ وَإِدَامَةِ الأَفكارِ ، ومُلازَمَةِ الاتِّعَاظِ والادِّكَارِ ، ووَفَّقَهُمْ للدَّأْبِ في طاعَتِهِ ، والتّأهُّبِ لِدَارِ القَرارِ ، والْحَذَرِ مِمّا يُسْخِطُهُ ويُوجِبُ دَارَ البَوَارِ ، والمُحافَظَةِ على ذلِكَ مَعَ تَغَايُرِ الأَحْوَالِ والأَطْوَارِ ، أَحْمَدُهُ أَبلَغَ حمْدٍ وأَزكَاهُ ، وَأَشمَلَهُ وأَنْمَاهُ ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ البَرُّ الكَرِيمُ ، الرؤُوفُ الرَّحيمُ ، وأشهَدُ أَنَّ سَيَّدَنا مُحمّداً عَبدُهُ ورَسُولُهُ ، وحبِيبُهُ وخلِيلُهُ ، الهَادِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ ، والدَّاعِي إِلَى دِينٍ قَويمٍ ، صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليهِ ، وَعَلَى سَائِرِ النَّبيِّينَ ، وَآلِ كُلٍّ ، وسَائِرِ الصَّالِحينَ .

أَما بعد ، فقد قال اللهُ تعالى : ) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ( [ الذاريات : 56 - 57 ] وَهَذا تَصْريحٌ بِأَنَّهُمْ خُلِقوا لِلعِبَادَةِ ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاعْتِنَاءُ بِمَا خُلِقُوا لَهُ وَالإعْرَاضُ عَنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا بالزَّهَادَةِ ، فَإِنَّهَا دَارُ نَفَادٍ لاَ مَحَلُّ إخْلاَدٍ ، وَمَرْكَبُ عُبُورٍ لاَ مَنْزِلُ حُبُورٍ ، ومَشْرَعُ انْفصَامٍ لاَ مَوْطِنُ دَوَامٍ ، فلِهذا كَانَ الأَيْقَاظُ مِنْ أَهْلِهَا هُمُ الْعُبَّادُ ، وَأعْقَلُ النَّاسِ فيهَا هُمُ الزُّهّادُ . قالَ اللهُ تعالى : ) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( [ يونس: 24 ]. والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ . ولقد أَحْسَنَ القَائِلُ([10]) :

إِنَّ للهِ عِبَاداً فُطَنَا

طَلَّقُوا الدُّنْيَا وخَافُوا الفِتَنَا

نَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا

أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا

جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَذُوا

صَالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا

فإذا كَانَ حالُها ما وصَفْتُهُ ، وحالُنَا وَمَا خُلِقْنَا لَهُ مَا قَدَّمْتُهُ ؛ فَحَقٌّ عَلَى الْمُكلَّفِ أَنْ يَذْهَبَ بنفسِهِ مَذْهَبَ الأَخْيارِ ، وَيَسلُكَ مَسْلَكَ أُولي النُّهَى وَالأَبْصَارِ ، وَيَتَأهَّبَ لِمَا أشَرْتُ إليهِ ، وَيَهْتَمَّ لِمَا نَبَّهتُ عليهِ . وأَصْوَبُ طريقٍ لهُ في ذَلِكَ ، وَأَرشَدُ مَا يَسْلُكُهُ مِنَ المسَالِكِ ، التَّأَدُّبُ بمَا صَحَّ عَنْ نَبِيِّنَا سَيِّدِ الأَوَّلينَ والآخرينَ ، وَأَكْرَمِ السَّابقينَ والَّلاحِقينَ ، صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ وَعَلى سَائِرِ النَّبيِّينَ . وقدْ قالَ اللهُ تعالى : ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ( [ المائدة :2 ] وقد صَحَّ عَنْ رسولِ الله r أَنَّهُ قالَ : (( واللهُ في عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ ))([11])، وَأَنَّهُ قالَ :

(( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ ))([12]) وأَنَّهُ قالَ : (( مَنْ دَعَا إِلى هُدىً كَانَ لَهُ مِنَ الأَجرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئاً ))([13]) وأَنَّهُ قالَ لِعَليٍّ t : (( فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ([14]) النَّعَمِ ))([15]) فَرَأَيتُ أَنْ أَجْمَعَ مُخْتَصَراً منَ الأحاديثِ الصَّحيحَةِ ، مشْتَمِلاً عَلَى مَا يكُونُ طَرِيقاً لِصَاحبهِ إِلى الآخِرَةِ ، ومُحَصِّلاً لآدَابِهِ البَاطِنَةِ وَالظَاهِرَةِ . جَامِعاً للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين : من أحاديث الزهد ورياضات النُّفُوسِ ، وتَهْذِيبِ الأَخْلاقِ ، وطَهَارَاتِ القُلوبِ وَعِلاجِهَا ، وصِيانَةِ الجَوَارحِ وَإِزَالَةِ اعْوِجَاجِهَا ، وغَيرِ ذلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعارفِينَ .

وَألتَزِمُ فيهِ أَنْ لا أَذْكُرَ إلاّ حَدِيثاً صَحِيحاً مِنَ الْوَاضِحَاتِ ، مُضَافاً إِلى الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُوراتِ . وأُصَدِّر الأَبْوَابَ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِآياتٍ كَرِيماتٍ ، وَأَوشِّحَ مَا يَحْتَاجُ إِلى ضَبْطٍ أَوْ شَرْحِ مَعْنىً خَفِيٍّ بِنَفَائِسَ مِنَ التَّنْبِيهاتِ . وإِذا قُلْتُ في آخِرِ حَدِيث : مُتَّفَقٌ عَلَيهِ فمعناه : رواه البخاريُّ ومسلمٌ .

وَأَرجُو إنْ تَمَّ هذَا الْكِتَابُ أنْ يَكُونَ سَائِقاً للمُعْتَنِي بِهِ إِلى الْخَيْرَاتِ حَاجزاً لَهُ عَنْ أنْواعِ الْقَبَائِحِ والْمُهْلِكَاتِ . وأَنَا سَائِلٌ أخاً انْتَفعَ بِشيءٍ مِنْهُ أنْ يَدْعُوَ لِي([16]) ، وَلِوَالِدَيَّ ، وَمَشَايخي ، وَسَائِرِ أَحْبَابِنَا ، وَالمُسْلِمِينَ أجْمَعِينَ . وعَلَى اللهِ الكَريمِ اعْتِمادي ، وَإِلَيْهِ تَفْويضي وَاسْتِنَادي ، وَحَسبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .

بسم الله الرحمن الرحيم

1- باب الإخلاص وإحضار النية

في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفية

قَالَ اللهُ تَعَالَى : ) وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( [ البينة : 5 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ( [ الحج : 37 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ([ آل عمران : 29 ] .

1- وعن أمير المؤمِنين أبي حَفْصٍ عمرَ بنِ الخطابِ بنِ نُفَيْلِ بنِ عبدِ العُزّى بن رياحِ بنِ عبدِ اللهِ بن قُرْطِ بن رَزاحِ بنِ عدِي بنِ كعب([17]) بنِ لُؤَيِّ بنِ غالبٍ القُرشِيِّ العَدويِّ t ، قالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ r ، يقُولُ : (( إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِىءٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه )) . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ . رَوَاهُ إمَامَا الْمُحَدّثِينَ ، أبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعيلَ بْن إبراهِيمَ بْن المُغيرَةِ بنِ بَرْدِزْبهْ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ ، وَأَبُو الحُسَيْنِ مُسْلمُ بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ مُسْلمٍ الْقُشَيريُّ النَّيْسَابُورِيُّ رضي اللهُ عنهما فِي صحيحيهما اللَّذَيْنِ هما أَصَحُّ الكُتبِ المصنفةِ .

2- وعن أمِّ المؤمِنينَ أمِّ عبدِ اللهِ عائشةَ رضي الله عنها ، قالت : قالَ

رسول الله r : (( يغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ )) . قَالَتْ : قلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ،كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهمْ أسْوَاقُهُمْ([18]) وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ؟! قَالَ : (( يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . هذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .

3- وعن عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها ، قَالَتْ : قَالَ النبي r : (( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ([19]) فانْفِرُوا )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَمَعناهُ : لا هِجْرَةَ مِنْ مَكّةَ لأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ إسلاَمٍ .

4- وعن أبي عبدِ اللهِ جابر بن عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضي اللهُ عنهما ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبيِّ r في غَزَاةٍ ، فَقالَ : (( إِنَّ بالمدِينَةِ لَرِجَالاً ما سِرْتُمْ مَسِيراً ، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً ، إلاَّ كَانُوا مَعَكمْ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ )) . وَفي روَايَة : (( إلاَّ شَرَكُوكُمْ في الأجْرِ )) رواهُ مسلمٌ .

ورواهُ البخاريُّ عن أنسٍ t ، قَالَ : رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبيِّ r ، فقال : (( إنَّ أقْواماً خَلْفَنَا بالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْباً([20]) وَلاَ وَادياً ، إلاّ وَهُمْ مَعَنَا ؛ حَبَسَهُمُ العُذْرُ )) .

5- وعن أبي يَزيدَ مَعْنِ بنِ يَزيدَ بنِ الأخنسِ y ، وهو وأبوه وَجَدُّه صحابيُّون ، قَالَ : كَانَ أبي يَزيدُ أخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا ، فَوَضعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ في الْمَسْجِدِ ، فَجِئْتُ فأَخذْتُها فَأَتَيْتُهُ بِهَا . فقالَ : واللهِ ، مَا إيَّاكَ أرَدْتُ ، فَخَاصَمْتُهُ إِلى رسولِ اللهِ r ، فقَالَ : (( لكَ مَا نَوَيْتَ يَا يزيدُ ، ولَكَ ما أخَذْتَ يَا مَعْنُ )) رواهُ البخاريُّ .

6- وعن أبي إسحاقَ سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ مالِكِ بنِ أُهَيْب بنِ عبدِ منافِ بنِ زُهرَةَ بنِ كلابِ([21]) بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤيٍّ القُرشِيِّ الزُّهريِّ t ، أَحَدِ العَشَرَةِ([22]) المشهودِ لهم بالجنةِ y ، قَالَ : جاءنِي رسولُ اللهِ r يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي ، فقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي قَدْ بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مالٍ وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي ، أفأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : (( لا )) ، قُلْتُ : فالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقَالَ : (( لا )) ، قُلْتُ : فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : (( الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ - أَوْ كبيرٌ - إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أغنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً([23]) يتكفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بِهَا وَجهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِيِّ امْرَأَتِكَ )) ، قَالَ : فَقُلتُ : يَا رسولَ اللهِ ، أُخلَّفُ([24]) بعدَ أصْحَابي ؟ قَالَ : (( إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلاً تَبتَغي بِهِ وَجْهَ اللهِ إلاَّ ازْدَدتَ بِهِ دَرَجةً ورِفعَةً ، وَلَعلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرونَ . اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابي هِجْرَتَهُمْ ولاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أعقَابهمْ ، لكنِ البَائِسُ سَعدُ بْنُ خَوْلَةَ )) يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ r أنْ ماتَ بمَكَّة . مُتَّفَقٌ عليهِ .

7- وعنْ أبي هريرةَ عبدِ الرحمانِ بنِ صخرٍ t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله r : (( إنَّ الله لا ينْظُرُ إِلى أجْسَامِكُمْ ، ولا إِلى صُوَرِكمْ ، وَلَكن ينْظُرُ إلى قُلُوبِكمْ وأعمالكم )) رواه مسلم .

8- وعن أبي موسى عبدِ اللهِ بنِ قيسٍ الأشعريِّ t ، قَالَ : سُئِلَ رسولُ الله r عَنِ الرَّجُلِ يُقاتلُ شَجَاعَةً ، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذلِكَ في سبيلِ الله ؟ فقال رَسُول الله r : (( مَنْ قَاتَلَ لِتَكونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيَا ، فَهوَ في سبيلِ اللهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

9- وعن أبي بَكرَةَ نُفيع بنِ الحارثِ الثقفيِّ t : أَنَّ النَّبيَّ r ، قَالَ : (( إِذَا التَقَى المُسلِمَان بسَيْفَيهِمَا فالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ في النّارِ )) قُلتُ : يا رَسُولَ اللهِ ،

هذا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المقْتُولِ ؟ قَالَ : (( إنَّهُ كَانَ حَريصاً عَلَى قتلِ صَاحِبهِ )) مُتَّفَقٌ عليهِ .

10- وعن أبي هريرةَ t ، قَالَ : قالَ رَسُول الله r : (( صَلاةُ الرَّجلِ في جمَاعَةٍ تَزيدُ عَلَى صَلاتهِ في سُوقِهِ وبيتهِ بضْعاً([25]) وعِشرِينَ دَرَجَةً ، وَذَلِكَ أنَّ أَحدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضوءَ ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ لا يُرِيدُ إلاَّ الصَّلاةَ ، لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَلاةُ : لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرجَةٌ ، وَحُطَّ عَنْهُ بها خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ ، فإِذا دَخَلَ المَسْجِدَ كَانَ في الصَّلاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِي تَحْبِسُهُ ، وَالمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ في مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ ، يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيهِ ، مَا لَم يُؤْذِ فيه ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ )) . مُتَّفَقٌ عليه ، وهذا لفظ مسلم .

وقوله r : (( يَنْهَزُهُ )) هُوَ بِفَتْحِ اليَاءِ والْهَاءِ وبالزَّايِ : أَيْ يُخْرِجُهُ ويُنْهضُهُ .

11- وعن أبي العبَّاسِ عبدِ اللهِ بنِ عباسِ بنِ عبد المطلب رضِيَ اللهُ عنهما ، عن رَسُول الله r ، فيما يروي عن ربهِ ، تباركَ وتعالى ، قَالَ : (( إنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ([26]) بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَها اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالى عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً ،وَإنْ هَمَّ بهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عَشْرَ حَسَناتٍ إِلى سَبْعمئةِ ضِعْفٍ إِلى أَضعَافٍ كَثيرةٍ ، وإنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلةً ، وَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً )) مُتَّفَقٌ عليهِ .

12- وعن أبي عبد الرحمان عبدِ الله بنِ عمرَ بن الخطابِ رضيَ اللهُ عنهما ، قَالَ : سمعتُ رسولَ الله r ، يقول : (( انطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ([27]) مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ المَبيتُ إِلى غَارٍ فَدَخلُوهُ، فانْحَدرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ ، فَقالُوا : إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أنْ تَدْعُوا اللهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ .

قَالَ رجلٌ مِنْهُمْ : اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كبيرانِ ، وكُنْتُ لا أغْبِقُ([28]) قَبْلَهُمَا أهْلاً ولاَ مالاً ، فَنَأَى([29]) بِي طَلَب الشَّجَرِ يَوْماً فلم أَرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا ، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُما نَائِمَينِ ، فَكَرِهْتُ أنْ أُوقِظَهُمَا وَأَنْ أغْبِقَ قَبْلَهُمَا أهْلاً أو مالاً ، فَلَبَثْتُ - والْقَدَحُ عَلَى يَدِي - أنتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرِقَ الفَجْرُ والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ([30]) عِنْدَ قَدَميَّ ، فاسْتَيْقَظَا فَشَرِبا غَبُوقَهُما . اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاء وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ ، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الخُروجَ مِنْهُ .

قَالَ الآخر : اللَّهُمَّ إنَّهُ كانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمّ ، كَانَتْ أَحَبَّ النّاسِ إليَّ - وفي رواية : كُنْتُ أُحِبُّها كأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النساءَ - فأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا([31]) فامْتَنَعَتْ منِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمئةَ دينَارٍ عَلَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْني وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفعَلَتْ ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا - وفي رواية : فَلَمَّا قَعَدْتُ بَينَ رِجْلَيْهَا ، قالتْ : اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلاّ بِحَقِّهِ([32]) ، فَانصَرَفْتُ عَنْهَا وَهيَ أَحَبُّ النَّاسِ إليَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أعْطَيتُها . اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فيهِ ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا .

وَقَالَ الثَّالِثُ : اللَّهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وأَعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُل واحدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهبَ، فَثمَّرْتُ أجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنهُ الأمْوَالُ، فَجَاءنِي بَعدَ حِينٍ ، فَقالَ : يَا عبدَ اللهِ ، أَدِّ إِلَيَّ أجْرِي ، فَقُلْتُ : كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أجْرِكَ : مِنَ الإبلِ وَالبَقَرِ والْغَنَمِ والرَّقيقِ ، فقالَ : يَا عبدَ اللهِ ، لاَ تَسْتَهْزِىءْ بي ! فَقُلْتُ : لاَ أسْتَهْزِئ بِكَ ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتَاقَهُ فَلَمْ يتْرُكْ مِنهُ شَيئاً . الَّلهُمَّ إنْ كُنتُ فَعَلْتُ ذلِكَ ابِتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحنُ فِيهِ ، فانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا

يَمْشُونَ ))([33]) مُتَّفَقٌ عليهِ .

2- باب التوبة

قَالَ العلماءُ : التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب ، فإنْ كَانتِ المَعْصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَتَعلَّقُ بحقّ آدَمِيٍّ فَلَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط :

أحَدُها : أنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ .

والثَّانِي : أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا .

والثَّالثُ : أنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَداً . فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ.

وإنْ كَانَتِ المَعْصِيةُ تَتَعَلقُ بآدَمِيٍّ فَشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ : هذِهِ الثَّلاثَةُ ، وأنْ يَبْرَأ مِنْ حَقّ صَاحِبِها ، فَإِنْ كَانَتْ مالاً أَوْ نَحْوَهُ رَدَّهُ إِلَيْه ، وإنْ كَانَت حَدَّ قَذْفٍ ونَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ ، وإنْ كَانْت غِيبَةً استَحَلَّهُ مِنْهَا . ويجِبُ أنْ يَتُوبَ مِنْ جميعِ الذُّنُوبِ ، فَإِنْ تَابَ مِنْ بَعْضِها صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ مِنْ ذلِكَ الذَّنْبِ وبَقِيَ عَلَيهِ البَاقي . وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلائِلُ الكتَابِ والسُّنَّةِ ، وإجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَى وُجوبِ التَّوبةِ .

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( [ النور : 31 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ( [ هود : 3 ] ، وَقالَ تَعَالَى: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا ( [ التحريم : 8 ].

13- وعن أبي هريرةَ t ، قَالَ : سمعْتُ رسولَ الله r ، يقول : (( والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً )) رواه البخاري .

14- وعن الأَغَرِّ بنِ يسار المزنِيِّ t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ )) رواه مسلم .

15- وعن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ- خادِمِ رسولِ الله r - t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله r : (( للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ([34]) )) مُتَّفَقٌ عليه .

وفي رواية لمُسْلمٍ : (( للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلاةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ فأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ في ظِلِّهَا وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا([35]) ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ : اللَّهُمَّ أنْتَ عَبدِي وأنا رَبُّكَ ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ )) .

16- وعن أبي موسَى عبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ الأشْعريِّ t ، عن النَّبيّ r ،قَالَ : (( إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها )) رواه مسلم .

17- وعن أبي هُريرةَ t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ r : (( مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها تَابَ اللهُ عَلَيهِ )) رواه مسلم .

18- وعن أبي عبد الرحمان عبد الله بنِ عمَرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهما ، عن النَّبي r، قَالَ : (( إِنَّ الله U يَقْبَلُ تَوبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ([36]) )) رواه الترمذي، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

19- وعن زِرِّ بن حُبَيْشٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ t أسْألُهُ عَن الْمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ ، فَقالَ : ما جاءَ بكَ يَا زِرُّ ؟ فقُلْتُ : ابتِغَاء العِلْمِ ، فقالَ : إنَّ المَلائكَةَ تَضَعُ أجْنِحَتَهَا لطَالبِ العِلْمِ رِضىً بِمَا يطْلُبُ . فقلتُ : إنَّهُ قَدْ حَكَّ في صَدْري المَسْحُ عَلَى الخُفَّينِ بَعْدَ الغَائِطِ والبَولِ ، وكُنْتَ امْرَءاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ r فَجئتُ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَهُ يَذكُرُ في ذلِكَ شَيئاً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كَانَ يَأْمُرُنا إِذَا كُنَّا سَفراً - أَوْ مُسَافِرينَ - أنْ لا نَنْزعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيهنَّ إلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ ، لكنْ مِنْ غَائطٍ وَبَولٍ ونَوْمٍ . فقُلْتُ : هَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكرُ في الهَوَى شَيئاً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كُنّا مَعَ رسولِ اللهِ r في سَفَرٍ ، فبَيْنَا نَحْنُ عِندَهُ إِذْ نَادَاه أَعرابيٌّ بصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ([37]) : يَا مُحَمَّدُ ، فأجابهُ رسولُ الله r نَحْواً مِنْ صَوْتِه : (( هَاؤُمْ([38]) )) فقُلْتُ لَهُ :

وَيْحَكَ ([39]) ! اغْضُضْ مِنْ صَوتِكَ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبي r ، وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هذَا ! فقالَ : والله لاَ أغْضُضُ . قَالَ الأعرَابيُّ : المَرْءُ يُحبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يلْحَقْ بِهِمْ ؟ قَالَ النَّبيُّ r : (( المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَومَ القِيَامَةِ )) . فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَاباً مِنَ المَغْرِبِ مَسيرَةُ عَرْضِهِ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكبُ في عَرْضِهِ أرْبَعينَ أَوْ سَبعينَ عاماً – قَالَ سُفْيانُ أَحدُ الرُّواةِ : قِبَلَ الشَّامِ – خَلَقَهُ الله تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ مَفْتوحاً للتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ. رواه الترمذي وغيره، وَقالَ: ((حديث حسن صحيح)).

20- وعن أبي سَعيد سَعْدِ بنِ مالكِ بنِ سِنَانٍ الخدريِّ t : أنّ نَبِيَّ الله r ، قَالَ : (( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعينَ نَفْساً ، فَسَأَلَ عَنْ أعْلَمِ أَهْلِ الأرضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ، فَأَتَاهُ . فقال : إنَّهُ قَتَلَ تِسعَةً وتِسْعِينَ نَفْساً فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوبَةٍ ؟ فقالَ : لا ، فَقَتَلهُ فَكَمَّلَ بهِ مئَةً ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ . فقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فقالَ : نَعَمْ ، ومَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلى أرضِ كَذَا وكَذَا فإِنَّ بِهَا أُناساً يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى فاعْبُدِ الله مَعَهُمْ ، ولاَ تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أرضُ سُوءٍ ، فانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذَابِ . فَقَالتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ : جَاءَ تَائِباً ، مُقْبِلاً بِقَلبِهِ إِلى اللهِ تَعَالَى ، وقالتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ : إنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خَيراً قَطُّ ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ

- أيْ حَكَماً - فقالَ : قِيسُوا ما بينَ الأرضَينِ فَإلَى أيّتهما كَانَ أدنَى فَهُوَ لَهُ . فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أدْنى إِلى الأرْضِ التي أرَادَ ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحمةِ )) مُتَّفَقٌ عليه .

وفي رواية في الصحيح : (( فَكَانَ إلى القَريَةِ الصَّالِحَةِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أهلِهَا )) .

وفي رواية في الصحيح : (( فَأَوحَى الله تَعَالَى إِلى هذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي ، وإِلَى هذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي ، وقَالَ : قِيسُوا مَا بيْنَهُما ، فَوَجَدُوهُ إِلى هذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ )) . وفي رواية : (( فَنَأى بصَدْرِهِ نَحْوَهَا )) .

21- وعن عبدِ الله بن كعبِ بنِ مالكٍ ، وكان قائِدَ كعبٍ t مِنْ بَنِيهِ حِينَ عمِيَ ، قَالَ : سَمِعتُ كَعْبَ بنَ مالكٍ t يُحَدِّثُ بحَديثهِ حينَ تَخلَّفَ عن رسولِ اللهِ r في غَزْوَةِ تَبُوكَ . قَالَ كعبٌ : لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رسولِ الله r في غَزْوَةٍ غزاها قط إلا في غزوة تَبُوكَ ، غَيْرَ أنّي قَدْ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ ، ولَمْ يُعَاتَبْ أَحَدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ ؛ إِنَّمَا خَرَجَ رسولُ الله r والمُسْلِمُونَ يُريدُونَ عِيرَ([40]) قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ الله تَعَالَى بَيْنَهُمْ وبَيْنَ عَدُوِّهمْ عَلَى غَيْر ميعادٍ . ولَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رسولِ الله r لَيلَةَ العَقَبَةِ حينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلامِ ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ ، وإنْ كَانَتْ بدرٌ أذْكَرَ في النَّاسِ مِنْهَا . وكانَ مِنْ خَبَري حينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رسولِ اللهِ r في غَزْوَةِ تَبُوكَ أنِّي لم أكُنْ قَطُّ أَقْوى ولا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عنْهُ في تِلكَ الغَزْوَةِ ، وَالله ما جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رسولُ الله r يُريدُ غَزْوَةً إلاَّ وَرَّى([41]) بِغَيرِها حَتَّى كَانَتْ تلْكَ الغَزْوَةُ ، فَغَزَاها رسولُ الله r في حَرٍّ شَديدٍ ، واسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً ، وَاستَقْبَلَ عَدَداً كَثِيراً ، فَجَلَّى للْمُسْلِمينَ أمْرَهُمْ ليتَأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهمْ فأَخْبرَهُمْ بوَجْهِهِمُ الَّذِي يُريدُ ، والمُسلِمونَ مَعَ رسولِ الله كثيرٌ وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ ( يُريدُ بذلِكَ الدّيوَانَ([42]) ) قَالَ كَعْبٌ : فَقَلَّ رَجُلٌ يُريدُ أنْ يَتَغَيَّبَ إلاَّ ظَنَّ أنَّ ذلِكَ سيخْفَى بِهِ ما لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ الله ، وَغَزا رَسُول الله r تِلْكَ الغَزوَةَ حِينَ طَابَت الثِّمَارُ وَالظِّلالُ ، فَأنَا إلَيْهَا أصْعَرُ([43]) ، فَتَجَهَّزَ رسولُ الله r وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ وطَفِقْتُ أغْدُو لكَيْ أتَجَهَّزَ مَعَهُ ، فأرْجِعُ وَلَمْ أقْضِ شَيْئاً ، وأقُولُ في نفسي : أنَا قَادرٌ عَلَى ذلِكَ إِذَا أَرَدْتُ ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمادى بي حَتَّى اسْتَمَرَّ بالنَّاسِ الْجِدُّ ، فأصْبَحَ رسولُ الله r غَادياً والمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أقْضِ مِنْ جِهَازي شَيْئاً ، ثُمَّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أقْضِ شَيئاً ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بي حَتَّى أسْرَعُوا وتَفَارَطَ الغَزْوُ ، فَهَمَمْتُ أنْ أرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ ، فَيَا لَيْتَني فَعَلْتُ ، ثُمَّ لم يُقَدَّرْ ذلِكَ لي ، فَطَفِقْتُ إذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ r يَحْزُنُنِي أنِّي لا أرَى لي أُسْوَةً ، إلاّ رَجُلاً مَغْمُوصَاً([44]) عَلَيْهِ في النِّفَاقِ ، أوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءِ ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ r حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القَوْمِ بِتَبُوكَ : (( ما فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ )) فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ : يا رَسُولَ اللهِ ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والنَّظَرُ في عِطْفَيْهِ([45]) . فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ t : بِئْسَ مَا قُلْتَ ! واللهِ يا رَسُولَ اللهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلاَّ خَيْرَاً ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ r . فَبَيْنَا هُوَ عَلى ذَلِكَ رَأى رَجُلاً مُبْيِضاً يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r : (( كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ )) ، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِيْنَ لَمَزَهُ المُنَافِقُونَ .

قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي ، فَطَفِقْتُ أتَذَكَّرُ الكَذِبَ وأقُولُ : بِمَ أخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدَاً ؟ وأسْتَعِيْنُ عَلى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رأْيٍ مِنْ أهْلِي ، فَلَمَّا قِيْلَ : إنَّ رَسُولَ اللهِ r قّدْ أظَلَّ قَادِمَاً ، زَاحَ عَنّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيءٍ أَبَداً ، فَأجْمَعْتُ صدْقَهُ وأَصْبَحَ رَسُولُ الله r قَادِماً ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ جَاءهُ المُخَلَّفُونَ يَعْتَذِرونَ إِلَيْه ويَحْلِفُونَ لَهُ ، وَكَانُوا بِضْعاً وَثَمانينَ رَجُلاً ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلى الله تَعَالَى ، حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ. ثُمَّ قَالَ : (( تَعَالَ )) ، فَجِئْتُ أمْشي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فقالَ لي : (( مَا خَلَّفَكَ ؟ ألَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ؟ )) قَالَ : قُلْتُ : يَا رسولَ الله ، إنّي والله لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا لَرَأيتُ أنِّي سَأخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ ؛ لقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً ، ولَكِنِّي والله لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليوم حَدِيثَ كَذبٍ تَرْضَى به عنِّي لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ ، وإنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى الله U ، والله ما كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ ، واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ . قَالَ : فقالَ رسولُ الله r : (( أمَّا هَذَا فقَدْ صَدَقَ ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فيكَ )) . وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَة فاتَّبَعُوني فَقالُوا لِي : واللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هذَا لَقَدْ عَجَزْتَ في أنْ لا تَكونَ اعتَذَرْتَ إِلَى رَسُول الله r بما اعْتَذَرَ إليهِ المُخَلَّفُونَ ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُول الله r لَكَ . قَالَ : فَوالله ما زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُّ أَنْ أرْجعَ إِلَى رسولِ الله r فأُكَذِّبَ نَفْسِي ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ : هَلْ لَقِيَ هذَا مَعِيَ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلانِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ ، وَقيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قيلَ لَكَ ، قَالَ : قُلْتُ : مَنْ هُما ؟ قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرَّبيع الْعَمْرِيُّ ، وهِلاَلُ ابنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ ؟ قَالَ : فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صَالِحَينِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً فيهِما أُسْوَةٌ ، قَالَ : فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُما لِي . ونَهَى رَسُول الله r عَنْ كَلامِنا أيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ، فاجْتَنَبَنَا النَّاسُ - أوْ قَالَ : تَغَيَّرُوا لَنَا - حَتَّى تَنَكَّرَتْ لي في نَفْسي الأَرْض ، فَمَا هِيَ بالأرْضِ الَّتي أعْرِفُ ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً . فَأمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانا وقَعَدَا في بُيُوتِهِمَا يَبْكيَان . وأمَّا أنَا فَكُنْتُ أشَبَّ الْقَومِ وأجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أخْرُجُ فَأشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ ، وأطُوفُ في الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رسولَ الله r فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، فَأَقُولُ في نَفسِي : هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْه برَدِّ السَّلام أَمْ لاَ ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَريباً مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ ، فَإِذَا أقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي ، حَتَّى إِذَا طَال ذلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ المُسْلِمينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدارَ حائِط أبي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاس إِلَيَّ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَليَّ السَّلامَ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أنْشُدُكَ بالله هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ r ؟ فَسَكَتَ ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ : اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ ، فَبَيْنَا أَنَا أمْشِي في سُوقِ الْمَدِينة إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ([46]) أهْلِ الشَّام مِمّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ : مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيَّ حَتَّى جَاءنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ ، وَكُنْتُ كَاتباً . فَقَرَأْتُهُ فإِذَا فِيهِ : أَمَّا بَعْدُ، فإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنا أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بدَارِ هَوانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ([47]) ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا : وَهَذِهِ أَيضاً مِنَ البَلاءِ ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهَا ، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسينَ وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ إِذَا رسولُ رسولِ الله r يَأتِيني ، فَقالَ : إنَّ رسولَ الله r يَأمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأتَكَ ، فَقُلْتُ : أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ ؟ فَقالَ : لاَ ، بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبَنَّهَا ، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذلِكَ . فَقُلْتُ لامْرَأتِي : الْحَقِي بِأهْلِكِ([48]) فَكُوني عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ في هَذَا الأمْرِ . فَجَاءتِ امْرَأةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رسولَ الله r فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ الله ، إنَّ هِلاَلَ بْنَ أمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ ، فَهَلْ تَكْرَهُ أنْ أخْدُمَهُ ؟ قَالَ : (( لاَ ، وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ )) فَقَالَتْ : إِنَّهُ واللهِ ما بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَومِهِ هَذَا . فَقَالَ لي بَعْضُ أهْلِي : لَو اسْتَأْذَنْتَ رسولَ الله r في امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِن لاِمْرَأةِ هلاَل بْنِ أمَيَّةَ أنْ تَخْدُمَهُ ؟ فَقُلْتُ : لاَ أسْتَأذِنُ فيها رسولَ الله r ، وَمَا يُدْرِيني مَاذَا يقُول رسولُ الله r إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ ! فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ([49]) لَنا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلاَمِنا ، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحالِ الَّتي ذَكَرَ الله تَعَالَى مِنَّا ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أوفَى عَلَى سَلْعٍ([50]) يَقُولُ بِأعْلَى صَوتِهِ : يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أبْشِرْ ، فَخَرَرْتُ سَاجِداً([51]) ، وَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ . فآذَنَ رسولُ الله r النَّاسَ بِتَوْبَةِ الله U عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاةَ الفَجْر فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا ، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَساً وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أسْلَمَ قِبَلِي ، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ ، فَكانَ الصَّوْتُ أسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ ، فَلَمَّا جَاءني الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُني نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إيَّاهُ بِبشارته، وَاللهِ مَا أمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبسْتُهُما ، وَانْطَلَقْتُ أتَأمَّمُ رسولَ الله r يَتَلَقَّاني النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهنِّئونَني بالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ لِي : لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ الله عَلَيْكَ . حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رسولُ الله r جَالِسٌ حَوْلَه النَّاسُ ، فَقَامَ([52])طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ t يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَني وَهَنَّأَنِي ، والله مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرينَ غَيرُهُ - فَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ - .

قَالَ كَعْبٌ : فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ الله r قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُور : (( أبْشِرْ بِخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ )) فَقُلْتُ : أمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُول الله أَمْ مِنْ عِندِ الله ؟ قَالَ : (( لاَ ، بَلْ مِنْ عِنْدِ الله U )) ، وَكَانَ رسولُ الله r إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذلِكَ مِنْهُ ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ : يَا رسولَ الله ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولهِ . فَقَالَ رسولُ الله r : (( أمْسِكَ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ )) . فقلتُ : إِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيبَر . وَقُلْتُ : يَا رسولَ الله ، إنَّ الله تَعَالَى إِنَّمَا أنْجَانِي بالصِّدْقِ ، وإنَّ مِنْ تَوْبَتِي أنْ لا أُحَدِّثَ إلاَّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ ، فوَالله مَا عَلِمْتُ أَحَداً مِنَ المُسْلِمينَ أبْلاهُ الله تَعَالَى في صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله r أحْسَنَ مِمَّا أبْلانِي الله تَعَالَى ، واللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذلِكَ لِرسولِ الله r إِلَى يَومِيَ هَذَا ، وإنِّي لأرْجُو أنْ يَحْفَظَنِي الله تَعَالَى فيما بَقِيَ ، قَالَ : فأَنْزَلَ الله تَعَالَى : ) لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ( حَتَّى بَلَغَ : ) إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ( حَتَّى بَلَغَ : ) اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ( [ التوبة : 117-119 ] قَالَ كَعْبٌ : واللهِ ما أنْعَمَ الله عَليَّ مِنْ نعمةٍ قَطُّ بَعْدَ إذْ هَدَاني اللهُ للإِسْلامِ أَعْظَمَ في نَفْسِي مِنْ صِدقِي رسولَ الله r أنْ لا أكونَ كَذَبْتُهُ ، فَأَهْلِكَ كما هَلَكَ الَّذينَ كَذَبُوا ؛ إنَّ الله تَعَالَى قَالَ للَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أنْزَلَ الوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ ، فقال الله تَعَالَى : ) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( [ التوبة : 95-96 ] قَالَ كَعْبٌ : كُنّا خُلّفْنَا أيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أمْرِ أُولئكَ الذينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رسولُ الله r حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وأرجَأَ رسولُ الله r أمْرَنَا حَتَّى قَضَى الله تَعَالَى فِيهِ بذِلكَ . قَالَ الله تَعَالَى : ) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ( وَليْسَ الَّذِي ذَكَرَ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخلُّفُنَا عن الغَزْو ، وإنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إيّانا وإرْجَاؤُهُ أمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ واعْتَذَرَ إِلَيْهِ فقبِلَ مِنْهُ([53]). مُتَّفَقٌ عليه .

وفي رواية : أنَّ النَّبيّ r خَرَجَ في غَزْوَةِ تَبْوكَ يَومَ الخَميسِ وكانَ يُحِبُّ أنْ يخْرُجَ يومَ الخمِيس .

وفي رواية : وكانَ لاَ يقْدمُ مِنْ سَفَرٍ إلاَّ نَهَاراً في الضُّحَى ، فإِذَا قَدِمَ بَدَأَ بالمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِيهِ .

22- وَعَنْ أبي نُجَيد - بضَمِّ النُّونِ وفتحِ الجيم - عِمْرَانَ بنِ الحُصَيْنِ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنهما : أنَّ امْرَأةً مِنْ جُهَيْنَةَ أتَتْ رسولَ الله r وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى ، فقالتْ : يَا رسولَ الله ، أصَبْتُ حَدّاً فَأَقِمْهُ عَلَيَّ ، فَدَعَا نَبيُّ الله r وَليَّها ، فقالَ :

(( أَحْسِنْ([54]) إِلَيْهَا ، فإذا وَضَعَتْ فَأْتِني )) فَفَعَلَ فَأَمَرَ بهَا نبيُّ الله r ، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا. فقالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُول الله وَقَدْ زَنَتْ ؟ قَالَ: (( لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفضَلَ مِنْ أنْ جَادَتْ بنفْسِها لله U ؟! )) رواه مسلم .

23- وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسُولَ الله r ، قَالَ : (( لَوْ أنَّ لابنِ آدَمَ وَادِياً مِنْ ذَهَبٍ أحَبَّ أنْ يكُونَ لَهُ وَادِيانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتْوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ )) مُتَّفَقٌ عليه .

24- وعن أبي هريرة t أنَّ رسولَ الله r ، قَالَ : (( يَضْحَكُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى رَجُلَيْنِ يقْتلُ أَحَدهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ ، يُقَاتِلُ هَذَا في سَبيلِ اللهِ فَيُقْتَلُ ، ثُمَّ يتُوبُ اللهُ عَلَى القَاتلِ فَيُسْلِم فَيُسْتَشْهَدُ )) مُتَّفَقٌ عليه .

3- باب الصبر

قَالَ الله تَعَالَى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ( [ آل عمران : 200 ]، وقال تعالى : ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( [ البقرة : 155] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب ( [ الزمر :10 ] ، وَقالَ تَعَالَى: ) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( [الشورى: 43 ] ، وَقالَ تَعَالَى: ) اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( [البقرة : 153]، وَقالَ تَعَالَى : ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ (

[ محمد : 31 ] ، وَالآياتُ في الأمر بالصَّبْر وَبَيانِ فَضْلهِ كَثيرةٌ مَعْرُوفةٌ .

25- وعن أبي مالكٍ الحارث بن عاصم الأشعريِّ t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمان ، والحَمدُ لله تَمْلأُ الميزَانَ ، وَسُبْحَانَ الله والحَمدُ لله تَملآن - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَينَ السَّماوات وَالأَرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ ، والصَّدقةُ بُرهَانٌ ، والصَّبْرُ ضِياءٌ ، والقُرْآنُ حُجةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ([55]) . كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائعٌ نَفسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُها )) رواه مسلم .

26- وعن أبي سَعيد سعدِ بن مالكِ بنِ سنانٍ الخدري رضي الله عنهما : أَنَّ نَاساً مِنَ الأَنْصَارِ سَألوا رسولَ الله r فَأعْطَاهُمْ ، ثُمَّ سَألوهُ فَأعْطَاهُمْ ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِندَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أنْفْقَ كُلَّ شَيءٍ بِيَدِهِ : (( مَا يَكُنْ عِنْدي مِنْ خَيْر فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفهُ اللهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ . وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْر([56]) )) مُتَّفَقٌ عليه .

27- وعن أبي يحيى صهيب بن سنانٍ t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r :

(( عَجَباً لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِن : إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيراً لَهُ ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْراً لَهُ )) رواه مسلم .

28- وعن أنَسٍ t ، قَالَ : لَمَّا ثَقُلَ([57]) النَّبيُّ r جَعلَ يَتَغَشَّاهُ الكَرْبُ ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها : وَاكَربَ أَبَتَاهُ . فقَالَ : (( لَيْسَ عَلَى أَبيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ )) فَلَمَّا مَاتَ ، قَالَتْ : يَا أَبَتَاهُ ، أَجَابَ رَبّاً دَعَاهُ ! يَا أَبتَاهُ ، جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأْوَاهُ ! يَا أَبَتَاهُ ، إِلَى جبْريلَ نَنْعَاهُ ! فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ رَضي الله عنها : أَطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُول الله r التُّرَابَ ؟! رواه البخاري .

29- وعن أبي زَيدٍ أُسَامَةَ بنِ زيدِ بنِ حارثةَ مَوْلَى رسولِ الله r وحِبِّه وابنِ حبِّه رضي اللهُ عنهما ، قَالَ : أرْسَلَتْ بنْتُ النَّبيِّ r إنَّ ابْني قَد احْتُضِرَ فَاشْهَدنَا ، فَأَرْسَلَ يُقْرىءُ السَّلامَ ، ويقُولُ : (( إنَّ لله مَا أخَذَ وَلَهُ مَا أعطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأجَلٍ مُسَمًّى فَلتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ )) فَأَرسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيهِ لَيَأتِينَّهَا . فقامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابتٍ ، وَرجَالٌ y ، فَرُفعَ إِلَى رَسُول الله r الصَّبيُّ ، فَأقْعَدَهُ في حِجْرِهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ ، فَفَاضَتْ عَينَاهُ فَقالَ سَعدٌ : يَا رسولَ الله ، مَا هَذَا ؟ فَقالَ : (( هذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَها اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ عِبَادِهِ )) وفي رواية : (( فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ ، وَإِنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وَمَعنَى (( تَقَعْقَعُ )) : تَتَحرَّكُ وتَضْطَربُ .

30- وعن صهيب t : أنَّ رسولَ الله r ، قَالَ : (( كَانَ مَلِكٌ فيمَنْ كَانَ قَبلَكمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ للمَلِكِ : إنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إلَيَّ غُلاماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ؛ فَبَعثَ إِلَيْهِ غُلاماً يُعَلِّمُهُ ، وَكانَ في طرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ ، فَقَعدَ إِلَيْه وسَمِعَ كَلامَهُ فَأعْجَبَهُ ، وَكانَ إِذَا أتَى السَّاحِرَ ، مَرَّ بالرَّاهبِ وَقَعَدَ إِلَيْه ، فَإذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ ، فَشَكَا ذلِكَ إِلَى الرَّاهِب ، فَقَالَ : إِذَا خَشيتَ السَّاحِرَ ، فَقُلْ : حَبَسَنِي أَهْلِي ، وَإذَا خَشِيتَ أهلَكَ ، فَقُلْ : حَبَسَنِي السَّاحِرُ([58]) .

فَبَيْنَما هُوَ عَلَى ذلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ ، فَقَالَ : اليَوْمَ أعْلَمُ السَّاحرُ أفْضَلُ أم الرَّاهبُ أفْضَلُ ؟ فَأخَذَ حَجَراً، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِهِ الدّابَّةَ حَتَّى يَمضِي النَّاسُ ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَها ومَضَى النَّاسُ ، فَأتَى الرَّاهبَ فَأَخبَرَهُ . فَقَالَ لَهُ الرَّاهبُ : أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليَومَ أفْضَل منِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى ، وَإنَّكَ سَتُبْتَلَى ، فَإن ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَيَّ ؛ وَكانَ الغُلامُ يُبْرىءُ الأكْمَهَ وَالأَبْرصَ ، ويداوي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاء . فَسَمِعَ جَليسٌ لِلملِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ ، فأتاه بَهَدَايا كَثيرَةٍ ، فَقَالَ : مَا ها هُنَا لَكَ أَجْمعُ إنْ أنتَ شَفَيتَنِي ، فَقَالَ : إنّي لا أشْفِي أحَداً إِنَّمَا يَشفِي اللهُ تَعَالَى ، فَإنْ آمَنْتَ بالله تَعَالَى دَعَوتُ اللهَ فَشفَاكَ ، فَآمَنَ بالله تَعَالَى فَشفَاهُ اللهُ تَعَالَى ، فَأَتَى المَلِكَ فَجَلسَ إِلَيْهِ كَما كَانَ يَجلِسُ ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ : مَنْ رَدّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ؟ قَالَ : رَبِّي ، قَالَ : وَلَكَ رَبٌّ غَيري ؟ قَالَ : رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ ، فَجيء بالغُلاَمِ ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ : أيْ بُنَيَّ ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرىء الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ([59]) وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ ! فَقَالَ : إنِّي لا أَشْفي أحَداً ، إِنَّمَا يَشفِي الله تَعَالَى . فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهبِ ؛ فَجِيء بالرَّاهبِ فَقيلَ لَهُ : ارجِعْ عَنْ دِينكَ ، فَأَبَى ، فَدَعَا بِالمِنْشَارِ([60]) فَوُضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرق رَأسِهِ ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ، ثُمَّ جِيءَ بِجَليسِ المَلِكِ فقيل لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ ، فَأَبَى ، فَوضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرِق رَأسِهِ ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ، ثُمَّ جِيءَ بالغُلاَمِ فقيلَ لَهُ : ارْجِعْ عَنْ دِينكَ ، فَأَبَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابهِ ، فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الجَبَل ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلاَّ فَاطْرَحُوهُ . فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أكْفنيهمْ بِمَا شِئْتَ ، فَرَجَفَ بهِمُ الجَبلُ فَسَقَطُوا([61]) ، وَجاءَ يَمشي إِلَى المَلِكِ ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ : مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ ؟ فَقَالَ : كَفَانِيهمُ الله تَعَالَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ فاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ وتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ ، فَإنْ رَجعَ عَنْ دِينِهِ وإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ . فَذَهَبُوا بِهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أكْفِنيهمْ بمَا شِئْتَ ، فانْكَفَأَتْ بِهمُ السَّفينةُ فَغَرِقُوا ، وَجَاء يَمْشي إِلَى المَلِكِ . فَقَالَ لَهُ المَلِكُ : مَا فعلَ أصْحَابُكَ ؟ فَقَالَ : كَفَانيهمُ الله تَعَالَى . فَقَالَ لِلمَلِكِ : إنَّكَ لَسْتَ بقَاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ . قَالَ : مَا هُوَ ؟ قَالَ : تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعيدٍ وَاحدٍ وتَصْلُبُني عَلَى جِذْعٍ ، ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتي ، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُلْ : بسْم الله ربِّ الغُلاَمِ([62]) ، ثُمَّ ارْمِني، فَإنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلتَني، فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعيد واحدٍ ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ ، ثُمَّ قَالَ : بِسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوقَعَ في صُدْغِهِ([63]) ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ فَمَاتَ ، فَقَالَ النَّاسُ : آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ ، فَأُتِيَ المَلِكُ فقيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ والله نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ . قَدْ آمَنَ النَّاسُ . فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ بأفْواهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ([64]) وأُضْرِمَ فيهَا النِّيرانُ وَقَالَ : مَنْ لَمْ يَرْجعْ عَنْ دِينهِ فَأقْحموهُ فيهَا ، أَوْ قيلَ لَهُ: اقتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءت امْرَأةٌ وَمَعَهَا صَبيٌّ لَهَا ، فَتَقَاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فيهَا، فَقَالَ لَهَا الغُلامُ : يَا أُمهْ اصْبِري فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ ! )) رواه مسلم .

(( ذِروَةُ الجَبَلِ )) : أعْلاهُ ، وَهيَ - بكَسْر الذَّال المُعْجَمَة وَضَمِّهَا - و(( القُرْقُورُ )) : بضَمِّ القَافَينِ نَوعٌ مِنَ السُّفُن وَ(( الصَّعيدُ )) هُنَا : الأَرضُ البَارِزَةُ وَ(( الأُخْدُودُ )) الشُّقُوقُ في الأَرضِ كَالنَّهْرِ الصَّغير ، وَ(( أُضْرِمَ )) : أوْقدَ ، وَ(( انْكَفَأتْ )) أَي : انْقَلَبَتْ ، وَ(( تَقَاعَسَتْ )) : تَوَقفت وجبنت .

31- وعن أنس t ، قَالَ : مَرَّ النَّبيُّ r بامرأةٍ تَبكي عِنْدَ قَبْرٍ ، فَقَالَ :

(( اتّقِي الله واصْبِري )) فَقَالَتْ : إِليْكَ عَنِّي ؛ فإِنَّكَ لم تُصَبْ بمُصِيبَتي وَلَمْ تَعرِفْهُ ، فَقيلَ لَهَا : إنَّه النَّبيُّ r فَأَتَتْ بَابَ النَّبيِّ r ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابينَ ، فقالتْ : لَمْ أعْرِفكَ ، فَقَالَ : (( إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولى([65]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية لمسلم : (( تبكي عَلَى صَبيٍّ لَهَا )) .

32- وعن أبي هريرة t : أنَّ رسولَ الله r ، قَالَ : (( يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : مَا لعَبدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ([66]) مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلاَّ الجَنَّةَ )) رواه البخاري .

33- وعن عائشةَ رضيَ الله عنها: أَنَّهَا سَألَتْ رسولَ الله r عَنِ الطّاعُونِ([67])، فَأَخْبَرَهَا أنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يشَاءُ ، فَجَعَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للْمُؤْمِنينَ ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ في الطَّاعُونِ فيمكثُ في بلدِهِ صَابراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أنَّهُ لا يصيبُهُ إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ الشّهيدِ . رواه البخاري .

34- وعن أنس t ، قَالَ : سمعتُ رسولَ الله r ، يقول : (( إنَّ الله U ، قَالَ : إِذَا ابْتَلَيْتُ عبدي بحَبيبتَيه فَصَبرَ عَوَّضتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ )) يريد عينيه ، رواه البخاري .

35- وعن عطَاء بن أبي رَباحٍ ، قَالَ : قَالَ لي ابنُ عَباسٍ رضي اللهُ عنهما : ألاَ أُريكَ امْرَأةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّة ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ : هذِهِ المَرْأةُ السَّوداءُ أتتِ النَّبيَّ r، فَقَالَتْ : إنّي أُصْرَعُ([68]) ، وإِنِّي أتَكَشَّفُ ، فادْعُ الله تَعَالَى لي . قَالَ : (( إنْ شئْتِ صَبَرتِ وَلَكِ الجَنَّةُ ، وَإنْ شئْتِ دَعَوتُ الله تَعَالَى أنْ يُعَافِيكِ )) فَقَالَتْ : أَصْبِرُ ، فَقَالَتْ : إنِّي أتَكَشَّفُ فَادعُ الله أنْ لا أَتَكَشَّف ، فَدَعَا لَهَا . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

36- وعن أبي عبد الرحمانِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ t ، قَالَ : كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَى رسولِ الله r يَحْكِي نَبِيّاً مِنَ الأَنْبِياءِ ، صَلَواتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ ، ضَرَبه قَوْمُهُ فَأدْمَوهُ ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، يَقُولُ : (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَومي ، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمونَ )) مُتَّفَقٌ علَيهِ .

37- وعن أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضيَ الله عنهما ، عن النَّبيِّ r ، قَالَ : (( مَا يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ ، وَلاَ حَزَنٍ ، وَلاَ أذَىً ، وَلاَ غَمٍّ ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَاياهُ([69]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

و(( الوَصَبُ )) : المرض .

38- وعن ابنِ مسعودٍ t ، قَالَ : دخلتُ عَلَى النَّبيِّ r وهو يُوعَكُ ، فقلت : يَا رسُولَ الله ، إنَّكَ تُوْعَكُ وَعْكاً شَدِيداً ، قَالَ : (( أجَلْ ، إنِّي أوعَكُ كمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ )) قلْتُ: ذلِكَ أن لَكَ أجْرينِ ؟ قَالَ : (( أَجَلْ ، ذلِكَ كَذلِكَ ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصيبُهُ أذىً ، شَوْكَةٌ فَمَا فَوقَهَا إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بهَا سَيِّئَاتِهِ ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وَ(( الوَعْكُ )) : مَغْثُ الحُمَّى ، وَقيلَ : الحُمَّى .

39- وعن أبي هريرة t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله r : (( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ )) رواه البخاري .

وَضَبَطُوا (( يُصِبْ )) بفَتْح الصَّاد وكَسْرها([70]) .

40- وعن أنس t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوتَ لضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فاعلاً ، فَليَقُلْ : اللَّهُمَّ أحْيني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيراً لِي، وَتَوفّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيراً لي )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

41- وعن أبي عبد الله خَبَّاب بنِ الأَرتِّ t ، قَالَ : شَكَوْنَا إِلَى رسولِ الله r وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً([71]) لَهُ في ظلِّ الكَعْبَةِ ، فقُلْنَا : أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا ألاَ تَدْعُو لَنا ؟ فَقَالَ : (( قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، ثُمَّ يُؤْتَى بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ نصفَينِ ، وَيُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَديدِ مَا دُونَ لَحْمِه وَعَظْمِهِ ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْر حَتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَموتَ لاَ يَخَافُ إلاَّ اللهَ والذِّئْب عَلَى غَنَمِهِ ، ولكنكم تَسْتَعجِلُونَ )) رواه البخاري .

وفي رواية : (( وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَقَدْ لَقِينا مِنَ المُشْرِكِينَ شدَّةً )) .

42- وعن ابن مسعودٍ t ، قَالَ : لَمَّا كَانَ يَومُ حُنَينٍ آثَرَ رسولُ الله r نَاساً في القسْمَةِ ، فَأعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابسٍ مئَةً مِنَ الإِبِلِ ، وَأَعْطَى عُيَيْنَة بْنَ حصن مِثْلَ ذلِكَ ، وَأَعطَى نَاساً مِنْ أشْرافِ العَرَبِ وآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ في القسْمَةِ . فَقَالَ رَجُلٌ : واللهِ إنَّ هذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا ، وَمَا أُريدَ فيهَا وَجْهُ اللهِ ، فَقُلْتُ : وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله r ، فَأَتَيْتُهُ فَأخْبَرتُهُ بمَا قَالَ ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كالصِّرْفِ . ثُمَّ قَالَ : (( فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لم يَعْدِلِ اللهُ وَرسولُهُ ؟ )) ثُمَّ قَالَ : (( يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبر )) . فَقُلْتُ : لاَ جَرَمَ لاَ أرْفَعُ إِلَيْه بَعدَهَا حَدِيثاً([72]) . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وَقَوْلُهُ : (( كالصِّرْفِ )) هُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ المُهْمَلَةِ : وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر .

43- وعن أنسٍ t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( إِذَا أَرَادَ الله بعبدِهِ الخَيرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيا ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدِهِ الشَّرَّ أمْسَكَ عَنْهُ بذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يومَ القِيَامَةِ )) .

وَقالَ النَّبيُّ r : (( إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ )) رواه الترمذي ، وَقالَ: (( حديث حسن )).

44- وعن أنسٍ t ، قَالَ : كَانَ ابنٌ لأبي طَلْحَةَ t يَشتَكِي ، فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ ، فَقُبِضَ الصَّبيُّ ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ ، قَالَ : مَا فَعَلَ ابْنِي ؟ قَالَتْ أمُّ سُلَيم وَهِيَ أمُّ الصَّبيِّ : هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ ، فَقَرَّبَتْ إليه العَشَاءَ فَتَعَشَّى ، ثُمَّ أَصَابَ منْهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ ، قَالَتْ : وَارُوا الصَّبيَّ فَلَمَّا أَصْبحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رسولَ الله r فَأخْبَرَهُ ، فَقَالَ : (( أعَرَّسْتُمُ اللَّيلَةَ ؟ )) قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا )) ، فَوَلَدَتْ غُلاماً ، فَقَالَ لي أَبُو طَلْحَةَ : احْمِلْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبيَّ r ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَراتٍ ، فَقَالَ : (( أَمَعَهُ شَيءٌ ؟ )) قَالَ : نَعَمْ ، تَمَراتٌ ، فَأخَذَهَا النَّبيُّ r فَمَضَغَهَا ، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا في فِيِّ الصَّبيِّ ، ثُمَّ حَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبدَ الله . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية للبُخَارِيِّ : قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ : فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ : فَرَأيْتُ تِسعَةَ أوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا القُرْآنَ ، يَعْنِي : مِنْ أوْلادِ عَبدِ الله المَولُودِ .

وَفي رواية لمسلمٍ : مَاتَ ابنٌ لأبي طَلْحَةَ مِنْ أمِّ سُلَيمٍ ، فَقَالَتْ لأَهْلِهَا : لاَ تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْه عَشَاءً فَأَكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ ، فَوَقَعَ بِهَا . فَلَمَّا أَنْ رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وأَصَابَ مِنْهَا ، قَالَتْ : يَا أَبَا طَلْحَةَ ، أَرَأَيتَ لو أنَّ قَوماً أعارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ ، أَلَهُمْ أن يَمْنَعُوهُمْ ؟ قَالَ : لا ، فَقَالَتْ : فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ ، قَالَ : فَغَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ : تَرَكْتِني حَتَّى إِذَا تَلطَّخْتُ ، ثُمَّ أخْبَرتني بِابْنِي ؟! فانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رسولَ الله r فَأخْبَرَهُ بِمَا كَانَ فَقَالَ رسولُ الله r: (( بَارَكَ اللهُ في لَيْلَتِكُمَا )) ، قَالَ : فَحَمَلَتْ . قَالَ : وَكانَ رسولُ الله r في سَفَرٍ وَهيَ مَعَهُ ، وَكَانَ رسولُ الله r إِذَا أَتَى المَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لاَ يَطْرُقُهَا طُرُوقاً فَدَنَوا مِنَ المَدِينَة ، فَضَرَبَهَا المَخَاضُ ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ ، وانْطَلَقَ رسولُ الله r . قَالَ : يَقُولَ أَبُو طَلْحَةَ : إنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ أَنَّهُ يُعْجِبُنِي أنْ أخْرُجَ مَعَ رسولِ الله r إِذَا خَرَجَ وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى ، تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ : يَا أَبَا طَلْحَةَ ، مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أجدُ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا وَضَرَبَهَا المَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلدَت غُلامَاً . فَقَالَتْ لِي أمِّي : يَا أنَسُ ، لا يُرْضِعْهُ أحَدٌ حَتَّى تَغْدُو بِهِ عَلَى رسولِ الله r ، فَلَمَّا أصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رسولِ الله r ..وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيثِ .

45- وعن أبي هريرةَ t أنّ رسولَ الله r ، قَالَ : (( لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ ، إنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَملكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ ))([73]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( وَالصُّرَعَةُ )) : بضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وأَصْلُهُ عِنْدَ العَرَبِ مَنْ يَصْرَعُ النَّاسَ كَثيراً .

46- وعن سُلَيْمَانَ بن صُرَدٍ t ، قَالَ : كُنْتُ جالِساً مَعَ النَّبيّ r ، وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ ، وَأَحَدُهُمَا قدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ ، وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ([74]) ، فَقَالَ رَسُول اللهِ r : (( إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ، لَوْ قَالَ : أعُوذ باللهِ منَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ ، ذَهَبَ منْهُ مَا يَجِدُ )) . فَقَالُوا لَهُ : إنَّ النَّبيَّ r ، قَالَ : (( تَعَوّذْ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

47- وعن معاذِ بنِ أَنسٍ t : أنَّ النَّبيَّ r ، قَالَ : (( مَنْ كَظَمَ غَيظاً([75]) ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالى عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ العِينِ مَا شَاءَ )) رواه أَبو داود والترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

48- وعن أبي هريرةَ t : أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبي r : أوصِني . قَالَ : (( لا تَغْضَبْ )) فَرَدَّدَ مِراراً ، قَالَ : (( لاَ تَغْضَبْ )) رواه البخاري .

49- وعن أبي هريرة t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَا يَزَالُ البَلاَءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن صحيح )) .

50- وعن ابْنِ عباسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ t ، وَكَانَ القُرَّاءُ([76]) أصْحَابَ مَجْلِس عُمَرَ t وَمُشاوَرَتِهِ كُهُولاً([77]) كانُوا أَوْ شُبَّاناً ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ : يَا ابْنَ أخِي ، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ ، فاسْتَأذَن فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ . فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : هِي([78]) يَا ابنَ الخَطَّابِ ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ([79]) وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ . فَغَضِبَ عُمَرُ t حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ . فَقَالَ لَهُ الحُرُّ : يَا أميرَ المُؤْمِنينَ ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ r : ) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (([80])[ الأعراف : 198] وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ ، واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا ، وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى . رواه البخاري .

51- وعن ابن مسعود t : أن رَسُول الله r ، قَالَ : (( إنَّهَا سَتَكونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَها ! )) قَالُوا : يَا رَسُول الله ، فَمَّا تَأْمُرُنا ؟ قَالَ : (( تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ ، وَتَسأَلُونَ الله الَّذِي لَكُمْ([81]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( وَالأَثَرَةُ )) : الانْفِرادُ بالشَّيءِ عَمنَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ .

52- وعن أبي يحيى أُسَيْد بن حُضَير t : أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصارِ ، قَالَ :

يَا رسولَ الله ، ألاَ تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاناً ، فَقَالَ : (( إنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي

أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوني عَلَى الحَوْضِ([82]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( وَأُسَيْدٌ )) : بضم الهمزة . (( وحُضيْرٌ )) : بحاءٍ مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة ، والله أعلم .

53- وعن أبي إبراهيم عبدِ الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما : أنَّ رَسُول الله r في بعْضِ أيامِهِ التي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ ، انْتَظَرَ حَتَّى إِذَا مالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فيهمْ ، فَقَالَ : (( يَا أيُّهَا النَّاسُ ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ ، وَاسْأَلُوا الله العَافِيَةَ ، فَإِذَا لقيتُمُوهُمْ فَاصْبرُوا([83]) ، وَاعْلَمُوا أنّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيوفِ )) .

ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ r : (( اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ ، اهْزِمْهُمْ وَانصُرْنَا عَلَيْهمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ، وبالله التوفيق .

4- باب الصدق

قَالَ الله تَعَالَى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (

[ التوبة : 119 ]، وَقالَ تَعَالَى : ) وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ( [ الأحزاب : 35 ]، وَقالَ تَعَالَى : ) فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ( [ محمد :21 ] .

54- وأما الأحاديث فالأول : عن ابن مسعود t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ ، وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً . وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

55- الثاني : عن أبي محمد الحسن بنِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما ، قَالَ : حَفظْتُ مِنْ رَسُول الله r : (( دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ ؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنِينَةٌ ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث صحيح )) .

قوله : (( يَريبُكَ )) هُوَ بفتح الياء وضمها : ومعناه اتركْ مَا تَشُكُّ في حِلِّهِ وَاعْدِلْ إِلَى مَا لا تَشُكُّ فِيهِ .

56- الثالث : عن أبي سفيانَ صَخرِ بنِ حربٍ t في حديثه الطويلِ في قصةِ هِرَقْلَ([84]) ، قَالَ هِرقلُ : فَمَاذَا يَأَمُرُكُمْ - يعني : النَّبيّ r - قَالَ أبو سفيانَ : قُلْتُ :

يقولُ : (( اعْبُدُوا اللهَ وَحدَهُ لا تُشْرِكوُا بِهِ شَيئاً ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ،

ويَأْمُرُنَا بالصَلاةِ ، وَالصِّدْقِ ، والعَفَافِ ، وَالصِّلَةِ ))([85]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

57- الرابع : عن أبي ثابت ، وقيل : أبي سعيد ، وقيل : أبي الوليد ، سهل ابن حُنَيْفٍ وَهُوَ بدريٌّ([86]) t : أنَّ النَّبيّ r ، قَالَ : (( مَنْ سَأَلَ الله تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ))([87]) رواه مسلم .

58- الخامس : عن أبي هريرةَ t ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله r : (( غَزَا نبيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهمْ فَقَالَ لِقَومهِ : لا يَتْبَعَنِّي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ([88]) امْرَأةٍ وَهُوَ يُريدُ أنْ يَبْنِي بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا ، وَلا أحَدٌ بَنَى بُيُوتاً لَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا ، وَلا أحَدٌ اشْتَرَى غَنَماً أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَوْلادَها([89]) . فَغَزا فَدَنَا مِنَ القَرْيَةِ صَلاةَ العَصْرِ أَوْ قَريباً مِنْ ذلِكَ ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ : إِنَّكِ مَأمُورَةٌ وَأنَا مَأمُورٌ ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا ، فَحُبِسَتْ([90]) حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ ، فَجَمَعَ الغَنَائِمَ فَجَاءتْ - يعني النَّارَ – لِتَأكُلَهَا([91]) فَلَمْ تَطعَمْها ، فَقَالَ : إنَّ فِيكُمْ غُلُولاً([92]) ، فَلْيُبايعْنِي مِنْ كُلِّ قَبيلةٍ رَجُلٌ ، فَلَزِقَتْ([93]) يد رجل بِيَدِهِ فَقَالَ : فِيكُمُ الغُلُولُ فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فَجَاؤُوا بِرَأْس مثل

رأس بَقَرَةٍ مِنَ الذَّهَبِ ، فَوَضَعَهَا فَجاءت النَّارُ فَأكَلَتْها . فَلَمْ تَحلَّ الغَنَائِمُ

لأحَدٍ قَبْلَنَا ، ثُمَّ أحَلَّ الله لَنَا الغَنَائِمَ لَمَّا رَأَى ضَعْفَنا وَعَجْزَنَا فَأحَلَّهَا لَنَا )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( الخَلِفَاتُ )) بفتحِ الخَاءِ المعجمة وكسر اللامِ : جمع خِلفة وهي الناقة الحامِل .

59- السادس : عن أبي خالد حَكيمِ بنِ حزامٍ t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( البَيِّعَانِ بالخِيَار([94]) مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَإنْ صَدَقا وَبيَّنَا بُوركَ لَهُمَا في بيعِهمَا ، وإنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بركَةُ بَيعِهِما )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

5- باب المراقبة

قَالَ الله تَعَالَى : ) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ( [ الشعراء : 219 - 220 ]، وَقالَ تَعَالَى : ) وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم ( ([95])[ الحديد :4 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( [ آل عمران : 6 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( [ الفجر : 14 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ( [ غافر : 19 ] وَالآيات في البابِ كثيرة معلومة .

60- وأما الأحاديث ، فالأول : عن عمر بن الخطاب t ، قَالَ : بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله r ذَاتَ يَومٍ ، إذْ طَلَعَ عَلَينا رَجُلٌ شَديدُ بَياضِ الثِّيابِ ، شَديدُ سَوَادِ الشَّعْرِ ، لا يُرَى عَلَيهِ أثَرُ السَّفَرِ ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبيّ r ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيهِ إِلَى رُكْبتَيهِ ، وَوَضعَ كَفَّيهِ عَلَى فَخِذَيهِ([96]) ، وَقالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أخْبرني عَنِ الإسلامِ ، فَقَالَ رَسُول الله r : (( الإسلامُ : أنْ تَشْهدَ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله([97]) وأنَّ مُحمَّداً رسولُ الله ، وتُقيمَ الصَّلاةَ ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ البَيتَ إن اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبيلاً )) . قَالَ : صَدَقْتَ . فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقهُ ! قَالَ : فَأَخْبرنِي عَنِ الإِيمَانِ . قَالَ : (( أنْ تُؤمِنَ باللهِ ، وَمَلائِكَتِهِ ، وَكُتُبهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَاليَوْمِ الآخِر ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ )) . قَالَ : صَدقت . قَالَ : فأَخْبرني عَنِ الإحْسَانِ . قَالَ : (( أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ )) . قَالَ : فَأَخْبِرني عَنِ السَّاعَةِ . قَالَ : (( مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ )) . قَالَ : فأخبِرني عَنْ أمَاراتِهَا . قَالَ : (( أنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وأنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ )) . ثُمَّ انْطَلقَ فَلَبِثْتُ مَلِيّاً ، ثُمَّ قَالَ : (( يَا عُمَرُ ، أَتَدْري مَنِ السَّائِلُ ؟ )) قُلْتُ : اللهُ ورسُولُهُ أعْلَمُ . قَالَ : (( فإنَّهُ جِبْريلُ أَتَاكُمْ يعْلِّمُكُمْ أمْرَ دِينكُمْ ))([98]) . رواه مسلم .

ومعنى (( تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا )) أيْ سَيِّدَتَهَا ؛ ومعناهُ : أنْ تَكْثُرَ السَّراري حَتَّى تَلِدَ الأَمَةُ السُّرِّيَّةُ بِنْتاً لِسَيِّدِهَا وبنْتُ السَّيِّدِ في مَعنَى السَّيِّدِ وَقيلَ غَيْرُ ذلِكَ . وَ(( العَالَةُ )) : الفُقَراءُ . وقولُهُ : (( مَلِيّاً )) أَيْ زَمَناً طَويلاً وَكانَ ذلِكَ ثَلاثاً .

61- الثاني : عن أبي ذر جُنْدُب بنِ جُنادَةَ وأبي عبدِ الرحمانِ معاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنهما ، عن رسولِ الله r ، قَالَ : (( اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ وَأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

62- الثالث : عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ : كنت خلف النَّبيّ r يوماً ، فَقَالَ : (( يَا غُلامُ ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ([99]) ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله ، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ ، وَاعْلَمْ : أنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبهُ اللهُ لَكَ ، وَإِن اجتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحفُ([100]) )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن صحيح )) .

وفي رواية غيرِ الترمذي : (( احْفَظِ الله تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعرَّفْ إِلَى اللهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفكَ في الشِّدَّةِ ، وَاعْلَمْ : أنَّ مَا أَخْطَأكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبكَ ، وَمَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ ، وَاعْلَمْ : أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً )) .

63- الرابع : عن أنسٍ t ، قَالَ : إِنَّكُمْ لَتعمَلُونَ أعْمَالاً هي أدَقُّ في أعيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ ، كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله r مِنَ المُوبِقاتِ . رواه البخاري .

وَقالَ : (( المُوبقاتُ )) : المُهلِكَاتُ .

64- الخامس : عن أبي هريرةَ t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( إنَّ الله تَعَالَى

يَغَارُ ، وَغَيرَةُ الله تَعَالَى ، أنْ يَأتِيَ المَرْءُ مَا حَرَّمَ الله عَلَيهِ([101]) )) متفق عَلَيهِ .

و(( الغَيْرةُ )) : بفتحِ الغين ، وَأَصْلُهَا الأَنَفَةُ .

65- السادس : عن أبي هريرةَ t : أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ r ، يقُولُ : (( إنَّ ثَلاثَةً مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ : أبْرَصَ ، وَأَقْرَعَ ، وَأَعْمَى ، أَرَادَ اللهُ أنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعَثَ إِليْهمْ مَلَكاً ، فَأَتَى الأَبْرَصَ ، فَقَالَ : أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ ؟ قَالَ : لَوْنٌ حَسنٌ ، وَجِلدٌ حَسَنٌ ، وَيَذْهبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِيَ لَوناً حَسنَاً . فَقَالَ : فَأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليكَ ؟ قَالَ : الإِبلُ - أَوْ قالَ : البَقَرُ شكَّ الرَّاوي - فَأُعطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ ، فَقَالَ : بَاركَ الله لَكَ فِيهَا .

فَأَتَى الأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إلَيْكَ؟ قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذِرَني النَّاسُ ؛ فَمَسَحَهُ فَذَهبَ عَنْهُ وأُعْطِيَ شَعراً حَسَناً . قالَ : فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَالَ : البَقَرُ ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلاً ، وَقالَ : بَارَكَ الله لَكَ فِيهَا .

فَأَتَى الأَعْمَى ، فَقَالَ : أَيُّ شَيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : أَنْ يَرُدَّ الله إِلَيَّ بَصَرِي([102]) فَأُبْصِرُ النَّاسَ؛ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرهُ. قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِليْكَ ؟ قَالَ : الغَنَمُ ، فَأُعْطِيَ شَاةً والداً ، فَأَنْتَجَ هذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا ، فَكانَ لِهذَا وَادٍ مِنَ الإِبلِ ، وَلِهذَا وَادٍ مِنَ البَقَرِ ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الغَنَمِ .

ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيئَتِهِ ، فَقَالَ : رَجلٌ مِسْكينٌ قَدِ انقَطَعَتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَري فَلا بَلاغَ لِيَ اليَومَ إلاَّ باللهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أعْطَاكَ اللَّونَ الحَسَنَ ، والجِلْدَ الحَسَنَ ، وَالمَالَ ، بَعِيراً أَتَبَلَّغُ بِهِ في سَفَري ، فَقَالَ : الحُقُوقُ كثِيرةٌ . فَقَالَ : كأنِّي اعْرِفُكَ ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فقيراً فأعْطَاكَ اللهُ !؟ فَقَالَ : إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا المالَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ ، فَقَالَ : إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ الله إِلَى مَا كُنْتَ .

وَأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذا ، وَرَدَّ عَلَيهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا ، فَقَالَ : إنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ .

وَأَتَى الأَعْمَى في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ ، فَقَالَ : رَجُلٌ مِسْكينٌ وابنُ سَبيلٍ انْقَطَعتْ بِيَ الحِبَالُ في سَفَرِي ، فَلا بَلاَغَ لِيَ اليَومَ إلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ ، أَسأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَركَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفري ؟ فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أعمَى فَرَدَّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللهِ ما أجْهَدُكَ اليَومَ بِشَيءٍ أخَذْتَهُ للهِ U. فَقَالَ : أمْسِكْ مالَكَ فِإنَّمَا ابْتُلِيتُمْ . فَقَدْ رضي الله عنك ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيكَ ))([103]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

و(( النَّاقةُ العُشَرَاءُ )) بضم العين وفتح الشين وبالمد : هي الحامِل . قوله :

(( أنْتَجَ )) وفي رواية : (( فَنتَجَ )) معناه : تولَّى نِتاجها ، والناتج لِلناقةِ كالقابِلةِ

للمرأةِ . وقوله : (( وَلَّدَ هَذَا )) هُوَ بتشديد اللام : أي تولى ولادتها ، وَهُوَ بمعنى أنتج في الناقة ، فالمولّد ، والناتج ، والقابلة بمعنى ؛ لكن هَذَا لِلحيوان وذاك لِغيرهِ . وقوله : (( انْقَطَعَتْ بي الحِبَالُ )) هُوَ بالحاءِ المهملةِ والباءِ الموحدة : أي الأسباب . وقوله : (( لا أجْهَدُكَ )) معناه : لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أَوْ تطلبه من مالي . وفي رواية البخاري : (( لا أحمَدُكَ )) بالحاءِ المهملة والميمِ ومعناه : لا أحمدك بترك شيء تحتاج إِلَيْه ، كما قالوا : لَيْسَ عَلَى طولِ الحياة ندم : أي عَلَى فواتِ طولِها .

66- السابع : عن أبي يعلى شداد بن أوس t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بعدَ المَوتِ ، والعَاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

قَالَ الترمذي وغيره من العلماء : معنى (( دَانَ نَفْسَهُ )) : حاسبها .

67- الثامن : عن أبي هريرة t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ )) حديث حسن رواه الترمذي وغيرُه .

68- التاسع : عن عُمَرَ t ، عَنِ النَّبيّ r ، قَالَ : (( لاَ يُسْأَلُ الرَّجُلُ فِيمَ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ )) رواه أبو داود وغيره .

6

- باب في التقوى

قَالَ الله تَعَالَى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( [ آل عمران : 102] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ ( [ التغابن :16] . وهذه الآية مبينة للمراد مِنَ الأُولى . وَقالَ تَعَالَى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ( [ الأحزاب :70 ] ، وَالآيات في الأمر بالتقوى كثيرةٌ معلومةٌ ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ( [ الطلاق : 2-3 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( [ الأنفال :29 ] والآيات في البابِ كثيرةٌ معلومةٌ .

69- وأما الأحاديث : فالأول : عن أبي هريرةَ t ، قَالَ : قِيلَ:

يَا رسولَ الله ، مَنْ أكرمُ النَّاس ؟ قَالَ : (( أَتْقَاهُمْ([104]) )) . فقالوا : لَيْسَ عن هَذَا نسألُكَ ، قَالَ : (( فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابنُ نَبِيِّ اللهِ ابنِ نَبيِّ اللهِ ابنِ خليلِ اللهِ ))([105]) قالوا : لَيْسَ عن هَذَا نسألُكَ ، قَالَ : (( فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ([106]) تَسْأَلوني ؟ خِيَارُهُمْ في الجَاهِليَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذَا فقُهُوا )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

و(( فَقُهُوا )) بِضم القافِ عَلَى المشهورِ وَحُكِيَ كَسْرُها : أيْ عَلِمُوا أحْكَامَ الشَّرْعِ .

70- الثَّاني : عن أبي سعيد الخدري t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( إنَّ

الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرةٌ ، وإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرَ كَيفَ تَعْمَلُونَ ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاء ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إسرائيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ )) رواه مسلم .

71- الثالث : عن ابن مسعودٍ t : أنَّ النَّبيّ r كَانَ يقول : (( اللَّهُمَّ إنِّي أَسألُكَ الهُدَى ، وَالتُّقَى ، وَالعَفَافَ ، وَالغِنَى([107]) )) رواه مسلم .

72- الرابع : عن أبي طريفٍ عدِيِّ بن حاتمٍ الطائيِّ t ، قَالَ : سمعتُ رسولَ الله r ، يقول : (( مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ثُمَّ رَأَى أتْقَى للهِ مِنْهَا فَليَأتِ التَّقْوَى )) رواه مسلم .

73- الخامس : عن أبي أُمَامَةَ صُدَيّ بنِ عجلانَ الباهِلِيِّ t ، قَالَ : سَمِعتُ رسولَ الله r يَخْطُبُ في حجةِ الوداعِ ، فَقَالَ : (( اتَّقُوا الله وَصلُّوا خَمْسَكُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ ، وَأَدُّوا زَكاةَ أَمْوَالِكُمْ ، وَأَطِيعُوا أُمَرَاءكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ )) رواه الترمذي ، في آخر كتابِ الصلاةِ ، وَقالَ : (( حديث حسن صحيح )) .

7- باب في اليقين والتوكل([108])

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ( [ الأحزاب : 22 ]، وَقالَ تَعَالَى : ) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( [ آل عمران :173- 174 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ( [ الفرقان :58 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( [ إبراهيم : 11 ] ، وَقالَ تَعَالَى :

) فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله ( [ آل عمران : 159 ] ، والآيات في الأمرِ بالتوكلِ كثيرةٌ معلومةٌ . وَقالَ تَعَالَى : ) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( [ الطلاق : 3 ] : أي كافِيهِ . وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( [ الأنفال : 2 ] ، والآيات في فضل التوكل كثيرةٌ معروفةٌ .

74- وأما الأحاديث : فالأول : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ ، فَرَأيْتُ النَّبيّ ومَعَهُ الرُّهَيطُ ، والنبي وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ ، والنبيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي فقيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وَقَومُهُ ، ولكنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ ، فَنَظَرتُ فَإِذا سَوادٌ عَظِيمٌ ، فقيلَ لي : انْظُرْ إِلَى الأفُقِ الآخَرِ ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظيمٌ ، فقيلَ لِي : هذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ([109]) ألفاً يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ )) ، ثُمَّ نَهَضَ فَدخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ في أُولئكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ولا عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَلَعَلَّهُمْ الَّذينَ صَحِبوا رسولَ الله r ، وَقالَ بعْضُهُمْ : فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا في الإِسْلامِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله شَيئاً - وذَكَرُوا أشيَاءَ - فَخَرجَ عَلَيْهِمْ رسولُ الله r ، فَقَالَ : (( مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ فقالَ : (( هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ([110])، وَلا يَسْتَرقُونَ([111])، وَلا يَتَطَيَّرُونَ([112])؛ وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكَّلُون )) فقامَ عُكَّاشَةُ ابنُ محصنٍ ، فَقَالَ : ادْعُ الله أنْ يَجْعَلني مِنْهُمْ ، فَقَالَ : (( أنْتَ مِنْهُمْ )) ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ : ادْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ : (( سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

(( الرُّهَيْطُ )) بضم الراء تصغير رهط : وهم دون عشرة أنفس ، وَ(( الأُفقُ )) الناحية والجانب . و(( عُكَّاشَةُ )) بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها ، والتشديد أفصح .

75- الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً : أنَّ رَسُول الله r كَانَ يقول : (( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَعَليْك تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ. اللَّهُمَّ أعُوذُ بعزَّتِكَ؛ لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ أنْ تُضلَّني، أَنْتَ الحَيُّ الَّذِي لاَ تَمُوتُ، وَالجِنُّ والإنْسُ يَمُوتُونَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلم واختصره البخاري.

76- الثالث : عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً ، قَالَ : حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، قَالَهَا إِبرَاهيمُ r حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ ، وَقَالَها مُحَمَّدٌ r حِينَ قَالُوا : إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيْماناً وَقَالُوا : حَسْبُنَا الله ونعْمَ الوَكيلُ . رواه البخاري .

وفي رواية لَهُ عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ : كَانَ آخر قَول إبْرَاهِيمَ r حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ : حَسْبِي الله ونِعْمَ الوَكِيلُ .

77- الرابع : عن أبي هريرةَ t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَقْوامٌ أفْئِدَتُهُمْ مِثلُ أفْئِدَةِ الطَّيرِ )) رواه مسلم .

قيل : معناه متوكلون ، وقيل : قلوبهم رَقيقَةٌ .

78- الخامس : عن جابر t : أَنَّهُ غَزَا مَعَ النبي r قِبلَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُول الله r قَفَلَ معَهُمْ ، فَأَدْرَكَتْهُمُ القَائِلَةُ([113]) في وَادٍ كثير العِضَاه ، فَنَزَلَ رَسُول الله r وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بالشَّجَرِ ، وَنَزَلَ رَسُول الله r تَحتَ سَمُرَة فَعَلَّقَ بِهَا سَيفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً ، فَإِذَا رسولُ الله r يَدْعونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أعْرَابِيٌّ ، فَقَالَ : (( إنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيفِي وَأنَا نَائمٌ فَاسْتَيقَظْتُ وَهُوَ في يَدِهِ صَلتاً ، قَالَ : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قُلْتُ : الله - ثلاثاً- )) وَلَمْ يُعاقِبْهُ وَجَلَسَ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية قَالَ جَابرٌ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله r بذَاتِ الرِّقَاعِ ، فَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لرسول الله r ، فجاء رَجُلٌ مِنَ المُشْركينَ وَسَيفُ رَسُول الله r معَلَّقٌ بالشَّجَرَةِ فَاخْتَرطَهُ ، فَقَالَ : تَخَافُنِي ؟ قَالَ : (( لاَ )) فَقَالَ : فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ : (( الله )) .

وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في " صحيحه " ، قَالَ : مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟

قَالَ : (( اللهُ )) . قَالَ : فَسَقَطَ السيفُ مِنْ يَدهِ ، فَأخَذَ رسولُ الله r السَّيْفَ ، فَقَالَ : (( مَنْ يَمْنَعُكَ مني ؟ )) . فَقَالَ : كُنْ خَيرَ آخِذٍ . فَقَالَ : (( تَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وَأَنِّي رَسُول الله ؟ )) قَالَ : لاَ ، وَلَكنِّي أُعَاهِدُكَ أنْ لا أُقَاتِلَكَ ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَومٍ يُقَاتِلُونَكَ ، فَخَلَّى سَبيلَهُ ، فَأَتَى أصْحَابَهُ ، فَقَالَ : جئتُكُمْ مِنْ عنْد خَيْرِ النَّاسِ .

قَولُهُ : (( قَفَلَ )) أي رجع ، وَ(( الْعِضَاهُ )) الشجر الَّذِي لَهُ شوك، و(( السَّمُرَةُ )) بفتح السين وضم الميم : الشَّجَرَةُ مِنَ الطَّلْح ، وهيَ العِظَامُ مِنْ شَجَرِ العِضَاهِ ، وَ(( اخْتَرَطَ السَّيْف )) أي سلّه وَهُوَ في يدهِ . (( صَلْتاً )) أي مسلولاً ، وَهُوَ بفتحِ الصادِ وضَمِّها .

79- السادس : عن عُمَر t ، قَالَ : سمعتُ رَسُول الله r ، يقول : (( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً

وَتَرُوحُ بِطَاناً )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

معناه : تَذْهبُ أَوَّلَ النَّهَارِ خِمَاصاً : أي ضَامِرَةَ البُطُونِ مِنَ الجُوعِ ، وَتَرجعُ آخِرَ النَّهَارِ بِطَاناً . أَي مُمْتَلِئَةَ البُطُونِ .

80- السابع : عن أبي عُمَارة البراءِ بن عازب رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( يَا فُلانُ ، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فراشِكَ ، فَقُل : اللَّهُمَّ أسْلَمتُ نَفْسي إلَيْكَ ، وَوَجَّهتُ وَجْهِي إلَيْكَ ، وَفَوَّضتُ أَمْري إلَيْكَ ، وَأَلجأْتُ ظَهري إلَيْكَ رَغبَةً وَرَهبَةً إلَيْكَ ، لا مَلْجَأ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ ، آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ ؛ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ . فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ لَيلَتِكَ مِتَّ عَلَى الفِطْرَةِ ، وَإِنْ أصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيراً ))([114]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية في الصحيحين ، عن البراءِ ، قَالَ : قَالَ لي رَسُول الله r : (( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجِعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءكَ للصَّلاةِ ، ثُمَّ اضْطَجعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيمَنِ ، وَقُلْ ... وذَكَرَ نَحْوَهُ ثُمَّ قَالَ : وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ )) .

81- الثامِنُ : عن أبي بكرٍ الصِّديق t عبدِ اللهِ بنِ عثمان بنِ عامرِ بنِ عمر ابنِ كعب بنِ سعدِ بن تَيْم بنِ مرة([115]) بن كعبِ بن لُؤَيِّ بن غالب القرشي التيمي t - وَهُوَ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ صَحَابَةٌ - y - قَالَ : نَظَرتُ إِلَى أَقْدَامِ المُشْرِكينَ وَنَحنُ في الغَارِ وَهُمْ عَلَى رُؤُوسِنا ، فقلتُ : يَا رسولَ الله ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا . فَقَالَ : (( مَا ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

82- التاسع : عن أم المُؤمنينَ أمِّ سَلَمَةَ وَاسمها هِنْدُ بنتُ أَبي أميةَ حذيفةَ المخزومية رضي الله عنها : أنَّ النَّبيّ r كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ ، قَالَ : (( بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أضِلَّ أَوْ أُضَلَّ ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ ، أَوْ أظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ، أَوْ أجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ )) حديثٌ صحيح ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحةٍ . قَالَ الترمذي : (( حديث حسن صحيح )) وهذا لفظ أبي داود .

83- العاشر : عن أنس t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَنْ قَالَ - يَعْني : إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ - : بِسمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ ، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ ، يُقالُ لَهُ : هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ ، وَتَنَحَّى([116]) عَنْهُ الشَّيطَانُ )) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . وَقالَ الترمذي : (( حديث حسن )) ، زاد أبو داود : (( فيقول - يعني : الشيطان- لِشيطان آخر : كَيفَ لَكَ بِرجلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ ؟ )) .

84- وعن أنس t ، قَالَ : كَانَ أَخَوانِ عَلَى عهد النَّبيّ r وَكَانَ أحَدُهُمَا يَأتِي النَّبيَّ r وَالآخَرُ يَحْتَرِفُ ، فَشَكَا المُحْتَرِفُ أخَاهُ للنبي r ، فَقَالَ : (( لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ )) . رواه الترمذي بإسناد صحيحٍ عَلَى شرطِ مسلم .

(( يحترِف )) : يكتسب ويتسبب .

8- باب في الاستقامة([117])

قَالَ الله تَعَالَى : ) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( [ هود : 112 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ( [ فصلت : 30- 32 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( [ الأحقاف : 13-14 ] .

85- وعن أبي عمرو ، وقيل : أبي عَمرة سفيان بن عبد الله t ، قَالَ :

قُلْتُ : يَا رَسُول الله ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَولاً لاَ أسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً غَيْرَكَ . قَالَ : (( قُلْ : آمَنْتُ بِاللهِ ، ثُمَّ استَقِمْ )) رواه مسلم .

86- وعن أبي هريرةَ t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( قَارِبُوا وَسَدِّدُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بعَمَلِهِ )) قالُوا : وَلا أَنْتَ يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : (( وَلاَ أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني الله برَحمَةٍ مِنهُ وَفَضْلٍ ))([118]) رواه مسلم .

وَ(( المُقَاربَةُ )) : القَصدُ الَّذِي لا غُلُوَّ فِيهِ وَلاَ تَقْصيرَ ، وَ(( السَّدادُ )) : الاستقامة والإصابة . وَ(( يتَغَمَّدني )) : يلبسني ويسترني .

قَالَ العلماءُ : مَعنَى الاستقامَةِ لُزُومُ طَاعَةِ الله تَعَالَى ، قالوا : وهِيَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِم ، وَهِيَ نِظَامُ الأُمُورِ ؛ وبِاللهِ التَّوفِيقُ .

9- باب في التفكر([119]) في عظيم مخلوقات الله تَعَالَى

وفناء الدنيا وأهوال الآخرة وسائر أمورهما وتقصير النفس

وتهذيبها وحملها عَلَى الاستقامة

قَالَ الله تَعَالَى : ) إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ( [ سـبأ :46 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ( الآيات[ آل عمران : 190-191 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ( [ الغاشية :17-21 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ( الآية[ القتال : 10] . والآيات في الباب كثيرة .

ومن الأحاديث الحديث السابق : (( الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ))([120]) .

10- باب في المبادرة إلى الخيرات

وحثِّ من توجه لخير على الإقبال عليه بالجد من غير تردد

قَالَ الله تَعَالَى : ) فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات ( [ البقرة : 148 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( [ آل عمران : 133 ] .

87- وأما الأحاديث : فالأولُ : عن أبي هريرة t : أن رَسُول الله r ، قَالَ : (( بَادِرُوا بِالأعْمَال فتناً كقطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً ، وَيُمْسِي مُؤمِناً ويُصبحُ كَافِراً ، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا )) رواه مسلم .

88- الثَّاني : عن أبي سِروْعَة - بكسر السين المهملة وفتحها - عُقبةَ بن الحارث t ، قَالَ : صَلَّيتُ وَرَاءَ النَّبيّ r بالمَدِينَةِ العَصْرَ ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعاً ، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ ، فَخَرَجَ عَلَيهمْ ، فَرأى أنَّهمْ قَدْ عَجبُوا مِنْ سُرعَتهِ ، قَالَ : (( ذَكَرتُ شَيئاً مِنْ تِبرٍ عِندَنَا فَكَرِهتُ أنْ يَحْبِسَنِي فَأمَرتُ بِقِسْمَتِهِ ))([121]) رواه البخاري .

وفي رواية لَهُ: (( كُنتُ خَلَّفتُ في البَيْتِ تِبراً مِنَ الصَّدَقةِ فَكَرِهتُ أنْ أُبَيِّتَهُ )). (( التِّبْرُ )) : قِطَعُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ .

89- الثالث : عن جابر t ، قَالَ : قَالَ رجل للنبي r يَومَ أُحُد : أَرَأيتَ إنْ قُتِلتُ فَأَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ : (( في الجنَّةِ )) فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ في يَدِهِ ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

90- الرابع : عن أبي هريرة t ، قَالَ : جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبيِّ r ، فَقَالَ : يَا رسولَ الله ، أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرَاً ؟ قَالَ : (( أنْ تَصَدَّقَ وَأنتَ صَحيحٌ شَحيحٌ ، تَخشَى الفَقرَ وتَأمُلُ الغِنَى ، وَلاَ تُمهِلْ([122]) حَتَّى إِذَا بَلَغتِ الحُلقُومَ قُلْتَ لِفُلان كذا ولِفُلانٍ كَذا ، وقَدْ كَانَ لِفُلانٍ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( الحُلقُومُ )) : مَجرَى النَّفَسِ . وَ(( المَرِيءُ )) : مجرى الطعامِ والشرابِ .

91- الخامس : عن أنس t : أنَّ رسول الله r أخذ سيفاً يَومَ أُحُدٍ ، فَقَالَ : (( مَنْ يَأخُذُ منِّي هَذَا ؟ )) فَبَسطُوا أيدِيَهُمْ كُلُّ إنسَانٍ مِنْهُمْ يقُولُ : أَنَا أَنَا . قَالَ : (( فَمَنْ يَأخُذُهُ بحَقِّه ؟ )) فَأَحْجَمَ القَومُ فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ t : أنا آخُذُهُ بِحَقِّهِ ، فأخذه فَفَلقَ بِهِ هَامَ المُشْرِكِينَ . رواه مسلم .

اسم أبي دجانةَ : سماك بن خَرَشة . قوله : (( أحجَمَ القَومُ )) : أي توقفوا . وَ(( فَلَقَ بِهِ )) : أي شق . (( هَامَ المُشرِكينَ )) : أي رُؤُوسَهم .

92- السادس : عن الزبير بن عدي ، قَالَ : أتينا أنسَ بن مالك t فشكونا إِلَيْه مَا نلقى مِنَ الحَجَّاجِ . فَقَالَ : (( اصْبرُوا ؛ فَإنَّهُ لا يَأتي زَمَانٌ إلاَّ والَّذِي بَعدَهُ شَرٌّ مِنهُ حَتَّى تَلقَوا رَبَّكُمْ )) سَمِعتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ r . رواه البخاري .

93- السابع : عن أبي هريرة t : أن رَسُول الله r ، قَالَ : (( بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً ، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقراً مُنسياً ، أَوْ غِنىً مُطغِياً ، أَوْ مَرَضاً مُفسِداً ، أَوْ هَرَماً مُفْنداً ، أَوْ مَوتاً مُجْهزاً ، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَرُّ ))([123]) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

94- الثامن : عَنْهُ : أن رَسُول الله r ، قَالَ يَومَ خيبر : (( لأُعْطِيَنَّ هذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَفتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيهِ )) قَالَ عُمَرُ t : مَا أحبَبْتُ الإِمَارَة إلاَّ يَومَئِذٍ ، فَتَسَاوَرتُ لَهَا رَجَاءَ أنْ أُدْعَى لَهَا ، فَدَعا رسولُ الله r عليّ بن أبي طالب t فَأعْطَاهُ إيَّاهَا ، وَقالَ : (( امْشِ وَلا تَلتَفِتْ حَتَّى يَفتَح اللهُ عَلَيكَ )) فَسَارَ عليٌّ شيئاً ثُمَّ وَقَفَ ولم يلتفت فصرخ : يَا رَسُول الله ، عَلَى ماذا أُقَاتِلُ النّاسَ ؟ قَالَ : (( قاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إله إلاَّ اللهُ ، وَأنَّ مُحَمداً رسولُ الله ، فَإِذَا فَعَلُوا فقَدْ مَنَعوا مِنْكَ دِمَاءهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بحَقِّهَا ، وحسَابُهُمْ عَلَى الله )) رواه مسلم .

(( فَتَسَاوَرْتُ )) هُوَ بالسين المهملة : أي وثبت متطلعاً .

11- باب في المجاهدة

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِينَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( [ العنكبوت : 69 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( [ الحجر : 99 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( [ المزمل : 8 ] : أي انْقَطِعْ إِلَيْه ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( [ الزلزلة : 7 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ( [ المزمل : 20 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ( [ البقرة : 273 ] والآيات في الباب كثيرة معلومة .

95- وأما الأحاديث : فالأول : عن أبي هريرة t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( إنَّ الله تَعَالَى قَالَ : مَنْ عادى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أحِبَّهُ ، فَإذَا أَحبَبتُهُ كُنْتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشي بِهَا ، وَإنْ سَأَلَني أعْطَيْتُهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ )) رواه البخاري .

(( آذَنتُهُ )) : أعلمته بأني محارِب لَهُ . (( اسْتَعَاذَني )) روي بالنون وبالباءِ .

96- الثاني : عن أنس t ، عن النَّبيّ r فيما يرويه عن ربّه U ، قَالَ :

(( إِذَا تَقَربَ العَبْدُ إلَيَّ شِبْراً تَقَربْتُ إِلَيْه ذِرَاعاً ، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَربْتُ مِنهُ بَاعاً ، وِإذَا أتَانِي يَمشي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))([124]) رواه البخاري .

97- الثالث : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( نِعْمَتَانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ ، وَالفَرَاغُ )) رواه البخاري .

98- الرابع : عن عائشة رَضي الله عنها : أنَّ النَّبيّ r كَانَ يقُومُ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ([125]) قَدَمَاهُ فَقُلْتُ لَهُ : لِمَ تَصنَعُ هَذَا يَا رسولَ الله ، وَقدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : (( أَفَلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْداً شَكُوراً )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ، هَذَا لفظ البخاري .

ونحوه في الصحيحين من رواية المغيرة بن شعبة .

99- الخامس : عن عائشة رضي الله عنها ، أنَّها قَالَتْ : كَانَ رَسُول الله r إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيلَ ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَر . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

والمراد : العشر الأواخر مِنْ شهر رمضان . و(( المِئْزَرُ )) : الإزار ، وَهُوَ كناية عن اعتزالِ النساءِ . وقيلَ : المُرادُ تَشْمِيرُهُ للِعِبَادةِ ، يُقالُ : شَدَدْتُ لِهَذَا الأمْرِ مِئْزَري : أي تَشَمَّرْتُ وَتَفَرَّغْتُ لَهُ .

100- السادس : عن أبي هريرة t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ([126]) . احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ . وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدرُ([127]) اللّهِ ، وَمَا شَاءَ فَعلَ ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ )) رواه مسلم .

101- السابع : عَنْهُ : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ : (( حُجِبَتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية لمسلم : (( حُفَّتْ )) بدل (( حُجِبَتْ )) وَهُوَ بمعناه : أي بينه وبينها هَذَا الحجاب فإذا فعله دخلها .

102- الثامن : عن أبي عبد الله حُذَيفَةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنهما ، قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ r ذَاتَ لَيلَةٍ فَافْتَتَحَ البقَرَةَ ، فَقُلْتُ : يَرْكَعُ عِنْدَ المئَةِ ، ثُمَّ مَضَى . فَقُلْتُ : يُصَلِّي بِهَا في ركعَة فَمَضَى، فقُلْتُ : يَرْكَعُ([128]) بِهَا ، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا ، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً : إِذَا مَرَّ بآية فِيهَا تَسبيحٌ سَبَّحَ ، وَإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ، ثُمَّ رَكَعَ ، فَجَعَلَ يَقُولُ : (( سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ )) فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحواً مِنْ قِيَامِهِ ، ثُمَّ قَالَ : (( سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ )) ثُمَّ قَامَ طَويلاً قَريباً مِمَّا رَكَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ ، فَقَالَ : (( سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى )) فَكَانَ سُجُودُهُ قَريباً مِنْ قِيَامِهِ . رواه مسلم .

103- التاسع : عن ابن مسعود t ، قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيّ r لَيلَةً ، فَأَطَالَ القِيامَ حَتَّى هَمَمْتُ بأمْرِ سُوءٍ ! قيل : وَمَا هَمَمْتَ بِهِ ؟ قَالَ : هَمَمْتُ أنْ أجْلِسَ وَأَدَعَهُ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

104- العاشر : عن أنس t ، عن رَسُول الله r ، قَالَ : (( يَتْبَعُ المَيتَ ثَلاَثَةٌ : أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَملُهُ ، فَيَرجِعُ اثنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ : يَرجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ ، وَيَبقَى عَملُهُ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

105- الحادي عشر : عن ابن مسعود t ، قَالَ : قَالَ النَّبيّ r : (( الجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ([129]) ، وَالنَّارُ مِثلُ ذلِكَ )) رواه البخاري .

106- الثاني عشر : عن أبي فِراسٍ ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِّ خادِمِ رَسُول الله r ، ومن أهلِ الصُّفَّةِ([130]) t ، قَالَ : كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رسولِ الله r فآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فَقَالَ : (( سَلْنِي )) فقُلْتُ : اسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ . فَقَالَ : (( أَوَ غَيرَ ذلِكَ )) ؟ قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ ، قَالَ : (( فأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ )) رواه مسلم .

107- الثالث عشر : عن أبي عبد الله ، ويقال : أَبُو عبد الرحمان ثوبان -مولى رَسُول الله r - t ، قَالَ : سَمِعْتُ رسولَ الله r ، يَقُولُ : (( عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ للهِ سَجْدَةً إلاَّ رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرجَةً ، وَحَطَّ عَنكَ بِهَا خَطِيئةً )) رواه مسلم .

108- الرابع عشر : عن أَبي صَفوان عبد الله بنِ بُسْرٍ الأسلمي t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( خَيرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرهُ ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

(( بُسْر )) بضم الباء وبالسين المهملة .

109- الخامس عشر : عن أنس t ، قَالَ : غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ t عن قِتالِ بدرٍ ، فَقَالَ : يَا رسولَ الله ، غِبْتُ عَنْ أوّل قِتال قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ ، لَئِن اللهُ أشْهَدَنِي قِتَالَ المُشركِينَ لَيُرِيَنَّ اللهُ مَا أصْنَعُ . فَلَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ انْكَشَفَ المُسْلِمونَ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يعني : أصْحَابهُ - وأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يَعني : المُشركِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلهُ سَعدُ بْنُ مُعاذٍ ، فَقَالَ : يَا سعدَ بنَ معاذٍ ، الجَنَّةُ وربِّ الكعْبَةِ إنِّي أجِدُ ريحَهَا([131]) منْ دُونِ أُحُدٍ . قَالَ سعدٌ : فَمَا اسْتَطَعتُ يَا رسولَ الله مَا صَنَعَ ! قَالَ أنسٌ : فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعاً وَثَمانينَ ضَربَةً بالسَّيفِ ، أَوْ طَعْنةً بِرمْحٍ ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكونَ فما عَرَفهُ أَحَدٌ إلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ . قَالَ أنس : كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أن هذِهِ الآية نزلت فِيهِ وفي أشباهه : ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ( [ الأحزاب : 23 ] إِلَى آخِرها . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

قوله : (( لَيُرِيَنَّ اللهُ )) روي بضم الياء وكسر الراء : أي لَيُظْهِرَنَّ اللهُ ذلِكَ للنَّاس ، وَرُويَ بفتحهما ومعناه ظاهر ، والله أعلم .

110- السادس عشر : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري t ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ آيةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيءٍ كَثيرٍ ، فقالوا : مُراءٍ ، وَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ ، فقالُوا : إنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا ! فَنَزَلَتْ : ) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ( [ التوبة : 79 ] . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، هذا لفظ البخاري.

وَ(( نُحَامِلُ )) بضم النون وبالحاء المهملة : أي يحمل أحدنا عَلَى ظهره بالأجرة ويتصدق بِهَا .

111- السابع عشر : عن سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعة بن يزيد ، عن أَبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر جندب بن جُنادة t ، عن النَّبيّ r فيما يروي ، عن اللهِ تَبَاركَ وتعالى ، أنَّهُ قَالَ : (( يَا عِبَادي ، إنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسي وَجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا . يَا عِبَادي ، كُلُّكُمْ ضَالّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاستَهدُوني أهْدِكُمْ . يَا عِبَادي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلاَّ مَنْ أطْعَمْتُهُ فَاستَطعِمُوني أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ . يَا عِبَادي ، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ . يَا عِبَادي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُوني . يَا عِبَادي ، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذلِكَ في مُلكي شيئاً . يَا عِبَادي ، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذلِكَ من مُلكي شيئاً. يَا عِبَادي، لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُوني فَأعْطَيتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْألَتَهُ مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلاَّ كما يَنْقصُ المِخْيَطُ([132]) إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ . يَا عِبَادي ، إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمَدِ الله وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ )) .

قَالَ سعيد : كَانَ أَبُو إدريس إِذَا حَدَّثَ بهذا الحديث جَثا([133]) عَلَى رُكبتيه . رواه مسلم .

وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، قَالَ : لَيْسَ لأهل الشام حديث أشرف من هَذَا الحديث ([134]).

12- باب الحث عَلَى الازدياد من الخير في أواخر العمر

قَالَ الله تَعَالَى : ) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ ( [ فاطر : 37 ] قَالَ ابن عباس والمُحَقِّقُونَ : معناه أَو لَمْ نُعَمِّرْكُمْ سِتِّينَ سَنَةً ؟ وَيُؤَيِّدُهُ الحديث الَّذِي سنذْكُرُهُ إنْ شاء الله تَعَالَى ، وقيل : معناه ثماني عَشْرَة سَنَةً ، وقيل : أرْبَعينَ سَنَةً ، قاله الحسن والكلبي ومسروق ونُقِلَ عن ابن عباس أيضاً . وَنَقَلُوا أنَّ أَهْلَ المدينَةِ كانوا إِذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ أربْعينَ سَنَةً تَفَرَّغَ للعِبادَةِ ، وقيل : هُوَ البُلُوغُ . وقوله تَعَالَى : ) وجَاءكُمُ النَّذِيرُ ( قَالَ ابن عباس والجمهور : هُوَ النَّبيّ r ، وقيل : الشَّيبُ ، قاله عِكْرِمَةُ وابن عُيَيْنَة وغيرهما . والله أعلم .

112- وأما الأحاديث فالأول : عن أبي هريرةَ t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( أعْذَرَ الله إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً )) رواه البخاري .

قَالَ العلماء : معناه لَمْ يَتْرُكْ لَهُ عُذراً إِذْ أمْهَلَهُ هذِهِ المُدَّةَ . يقال : أعْذَرَ الرجُلُ إِذَا بَلَغَ الغايَةَ في العُذْرِ .

113- الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ : كَانَ عمر t يُدْخِلُنِي مَعَ أشْيَاخِ بَدرٍ فكأنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ في نفسِهِ ، فَقَالَ : لِمَ يَدْخُلُ هَذَا معنا ولَنَا أبْنَاءٌ مِثلُهُ ؟! فَقَالَ عُمَرُ : إنَّهُ منْ حَيثُ عَلِمْتُمْ ! فَدعانِي ذاتَ يَومٍ فَأدْخَلَنِي مَعَهُمْ فما رَأيتُ أَنَّهُ دعاني يَومَئذٍ إلاَّ لِيُرِيَهُمْ ، قَالَ : مَا تقُولُون في قولِ الله : ) إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( ؟ [ الفتح : 1 ] فَقَالَ بعضهم : أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نَصَرنَا وَفَتحَ عَلَيْنَا ، وَسَكتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيئاً . فَقَالَ لي : أَكَذلِكَ تقُول يَا ابنَ عباسٍ ؟ فقلت : لا. قَالَ : فما تقول ؟ قُلْتُ : هُوَ أجَلُ رَسُول الله r أعلَمَهُ لَهُ، قَالَ : ) إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( وذلك علامةُ أجَلِكَ ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ( فَقَالَ عمر t : مَا أعلم مِنْهَا إلاَّ مَا تقول . رواه البخاري .

114- الثالث : عن عائشة رضي الله عنها ، قَالَتْ : مَا صلّى رَسُول الله r صلاةً بَعْدَ أنْ نَزَلتْ عَلَيهِ : ) إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( إلاَّ يقول فِيهَا : (( سُبحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية في الصحيحين عنها : كَانَ رَسُول الله r يُكْثِرُ أنْ يقُولَ في ركُوعِه وسُجُودهِ : (( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي )) ، يَتَأوَّلُ القُرآنَ . معنى : (( يَتَأَوَّلُ القُرآنَ )) أي يعمل مَا أُمِرَ بِهِ في القرآن في قوله تَعَالَى : ) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ( .

وفي رواية لمسلم : كَانَ رَسُول الله r يُكثِرُ أنْ يَقُولَ قَبلَ أنْ يَمُوتَ :

(( سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَ‍مدِكَ أسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إلَيْكَ )) . قَالَتْ عائشة : قُلْتُ : يَا رَسُول الله ، مَا هذِهِ الكَلِماتُ الَّتي أرَاكَ أحْدَثْتَها تَقُولُهَا ؟ قَالَ : (( جُعِلَتْ لي عَلامَةٌ في أُمَّتِي إِذَا رَأيْتُها قُلتُها ) إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( … إِلَى آخِرِ السورة )) .

وفي رواية لَهُ : كَانَ رسولُ الله r يُكثِرُ مِنْ قَولِ : (( سبْحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ أسْتَغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إِلَيْهِ )) . قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رسولَ اللهِ ، أَراكَ تُكثِرُ مِنْ قَولِ سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدهِ أسْتَغْفِرُ اللهَ وأتُوبُ إِلَيْه ؟ فَقَالَ : (( أخبَرَني رَبِّي أنِّي سَأرَى عَلامَةً في أُمَّتي فإذا رَأيْتُها أكْثَرْتُ مِنْ قَولِ : سُبْحَانَ اللهِ وبِحَمدهِ أسْتَغْفرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْه فَقَدْ رَأَيْتُهَا: ) إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ( فتح مكّة ، ) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ( )) .

115- الرابع : عن أنس t ، قَالَ : إنَّ اللهَ U تَابَعَ الوَحيَ عَلَى رسولِ الله r قَبلَ وَفَاتهِ حَتَّى تُوُفِّيَ أكْثَرَ مَا كَانَ الوَحْيَ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

116- الخامس : عن جابر t ، قَالَ : قَالَ رسول الله r : (( يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيهِ )) رواه مسلم .

13- باب في بيان كثرة طرق الخير

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ( [ البقرة :215 ]، وَقالَ تَعَالَى : ) وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله ( [ البقرة :197] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( [ الزلزلة : 7 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ( [ الجاثـية : 15] والآيات في الباب كثيرة .

وأما الأحاديث فكثيرة جداً وهي غيرُ منحصرةٍ فنذكُرُ طرفاً مِنْهَا :

117- الأول: عن أبي ذر جُنْدبِ بنِ جُنَادَةَ t ، قَالَ: قُلْتُ : يَا رسولَ الله، أيُّ الأعمالِ أفْضَلُ ؟ قَالَ : (( الإيمانُ باللهِ وَالجِهادُ في سَبيلِهِ )) . قُلْتُ : أيُّ الرِّقَابِ أفْضَلُ ؟ قَالَ : (( أنْفَسُهَا([135]) عِنْدَ أهلِهَا وَأكثَرهَا ثَمَناً )) . قُلْتُ : فإنْ لَمْ أفْعَلْ ؟ قَالَ : (( تُعِينُ صَانِعاً أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ )) . قُلْتُ : يَا رَسُول الله ، أرأيْتَ إنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ العَمَلِ ؟ قَالَ : (( تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ ؛ فإنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ )) مُتَّفَقٌ عليه .

(( الصَّانِعُ )) بالصاد المهملة هَذَا هُوَ المشهور ، وروي (( ضائعاً )) بالمعجمة : أي ذا ضِياع مِنْ فقرٍ أَوْ عيالٍ ونحوَ ذلِكَ ، (( وَالأَخْرَقُ )) : الَّذِي لا يُتقِنُ مَا يُحَاوِل فِعلهُ .

118- الثاني : عن أبي ذر أيضاً t : أنَّ رسول الله r ، قَالَ : (( يُصْبحُ عَلَى كُلِّ سُلامَى منْ أَحَدِكُمْ صَدَقةٌ : فَكُلُّ تَسبيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحمِيدةٍ صَدَقَة ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأمْرٌ بِالمعرُوفِ صَدَقةٌ ، ونَهيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقةٌ ، وَيُجزِىءُ مِنْ ذلِكَ رَكْعَتَانِ يَركَعُهُما مِنَ الضُّحَى )) رواه مسلم .

(( السُّلامَى )) بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم : المفصل .

119- الثالث : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ النَّبيُّ r : (( عُرِضَتْ عَلَيَّ أعْمَالُ أُمَّتِي

حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا فَوَجَدْتُ في مَحَاسِنِ أعْمَالِهَا الأذَى يُمَاطُ([136]) عَنِ الطَّريقِ ، وَوَجَدْتُ في مَسَاوِىءِ([137]) أعمَالِهَا النُّخَاعَةُ تَكُونُ في المَسْجِدِ لا تُدْفَنُ )) رواه مسلم .

120- الرابع : عَنْهُ : أنَّ ناساً قالوا : يَا رَسُولَ الله ، ذَهَبَ أهلُ الدُّثُور بالأُجُورِ ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أمْوَالِهِمْ ، قَالَ : (( أَوَلَيسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ : إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقةً ، وَكُلِّ تَكبيرَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلِّ تَحمِيدَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً ، وَأمْرٌ بالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وفي بُضْعِ([138]) أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ )) قالوا : يَا رسولَ اللهِ ، أيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أجْرٌ ؟ قَالَ : (( أرَأيتُمْ لَوْ وَضَعَهَا في حَرامٍ أَكَانَ عَلَيهِ وِزرٌ ؟ فكذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ )) رواه مسلم .

(( الدُّثُورُ )) بالثاء المثلثة : الأموال وَاحِدُهَا : دثْر .

121- الخامس : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ لي النَّبيّ r : (( لا تَحْقِرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئاً وَلَوْ أنْ تَلقَى أخَاكَ بِوَجْهٍ طَليقٍ )) رواه مسلم .

122- السادس : عن أبي هريرةَ t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ ، كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ : تَعْدِلُ بَينَ الاثْنَينِ صَدَقةٌ ، وتُعِينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ ، فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالكَلِمَةُ الطَيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وبكلِّ خَطْوَةٍ تَمشيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

ورواه مسلم أيضاً من رواية عائشة رَضي الله عنها ، قَالَتْ : قَالَ رَسُول الله r : (( إنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إنْسان مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وثلاثمئة مفْصَل ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ ، وحَمِدَ الله ، وَهَلَّلَ اللهَ ، وَسَبَّحَ الله ، وَاسْتَغْفَرَ الله ، وَعَزَلَ حَجَراً عَنْ طَريقِ النَّاسِ ، أَوْ شَوْكَةً ، أَوْ عَظماً عَن طَريقِ النَّاسِ ، أَوْ أمَرَ بمَعْرُوف ، أَوْ نَهَى عَنْ منكَر ، عَدَدَ السِّتِّينَ والثَّلاثِمئَة فَإنَّهُ يُمْسِي يَومَئِذٍ وقَدْ زَحْزَحَ نَفسَهُ عَنِ النَّارِ )) .

123- السابع : عَنْهُ ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِد أَوْ رَاحَ ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ في الجَنَّةِ نُزُلاً كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( النُّزُلُ )) : القوت والرزق وما يُهيأُ للضيف .

124- الثامن : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ ، لاَ تَحْقِرنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شاةٍ )) ([139]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

قَالَ الجوهري : الفرسِن منَ البَعيرِ كالحَافِرِ مِنَ الدَّابَةِ قَالَ : وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ في الشَّاةِ .

125- التاسع : عَنْهُ ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( الإيمانُ بِضْعٌ وَسَبعُونَ أَوْ بِضعٌ وسِتُونَ شُعْبَةً : فَأفْضَلُهَا قَولُ : لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الأذَى عَنِ الطَّريقِ ، والحياءُ شُعبَةٌ مِنَ الإيمان )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( البِضْعُ )) من ثلاثة إِلَى تسعة بكسر الباء وقد تفتح. وَ(( الشُّعْبَةُ )) : القطعة.

126- العاشر : عَنْهُ : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ : (( بَينَما رَجُلٌ يَمشي بِطَريقٍ اشْتَدَّ عَلَيهِ العَطَشُ ، فَوَجَدَ بِئراً فَنَزَلَ فِيهَا فَشربَ ، ثُمَّ خَرَجَ فإذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرَى([140]) مِنَ العَطَشِ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الكَلْبُ مِنَ العَطَشِ مِثلُ الَّذِي كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ البِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أمْسَكَهُ بفيهِ حَتَّى رَقِيَ ، فَسَقَى الكَلْبَ ، فَشَكَرَ الله لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ )) قالوا : يَا رَسُول اللهِ ، إنَّ لَنَا في البَهَائِمِ أَجْراً ؟ فقَالَ : (( في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ )) ([141]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية للبخاري : (( فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ ، فأدْخَلَهُ الجَنَّةَ )) وفي رواية لهما : (( بَيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يقتلُهُ العَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ([142]) مِنْ بَغَايَا

بَنِي إسْرَائِيل ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ )) .

(( المُوقُ )) : الخف . وَ(( يُطِيفُ )) : يدور حول (( رَكِيَّةٍ )) : وَهِي البئر .

127- الحادي عشر : عَنْهُ ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( لَقدْ رَأيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَرِيقِ كَانَتْ تُؤذِي المُسْلِمِينَ )) رواه مسلم .

وفي رواية : (( مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهرِ طَرِيقٍ ، فَقَالَ : وَاللهِ لأُنْحِيَنَّ هَذَا عَنِ المُسْلِمينَ لا يُؤذِيهِمْ ، فَأُدخِلَ الجَنَّةَ )) .

وفي رواية لهما : (( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَريقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوكٍ عَلَى الطريقِ فأخَّرَه فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ )) .

128- الثاني عشر : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ، ثُمَّ أَتَى الجُمعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأنْصَتَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْن الجُمُعَةِ وَزِيادَةُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ ، وَمَنْ مَسَّ الحَصَا فَقَدْ لَغَا ))([143]) رواه مسلم .

129- الثالث عشر : عَنْهُ : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ : (( إِذَا تَوَضَّأ العَبْدُ المُسْلِمُ ، أَو المُؤمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَينيهِ مَعَ المَاءِ ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ ، فَإِذا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيهِ كُلُّ خَطِيئَة كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ المَاءِ ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مشتها رِجْلاَهُ مَعَ المَاء أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ المَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيّاً مِنَ الذُّنُوبِ )) رواه مسلم .

130- الرابع عشر : عَنْهُ ، عن رَسُول الله r ، قَالَ : (( الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ ، وَالجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّراتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ )) رواه مسلم .

131- الخامس عشر : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( ألا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ )) قَالُوا : بَلَى ، يَا رسولَ اللهِ ، قَالَ : (( إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ([144]) ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلَى المَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ )) رواه مسلم .

132- السادس عشر : عن أبي موسى الأشعرِيِّ t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( البَرْدَانِ )) : الصبح والعصر .

133- السابع عشر : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيماً صَحِيحاً )) رواه البخاري .

134- الثامن عشر : عن جَابرٍ t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ )) رواه البخاري ، ورواه مسلم مِنْ رواية حُذَيفة t .

135- التاسع عشر : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً إلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً ، وَمَا سُرِقَ مِنهُ لَهُ صَدَقَةً ، وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةً )) رواه مسلم .

وفي رواية لَهُ : (( فَلاَ يَغْرِسُ المُسْلِمُ غَرْساً فَيَأْكُلَ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلاَ دَابَّةٌ وَلاَ طَيْرٌ إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقة إِلَى يَومِ القِيَامةِ )). وفي رواية لَهُ : (( لاَ يَغرِسُ مُسْلِمٌ غَرساً ، وَلاَ يَزرَعُ زَرعاً ، فَيَأكُلَ مِنهُ إنْسَانٌ وَلاَ دَابَةٌ وَلاَ شَيءٌ ، إلاَّ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً )) .

وروياه جميعاً من رواية أنس t .

قوله : (( يَرْزَؤُهُ )) أي ينقصه .

136- العشرون : عَنْهُ ، قَالَ : أراد بنو سَلِمَةَ أَن يَنتقِلوا قرب المسجِدِ فبلغ ذلِكَ رسولَ الله r ، فَقَالَ لهم : (( إنَّهُ قَدْ بَلَغَني أنَّكُمْ تُرِيدُونَ أنْ تَنتَقِلُوا قُربَ المَسجِد ؟ )) فقالُوا : نَعَمْ ، يَا رَسُول اللهِ قَدْ أَرَدْنَا ذلِكَ . فَقَالَ : (( بَنِي سَلِمَةَ ، دِيَارَكُمْ ، تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ، ديَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ )) رواه مسلم .

وفي روايةٍ : (( إنَّ بِكُلِّ خَطوَةٍ دَرَجَةً )) رواه مسلم .

رواه البخاري أيضاً بِمَعناه مِنْ رواية أنس t .

وَ(( بَنُو سَلِمَةَ )) بكسر اللام : قبيلة معروفة مِنَ الأنصار y ، وَ(( آثَارُهُمْ )) : خطاهُم .

137- الحادي والعشرون : عن أبي المنذِر أُبيِّ بنِ كَعْب t ، قَالَ : كَانَ رَجُلٌ لا أعْلَمُ رَجلاً أبْعَدَ مِنَ المَسْجِدِ مِنْهُ ، وَكَانَ لاَ تُخْطِئُهُ صَلاةٌ ، فَقيلَ لَهُ أَوْ فَقُلْتُ لَهُ : لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَاراً تَرْكَبُهُ في الظَلْمَاء وفي الرَّمْضَاء ؟ فَقَالَ : مَا يَسُرُّنِي أنَّ مَنْزِلي إِلَى جَنْبِ المَسْجِدِ إنِّي أريدُ أنْ يُكْتَبَ لِي مَمشَايَ إِلَى المَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أهْلِي ، فَقَالَ رَسُول الله r : (( قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذلِكَ كُلَّهُ ))([145]) رواه مسلم .

وفي رواية : (( إنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ )) .

(( الرَّمْضَاءُ )) : الأرْضُ التي أصابها الحر الشديد .

138- الثاني والعشرون : عن أبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاصِ

رَضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( أرْبَعُونَ خَصْلَةً : أعْلاَهَا مَنيحَةُ العَنْزِ ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَة مِنْهَا ؛ رَجَاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا ، إلاَّ أدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ )) رواه البخاري .

(( المَنيحَةُ )) : أنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا لِيَأكُلَ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ .

139- الثالث والعشرون : عن عَدِي بنِ حَاتمٍ t ، قَالَ : سمعت النَّبيّ r ، يقول : (( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشقِّ([146]) تَمْرَةٍ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية لهما عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَينَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرى إلاَّ مَا قَدَّمَ ، وَيَنظُرُ بَيْنَ يَدَيهِ فَلاَ يَرَى إلاَّ النَّار تِلقَاءَ وَجْهِهِ ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ )) .

140- الرابع والعشرون : عن أنس t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( إنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أنْ يَأكُلَ الأَكْلَةَ ، فَيَحمَدَهُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )) ([147]) رواه مسلم .

وَ(( الأَكْلَةُ )) بفتح الهمزة : وَهيَ الغَدْوَةُ أَو العَشْوَةُ .

141- الخامس والعشرون : عن أَبي موسى t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ :

(( عَلَى كلّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ )) قَالَ : أرأيتَ إنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : (( يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ )) قَالَ : أرأيتَ إن لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : (( يُعِينُ ذَا الحَاجَةِ

المَلْهُوفَ([148]) )) قَالَ : أرأيتَ إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ، قَالَ : (( يَأمُرُ بِالمعْرُوفِ أوِ الخَيْرِ ))

قَالَ : أرَأيْتَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ؟ قَالَ : (( يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ )) مُتَّفَقٌ

عَلَيهِ .

14- باب في الاقتصاد في العبادة

قَالَ الله تَعَالَى : ) طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( [ طـه : 1] ، وَقالَ تَعَالَى : ) يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( [ البقرة : 185 ] .

142- وعن عائشة رضي الله عنها : أنَّ النَّبيّ r دخل عَلَيْهَا وعِندها امرأةٌ ، قَالَ : (( مَنْ هذِهِ ؟ )) قَالَتْ : هذِهِ فُلاَنَةٌ تَذْكُرُ مِنْ صَلاتِهَا . قَالَ : (( مهْ ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ ، فَواللهِ لاَ يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا )) وكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وَ(( مهْ )) : كَلِمَةُ نَهْي وَزَجْر . ومَعْنَى (( لاَ يَمَلُّ اللهُ )) : لاَ يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَنْكُمْ وَجَزَاء أَعْمَالِكُمْ ويُعَامِلُكُمْ مُعَامَلةَ المَالِّ حَتَّى تَمَلُّوا فَتَتْرُكُوا ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيهِ لَيدُومَ ثَوابُهُ لَكُمْ وَفَضْلُهُ عَلَيْكُمْ .

143- وعن أنس t ، قَالَ : جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيّ r ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبيّ r ، فَلَمَّا أُخْبِروا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا وَقَالُوا : أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ r وَقدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ . قَالَ أحدُهُم : أمَّا أنا فَأُصَلِّي اللَّيلَ أبداً . وَقالَ الآخَرُ : وَأَنَا أصُومُ الدَّهْرَ أَبَداً وَلا أُفْطِرُ . وَقالَ الآخر : وَأَنا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أتَزَوَّجُ أبَداً . فجاء رسولُ الله r إليهم ، فَقَالَ : (( أنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا واللهِ إنِّي لأخْشَاكُمْ للهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أصُومُ وَأُفْطِرُ ، وأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ ، فَمَنْ رَغِبَ([149]) عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

144- وعن ابن مسعود t : أنّ النَّبيّ r ، قَالَ : (( هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ )) قالها ثَلاثاً . رواه مسلم .

(( المُتَنَطِّعونَ )) : المتعمقون المشددون في غير موضِعِ التشديدِ .

145- عن أَبي هريرةَ t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ )) رواه البخاري .

وفي رواية لَهُ : (( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا )) .

قوله : (( الدِّينُ )) : هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله . وروي منصوباً وروي

(( لن يشادَّ الدينَ أحدٌ )) . وقوله r : (( إلا غَلَبَهُ )) : أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ . وَ(( الغَدْوَةُ )) : سير أولِ النهارِ . وَ(( الرَّوْحَةُ )) : آخِرُ النهارِ . وَ(( الدُّلْجَةُ )) : آخِرُ اللَّيلِ .

وهذا استعارة وتمثيل ، ومعناه : اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ U بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب ، واللهُ أعلم .

146- وعن أنس t ، قَالَ : دَخَلَ النَّبيُّ r المَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ ، فَقَالَ : (( مَا هَذَا الحَبْلُ ؟ )) قالُوا : هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ ، فَإِذَا فَتَرَتْ([150]) تَعَلَّقَتْ بِهِ . فَقَالَ النَّبيُّ r : (( حُلُّوهُ ، لِيُصلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

147- وعن عائشة رضي الله عنها : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ : (( إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّومُ ، فإِنَّ أحدكم إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

148- وعن أَبي عبد الله جابر بن سمرة رضي الله عنهما ، قَالَ : كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النَّبيِّ r الصَّلَوَاتِ ، فَكَانتْ صَلاتُهُ قَصْداً وَخُطْبَتُهُ قَصْداً . رواه مسلم .

قوله : (( قَصْداً )) : أي بين الطولِ والقِصرِ .

149- وعن أبي جُحَيْفَة وَهْب بنِ عبد اللهِ t ، قَالَ : آخَى النَّبيُّ r بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبي الدَّرْداءِ ، فَزارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرداءِ فَرَأى أُمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً([151]) ، فَقَالَ : مَا شَأنُكِ ؟ قَالَتْ : أخُوكَ أَبُو الدَّردَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ في الدُّنْيَا ، فَجاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَاماً ، فَقَالَ لَهُ : كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَ : مَا أنا بِآكِلٍ حَتَّى تَأكُلَ فأكل ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّردَاءِ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ : نَمْ ، فنام ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ : نَمْ . فَلَمَّا كَانَ من آخِر اللَّيلِ قَالَ سَلْمَانُ : قُم الآن ، فَصَلَّيَا جَمِيعاً فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيكَ حَقّاً ، وَلأَهْلِكَ عَلَيكَ حَقّاً ، فَأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَأَتَى النَّبيَّ r فَذَكَرَ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ النَّبيُّ r : (( صَدَقَ سَلْمَانُ )) رواه البخاري .

150- وعن أَبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنهما ، قَالَ : أُخْبرَ النَّبيُّ r أنِّي أقُولُ : وَاللهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيلَ مَا عِشْتُ . فَقَالَ رسولُ الله r : (( أنتَ الَّذِي تَقُولُ ذلِكَ ؟ )) فَقُلْتُ لَهُ : قَدْ قُلْتُهُ بأبي أنْتَ وأمِّي يَا رسولَ الله . قَالَ : (( فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذلِكَ فَصُمْ وَأَفْطِرْ ، وَنَمْ وَقُمْ ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاثةَ أيَّامٍ ، فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا وَذَلكَ مِثلُ صِيامِ الدَّهْرِ )) قُلْتُ : فَإِنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ، قَالَ : (( فَصُمْ يَوماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ )) قُلْتُ : فَإنِّي أُطِيقُ أفضَلَ مِنْ ذلِكَ ، قَالَ : (( فَصُمْ يَوماً وَأفْطِرْ يَوماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُد r ، وَهُوَ أعْدَلُ الصيامِ )) .

وفي رواية : (( هُوَ أفْضَلُ الصِّيامِ )) فَقُلْتُ : فَإِنِّي أُطيقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ، فَقَالَ رسولُ الله r : (( لا أفضَلَ مِنْ ذلِكَ )) ، وَلأنْ أكُونَ قَبِلْتُ الثَّلاثَةَ الأَيّامِ الَّتي قَالَ رَسُول الله r أحَبُّ إليَّ مِنْ أهْلي وَمَالي .

وفي رواية : (( أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وتَقُومُ اللَّيلَ ؟ )) قُلْتُ : بَلَى ، يَا رَسُول الله ، قَالَ : (( فَلاَ تَفْعَلْ : صُمْ وَأَفْطِرْ ، وَنَمْ وَقُمْ ؛ فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً ، وَإِنَّ لِعَيْنَيكَ عَلَيْكَ حَقّاً ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقّاً ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ([152]) عَلَيْكَ حَقّاً ، وَإنَّ بِحَسْبِكَ أنْ تَصُومَ في كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيَّامٍ ، فإنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا ، فَإِنَّ ذلِكَ صِيَامُ الدَّهْر )) فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ ، قُلْتُ : يَا رَسُول الله ، إنِّي أجِدُ قُوَّةً ، قَالَ : (( صُمْ صِيَامَ نَبيِّ الله دَاوُد وَلاَ تَزد عَلَيهِ )) قُلْتُ : وَمَا كَانَ صِيَامُ دَاوُد ؟ قَالَ : (( نِصْفُ الدَّهْرِ )) فَكَانَ عَبدُ الله يقول بَعدَمَا كَبِرَ : يَا لَيتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَة رَسُول الله r .

وفي رواية : (( أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهرَ ، وَتَقْرَأُ القُرآنَ كُلَّ لَيْلَة ؟ )) فقلت : بَلَى ، يَا رَسُول الله ، وَلَمْ أُرِدْ بذلِكَ إلاَّ الخَيرَ ، قَالَ : (( فَصُمْ صَومَ نَبيِّ اللهِ دَاوُد ، فَإنَّهُ كَانَ أعْبَدَ النَّاسِ ، وَاقْرَأ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْر )) قُلْتُ : يَا نَبيَّ اللهِ ، إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ؟ قَالَ : (( فاقرأه في كل عشرين )) قُلْتُ : يَا نبي الله ، إني أطيق أفضل من ذلِكَ ؟ قَالَ : (( فَاقْرَأهُ في كُلِّ عَشْر )) قُلْتُ : يَا نبي اللهِ ، إنِّي أُطيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ ؟ قَالَ : (( فاقْرَأهُ في كُلِّ سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذلِكَ )) فشدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ وَقالَ لي النَّبيّ r : (( إنَّكَ لا تَدرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ )) قَالَ : فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لي النَّبيُّ r . فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ قَبِلتُ رُخْصَةَ

نَبيِّ الله r .

وفي رواية : (( وَإِنَّ لِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً )) .

وفي رواية : (( لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ )) ثلاثاً .

وفي رواية : (( أَحَبُّ الصِيَامِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُد ، وَأَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى صَلاةُ دَاوُدَ : كَانَ ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ، وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاقَى )) .

وفي رواية قال : (( أنْكَحَني أَبي امرَأةً ذَاتَ حَسَبٍ وَكَانَ يَتَعَاهَدُ كنَّتَهُ - أي : امْرَأَةَ وَلَدِهِ - فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا . فَتقُولُ لَهُ : نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشاً ، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفاً([153]) مُنْذُ أتَيْنَاهُ . فَلَمَّا طَالَ ذلِكَ عَلَيهِ ذَكَرَ ذلك للنَّبيِّ r ، فَقَالَ : (( القِنِي بِهِ )) فَلَقيتُهُ بَعد ذلك ، فَقَالَ : (( كَيْفَ تَصُومُ ؟ )) قُلْتُ : كُلَّ يَومٍ ، قَالَ : (( وَكَيْفَ تَخْتِمُ ؟ )) قُلْتُ : كُلَّ لَيْلَةٍ ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ ، وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى بَعْضِ أهْلِهِ السُّبُعَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ ، يَعْرِضُهُ مِنَ النَّهَارِ ليَكُونَ أخفّ عَلَيهِ باللَّيلِ ، وَإِذَا أَرَادَ أنْ يَتَقَوَّى أفْطَرَ أيَّاماً وَأحْصَى وَصَامَ مِثْلَهُنَّ كرَاهِيَةَ أنْ يَترُكَ شَيئاً فَارَقَ عَلَيهِ النَّبيَّ r .

كل هذِهِ الرواياتِ صحيحةٌ ، مُعظمُها في الصحيحين ، وقليل مِنْهَا في أحدِهِما .

151- وعن أبي رِبعِي حنظلة بنِ الربيعِ الأُسَيِّدِيِّ الكاتب أحدِ كتّاب

رَسُول الله r ، قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكر t ، فَقَالَ : كَيْفَ أنْتَ يَا حنْظَلَةُ ؟ قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ! قَالَ : سُبْحَانَ الله مَا تَقُولُ ؟! قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُول الله r يُذَكِّرُنَا بالجَنَّةِ وَالنَّارِ كأنَّا رَأيَ عَيْنٍ([154]) فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول الله r عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً ، قَالَ أَبُو بكر t : فَوَالله إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ، فانْطَلَقْتُ أَنَا وأبُو بَكْر حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُول الله r . فقُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُول اللهِ ! فَقَالَ رَسُول الله r : (( وَمَا ذَاكَ ؟ )) قُلْتُ : يَا رَسُول اللهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ والجَنَّةِ كأنَّا رَأيَ العَيْن فإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْواجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسينَا كَثِيراً . فَقَالَ رَسُول الله r : (( وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونونَ عِنْدِي ، وَفي الذِّكْر ، لصَافَحَتْكُمُ الملائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفي طُرُقِكُمْ ، لَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وسَاعَةً )) ثَلاَثَ مَرَات . رواه مسلم .

قولُهُ : (( رِبْعِيٌّ )) بِكسر الراء . وَ(( الأُسَيِّدِي )) بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة . وقوله : (( عَافَسْنَا )) هُوَ بِالعينِ والسينِ المهملتين أي : عالجنا ولاعبنا . وَ(( الضَّيْعاتُ )) : المعايش .

152- وعنِ ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ : بينما النَّبيُّ r يخطب إِذَا هُوَ برجلٍ قائم فسأل عَنْهُ ، فقالوا : أَبُو إسْرَائيلَ نَذَرَ أنْ يَقُومَ في الشَّمْسِ وَلاَ يَقْعُدَ ، وَلاَ يَسْتَظِل ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ ، وَيَصُومَ ، فَقَالَ النَّبيّ r : (( مُرُوهُ ، فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ ، وَلْيَقْعُدْ ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ )) رواه البخاري .

15- باب في المحافظة عَلَى الأعمال

قَالَ الله تَعَالَى : ) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ( [ الحديد : 16 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ( [ الحديد : 27 ] ، وَقالَ تَعَالَى: ) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً (

[ النحل : 92 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( [ الحجر : 99 ] .

وَأَمَّا الأَحاديث فمنها :

حديث عائشة : وَكَانَ أَحَبُّ الدِّين إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ صَاحِبُهُ عَلَيهِ . وَقَدْ سَبَقَ في البَاب قَبْلَهُ ([155]) .

153- وعن عمر بن الخطاب t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبهِ([156]) مِنَ اللَّيلِ ، أَوْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ ، فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيلِ )) رواه مسلم .

154- وعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رَضِيَ الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( يَا عبدَ اللهِ ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلان ، كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيلِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

155- وعن عائشة رضي الله عنها ، قَالَتْ : كَانَ رَسُول الله r إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مِنَ اللَّيلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيرِهِ، صَلَّى مِنَ النَّهارِ ثنْتَيْ عَشرَةَ رَكْعَةً . رواه مسلم .

16- باب في الأمر بالمحافظة عَلَى السنة وآدابها

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ( [ الحشر : 7 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ( [ النجم :3-4] ، وَقالَ تَعَالَى : ) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( [ آل عمران : 31 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِر ( [ الأحزاب :21 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( [ النساء : 65 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ( [ النساء : 59 ] قَالَ العلماء : معناه إِلَى الكتاب والسُنّة ، وَقالَ تَعَالَى : ) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ( [ النساء :80 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ ( [ الشورى : 52-53 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( [ النور : 63 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ( [ الأحزاب : 34 ] ، والآيات في الباب كثيرة .

156- وَأَما الأحاديث : فالأول : عن أبي هريرةَ t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، إِنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤالِهِمْ واخْتِلافُهُمْ عَلَى أنْبيَائِهِمْ ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

157- الثاني : عن أَبي نَجيحٍ العِرباضِ بنِ سَارية t ، قَالَ : وَعَظَنَا

رسولُ اللهِ r مَوعظةً بَليغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ ، فَقُلْنَا :

يَا رسولَ اللهِ ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأوْصِنَا ، قَالَ : (( أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيراً ، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِيِّنَ عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ؛ فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة )) رواه أَبُو داود والترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن صحيح )) .

(( النَّواجذُ )) بالذال المعجمةِ : الأنيَابُ ، وَقِيلَ : الأضْراسُ .

158- الثَّالثُ : عَنْ أَبي هريرةَ t : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ : (( كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ أبَى([157]) )) . قيلَ : وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله ؟ قَالَ : (( مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى )) رواه البخاري .

159- الرابع : عن أَبي مسلم ، وقيل : أَبي إياس سَلمة بنِ عمرو بنِ الأكوع t : أنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُول الله r بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : (( كُلْ بِيَمِينكَ )) قَالَ : لا أسْتَطيعُ . قَالَ : (( لا استَطَعْتَ )) مَا مَنَعَهُ إلاَّ الكِبْرُ فمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ . رواه مسلم .

160- الخامس : عن أَبي عبدِ الله النعمان بن بشير رَضيَ الله عنهما ، قَالَ : سمعت رَسُول الله r ، يقول : (( لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية لمسلم : كَانَ رَسُول الله r يُسَوِّي صُفُوفَنَا حتى كأنَّما يُسَوِّي بِهَا القِدَاحَ([158]) حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ . ثُمَّ خَرَجَ يَوماً فقامَ حَتَّى كَادَ أنْ يُكَبِّرَ فرأَى رَجلاً بَادياً صَدْرُهُ ، فَقَالَ : (( عِبَادَ الله ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ )) .

161- السادس : عن أَبي موسى t ، قَالَ : احْتَرقَ بَيْتٌ بالمَدِينَةِ عَلَى أهْلِهِ مِنَ اللَّيلِ ، فَلَمَّا حُدِّثَ رسولُ الله r بشَأنِهِمْ ، قَالَ : (( إنَّ هذِهِ النَّارَ عَدُوٌّ لَكُمْ ، فَإِذَا نِمْتُمْ ، فَأطْفِئُوهَا عَنْكُمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

162- السابع : عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( إنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ

مِنَ الهُدَى والعِلْم كَمَثَلِ غَيثٍ أَصَابَ أرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفةٌ طَيِّبَةٌ ، قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ([159]) أمسَكَتِ المَاء فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَربُوا مِنْهَا وَسَقُوا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَ طَائفةً مِنْهَا أخْرَى إنَّمَا هِيَ قيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ بمَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( فَقُهَ )) بضم القافِ عَلَى المشهور وقيل بكسرِها : أي صار فقيهاً .

163- الثامن : عن جابر t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أوْقَدَ نَاراً فَجَعَلَ الجَنَادِبُ والفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا ، وَأَنَا آخذٌ بحُجَزكُمْ عَنِ النَّارِ ، وَأنْتُمْ تَفَلَّتونَ مِنْ يَدَيَّ([160]) )) رواه مسلم .

(( الجَنَادِبُ )) : نَحوُ الجرادِ وَالفَرَاشِ ، هَذَا هُوَ المَعْرُوف الَّذِي يَقَعُ في النَّارِ . وَ(( الحُجَزُ )) : جَمْعُ حُجْزَة وَهِيَ مَعْقدُ الإزَار وَالسَّراويل .

164- التاسع : عَنْهُ : أنَّ رَسُول الله r أَمَرَ بِلَعْقِ([161]) الأَصَابِعِ

وَالصَّحْفَةِ([162]) ، وَقَالَ : (( إنَّكُمْ لا تَدْرونَ في أَيِّها البَرَكَةُ )) رواه مسلم .

وفي رواية لَهُ : (( إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأخُذْهَا ، فَليُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أذىً ، وَلْيَأكُلْهَا وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيطَانِ ، وَلا يَمْسَحْ يَدَهُ بالمنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أصَابعَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي في أيِّ طَعَامِهِ البَرَكَةُ )) .

وفي رواية لَهُ : (( إنَّ الشَّيطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيءٍ مِنْ شَأنِهِ ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ ، فَإذَ سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَليُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أذَىً ، فَلْيَأكُلْهَا وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيطَانِ )) .

165- العاشر : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُول الله r بِمَوعِظَةٍ ، فَقَالَ : (( يَا أيُّهَا النَّاسُ ، إنَّكُمْ مَحْشُورونَ إِلَى الله تَعَالَى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ) كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ( [ الأنبياء: 103 ] ألا وَإنَّ أَوَّلَ الخَلائِقِ يُكْسى يَومَ القِيَامَةِ إبراهيمُ r ، ألا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرجالٍ مِنْ أُمَّتي فَيُؤخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشَّمالِ ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ أصْحَابِي . فَيُقَالُ : إنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أحْدَثُوا بَعْدَكَ . فَأقُولُ كَما قَالَ العَبدُ الصَّالِحُ : ) وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ ( إِلَى قولِهِ : ) العَزِيزُ الحَكِيمُ ( [ المائدة : 117 - 118] فَيُقَالُ لِي : إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ([163]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( غُرْلاً )) : أي غَيرَ مَخْتُونِينَ .

166- الحادي عشر : عن أَبي سعيد عبد الله بن مُغَفَّلٍ t ، قَالَ : نَهَى رَسُول الله r عَنِ الخَذْفِ([164]) ، وقالَ : (( إنَّهُ لاَ يَقْتُلُ الصَّيْدَ ، وَلاَ يَنْكَأُ([165]) العَدُوَّ ، وإنَّهُ يَفْقَأُ([166]) العَيْنَ ، وَيَكْسِرُ السِّنَّ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية : أنَّ قَريباً لابْنِ مُغَفَّل خَذَفَ فَنَهَاهُ ، وَقالَ : إنَّ رَسُول الله r

نَهَى عَن الخَذْفِ ، وَقَالَ : (( إنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيداً )) ثُمَّ عادَ ، فَقَالَ : أُحَدِّثُكَ أنَّ رسولَ الله r نَهَى عَنْهُ ، ثُمَّ عُدْتَ تَخذفُ !؟ لا أُكَلِّمُكَ أَبَداً([167]) .

167- وعَن عابس بن رَبيعة ، قَالَ : رَأيْتُ عُمَرَ بن الخطاب t يُقَبِّلُ الحَجَرَ - يَعْنِي : الأسْوَدَ - وَيَقُولُ : إني أَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ ، وَلَولا أنِّي رَأيْتُ رسولَ الله r يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ([168]) . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

17- باب في وجوب الانقياد لحكم الله

وما يقوله من دُعِيَ إِلَى ذلِكَ وأُمِرَ بمعروف أَوْ نُهِيَ عن منكر

قَالَ الله تَعَالَى : ) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( [ النساء : 65 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( [ النور : 51 ] .

وفيه من الأحاديث : حديث أَبي هريرة المذكور([169]) في أول الباب قبله وغيره من الأحاديث فِيهِ .

168- عن أَبي هريرة t ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُول الله r : ) للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ( الآية[ البقرة : 283 ] اشْتَدَّ ذلِكَ عَلَى أصْحَابِ رَسُول الله r ، فَأتَوا رَسُول الله r ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، فَقَالُوا : أيْ([170]) رسولَ الله ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلاةَ والجِهَادَ

والصِّيامَ والصَّدَقَةَ ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِهِ الآيَةُ وَلا نُطيقُها .قَالَ رَسُول الله r : (( أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكتَابَينِ([171]) مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ )) فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا([172]) القومُ ، وَذَلَّتْ بِهَا ألْسنَتُهُمْ أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى في إثرِهَا : ) آمَنَ

الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (

[ البقرة : 285 ] فَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى ، فَأنزَلَ الله U : ) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( [ البقرة : 286 ] قَالَ : نَعَمْ ) رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ( قَالَ : نَعَمْ ) رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه ( قَالَ : نَعَمْ ) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( قَالَ : نَعَمْ . رواه مسلم .

18- باب في النهي عن البدع ومحدثات الأمور

قَالَ الله تَعَالَى : ) فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلال ( [ يونس : 32 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء ( [ الأنعام : 38 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ( [ النساء : 59 ] أيِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقالَ تَعَالَى : ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ( [ الأنعام : 153 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( [ آل عمران :31 ] وَالآياتُ في البَابِ كَثيرةٌ مَعلُومَةٌ .

وَأَمَّا اَلأحادِيثُ فَكَثيرَةٌ جداً ، وَهيَ مَشْهُورَةٌ فَنَقْتَصِرُ عَلَى طَرَفٍ مِنْهَا :

169- عن عائشة رَضِي الله عنها ، قَالَتْ : قَالَ رَسُول الله r : (( مَنْ

أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ([173]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية لمسلم : (( مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمرُنا فَهُوَ رَدٌّ([174]) )) .

170- وعن جابر t ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ الله r إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَينَاهُ ، وَعَلا صَوتُهُ ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ ، حَتَّى كَأنَّهُ مُنْذِرُ جَيشٍ ، يَقُولُ : (( صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ )) وَيَقُولُ : (( بُعِثتُ أنَا والسَّاعَةُ كَهَاتَينِ )) وَيَقْرِنُ بَيْنَ أُصبُعَيهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى ، وَيَقُولُ : (( أمَّا بَعْدُ ، فَإنَّ خَيْرَ الحَديثِ كِتَابُ الله ، وَخَيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ r ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ بِدْعَة ضَلالَةٌ )) ثُمَّ يَقُولُ : (( أنَا أوْلَى بِكُلِّ مُؤمِنٍ مِنْ نَفسِهِ ، مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً([175]) فَإلَيَّ وَعَلَيَّ ))([176]) رواه مسلم .

وعن العرباض بن سَارية t حدِيثه السابق([177]) في بابِ المحافظةِ عَلَى السنةِ .

19- باب فيمن سن سنة حسنة أَوْ سيئة

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ( [ الفرقان : 74 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ( [ الأنبياء : 73] .

171- عن أَبي عمرو جرير بن عبد الله t ، قَالَ : كنا في صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ رَسُول الله r فَجَاءهُ قَومٌ عُرَاةٌ مُجْتَابي النِّمَار أَوْ العَبَاء ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوف ، عَامَّتُهُمْ من مضر بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ ، فَتَمَعَّرَ رَسُول الله r لما رَأَى بِهِمْ مِنَ الفَاقَة([178]) ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ ، فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، فصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ ، فَقَالَ : (( ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ( إِلَى آخر الآية : ) إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ( ([179])، والآية الأُخْرَى التي في آخر الحَشْرِ : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ( ([180]) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرهمِهِ، مِنْ ثَوبِهِ ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشقِّ تَمرَةٍ )) فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعجَزُ عَنهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأيْتُ كَومَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ ، حَتَّى رَأيْتُ وَجْهَ رَسُول الله r يَتَهَلَّلُ كَأنَّهُ مُذْهَبَةٌ. فَقَالَ رَسُول الله r: (( مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُهَا، وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ،مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورهمْ شَيءٌ،وَمَنْ سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيهِ وِزْرُهَا ، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ، مِنْ غَيرِ أنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهمْ شَيءٌ )) ([181]) رواه مسلم .

قَولُهُ : (( مُجْتَابِي النِّمَارِ )) هُوَ بالجيم وبعد الألِف باءٌ مُوَحَّدَةٌ ، والنِّمَارِ جَمْعُ نَمِرَةٍ وَهِيَ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّطٌ . وَمَعْنَى (( مُجْتَابِيهَا )) ، أي : لاَبِسيهَا قَدْ خَرَقُوهَا في رُؤوسِهِم . وَ(( الجَوْبُ )) القَطْعُ ، ومِنْهُ قَولُهُ تعالى : ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (([182]) أي نَحتُوهُ وَقَطَعُوهُ . وَقَولُهُ : (( تَمَعَّرَ )) هُوَ بالعين المهملة : أيْ تَغَيَّرَ . وَقَولُهُ : (( رَأَيْتُ كَوْمَينِ )) بفتح الكافِ وَضَمِّهَا : أي صُبْرَتَيْنِ . وَقَولُهُ : (( كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ )) هُوَ بالذال المُعْجَمَةِ وفتح الهاءِ والباءِ الموحَّدةِ قالَهُ القاضي عِيَاضٌ وَغَيرُهُ وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ ، فَقَالَ : (( مُدْهُنَةٌ )) بدَال مهملة وَضَمِّ الهاءِ وبالنونِ وكذا ضبطه الحميدي([183]) . والصحيح المشهور هُوَ الأول . والمراد بهِ عَلَى الوجهين : الصفاءُ والاستنارة .

172- وعن ابنِ مسعود t : أن النَّبيّ r ، قَالَ : (( لَيْسَ مِنْ نَفْس تُقْتَلُ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأوْلِ كِفْلٌ([184]) مِنْ دَمِهَا ، لأَنَّهُ كَانَ أوَّلَ مَنْ سَنَّ القَتلَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

20- باب في الدلالة عَلَى خير والدعاء إِلَى هدى أَوْ ضلالة

قَالَ تَعَالَى : ) وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ( [ القصص : 87 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة ( [ النحل : 125 ] ، وَقالَ تَعَالَى : )وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ( [ المائدة :2 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ( [ آل عمران :104 ] .

173- وعن أَبي مسعود عُقبةَ بنِ عمرو الأنصاري البدري t ، قَالَ : قَالَ رسولُ الله r : (( مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ )) رواه مسلم .

174- وعن أَبي هريرة t : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ : (( مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً ، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه ، لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئاً ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ ، كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ ، لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيئاً )) رواه مسلم .

175- وعن أَبي العباس سهل بن سعد الساعدي t : أنَّ رَسُول الله r ، قَالَ يوم خَيبَر : (( لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رجلاً يَفْتَحُ الله عَلَى يَدَيهِ ، يُحبُّ اللهَ وَرَسولَهُ ، ويُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ )) ، فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أيُّهُمْ يُعْطَاهَا . فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رسولِ الله r كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا . فَقَالَ : (( أينَ عَلِيُّ ابنُ أَبي طالب ؟ )) فقيلَ: يَا رسولَ الله، هُوَ يَشْتَكي عَيْنَيهِ . قَالَ : (( فَأَرْسِلُوا إِلَيْه )) فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ رسولُ الله r في عَيْنَيْهِ ، وَدَعَا لَهُ فَبَرِىءَ حَتَّى كأنْ لَمْ يكُن بِهِ وَجَعٌ ، فأعْطاهُ الرَّايَةَ . فقَالَ عَليٌّ t : يَا رَسُول اللهِ ، أقاتِلُهمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟ فَقَالَ : (( انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتهمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإسْلاَمِ ، وَأخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى فِيهِ ، فَوَالله لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

قوله : (( يَدُوكُونَ )) : أي يَخُوضُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ . وقوله : (( رِسْلِكَ )) بكسر الراءِ وبفتحها لغتانِ ، والكسر أفصح .

176- وعن أنس t : أن فتىً مِنْ أسلم ، قَالَ : يَا رَسُول الله ، إنِّي أُرِيدُ الغَزْوَ وَلَيْسَ معي مَا أتَجَهَّز بِهِ ، قَالَ : (( ائتِ فُلاَناً فإنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ )) فَأتَاهُ ، فَقَالَ: إنَّ رسولَ الله r يُقْرِئُكَ السَّلامَ ، وَيَقُولُ : أعْطني الَّذِي تَجَهَّزْتَ بِهِ ، فَقَالَ : يَا فُلاَنَةُ ، أعْطِيهِ الَّذِي تَجَهَّزْتُ بِهِ ، وَلا تَحْبِسي مِنْهُ شَيئاً ، فَواللهِ لاَ تَحْبِسِين مِنْهُ شَيئاً فَيُبَاركَ لَكِ فِيهِ . رواه مسلم .

21- باب في التعاون عَلَى البر والتقوى

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ( [ المائدة : 2 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( [ العصر : 1-2 ] قَالَ الإمام الشافعي - رَحِمَهُ الله - كلاماً معناه : إنَّ النَّاسَ أَوْ أكثرَهم في غفلة عن تدبر هذِهِ السورة([185]) .

177- وعن أَبي عبد الرحمان زيد بن خالد الجهني t ، قَالَ : قَالَ

رسولُ الله r : (( مَنْ جَهَّزَ غَازِياً في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيرٍ فَقَدْ غَزَا )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

178- وعن أَبي سعيد الخدري t : أن رَسُول الله r بعث بعثاً إِلَى بني لِحْيَان مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَالَ : (( لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأجْرُ بَيْنَهُمَا )) رواه مسلم .

179- وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنَّ رَسُول الله r لَقِيَ رَكْباً بالرَّوْحَاءِ([186]) ، فَقَالَ : (( مَنِ القَوْمُ ؟ )) قالوا : المسلمون ، فقالوا : من أنتَ ؟ قَالَ : (( رَسُول الله )) ، فرفعت إِلَيْه امرأةٌ صبياً ، فَقَالَتْ : ألِهَذَا حَجٌّ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ، وَلَكِ أجْرٌ )) رواه مسلم .

180- وعن أَبي موسى الأشعري t ، عن النَّبيّ r ، أنَّه قَالَ : (( الخَازِنُ المُسْلِمُ الأمِينُ الَّذِي يُنفِذُ مَا أُمِرَ بِهِ فيُعْطيهِ كَامِلاً مُوَفَّراً طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ ، أحَدُ المُتَصَدِّقين )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية : (( الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ )) وضبطوا (( المُتَصَدِّقَينِ )) بفتح القاف مَعَ كسر النون عَلَى التثنية ، وعكسه عَلَى الجمعِ وكلاهما صحيح .

22- باب في النصيحة

قَالَ تَعَالَى : ) إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ ( [ الحجرات : 10 ] ، وَقالَ تَعَالَى : إخباراً عن نوحٍ r : ) وَأنْصَحُ لَكُمْ ( [ الأعراف : 62 ] ، وعن هود r : ) وَأنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ ( [ الأعراف : 68 ] .

181- وأما الأحاديث : فالأول : عن أَبي رُقَيَّةَ تَمِيم بن أوس الداريِّ t : أنَّ النَّبيّ r ، قَالَ : (( الدِّينُ النَّصِيحةُ )) قلنا : لِمَنْ ؟ قَالَ : (( لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ([187]) )) رواه مسلم .

182- الثاني : عن جرير بن عبد الله t ، قَالَ : بَايَعْتُ رسولَ الله r عَلَى إقَامِ الصَّلاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

183- الثالث : عن أنس t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ ))([188]) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

23- باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قَالَ الله تَعَالَى : ) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( [ آل عمران : 104 ] ، وَقالَ تَعَالَى : )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ( [ آل عمران : 110 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ( [ الأعراف : 199 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( [ التوبة :71 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( [ المائدة : 78 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ( [ الكهف :29 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر ( [ الحجر :94 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) فأَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( [ الأعراف : 165] وَالآيات في الباب كثيرة معلومة .

184- وأما الأحاديث : فالأول : عن أبي سعيد الخدري t ، قَالَ : سَمِعت رَسُول الله r ، يقول : (( مَنْ رَأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أضْعَفُ([189]) الإيمَانِ )) رواه مسلم .

185- الثاني : عن ابن مسعود t : أن رَسُول الله r ، قَالَ : (( مَا مِنْ نَبيٍّ بَعَثَهُ اللهُ في أمَّة قَبْلِي إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ([190]) وَأصْحَابٌ يَأخُذُونَ بِسنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ([191]) يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرونَ ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلسَانِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ ، وَلَيسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَل )) رواه مسلم .

186- الثالث : عن أبي الوليدِ عبادة بن الصامِت t ، قَالَ : بَايَعْنَا

رَسُول الله r عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ ، والمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَعَلَى أثَرَةٍ عَلَيْنَا ، وَعَلَى أنْ لاَ نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ إلاَّ أنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ بُرْهَانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحَقِّ أيْنَمَا كُنَّا لاَ نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

(( المَنْشَطُ وَالمَكْرَهُ )) بفتح ميمَيْهِما : أي في السهل والصعب . وَ(( الأثَرَةُ )) : الاختِصاص بالمشترَكِ وقد سبق بيانها . (( بَوَاحاً )) بفتح الباءِ الموحدة بعدها واو ثُمَّ ألف ثُمَّ حاءٌ مهملة : أي ظاهِراً لا يحتمل تأويلاً .

187- الرابع : عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( مَثَلُ القَائِمِ في حُدُودِ اللهِ وَالوَاقعِ فِيهَا ، كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَصَارَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، وَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقهُمْ ، فَقَالُوا : لَوْ أنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنَا ، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكُوا جَميعاً ، وَإنْ أخَذُوا عَلَى أيدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوْا جَميعاً )) رواه البخاري .

(( القَائِمُ في حُدُودِ اللهِ تَعَالَى )) معناه : المنكر لَهَا ، القائم في دفعِها وإزالتِها ، وَالمُرادُ بالحُدُودِ : مَا نَهَى الله عَنْهُ . (( اسْتَهَمُوا )) : اقْتَرَعُوا .

188- الخامس : عن أُمِّ المؤمنين أم سلمة هند بنت أَبي أمية حذيفة رضي الله عنها ، عن النَّبيّ r ، أنه قَالَ : (( إنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعرِفُونَ وتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ )) قَالوا : يَا رَسُول اللهِ ، ألا نُقَاتِلهم ؟ قَالَ : (( لا ، مَا أَقَامُوا فيكُمُ الصَّلاةَ )) رواه مسلم .

معناه : مَنْ كَرِهَ بِقَلْبهِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ إنْكَاراً بِيَدٍ وَلا لِسَانٍ فقَدْ بَرِىءَ مِنَ الإِثْمِ ، وَأَدَّى وَظيفَتَهُ ، وَمَنْ أَنْكَرَ بحَسَبِ طَاقَتِهِ فَقَدْ سَلِمَ مِنْ هذِهِ المَعْصِيَةِ وَمَنْ رَضِيَ بِفِعْلِهِمْ وَتَابَعَهُمْ فَهُوَ العَاصِي .

189- السادس : عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنتِ جحش رَضِي الله عنها : أن النَّبيّ r دخل عَلَيْهَا فَزِعاً ، يقول : (( لا إلهَ إلاّ الله ، وَيلٌ للْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مِثلَ هذِهِ )) ، وحلّق بأُصبُعيهِ الإبهامِ والتي تليها ، فقلتُ : يَا رَسُول الله ، أنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : (( نَعَمْ ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ([192]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

190- السابع : عن أَبي سعيد الخُدري t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ : (( إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ ! )) فقالوا : يَا رَسُول الله ، مَا لنا مِنْ مجالِسِنا بُدٌّ ، نتحدث فِيهَا . فَقَالَ رسولُ الله r : (( فَإذَا أبَيْتُمْ إلاَّ المَجْلِسَ ، فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ )) . قالوا : وما حَقُّ الطَّريقِ يَا رسولَ الله ؟ قَالَ : (( غَضُّ البَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى ، وَرَدُّ السَّلامِ ، وَالأمْرُ بِالمَعْرُوفِ ، والنَّهيُ عن المُنْكَرِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

191- الثامن : عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رَسُول الله r رأى خاتَماً مِنْ ذهبٍ في يدِ رجلٍ فنَزعه فطرحه ، وَقالَ : (( يَعْمدُ أحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ ! ))‍‍‍‍‍‍ فقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَمَا ذهب رَسُول اللهِ r : خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ . قَالَ : لا والله لا آخُذُهُ أبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رسولُ الله r . رواه مسلم .

192- التاسع : عن أَبي سعيد الحسن البصري : أن عائِذَ بن عمرو t دخل عَلَى عُبَيْدِ اللهِ بنِ زياد ، فَقَالَ : أي بُنَيَّ ، إني سمعت رَسُول الله r ، يقول : (( إنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمَةُ([193]) )) فَإِيَّاكَ أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ، فَقَالَ لَهُ : اجلِسْ فَإِنَّمَا أنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أصْحَابِ مُحَمَّد r ، فَقَالَ : وهل كَانَتْ لَهُم نُخَالَةٌ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفي غَيْرِهِمْ . رواه مسلم .

193- العاشر: عن حذيفة t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ: (( وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ

ثُمَّ تَدْعُوْنَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ )) رواه الترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

194- الحادي عشر : عن أَبي سعيد الخدري t ، عن النَّبيّ r ، قَالَ :

(( أفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ )) رواه أَبُو داود والترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

195- الثاني عشر : عن أَبي عبدِ الله طارِقِ بن شِهاب البَجَليِّ الأَحْمَسِيّ t : أنَّ رجلاً سأل النَّبيّ r وقد وضع رِجله في الغَرْزِ : أيُّ الجِهادِ أفضلُ ؟ قَالَ : (( كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ )) رواه النسائي بإسناد صحيح .

(( الغرز )) بغين معجمة مفتوحة ثُمَّ راء ساكنة ثُمَّ زاي : وَهُوَ ركاب كَوْرِ الجملِ إِذَا كَانَ من جلد أَوْ خشب وقيل : لا يختص بجلد وخشب .

196- الثالث عشر : عن ابن مسعود t ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله r : (( إنَّ أوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ ، فَيَقُولُ : يَا هَذَا، اتَّقِ الله ودَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ ، فَلا يَمْنَعُهُ ذلِكَ أنْ يَكُونَ أكِيلَهُ وَشَريبَهُ وَقَعيدَهُ ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ )) ثُمَّ قَالَ : ) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ( - إِلَى قوله - ) فاسِقُونَ ( [ المائدة : 78- 81 ] ثُمَّ قَالَ : (( كَلاَّ، وَاللهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ، وَلَتَأخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ ، وَلَتَأطِرُنَّهُ عَلَى الحَقِّ أطْراً ، وَلَتَقْصُرُنَّه عَلَى الحَقِّ قَصْراً ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ ليَلْعَننكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ )) رواه أَبُو داود والترمذي ، وَقالَ : (( حديث حسن )) .

هَذَا لفظ أَبي داود ، ولفظ الترمذي ، قَالَ رَسُول الله r : (( لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ في المَعَاصي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا ، فَجَالَسُوهُمْ في مَجَالِسِهمْ ، وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ ، فَضَربَ اللهُ قُلُوبَ بَعضِهِمْ بِبعْضٍ ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسانِ دَاوُد وعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بما عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ )) فَجَلَسَ رَسُول الله r وكان مُتَّكِئاً ، فَقَالَ : (( لا ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأطِرُوهُمْ عَلَى الحَقِّ أطْراً )) .

قوله : (( تَأطِرُوهم )) : أي تعطفوهم . (( ولتقْصُرُنَّهُ )) : أي لتحبِسُنَّه .

197- الرابع عشر : عن أَبي بكر الصديق t ، قَالَ : يَا أيّها النَّاس ، إنّكم لتَقرؤُون هذِهِ الآية : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ( [ المائدة : 105 ] وإني سمعت رَسُول الله r ، يقول : (( إنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يأخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ )) رواه أَبُو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة .

24- باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف

أَوْ نهى عن منكر وخالف قوله فعله

قَالَ الله تَعَالَى : ) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( [ البقرة : 44 ] ، وَقالَ تَعَالَى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( [ الصف : 2-3 ] ، وَقالَ تَعَالَى إخباراً عن شعيب r : ) وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ( [ هود :88 ] .

198- وعن أَبي زيد أسامة بن حارثة رضي الله عنهما ، قَالَ : سمعت

رَسُول الله r ، يقول : (( يُؤْتَى بالرَّجُلِ يَوْمَ القيَامَةِ فَيُلْقَى في النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أقْتَابُ بَطْنِهِ فَيدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ في الرَّحَى ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْه أهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ : يَا فُلانُ ، مَا لَكَ ؟ أَلَمْ تَكُ تَأمُرُ بالمعْرُوفِ وَتنهَى عَنِ المُنْكَرِ ؟ فَيقُولُ : بَلَى ، كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ ، وأنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

قوله : (( تَنْدلِقُ )) هُوَ بالدالِ المهملةِ ، ومعناه تَخرُجُ . وَ(( الأَقْتَابُ )) : الأمعاءُ ، واحدها قِتْبٌ .

25- باب الأمر بأداء الأمانة

قَالَ الله تَعَالَى : ) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( [ النساء : 58] ، وَقالَ تَعَالَى : ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ( [ الأحزاب : 72 ] .

199- وعن أَبي هريرة t : أن رَسُول الله r ، قَالَ : (( آيةُ([194]) المُنافقِ ثلاثٌ : إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعدَ أخْلَفَ([195]) ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

وفي رواية([196]) : (( وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ )) .

200- وعن حذيفة بن اليمان t ، قَالَ : حدثنا رَسُول الله r حدِيثَينِ قَدْ رأيْتُ أحَدَهُمَا وأنا أنتظرُ الآخر : حدثنا أن الأمانة نَزلت في جَذرِ قلوبِ الرجال ، ثُمَّ نزل القرآن فعلموا مِنَ القرآن ، وعلِموا من السنةِ ، ثُمَّ حدّثنا عن رفع الأمانة ، فَقَالَ : (( يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبهِ ، فَيَظَلُّ أثَرُهَا مِثلَ الوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّومَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبهِ ، فَيَظَلُّ أثَرُهَا مِثلَ أَثَرِ المَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ ، فَتَرَاهُ مُنْتَبراً وَلَيسَ فِيهِ شَيءٌ )) ثُمَّ أخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ (( فَيُصْبحُ النَّاسُ يَتَبَايعُونَ ، فَلا يَكَادُ أحدٌ يُؤَدّي الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ في بَني فُلان رَجُلاً أميناً ، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ : مَا أجْلَدَهُ ! مَا أَظْرَفَهُ ! مَا أعْقَلَهُ ! وَمَا في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّة مِن خَرْدَل مِنْ إيمَان )) . وَلَقدْ أتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أيُّكُمْ بَايَعْتُ : لَئن كَانَ مُسْلِماً لَيَرُدَّنَّهُ عليَّ دِينهُ ، وَإنْ كَانَ نَصْرانِيّاً أَوْ يَهُودِياً لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ ، وَأَمَّا اليَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايعُ مِنْكُمْ إلاَّ فُلاناً وَفُلاناً([197]) )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

قوله : (( جَذْرُ )) بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة : وَهُوَ أصل الشيء

وَ(( الوكت )) بالتاء المثناة من فوق : الأثر اليسير . وَ(( المَجْلُ )) بفتح الميم وإسكان الجيم : وَهُوَ تَنَفُّطٌ في اليدِ ونحوها من أثرِ عمل وغيرِهِ . قوله : (( مُنْتَبراً )) : مرتفِعاً . قوله : (( ساعِيهِ )) : الوالي عَلَيهِ .

201- وعن حُذَيفَة وأبي هريرة رضي الله عنهما ، قالا : قَالَ رَسُول الله r : (( يَجمَعُ اللهُ تبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ المُؤمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ([198]) لَهُمُ الجَنَّةُ ، فَيَأتُونَ آدَمَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِ ، فَيقُولُونَ : يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الجَنَّةَ ، فَيقُولُ : وَهَلْ أخْرَجَكُمْ مِنَ الجَنَّةِ إلاَّ خَطيئَةُ أبيكُمْ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لَسْتُ بِصَاحِبِ ذلِكَ ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْراهيمَ خَلِيل اللهِ . قَالَ : فَيَأتُونَ إبرَاهِيمَ فَيَقُولُ إبراهيم : لَسْتُ بِصَاحِبِ ذلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَليلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ الله تَكليماً. فَيَأتُونَ مُوسَى ، فَيَقُولُ : لستُ بِصَاحِبِ ذلِكَ ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسى كلمةِ اللهِ ورُوحه ، فيقول عيسى : لستُ بصَاحبِ ذلِكَ ، فَيَأتُونَ مُحَمَّداً r فَيَقُومُ فَيُؤذَنُ لَهُ ، وتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ([199]) فَيَقُومانِ جَنْبَتَي الصِّرَاطِ يَمِيناً وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أوَّلُكُمْ

كَالبَرْقِ )) قُلْتُ : بأبي وَأمِّي ، أيُّ شَيءٍ كَمَرِّ البَرقِ ؟ قَالَ : (( ألَمْ تَرَوا كَيْفَ يمُرُّ وَيَرْجِعُ في طَرْفَةِ عَيْن ، ثُمَّ كَمَرّ الرِّيحِ ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ ، وَشَدِّ([200]) الرِّجَال تَجْري بهمْ أعْمَالُهُمْ ، وَنَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّراطِ ، يَقُولُ : رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ ، حَتَّى تَعْجِزَ أعْمَالُ العِبَادِ ، حَتَّى يَجِيء الرَّجُلُ لا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلاَّ زَحْفاً ، وَفي حَافَتي الصِّراطِ كَلاَلِيبُ معَلَّقَةٌ مَأمُورَةٌ بِأخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ ، وَمُكَرْدَسٌ([201]) في النَّارِ )) وَالَّذِي نَفْسُ أَبي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ ، إنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفاً([202]) . رواه مسلم .

قوله : (( وراء وراء )) هُوَ بالفتح فيهما . وقيل : بالضم بلا تنوين ومعناه : لست بتلك الدرجة الرفيعة ، وهي كلمة تذكر عَلَى سبيل التواضع . وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم ([203])، والله أعلم .

202- وعن أَبي خُبيب - بضم الخاء المعجمة - عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، قَالَ : لَمَّا وَقفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الجَمَل([204]) دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبه ، فَقَالَ :

يَا بُنَيَّ، إنَّهُ لاَ يُقْتَلُ اليَومَ إلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإنِّي لا أراني إلاَّ سَأُقْتَلُ اليوم مظلوماً، وإنَّ مِنْ أكبرَ هَمِّي لَدَيْنِي ، أفَتَرَى دَيْننا يُبقي من مالِنا شَيئاً ؟ ثُمَّ قَالَ : يَا بُنَيَّ ، بعْ مَا لَنَا وَاقْضِ دَيْنِي ، وَأوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ ، يعني لبني عبد الله بن الزبير ثُلُثُ الثُّلُث . قَالَ : فَإنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّينِ شَيء فَثُلُثُه لِبَنِيكَ . قَالَ هِشَام : وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ قَدْ وَازى([205]) بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبيبٍ وَعَبَّادٍ ، وَلهُ يَوْمَئذٍ تِسْعَةُ بَنينَ وَتِسْعُ بَنَات . قَالَ عَبدُ الله : فَجَعلَ يُوصينِي بدَيْنِهِ وَيَقُولُ : يَا بُنَيَّ ، إنْ عَجَزْتَ عَن شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِنْ عَلَيهِ بِمَوْلاَيَ . قَالَ : فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أرَادَ حَتَّى قُلْتُ : يَا أبَتِ مَنْ مَوْلاَكَ ؟ قَالَ : الله . قَالَ : فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ في كُرْبةٍ مِنْ دَيْنِهِ إلاَّ قُلْتُ : يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ فَيَقْضِيَهُ . قَالَ : فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ وَلَم يَدَعْ دِينَاراً وَلا دِرْهماً إلاَّ أرَضِينَ ، مِنْهَا الغَابَةُ([206]) وإحْدَى عَشْرَةَ دَاراً بالمَدِينَةِ ، وَدَارَيْنِ بالبَصْرَةِ ، ودَاراً بالكُوفَةِ ، ودَاراً بمِصْرَ . قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي كَانَ عَلَيهِ أنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأتِيهِ بالمال ، فَيَسْتَودِعُهُ إيَّاهُ ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ : لا ، وَلَكِنْ هُوَ سَلَفٌ إنِّي أخْشَى عَلَيهِ الضَّيْعَةَ ([207]) . وَمَا وَليَ إمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةً ([208]) ولا خراجاً ([209]) وَلاَ شَيئاً إلاَّ أنْ يَكُونَ في غَزْوٍ مَعَ رسولِ الله r أَوْ مَعَ أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ y ، قَالَ عَبدُ الله : فَحَسَبْتُ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ ألْفيْ ألْفٍ وَمئَتَي ألْف ‍! فَلَقِيَ حَكِيمُ بنُ حِزَام عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ : يَا ابْنَ أخِي ، كَمْ عَلَى أخي مِنَ الدَّيْنِ ؟ فَكَتَمْتُهُ وَقُلْتُ : مِئَةُ ألْف . فَقَالَ حَكيمٌ : واللهِ مَا أرَى أمْوَالَكُمْ تَسَعُ هذِهِ . فَقَالَ عَبْدُ اللهِ : أرَأيْتُكَ إنْ كَانَتْ ألْفَي ألف وَمئَتَيْ ألْف ؟ قَالَ : مَا أرَاكُمْ تُطيقُونَ هَذَا ، فَإنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بي ، قَالَ : وَكَانَ الزُّبَيرُ قَد اشْتَرَى الغَابَةَ بِسَبْعِينَ ومئة ألف ، فَبَاعَهَا عَبدُ اللهِ بِألْفِ ألْف وَسِتّمِئَةِ ألْف ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ : مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيرِ شَيْء فَلْيُوافِنَا بِالغَابَةِ ، فَأتَاهُ عَبدُ اللهِ بنُ جَعفَر ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيرِ أرْبَعمئةِ ألْف ، فَقَالَ لعَبدِ الله : إنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكمْ ؟ قَالَ عَبدُ الله : لا ، قَالَ : فَإنْ شِئتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إنْ إخَّرْتُمْ ، فَقَالَ عَبدُ الله : لا ، قَالَ : فَاقْطَعُوا لِي قطْعَةً ، قَالَ عَبدُ الله : لَكَ مِنْ هاهُنَا إِلَى هَاهُنَا . فَبَاعَ عَبدُ اللهِ مِنهَا فَقَضَى عَنْهُ دَينَه وَأوْفَاهُ ، وَبَقِيَ مِنْهَا أرْبَعَةُ أسْهُم وَنِصْفٌ ، فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَة وَعنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ ، وَالمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَابْنُ زَمْعَةَ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاويَةُ : كَمْ قُوِّمَتِ الغَابَةُ ؟ قَالَ : كُلُّ سَهْم بمئَة ألف، قَالَ : كَمْ بَقِيَ مِنْهَا ؟ قَالَ: أرْبَعَةُ أسْهُم وَنصْفٌ، فَقَالَ المُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيرِ : قَدْ أخَذْتُ مِنْهَا سَهماً بِمئَةِ ألف ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ : قَدْ أخَذْتُ مِنْهَا سَهْماً بمئَةِ ألْف . وَقالَ ابْنُ زَمْعَةَ : قَدْ أخَذْتُ سَهْماً بِمئَةِ ألْف ، فَقَالَ مُعَاويَةُ : كَمْ بَقِيَ مِنْهَا ؟ قَالَ : سَهْمٌ ونصْفُ سَهْم ، قَالَ : قَدْ أخَذْتُهُ بخَمْسِينَ وَمئَةِ ألْف . قَالَ : وَبَاعَ عَبدُ الله بْنُ جَعفَر نَصيبهُ مِنْ مَعَاوِيَةَ بستِّمِئَةِ ألْف ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ ، قَالَ بَنُو الزُّبَيرِ : اقسمْ بَينَنَا ميراثَنا ، قَالَ : وَاللهِ لا أقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أنَادِي بالمَوْسم أرْبَعَ سنينَ : ألا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيرِ دَيْنٌ فَلْيَأتِنَا فَلْنَقْضِهِ . فَجَعَلَ كُلّ سَنَةٍ يُنَادِي في المَوْسِمِ ، فَلَمَّا مَضَى أرْبَعُ سنينَ قَسَمَ بيْنَهُمْ وَدَفَعَ الثُّلُثَ . وَكَانَ للزُّبَيْرِ أرْبَعُ نِسْوَةٍ ، فَأصَابَ كُلَّ امرَأةٍ ألْفُ ألف وَمِئَتَا ألْف ، فَجَميعُ مَالِه خَمْسُونَ ألف ألْف وَمِئَتَا ألْف . رواه البخاري .

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...