65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الثلاثاء، 16 مايو 2023

ج1. موسوعة خطب المنبر



ج1. موسوعة خطب المنبر

موسوعة شاملة للخطب التي تم تفريغها في موقع شبكة المنبر

الصوفية وبدعة المولد

-------------------------

قضايا في الاعتقاد

الاتباع, البدع والمحدثات

-------------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - العزة في صدر الإسلام لله ولرسوله وللمؤمنين 2 - الأمر بالإعتصام بالكتاب والسنة 3 - الإفتراق حدث بعد عهد الخلفاء الراشدين 4 - ظهور التصوف 5 - بعض نماذج الغلو في المجتمع المسلم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، واشكروه على أن أخرجكم من الظلمات إلى النور؛ فلقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وشرك، وظلم، وفساد أخلاق … وغير ذلك، وقد انتهت تلك الفترة ببزوغ فجر الإسلام وطلوع شمسه وانتشار نوره في العالم، حتى أنار الطريق لكل سالك، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فقامت للإسلام دولة قوية ذات منعة، وعاش المسلمون في عصر النبوة حياة لم يسبق لها مثيل ولم يوجد لها مثيل؛ توحيد خالص لله وحده، وعدل، وإنصاف وطاعة لله ولرسوله، وتحابب في الله، وتآخ، واعتزاز بالإسلام، وعزة، وكرامة، وهيبة في قلوب الأعداء، وقد سجل لهم القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون:8].

عباد الله!

وهكذا عاش المسلمون في ذلك العهد الفريد إلى أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى.

إلا أنه لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أكمل الله الدين، والكامل لا يقبل الزيادة عادة، وإن نعمة الله على اتباع محمد بالإسلام قد تمت، ولذلك قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة:8].

نزلت هذه الآية في حجة الوداع في يوم الجمعة بعرفة، وفي اليوم نفسه خطب النبي خطبة يوم عرفة المشهورة، جاء في آخرها قوله عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب أصحابه: ((أنتم مسؤولون عني؛ فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت ونصحت. فجعل يقول عليه الصلاة والسلام: اللهم! اشهد، اللهم! اشهد، اللهم! اشهد))(1).

عباد الله!

ولم يعش النبي بعد حجة الوداع طويلاً، بل أخذ يحدث أصحابه وأتباعه أنه إن تركهم سوف لا يسلمهم للفوضى، بل يتركهم على منهج واضح ليس فيه أدنى غموض؛ إذ قال لهم: ((تركتكم على محجة بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك))، وقال: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)).

فتركهم على هذا المنهج المصون، ونصحهم ليتمسكوا به ولا يحيدوا عنه ولا يزيدوا فيه، وحذرهم من الزيادة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد))(2)، وقال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))(3).

ثم إنه عليه الصلاة والسلام ترك هذا المنهج في أيد أمينة وقوية، فى أيدي جماعة كانت حريصة على الأمة حرصاً شديداً، وهم رجال رباهم على المنهج، وهم أصحابه الذين اختارهم الله لصحبته، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين المهديون؛ فحافظوا على المنهج وعلى وحدة الأمة، ووقفوا أمام أسباب الانقسام والتفرق؛ لئلا تعود الأمة إلى الجاهلية الأولى من جديد، أو إلى ما يشابه ذلك.

في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة علي رضي الله عنه خرجت الخوارج، وتشيعت، ثم ظهرت الفرق متتابعة من جبرية ومرجئة وجهمية ومعتزلة وأشعرية وما تريدية، فقسمت بين المسلمين ما تتوقعه من الانقسام والتفرق؛ تصديقاً لقوله : ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة))(4).

وهكذا بدأت الجاهلية المعاصرة من جديد في صور شتى، وأخص من تلك الصور جاهلية التصوف؛ فقد ظهرت وانتشرت بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (إن الصوفية ظهرت أول ما ظهرت في البصرة بالعراق على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد والتقشف المبالغ فيه، بل لقد زين لهم الشيطان أن يتخذوا لباس الشهرة، فلبسوا الصوف، وقاطعوا القطن؛ بدعوى أنهم يريدون التشبه بالمسيح عليه السلام، فنسبوا إلى الصوف، فقيل لهم: الصوفية، فدعوى أنهم منسوبون إلى أهل الصفة أو إلى الصف المتقدم دعوى باطلة يكذبها الواقع واللغة).

عباد الله:‍

هكذا ظهرت جاهلية التصوف، ومن تلك المدينة انتشرت، ولو رجعنا إلى الوراء في تاريخنا الطويل؛ لوجدنا أن هذه البدعة التي تسمى بالتصوف اليوم قد أطلت برأسها في عهد الرسول ؛ إلا أنها قمعت عند أول ظهورها أو التفكير فيها، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا؛ كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟‍فقال أحدهم: أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج أبداً وقال آخر: وأنا أقوم الليل ولا أرقد، وقال آخر: وأنا أصوم ولا أفطر. فجاء رسول الله، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله؛ إنى لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني)) (5)

فأشعرهم النبي أن الأساس في العبادة الاتباع لا الابتداع.

عباد الله‍‍!

ومما ينبغي أن يعلم أن حسن النية وسلامة القصد والرغبة في الإكثار من التعبد كل هذه المعاني لا تشفع لصاحب البدعة لتقبل بدعته أو لتصبح حسنة وعملاً صالحاً؛ لأن هؤلاء الثلاثة لم يحملهم على ما عزموا عليه إلا الرغبة في الخير بالإكثار من عبادة الله رغبة فيما عند الله؛ فنيتهم صالحة، وقصدهم حسن؛ إلا أن الذي فاتهم هو التقيد بالسنة التي موافقتها هي الأساس في قبول الأعمال مع الإخلاص لله تعالى وحده.

عباد الله!

ولعلنا عرفنا أن بدعة التصوف ظهرت أول ما ظهرت مغلفة بغلاف العبادة والزهد، وهما أمران مقبولان في الإسلام، بل مرغوب فيهما، ثم ظهرت على حقيقتها التي هي عليها الآن، وهذا شأن كل بدعة؛ إذ لا تكاد تظهر وتقبل إلا مغلفة بغلاف يحمل على الواجهة التي تقابل الناس معنى إسلامياً مقبولاً بل محبوباً.

عباد الله!

يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في معرض حديثه عن الصوفية: ولم يطل الزمن حتى انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة والمرتزقة، وهذه المتصوفة المنتشرة فى العالم الإسلامي من أولئك المبتدعة والزنادقة؛ كالحلاج الذي قتل أخيراً بزندقته، وابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، وغيرهم من مشايخ الصوفية.

وقد شوهت هذه الطائفة - الصوفية - جمال الدين، وغيرت مفاهيم كثيرة من تعاليم الإسلام لدى كثير من المخدوعين، الذين يحسنون الظن بكل ذي عمامة مكورة وسجادة مزخرفة ومسبحة طويلة، ويستسمنون كل ذي ورم، فأخذوا يحاولون أن يفهموا الإسلام بمفهوم صوفي بعيد عن الإسلام الحق الذي كان عليه المسلمون الأولون قبل بدعة التصوف التي دخلت على السذج، وحالت بينهم وبين المفهوم الصحيح للإسلام.

عباد الله!

لا شك أن من أحدث عبادة من عند نفسه لم يشرعها الله قد رغب عن سنة رسول الله واتبع غير سبيل المؤمنين، وقد ورد الوعيد في ذلك؛ فعن ابن مسعود؛ قال: قال رسول الله : ((أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني، فأقول: يا رب! أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؛ إنهم غيروا وبدلوا. فيقول النبي : سحقاً سحقاً لمن غير وبدل))(6).

فهذه براءة من النبي لمن غير وبدل في دين الله ما لم يأذن به الله.

اللهم! اجعلنا متبعين لا مبتدعين، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، على سنة رسولك .

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

إن خير الهدي هدي محمد ، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله!

لقد كثرت البدع في زماننا هذا وانتشرت، وعلى سبيل المثال لا الحصر منها التزام كيفيات وهيئات معينة؛ كالذكر على هيئة الاجتماع بصوت واحد، والتزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته، والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج، وتخصيصه بعبادة معينة؛ علماً بأن تاريخه قد اختلف في تحديده، وحتى لو عرف تاريخه؛ فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة.

عباد الله!

وهناك بدعة خطيرة تفعل في هذا الشهر - ربيع الأول -، تمس شخصية الرسول ، وهي بدعة الاحتفال بعيد مولده ، والمتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل، بل ولا في القرون المفضلة، حتى جاءت الدولة الفاطمية .والتي انتسبت إلى فاطمة ظلماً وعدواناً، بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي - وقيل: مجوسي -، وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبى ، وعلي بن أبي طالب وولاية الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.

عباد الله

قسم العلماء الاجتماع الذي يكون في ربيع الأول، ويسمى باسم المولد، إلى قسمين:

أحدهما: ما خلا من المحرمات؛ فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في (الفتاوى الكبرى) : أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية؛ كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار؛ فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.

وقال في (اقتضاء الصراط المستقيم) إن هذا (أي: اتخاذ المولد عيداً) لم يفعله السلف، (مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه).

قال: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً؛ لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص).

وقال الفاكهاني في رسالته في المولد المسماة بـ (المورد في الكلام على عمل المولد)؛ قال في النوع الخالي من المحرمات من المولد: (لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، والمتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة؛ قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً إليه، وحقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً أو حراماً).

وأما القسم الثانى من عمل المولد، وهو المحتوي على المحرمات؛ فهذا منعه العلماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في فتوى له: (فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة؛ فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).

وقال الفاكهاني في "رسالته": "الثاني (أي: من نوعي عمل المولد) : أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم المال ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه لما يحدث من ألم الحيف وقد قال العلماء: أخذ المال بالباطل كأخذه بالسيف، لاسيما إن أدى ذلك إلى شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل من الدفوف، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات: إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفراد، وهن رافعات أصواتهن بالتطريب، غافلات عن قوله: إن ربك لبالمرصاد [الفجر:14]. وهذا لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، ولاسيما أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.

وقال الفاكهاني: (وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب. هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - وهو ربيع الأول - هو بعينه الذي توفي فيه؛ فليس الفرح فيه بأولى من الحزن).

عباد الله! ‍

لا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حب الرسول هي التي حدت بأولئك الجهلة أن يبتدعوا ولا يتبعوا، وكيف تجتمع دعوى حب الرسول مع مخالفة أمره في النهي عن الإحداث في الدين، والضدان لا يجتمعان، وقد جعل الله ميزان محبته ودليلها اتباع رسول الله ؛ قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم [آل عمران:31].

__________

(1) 1 الحديث اخرجة الامام مالك بن انس رحمه الله في " الموطا) في ( القدر، رقم 3، باب النهى عن القول بالقدر)، بلاغا، بلغة ان رسول الله قال: ((تركت فيكم امرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله))

(2) 3 الحديث اخرجه: البخارى ومسلم وابو داود من حديث عائشة رضى الله عنها .

(3) 2 الحديث اخرجه الترمذى وصححه ولكن بدل قوله: " عليكم " بـ "علية " وابن حبان والحاكم، وضعفه ابن القطان الفاسى المتوفى سنة (628هـ) لجهالة حال عبد الرحمن بن عمرو السلمى وقال شعيب الارنؤوط: " والية اميل "

(4) 4 هذا الحديث جزء من حديث اخرجة ابن ماجة رحمة الله في ( كتاب الفتن باب افتراق الامم ) وقال البوصيرى في "الزوائد" هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات ،رواة الامام احمد في " مسنده ".

(5) 5 رواه البخارى .

(6) 6 الحديث اخرجه البخارى في ( الفتن) بلفظ مقارب، وكذا مسلم في ( الطهارة) بلفظ مقارب، وابن ماجة في (الزهد 4361) بلفظ مقارب ومالك رحمه الله في " الموطا" ( كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء، حديث رقم 28).

(1/1)

الطلاق

-----------------------

فقه

الطلاق, النكاح

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - عقد النكاح وآثاره الشرعية والإجتماعية 2 - دعوة الإسلام لحفظ العلاقات الزوجية وإزالة كل ما يعكر صفوها 3 - كيفية فض الخلاف بين الزوجين 4 - الطلاق دواء عند إستعمال الداء 5 - صور مشينة متعلقة بالطلاق

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الناس!

اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].

عباد الله!

اعلموا أن الله فرض فرائض؛ فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها؛ فاعرفوا حدود الله وأحكامه، واعملوا بما تقتضيه شريعته الكاملة.

ألا وإن مما أحكمه الله شرعاً وتنظيماً النكاح، الذي جعله الله صلة بين بني آدم، وسبباً للقربى بينهم، ورتب لعقده ونسخه أحكاماً معلومة وحدوداً مدونة؛ فهو عقد عظيم، يترتب عليه من الأحكام الشيء الكثير؛ النسب، والإرث، والمحرمية، والنفقات . . . وغيرها.

ألا وإن في النكاح فوائد عديدة :-منها: أنه سبب لغض البصر وحفظ الفرج عما حرم الله؛ كما قال : ((يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة؛ فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج))(1).

- ومنها حصول الراحة النفسية والسكن والأنس بين الزوجين؛ قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها [الروم:21]. وقال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [الأعراف:189]. والسكن هو الأنس والطمأنينة.

- ومنها: حصول الذرية التي بها بقاء النسل الإنساني، وتكثير عدد المسلمين.

ولهذه الفوائد وغيرها أمر الله به، ووعد بترتب الخير عليه؛ قال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [النور:32].

ورغب سبحانه بالإبقاء على الزوجية، ونهى عن كل ما يعرضها للزوال، فأمر بالمعاشرة بين الزوجين بالمعروف، ولو مع كراهة أحدهما للآخر؛ قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكوهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً [النساء:19].

وبين الرسول ما جعلت عليه المرأة؛ ليكون الرجل خبيراً بحالها، فلا يطلب منها أكثر مما تطيق؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه؛ كسرته، وإن تركته؛ لم يزل أعوج؛ فاستوصوا بالنساء))(2)، وفى رواية لمسلم: ((وكسرها طلاقها)).

وقد أرشد الله تعالى إلى وسائل لعلاج ما يحدث بين الزوجين، لو استخدمها كثير من الناس؛ لرأينا السكينة تسود حياتهم الزوجية، ولما شغلت المحاكم بالقضايا الزوجية.

فإذا شعر الزوج بنفرة زوجته منه وعدم انقيادها لحقه؛ فقد أمره الله تعالى أن يصلح ذلك بالحكمة واتخاذ الخطوات المناسبة:

قال تعالى: واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [النساء:34].

أي: الزوجات اللاتي يحصل منهن عصيان لأزواجهن فيما يجب عليهن لهم، فذكروهن ما أوجب الله عليهن في كتابه من حسن العشرة للزوج، وما عليهن من الوعيد في مخالفة ذلك؛ فإن لم يجد فيهن الوعظ؛ فعاقبوهن بالهجر، وهو الإعراض عنهن في الفرش؛ لأن ذلك يشق عليهن، فيحملهن على الإنقياد لأزواجهن، والعودة إلى طاعتهم؛ فإن لم يجد في الزوجة الهجران؛ فإنها تعاقب بما هو أشد منه، وهو الضرب غير الشديد غير المبرح.

عباد الله!

كل هذه الإجراءات يتخذها الزوج مع زوجته دون تدخل من أحد خارجي؛ فإن أستمر الشقاق بين الزوجين؛ فقد أمر الله تعالى بالتدخل بينهما لإصلاحه؛ قال تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما [النساء:35]. فأمر سبحانه عند تطور الخلاف بتشكيل هيئة للنظر في إزالته، تتكون من عضوين، يتحليان بالإنصاف والعدل، أحدهما من أسرة الزوج، والثاني من أسرة الزوجة، ينظران في ملابسات الخلاف، ويأخذان على يد المعتدي من الزوجين، وينصفان المعتدى عليه، ويسويان النزاع.

كل هذه الإجراءات لإبقاء عقد النكاح واستمرار الزوجية فإن لم تجد هذه الإجراءات، وكان في بقاء الزوجية ضرر على الزوجين، بحيث ساد الخصام والنزاع، وأصبحت الحياة الزوجية جحيماً من المشاكل؛ فقد شرع الله الفراق بينهما بالطلاق.

فالطلاق هو آخر المراحل، وهو في مثل هذه الحالة رحمة من الله، يتخلص به المتضرر، وتتاح له الفرصة للحصول على بديل أحسن؛ كما قال تعالى: وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً [النساء:130]. أي: وإن لم يصطلحا بل تفرقا؛ فليحسنا ظنهما بالله؛ فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه، ويقيض للمرأة رجلاً يوسع عليها به.

عباد الله!

وإذا كان الزوج لا يرغب الزوجة ولا يريدها، وإنما يمانع من طلاقها من أجل أن تفتدي منه بمال؛ فقد حرم الله عليه هذا، وأمره بطلاقها؛ من غير أن يأخذ منها شيئاً؛ قال تعالى: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن [النساء:19]. أي: لا تضار أيها الزوج زوجتك في العشرة؛ لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه، أو حقاً من حقوقها عليك، على وجه القهر لها والإضرار، أو لتبذل لك مالاً تفدي به نفسها منك.

قال ابن عباس: (يعني: الرجل يكون له امرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها؛ لتفتدي به).

وأما إذا كانت المرأة هي التي لا تريد الرجل أو أبغضته ولم تقدر على معاشرته والقيام بحقوقه؛ فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها؛ قال تعالى: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [البقرة:229].

عباد الله!

إن الله جعل الطلاق حلا أخيراً بعدما تفشل كل الحلول لحسم النزاع؛ فهو كالدواء يستعمل عند الحاجة وفق طريقة معينة رسمها الشارع، فإذا استعمل من غير حاجة، أو استعمل على غير الطريقة المرسومة؛ فإنه يضر؛ كما يضر الدواء المستعمل على غير أصوله، ويندم فاعله حيث لا ينفع الندم.

ولهذا رسم الله سبحانه وتعالى للطلاق خطة حكيمة، تقلل من وقوعه، ويكون المتمشي على تلك الخطة الإلهية من الطلاق لا يتضرر به ولا يندم عليه، ويتجنب الآثار السيئة التي يقع فيها من أخل بتلك الخطة.

فجعل للرجل أن يطلق امرأته عند الحاجة طلقة واحدة في طهر لم يجامع فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها؛ فله ذلك، وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها؛ لم تحل له؛ إلا بعقد جديد.

قال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان [البقرة:229]. أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين؛ فأنت مخير فيها، ما دامت في العدة؛ فلك أن تردها إليك؛ ناوياً الإصلاح والإحسان إليها، ولك أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها؛ محسناً إليها؛ ولا تظلمها من حقها شيئاً.

قال تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [الطلاق:1].

أي: طلقوهن وهن طاهرات من الحيض؛ من غير أن يحصل منكم جماع لهن في هذا الطهر.

فبين سبحانه في الآية الأولى العدد المشروع في الطلاق، وهو طلقة واحدة، وبين في الآية الثانية الوقت الذي يجوز فيه الطلاق، وهو الطهر الذى لم يجامع فيه.

فبان من هذا أن من يطلق زوجته ثلاثاً دفعة واحدة مخالف للشرع، وكذا من يطلقها وهي حائض أو في طهر جامع فيه.

عباد الله!

ولو أن كل واحد تقيد بما ورد في الشرع من الحلول لما يحصل في العشرة الزوجية، وتقيد بما ورد في حالة الطلاق؛ لما رأينا أناساً استحلوا الطلاق من غير علاج قبله، وطلقوا حتى حرمت عليهم زوجاتهم إلا بعد أن تنكح المرأة زوجاً غيره، فعضوا أصابع الندم، وبدؤوا يتنقلون بين أبواب العلماء بحثاً عن فرج.

قال علي رضي الله عنه: " لا يطلق أحد للسنة فيندم " .

وقال أيضاً: " لو أن الناس أخذوا بما أمر الله في الطلاق, مايتبع رجل نفسه امرأة أبدا ".

فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن خير الهدي هدي محمد ، ومن اقتدى؛ فقد اهتدى.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الطمأنينة والراحة مقرونة بطاعة الله، وأن الشقاء والشقاق والنزاع يكون بقدر البعد عن طاعة الله، وما ساد الشقاق الأخلاقي في حياة بعض الناس؛ إلا بسبب بعدهم عن طاعة الله والاستهانة بأحكام الشرع.

وأقرب مثال على ذلك هو الطلاق؛ فبعض الناس يتلاعبون في الطلاق:

فبعضهم يطلق عند أدنى سبب، وعند أول إشكال بينه وبين زوجته، فيضر بنفسه وبزوجته .

والبعض الآخر يتزوج ويطلق ويتزوج ويطلق تفكهاً من غير مبرر للطلاق عادة له، و مثل هذا ينبغي أن يعلم أن فعله هذا مكروه.

ومن الناس من يجري الطلاق على لسانه بسهولة، وبأدنى مناسبة، فيستعمله بدلاً من اليمين، إذا أراد أن يحلف على نفسه أو على غيره؛ قال: علي الطلاق! فإذا انتقضت يمينه؛ وقع في الحرج، وصار يسأل عن الحلول التي تنقذه من هذا الطلاق الذي حلفه.

وبعض الناس يتلفظ بالطلاق هازلاً، وما علم أن الرسول قال: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة))(3).

وبعض الناس يأخذ فيه الشيطان مأخذه عند الغضب، فيبت زوجته بالطلاق بالثلاث دفعة واحدة.

وكل هذا بسبب تلاعب الشيطان ببني آدم ليوقعهم في الحرج.

عباد الله!

وبعض من لا يخاف الله حينما يقع نظره على امرأة؛ يغريه الشيطان بها، ويتعلق بها قلبه، وهي متزوجة، فيحاول إفسادها على زوجها؛ ليطلقها زوجها، ومن هذه حالته؛ فإن عليه إثم عظيم، والنبي تبرأ منه فقال: " ليس منا من خبب امرأة على زوجها ". خبب؛ أي: أفسد.

وبعض النساء حينما تريد أن تتزوج، ومع من يريد أن يتزوج بها أخرى، تطلب طلاق ضرتها، والنبي قال: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها، ولتنكح؛ فإن لها ما قدر لها))(4).

وبعض النساء أيضاً تطلب من زوجها الطلاق من غير بأس، والنبي قال: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس؛ تحرم عليها رائحة الجنة))(5).

عباد الله!

وبعض الناس حينما يطلق زوجته نتيجة شقاق حدث بينهما كرهها على أثره لا يقف كرهه عند هذا الحد، بل إن كرهها قد يصل إلى حد من لا ذنب لهم، وهم أولاده وبناته منها، فنجد أن البعض يترك أولاده عند أمهم، لا يبالي بهم في أي واد هلكوا، وكأنهم ليسوا بأولاده، وأولاده من زوجته الأخرى قد احتضنهم وأعطاهم ما يريدون، وأولاده من تلك المرأة المطلقة يعيشون الكفاف، بل ربما أنهم يتكففون الناس، أجحف بحقهم والدهم، فحرمهم التربية والرعاية والعناية والحنان والنفقة؛ فبعض الأولاد والبنات ممن طلقت أمهاتهم أسوأ حالا من الأيتام، وكم من رجل أخذته العزة بالإثم، فلم يتول عقد ابنته؛ لأنه طلق أمها، فكان من ظلم أبيهم لهم أن حرمهم الرفق، فشردوا، وضاعوا، وتخلفوا دراسياً؛ نتيجة لسوء الأحوال المادية لديهم، وما علم ذلك الأب الجائر أنهم أولاده شاء أم أبى، كم من ثري أولاده يتكففون الناس! كم من خير قد ضاع أولاده واحتوشتهم رفقاء السوء، ومن ثم إذا وقع مالا تحمد عقباه وأودع الأولاد السجون؛ قال: هذا عمل أمهم !! ولكنه في الحقيقة نتيجة إهماله هو!!

ألا فليتق الله من هذا عمله، وليقم على تربية أولاده بنفسه، وليعدل بينهم كما يحب منهم أن يبروه.

__________

(1) 1الحديث -خرجه : البخارية ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي برواية نحو هذه الرواية . من حديث عثمان بن عفان مع عبد الله بن مسعود رضى الله عنهما وروى البخاري ومسلم هذه الرواية بدا من قوله .

(2) 2 اخرجه البخارية في ( كتاب الانبياء ، باب 1) ، و (كتاب النكاح ، باب 10) ، وابن ماجة في في ( كتاب الطهارة 77).

(3) 3رواه ابو دواد (رقم 219 في الطلاق ، باب في الطلاق على الهزل ) من حديث ابى هريرة وكذا الترمذى ( رقم 184 في الطلاق باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق ) وقال الشيخ عبد القادر " في اسناده عبد الرحمن بن حبيب بن ادرك وهو لين الحديث ، ولكن للحديث شواهد بمعناه يقوى بها " ولذلك قال الترمذى " هذا حديث حسن غريب والعمل على هذا عند اهل العلم من اصحاب النبى وغيرها .

رواه ابن ماجة ( كتاب الطلاق ، باب 3) والامام مالك في " الموطأ " ( كتاب النكاح ) رواة ابو داود ( برقم 2175 في الطلاق باب فيمن خيب امرأة عن زوجها ) و( رقم 5170 في الادب باب فيمن خيب مملوكا على مولاة ) واسناده صحيح .

(4) 4 رواه البخارى في ( الشروط باب 8 ، وفى القدر باب 4 ، والنكاح 53 البيوع ( 58 ) وكذا مسلم في ( النكاح باب 38،39،51،52) وراه في ( البيوع ، باب 12 ) رواه ابو دواد في ( الطلاق ، باب 2) والترمذى ( القدر ، باب 7) واحنمد بن حنبل ( رقم 328 ، 273،311،294،410،420،487،489،508،512،516).

(5) 5 احمد بن حنبل في " المسند" ( 5/ 277،283) .

(1/2)

العلم والتعليم

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - الأمر بالعلم مقدم على الأمر بالعمل 2 - فضل العلم والإخلاص في طلبه وصفات طالب العلم 3 - أحوال الناس تجاه العلم 4 - مسئولية الجميع في رعاية أبناء أمتنا ( الطلاب ) 5 - دور المعلم في البناء

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، وتعلموا أحكام دينكم، وتفقهوا فيه؛ لأن هذا طريق الخير؛ فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.

واعلموا أن الله تعالى رفع شأن العلماء العاملين:

فقال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر:9].

وقال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [الزمر:9].

عباد الله: ‍

لقد أمر الله تعالى بتعلم العلم قبل القول والعمل؛ قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [المجادلة:11].

قال البخاري رحمه الله في (صحيحه): (باب: العلم قبل القول والعمل).

ولقد بين النبي فضل العلماء العاملين؛ حيث قال : ((وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر))(1).

وقال بعض العلماء: تعلم العلم؛ فإنه يقومك ويسددك صغيراً ويقدمك ويسودك كبيراً، ويصلح زيغك وفسادك، ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوم عوجك وميلك، ويحقق همتك وأملك.

ليس يجهل فضل العلم إلا أهل الجهل؛ لأن فضل العلم إنما يعرف بالعلم، فلما عدم الجهال العلم الذي به يتوصلون إلى فضل العلم؛ جهلوا فضله، واسترذلوا أهله، وتوهموا أن ما تميل إليه نفوسهم من الأموال المقتناة والطرق المشتهاة أولى أن يكون إقبالهم عليها وأحرى أن يكون اشتغالهم بها.

وقد بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضل ما بين العلم والمال، فقال: (العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم حاكم و المال محكوم، مات خزان الأموال وبقي خزان العلم، أعيانهم مفقودة وأشخاصهم في القلوب موجودة).

وربما امتنع بعض الناس عن طلب العلم لكبر سنه واستحيائه من تقصيره في صغره أن يتعلم في كبره، فرضي بالجهل أن يكون موسوماً به، وآثره على العلم أن يصير مبتدئاً فيه، وهذا من خدع الجهل وغرور الكسل، لأن العلم إذا كان فضيلة؛ فرغبة ذوي الأسنان فيه أولى، وابتداء بالفضيلة فضيلة، ولأن يكون شيخاً متعلماً أولى من أن يكون شيخاً جاهلاً.

عباد الله: ‍

وتعلم العلم على نوعين:

النوع الأول: واجب على كل مسلم ومسلمة، ولا يقدر أحد على تركه، وهو تعلم ما يستقيم به دينه؛ كأحكام العقيدة والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج على الوجه الذي يتمكن به من أداء هذه العبادة على وجهها الصحيح.

ولكن بعض الناس فرط في هذا، فتراه يؤدي العبادة بطريقة خاطئة ،ومع ذلك لم يحاول تعلم أحكامها، بينما تجده حريصاً على دنياه، يطلبها من كل وجه، ومن هذا عمله؛ سيسأله الله على تفريطه؛ فليعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.

والنوع الثاني من تعلم العلم: ما زاد عن ذلك؛ من تعلم بقية أحكام الشريعة في المعاملات والتفقه في أمور العبادات؛ فهذا واجب على الكفاية، إذا قام به من يكفي من المسلمين؛ سقط الإثم عن الباقين، وإن تركه الكل؛ أثموا.

عباد الله!

وفي هذه الأيام يستعد الطلاب والطالبات لاستقبال عام دراسي جديد، يبتدئونه يوم غد؛ يقضون هذا العام بين أوراق المدارس والمعاهد والكليات؛ لينهلوا من مناهل العلم والمعرفة على حسب مستوياتهم واتجاهاتهم، ويشجعهم ويدفعهم إلى ذلك أولياء أمورهم، وهذا شيء طيب، وقد تقدم الترغيب في طلب العلم.

ولقد حث النبي أصحابه على القراءة والتفقه في الدين، وخير مثال ضربه لنا في هذا المجال كان في إطلاقه لأسرى بدر بعد أن اشترط عليهم أن يعلم كل واحد منهم نفراً من المسلمين القراءة والكتابة.

معاشر طلاب العلم!

لابد أن يكون طلب العلم خالصاً لوجه الله تعالى، لا يراد به عرض من الدنيا، وذلك ليعم نفعه، ويؤجر صاحبه، وكذلك إذا أحاط طالب العلم علماً بالمسألة؛ فالواجب عليه أن يطبقها على نفسه، ويعمل بها؛ ليكون علمه نافعاً؛ فإن العلم النافع ما طبقه الإنسان عملياً، والعمل بالعلم هو ثمرة العلم، والجاهل خير من عالم لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به؛ فإن العلم سلاح: فإما أن يكون سلاحاً لك على عدوك، وإما أن يكون سلاحاً موجهاً إلى صاحبه.

عباد الله!

قولوا لي بربكم: ما فائدة العلم بلا عمل؟ أرأيتم لو أن إنساناً درس الطب وأصبح ماهراً ولم يعالج نفسه ولا غيره؛ فما فائدة علمه وتعبه؟!

عباد الله!

وإن القلب ليعتصره الألم حينما نرى بعض من طرقوا أبواب العلم الشرعي أو انتقلوا في مراحل التعليم، ولكن أخلاقهم على خلاف ما تعلموا، تعلموا من الأحكام الشيء الكثير، ولكن الأثر مفقود، تجد الواحد منهم يعلم حكم إسبال الثياب ويسبل ثيابه، ويعلم حكم حلق اللحى ويقارفه، ويعلم حكم موالاة الكفار ويستقدمهم، ويعلم حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ويعلم حكم الربا ويتعامل به أو يتحايل عليه، ويعلم حكم خلوة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية واستقدم سائقاً ويضعه مع محارمه يخلو بهن أو هو يخلو بالخادمة أو غيرها من النساء الأجنبيات، ويعلم أن مصافحة الرجل الأجنبي للمرأة الأجنبية لا يجوز ومع ذلك يصافح النساء الأجنبيات؛ فمن هذه حاله؛ فعلمه وبال وحجة عليه، نسأل الله السلامة والعافية. وكم من جامع للكتب من كل مذهب يزيد مع الأيام في جمعه عمى!!

فإذا تعلم وطبق؛ فعليه أن يدعو إلى ذلك.

معاشر طلاب العلم!

وهناك شروط يتوفر بها علم الطالب، وينتهي معها كمال الراغب، مع ما يلاحظ به من التوفيق ويمد به من العون:

أولها: العقل الذي يدرك به حقائق الأمور.

الثاني: الفطنة التى يتصور بها غوامض العلوم.

والثالث: الذكاء الذي يستقر به حفظ ما تصوره وفهم ما علمه.

الرابع: الرغبة التي يدوم بها الطلب ولا يسرع إليها الملل.

والخامس: الاكتفاء بمادة تغنيه عن كلف الطلب.

والسادس: الفراغ الذي يكون معه التوفر ويحصل به الاستكثار.

السابع: عدم القواطع المذهلة من هموم وأشغال.

الثامن: الظفر بعالم سمح بعلمه متأن في تعليمه.

فإذا استكمل هذه الشروط؛ فهو أسعد طالب وأنجح متعلم وكذلك عليه أن يتأدب مع معلمه ويوقره ويحترمه ويعترف بفضله قال بعض العلماء: من لم يتحمل ذل التعلم ساعة؛ بقي في ذل الجهل أبداً.

وقال بعض الشعراء مبيناً مغبة ازدراء المعلم:

إن المعلم والطبيب كليهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما

فاصبر لدائك إن أهنت طبيه واصبر لجهلك إن جفوت معلما

عباد الله!

فإذا تعلم الإنسان، وحصل قدراً من العلم، فليعلم أنه قليل بجانب ما جهل، وعليه أن لا يدخله العجب، وليعلم أنه لا سبيل إلى الإحاطة بالعلم كله؛ فلا عار أن يجهل بعضه، وعليه أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم. ولا ينبغي أن يجهل من نفسه مبلغ علمها، ولا أن يتجاوز بها قدر حقها، وقد قسم الخليل بن أحمد أحوال الإنسان، فقال:

(الرجال أربعة:

رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فذلك عالم؛ فاسألوه.

ورجل يدري ولا يدرى أنه يدري؛ فذلك ناسٍٍ؛ فذكروه.

ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك مسترشد؛ فأرشدوه.

ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهل؛ فارفضوه )

اللهم! إنا نعوذ بك من فتنه القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العجب بما نحسن.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، وراقبوه، واعلموا أن كلا منكم على ثغر من ثغور الإسلام؛ فحذار أن يؤتى الإسلام من قبله.

عباد الله! إخوتى أولياء أمور الطلاب! إخوتى أساتذة أبناء المسلمين!

مما لا يخفى على الجميع أن أبناء اليوم رجال الغد، وهم الذين سيتولون في المستقبل توجيه سفينة المجتمع وإدارة شئونه؛ فإذا قمنا اليوم بتوجيههم الوجهة الصالحة التي أمر بها ديننا الحنيف؛ تخلصت مجتمعاتنا تحت إدارة هذه الصفوة من الشباب الطيب من أمراض اجتماعية متفشية في المجتمعات؛ مثل النفاق، والوساطة، وأكل السحت.. وغيرها.

وأولياء أمور الطلاب والطالبات والمدرسين والمدرسات يقع عليهم العبء الأكبر؛ لأنهم يقضون معظم أوقاتهم مع الطلاب؛ الأب مع أبنائه في البيت، والمدرس مع طلابه في المدرسة؛ فينبغي أن يكون كل منهم متفهماً لرسالة الآخر.

ويبلغ التأثير أعلاه حينما يكون الأب والمدرس كل منهما ملتزم بأحكام الإسلام في العبادات والمعاملات والأخلاق؛ فإذا كان الأب والمدرس كل منهما ملتزماً بأحكام الإسلام، معتزاً بإسلامه، شاعراً بواجبه في الدعوة إلى الله والتوجيه؛ أفاض على من يقوم بتربيته من نور هذا الإيمان الذي يحمله بين جنبيه ويمشي به في الناس.

فليكن شعارك أخي المدرس: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين [فصلت:33].

وليعلم كل من المدرس وولي أمر الطالب والطالبات: أنه راع فيهم، ومسؤول عنهم، ومطلوب منه النصح لهم.

ولعلم أنه: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لها؛ إلا حرم الله عليه الجنة))(2).

وليعلم أنه إن ترك هذه البراعم الغضة؛ فإن رياح الشهوات ستعصف بها، وإن أعداء الإسلام سيجلبون عليها بقضهم وقضيضهم، حتى يسلخوهم من الدين، فيعودوا حرباً عليه:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان

وليعلم كل من اشتغل بالتدريس: أن أقل ما ينتظر من المدرس المسلم أن يكون مظهره إسلامياً، وأن يتفق قوله وفعله وسلوكه مع روح الإسلام ومبادئه.

فمثلاً: إذا دخل على طلابه؛ قابلهم بوجه طلق، قال : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقَ أخاك بوجه طلق))(3)، وحياهم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا بتحية العوام: صباح الخير أو: مساء الخير!! وليبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على رسوله ، فـ ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله؛ فهو أقطع))(4) إلى غير ذلك من الأمور التي تغرس في نفوس الصغار الأخلاق الحميدة.

عباد الله!

وتختل الموازين حينما يتولى التدريس غير ملتزم بأحكام الإسلام، متهاون في أوامر الله، قد استحوذ عليه الشيطان؛ لأن المطلوب منه الإرشاد إلى كل خلق حسن، والتحذير من كل خلق ذميم، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه!!

فالطالب الذي يرى مدرسه في حالة من الميوعة والتسيب؛ كيف يتعلم الفضيلة؟!

والطالب الذي يسمع من مدرسه كلمات السب والشتم؛ كيف يتعلم حلاوة المنطق؟!

والطالب الذي يرى مدرسه يتعاطى الدخان؛ سيسهل عليه هذا الأمر!!

والطالبة التي مدرستها تسير خلف ما يصدره لها الأعداء من أزياء فاضحة وأخلاق سافلة؛ كيف تتعلم الفضيلة؟!

والطالبة التي ترى مدرستها متبرجة، كيف تلتزم بالحجاب؟!

والطالبة التي ترى مدرستها تركب مع السائق وحدها؛ كيف تبتعد عن الاختلاط بالأجانب والخلوة بهم؟!

وقس على هذه الأمور غيرها.

عباد الله!

هذا وإن بعض الآباء قد أغمضوا أعينهم عن أخلاق أبنائهم وبناتهم، ولم ينظروا في قدوتهم؛ هل هي حسنة أم سيئة؟! وهذا أمر قد ينذر بالخطر.

بل إن بعض الآباء - هداهم الله - إذا وفق أبناؤهم بأساتذة صالحين مصلحين؛ تجدهم ينسفون ما تعلم أبناؤهم من أساتذتهم من أفكار صالحة.

فالإبن في المدرسة يتعلم أن الغناء من المحرمات، ولكن والده يجلب له آلات اللهو، وبأغلى الأثمان، ويخلي بينه وبينها!!

وكذلك الولد يتعلم أن الخلوة بالأجنبية حرام، ووالده يناقض ذلك، ويجلب له امرأة أجنبية باسم الخدمة، ويترك الأبناء ينظرون إليها وهي سافرة لا يأمرها بالحجاب!!

والبنت في المدرسة تتعلم أن الخلوة بالأجانب حرام، ووالدها يجلب لها سائقاً أجنبياً، ويدعه يذهب بها وحدها إلى المدرسة أو غيرها!!

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

هذا؛ والواقع الذي ذكرته ليس على سبيل التعميم؛ فهناك أساتذة أكفاء، على مستوى من الخلق والدين، وكذلك الحال بالنسبة للآباء، ويظهر أثر ذلك جليا على أخلاق الناشئين؛ فيوم أن ترى الشباب ملتزماً وذا خلق فاضل؛ تعلم أنه قد وفق بمن أحسن توجيهه، وتضافرت الجهود من المدرسة والبيت على ذلك، ويوم أن ترى قطعاناً من الشباب يهيمون في كل بقعة، ويجتمعون فيتكلمون في بعض الأحيان، وقد علا الشتم مجالسهم، ويسخرون بمن يأمرهم بالمعروف؛ تعرف أنه قد ترك لهم الحبل على الغارب حتى شبوا وتفلتوا، وإذا زال الحياء من الله ومن عباده، فحدث ولا حرج.

فلا و الله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء

__________

(1) 1 محمد:19.

(2) 2 رواه مسلم.

(3) 3 رواه مسلم .

(4) 4 الحديث رواه ابن ماجه في سننه في (كتاب النكاح ، باب خطبة النكاح ) من حديث ابى هريرة وقال السندى " الحديث قد حسنة ابن الصلاح والنووي وأخرجه ابن حبان في " صحيحه" .

(1/3)

العلمانية وخطرها

-----------------------

أديان وفرق ومذاهب

مذاهب فكرية معاصرة

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - ضرورة تتبع طرق الغي والضلال وكشف عوارها 2 - معنى العلمانية 3 - الحرب بين الإسلام وجاهلية قريش 4 - بعض صور العلمانية في مجتمعنا 5 - تلبيس العلمانيين على الناس بإخفاء حقيقة موقفهم في الدين

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

لقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم فيما يعجب من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً [الكهف:17].

عباد الله!

غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال؛ حتى زخرفوه بكل صلة، وروجوا له بكل لسان وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً [الأنعام:112].

ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي؛ بالتحذير منها، وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم، وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الحاقدين.

ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار، أرى ذلك كله داء دوي ونار لو قدر لها أن تنتشر؛ لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم.

ومن تلك الأفكار الفكر الصليبي اللاديني، وهو ما يسمى بالعلمانية، التى تسربت إلى مجتمعات المسلمين.

ولعل أحد التحديات الخطيرة التي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.

لذا؛ فإني سأميط اللثام عن وجه هذه النحلة الضالة المضلة:

فالعلمانية مدلولها الصحيح هو إقامة الحياة على غير دين؛ سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.

إن هذه العلمانية لهي أكبر نقيض للتوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي.

عباد الله!

قال ابن تيميه في "رسالة العبودية": (إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية، ليصبح لا محالة في عبودية لغير الله وكل عبودية لغير الله، كبرت أو صغرت، هي في نهايتها عبادة للشيطان).

قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [يس:60-61]. يشمل ذلك العرب الذين قال الله فيهم: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً [النساء:117]. ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.

ولقد تغيرت بعض العبادة؛ فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى؛ كالحزب، والقومية، والعلمانية، والحرية الشخصية، والجنس وغيرها. وعشرات الأوثان الجديدة؛ إنها عبادة الشيطان والطاغوت، وهذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله؛ فمعنى (لا إله إلا الله): الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.

وبناء على هذا يمكن أن نعرف حكم الإسلام في العلمانية، فنقول: إن العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً مع (لا إله إلا الله) من ناحتين أساسيتين متلازمتين:

أولا: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.

وثانياً: كونها شركاً في عبادة الله.

عباد الله!

إن العلمانية تعني بداهة: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من الطواغيت من دون الله؛ فهذا معنى قيام الحياة على غير دين.

قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].

عباد الله!

والجاهلية أنواع علينا أن نعلمها:

فبعض الجاهلية يتمثل في الإلحاد بالله سبحانه وتعالى، وإنكار وجوده؛ فهي جاهلية اعتقاد وتصور؛ كجاهلية الشيوعيين.

وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية، وهي جاهلية الاتباع والطاعة؛ كجاهلية اليهود و النصارى.

وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحرف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، وكلها جاهلية.

عباد الله!

والعلمانية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله؛ لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله؛ قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان:25]. وكذلك لدى أصحاب الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية؛ قال تعالى : وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والأنعام نصيباً [الأنعام:136].

عباد الله!

ولكن مع ذلك بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟!

لقد حكم عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفراً في ميزان الإسلام.

ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله ، واشتد النزاع بمعركة شرسة ونزاع حاد، حتى إن السيف كان الحكم الأخير، موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة، هي كلمة لا إله إلا الله، كلمة يصر عليها النبي إلى أقصى حد، وترفضها الجاهلية إلى أبعد حد؛ لأنه منذ اللحظة الأولى، حين دعاهم النبي إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ كان الجواب الفوري: "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" فالقضية واضحة في أذهانهم أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان، وطاغوت الزعامة، وطاغوت القبيلة، وطاغوت الكهانة، وطاغوت التقاليد، والاستسلام الكامل لله، ورد الأمر والحكم، جليله وحقيره، كبيره وصغيره، إلى الله وحده لا شريك له.

عباد الله!

وكذلك؛ فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية!!

وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط النساء مع الرجال على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وهذه دعوى إلحادية؛ لأنها رد لما جاء في كتاب الله من قوامة الرجل على المرأة.

وهناك من يتساءل: ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل سواء بالزنى أو غيره، عياذاً بالله؟!

وما للإسلام وهذا الذي يفعله المتحضرون؟! فأي فرق بين هؤلاء وبين سؤال أهل الكفر في زمن نبي الله شعيب: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا [هود:87].

وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟! وما للدين والسياسة والحكم؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده.

فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية؛ تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ؛ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!!

أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: الدين لله والوطن للجميع من أدعياء الإسلام من العلمانيين الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء الساخر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة.

من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة نفوس القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره، ولكن رويداً؛ لذلك؛ فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.

عباد الله!

إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب فيه ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين؛ إلا من خلال هذا التخفي والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله

عباد الله!

إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائماً جبهة الرفض الباطنية، والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية؛ لتدمير أهل السنة والجماعة؛ باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى.

أقول: إن هذه المعارك وهذه القوى يجب ألا يتساهل و لا يتهاون معها أهل السنة والجماعة،

إن حصونهم لازالت مهددة من داخلها، وإن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل، والتي تصارعهم في معارك خفية حيناً وظاهرة أحياناً أخرى، هي التى تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث.

و إن أخطر مراحل هذا الصراع هي مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة، وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.

أما آن لأهل السنة والجماعة أن ينتبهوا لهذه الأخطار المحيطة بهم في الداخل والخارج والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟!

أما آن لهم أو لكثير منهم أن يتخلوا عن معاركهم القديمة وخلافاتهم الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم ويركزوا جهودهم لمواجهة هذه التحديات؟!

عباد الله!

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

(1/4)

العنوسة

-----------------------

الأسرة والمجتمع, فقه

المرأة, النكاح

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد 2 - الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة 3 - الشريعة جاءت موافقة للفطرة ومهذبة لها 4 - فوائد النكاح - اسباب ظهور العنوسة 5 - التحذير من عضل النساء - اسباب عضل البنات ومنعهن من الزواج

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله!

مما لا شك فيه أن دين الإسلام الحنيف جاء بكل ما فيه مصلحة للفرد والمجتمع، وأمر به، وحث عليه، وحذر من كل ما فيه مضرة ومن الأمور التي حث عليها الإسلام ورغب فيها لما فيها من المصالح الزواج؛ فقد ورد الأمر بذلك في العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية:

قال تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [النساء:3].

وقال تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم [النور:32].

عباد الله!

ومما ينبغي أن يعلم أن الزواج فطرة قبل أن يكون شرعة؛ فهو فطرة أودعها الله الخلق يوم خلقه:

قال تعالى: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [يس:36].

وقال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون [الذاريات:49].

والإنسان أشرف من خلق الله، اشتمل على نفس التكوين ذكر وأنثى، وفطر كل شطر بالميل إلى الشطر الآخر، وقد ذكرنا الله تعالى بأصلنا ليزداد إيماننا وشكرنا.

قال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكون من الشاكرين

(1/5)

الشهادة بين الواقع والواجب

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - الخلاف بين الناس وتعدي بعضهم على بعض أمر مشاهد ومتكرر 2 - الشهادة هي سبيل اقرار الحقوق 3 - وجوب أداء الشهادة والتحذير من كتمانها 4 - التحذير من شهادة الزور وذكر أثرها البالغ على المسلمين 5 - الشهادات التي لايجوز تحملها

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، وتحرزوا من حصائد ألستنكم التى هي سبب لأن يكب صاحبها في النار على وجهه.

إن شريعة الإسلام جاءت بحفظ الحقوق والعدل بين الناس؛ فالقوي فيها ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له.

عباد الله!

وبما أن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض في هذه الحياة ؛ فمنذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فإنه يحصل بينهم مشاحنات، ويحصل من بعضهم على بعض تطاولات واعتداءات على الأنفس والأعراض والثمرات؛ نتيجة لتجمعاتهم، ولما تحويه الأنفس من غرائز الطمع والجنس وغيرها ؛ مما يجعل بعضهم يعتدي على بعض، ويحاول الاستيلاء على الممتلكات من غير حق، وليس هذا بدعاً في هذا الزمن وإن كان في هذا الزمن قد زاد على غيره؛ فقد وقع شيء من هذا في عهد صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي عهد الصحابة الأطهار الخلفاء الراشدين، ولذلك قال الرسول: ((لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر))(1).

عباد الله!

ومن حكمة الله أن شرع طرقاً لإثبات الحدود والحقوق عند تنازع الناس فيها، ومن هذه الطرق الشهادة التي يستدل بها القاضي على الحق، ويحكم بموجبها، بعد أخذ الحيطة، للتأكد من عدالة الشهود.

والحاجة ماسة إلى الشهادة؛ إذ أنها سبب في إثبات الحقوق وحفظ الأرواح والأموال والأنساب والعقول؛ فهي طريق لإنصاف المظلومين، وردع الظالمين، وحسم النزاع بين العالمين.

ولأهمية الشهادة؛ نطق القرآن بفضلها، ورفع الله جل جلاله نسبتها إلى نفسه، وشرف بها الملائكة ورسله وأفاضل خلقه:

فقال تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون [النساء:166].

وقال تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً [النساء:41]. فجعل كل نبى شهيداً على أمته.

ويكفي الشهادة شرفاً أن الله تعالى خفض الفاسق عن قبول الشهادة ؛ فقال تعالى: إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [الحجرات:6].

عباد الله!

ومن كانت عنده لأخيه شهادة بحق؛ وجب أداؤها عند الحاجة إليها، قال الله تعالى: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة:283]. أي: إذا دعيتم إلى إقامتها؛ فلا تخفوها، بل أظهروها.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادة الزور من أكبر الكبائر ،وكتمانها كذلك، وقد قال الله تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة:283].

وقد قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: فإنه آثم قلبه ، أراد به مسخ القلب، وخص القلب لأنه موضع العلم والشهادة.

وقال تعالى: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين [المائدة:106]. فقد أضاف الشهادة إلى الله؛ تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها؛ لأنها تفرز الحقوق، وتبين الحق من الباطل.

عباد الله!

وبعض الناس يتهيب من أداء الشهادة، ويقول: لست ملزماً بالذهاب إلى القاضى مراراً لإثباتها؛ خشية ما يناله من التعب الجسماني، لكنه لو فكر؛ فهو يفر من التعب الذي يؤجر عليه إلى الإثم العظيم، وشتان ما بين الأمرين!

عباد الله!

ويجب على الإنسان أن يشهد بالحق، ولو على نفسه، أو أقرب الناس إليه، لا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يصرفه عن ذلك طمع أو خوف أو محاباة.

قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين [النساء:135]. أي: أشهد بالحق ولو عاد ضرر ذلك عليك، وإذا سئلت عن الأمر؛ فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً وإن كانت الشهادة على والديك أو قرابتك، ولا تأخذك العاطفة مع غني لغناه أو فقير لفقره في أمر الشهادة؛ فالله أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما؛ فالله أرحم بعباده منك؛ فقد تظن أن في الشهادة عليهم مضرة، وفي الحقيقة أن الشهادة عليهم فيها رحمة بهم ومصلحة لهم في تخليصهم من المظالم وتطهيرهم من المآثم.

عباد الله!

ومما ينبغي أن يحذر منه في جانب الشهادة شهادة الزور، وهي الحالقة، التي تحلق الدين:

فقد قام رسول الله ، فقال: ((يا أيها الناس! عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله (ثلاث مرات) ))، ثم قرأ: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور (2) [الحج:30].

وفى "الصحيحين" عن أبي بكر؛ أن رسول الله قال: ((ألا أنبئكم بكبر الكبائر؟". قلنا: بلى يا رسول الله! قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". وكان متكئاً، فجلس، فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور" فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت))(3)!.

عباد الله!

وشهادة الزور هى الشهادة الكاذبة التى ليس لها أساس من الصحة؛ بأن يشهد الإنسان بما ليس له به علم: إما بدافع المحبة لمناصرة المشهود له بالباطل، وإما بدافع الطمع بما يعطيه المشهود له من مكافأة مالية أو غيرها؛ دون تفكير في العاقبة الوخيمة، ودون خوف من الله.

فشاهد الزور قد ارتكب أموراً خطيرة:

منها الكذب والافتراء، وقد قال تعالى: إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله أولئك هم الكاذبون [النحل:105]. وقال تعالى: إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب [غافر:28].

ومن المحاذير التى ارتكبها شاهد الزور: أنه ظلم الذي شهد عليه، فاستبيح لشهادته عليه ماله أو دمه أو عرضه.

ومن المخاطر أيضاً التى ارتكبها شاهد الزور: أنه ظلم المشهود له؛ حيث ساق إليه بموجب شهادته حق غيره ظلماً وعدواناً، فباع دينه لدنيا غيره، وشر الناس من باع آخرته بدنياه، ولكن شراً منه من باع آخرته بدنيا غيره، وشر الناس من ظلم الناس للناس.

ومن المخاطر التى وقع فيها شاهد الزور؛ أنه استباح ما حرم الله من الكذب وأموال الناس ودمائهم وأعراضهم، فاستباح محرمات كثيرة.

إن شاهد الزور قد تأخذ منه النشوة مأخذها إذا رأى شهادته قد جلبت له مصلحة، لكنه غفل أو تغافل عن عاقبة جرمه، فلا خير في لذة من بعدها النار.

فيا من يشهد زوراً لقد ظلمت نفسك، وظلمت الناس، وبعت آخرتك بدنياك، بل بدنيا غيرك، فأنت بهذا من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقد تقلب شهادتك الباطل حقاً، وغررت بالحكام، وأفسدت الأحكام، وساعدت أهل الإجرام، كم خربت شهادة الزور من بيوت عامرة، وضيعت حقوقاً واضحة! كم فرقت بين المرء وزوجه، ومنعت صاحب حق حقه!

فاتقوا الله عباد الله في الشهادة وفيمن تشهدون عليه وفيمن تشهدون له، وتثبتوا فيما تنطقون به.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

كونوا قوامين لله، شهداء بالقسط.

عباد الله!

إن الشهادة أمرها عظيم، لكن الناظر في أوضاع بعض المسلمين اليوم يجد تساهلاً في أمر الشهادة، فالبعض يشهد بما لم ير ولم يعلم، وإنما وثق بمن أخبره، أي: بمجرد العاطفة فقط، ومنهم من يتساهل في الشهادة في أمر التزكية دون علم منهم بحالة المزكى وسلوكه ودون اعتبار لما يترتب على هذه التزكية من مخاطر؛ فقد يستغل ذلك المزكى هذه التزكية للتغرير بالمسلمين أو أخذ ما لا يستحق، ومما حصل فيه التساهل من الشهادة الشاهدة بأنه فقير؛ دون علم بحاله، وتثبت في أمره، فيؤدى ذلك إلى أخذه ما لا يستحق.

عباد الله!

ونتيجة لتساهل بعض الناس في أمر الشهادة؛ فإن من يريد شهادة على أمر ما ؛ يطلبها من أي شخص، بل ولو لم يكن يعرفه، وإذا رفض بحجة عدم معرفته به ولا بأمره؛ غضب، وانتفخت أوداجه.

وترى ذلك جليا حينما تكون مراجعاً لإحدى الدوائر والمؤسسات؛ كالأحوال المدنية مثلاُ، ترى من يطلب منك شهادة، ولو لم تعرفه، ولم تعرف حقيقة أمره، بل أصبح هم الكثيرين ليس الشاهد، بل من يحمل إثبات شخصية، وكأنه قد ضمن الشهادة.

فيا سبحان الله! كيف يشهد المسلم على ما لا علم له به؟!

وقد يقول البعض: إن هذا أمر بسيط!! فأقول : لكن أمر الشهادة عظيم.

عباد الله!

ولا يجوز للإنسان أن يتحمل شهادة على جور أو محرم، ولو كان يعلم المشهود عليه ؛ فلابد أن تكون الشهادة في أمر مشروع:

قال تعال: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط [النساء:135]. أي: كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الرياء والسمعة، واشهدوا بالعدل لا بالجور.

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ أنه قال: نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه ليشهده، فقال: ((أكل ولدك نحلته مثله؟)). قال: لا. فقال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))، وقال: ((إني لا أشهد على جور)) قال: فرجع أي، فرد صدقته(4).

وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يشهد على جور؛ لأن شهادته ستكون وسيلة لثبوته، فيكون معيناً على الجور، وكذلك المحرم - كالربا - لا تجوز الشهادة عليه، ومن شهد؛ فقد باء باللعنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.

__________

(1) 1 رواه البيهقى بسند صحيح .

(2) 2 رواه الترمذى .

(3) 3 رواه البخارى ومسلم .

(4) 4 رواه البخاري ومسلم.

(1/6)

التفكر في خلق الله وأثره

-----------------------

الإيمان, موضوعات عامة

خصال الإيمان, مخلوقات الله

-----------------------

سعد بن تركي الخثلان

الرياض

جامع الأميرة سارة بنت سعد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية العقل ودوره - أثر التفكر في الكون على الإيمان وخشية الله - كلام السلف في أهمية ذلك - الآيات والأحاديث في لفت الانتباه إلى التفكر في عِظَم الخلق - خلق السماوات والأرض وبينهما وما فيهما من ملائكة وإنس وحيوانات ورياح وسحاب

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلا، يدرك به الأمور، ويميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد، والخير والشر، وجعل مناط التكليف على وجود هذا العقل، فإذا اختل العقل ارتفع التكليف عنه. وقد أمر الله تعالى الإنسان أن يستخدم هذا العقل، الذي أنعم به عليه فيما يعود عليه بالنفع، يستخدمه في التفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، بل يتفكر في خلق نفسه، فانقسم الناس في ذلك إلى أقسام، وخير هذه الأقسام من وصفهم الله بقوله سبحانه: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .[آل عمران:191]وشر هذه الأقسام من قال الله فيهم: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون .[الأعراف:179]

فيتبين بهذا أن التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب، وأصحاب العقول السليمة الراشدة .. فينبغي للمسلم أن يعتني به، فإن الإنسان مع طول الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة في هذا الكون.

عباد الله: إن التفكر في خلق الله تعالى ليزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ [فاطر:28] ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك، يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، و لا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل. ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه .

عباد الله: إذا نظر العبد إلى ما خلق الله تعالى في هذا الكون من المخلوقات العظيمة، والآيات الكبيرة، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه سبحانه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة، فمن آياته خلق السموات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وعظمتها، عرف بذلك تمام قدرته سبحانه: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ،[النازعات:27-28] والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ، [الذاريات:47] أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لهم من فروج [ق:6]

أخرج أبو داود وغيره عن العباس - - قال: قال رسول الله - -: ((هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف - أي سمك - كل سماء مسيرة خمسمائة سنة - وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم))(1)[1].

ومن آياته: خلق الأرض وما جعل الله تعالى فيها من الرواسي والأقوات والخلق الذي لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى. فانظر كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه، وانظر كيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين [ الذاريات:20] ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق هذه السماوات العظيمة وهذه الأرض وما بينهما في ستة أيام، ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام .. وهو سبحانه لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس:82]، ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها. حكى الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أنه سُئل أحد الأعراب فقيل له: ما الدليل على وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!.

ومن آياته: ما بث في السماوات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن أبي ذر - - قال: قال رسول الله - -: ((أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى))(2)

. جاء في الصحيحين عن النبي - -:((أن البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)). وروى أبو داود وغيره بسند صحيح عن جابر - - أن رسول الله - - قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة))(3)[2].

وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده فانظروا أولا كم على هذه الأرض من البشر من بني آدم، ليسوا بالآلاف ولا حتى بالملايين، بل بالمليارات آلاف الملايين، ومع ذلك فألسنتهم وألوانهم مختلفة فلا تجد شخصين متشابهين من جميع الوجوه كما قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين .

قال ابن كثير(4)[3] - رحمه الله -: ((فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر. بل لابد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر بالتأمل، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لابد من فارق بين كل منهم وبين الآخر)). ا.هـ.

ثم انظر ما على هذه الأرض من أصناف الحيوانات التي لا يحصيها إلا الله تعالى! كم على اليابسة فقط من أصناف هذه الحيوانات؟ وكم في هذه البحار والمحيطات من أصناف الحيوانات؟ وهي مع ذلك مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي يعرفون به كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف به الإنسان قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته.

تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .

وكل دابة من هذه الدواب وكل صنف من هذه الحيوانات خلق لحكمة بالغة فلم يخلق شيء من هذا الكون عبثا قطعا: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، وقد تكفل الله برزق هذه الدواب ويعلم مستقرها ومستودعها: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين .

ومن آياته: هذه الرياح اللطيفة التي يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه الكثيرة ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه إلى بعض سريع بإذن الله وإذا شاء أن يفرقه سريعا أصبحت السماء صحوا وفي ذلك أعظم الدلالة على عظمة خالقها ومصرفها ومدبرها ولذلك فقد أقسم سبحانه - وهو سبحانه إذا أقسم بشيء من مخلوقاته دل ذلك على عظمة المقسم به - كما قال سبحانه: والذاريات ذرواً ، ومعنى الذاريات أي الرياح: فالحاملات وقراً ، أي: السحاب التي تحمل وقرها من الماء. وهذه الرياح وهذا السحاب مسخر بأمر الله تعالى لا يتجاوز ما أمره به خالقه ومنشئه سبحانه وتعالى.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس - - قال: أصابت الناس سَنة على عهد النبي - أي شدة وجهد من الجدب وعدم نزول المطر - قال: فبينما النبي - - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله: هلك المال، وجاع العيال، وانقطعت السبل فادع الله لنا. فرفع النبي - - يديه، يقول أنس: وما نرى في السماء قزعة - أي قطعة سحاب - يقول: فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته - -. سبحان الله العظيم! صعد النبي - - المنبر وما في السماء من قزعة سحاب وما نزل إلا والمطر يتحادر من لحيته!.

فسبحان الله! إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.

يقول انس - -: مطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله !تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع النبي - - يديه وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)). يقول أنس - -: فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا على المدينة وسال الوادي شهرا ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدَّث بالجود: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله، الذي أقرت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد- - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.

عباد الله: و إذا نظر الإنسان إلى عالم النبات، وجد العجب العجاب في ذلك، وقد أشار الله تعالى إلى شيء من ذلك في محكم كتابه، فقال: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد .

وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات بأحداث هي الذهب السبيك

على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

عباد الله: ثم ليتأمل الإنسان في خلق نفسه، كما قال عز وجل: وفي أنفسكم أفلا تبصرون . فإذا نظر الإنسان إلى نفسه ومبدئه ومنتهاه وأنه قد خُلِقَ من نطفة من ماء مهين كُوّن منها اللحم والعظام والعروق والأعصاب وأحيطت هذه الأشياء بجلد متين، وجُعِلَ في هذا الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا، ما بين كبير وصغير، وثخين ورقيق، وجعل في جسمه أبواب متعددة: بابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابان للطعام والشراب والنفس، وبابان لخروج الفضلات المؤذية … وقد عجز الطب الحديث بآلاته الدقيقة وأجهزته المتطورة من الإحاطة بدقائق خلق الإنسان، فسبحان الخلاق العظيم، وتبارك الله أحسن الخالقين.

فوا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ؟

ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

__________

(1) 2 المسند (5/173) سنن الترمذي (2312) سنن ابن ماجه (4190).

(2) قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن . وقواه ابن القيم - رحم الله الجميع- .

(3) قال الحافظ الذهبي في (العلو للعلي الغفار :ص114): (( إسناده صحيح )) . وقد ذكر الألباني عدة شواهد له في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/232) رقم (151).

(4) تفسير ابن كثير :3/530.

(1/7)

قصة أصحاب الصخرة

-----------------------

سيرة وتاريخ

القصص

-----------------------

سعد بن تركي الخثلان

الرياض

جامع الأميرة سارة بنت سعد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

طريقته صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس وتنوع أساليبه - أثر القصة - قصة الثلاثة الذين حُبِسوا في الغار وما فيها من فوائد : 1- بر الوالدين وأثره وفضله وعقوبة العقوق 2- العفة وفضلها , وخطورة الزنا وعاقبته العظيمة 3- الأمانة وفضلها , وخطورة الظلم وأكل أموال الناس بالباطل 4- مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد كان رسول الله - - يسلك في دعوته الناس أساليب شتى، ومن ذلك ذكر القصص الواقعية الصحيحة، فقد كان رسول الله - - يذكر لأمته من قصص الأمم السابقة ما يكون فيه عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ذلك أن لذكر القصص الواقعية أثرا لا ينكر، وسلطانا بالغا على النفوس.

ونقف - أيها الإخوة في الله - مع قصة من قصص الأمم السابقة قصها علينا رسول الله - -؛ لنعتبر بما فيها، فقد جاء في الصحيحين(1)[1]. عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - - يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا (أي: لا أقدم في الشراب قبلهما أحدا)، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت ان أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي (أي يصيحون من الجوع)، فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه. فقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأردتها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها وفي رواية: فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج. وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).

عباد الله: تأملوا هذه القصة العظيمة، هؤلاء الثلاثة عرفوا الله في الرخاء فعرفهم الله في الشدة، وهكذا كل من تعرف إلى الله في حال الرخاء واليسر، فإن الله تعالى يعرفه في حال الشدة والضيق والكرب فيلطف به ويعينه وييسر له أموره. قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا .

فالأول من هؤلاء الثلاثة ضرب مثلا عظيما في البر بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والديه نومهما حتى طلع الفجر فدل هذا على فضل بر الوالدين، وعلى أنه سبب لتيسير الأمور وتفريج الكروب، وبر الوالدين هو أعظم ما يكون من صلة الرحم وقد قال النبي - -: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)) متفق عليه(2)[2]. وهذا جزاء معجل لصاحبه في الدنيا يبسط له في رزقه ويؤخر له في أجله وعمره، هذا غير الجزاء الأخروي المدخر له في الآخرة، وقد عظم الله تعالى شأن الوالدين حتى أنه سبحانه نهى الابن عن أن يتلفظ عليهما بأدنى كلمة تضجر كما قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .

وحتى أن الرسول - - جعل صلة الرجل أهل ود أبيه من أبر البر فقد جاء في صحيح مسلم (3)[3]، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - - قال: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه))، وفي المقابل حذر الإسلام من عقوق الوالدين بل جعل ذلك من أكبر كبائر الذنوب فقد جاء في الصحيحين(4)[4]، عن أبي بكر - - قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا. قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال، ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)). وفي صحيح مسلم (5)[5]، عن أبي هريرة - - قال: قال رسول الله - -: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه. قيل: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما او كليهما ثم لم يدخل الجنة))، قال أهل العلم: وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين عند كبرهما وضعفهما بالخدمة أو النفقة أو غير ذلك سبب لدخول الجنة، فمن قصر في ذلك أرغم الله أنفه.

عباد الله: إن بعض الناس لا يبالي بشأن بر والديه بل تجده إما عاقاً لهما في القول أو الفعل أو تجده معرضا عنهما ألا فليعلم أن الإعراض عن الوالدين حتى ولو لم يسئ إليها هو في الحقيقة عقوق لهما.

أخرج الطبراني في المعجم الصغير: (6)[6](( أن رجلا جاء إلى النبي - - فقال: يا رسول الله! إن أبي أخذ مالي، فقال النبي - -:اذهب فائتني به، فأتاه فنزل جبريل - عليه السلام - على النبي - - فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه، ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ سأله النبي - -: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته أو خالاته أو على نفسي فقال النبي - - دعنا من هذا وأخبرنا عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي قال: قل وأنا أسمع، قال: قلت:

غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمّل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل

تراه معدا للخلاف كأنه بردّ على أهل الصواب موكل

وحينئذ قال له النبي - -: ((أنت ومالك لأبيك)).

عباد الله: وثاني هؤلاء الثلاثة في القصة رجل ضرب مثلا بالغاً في العفة الكاملة، حين تمكن من حصول مراده من هذه المرأة، التي هي أحب الناس إليه، ولكن عندما ذكرته بالله تركها، وهي أحب الناس إليه، ولم يأخذ شيئا مما أعطاها. جاء في الصحيحين في حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله أن من ضمن هؤلاء السبعة: ((رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)).

ما أعظم الفرق بين هذا وبين من يسافر لبلاد الدعارة والمجون! لأجل ان يزني بالعاهرات المومسات والعياذ بالله، ألا فليعلم أولئك الذين يسافرون لتلك البلاد أن الله - عز وجل - رقيب عليهم، ولا يخفى عليه خافية، فهو مطلع عليهم في هذا البلد، وفي تلك البلاد، وليعلموا بأنهم على خطر عظيم، إن لم يتوبوا إلى الله تعالى، يقول الله - عز وجل -: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما .

ويكفيك قبحا للزنا النظر للعقوبة الشرعية المترتبة عليه في الدنيا، فحد الزاني البكر جلد مائة، وأن يغرّب عن موطنه سنة كاملة، وأما إذا كان محصنا - أي متزوجا - فحده القتل لكن على صفة فظيعة غليظة، وهي: الرجم بالحجارة حتى الموت.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاعلموا أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.

عباد الله: وثالث هؤلاء المذكورين في القصة: رجل ضرب مثلا عظيما في الأمانة والنصح، حيث ثَّمر للأجير أجره فبلغ ما بلغ، وسلمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئا، ما أعظم الفرق بين هذا الرجل وبين أولئك الذين يظلمون الأجراء ويأكلون حقوقهم، لاسيما إن كانوا من العمال الوافدين فتجد هؤلاء الكفلاء يكاد يصدق فيهم قول الله تعالى: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم .

فهم يريدون من هؤلاء العمال أن يقوموا بالعمل على أكمل وجه، ولكنهم يبخسونهم حقوقهم ويماطلونهم في إعطائهم أجرتهم، وربما رجع بعض أولئك العمال إلى بلدانهم ولم يستوفوا أجورهم، ألا فليعلم من استأجر أجيرا ولم يوفه أجره أن الله تعالى سيكون خصمه يوم القيامة، لن يكون خصمك هذا العامل المسكين الضعيف، ولكن سيكون خصمك رب العالمين كما جاء في صحيح البخاري ان رسول الله - - قال: قال الله تعالى: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه فقد خصمته))، وذكر منهم: ((رجلا استأجر أجيرا فاستوفى منه ثم لم يعطه أجره)).

عباد الله: ودل هذا الحديث على مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، بل إن ذلك التوسل سبب لتفريج الكروب، وانظر إلى حال هؤلاء الثلاثة لما ضاقت بهم السبل توسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم.

__________

(1) صحيح البخاري (4/449)، صحيح مسلم (4/2099).

(2) صحيح البخاري (10/415)، صحيح مسلم (4/1982).

(3) صحيح مسلم (4/1979).

(4) صحيح البخاري (10/405)، وصحيح مسلم (1/91).

(5) صحيح مسلم (4/1978).

(6) اخرج هذه القصة الطبراني في المعجم الصغير : ص392-393، وقد وردت من عدة طرق ، وصححها الالباني في ارواء الغليل : (3/323) بمجموع الطرق .

(1/8)

توحيد وعبادة

-----------------------

التوحيد

أهمية التوحيد

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الغاية من خلق الخلق - حال البشرية حين تنحرف عن منهج الله - أهمية كلمة التوحيد والدعوة إليه والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة - أثر الاستقامة على التوحيد على سعادة الإنسان ارتباط العقيدة بالعمل الصالح والاتباع - ارتباط التحاكم إلى الله بالعبادة - تحقيق التوحيد التام شرط لقبول الأعمال

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيقول الله عز وجل: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات:56-58].

لم يخلق الله الخلقَ ليتقوى بهم من ضعف، ولا ليتعزز بهم من ذلةٍ، ولا ليستكثر بهم من قلة. فهو المنعم المتفضل، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.. خلقهم لعبادته وطاعته، ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

أيها الإخوة في الله: إن البشر عاجزون عن أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً أو يدفعوا ضراً، وعقولهم قاصرة أن تدرك طرق الصلاح وسبل الرشاد إذا لم تكن عناية الله وهدايته وتوفيقه.

إن الإنسانية حين تضل عن سبيل الله تتخبط في فوضى التدين وتغرق في أوحال الجاهلية.

ألم يتخذوا لأنفسهم معبودات مزيفة وأصناما خرساء؟ اتخذوها من عجين وتمر، يتوجه إليها عابدها حتى إذا جاع أكلها. جعلوا من دون الله أصناما وأوثانا يقصدونها في الرخاء وينبذونها في الشدة: واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً [ الفرقان :3]. اتخذوها فلم يروا إلا سرابا، ولم يزدادوا إلا تبارا.

كل هذه الفوضى - أيها الإخوة - أبطلها محمد حيث جدد الملة الحنيفيةَ. صدع بكلمة الحق مدوية في المشارق والمغارب، قائلا عليه الصلاة والسلام: ((كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم: لا إله إلا الله محمد رسول الله))(1).

إنها أصل الدين وقاعدته. لأجلها نصبت الموازين، ونشرت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الناس فيها الى فريقين مؤمنين وكفار، ومتقين وفجار. إنها حق الله على العباد، وفي سبيلها تجرد سيوف الجهاد.

إخوة العقيدة والتوحيد : إن توحيد الله والدعوة إليه وإثباته أفاض فيه كتاب ربنا سوقا في الأدلة، ضربا للأمثال وردا على المبطلين الجاحدين. هو الله الأحد الفرد الصمد، الذي أبدع الأفلاك في ضخامتها والآفاق في سعتها، ووهب العقول إدراكها وذكاءها، وألهم النفوس فجورها وتقواها. في بديع خلق السماوات والأرض وما بينهما دلائل الوحدانية، وبراهين التفرد باستحقاق العبادة.

أم اتخدوا ءالهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ الأنبياء:21-22].

قل من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً قل هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [الرعد:16].

لا يرتفع الشقاء والعناء عن البشرية إلا حين تستيقن البصائر ويصح في العقول أنه سبحانه الواحد القهار، له الملك كله وله الأمر كله: ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف:39].

هل يستوى من تتوزعه الأهواء وتتنازعه الشهوات، لا يدري أين يوجه ولا لمن له الرضا والخضوع؟ هل يستوي مع من خضع للإله الحق فنعم براحة اليقين، وبرد الاستقامة ووضوح الطريق؟؟.

استمعوا إلى المثل المضروب من كتاب الله : ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون .[الزمر:29].

إله واحد.. وعقيدة صافية.. وتوحيد نقي تخرج النفس به من الخرافات والأوهام.بالتوحيد الخالص يرتفع ابن آدم بكرامته من أن يخضع لأي مخلوق علت مرتبته أو دنت. فكل الخلائق عبيد لله طوعا وكرها.. كلهم تحت قهره وأمره إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم ءاتيه يوم القيامة فرداً [مريم:93-95].

ليس للقلوب سرور وليس للصدور انشراح إلا في صدق العبادة، وإخلاص المحبة، وتمام الذل والخضوع، وصرف البصر والبصيرة عن الالتفات إلى ماسوى الله ذي الجلال والإكرم.

فيه يكون الولاء والبراء، والحب والبغض، والمودة والعداء. يضعف كل رباط إلا رباط العقيدة، وتضمحل كل وشيجة إلا وشائج الحب في الله. رابطة الإيمان يتهاوى دونها كل صلة بعرق أو تراب أو لون.

معاشر الأحبة: وتوحيد الاعتقاد يتبعه توحيد العمل والاستقامة في الاتباع، لا تقوم العقيدة بصفائها إلا حين نقارنها بالعمل الصالح، وإسلام الوجه لله والإحسان في العمل.

ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22]. ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً [ النساء:125].

الموحد لله تكون مشاعر قلبه وخلجات ضميره مرتبطة بربه مؤتمرة بأوامره، منتهية عن نواهيه، يحل ما أحل الله ويحرم ما حرم الله، يقف عند حدوده منتصب القامة مرتفع الهامة، لا يركع ولا يسجد ولا ينحني إلا لله رب العالمين.

من نازع الله في الحكم فقد نازعه حقا من حقوق العبادة: إن الحكم الا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه . [ يوسف:40].

إن الدين القيم لا يتحقق إلا حين يعترف المؤمن باختصاص الله بالحكم كما هو مختص بالعبادة في جميع أنواعها: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .[النساء:65].

والغلو في التعلق بالدنيا يصير صاحبه عابدا لها مؤثرا ذلك في توحيده وصحة عبادته..حينما لا يكون غضبه إلا من أجلها، ورضاه في سبيلها.

ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون [التوبة:58-59].

وفي الحديث الصحيح: ((تعس عبد الدينار. تعس عبد الدرهم. تعس عبد الخميصة. تعس عبد القطيفة)).

ويلتحق بذلك كل أصحاب الأهواء وعبيد الملذات، إن حصل لصاحبه ما يشتهي رضي، وإن لم ينل مراده سخط. ما العبودية إلا عبودية القلب فعبد الله على الحقيقة من كان رضاه في رضا ربه وسخطه في سخط ربه.

وهكذا أيها المسلمون يتجلى التوحيد.. طهارة في القلب، وصحة في العقل، ورفعة في السلوك، واستقامة على الفطرة فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم:30].

وما لم يتحقق التوحيد وإخلاص العبادة وتمام الخضوع والانقياد والتسليم.. فلا تقبل صلاة ولا زكاة ولا يصح صوم ولا حج، ولا يزكوا أي عمل يتقرب به إلى الله: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [الفرقان:23].

إذا لم يتحقق التوحيد ويصدق الاخلاص فلا تنفع شفاعة الشافعين، ولا دعاء الصالحين حتى ولو كان الداعي سيد الأنبياء محمدا . اقرءوا إن شئتم: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [التوبة:80].

فاتقوا الله عباد الله وحققوا إيمانكم وأخلصوا أعمالكم يهدكم ربكم ويصلح بالكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير [الأنعام:14-18].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد

__________

(1) 1اخرجه الترمذي (5/341-ح2323) وقال : حديث حسن، واحمد (1/722، 362).

(1/9)

إن الحكم إلا لله

-----------------------

التوحيد

الألوهية

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أثر الإسلام في توحيد الأمة وإنقاذها من مهاوي الرذيلة إلى العزة والكرامة - الشريعة هي المنهج الذي يصون الإنسان من الزيغ والشر - منبع الشريعة الكتاب والسنة وفيهما أصول الشريعة وقواعدها في العقائد والأخلاق والحلال والحرام - السنة مُفسِرة للقرآن دالة عليه مبينة له - الإسلام عقيدة وشريعة , تهيمن على الحياة في جميع أشكالها - من لوازم الإيمان الإقرار بحق التشريع لله وحده - صد المنافقين والكافرين الأمة عن التحاكم لشريعة الله - حقيقة الإيمان , وارتباطها بالخضوع والرضا بحكم الله

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون. فبتقوى الله تزكو الأعمال، وتنال الدرجات، وارغبوا فيما عنده. فبيده الخير وهو على كل شيء قدير. اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا من دونه أولياء.

أيها المؤمنون : من حق هذه الأمة أمة الإسلام - خير أمة أخرجت للناس - أن تفخر بدينها، وتعتز بتشريعها، حيث توحدت به الصفوف، والتقت به القلوب. أنقذها من مهاوي الرذيلة إلى مشارف الفضيلة ونقلها من الذل والاستعباد إلى العزة والكرامة وصحيح الحرية، دين الأمن والأمان، وشريعة العدل والرحمة. دين أكمله الله فلن ينقص أبدا، ورضيه فلن يسخط عليه أبداً: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3].

عباد الله: شريعة الله هي المنهج الحق الذي يصون الإنسانية من الزيغ، ويجنبها مزالق الشر ونوازع الهوى.شفاء الصدور، وحياة النفوس، ومعين العقول. يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:57-58].

منبع الشريعة ومصدرها كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه محمد .

كتاب الله أساس الدين ومصدر التشريع، رحمة الله على العالمين، حوى أصول الشريعة وقواعدها في عقائدها وأخلاقها وحلالها وحرامها، يضيء للأئمة مسالك الاستنباط في معرفة أحكام الحوادث والمستجدات في كل زمان ومكان.

((فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)) كما قال الإمام الشافعي رحمه الله.

ويقول الشاطبي: ((الكتاب كل الشريعة، وعمدة الملة ،وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور البصائر والأبصار. لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة إلا لمن استضاء بهداه)). اهـ .

يفتح مغاليق القلوب وتستنير به الأفئدة.

كتاب الله الحكيم، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

أما سنة المصطفى في أقواله وأفعاله وتقريراته فهي المفسرة للقرآن الدالة عليه، والمبينة لمجمله والمفصلة لأحكامه، فرض اتباعها، وحرام مخالفتها: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء:80]. وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7]. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].

أيها المؤمنون: الإسلام عقيدة وشريعة. إيمان بالله وتوحيد له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته - إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره - عبودية تامة، وخضوع مطلق. رضى بدين الله، وتصديق برسول الله من غير شك ولا ريب ولا حرج.

التزامه في المنهج والعمل. في التعامل والقضاء. في الحكم والإدارة. في الأفراد والجماعات.

إن الإسلام حياة تعبدية. تجعل المسلم موصول القلب بربه، يبتغي رضوانه في شئونه كلها.

نظام خلقي يقوم على إشاعة الفضيلة واستئصال الرذيلة، نظام سياسي أساسه إقامة العدل، وتثبيت دعائم الحق، نظام اجتماعي نواته الأسرة الصالحة وعماده التكافل بين أبناء المجتمع. دين عمل وإنتاج. منهج كامل متكامل لكافة أنماط النشاط البشري على نور من الله. ابتغاء مرضاة الله.

ومن هنا - أمة الإسلام - فإن هذا الدين بأصوله ومبادئه وفّى ويفي بحاجات البشرية في كل عصر ومصر. انتشر في أنحاء الدنيا، ودخل تحت سلطانه أجناس البشر، فوسع بمبادئه وقواعده كل ما امتد إليه نفوذه من أصقاع المعمورة. عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات. وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابا، ولكل واقعة فتوى، ولكل قضية حكما. ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين.

وكيف يكون ذلك والشريعة - كما قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: ((مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، عدل كلها، رحمة كلها، ومصالح كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة))، لقد كانت هذه الشريعة أساس الحكم والقضاء والفُتيا في العالم الإسلامي كله أكثر من ثلاثة عشر قرنا، انضوى تحت لوائها أعراق شتى، وامتزجت بها بيئات متعددة، فما ضاقت ذرعا بجديد، ولا قعدت عن الوفاء بمطلوب.

ولماذا نرجع إلى الماضي، وبين أيدينا - ولله الحمد والمنة حجة قائمة، وبرهان ظاهر، فهذه بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية قائمة على كتاب الله وسنة رسول الله ، محكمة شرع الله. قادتها وحكومتها وأهلها ومجتمعها يعيشون في ظلال الشريعة، ونور الكتاب والسنة في أمن وطمأنينة، وخير ونعمة، ملء القلوب الرضى، وما يرجى من الله خير وأبقى ،أدام الله علينا نعمه، وزادنا إيمانا وتوفيقا ورضى وتسليما.

أيها الإخوة في الله: إن من مقتضيات الإيمان الإقرار بحق التشريع لله وحده، فالحكم لله وحده إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [يوسف:40].

والتولي والإعراض عن تحكيم شرع الله، من مسالك المنافقين والظالمين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [ النور:48-50].

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً [ النساء:60].

أمة الإسلام: على الرغم من هذا الوضوح والجلاء.. إلا أن أعداء الإسلام أبوا إلا وضع العراقيل، وتلفيق التهم، والاختلاق الفكري الذي يجعل من بعض المسلمين - حتى المثقفين يستحيون أو يشمئزون من ذكر بعض شرائع الإسلام، كالحدود والقصاص والحجاب، وكأنهم لا يرون مانعا أن تكون ديار الإسلام ميدانا فسيحا تنمو فيه الدنايا وسفاسف الأخلاق، وموطنا رحبا يجد فيه المجرمون والمتوحشون فرصا للاعتداء والاغتيال. بل إنك ترى في بعض من يخوض فيها ويلوك.. أناسا لا يعرفون الطريق إلى المساجد، أو لا يتورعون عن الموبقات والمزالق، فتراهم يسرون أو يعلنون: إن تحريم الخمر والزنا وقطع دابر اللصوص والمفسدين... تشدد وهمجية. أما سمعوا قول الله في المنافقين: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [محمد:9]. وقوله سبحانه: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [محمد:28].

أيها الإخوة في الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، وليس الإسلام مجرد الانتساب الاسمي، ولكنه ما استيقنه القلب وصدقه العمل.

ومن هنا فحين يصدق المسلمون ويخلصون لدينهم، فيجعلون كتاب الله وسنة نبيه محمد أساس الحكم، وتبنى عليهما مناهج التربية والتوجيه.. حينئذ يتحقق الوعد ويتأكد التمكين وينزل النصر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [المائدة:49-50].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله شرح صدور المؤمنين فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم.. فلم يجدوا حرجا في الاحتكام إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن حقيقة الإيمان: هي الرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، ومن ثم الخضوع والطاعة والانقياد والتسليم.

أما الحرج في الصدور والريب في القلوب والاستسلام للهوى ورغبات النفوس، فهو من مظاهر النفاق فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [النساء:65]. إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور:51-52].

فاتقوا الله وأطيعوه واعملوا بشرعه يرتفع الشأن، ويعز السلطان، ويندحر العدو.

(1/10)

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

-----------------------

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره - خطورة التقصير في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - خطورة فُشو المنكرات - حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد على الشبهات - آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر - أثر وجود جهاز مخصص للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قِبَل الدولة

-------------------------

الخطبة الأولى

فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن، وانتهوا عن معاصيه، والانقياد لأماني النفوس، ووساوس الشيطان، فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

أيها المؤمنون: أفشوا التناصح بينكم.. مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وخذوا على يد السفيه.

ولتعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. هو حصن الإسلام الحصين، والدرع الواقي من الشرور والفتن، والسياج من المعاصي والمحن، يحمي أهل الاسلام من نزوات الشياطين ودعوات المبطلين.

إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين.

وهل تظهر أعلام الشريعة وتفشوا أحكام الإسلام ألا بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر. لا تستوفى أركان الخيرية لهذا الأمة المحمدية إلا به: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [آل عمران:110].

إنه مجاهدة دائبة دائمة من كل مسلم حسب طاقته لإبقاء أعلام الإسلام ظاهرة، والمنكرات قصية مطمورة. هو فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف [التوبة:67].

والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [التوبة:71].

ولهذا يقول الغزالي رحمه الله :فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين.

أيها الإخوة المؤمنون: بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور. يورث القوة والعزة في المؤمنين المستمسكين، ويذل أهل المعاصي والأهواء.

يقول سفيان رحمه الله: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.

ويقول الإمام أحمد: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها، صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة، والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً.

عباد الله :إذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميزت السنة من البدعة، وعرف الحلال من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأت الناشئة على المعروف وألفته، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.

وصاحب البصيرة مدرك أن ما أصاب بلاد الإسلام من جهل بالسنن والواجبات، والوقوع في البدع والمحرمات، ما هو إلا بسبب تقصير أهل العلم في هذا الجانب، والاستحكام السيئ في مناهج التعليم والتربية والتوجيه، حتى نشأت الأجيال لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، وإنك لناظر في ذلك شيئاً كثيراً من الغلو في الصالحين بشتى درجاته، وفشو منكرات كبرى.. من ترك الصلوات، والوقوع في الربا والزنا وشرب الخمور وما هو دون ذلك وأكثر منه.

حقا أيها المؤمنون: إذا تعطلت هذه الشعيرة ودك هذا الحصن، وحطم هذا السياج، فعلى معالم الإسلام السلام، وويل يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويل لأهل الحق من المبطلين، وويل لأهل الصلاح من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين.

لا تكون ضعة المجتمع، ولا ضياع الأمة، إلا حين يترك للأفراد الحبل على الغارب، يعيشون كما يشتهون، يتجاوزون حدود الله، ويعبثون بالأخلاق، ويقعون في الأعراض، وينتهكون الحرمات من غير وازع أو ضابط، ومن غير رادع أو زاجر.

إن فشو المنكرات يؤدي إلى سلب نور القلب، وانطفاء جذوة الإيمان، وموت الغيرة على حرمات الله، فتسود الفوضى، وتستفحل الجريمة، ثم يحيق بالقوم مكر الله. حتى إن كثرة رؤية المنكرات يقوم مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز وقوة الإنكار. لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت من القلوب وحشتها، فتعتادها النفوس، فلا يخطر على البال أنها منكرات، ولا يميز الفكر أنها معاصي.

يقول بعض الصالحين : إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات، لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها أنست بها النفوس، والنفوس إذا أنست شيئاً، قل أن تتأثر به.

يقول نبيكم محمد وهو الصادق المصدوق: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً (أي تلزمونه به إلزاماً) أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم، يعني بني إسرائيل))(1)[1].

فواجب على كل مسلم ومسلمة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب الاستطاعة، وبخاصة فيما تحت قدرتهم ومكنتهم من منكرات البيوت وما في حكمها، وعلى كل صاحب علم وقلم وقدرة على البيان، وكل ذي أثر في المجتمع - مع العلم والحكمة - أن يقوم بالإرشاد والتوجيه، والنصح في الأمر والنهي، والسعي في إفشاء المعروف وزوال المنكر.

ولا يضعف المسلم أو يتوانى بدعوى أنه غير كامل في نفسه، فقد قرر أهل العلم أنه لا يشترط في منكر المنكر أن يكون كامل الحال، ممتثلاً لكل أمر، مجتنبا لكل نهي، بل عليه أن يسعى في إكمال حاله مع أمره ونهيه لغيره. ومما استدل به أهل العلم على ذلك قوله سبحانه في بني إسرائيل: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه [المائدة:79]. مما يدل على اشتراكهم في المنكر ومع هذا حصل عليهم اللوم بترك التناهي فيه.ومن ذلك أيضا قوله : ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))(2)[2].

ولا بد لمن قام بهذا من التحلي بالرفق وسعة الصدر، وإن سمع ما يكره، فلا يغضب كأنه منتصر لنفسه، ولينظر للواقعين في المعاصي بعين الشفقة والرحمة والنصح،وليعرف نعمة الله عليه حيث لم يقع فيما وقعوا فيه، ولا ينظر إليهم نظر ازدراء وإعجاب بالنفس. وعليه بالتخلق بالصبر على ما يلقى، فهو ملاق أذى كثيرا. وليبتعد عن حلاوة المداهنة والمداراة، ولا يأسف على من هجره وقلاه، ولا يحزن على من فارقه وخذله. إنه بهذا المسلك يقطع أطماعه في الخلق، ويحصر تعلقه بربه ومولاه، ولا يتوكل إلا عليه، ومن توكل عليه كفاه.

وليعلم أيها المؤمنون: أن الأصل هو الستر على المسلم إذا وقع في معصية لعموم قوله : ((من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة))(3)[3]. ولقوله عليه الصلاة والسلام لمن جاء إليه بصاحب معصية: ((لو سترته بثوبك كان خيرا لك))4. ولكن هذا في غير من عرف بالأذى والفساد ومعاودة المنكرات، فإن الستر على مثله يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات.

4 أخرجه أبو داود (4/134-ح4377)، وأحمد (5/217)، ومالك في الموطأ بلاغا (2/821)، والنسائي في السنن الكبرى (4/306-ح7274).يقول الإمام أحمد رحمه الله: (( الرجل المعلق بالفسق لا حرمة له)).

فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أنه لو طوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأهمل علمه وعمله، لتعطلت الشريعة، واضمحلت الديانة،وعمت الغفلة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق وخربت البلاد، وهلك العباد، وحينئذ يحل عذاب الله وإن عذاب الله لشديد.

أخرج النسائي وأبو داود واللفظ له من حديث أبي بكر رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا، يوشك أن يعمهم الله بعقاب))(4)

وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا))(5).

ويقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا فتدعون فلا يستجيب لكم))(6). أخرجه الترمذي وحسنه من حديث حذيفة رضي الله عنه. وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ((يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا، ولا يقرب أجلا، وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء))(7).

رواه الأصبهاني وسكت عنه المنذري.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. إنك على كل شيء قدير.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد .

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن أقام أمره واجتنب نهيه ودعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن من التحدث بنعم الله سبحانه أن نذكر ببعض ما تتمتع به هذه البلاد من مزايا كبرى، لا تكاد توجد في غيرها - صانها الله وحفظها من كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وكتب الخير والتوفيق والصلاح والأمن والرخاء لكافة بلاد المسلمين.

أيها المسلمون: لقد قامت هذه البلاد على دعوة الحق والتوحيد، وتحكيم كتاب الله وسنة نبيه محمد ، وأخذ الناس بهما في كافة مجالات الحياة، والسير على طريق السلف الصالح فلله الحمد والمنة.

وإن هناك خصيصة عظمى لا توجد في غير هذه البلاد فيما نعلم، تلكم أنها البلد الوحيد الذي أنشأ جهازا خاصا يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متمثلين قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [آل عمران:104].

إنه جهاز خاص له نظامه وصلاحياته، كما أنه له الأثر العظيم في البلاد، وهو يحظى بتأييد كافة المسئولين ودعمهم، متعاون مع جميع المصالح الحكومية في سبيل تثبيت المعروف ونشره، وإزالة المنكر بشتى أشكاله وصوره، ولأهله النشاط المعروف والجهد المشكور في القضاء على الجرائم في مهدها. وبسط الأمن والطمأنينة على الأرواح والأعراض والممتلكات، سالكين مسلك العلم والحكمة، والرفق في غير ضعف، والقوة في غير عنف، وهم - بعد توفيق الله وعونه - مؤيدون كل التأييد من المسئولين في البلاد، محل الثقة من المجتمع كله، فجزى الله الجميع عن البلاد وأهلها خير الجزاء.

أيها الإخوة : إنها كلمة حق يجب أن تقال، وأعمال يجب أن تذكر فتشكر مع ما نرجو ونؤمل من المزيد من النشاط والعمل، كما نؤمل المزيد من الدعم والتأييد، فالتيارات كثيرة، والمغرضون كثير، ولكن الخير ظاهر، والحق علي بإذن الله، والحمد لله على ذلك كثيرا.

__________

(1) رواه ابو داود (4/122-ح4336، ح4337) واللفظ له، والترمذي (5/235،236-ح3047،3048) وقال :حسن غريب، وابن ماجه ((2/1327-ح4006) وقال الهيثمي : رواه الطبراني رجاله رجال الصحيحين انظر مجمع الزوائد (7/269).

(2) أخرجه البخاري (6/208-ح3062) واللفظ له، ومسلم (1/106-ح111).

(3) أخرجه البخاري (5/116-ح2442)، ومسلم (4/1996-ح2580)، والترمذي (4/288-ح1930) واللفظ له.

(4) 5 أخرجه أبو داود (4/122-ح4338)،وابن ماجه (2/1329-ح4009)، وأحمد (4/361،363،364،366)، واليبهقي في السنن الكبرى (10/91).

(5) 6 أخرجه أبو داود (4/122-ح4339)، وأخرجه ابن حبان انظر الإحسان في قريب صحيح ابن حبان (1/536-ح300)

(6) 7 أخرجه الترمذي (4/406-ح2169)، وقال : حديث حسن، والبيهقي في السنن الكبرى (10*93)، وابن ماجه من حديث عائشة باختلاف يسير (2/1327-ح4004).

(7) 8 أخرجه الحافظ الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/157)، والمنذري (3/230،231) وعزاه للأصبهاني وأشار إلى ضعفه، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم انظر مجمع الزوائد (7/266).

(1/11)

الكبر وآثاره

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

أمراض القلوب, الكبائر والمعاصي

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 - التحذير من الكبر 2 - من مظاهر الكبر الإسبال 3 - عقوبة المتكبر في الآخرة 4 - مرض العجب 5 - علامات مرض العجب

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله حق تقواه، واجتنبوا ما نهاكم عنه؛ لتفلحوا وتفوزوا في الدنيا والآخرة؛ فالعز كل العز في طاعة الله، والشقاء كل الشقاء في معصية الله:

قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [طه:124].

عباد الله!

إن مما حذر الله منه: "الكِبْر" ذلك المرض الفتاك والداء العضال الذي يفتك بالدين، حتى يورد صاحبه المهالك؛ كما أورد إبليس لما تكبر:

قال تعال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين [البقرة:34].

وقد عرف النبي الكبر بقوله: إنه بطر الحق وغمط الناس، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً. قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس))(1).

وبطر الحق: دفعه ورده على قائله، وغمط الناس: احتقارهم.

فقد أخبر النبي أن التجمل في الهيئة وللناس أمر محبوب عند الله، وليس من الكبر في شيء، وإنما الكبر صفة باطنة في القلب، تظهر آثارها في تصرفات الشخص، فتحمله على عدم قبول الحق، واحتقار الناس.

فإبليس لما تكبر على آدم؛ حمله ذلك على أن امتنع عن امتثال أمر ربه له بالسجود، وهو الذي حمل الكفار على مخالفة الرسل لما جاءوهم بالآيات البينات.

والكبر هو الذي يمنع بعض الناس من الامتثال إذا أمروا بالمعروف، وهو الذي يحمل بعض الناس على مضايقة الآمرين بالمعروف وازدرائهم، وهو الذي يحمل بعض الناس الذين أعطوا شيئاً من الثروة أو المسؤولية على ترك الصلاة في المساجد، فترى المسجد إلى جانب بيت أحدهم، أو قريباً منه، ويسمع الأذان كل وقت؛ فلا يدعه الكبر يذهب إلى المسجد ويقف بين يدى ربه مع المصلين؛ لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك.

والكبر هو الذي يحمل بعض الناس على مخالفة أمر الرسول وترك العمل بسنته.

فالكبر هو الحامل للمسبل على الإسبال؛ لأنه ملازم له؛ فعن جابر بن سليم؛ أن النبي قال له: ((إياك وإسبال الإزار؛ فإنه من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة))(2).

وعن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم قلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ فأعادها ثلاثاً؛ قلت: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ فقال: المسبل والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب))(2).

حقا؛ لقد خاب وخسر من أسبل ثوبه أسفل من كعبيه، ولو لم يكن إلا هذا الوعيد؛ لكان زاجراً لمن له قلب.

والكبر هو الذي يحمل بعض الناس على التبختر في مشيته؛ قد أسبل ثيابه، وأعجبته نفسه؛ فهو يمشي متكبراً.

وقد ورد في هذا وعيد شديد للمتكبر وللمسبل:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) (3).

قوله: (يتجلجل) أي: يغوص وينزل.

والكبر هو الذى يحمل بعض الناس على ازدراء سنة الرسول والاستهزاء بها:

فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه؛ أن رجلا أكل عند رسول الله بشماله، فقال: ((كل بيمينك، فقال: لا أستطيع. فقال: لا استطعت. ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه))(4).

عباد الله!

إن الكبر غالباً ما ينشأ من الترف؛ فإذا أترف الإنسان؛ انتكس تفكيره وسمى الباطل حقاً والحق باطلاً، ومن ثم يحتقر من لم يكن مثله في عيشه وماله ودنياه؛ إلا من رحم الله.

وقد ينشأ الكبر من منصب يتولاه الإنسان، فيرى نفسه أعلى من الناس طبقة، فيكشر في وجوه فقراء الناس، وربما رأى أن الواجب ألا يتصلوا إليه مباشرة، بل لابد من الوساطة بينه وبينهم ويحمله الكبر على أن يحب في نفسه أن يقوم الناس له تعظيماً:

فعن أبي مجلز، قال: خرج معاوية، فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه فقال: اجلسا! سمعت رسول الله يقول: ((من سره أن يتمثل له الرجال قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار))(5).

عباد الله!

وشر الكبر من تكبر على العباد بعلمه وتعاظم في نفسه بفضيلته؛ فإن هذا لم ينفعه علمه؛ فإن من طلب العلم للآخرة كسره علمه، وخشع قلبه، واستكانت نفسه، وكان على نفسه بالمرصاد، فلم يفتر عنها. ومن طلب العلم للفخر والرياسة، ونظر إلى المسلمين شزراً وازدراهم؛ فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله.

قال بعض الحكماء: المتكبر كالصاعد فوق الجبل، يرى الناس صغاراً، ويرونه صغيراً.

عباد الله!

إن عقوبة المتكبر عظيمة جداً:

قال تعالى: إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط [الأعراف:40].

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي ؛ قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ،يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار؛ طينة الخبال))(6)

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ؛ قال: ((احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة: فيّّ ضعفاء الناس ومساكينهم. فقضى الله بينهما: إنك الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء. وإنك النار عذابي، أعذب بك من أشاء. ولكليكما علي ملؤها))(7).

عباد الله!

إن على الإنسان أن يدفع الكبر عن نفسه؛ بأن يعرف أصله ونشأته وفقره وحاجته، ويعرف نعم الله عليه، ويتذكر مقامه بين يديه، وعاقبة المتكبرين يوم القيامة، ويتصور أنه ليس له جلد على ذلك العذاب الأليم، الذي يعذب به المتكبرون.

فاتقوا الله عباد الله! وقوموا بأوامر الله، وتجنبوا نواهيه، وتواضعوا لله؛ لتنالوا الرفعة.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ؛ قال: ((وما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله؛ إلا رفعه الله)).

وعن النبي ؛ قال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد))(8).

اللهم! اجعلنا من الذين تواضعوا لك فزدتهم رفعة بذلك.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) رواه مسلم.

(2) رواه مسلم

(3) رواه مسلم

(4) متفق عليه .

(5) رواه مسلم

(6) رواه الترمذى وقال "حديث حسن"(الادب،5/91).

(7) رواه الترمذى وقال "حسن صحيح"

(8) رواه مسلم

(1/12)

حدود شرعية وبلاد آمنة

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد, فقه

الحدود, محاسن الشريعة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية الأمن وأنه من ضرورات الحياة , وارتباطه بالإيمان , والنصوص الدالة على ذلك من لوازم الأمن الشرع العادل والسلطان القوي - مفهوم الرحمة التي جاءت بها الشريعة ومن مظاهرها القصاص والحدود - خطورة التهاون مع المجرمين وعاقبة ذلك - طبيعة الحدود والعقوبة في الإسلام , وخطورة القول بأنها غير صالحة في هذه العصور

-------------------------

الخطبة الأولى

فاتقوا الله أيها المسلمون وعظموا أمره واشكروا نعمه.

عباد الله: إن توفر الأمن ضرورة من ضرورات الحياة، قد تفوق ضرورة الغذاء والكساء، بل لا يستساغ طعام إذا فقد الأمان. والأمان في جوهره ومعناه: لا يكون إلا مع الإيمان، والسلام في حقيقته لا يكون إلا مع الإسلام: الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].

((لا إيمان لمن لا أمانة له))(1)[1]، ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))(2)[2].

ومن دخل في الإسلام فقد دخل في دائرة الأمن والأمان: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل))(3)[3]. ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))(4)[4]. وإذا تحقق الإسلام والإيمان توفرت أسباب الأمن والأمان: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

ومن هنا كان بناء الإنسان في الإسلام شاملاً كل جوانب حياته، ومكونات شخصيته، عقيدة وسلوكا وأخلاقاً.

ولئن كان الأمن - أيها الإخوة - يتوفر برسوخ الإيمان في القلوب، وتطهير الأخلاق في السلوك، وتصحيح المفاهيم في العقول، فإنه لابد في ذلك من الشرع العادل، والسلطان القوي: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].

إن من الناس صنفاً غليظاً لا يكفيه توجيه رفيق، ولا يكفيه وعظ بليغ، بل لا يردعه إلا عقوبة زاجرة، وقوة صارمة، لذا كان لابد من سوط السلطان مع زواجر القرآن، وقد جاء في الأثر: ((إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)).

ولكي يشيع الأمان، ويطمئن الإنسان، شرعت الشرائع الحازمة لمعكري الأمن ومثيري القلاقل، إنها مبادئ وأحكام، من أجل ضبط المجتمعات، أساسها الرحمة العامة والمصلحة الراجحة.

إنها الرحمة المصاحبة للعدل في قانون الإسلام، وأنزلت من أجلها الشرائع، وسنت لها الأحكام، وجاء بها رسول البشرية محمد وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فالغاية من الرسالة المحمدية الرحمة بالبشرية.

وإن الرحمة بمفهومها الواسع غير مقصورة على الشفقة والرقة التي تنبت في النفس نحو مستضعف أو أرملة أو طفل، ولكنها رحمة عامة للضعيف والشريف، والرئيس والمرؤوس، والقريب والبعيد.

لا مكان للرحمة لناشري الفوضى، ومهدري الحقوق، ومرخصي النفوس. كيف تكون الرأفة بذئاب الأعراض والأموال والدماء؟ لا يعرف العدالة في هذه القوة إلا المقروحون(5)[5]والمكتوون ممن أهدرت دماؤهم، وانتهكت أعراضهم، ونهبت أموالهم. هل تترك تلك الكلاب المسعورة حرة طليقة تزداد ضراوة ويزداد المجتمع بها بلاء وشقاوة؟!.

أيها الإخوة: إن شرائع القصاص والحدود بعض مظاهر الرحمة في هذا الدين.

إن أغلب المجرمين يقدمون على القتل حين يذهلون عن الثمن الذي يدفعونه حتما. ولو علموا أنهم مقتولون يقيناً لترددوا ثم أحجموا.

ويوم قالت العرب: القتل أنفى للقتل، قال القرآن الكريم عبارة أوجز لفظاً وأحكم أسلوباً: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ [البقرة:179]. نعم إن في القصاص حياة.. حين يكف من يهم بالجريمة عن الإجرام. وفي القصاص حياة حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حد لا في القديم ولا في الحديث.

ثأر تسيل معه الحياة على مذابح الأحقاد العائلية والثارات القبلية جيلا بعد جيل لا تكف الدماء عن المسيل.

فللقصاص حياة أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، حيث يسود البلاد الأمان الذي يصون الدماء.

وكما حفظت النفوس، حفظت الأعراض، فلا قسوة في جلد أو رجم، لأن الغرض الأسمى هو حماية الشرف وصيانة الأسر، وإشاعة الطهر والعفة بين الرجال والنساء: وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

وإن الآية الكريمة لتبين بوضوح أن هذا النوع من الرأفة بالزناة والزواني لا يجتمع مع الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى الرغم من أن من أخص خصائص المؤمنين أنهم رحماء بينهم. فالرفق بمنتهكي الأعراض ومرتكبي الفواحش ليس من الرحمة في شيء.

كل ذلك من أجل أن تخرس بواعث الجريمة، وتسري الرهبة في نفوس أهل الريب، فلا يتجاوزون حدود الله، ويلوثون كرامات الناس.

والزواج الصحيح، هو وحده الملتقى المشروع للنفوس الكريمة والأسر الشريفة.

ومن أجل هذا وتأكيداً لحفظ حرمات الناس من أن تستطيل عليها الألسنة الحداد، فتقع في الإفك وتشيع الفحشاء، شرع حد القذف ليجلد المفترون، وتسقط كرامتهم، وترد شهادتهم وتحفظ أعراض العفيفين والعفيفات.

أما السراق واللصوص.. فأين دعاة الرحمة من عامل كادح قد قبض أجره ليضعه في أفواه نساء وصبية فإذا بيد آثمة تمتد إلى كسبه، وتستولي على رزقه، إن هذا اللص يحصد -مجرماً- في لحظات ما كدح الشرفاء في تحصيله الليالي والأيام. وهكذا يأكل القاعد الخبيث كدح الساعي المرهق.

إن اليد العاملة الكاسبة حقها أن تصان وتحمى، حقها أن يضمن لها سعيها، وتأمن في معاشها، أما اليد الفاسدة التي عزفت عن شريف العمل وامتدت إلى الناس بالأذى، وعز علاجها فلابد من قطعها ليرتاح منها صاحبها، ويريح المجتمع كله من مفاسده.

إن السطو على الأموال جريمة تزداد وتستشري: إن لم تقابل بالعلاج الزاجر الحاسم، تتحول إلى جرأة على الدم الحرام.

ما أيسر أن يقتل اللص من يعترض طريقه، سواء كان هذا المعترض من رجال الأمن أو من رجال الأعمال والأموال.

بل حينما يستفحل أمرهم ويتصاعد خطرهم، تعظم العقوبة الزاجرة في حقهم، لأنهم أصبحوا محاربين لله ولرسوله، ساعين في الأرض فساداً فجزاؤهم: أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].

ذلكم حكم الله أنزله إليكم. إن الغلظة في العقوبة أيها الرحماء تتكافأ مع غلظ الجريمة. إن الرفق بمن ثبتت جريمته ليس من الرحمة في شيء، وكيف يكون إقرار الظلم والاعتداء على الآمنين والتقاعس عن الجزاء الرادع رأفة ورحمة. فالرحمة الحقيقية هي التي لا تحمل في ثناياها ظلماً ولا هضماً.

لقد تعالت صيحات من هنا وهناك تنادي بإلغاء عقوبة الإعدام لمن يستحقها، فهذا المجرم عندهم منحرف المزاج مضطرب النفس، ينبغي أن يعالج. إنه اعتذار عن السفاكين ومرخصي الدماء فألغيت عقوبة الإعدام في دول شتى. وفتحوا سجوناً كثيرة سمن فيها المجرمون لكي يخرجوا أشد ضراوة وأكثر شقاوة.

ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في إدراك مآربهم، ورسم خططهم، ليكونوا عصابات ويتقاسموا المهمات. وكأنكم تحسون بأن السجون تصبح ساحات ممهدة لاجتماع هؤلاء وإحكام خططهم، بل لعلهم يديرونها ويدبرونها من خلف قضبان السجون ولهم في الخارج إخوان يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.

إن الريبة لتثور حول ضمائر هؤلاء المدافعين عن المجرمين.

ويكاد المتعجب أن يقول: لا يعطف على اللص إلا لص مثله، ولا يرأف بالقاتل إلا قاتل مثله.

ماذا كسب الدين أهملوا حكم الله في الحدود والقصاص وأعملوا حكم الطاغوت؟ لم يجنوا إلا انتشار الجريمة، وسيادة الفوضى، وذعر الألوف في مساكنهم ومسالكهم. وفي الحديث: ((وما ترك أئمتهم العمل بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))(6)[6].

إنك حيث ترى في واقع الذين ظلموا أنفسهم، وابتعدوا عن شرع الله، ما تنشره وسائل الإعلام من أنواع الجرائم وبشاعتها، واستهانتها بالأنفس،واسترخاصها للدماء، وانتهاكها للأعراض، وابتزازها للأموال، لقد وصل الحال بهم - حين أمنوا العقوبة الرادعة - أن كونوا قوى إرهابية تضارع الدول والحكومات، بل وقد تفوق عليها في قوتها وأنواع أسلحتها وتقنيتها، إنها عصابات تقطع الطرق وتخيف السبل - برية وبحرية وجوية -، تنشر الرعب والفساد، وتغير على المصارف والخزائن، وتستهين بالقوانين والأعراف. من قاومهم قتلوه، ومن سكت عنهم استخفوا به وأهانوه، شرهم يستشري، وأمرهم يستفحل، والناس منهم في هرج ومرج واضطراب وفساد، والدول يضعف سلطانها، وما أنباء المخدرات ومنظماتها عنكم ببعيد.

أيها الإخوة : وفي هذا الخضم المائج بفتنه وإرهابه نقول : فلتهنأ بلادنا بلاد الحرمين الشريفين بأمنها وأمانها، ولتستمسك بدينها، وتعتز بدستورها:كتاب الله وسنة رسوله محمد ، تحل حلاله، وتحرم حرامه، وتقيم حدوده زادها الله صلاحاً وإصلاحاً، وبتحكيم شرعه إيماناً وتسليماً.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله أحاط بكل شيء خبراً، وجعل لكل شيء قدراً، وأسبغ على الخلائق من حفظه ستراً. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة عذراً ونذراً. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه.. أخلد الله لهم ذكراً وأعظم لهم أجراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه يقصر الإدراك عند بعض المنتسبين إلى الإسلام حيث يظنون أن العقوبات والزواجر في الإسلام إن صلحت فيما مضى فهي غير صالحة في هذه العصور.

إنهم لم يدركوا أن الأمن الذي يتحقق بتطبيق شرع الله لا يعتمد على العقوبة وحدها، ولكنه يعتمد قبل ذلك وبعده على غرس الإيمان في القلوب، وزرع الخشية من علام الغيوب، فتترك النفوس الإجرام رغبة ورهبة، يغذي ذلك ويقويه قنوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونداءات الوعظ الرقيق، والتذكير الرفيق، وتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وحفظ السفهاء في أنفسهم وأموالهم.

ومن هنا أيها الإخوة فإن الدين لا يقف متربصًا من أجل أن تزل قدم ليجهز على صاحبها، ولكنه يمنح الفرص تلو الفرص من الستر المحدود ليرشد الضال ويصلح العاصي. إنه يؤثر ستر طالبي الستر، ويدرء الحدود بالشبهات، ويفتح منافذ الأمل لمستقبل يتوبون فيه إلى ربهم، ويستغفرونه والله غفور رحيم.

__________

(1) أخرجه أحمد (3/135،154،210،251)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/288)، وأيضا في شعب الإيمان (4/78-ح4354،4/320-ح5254،5255)، والبغوي في شرح السنة (1/75-ح38)وحسنه، انظر مجمع الزوائد( 1/96).

(2) أخرجه البخاري ( 1/69-ح10)، ومسلم (1/65-ح41).

(3) أخرجه مسلم (1/53-ح23)،وأحمد (3/472).

(4) أخرجه مسلم (4/1986-ح2564)، وأبو داود (4/270-ح4882)،والترميذي (4/287-ح1927)وقال :حديث حسن غريب، وابن ماجه (2/1298-ح3933)، وأحمد (2/277).

(5) المقروحون: الذين أصاب القرح أكبادهم.

(6) رواه ابن ماجه (2/1332،1333-ح4019) وقال البوصيري في الزوائد : هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه، والحاكم (4/540)وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وعلى هذا فالحديث حسن إن شاء الله.

(1/13)

التقوى جماع كل خير

-----------------------

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

أعمال القلوب, خصال الإيمان

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية التقوى وفضلها – معنى التقوى وحقيقتها , وصفات أهلها – حقيقة الصدق في التقوى والمراقبة – المتقون قد يذنبون ولكنهم سرعان ما يتوبون – من أركان التقوى الحفاظ على حقوق الناس – الآيات في التقوى والأمر بها وبيان فضلها وثواب أهلها في الدنيا والآخرة أهمية التواصي بها

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

عباد الله؛ فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فتقوى الله جماع الخيرات، وحصون البركات، أكثر خصال المدح ذكرا في كتاب الله.

ما من خير عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن إلا والتقوى موصلة إليه ووسيلة له ودليل عليه. وما من شر عاجل ولا آجل، ولا ظاهر ولا باطن، إلا والتقوى حرز منه حصين، ودرع منه مكين.

هي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [ النساء:131].

هي دعوة الأنبياء، وشعار الأولياء، فكل نبي يقول لقومه: أَلاَ تَتَّقُونَ [الشعراء:106]. وأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون.

حق علينا أيها الإخوة أن نقف عندها، ونتامل فيها ونتدبر في معانيها لعل الله أن يجعلنا من أهلها.

والتقوى في أصلها أن يجعل العبد بينه وبين ما يخاف ويحذر وقاية. وربنا تبارك وتعالى هو أهل التقوى. هو الأهل وحده أن يخشى ويعظم ويجل ويكرم. التقوى كما يقول علي رضي الله عنه: (الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل).

والتقي من عباد الله ذو ضمير مرهف، وخشية مستمرة، وحذر دائم، يتوقى أشواك الطريق، ويحذر سراديب الحياة، وجِل من تجاذب كلاليب الرغائب والشهوات، ونوازع المطامع والمطامح.

وتبلغ التقوى تمامها- كما يقول أبو الدرداء – رضي الله عنه –: حين يتقي العبد ربه من مثقال الذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً، ليكون حجاباً بينه وبين الحرام. فإن الله بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره [الزلزلة:7-8].

وفي كتاب ربكم أيها الإخوة – نعوت لأهل التقوى، وإشادة بذكرهم، ورفعة من شأنهم، وإطناب في وصفهم، فالمتقون في كتاب الله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4].

والمتقون في كتاب الله : ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيّينَ وَءاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءاتَى الزكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].

والمتقون في كتاب الله: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:134-135].

التقوى تفتح مغاليق القلوب وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

وهداية القرآن لا تكون لغير ذوي النفوس التقية والقلوب الزكية. تتوقى الضلالة، وتتجنب سبل الغواية.

بالتقوى يكون الفرقان بين الحق والباطل، وبها العرفان الذي تنجلي به الأمور، والنور الذي تنشرح به الصدور ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].

القبول في أهل التقوى محصور إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

والقدح المعلى من الكرامة في نواصيهم معقود إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

هم الناجون من السعير: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].

وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].

ولهم الفوز بدار الحبور تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].

وصفهم علي رضي الله عنه فقال : هم أهل الفضل؛ منطقهم صواب، وملبسهم في اقتصاد، ومشيهم في تواضع، غضوا أبصارهم عن الحرام، ووقفوا أسماعهم على ما يستفاد. نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء. عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم. قلوبهم محزونة. شرورهم مأمونة. مطالبهم في هذه الدنيا خفيفة وأنفسهم عما فيها عفيفة.

صبروا أياماً قصيرة فاعقبهم راحة طويلة. يصفون في الليل أقدامهم، يرتلون قرآنهم. جاثون على الركب. يطلبون النجاة من العطب. لا يرضون من الأعمال الصالحة بالقليل، ولا يستكثرون منها الكثير.

من ربهم وجلون، ومن أعمالهم مشفقون. يتجملون في الفاقة، ويصبرون في الشدة، ويشكرون على النعمة، قريب أملهم، قليل زللهم. الخير منهم مأمول، والشر منهم مأمون.

أمة الاسلام: ولا يتجلى الصدق في التقوى حين يتجلى إلا عندما يستوي عند العبد تقاه في سره ونجواه. وقد قال المصطفى لمعاذ: ((اتق الله حيثما كنت))(1)[1]. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

وما المراقبة إلا علم القلب بقرب الرب. ومن كلام الشافعي –رحمه الله -: (أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في الخلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف).

ومن وصايا بعض الواعظين: (أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال؛ في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك).

وعجباً عباد الله: كيف يتقي العبد ذنبه مع خلق الله، ويظهره في خلوته بمولاه؟!.

وقد قيل: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك. فيا سبحان الله: ألم تصف لك المعصية إلا حين خلوت بربك؟ ألم تستح منه حياءك من بعض خلقه؟! ومن أضل ممن أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد!!.

أيها الإخوة في الله: وحين يصيب الإنسان بعض القصور، ويغلبه طغيان شهوة. تعمل التقوى عملها. فسرعان ما يرجع التقي إلى ربه، ويأوي إلى رحمته، ويهرب من شيطانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين. وسماحة دين الله، والرحمة بخلق الله تسلك في عداد المتقين كل المذنبين التائبين، الراجعين إلى ربهم غير المصرين على خطيئاتهم.

إن المقصر حين يتوب لا يكون في مؤخرة القافلة ولا في ذيل القائمة. إنه أهل لبلوغ أعلى المقامات حين تصدق توبته وتصح أوبته: أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136].

أيها الإخوة في الله: بقي ركن في التقوى ركين نشير إليه، إنه الحفاظ على حقوق الناس بجانب حقوق الله، ولقد قال ابن رجب رحمه الله: (وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته، إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها. حتى قال: والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً لا يقوى عليه إلا الكمّل من الأنبياء والأتقياء. وقد قال بعض الحكماء: من عزيز الأشياء: حسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة).

وفي التنزيل من أوصاف المتقين: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

تعمل التقوى في أصحابها فيكظمون الغيظ ولا ينساقون لثورة النفس وغيض الصدر. وكظم الغيظ عند المتقين، لا يكون إحنًا(2)[2] غائرة في القلوب، ولا أحقاداً دفينة في الأعماق، ولكنه كظم يعقبه عفو وسماحة وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه، وشواظ يلفح القلب حين يكتمه، فأما حين تصفح النفس، ويعفو القلب فأولئك هم المتقون المحسنون، والله يحب المحسنين.

فاتقوا الله عباد الله. اتقوه في أنفسكم، واتقوه في أهليكم، واتقوه في الناس أجمعين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي من اتقاه، من اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به وقاه. أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله ومصطفاه، صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.

أما بعد:

أيها المسلمون؛ كم للتقوى من ذكر في كتاب الله، وكم علق عليها من خير، ووعد عليها من ثواب، وارتبط بها من فلاح، وانعقد بها من كرامة.

اقرأوا في المعية الإلهية: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة:194]. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].

وفي ثواب الدنيا و خيراتها المباركة: وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:103]. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ [الأعراف:96]. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]. فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35].

وأما في ثواب الآخرة ونعيم الجنة فلتقرؤوا: لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20]. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:55]. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات:41-43].

جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.

فتزودوا من التقوى رحمكم الله. فهي خير زاد، وتواصوا بها فهي خير وصية. جاء يزيد بن سلمة إلى النبي فقال : يا رسول الله اني قد سمعت منك حديثا كثيراً أخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعاً قال: ((اتق الله فيما تعلم))(3)[1].

ولا زال السلف يتواصون بها، فقد كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل : أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين.

وكتب آخر إلى صاحبه: (أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأحسن ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك، وأوجب لنا ولك ثوابها).

__________

(1) أخرجه احمد (5/153)، والدارمي (2/231-ح2794)، والترمذي (4/312،313-ح1987)وقال : حديث حسن صحيح، والحاكم (1/54)وصححه ووافقه الذهبي.

(2) الإحن : الأحقاد والضغائن.

(3) أخرجه الترمذي (5/48-ح2683) وفي سنده انقطاع، قال الترمذي: هذا ليس إسناده بمتصل وهو عندي مرسل ولم يدرك عندي ابن أشوع يزيد بن سلمة، وابن أشوع اسمه سعيد بن أشوع.

(1/14)

المرأة بين جاهليتين

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 – تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة النساء 2 – تكريم الإسلام للمرأة ومساواتها للرجال في بعض الأمور 3 – انسياق بعض النساء وراء المرأة الغربية 4 – التحذير من التبرج والخلوة 5 – فتن يجر بعضها بعضاً

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، وقوموا بما كلفكم الله تعالى به من رعاية أهليكم، وأحسنوا رعاية من استرعاكم الله إياهم، ويكون ذلك بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.

عباد الله!

لقد درس أعداء الإسلام أحوال المسلمين، وتعرفوا على أماكن القوة ومواطن الضعف في شخصية المسلمين، ثم اجتهدوا في توهين نواحي القوة وتحطيمها بكل ما أوتوا من مكر ودهاء وخبث؛ فعلموا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وعلموا أنها سلاح ذو حدين، وأنها قابلة لأن تكون أخطر أسلحة الفتنة والتدمير، ومن هنا كان لها النصيب الأكبر من حجم المؤامرات الكثيرة التي ترى بوادرها في مجتمعات المسلمين يوماً بعد آخر.

عباد الله!

ولقد حذر النبي من فتنة النساء:

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ؛ قال: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))(1).

وعن أسامة بن زيد وسعيد بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي ؛ أنه قال: ((ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر عل الرجال من النساء))(2).

وقد كان للمرأة المسلمة دور رائع في بناء الصرح الإسلامي.

وقد انتفعت الأمة بهذا الحد النافع من سلاح المرأة في قرونها الأخيرة، ثم لم تلبث الحال أن تدهورت شيئاً فشيئاً، وجرحت الأمة بالحد المهلك من سلاح المرأة.

عباد الله!

إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة الهينة، وليست بالمشكلة الجديدة؛ لأن الفاسقة منهن شرك الشياطين وحبائل الشر، يصطاد بهن كل خفيف الدين مسلوب المروءة.

ولذلك قال النبي : ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان))(3).

فاتقوا الله عباد الله! واحذروا هذه الفتنة التي حذر منها النبي واقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم، وسدوا أبواب الفساد قبل أن تنهار عليكم.

إن الإسلام قد كرم المرأة أما وزوجة وبنتاً، و أعطاها حقوقها كاملة، مما لم تظفر به امرأة فى غير الإسلام، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء.

وإذا نظرنا إلى حال المرأة قبل الإسلام؛ علمنا تكريم الإسلام للمرأة؛ فالمرأة قبل الإسلام كانت محتقرة مهانة، حتى سموها رجساً من عمل الشيطان، وكانت عندهم كسقط المتاع، تباع وتشترى في الأسواق؛ مسلوبة الحقوق، محرومة من حق الميراث وحق التصرف في المال إلى غير ذلك من الذل والمهانة.

لما أشرق نور الاسلام، رفع عن المرأة ما أحيطت به من الآصار والأغلال، بل رفع مكانها وأعلى منزلتها فجعلها قسيمة الرجل، لها ما لها من الحقوق وعليها من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها وعلى الرجل بما اختص به من الرجولة والقوة والجلد وبسطة اليد أن يلي رياستها:

قال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. وتلك هي الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس وجحود الحق.

وقال : ((إنما النساء شقائق الرجال))(4).

ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في جزاء الآخرة:

قال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97].

ولقد أتت أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها النبي ، فقالت: إنى يا رسول الله رسول من ورائي من النساء، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء؛ فآمنا بك، واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدورات قواعد في البيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد؛ حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم؛ أنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه، وقال: ((هل رأيتم امرأة أعظم سؤالاً منها))، فقال رسول الله لها: ((انصرفي يا أسماء! وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته؛ يعدل كل ما ذكرت للرجال)) فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشاراً بما قاله النبي .

عباد الله!

هذا نموذج من تكريم الإسلام للمرأة، والنماذج كثيرة.

ولكن؛ لنتساءل عباد الله عن واقع المرأة المسلمة اليوم هل هي متمسكة بدين الإسلام أم أنها صريعة الجاهلية؟!

والحق يقال – وليس على سبيل التعميم: - إن بعض النساء قد رفضت تكريم الإسلام لها، وأصبحت صريعة لجاهلية هذا القرن؛ فاندفعت اندفاعاً محموماً وراء كل سراب، وعاشت واقعاً مريراً.

والمؤلم في هذا الواقع المرير أن المرأة قد رضيت أن تؤلف نقطة الضعف؛ فهى ملقية برضى منها إلى التيار، يقذف بها حيث اتجه وسار دون أن تفكر في المقاومة، وساعد في إمداد التيار الهشيم تخلي بعض الرجال عن مراقبتهم على النساء، وترك الحبل على الغارب لهن، والمقروء والمسموع.

ولم تفكر من انساقت من النساء خلف تلك التيارات في حال المرأة الغربية، و ما تعيش من شقاء وتعاسة؛ حيث كانت المرأة في الغرب فريسة للذئاب من البشر؛ عبثوا بكرامتها، وتاجروا بها، وأصبحت صورة المرأة شيئاً قد ألفوه لرواج الكاسد من البضائع والمجلات.

ولكن بعض نساء المسلمين أعجبن بحال نساء الغرب، فحدث ما لا تحمد عقباه؛ حدث في مجتمعات المسلمين وفي نساء المسلمين تبرج النساء، وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، فظهر بين نساء المسلمين من تكشف وجهها أمام الرجال؛ ليروا مفاتنها، فتستيقظ الفتنة النائمة، ووجد من تجعل خمارها قصيراً لا يستر نحرها، ووجد من تضع مادة النشاء في خمارها عند غسله ليبدو واقفاً مكشوفاً شعر رأسها وشفافاً خمارها، ووجد في نساء المسلمين من جعلت ثيابها تلفت النظر إليها؛ لكثرة زخرفتها، أو لضيقها، أو لشفافيتها، حتى وجد من بين النساء من تجعل الثوب ضيقاً، وأكمامه شفافة جداً، ونحرها مكشوفاً، ووجد بين نساء المسلمين من تجعل الثوب قصيراً لا يستر قدميها أو تجعل فتحات على ساقيها، وكل ذلك جرياً وراء أحدث ما ظهر من لباس الكافرات، الذي تحمله إلينا المجلات الوافدة المسماة بمجلات الأزياء!! أو ما يصممه الخياطون الذين غالبهم من غير المسلمين، ويتربصون بنساء المسلمين الدوائر.

ألا فلتعلم المرأة المسلمة أن هذه الأعمال لا تجوز، وأنها تجر إلى الهاوية.

وقد أخبر بمصير من تعمل ذلك من النساء:

فعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر؛ يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا))(5).

قال بعض العلماء: معنى (كاسيات عاريات): التي تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهاراً لجمالها، وقيل: معناه تلبس ثوباً رقيقا يصف لون بدنها.

وهان على كثير من نساء المسلمين الخروج إلى الأسواق دونما ضرورة، والخلوة بالرجال الأجانب في المحلات والسيارات.

وشجع على هذا بعض الآباء بفعله وبذل ماله من أجله؛ فاستقدم سائقاً شاباً يافعاً أجنبياً، وقد يكون كافراً، وجعله تحت إمرة النساء الصغار والكبار، يذهب بهن حيث شئن؛ دون حسيب ولا رقيب؛ فإن نظرت إلى أبواب المدارس؛ وجدت السائقين وحدهم ينتظرون بنات في ريعان الشباب، وليس معهم أحد، وإن نظرت إلى الأسواق؛ وجدت السائقين ينتظرون من وضعوا فيها من النساء ليحملوهم، والمرأة تتقلب من تبرج إلى خلوة، وحدث ولا حرج من سقوط الآداب.

عباد الله!

وهناك أمر يغفل عنه بعض الناس، وهو أن بعض المزارعين يستقدمون عمالاً، ثم يتركونهم يعملون في مزارعهم، وفي حين قطف الثمار يومياً يضمون معهم أهليهم لمساعدتهم، فيكون العامل في وسط النساء بحجة جمع المحصول، وقد يذهب الرجل ليبيع ما جمعوا، ثم يبقون في مكان واحد لإكمال العمل، وهذه خلوة الشيطان يحضر فيها ويسول، وقد يحدث مالا تحمد عقباه، ثم يندم من فعل ذلك، ولات ساعة مندم، ثم يقول بعد فوات الأوان: لا بارك الله بعد العرض بالمال.

عباد الله!

لقد أصبحت المرأة في هذا الزمن كالكرة، تتناولها أيدي اللاعبين، وتتهاوى في كل اتجاه.

لقد بات وضع المرأة المسلمة في مهب الأعاصير، فليس من الحكمة أن يترك زمامه للأمواج تقذف به حيث يشاء أولو الأهواء، ولا ريب أن الواجب يضع على كل عاتق نصيبه من المسؤولية، لا يستثنى من ذلك صغير ولا كبير كل على حسب استطاعته.

عباد الله!

إنى أخاطب أولياء الأمور، وأقول لهم: تذكروا قول الله تعالى: الرجال قوامون على النساء [النساء:34]. وتذكروا أنهن رعيتكم، وستسألون عنهن يوم القيامة، وتذكروا قول الرسول : ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان))(6)، وقولوا: سمعنا وأطعنا. وتذكروا أن التوبة تجب ما قبلها، وأنه إن استمرت الحال على ما نرى، فسنحصد النتيجة مرة، وعندها لا ينفع الندم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى في أنفسكم وفيمن تحت أيديكم من الذكور والإناث، وقوموا عليهم بما أمركم الله به، واعلموا أن السفور مطية للفجور، وأن المعاصي كلها سبب كل شر وبلاء، وهي تجر أمثالها.

عن النواس بن سمعان، عن رسول الله ، قال: ((ضرب الله مثلا صراطاً مستقيماً، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعند رأس الصراط داع يقول: استقيموا على الصراط ولا تعوجوا، و فوق ذلك داع يدعو، كلما هم عبد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب؛ قال: ويحك! لا تفتحته؛ فإنك إن تفتحه..)) ثم فسره فأخبر: ((أن الصراط هو الإسلام، وأن الأبواب المفتحة محارم الله، وأن الستور المرخاة حدود الله، والداعي على رأس الصراط هو القرآن، وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كل مؤمن))(1).

عباد الله!

ومعلوم أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها؛ فكلما فرط من العبد معصية؛ قالت أخرى إلى جانبها: اعملني معها … وهكذا؛ حتى تصير المعاصي صفات لازمة؛ بحيث لو عطل المسيء سيئاته؛ لضاقت عليه نفسه، وأحس كأنه السمك إذا فارق الماء حتى يعاودها فتسكن نفسه.

قال بعض العلماء: من أعطى أسباب الفتنة نفسه أولاً؛ لم ينج آخراً.

عباد الله!

إننا في زمن قد ادلهمّ ليله، وأظلم نهاره، وفقد بعض الناس شخصيته المميزة؛ فبات بعض الناس كل ما يستطيعونه هو تقليد الغرب مزرعة الرذائل، وأقبلوا يعدون وراءه دون وعي، وتلقوا كل أخطائه الاجتماعية بالقبول والتطبيق، واستحسنوها بعد أن طبقوها، ثم عملوا على نشرها في بلاد المسلمين، فاغرقوا دنيا المرأة بكل ما لاكه الغرب؛ بدءً بفتح محلات الخياطة غير المحتشمة، ومروراً بمحلات التجميل للنساء، وانتهاء بالمجلات التي تعنى بالمرأة، حتى نقضوا عرى الأخلاق عند بعض النساء، ونزعوا الحياء.

ثم بعد ذلك بدأ الزحف لنقض عرى الأخلاق عند الشباب، وتمييع أخلاقهم، ونزع الحياء، فنقلوا ما في بلاد الغرب من انحلال إلى بلاد المسلمين، وفاخروا بذلك؛ لزعمهم أنهم حازوا قصب السبق، فبدأت الشرارة الأولى في هذه الأيام بانتشار محلات التجميل للشباب، ولا تستغربوا هذا؛ فليس ضرباً من الخيال أو المبالغة، فلقد وصل إلي ما يثبت ذلك؛ فقد وصل إلي إعلان عن فتح محل حلاقة للرجال في هذا البلد ما يقوم به ذلك المحل: فرد الشعر، تنظيف وإزالة الحبوب من الوجه، جميع قصات الشعر، وجميع المتطلبات.

عباد الله!

إن الكفار لا يألون جهداً في إفساد أخلاق المسلمين؛ فالدولة وفقها الله فتحت المدارس لتعليم الشباب وتربيتهم تربية إسلامية، ولكن بعض الناس أبوا أن ينحوا هذه التربية التي يتلقاها الشباب في المدرسة أو البيت.

عباد الله!

والله؛ لو أن هذا للنساء؛ لقلنا كثير فكيف بحق الرجال الذين يطلب منهم الشهامة والرجولة؟!

إن تلك المجالات وأمثالها داعية إلى فساد الأخلاق عند الشباب، إني من هنا أدعو صاحب ذلك المحل أن يتقي الله، ويغلق أسباب الفساد، وينتبه لما يدبره الكفار، وكما أني أدعو الشباب إلى نبذ هذه السخافات وهجرها والتحذير منها، أدعو من يهمه الأمر أن يستدرك قبل فوات الأوان.

عباد الله!

إن الناظر في واقع المجتمع المسلم اليوم يرى أنه تكالبت عليه الأعداء بغية إفساده، ويعجب من وقوف المسلمين حائرين أمام تلك الأسلحة؛ ينتظرون أن تفتك بهم.

فيا من جعلتم لمجتمعنا وسائل الفساد للأخلاق! اتقوا الله فينا، اتقوا الله في شبابنا، اتقوا الله في نسائنا، واخشوا أن يحل بنا العقوبة!!

ألم نتعظ بما وقع من الزلازل والخسف والفيضانات والرياح العاتية؟!

أننتظر حجارة من السماء؟!

وأنتم يا أولياء أمور النساء والشباب مسؤولون بالدرجة الأولى عما ضيعتم من فتيات في ريعان الشباب في الأسواق يحادثن الفساق، ويركبن مع السائقين وحدهن، ويقفن على الخياطين، وشباب يتكسرون ويعيشون الضياع.

(1) رواه الامام احمد في " المسند" (4142، 4437) ، والحاكم (2/368)، من حديث النواس بن سمعان.

(2) 2 رواه البخارى.

(3) 3 رواه مسلم.

(4) 4 أحمد وابو داود والترمذي.

(5) 5 رواه مسلم

(6) 6 الحديث أخرجه الترمذي في (الرضاع) وفى (الفتن 7/2165) من حديث عمر وهو جزء من حديث طويل: ((لا يخلو رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)) وقال الترمذى :"هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"

وراه احمد في "المسند" (رقم 114-177)والحاكم في الايمان من طرق صحيحة فالحديث صحيح.

(1/15)

الوصية

-----------------------

فقه

الفرائض والوصايا

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 – الأمر بكتابة الوصية 2 – حكم كتابة الوصية 3 – حكم الإضرار بالوصية 4 – بعض أحكام الوصية

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فإن الله قد بعث محمد هادياً ، ومبشراً، ونذيراً، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيراً فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين.

وكان مما قال : ((إذا مات الإنسان، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))(1).

عباد الله!

ومن الصدقة الجارية التي تنفع الإنسان بعد وفاته الوصية، وهي التبرع بالمال بعد الموت، ولتصرف بالحق:

قال تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية [البقرة:180].

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت [المائدة:106].

وقال : ((ما حق امريء مسلم له شيء يوصي به أن يبيت ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده)) (2).

فدل هذا الحديث على المبادرة بالوصية وكتابتها.

وذكر ابن قدامة رحمه الله إجماع أهل الأمصار في جميع الأعصار على مشروعية الوصية

عباد الله!

وتتأكد المبادرة بالوصية إذا كان المسلم في حالة خطر، كاستقبال سفر، أو اشتداد مرض، وركوب بحر، ومثله الجو، والمراكب الخطرة، ودخول المعركة.

عباد الله!

ومن الوصية ما تجب كتابته، ومنها ما تستحب:

فأما ما تجب كتابته، فيجب على الإنسان أن يوصي بوفاء ما عليه من حقوق، سواء كانت تلك الحقوق للعباد، كالديون التي ليس عليها إثبات ولا يعلمها إلا هو، وكذلك ما عنده من الودائع والأمانات، أو كانت الحقوق لله، كالكفارات، والحج الفرض، والزكاة التي لم يخرجها، فيوثق ذلك بكتابة، حتى لا يضيع حق غيره، ولا يدخل على الورثة ما ليس لهم، ومثله إذا كان له حق على أحد، ولم يستوفه، ولم يسامحه به في حال صحته، فيجب أن يوثقه، حتى لا يضيعه على ورثته، وحتى لا يتسبب لمن هو في ذمته بأكل ما ليس له، فلربما ينسى، ولربما يضيع اسم الغريم فلا يعرف من وراء الميت، وهذا ما يحدث كثيراً.

وأما حالة استحبابها، فيستحب أن يوصي المسلم من ماله لنفسه إذا كان له مال، ليجري ثوابه بعد موته، لحديث: ((إذا مات ابن آدم، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))(3).

وأما إن كان ماله قليل وورثته فقراء، فيكره له أن يوصي بشيء من ماله، لحديث سعد بن أبي وقاص: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس))(4)، ولأنه عدول عن الأقارب المحتاجين إلى الأباعد، وذلك خلاف الأفضل.

وأما الوصية لأحد الورثة، فمحرمة، لحديث: ((إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) (5)، وإن أجازه الورثة، نفذت.

عباد الله!

إن بعض الناس يخص بعض ورثته بشيء من ماله، كاستئجار عقار، أو منحة، أو منح مال أو غيره، ومن فعل ذلك، فقد عصى الله ورسوله، وتعدى حدود الله، وظلم نفسه، وظلم ورثته، حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض.

ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته دون بعض، فقد أوصى لوارث، حيث خص بعض ورثته باستقلال بما أوقفه عليهم دون الآخرين، وإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته باستقلال بالتصرف في العقار أو بسكن الدار شهراً فكيف يجوز له أو يوصي بوقف ثلثه على أولاده أو ذريته دون غيرهم من بقية الورثة؟ فإن هذه وصية جائرة، يجب إبطالها والرجوع عنها، وإن كان قد كتبها وأشهد عليها!!

كيف يرضى الإنسان أن يوصي بعد موته ومغادرته الدنيا بمعصية الله ورسوله؟!

ماذا تكون إجابته إذا سئل عن ماله: من أين جمعه، وفيم أنفقه؟!

وتحرم الوصية أيضا إذا وقعت منها المضارة، لقوله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله [النساء:12]. أي: غير مدخل للضر على ورثته، ولحديث: ((إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران بالوصية، فتجب لهما النار))، ثم قرأ أبو هريرة: من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله ))(6).

عباد الله:

ويستحب تعجيل الوصية قبل أمارات الموت، لحديث أبي منحة، قال: قال رجل: يا رسول الله ‍أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تصدق و أنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا))(7)

وأما مقدار ما يوصى به، فالثلث، فلا حق له في الوصية بأكثر من الثلث، إلا إذا أجازها الورثة.

والأولى أن تكون أقل من الثلث، كالربع مثلاً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله قال: ((الثلث والثلث كثير))(8).

اصدقوا العزيمة، وتغلبوا على أنفسكم بتصحيح وصاياكم وتطبيقها على الشرع ولا تتصرفوا فيها تصرفاً يكون وبالاً عليكم وأنتم في سعة من ذلك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أحمده وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون:

الوصية لا تنفذ إلا بعد موت الموصي، ولهذا قال العلماء: تبطل الوصية برجوع الموصي فيها قبل الموت، لقول عمر رضي الله عنه: (يغير الرجل ما شاء في وصيته)(9) فللموصي أن يغير في وصيته ويبدلها بما شاء حال حياته، وله تغيير الوصية، حكى ابن المنذر الإجماع على بطلانها بذلك.

عباد الله:‍

وتثبت الوصية إذا وجدت بخط الموصي الثابت ببينة، أو إقرار الورثة، أو تثبت الوصية بالبينة.

ويستحب الإشهاد على الوصية، سواء كتبها بنفسه، أو كتبها غيره حسب إملائه.

ويستحب أن يعين الموصي شخصاً يتولى جميع تركته، وإخراج الواجب عليه، وتنفيذ وصاياه.

وينبغى أن يكون من يعين مسلماً بالغاً عاقلاً عدلاً رشيداً، سواء كان من أولاد الموصي أو أقاربه، أو كان بعيداً عنه.

ويستحب قبول الوصية لمن قوي عليها ووثق من نفسه القيام بها، لأن قبولها فيه نفع للموصي وإحسان إليه.

وإذا عين المسلم من هذه صفاته، أمن من تعطيل الوصية، فإن هناك بعض الوصايا معطلة، لا ينتفع بها صاحبها الموصي ولا المحتاجين بسبب سوء تصرف الوصي أو عدم مبالاته.

عباد الله:‍

ويبدأ الوصي بإخراج الواجب من تركة الميت، أوصى به الميت أو لم يوص، كفريضة حج، أو كفارة اليمين أو الظهار، أو الزكاة إذا وجبت فتوفى بإخراجها، أو نذر أوجبه على نفسه، أو دين لإنسان.

وبالمناسبة، فإني أود أن أنبه على مسألة في أمر الدين، وهي أن بعض الناس يتوفى وعليه دين لصندوق التنمية العقاري، فيستشكل الورثة: هل يسدد في الحال أو كل قسط في حينه؟

وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله هذا السؤال: يقول السائل: والدي عليه دين للبنك العقاري، وقد توفي رحمه الله، فهل يجب علينا تسديد المبلغ كاملاً؟ أم على حسب الأقساط التي أقرها البنك، وتبرأ ذمته بذلك؟

فأجاب حفظه الله بقوله: (لا يلزم تعجيل قضائها إذا التزم الورثة أو غيرهم بتسديدها في أوقاتها على وجه لا خطر فيه على صاحب الحق، لأن الأجل من حقوق الميت يرثه ورثته، وليس على الميت حرج في ذلك إن شاء الله، لأن الدين المؤجل لا يجب قضاؤه إلا في وقته، والورثة يقومون مقام الميت إذا التزموا بذلك أو التزم به غيرهم).

وينبغي أن تشمل كتابة الوصية على بيان حالة الموصي وقت الوصية، من حيث الصحة والعافية في بدنه، وبيان معتقده، وبيان ماله وما عليه وتعيين الوصي.

وقد بين أنس بن مالك ما كان يكتبه السلف في وصاياهم، حيث قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب: إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .

وينبغي للمسلم أن يتحرى أفضل الأعمال لوصيته من أعمال البر، كمياه الشرب، وبناء المساجد وخدمتها وقضاء ديون الفقراء، والصدقة عليهم وعلى طلاب العلم الشرعي، وتعليم القرآن، وطبع الكتب الشرعية، وغيرها.

(9) الحديث رواه الدرامى في ( كتاب الوصايا) .

(2) رواه البخارى ( 5 / 264 ، في الوصايا في فاتحته ) ، ومسلم ( رقم 1627 ، في الوصية في فاتحته ) ، " الموطأ " ( 2 / 761 في الوصية ، باب الأمر بالوصية ) ، وأبو داود ( رقم 3862 في الوصايا ، باب ما جاء فيما يأمر به من الوصية ) ، والترمذى ( رقم 974 في الجنائز ، باب ما جاء في الحث على الوصية ) ، والنسائى ( 6 / 238 – 239 ، في الوصايا ، باب الكراهية في الأخير في الوصية ) .

(3) الحديث سبق تخريجه في ( ص 233 ) .

(4) رواه البخارى في ( الجنائز، باب 37 ) من حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه ، وكذا رواه أيضاً في ( الوصايا ، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس ) ، ورواه أيضاً في ( كتاب مناقض الأنصار ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : " اللهم إمض لأصحابى هجرتهم ومرثيتة لمن مات بمكة " ) من حديث عامر بن سعد بن مالك عن أبيه ، وأخرجه في ( كتاب النفقات ، باب فضل النفقة على الأهل ) ، وكذا أخرجه مسلم في ( الوصية ) ، وأبو داود في ( الوصايا ) ، والترمذى ( الوصايا ) ، والنسائى في ( القبلة ) و( الوصايا ) ، وإبن ماجة في ( الوصايا ) ، والإمام مالك في " الموطأ " .

(5) أخرجه أبو داود في ( الوصايا ) ، والترمذى في ( الوصايا ) ، والنسائى في ( الوصايا ) ، وإبن ماجة في ( الوصايا ) .

(6) رواه أبو داود في ( الوصايا ، باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية ) ، والترمذى في (الوصايا)، وقال الترمذى: "هذا حديث حسن غريب " .

قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله : " في إسناده شهر بن حوشيب ، وهو ضعيف ، ولكن له شاهد من حديث بن عباس: "الإضرار في الوصية من الكبائر " ، رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسناد صحيح ، والنسائى مرفوعاً ورجاله ثقات " .

(7) رواه البخارى في ( كتاب الزكاة ) و ( كتاب الوصايا ) و كتاب الفقات ) وكذا رواه مسلم في ( كتاب الزكاة ) وابو دواد ، والترمذى في ( كتاب الزكاة) والنسائى في ( الزكاة) و ( الوصايا) .

(1/16)

في بر الوالدين

-----------------------

الأسرة والمجتمع

الوالدان

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

عِظَم فضل الوالدين وحقهما بعد الله عز وجل , والآيات في ذلك – مكانة الأم ومعاناتها من أجل الابن – مكانة الأب ومعاناته من أجل الابن – من حقوق الوالدين : المحبة , والتقدير , والطاعة والتوقير , والتأدب معهما – عقوبة العقوق والجحود – أثر البر وفضله , وعاقبة العقوق

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها، وليس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلا بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين.

حيث قرن الله حقهما بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36].

لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث: لا تقبل واحدة بغير قرينتها: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [المائدة:92]. فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه. وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَاتُواْ الزكاةَ [النور:56]. فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه. وأن اشكر لي ولوالديك فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.

فرضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله من سخط الوالدين.

أيها المؤمنون: إحسان الوالدين عظيم، وفضلهما سابق، تأملوا حال الصغر، وتذكروا ضعف الطفولة: رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]. حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر، وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً.

وعند الوضع رأت الموت بعينها. ولكن لما بصرت بك إلى جانبها سرعان ما نسيت آلامها، وعلقت فيك جميع آمالها. رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها .طعامك درها. وبيتك حجرها. ومركبك يداها وصدرها وظهرها.

تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة. إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها. تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحظتك بعينها.

أما أبوك فأنت له مجبنة مبخلة، يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار. يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثاً عن لقمة العيش، ينفق عليك ويصلحك ويربيك. إذا دخلت عليه هش وإذا أقبلت إليه بش، وإذا خرج تعلقت به، وإذا دخلت عليه هش، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره، هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!.

أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر. قال: ((فهل من والديك أحد حي))؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: ((فتبتغي الأجر من الله؟)). قال: نعم. قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) (1)[1].

وفي حديث سنده جيد عند الطبراني: أن رجلا جاء إلى النبي يستشيره في الجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألك والدان؟)) قال: نعم؟ قال: ((الزمهما فإن الجنة تحت أقدامهما))(2)[2].

أيها الإخوة في الله: إن حق الوالدين عظيم، ومعروفهما لا يجازى، وان من حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، وتحقيق رغبتهما في المعروف، وتنفق عليهما ما استطعت : ((أنت ومالك لأبيك)).

ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى. لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت. جنبهما كل ما يورث الضجر: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]. تخير الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة والقول الكريم.

تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفاً وطاعة وحسن أدب، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمل حفظك الله قول ربك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23]. إن كلمة (عندك) تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23]. قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يثيب الكثير على القليل.

نعم إن حقهما عظيم ولكن الجأ إلى الدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير، وأملاً فيما عند الله رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24].

أيها الإخوة في الله: إن العار والشنار والويل والثبور أن يفجأ الوالدان بالتنكر للجميل، كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأعجب بشبابه وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول ،يقهرهما وينهرهما، بل ربما لطم بكف أو رفس برجل يريدان حياته، ويتمنى موتهما، وكأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين. تئن لهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.

يا أيها المخذول: هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قد عممت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان. شق عليك أمرهما، وطول عمرهما. أما علمت أن من بر بوالديه بر به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل. يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))(3)[3].

وإن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين، بهذا صح الخبر عن الصادق المصدوق .

وفي حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء))(4)[4].

وفي حديث آخر عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المسلمين إياكم وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجد ريحها عاق))(5)[5]، واعلموا أن بر الوالدين فريضة لازمة، وأمر محتم، وهو سعة في الرزق، وطول في العمر، وحسن في الخاتمة. عن علي رضي الله عنه عن النبي قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)). والوالدين أقرب الناس إليك رحماً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً [ الإسراء:23-25].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن من البر أن يتعهد الرجل أصدقاء والديه، ويحسن كرامتهم، ويفي بحقهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه))(6)[1].

وجاء رجل إلى رسول الله وقال: هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال : ((نعم الصلاة عليهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما من بعدهما))(7)[2].

فاستيقنوا هذا رحمكم الله، فالبر بجميع وجوهه: زيادة في العمر، وكثرة في الرزق، وصلاح في الأبناء، فمن بر والديه بره أبناؤه. والعقوق خيبة وخسارة وخذلان. وقد قيل: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً ليعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيده براً وخيراً.

__________

(1) أخرجه مسلم (4/1975-ح2549).

(2) أخرجه الطبراني في الكبير (2/289-ح2202)، وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات انظر مجمع الزوائد (8/138).

(3) أخرجه احمد (5/38)، وأبو داود (4/276-ح4902)، وابن ماجه (2/1408-ح4211)، واليبهقي في السنن الكبرى (10/234)، والترمذي (4/573-ح2511)، وقال : حديث حسن صحيح ، والحاكم (4/356) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(4) أخرجه النسائي (5/80-ح2562)، وأحمد (2/134) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (2/859،860-ح575،575)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/192-ح7877)، والحاكم في موضعين (1/72) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، (4/146،147)وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي : رواه البزار بإسنادين ورجالهما ثقات انظر مجمع الزوائد (8/14،148).

(5) أخرجه أحمد (1/143)، والحاكم (4/160)وسكت عنه وتابعه والذهبي . وقال الهيثمي : رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن حمزة وهو ثقة . انظر مجمع الزوائد (8/152).

(6) أخرجه مسلم (4/1979-ح2552)، وأبو داود (4/337-ح5143).

(7) أخرجه أبو داود (4/336-ح5142)، وابن ماجه (2/1208،1209-ح3664)، وأحمد (3/497،498)، وابن حبان انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/162-ح418)، والطبراني في المعجم الكبير (19/267،268-ح592)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/28)، والبخاري في الأدب المفرد ( ص22-ح35).

(1/17)

صلوا أرحامكم 1

-----------------------

الأسرة والمجتمع

الأرحام

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

اقتران الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين – من هم الأرحام ؟- فضل صلة الرحم وأثرها بين الناس – صورة الصلة وكيفيتها – تقطيع الأرحام من الكبائر وعقوبته معجلة – ليس من صلة الرحم التعاون على الظلم والباطل

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون: اتقوه وأخلصوا له العبادة، اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.

يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء [النساء:1].

خلقكم من نفس واحدة، فالرب واحد، والأصل واحد. أسرة واحدة انبث منها الرجال والنساء ليلتقوا في وشيجة واحدة، ويتصلوا برحم واحدة. من هذا المنطلق تقوم تكاليف التكافل والتراحم.

فأسرة الإنسان وقرابته يا عباد الله هم عدته وسنده، وهم أصله وقوته.

يقول علي رضي الله عنه: (أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، ويسر على معسرهم،ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).

أيها الإخوة في الله: ما أمر الله بتوحيده، وما نهى عن الإشراك به إلا وقرن ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين.

اقرءوا إن شئتم: وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23].

ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء:26].

أيها المؤمنون: إن صلة الأرحام حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة. وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: ((أمك وأباك ثم أدناك أدناك)).

وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودة، واتساع الصدور، وسلامة القلوب.

إن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها، أن جعل المودة والرحمة بينهما وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].

إن أساس التواصل والرباط الموثق هو التواد والتراحم، وإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال، واستشرى الفساد، وحقت لعنة الله عياذاً بالله: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].

إن صلة الرحم بركة في الأرزاق، وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالا وهيبة.

أخرج الإمام أحمد وابن ماجه – ورواة أحمد ثقات - عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((.. وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان الأعمار))(1)[1].

وروى البزار بإسناد جيد والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: (من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)(2)[2].

وفي صحيح البخاري مرفوعاً: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه))(3)[3].

وفي الخبر: ((صلة الرحم محبة في الأهل، ومثراة في المال، ومنسأة في الأثر))(4)[4] أي زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.

بصلة الأرحام تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتتوثق عرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحن ذو الرحم إلى أهله.

ولتعلموا رحمكم الله أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتى: فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة.. إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه. إنها زيارات وصلات، وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا. ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات. عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح.

وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطأوا، والإحسان إليهم ولو أساءوا.

إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بينت في قول نبيكم محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها))(5)[5].

وجاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي. فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل (أي تطعمهم الرماد الحار في أفواههم) ولا يزال معك من الله ظهير مادمت على ذلك))(6)[6].

ومع كل ذلك أيها المؤمنون ومع هذه الآيات والأحاديث فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب.

إن العار والشنار، فيمن منحه الله جاهاً وأحسن له رزقاً، ثم يتنكر لأقاربه أو يتعالى عليهم. بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلا عن أن يشملهم بمعروفه ويمد لهم يد إحسانه.

وإن قطيعة الرحم شؤم وخراب، وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة.

أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))(7)[7].

وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد – ورواة أحمد ثقات – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم))(8)[8].

ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان جالساً بعد الصبح في حلقة فقال: (أنشد الله قاطع الرحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبوب السماء مرتجة – أي مغلقة – دون قاطع الرحم)(9)[9].

أيها الإخوة: إن أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض من قل نصيبهم من الخير يسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سبب؛ إما لكلمة سمعها، أو شيئاً صغيراً رآه، وما درى أنه بهذا قد يجر إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ [الرعد:25].

ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: (لا تصاحب قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع).

فاتقوا الله وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض. قدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يدم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء وأصحابه النجباء والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن حق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة. وكما قيل: لا تقطع القريب وإن أساء فإن المرء لا يأكل لحمه لو جاع.

أيها المؤمنون: لئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج، ورفع الظلم عن المظلوم، والمساعدة على وصول الحق. فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحمية الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطع بها الأرحام.

ولن يكون البغي والعدوان طريقاً إلى الحق، أو سبيلا إلى العدل والخير. فاعرفوا الحق وميزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم. أطعموا الطعام وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.

__________

(1) أخرجه احمد (6/159)، وقال الحافظ ابن حجر: سند رجاله ثقات. انظر الفتح (10/429).

(2) أخرجه احمد (1/143)، والحاكم (4/160) وسكت عنه وتابعه الذهبي. وقال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح غير عاصم بن حمزة وهو ثقة. انظر مجمع الزوائد (8/152).

(3) أخرجه البخاري (10/429-ح5986)، ومسلم (4/1982-ح2557) بلفظ: ((وينسأ له في أثره)).

(4) أخرجه أحمد (2/374)، والترمذي (4/309) وقال: حديث غريب وأشار الحافظ ابن حجر إلى تحسين الترمذي له. انظر الفتح (10/429)، والطبراني في الكبير (18/98-ح176)، وعزاه الهيثمي إليه وقال: رجاله موثقون. انظر المجمع (1/193،8/153)، والحاكم (4/161) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(5) أخرجه البخاري (10/437-ح5991).

(6) أخرجه مسلم (4/1982-ح2558).

(7) أخرجه احمد (5/38)، وأبو داود (4/276-ح4902)، وابن ماجه (2/1408-ح4211)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/234)، والترمذي (4/573-ح2511) وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم (4/356)وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(8) أخرجه أحمد (2/484)وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. انظر مجمع الزوائد (8/151)، والبخاري في الأدب المفرد (ص32،33-ح61).

(9) 4 رواه الطبراني ورجاله الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود. انظر مجمع الزوائد (8/151).

(1/18)

الوفاء بالعهد

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

مكارم الأخلاق

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 – النصوص الشرعية تأمر بالوفاء 2 – أنواع العهود بإعتبار المعاهدة: أ / عهد الله وصور منه ، ب/ عهد العباد وصور منه 3 – حقوق المسلم على المسلم 4 – حسن الوفاء

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، وراقبوه، وأطيعوا أمره، ولا تعصوه.

عباد الله!

قال تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً [الإسراء:34]. فقد أمر الله تعالى في هذه الآية بالوفاء بالعهد.

والوفاء بالعهد أدب رباني حميد، وخلق نبوي كريم، وسلوك إسلامي نبيل، جعله الله صفة لأنبيائه:

فقال تعالى في إبراهيم: وإبراهيم الذي وفى [النجم:37]. وفى حين ابتلاه ربه بكلمات وأوامر ونواه؛ فأتمهن، وقام بهن، وفى حين قدم ولده إسماعيل قرباناً تنفيذاً لأمر الله، وفى حين صبر على النار ابتغاء مرضاة الله.

وقال تعالى في إسماعيل: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً [مريم:54]. فوعد أباه بالصبر حين قال له: يا بنى إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [الصافات:102]. ولم يخلف وعده الذي وعد أباه.

وجعل الله الوفاء العهد صفة لأوليائه، فقال في أولي الألباب: إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق [الرعد:20].

والوفاء بالعهد قيام المسلم بما التزم به؛ سواء كان قولاً أم كتابة.

فالتزامه بدين الله واتباعه لشرع الله ومنهج رسوله وفاء؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما أحل الله وما حرم وما فرض في القرآن؛ فهو عهد".

عباد الله!

و العهد ينقسم إلى قسمين: عهد بين الله وبين الناس، وعهد بين الناس بعضهم بعضاً.

فأما العهود التي بين الله وبين الناس؛ فهي كثيرة:

- فإيمان الفطرة عهد؛ قال تعالى: وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا [الأعراف:172].- والإحسان بالقول والفعل عهد، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة عهد؛ قال تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون [البقرة:83].

والمعروضون هم أولئك الذين نكثوا عهدهم مع الله، وارتكبوا الإساءة وابتعدوا عن الإحسان وتهاونوا بشرع الله، بل وتركوا الصلوات بعد أن أبرموا عهداً مع الشيطان.

ونشر العلم وبيانه عهد؛ قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران:187]. قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم؛ فمن تعلم علماً؛ فليعلمه للناس، وإياكم وكتمان العلم؛ فإن كتمان العلم هلكة، فيا سعادة عالم ناطق ومستمع داع! هذا تعلم علماً فبلغه، وهذا سمع خيراً فقبله. وبيع النفس والمال بالجنة عهد؛ قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [التوبة:111].

قال شمر بن عطية: (ما من مسلم؛ إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة؛ وفى بها، أو مات عليها)، ثم تلا هذه الآية.

وجاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ؛ قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله؛ لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته؛ بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر وغنيمة))(1).

وقال الحسن البصري في الكلام على هذه الآية: بايعهم الله فأغلى ثمنهم .

وقال بعض العلماء: عونك اللهم! فإن العقد رهيب، إنها صفقة غالية، المشتري فيها هو الله، والبائع هو المؤمن، والمبيع فيها هو النفس والمال، والثمن هو الجنة، والطريق إليها هو الجهاد، والنهاية النصر أو الاستشهاد؛ فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء؛ فعونك اللهم!

عباد الله!

وأما العهود التي بين الناس بعضهم بعضاً؛ فهي كثيرة أيضاُ؛ فإذا اتفق اثنان على أن يقوم كل منهما للآخر بشيء؛ يقال: إنهما تعاهدا:

فعقد الزواج عهد؛ قال : ((إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج))(2)؛ فلابد للمسلم أن يؤدي ما التزم من الشروط على عقد الزواج؛ لأنه استحل بها الفرج؛ فأيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر، ليس في نفسه أن يؤديها حقها؛ فقد خدعها، ووقع تحت طائلة العقاب.

عباد الله!

وتربية الأولاد عهد؛ قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة [التحريم:6]. فمن أهملهم؛ لم يوف بما عهد إليه.

ومن العهود حقوق الجار؛ فإنها حقوق يلتزم بها الجار لجاره فطرة وديناً وخلقاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين و الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً [النساء:36].

وقد أوصى النبي بالجار، وحث على حسن معاملته:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)). قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه))(3)؛ أي: شروره وأذاه.

وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليحسن إلى جاره))(4).

والإسلام حريص على أن يفي كل جار لجاره بالأمان من ظلمه؛ فلا تستباح محارمه، ولا ينال عرضه، ولا يستحل ماله، ولا يناله أي صنف من أصناف الأذى.

وإذا نظرنا إلى الوراء؛ وجدنا الجار محل الإكرام، حتى في الجاهلية، حتى صور أحد الشعراء الجاهليين(5) حاله مع محارم جاره، فقال:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

أين هذا ممن ولدوا في الإسلام ونشؤا فيه وكانوا حرباً على جيرانهم أذاقوهم صنوف الأذى: إما بالاستطالة في أعراضهم، أو بالأذى الفعلي في بيوتهن، أو بالتلصص على عوراتهم، أو بالأذى في طرقاتهم، أو بالأصوات المنبعثة من داخل بيوتهم، ولم يعرفوا لجيرانهم حقا، وعلموا أن للجار حق الإحسان إليه؟!

فيا ليتهم إذ لم يحسنوا كفوا الأذى عنه!!

فليعلموا أن هذا نقض للعهد، وغدر، وخيانة، والله تعالى قبح صور الخائنين الغادرين، فقال تعالى: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [البقرة:27].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) 1 البخارى ( كتاب فرض الخمس، باب قول النبى : ((احلت لكم الغنائم)) 6/220-فتح) وأخرجه مسلم في (الامامة 104) والنسائى في (الجهاد14) والطبراني في ( الجهاد2).

(2) رواه البخارى .

(3) 3 رواه البخارى ومسلم .

(4) 4 اخرجه البخارى في ( الادب ، 10/373 ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وفى النكاح ، باب الوصاة بالنساء ، وفى الرقاق ، باب حفظ اللسان ) ، ومسلم في ( الايمان ، باب الحث على اكرام الجار، رقم47 ) ، وأبو داود في ( الأدب ، باب في حق الجوار ، رقم 5154 ) .

(5) 5 هو الشاعر عنترة بن شداد .

(1/19)

خلق الحياء

-----------------------

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

خصال الإيمان, مكارم الأخلاق

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

ارتباط الأخلاق والآداب بالعقيدة – اشتمال أخلاق الإسلام على جميع أحوال المسلم – علامة الحياء وفقده , وأثر ذلك – فضل الحياء وارتباطه بالإيمان – كيف يتولد الحياء من الله ؟ وكلام السلف في ذلك – من لوازم الحياء – مظاهر نزع الحياء – حقيقة الحياء , وليس من الحياء الامتناع عن طلب العلم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: إن للآداب والأخلاق صلة وثيقة بعقيدة الأمة ومبادئها، بل هي التجسيد العملي لقيمها ومثلها. الأخلاق والآداب هي عنوان التمسك بالعقيدة، ودليل الالتزام بالمبادئ والمثل. والحكم على مقدار الفضل وحسن السيرة راجع إلى الخلق العالي. ولا يتم التحلي بالخلق الفاضل والأدب الرفيع إلا بالترويض على نبيل الصفات، وكريم العوائد بالتعليم والتهذيب والاقتداء الحسن.

إن الإسلام قد شمل في أخلاقه أحوال المسلم كلها؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فرداً وأسرة ومجتمعاً، فالاستئذان والسلام، والمصافحة والصدق، والتأدب في المزاح والمداعبة، وحفظ حقوق الإخوان، والأدب مع الأقارب والجيران، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وتجنب الظلم والاحتقار والعدوان، كل ذلك وغيره باب واسع عظيم، وهو ثابت لا يتغير بتغير الزمان ولا بتحول المكان. غير أن لهذا الباب الواسع مفتاحاً وأن لهذه الأخلاق عنواناً وعليها دليلا.. ذلكم هو خلق الحياء من الله والحياء من الناس.

أيها المسلم: عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي ويكسو الخجل وجهه إذا بدر ما لا يليق، فاعلم أنه حي الضمير، زكي العنصر نقي المعدن.

أما اذا رأيته صفيقاً، بليد الشعور، معوج السلوك، لا يبالي ما يأخذ أو يترك، فهو بعيد عن الخير ليس لديه حياء يردعه، ولا وازع يمنعه، يقع في الآثام، ويسف في ارتكاب الدنايا.

إن المرء حين يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدركات السفلى.

ورد في الحديث مرفوعاً وموقوفاً: ((إن الله عز وجل إذا أراد بعبده هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان خائناً مخوناً نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظاً غليظاً فإذا كان فظاً غليظاً نزع منه ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه الا شيطاناً لعيناً ملعناً))(1)[1]، أخرجه ابن ماجه وغيره. هذا ترتيب دقيق لأمراض النفوس. خطوات سيئة تقود إلى خطوات أشد منها نكراً.

إن الحياء والإيمان في قرن واحد(2)[2] إذا نزع أحدهما تبعه الآخر. رأى النبي رجلا يعاتب أخاه في الحياء فقال عليه الصلاة والسلام: ((دعه فإن الحياء من الإيمان))(3)[3].

وعمر رضي الله عنه يقول: (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقي).

أيها الإخوة في الله: إن من أعظم ما يستحي منه ربكم مولي النعم ومسديها. ولا يتولد هذا الحياء إلا حين يطالع العبد نعم الله عليه، ويتفكر فيها، ويدرك تمامها وشمولها، ثم يراجع نفسه ويحاسبها على التقصير، ويخجل من ربه، ولاسيما إذا رزق العبد توفيقاً فأدرك عظمة الله، وإحاطته، واطلاعه على عباده، وقربه منهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. يقول الجنيد رحمه الله: (الحياء رؤية النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء).

ويقول بعض السلف: (خف الله على قدر قدرته عليك واستح منه على قدر قربه منك).

وقد أمر النبي أصحابه أن يستحيوا من الله حق الحياء فقالوا: يا رسول الله إنا نستحي من الله حق الحياء قال : ((ليس ذلك؛ الاستحياء من الله أن تحفظ الراس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، من فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))(4)[4].

ومن الحياء أن يطهر المسلم لسانه من الفحش ومعيب الألفاظ، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها.

ومن الحياء القصد في الحديث في المجالس، فمن أطلق للسانه العنان فإنه لا يسلم من التزيد، ولا ينجو من الادعاء والرياء.

ومن الحياء أن يتوقى الإنسان ويتحاشى أن يؤثر عنه سوء، أو تتلطخ سمعته بما لا يليق، وليبق بعيداً عن موارد الشبه ومواطن الإشاعات السيئة.

ومن أحيا الحياء محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظ حق بعلها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة، لئلا يغيض ماء الحياء ويذهب بالعفاف والبهاء. استشهد لإحدى النساء ولد في بعض الغزوات مع رسول الله فجاءت تبحث عنه بين القتلى وهي منتقبة فقيل لها: تبحثين عنه وأنت منتقبة متحجبة؟ فأجابت: لأن أرزا ولدي فلن أرزا حيائي!! فاتقين الله يا نساء المؤمنين، والزمن العفاف والحياء فذلك خير وأبقى.

وإن من الحياء أيها المسلمون أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم ومراتبهم، فيؤتى كل ذي فضل فضله. فالابن يوقر أباه، والتلميذ يحترم المعلم، والصغير يتأدب مع الكبير. ورد في الأثر عن عبد الله بن بسر أنه قال: (إذا كنت في قوم فتصفحت في وجوههم فلم تر فيهم رجلا يهاب الله فاعلم أن الأمر قد رق).

ويقابل الحياء البذاء والجفاء: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن النبي أنه قال: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار))(5)[5].

ومنزوع الحياء لا تراه إلا على قبح، ولا تسمع منه إلا لغواً وتأثيماً، عين غمازة، ونفس همازة، ولسان بذيء؛ يتركه الناس اتقاء فحشه. مجالسته شر، وصحبته ضر، وفعله عدوان، وحديثه بذاء. و يزيد الأمر ويعظم الخطب حين يكون اللهو والتفحش في الطرب والغناء واتخاذ القينات والمعازف وقصائد المجون.. حيث الخروج عن الفضيلة، وخلع جلباب الحياء، ومن لا حياء له لا إيمان له.

فاتقوا الله أيها المسلمون: والتزموا الحياء والعفاف، فهو الباعث على فعل الطاعات وترك القبائح والمنكرات، هو المانع من التقصير في الشكر، وعرفان الجميل، والتفريط في حق كل ذي حق.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.

والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن المسلم عفيف حيي، يفعل الجميل، ويجتنب القبيح. ولا ينبغي أن يكون الحياء حائلا عن طلب العلم أو مانعاً من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل لقد قرر أهل العلم أن من امتنع عن مواجهة الحق وأخل بالواجبات على زعم منه أن هذا من الحياء، فقد ضل السبيل، فما هذا إلا عجز وخور، وضعف واستكانة، بل خنوع وتقصير ومهانة. فحقيقة الحياء ما بعث على ترك القبيح، ومنع من التقصير في حق كل ذي حق.

لقد كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها(6)[1]، لكن لم يمنعه أن يقول لحبه أسامة: ((أتشفع في حد من حدود الله))(7)[2].

ولم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية رضي الله عنها: أن تقول لرسول الله : إن الله لا يستحي من الحق: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت. ولم يمنع الحياء النبي أن يجبيها بقوله: ((نعم، إذا رأت الماء))(8)[3].

فاتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بوصايا دينكم، وتأسوا بهدي نبيكم، فقد كان صادق اللهجة، حسن العشرة، ليس بغماز ولا لماز ولا فاحش ولا متفحش، وصلوا عليه وسلموا تسليماً كثيراً.

__________

(1) 1أخرجه ابن ماجه (2/1347-ح4054) وقال في الزوائد : في إسناده سعيد بن سنان، وهو ضعيف، مختلف في اسمه.

(2) الحياء والإيمان في قرن : أي مجموعان في حبل. انظر لسان العرب (13/336).

(3) أخرجه البخاري (1/93-ح24) واللفظ له، ومسلم (1/63-ح36).

(4) أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي (4/550-ح2458)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/142-ح7730)، والحاكم (4/323) وقال : حديث صحيح ووافقه الذهبي.

(5) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (4/321-ح2009)، وابن ماجه (2/1400-ح4184)، وأحمد (2/501)، والحاكم (1/52) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(6) أخرجه البخاري (10/529،538-ح6102،6119)، ومسلم (4/1809-ح2320).

(7) أخرجه البخاري (12/89-ح6788)، ومسلم ( 3/1315-ح1688).

(8) أخرجه البخاري (1/276-ح130)، ومسلم (1/251-ح313).

(1/20)

آفة العين وطرق الوقاية والعلاج

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

أمراض القلوب

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

22/5/1417

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- أدلة حقيقة العين من الكتاب والسنة. 2- موضوع الإصابة بالعين بين الإفراط والتفريط. 3- الفرق بين العين والحسد. 4- ذكر الله والقرآن الكريم حصنان حصينان من العين. 5- التبريك يبعد المرء عن حسد إخوانه. 6- اغتسال العائن وعلاج العين. 7- التطير والتشاؤم. 8- المصائب سببها الذنوب والمعاصي.

-------------------------

الخطبة الأولى

فأما بعد: فأوصي نفسي وإياكم ـ معاشر المسلمين ـ بتقوى الله امتثالا لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].

أيها المسلمون، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التي تصيب بعض بني الإنسان، وكيف يحفظ الله منها.

حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه، وكما قال النبي : ((تورد الرجل القبر، وتدخل الجمل القدر)) رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4023). إنها العين، والنبي يقول: ((العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا)) رواه مسلم في صحيحه.

جاءت الإشارة إلى العين في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف: 67].

وهكذا يفعل المؤمنون بالأسباب، ويبقى التوكّل على الله ملاذا آمنا ومعتقدا صادقا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد، وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.

وجاء في القرآن أيضا إخبار من الله إلى رسوله عن حسد الكافرين له ومحاولة إنفاذه بأبصارهم: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51]. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: لَيُزْلِقُونَكَ أي: يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك. قال ابن كثير في تفسيره (8/227): "وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة".

إخوة الإيمان، وينبغي أن يعلم أن العين إنسيّة وجنية، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة: ((بها نظرة، استرق لها)) رواه البخاري ومسلم. والسفعة علامة من الشيطان، وقيل: ضربة واحدة منه. والمعنى كما جاء في شرح السنة (12/163): بها عين أصابتها نظرة من الجن أنفذ من أسنّة الرماح؛ ولهذا كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان، حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك. أخرجه الترمذي وحسنه.

عباد الله، ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين)) رواه البخاري في التاريخ وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1217) فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها.

وفوق ما مضى من الأدلة يردّ ابن القيم رحمه الله على المنكرين لأثر العين بقوله في زاد المعاد (4/165): "فأبطلت طائفة ممن قلّ نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم ونحلهم لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين".

أما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام ويحاصرهم القلق ويضعف عندهم اليقين ويختل ميزان التوكل، أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كلّ إخفاق أو فشل إلى العين وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرَضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علّة، ذلكم لأنّ نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمّل لوم الآخرين.

وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفا وسطا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلا وعقلا، ولا تغالي فتنسب كل شيء إليها، تتقي العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعا بعد وقوعها.

أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال للمعي، فيقال للعائن: اتقِ الله، ولا تضرّ أحدا من إخوانك المسلمين، وإيّاك والحسد فإنه منفذ للعين، فكل عائن حاسد، وليس كلّ حاسد عائنا، ولما كان الحاسد أعمّ من العائن كما في قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]، والعائن ربما فاتته نفسه أحيانا فوقعت منه العين وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحا، وربما أصاب أقرب الناس إليه وإن لم يقصد من والد أو ولد، ولذا يوصى المسلم عموما والعائن خصوصا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى يأمرنا بها حين يقول: ((إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق)) رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والحاكم في مستدركه وهو في صحيح الجامع (1/212).

إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضر، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف: 39].

على أن المسلم نفسه ينبغي أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العين سهما تخرج من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهي تصيب تارة وتخطئ تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذرا شاكيَ السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، كذا قال العارفون.

فإن قلت: وكيف أتقي العين؟ وما أعظم سلاح ألوذ به؟

أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعلى لا يضر معه شيء، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [سورة الفلق] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس] ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان، إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التي بسطها العلماء في كتب الأذكار.

قال ابن القيم: "ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي التي رواها مسلم في صحيحه (2185): ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك)).

ولقد رخص النبي بالرقية، وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: ((ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟!)) أي: نحيفة، قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ((ارقيهم))، فعرضت عليه فقال: ((ارقيهم)) رواه مسلم (2198).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق].

نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وهو أهل الثناء والحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

أيها المسلمون، ومن وسائل اتقاء العين أيضا التبريك، وهو قولك: "اللهم بارك عليه" للشيء تراه أو يذكر لك فيعجبك، إذ قد تقع منك العين وإن لم ترِدها، فعن أبي إمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي: سهل بن حنيف بالخرار ـ وهو من أودية المدينة ـ، فنزع جبّة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل مكانه واشتدّ وعكه، فأخبر رسول الله بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: ((هل تتهمون له أحدا؟)) قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله فتغيظ عليه فقال: ((علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت، اغتسل له))، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ودخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته. رواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه وهو في صحيح الجامع (3908).

عباد الله، وإذا كان التبريك سببا واقيا بإذن الله من وقوع العين فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يصب على المعين شفاء له بإذن الله كما سمعتم في قصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة رضي الله عنهما، وهو مفسر لقوله : ((وإذا استغسلتم فاغتسلوا)) رواه مسلم. ولذا فينبغي للمسلم أن لا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المعين، أو أحسّ هو من نفسه أنه عان أحدا من المسلمين.

أيها المسلمون، وثمة وقاية من العين بإذن الله يغفل عنها كثير من الناس، ألا وهي ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي في شرح السنة أن عثمان رضي الله عنه رأى صبيا مليحا، فقال: (دسموا نونته كيلا تصيبه العين). ثم شرحه بقوله: "ومعنى (دسموا) أي: سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير".

إخوة الإيمان، ويبقى بعد ذلك أمران مهمان يحسن التنبية إليهما حين الحديث عن العين:

الأول منهما: أن لا تكثر من التطير والتشاؤم، وأن تحسن الظن بالله، وتقوي جانب التوكل عليه، وأن يلازمنا الفأل الحسن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل، ونهى عن الطيرة فقال: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".

ثانيا: أن لا ننسى حظوظ النفس وآثار المعاصي في وقوع المصائب والكوارث لبني الإنسان، فكثير من الناس إذا وقع لهم مرض أو أتته مصيبة عزاه للعين مباشرة دون أن يتّهم نفسه أو يفتش في أحواله وعلاقته بربه.

صحيح أن العين حق وقد سبق البيان، ولا يماري في ذلك مسلم يؤمن بنصوص الكتاب والسنة، ولا عاقل يرى أثر العين رأي العين، ولكن الذي ينبغي أن لا ينسى أن للذنوب أثرا في وقوع المصائب، كيف لا والحق تبارك وتعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]؟! قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي : ((وما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر)). وقال عكرمة: "ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها" تفسير القرطبي (16/31).

ويقول تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]. روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله : ((قاربوا وسدّدوا، ففي كل ما يصاب به الإنسان كفارة، حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشوكها)) رواه مسلم (2574). قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (23/26): "الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه".

أيها المسلمون، ولا يقف الأمر في المصائب التي يبتلي الله بها عباده عند حدود تكفير السيئات، بل فيها زيادة حسنات ورفعة درجات، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عن خطيئته، وكتب له حسنة، ورفع له درجة)) أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وأقره الذهبي وحسن سنده المنذري وغيره.

ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام، واستغفروا ربّكم واشكروه، ولا تحيلوا كل شيء للعين وإن كانت العين حقا.

عصمني الله وإياكم من الذنوب والآثام، وعافانا والمسلمين من كيد الفجار وحسد الحساد...

(1/21)

أولئك هم العادون

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الزنا من أفحش الفواحش , وهو قرين الشرك – عقوبته وأثره على الأفراد والأمم - التدابير التي سنَّتها الشريعة للوقاية من الزنا

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فياأيها المؤمنون: قضت سنة الله سبحانه وتعالى وتبارك أن الأمم لا تفنى، والقوى لا تضعف إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها فتتحول أهدافها من مثل عليا إلى شهوات دنيئة، فتسود فيها الرذائل، وتنتشر فيها الفواحش، بل تفتك بها الأمراض الخبيثة، فلا تلبث أن تتلاشى وتضمحل وتذهب ريحها ويحق عليها قول الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].

أيها المسلمون: إن من أفحش الفواحش وأحط القاذورات جريمة الزنا. حرمه ربكم، وجعله قريناً للشرك في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء. يقول عز من قائل: الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

ويقول في الجزاء والعقوبة: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69].

وما ذلك إلا لأنه من أقبح القبائح؛ يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية، ويهلك الحرث والنسل. عاره يهدم البيوت، ويطأطئ عالي الرؤوس، يسود الوجوه البيضاء، ويخرس ألسنة البلغاء، ويهبط بالعزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية مالها من قرار. ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما علا.

إنه لطخة سوداء إذا لحقت بتاريخ أسرة غمرت كل صحائفها النقية. إنه شين لا يقتصر تلويثه على من قارفه؛ بل يشين أفراد الأسرة كلها، ويقضي على مستقبلها جميعها. إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال جيلا بعد جيل. بانتشاره تغلق أبواب الحلال، ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية، طبقات شاذة حاقدة على المجتمع، لا تعرف العطف ولا العلاقات الأسرية فيعم الفساد، ويتعرض المجتمع للسقوط.

أليس يجمع خلال الشر كلها من الغدر والكذب والخيانة؟ أليس ينزع الحياء، ويذهب الورع والمروءة، ويطمس نور القلب، ويجلب غضب الرب.

إن مفسدته منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الأبضاع، وصيانة الحرمات، والحفاظ على روابط الأسر، وتماسك المجتمع.

يا أصحاب الغيرة : من أجل أن يزداد الأمر وضوحا تأملوا الفرق بين السفاح والنكاح.

السفاح متعة حيوانية بهيمية، وقضاء شهوة وقتية، اختلاس وخداع، وهروب من المسئولية، بل امتهان لكرامة الإنسان ذكرا كان أو انثى. إن الزاني والزانية لا يعنيهما إلا قضاء مآربهما الساقطة، بل كل واحد منهما يجعل الآخر قنطرة ومعبرا لهذه المآرب. إنه لقاء حيواني بحت لا غرض منه إلا قضاء الوطر المنحط.

أما النكاح فهو شهامة وعزيمة وكرامة معلنة، تحمل للمسؤولية، والتزام بالحقوق والواجبات، إنشاء وتعمير، وإصلاح وتربية وتوجيه للطاقات. بل إنه من أفضل ما يتقرب به إلى الله سبحانه حين تحسن النوايا وتصح المقاصد.

أيها الإخوة في الله: إن التقدير لحمى ذمار الأهل يفرض الإهتمام بالحرمات. لا بد من تقوى الله عز وجل ومراقبته. لا بد من الأخذ على أيدي السفهاء؛ لقد نهى الله عباده المؤمنين بالله واليوم الاخر أن تأخذهم بالزناة والزواني رأفة في دين الله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

مستحل الزنا في الإسلام كافر خارج من الدين، والواقع فيه من غير استحلال فاسق أثيم، يرجم إن كان محصنا، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن.

بل لقد نفى النبي الإيمان عن الزاني في أكثر من حديث.

ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))(1)[1].

وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي واللفظ له عن أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه))(2)[2].

وفي المقابل أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر: لا بد من إسكات هذه الأبواق المضللة التي تسعى في نشر هذا السقوط الاجتماعي، بل تزعم أنه خلق التحضر والارتقاء وتسميه بغير اسمه، ونبيكم سماها قاذورات، فلا يسطو على الأعراض إلا مجرم أثيم.. ساقط المروءة؛ يخرب بيته وبيوت المؤمنين. لا بد من حماية أبناء المسلمين مما يبتذل في أسواقهم ووسائل إعلامهم من الأغاني الماجنة، والصور الفاضحة، والقصص الساقطة، والأفلام الهابطة.

ماذا يريد المبطلون من هذه الاغراءات؟.

إن عذاب الله شديد. ألم يتبين لدى كل مطلع أن الزنا يعرض صاحبه بل يعرض المجتمع كله للإصابة بالأمراض السرية القاتلة كالزهري والسيلان؟ وما أمراض العصر الشهيرة من مرض الإيدز ومرض الهربس إلا وليدة هذه القاذورات.

اسمعوا إلى حديث المصطفى فيما أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن وذكر منها: ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم))(3)[3]. ماذا بعد هذا أيها المسلمون؟ فنسأل الله السلامة والعافية.

أما عذاب الآخرة فأشد وأبقى، عذاب تذهل له النفوس، وتتقطع له الأفئدة.

جاء في صحيح البخاري وغيره عن سمرة بن جندب رضي الله عنه في حديث طويل في خبر منام النبي أن جبريل وميكائيل جاءاه قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا – أي صاحوا من شدة الحر – فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني؛ فهذا عذابهم إلى يوم القيامة))(4)[4].

وقد جاء من غير طريق عن النبي أنه قال: ((إن ريح فروج الزناة والزواني يؤذي أهل النار شدة نتنها))(5)[5].

وفي حديث عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: ((إذا مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات – يعني البغايا – يؤذي أهل النار ريح فروجهم))(6)[6]. فأهل النار يعذبون بنتن ريح الزناة.

فاتقوا الله يا أمة الإسلام، وقفوا عند مسئولياتكم، خذوا على أيدي السفهاء تنجوا وتنج سفينتكم.

الزوج مسئول، والأم مسئولة، والأب مسئول، وولي الأمر مسئول، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. اطلبوا النجاة لأنفسكم وأولادكم وإخوانكم وكل من تحت مسئوليتكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [ الإسراء:32]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد ، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله أهل الحمد ومستحقه لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الشريعة المطهرة قد أوصدت الأبواب أمام هذه الجريمة النكراء، والرذيلة الشنعاء.

فأول الحواجز وأولاها: الإيمان بالله واليوم الآخر، والخوف من عذابه والرجاء في رحمته.

ثم غض البصر من المؤمن والمؤمنة من أقوى هذه الحواجز، فالنظرة سهم من سهام إبليس، ومن غض بصره أورث الله قلبه حلاوة العبادة إلى يوم القيامة كما ورد في الحديث. وكما يشير إليه قوله سبحانه بعد الأمر بغض البصر: ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].

وأمرت المؤمنات بالحجاب والبعد عن موارد الفتن ومواطن الريب، فلا زينة ولا تعطر ولا إلانة في القول فيطمع الذي في قلبه مرض، ولبس اللباس المحتشم السابغ خير ما يكرم المؤمنة ويحميها من أن تصيبها نظرات ضعاف النفوس.

والخلوة بالمرأة الأجنبية لا تجوز، فذلك من أعظم دواعي الإغراء بالفحشاء. فما خلا رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان.

وفي الحديث الصحيح: ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت))(7)[1]. والحمو هو قريب الزوج. ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم، فإنها إن فعلت افترستها ذئاب البشر رغبة أو رهبة.

وقبل ذلك وبعده أيها المسلمون لا بد من تيسير أمر الزواج: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))(8)[2].

__________

(1) أخرجه البخاري (5/143-ح2475)، ومسلم (1/76-ح57).

(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/352-ح5366)، وأشار الألباني إلى ضعفه. انظر ضعيف الجامع (7978).

(3) رواه ابن ماجه (2/1332،1333-ح4019)، وقال البوصيري في الزوائد : هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه، والحاكم (4/540)وقال : صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وعلى هذا فالحديث حسن إن شاء الله.

(4) أخرجه البخاري (12/457،458-ح4047)، وأحمد (5/8).

(5) أخرجه البزار مرفوعاً وموقوفاً، وقال الهيثمي: في اسناديهما صالح بن حيان وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد (6/255).

(6) أخرجه أحمد (4/399)،وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات. انظر مجمع الزوائد (5/74)، وأخرجه الحاكم (4/146) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(7) أخرجه البخاري (9/242-ح5232)، ومسلم (4/1711-ح2172).

(8) أخرجه الترمذي(3/395-ح1085)وقال : حديث حسن غريب، وابن ماجه (1/633-ح1967)، والحاكم (2/164،165)، والحديث حسن بمجموع طرقه.

(1/22)

أثر القرآن الكريم

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

8/6/1412

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- القرآن الكريم معجزة رسول الإسلام الخالدة 2- تحدي العرب أن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه 3- القرآن يهز أعماق رؤوس الشرك في مكة 4- الجن والملائكة يستمعون القرآن 5- توبة الفضيل لسماعه بعض القرآن 6- أثر القرآن في الصحابة الكرام 7- فضل قراءة القرآن وفضل بعض سوره

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد

فاتقوا الله معاشر المسلمين ، وتمسكوا بحبله المتين ، واستقيموا على صراطه المستقيم .

ألا وإن القلوب تصدأ، وجلاؤها القرآن الكريم ، والقرآن هو النبع الحقيقى الذى لا ينضب ، وهو الدستور الذى يحق للامة المسلمة أن تفاخر به فى الوقت الذى تساق فيه الأمم والشعوب الأخرى سوقا إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية .

القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لهذا الدين ، وهو الكتاب الحكم الذى أنزل على النبي الكريم، وإذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد اوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر فى وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم ، فإن الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم ظل وسيظل معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين ، ويراها المتأخرون كما رأها المتقدمون .. ..

وتلك وربي معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين الذى أراد الله له أن يكون آخر الأديان ، وتتناسب مع القرآن الذى اراد الله أن يكون اخر كتاب ينزل من السماء ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله (( ما في الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )) (1).

و لما كان العرب أرباب الفصاحة و الحوار والمفاخرة.. نزل القرآن ليتحداهم جميعا ، إنسهم ، وجهنم قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً [م1].

وفوق ذلك فقد استطاع القرآن الكريم أن يخترق قلوبهم وهم بعد على الكفر والضلال ، ومازال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والايمان ، يقول جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ( وذلك فى وفد أسارى بدر ) وسمعته يقرأ فى المغرب بالطور ، فلما بلغ الآية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون . كاد قلبي يطير (( كما روى ذلك الشيخان في صحيحيهما )) (2) .

وفى رواية ((كان ذلك أول من دخل الإيمان في قلبي)) وإن كان قد تأخر إسلامه إلى ما بين الحديبية والفتح (3).

وقبل خيبر كانت قصة عتبة بين ربيعة ، وهى مشهورة ، وإسنادها حسن ، وخلاصتها أن قريش بعد ما رأت انتشار الإسلام اختارت أحسن رجالاتها ليكلم النبى صلى الله عليه وسلم ، فجاء أبو وليد عتبة بن ربيعة ، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ، وهو منصت له ، فلما فرغ قال : ((أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال: أنصت ، فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم)) ، ورجع إلى أهله ، واحتبس عن قريش فترة.

وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم . فقال بعضهم لبعض : نُقسم ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك ؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وإجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر عليهم، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم(4).

وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (5) [المائدة:.

بل تأثر مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً (6) .

وأخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : هبطوا – يعنى الجن – على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قال أنصتوا قالوا: صه !وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عز وجل : وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين [الأحقاف:29-32].

وإذا كان هذا منطق الجن اتجاه القرآن فللملائكة كذلك شأن مع القرآن الكريم ، فقد أخرج البخارى ومسلم فى صحيحيهما واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال : بينما هو يقرأ القرآن من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت فسكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه ، فلما اجتروا – يعني ولده حتى لا تطأه الفرس – رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ((أقرأ يا ابن حضير. أقرأ يا ابن حضير ، قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى أراها قال : وتدرى ما ذاك ؟ قال : لا ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم (7)) .

وفى صحيح مسلم – أيضا – عن البراء قال : ((كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين (والشطن : الحبل الطويل المضطرب) ، وإنما ربطه بشطنين لقوته وشدته فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال : تلك السكينة تنزلت للقرآن (8)).

إخوة الإيمان : وكذلك يكون أثر القرآن حين يتلى ، وليس بمستغرب أن يحول القرآن قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء متميزين ، وعباد صالحين.

والفضيل بن عياض العالم العابد – عليه رحمة الله – نموذج واضح لما أقول، وقد حكى الذهبى فى سير أعلام النبلاء قصة توبته وتأثره بالقرآن فقال: كان الفضيل بن عياض شاطرا ، ( يقطع الطريق ) بين أبيورد وسرجس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية ، فبينما هو يرتقى الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله .. الآية (9) فلما سمعها قال : بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة (أي مسافرون) فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل فى المعاصي وقوم من المسلمين هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.(10)

رحم الله الفضيل حجة زمانه، وعابد دهره، وأورع الناس من حوله .. وأكرم وأعظم بهذا الكتاب الذى أحيا أمة بعد أن كانت فى عداد الموتى .

وصدق الله وهو أصدق القائلين لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (11)

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. وألان قلوبنا وفقهها لمحكم ترتيله .. أقول هذا وأستغفر الله .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فى ربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.

أيها المسلمون: ولأثر القرآن على النفوس خشي المشركون على أبنائهم أن يتأثروا به حين يسمعونه من المسلمين الخاشعين لتلاوته.

وقصة أبى بكر رضى الله عنه مع ابن الدغنة تكشف عن هذا ، وذلك حين خرج أبو بكر مع من خرج يريد الهجرة إلى الحبشة فلقيه ( ابن الدغنة ) فقال : مثلك لا يَخرج ولا يُخرج يا أبا بكر وأنا جار لك، ثم جاء ابن الدغنة إلى قريش فى ناديها وأعلن جواره له، فلم تكذبه قريش لكن قالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه فى داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا فى ذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نسائنا وأبنائنا، فقال ذلك لأبي بكر، فمكث فترة كذلك، ثم بدا لأبى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف ( يجتمع ) عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه – وكان أبو بكر رجلا بكاء لايملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة يشتكون أبا بكر إليه ، ويقولون إنا خشينا أن يفتن نسائنا وأبنائنا فانهه .... الخ القصة التي رواها البخاري في الصحيح (12) .

إذا كان أثر القرآن وهو غيض من فيض، وقليل من كثير، فالسؤال هنا الذى يجب أن نسأله أنفسنا : ما هو أثر القرآن علينا نحن المسلمين فى هذه الأزمة ؟ وقبل هذا السؤال سؤال آخر: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن ؟ وما حظنا من الخشوع والتدبر حين يتلى القرآن ؟ .

إن واقع كثير من المسلمين اليوم واقع مر ، يرثي له مع الأسف الشديد، فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها ، والهجر أصبح ديدن المسلمين إلا من رحم الله، البضاعة من كتاب الله مزجاة، ويرحم الله زمانا كان الشيخ الكبير يأتي إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول : ((أقرئني يا رسول الله ؟ قال له : أقرأ ثلاثا من ذات (الر) . فقال الرجل :كبرت سنا واشتد قلبي وغلظ لساني ، قال : فاقرأ من ذات (حم) فقال مثل مقالته الأولى، فقال: أقرأ ثلاثا من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه إذا زلزلت الأرض حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذى بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل (13)) ..

وإذا كان فضل سورة (الزلزلة) هذا، فما بال من تتوفر لهم الأداة لقراءة القرآن كله، ويتوفر لهم من النشاط والقوة ما يمكنهم من إعادة قراءة القرآن مرة تلو المرة؟ اللهم لاتحرمنا فضلك، ولا تصدنا بسبب ضعف نفوسنا وغلبة شهواتنا عن كتابك.

إخوة الإسلام: هل نسينا أن الحسنة بعشرة أمثالها وأن (الم) فيها ثلاثة أحرف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) .. فكيف سيكون تعداد الحروف فى الصفحة الواحدة ، وكم سيكون عدد الحسنات فيها؟

ألا إن فضل الله واسع: ولكن هل من ساع إلى الخير جهده؟ أليس من اللائق بك أخي المسلم أن تبكر فى المجيء إلى الصلوات الخمس لتحظى بقراءة قسط من القرآن وتحصل على رصيد كبير من الحسنات، فإن أبيت، بكرت فيما تستطيع التبكير منها، فإن تكاسلت أليس يجدر بك أن تبكر يوم الجمعة لتقرأ ما تيسر من القرآن، وخاصة سورة الكهف التى أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن ((من قرأها يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين)) (14) .

أيها المسلمون: صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم .

__________

(1) د الحديث اخرجه مسلم ج1 / 134 .

(2) البخارى ( مع الفتح 8 / 603 ، ومسلم 1 / 338 ، الإصابة 2 / 65 ، 66 ) .

(3) الإصابة 2 / 66 ) .

(4) تفسير ابن كثير 7 / 151 ، 152 .

(5) المائدة / 83 .

(6) الجن / 1 .

(7) الفتح 9 / 61 ، مسلم 1 / 5548 .

(8) مسلم 1 / 547 ، 548 .

(9) الحديد / 16 .

(10) السير 8 / 373 .

(11) الحشر / 21 .

(12) الفتح 6 / 230 ، 231 .

(13) الحديث رواه أحمد والحاكم وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح . ( المسند 10 / 8 ح 6575 ) .

(14) حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره . زاد المعاد 1 / 277 .

(1/23)

الولاء والبراء

-----------------------

الإيمان

الولاء والبراء

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 – حاجتنا إلى عقيدة الولاء والبراء 2 – علامات محبة الله 3 – اصناف موافقة الكافرين 4 – العمالة الكافرة في بلادنا 5 – من موالاة الكفار السفر إلى بلادهم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى لتكونوا من اولياء الله الذين يقول الله فيهم: الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين امنوا وكانوا يتقون (1)

عباد الله!

ومن تقوى الله فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه.

ألا وإن مما أمر الله به موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين وهذا هو الولاء والبراء وهو أصل الإسلام ومظهر إخلاص المحبة لله ثم لأنبيائه وللمؤمنين.

والبراء مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله وهذا أصل من أصول الإيمان وهو هام فى الوقت الحاضر لأنه اختلط الكفار بالمسلمين وغفل الناس عن مميزات المؤمنين التى ميزهم الله بها وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب وسافر كثير من المسلمين الى الكفار فى عقر دراهم وساكنوهم وخالطوهم وهذا نتيجة لضعف هذا الأصل العظيم الذى هو أصل الولاء والبراء.

عباد الله!

الولاء معناه المحبة والنصرة والإكرام وأن نكون مع المؤمنين ظاهرا وباطنا.

قال تعالى: الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات (2).

والبراء معناه: البعد والخلاص والعداوة بعد الأعذار والإنذار.

عباد الله!

وإن كان أصل الولاء المحبة فإن أول من يحب هو الله سبحانه وتعالى لأنه المحسن المنعم

ومحبة الله تعالى تقتضى أموراً ولها علامات فليس كل من ادعى محبة الله يكون صادقا فى دعواه حتى تدل على ذلك الأدلة، و تشهد له الشواهد.

وأول هذه العلامات: متابعة الرسول فمن كان يحب الله عز وجل فليتابع رسوله فيما جاء به.

ولهذا لما ادعى اليهود أنهم يحبون الله عز وجل امتحنهم بهذه الآية قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (3)

ومن علامات محبة الله أن يقدم العبد ما يحبه الله على ما يحبه هو فإذا تعارضت محبة الله مع محبة العبد فان العبد يقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه.

قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسول وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين(4)

ومن علامات محبة الله: أن يحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويكره ما يكرهه الله من الأعمال والأشخاص.

فالله تعالى يحب المؤمنين الصالحين فإذا كان الإنسان يحبهم فهو يحب الله عز وجل.

والله تعالى أمر بموالاة أوليائه ومعادة أعدائه فى آيات كثيرة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً (5).

هذا نداء من الله تعالى لعباده المؤمنين أن لا يتخذوا الكافرين أولياء بأى نوع من أنواع الولاية؛ لا بالمحبة؛ ولا بالمناصرة، ولا بالميل إليهم؛ لأنهم أعداء الله ورسوله وإذا كانوا أعداء لله ولرسوله وجب علينا ان ننابذهم العداء.

وقال تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا (6) .

فالله جل وعلا أخبرنا أن موالاة الكفار من صفات المنافقين.

عباد الله!

إعلموا أن موافقة الكفار على ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: ان يوافقهم فى الظاهر والباطن وهذا كفر صريح .

الثانى: أن يوافقهم فى الباطن دون الظاهر وهذا شان المنافقين الذين هم فى الدرك الاسفل من النار.

الثالث: أن يوافقهم فى الظاهر دون الباطن، وهذا على نوعين:

الأول: أن يوافقهم فى الظاهر وهو يبغضهم فى الباطن بدافع الإكراه للتخلص من الأذى كما في حديث عمار بن ياسر، حينما أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سب النبى وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما اتى رسول الله قال: ((ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله! ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان. قال: إن عادوا، فعد)) (7).

الثانى: أن يوافقهم فى الظاهر بدون إكراه لطمع دنيوى أو لغرض من الأغراض فالذى يعمل هذا قد والى الكفار وارتكب أمراً عظيما.

عباد الله!

ومن مظاهر موالاة الكفار استقدام الكفار للعمل فى بلاد المسلمين.

وأقول بكل أسى: كم فى بلادنا اليوم من ديانة غير الإسلام؟!

وانظروا إلى أولئك القطعان من تلك الرعايا ممن يجوبون الشوارع في أيام العطل الرسمية من غير المسلمين من يهود ونصارى ووثنيين وهندوس وغيرهم!!

فهل يمكن أن نتنبه لهذا الخطر وننظر فى أصل الولاء والبراء فى أى موقع يقع منا حتى عم الاستقدام فاصبح على مستوى رعى الغنم وخياطة الثياب بل وإعداد الشاى والقهوة؟!

ويا ليتهم حينما بلينا بهم وقفوا عند العمل الذى أتوا من أجله ولكنهم جاءوا فجاء معهم الشر والدمار وخراب الديار لأنهم أتوا من أجل هدم الأخلاق لا من أجل بناء الخراب لقد حفروا نفوسنا قبل أن يحفروا أرضنا لقد نشروا فسادهم قبل نشر آلاتهم لقد شيدوا الفساد قبل تشييد المساكن.

ومن مظاهر موالاة الكفار السفر إلى بلادهم من غير عذر شرعى.

ولقد ذكر العلماء أن السفر الى بلاد الكفار لا يجوز إلا بشرطين:

الأول: أن يكون هذا السفر لمصلحة شرعية كالعلاج أو لطلب خبرات لم تكن فى بلاد المسلمين ويحتاج إليها المسلمون فيسافر ليتعلمها ثم يأتى بها إلى بلاد المسلمين ليستغنوا به عن عدوهم.

الثانى: أن يقدر على إظهار دينه فى بلاد الكفار وإظهار الدين أن يدعوا إلى الله عز وجل ويبين بطلان ما عليه الكفار.

فاذا تحقق هذان الشرطان فليسافر أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فالسفر لا يجوز هنا.

وان بعض الناس لم يبالوا فى تحقيق هذين الشرطين فيسافر بعضهم لاجل النزهة والترفيه في بلاد الكفار ولاجل التمتع بجمال الطبيعية كما يقولون ومن عمل هذا يدل على أن عنده ولاء للكفار، وأنه يحبهم فلو كان لا يحبهم لما سافر إليهم.

وبعض الناس من ذوى الثراء يصطحبون معهم فى تلك البلاد الأسرة لتاخذ حظها من الشقاء فتخلع جلباب الحياء تخرج سافرة عارية حتى لا يرميها أولئك الكفار بالتأخر فيمكثون أياماً يعودون بعدها وقد أرضوا الشيطان وأسخطوا الرحمن ويحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.

عباد الله !

ومن مظاهر موالاة الكفار اتخاذهم بطانة (أي: خاصة) قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ولا يألونكم خبالا (8).

والبطانة الإنسان كما يفعل بعض الناس فى اتخاذ الكفار مستشارين وأمناء سر ومديرى أعمال، سواء كان ذلك فى الأمور العامة والخاصة فالمسلمون منهيون عن أن يتخذوا الكافرين بطانة بأن يولوهم أعمالا من أعمال المسلمين يطلعون من خلالها على أسرار المسلمين وأحوالهم، ويفشون أسرارهم إلى الكفار، فالمسلمون منهيون عن ائتمانهم وقد خونهم الله ولكن الله المستعان، الاستقدام للكفار قائم على قدم وساق وإدخالهم فى بيوت المسلمين ليطلعوا على عوراتهم وخلطهم مع عوائلهم وتوليهم تربية أطفالهم.

فهذا من مظاهر موالاة الكفار فلنتق الله فى أنفسنا وفى أولادنا وفى بلادنا وفى إخواننا.

ومن مظاهر موالاتهم إظهار التعظيم لهم فى المجالس والبشاشة فى وجوههم وتلقيبهم بالألقاب التى تدل على رفعتهم كأن يقال لأحدهم سيد أو ما شابه ذلك.

فعن بريدة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله ((لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيداً فقد اسخطتم ربكم عز وجل))(9).

فاتقوا الله عباد الله! وحكموا شرع الله فى كل أمور حياتكم واجعلوا الولاء لمن أمر الله بموالاته والبراء ممن أمر الله بالبراء منه.

واعلموا أن الأمة الإسلامية قامت بقيادة البشرية دهراً طويلاً، حيث نشرت العقيدة الإسلامية في ربوع المعمورة، وطبقت الولاء والبراء كما ينبغى، فأخرجت العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، واليوم تراجعت بعد أن هدأت في الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام، نسأل الله أن يعيد لأمة الإسلام مجدها.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لى ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

أما بعد:

ايها المسلمون!

اتقوا الله تعالى حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وتجنبوا أسباب سخط الله فان أجسامكم على النار لا تقوى.

عباد الله!

ومن مظاهر موالاة الكفار ومحبتهم: نشر أفكارهم المسمومة، وتنفيذ خططهم التى يراد منها إفساد أخلاق المسلمين وإغراق مجتمعهم بالمعاصى والمنكرات.

وفى هذه الأيام ظهرت أعناق من يوالون أفكار الكفار، فشنت بعض الصحف حملة مستميتة وأوقدت ناراً لحرب تعاليم الإسلام وتلك الحملة هى ما سموه: عمل المرآة أو الاستفادة من المرآة وزعموا أنها معطلة فى مجتمعنا فأطلقوا عليها ألقابا براقة: نصف المجتمع المعطل، والجزء الضائع، أو: الساق المبتور … ويتفننون فى اختيار العناوين حسبما يحلوا لهم، فقالوا :نريد من المرآة أن تشتغل بالصناعة وأن تعمل فى تدريس الطلبة فى المراحل الأولى من المراحل الإبتدائية للبنين.

وكعادتهم فهم يفتحون عدة ثغرات ويكثرون الدخان وهم يرضون بنتيجة واحدة، فهم الآن يدندنون حول اختلاط المرآة بالرجال ولكنهم لم يعلنوها صريحة حتى الآن لأن المرآة منذ وقت قديم وهى تعمل فى مجال تخصصها فى تدريس النساء ولكن هذا لم يناسب أعداء الاسلام فأثاروا قضية تدريس المرأة للصفوف الدنيا من المرحلة الابتدائية لتكون شرارة ثم نارا تسرى فى الهشيم فاقترحت ذلك إحدى الفتيات إن كان الاسم صحيحا ونشر ذلك الإقتراح فى جريدة الرياض فى عددها الصادر بتاريخ الثالث والعشرين من الشهر الماضى ربيع الآخرة، وأيد ذلك الإقتراح أحد الوافدين لدينا ونشر ذلك فى نفس الصحيفة يوم الثلاثاء الثالث عشر من هذا الشهر جمادى الأولى وعللوا ذلك بأن المعلمة أكثر التصاقا بالأطفال من المعلم وأيد ذلك كاتب تلك المقالة بالأدلة وبتجربته المحترمة فى مجال التدريس.

ونقول لهؤلاء: أربعوا على أنفسكم فإن ما ترمون إليه لن يتحقق بإذن الله فأنتم تريدون مشاركة المرآة للرجل فى مجال العمل وأن تخرج سافرة عارية وتكون فريسة للذئاب البشرية.

وذلك الكاتب من الوافدين يعلم ما وصلت إليه بلاده من الإنحلال ويريد لبلادنا أن تصل إلى ما وصلت إليه بلاده حتى تسلب هذه النعمة لأنه يحسدنا عليها ولو كان صادقا لحذرنا منها وانتقدها لأنه علم ما يحدث من النتائج عند اختلاط المرأة بالرجل ومع الأسف فإن هذا الوافد ينعم لدينا فى هذا البلد وأرجوا ألا تكون له صلة بالتعليم وإن كان له صلة فإنا نأمل من المسؤولين إبعاده لأنه يحمل أفكاراً مسمومة وحتى لا ينشرها بين الطلاب فمعظم النار من مستصغر الشرر.

ثم إن هؤلاء اشترطوا أن يكون تدريس المرأة للطلاب فى المراحل الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية ثم الرابعة سيقولون: إن الطفل ألف المرأة ولا يستطيع أن ينتقل إلى المرحلة الرابعة ليدرسه الذكور فجأة ونظرا لصغر سن التلاميذ في المرحلة الابتدائية فيكون التدريس فى جميع هذه المراحل الإبتدائية للمرأة ثم سيقترحون علينا ما داما أن الأمر هكذا فالطفل لا يعي شيئاً وكذلك الطفلة فى المرحلة الإبتدائية فلماذا لا نجمعهما فى مدرسة واحد؟ لأن الأطفال يلعبون معا في الشارع …… وهكذا … وهكذا لن يقف زحف العلمانيين عند حد حتى يفسدوا أخلاق المسلمين.

ونقول لهؤلاء المستأجرين: إننا لم نجعلكم أوصياء على نسائنا وأطفالنا، فاتجاهكم معلوم، وهدفكم معلوم أيضاً، فنحن – ولله الحمد – في هذه البلاد نتمتع بمكانة عظيمة عند جميع الدول بفضل الله ثم بفضل تمسكننا بالشريعة الإسلامية، وسوف تظل هذه المكانة من حسن إلى أحسن، ما دمنا متمسكين بشرع الله، ومجتمعنا المسلم يرفض هذه الاقتراحات وأصحابها كما يرفض الجسم السليم جرثومة المرض.

عباد الله!

ومن مظاهر موالاة الكفار جلب عاداتهم إلى بلاد المسلمين ونشرها بينهم.

وبمناسبة إجازة منتصف العام نظرا لكثرة مناسبات الزواج فى هذه الإجازة فإنى أنبه على أمر جلب إلينا من أعدائنا وظهرت بوادره فى هذه الأيام كما حدثنى بعض الثقات وهو ما يسمى فى عرف المجتمع التشريعة ذلك العمل أن يؤتى بالرجل وزوجته ويجلسان فى وسط النساء الحاضرات وكثير من النساء متبرجات والزوج معهن جالس فى جانب زوجته ويلبسها خاتما وتلبسه آخر والصور تلتقط لهما والزوجة كاسية عارية فاتنة فى أبهى حللها!!

وانى أتساءل كما يتساءل غيرى: كيف وصلنا الى هذه الحالة في هذه السرعة الخاطفة، إنها لمحنة عظيمة فى غمرة هذا الفرح، يحدث تصوير للزوجة وللنساء الحاضرات وهن في أبهى الحلل وأطيب الطيب!!

تصوروا عباد الله عظم الفتنة حينما تنتشر هذه الصور، ويتناقلها الناس بل يتناقلها السفهاء!!

وهل يرضى أحد أن تكون صورة ابنته أو أخته أو زوجته فى أيدى السفهاء يتناقلونها؟!هل يرضى والد الزوجة؟! هل يرضى الزوج بهذا؟! ولا تقولوا: إنها لن تخرج فستصل الى أيدى الرجال شئتم أم أبيتم.

فلا يرضى بهذا إلا رجل لا خير فيه عديم الغيرة قليل المروءة!!

أما يستحى هؤلاء من الله؟!

ولقد حدثنى أحد الثقات في هذا اليوم أنه حصل زواج منذ يومين، وداسوا فيه الحياء بالأرجل، وانتهكوا محارم الله، فالزوج بين النساء، والمرآة بجانبه كاسية عارية، وآلات التصوير حولها وأصوات النساء متعالية بالتصفيق والصراخ.

عباد الله!

أنحن نحارب الله؟!

هل الزوج يفقد رجولته ليلة الزواج حتى يجلس مع النساء؟!

أم الرجال يفقدون الغيرة حتى يسمحوا لنسائهم بالجلوس حوله؟!

أم أن والد الزوجة يفقد رجولته وقوامته على النساء ليلة الزواج؟!

فاتقوا الله عباد الله! واستعملوا نعم الله في طاعة الله، ولا تستعملوها في معاصيه، فتكون نقماً.

__________

(1) يونس : 62 .

(2) البقرة : .

(3) آل عمران : 31 ، 32 .

(4) التوبة : 22 – 24 .

(5) النساء : 144 .

(6) النساء : 139 .

(7) رواه الحاكم ، وقال : " صحيح على شرط الشيخين " .

(8) آل عمران : 118 .

(9) رواه أبو داود

(1/24)

الرفق والتيسير في التعامل

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ

الشمائل, مكارم الأخلاق

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

من صفاته صلى الله عليه وسلم الرحمة والسهولة والرفق في جميع أحواله وأشدها - موقف نوح من قومه , وموسى وهارون من فرعون – ماذا يجب على أصحاب المسؤوليات والولايات في تعاملهم مع مرءوسيهم – فضل العفو وكظم الغيظ – والإحسان – خطورة قسوة القلب وغِِِلَظه

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المؤمنون: بعث الله نبيه محمدا رحمة وهدى، وسع خلقه الناس سهولة ورفقا، ونضحت يداه بالعطايا كرما وجودا، أبرهم قلبا، وأصدقهم لهجة، وأقربهم رحما.

وإن من أخص خصائصه وأكرم سجاياه.. أن لازمته تلك الفضائل الزاكية والأخلاق العالية في أشد الأوقات وأحلك الظروف. شج رأسه وكسرت رباعيته في غزوة أحد فقيل له في هذا الحال العصيب: ألا تدعوا على المشركين؟ فما هو إلا أن تدفق رفقه، وطغت رحمته. وفاضت طبيعته العالية، وسجيته الكريمة بما يلتمس فيه العذر لهؤلاء فكان مما قال: ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون))(1)[i]). وفي مقام آخر: ((إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا))(2)[ii]) وصدق الله العظيم: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107].

أيها المسلمون: إنها القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة عن التعقل والحلم. إنها إلى العفو الصفح أقرب منها إلى الانتقام والبطش.

ها هو نوح عليه السلام – أبو الأنبياء – يقول في مجادلته لقومه: يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون [الاعراف:61-63].

إنه جواب ملؤه الرحمة والشفقة، والصدق في النصح، واللطف في الخطاب.

وليس بعد طغيان فرعون من طغيان وقد قال الله لموسى وهارون عليهما السلام: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [طه:43-44].

أيها الإخوة في الله: إن الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال.. اتسع صدره، وامتد حلمه، وتطلب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات. وأخذهم بالأرفق من حالهم. أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابي في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله : ((دعوه لا تزرموه(3)[iii])، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء –أي دلوا من ماء- فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين وسكنوا ولا تنفروا))(4)[iv])زاد الترمذي: ثم قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال له النبي : ((لقد تحجرت واسعا))(5)[v]).

أولئك هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام عنوان الرحمة والشفقة والقدوة في الصفح والمغفرة.

إن حقا على المسلمين أن يستصحبوا الرفق واللين في الأمر كله من غير مداهنة ولا مجاملة. ومن غير غمط ولا ظلم.

إن على الأب الشفيق والأم الرؤوم، وإن على الأزواج وأصحاب المسئوليات أن يرفقوا بمن تحت أيديهم، لا يأخذون إلا بحق، ولا يدفعون إلا بالحسنى، ولا يأمرون إلا بما يستطاع: لا يكلف الله نفساً الا ما ءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً [الطلاق:7].

ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، بذلك صحت الأخبار عن الصادق المصدوق .

أمة الرحمة والهدى: إن العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الأمور تقتضي تقبل الميسور من أخلاق الناس، والرضا بالظاهر من أحوالهم، وعدم التقصي على سرائرهم، أو تتبع دخائلهم، كما تقتضي قبول أعذارهم، والغض عن هفواتهم، وحملهم على السلامة وحسن النية. إذا وقعت هفوة أو حصلت زلة فليس من الأدب وليس من الخلق الحسن المسارعة إلى هتكها والتعجل في كشفها فضلا عن التحدث بها وإفشائها.

بل لقد قيل: اجتهدوا في ستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الاسلام.

كيف يسوغ لمسلم أن يتشاغل بالبحث عن العيوب ورجم الناس بها ؟ بل لعله قد يخفي ما يعلم من صالح القول والعمل.

هل وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس ويتتبع عثراتهم، ويعمى أن يرى حسناتهم، وكأنه لا يعرف و لا يرى إلا كفة السيئات؟ أليس في عيوبه ما يشغله عن عيوب الناس ؟!.

أيها المؤمنون: إن المسلم الناصح شفوق بإخوانه، رفيق بهم، يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه، ويجتهد لهم في النصح كما يجتهد لنفسه.

أما الفظ القاسي صاحب القلب الغليظ.. فقد قضت سنة الله.. نفرة الناس منه، فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم [آل عمران:159].

وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه، ويكظم غيظه، ويملك لسانه تعظم منزلته عند الله وعند الناس.

وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات، ويقيل من العثرات.. تدوم مودته ويأنس الناس به. إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم. يسعهم منكم بسط المحيا وطلاقة الوجه.

إن المخلص في المودة الصادق في المحبة لا يري لنفسه فضلا على غيره، ولا يكون عونا للشيطان على صاحبه. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه مر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب –أي في بئر- ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.

فاتقوا الله رحمكم الله وأجلوا أقرانكم، واحترموا زملاءكم وارحموا إخوانكم. واعرفوا لأهل الفضل فضلهم، وغضوا عن المقصرين، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وتودد إليها. فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [فصلت:34-36].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله جعل لكل شيء قدرا، وأحاط بكل شيء خبرا، وأسبل على خلقه بلطفه رحمة وسترا. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن القسوة في القلوب، والغلظ في الأخلاق قد تكون في الإنسان دليلا على نقص كبير، كما أنها في تاريخ الأمم قد تكون علائم فساد خطير. فلا عجب أن قد حذر منها القرآن الكريم واعتبرها علة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم يقول سبحانه: ألم يأن للذين ءامنوا آن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد:16].

أما إذا زاد الإيمان في القلب وعمرت النفس بذكر الله.. ازدادت السماحة وازداد الحلم، واتسع الصدر للناس، فلا يقابل الجاهل بمثل جهله ولكنه قول سلام وإعراض عن اللغو: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [القصص:55].

فاتقوا الله ربكم وخذوا بأحسن الأخلاق، وأخلصوا في القول والعمل، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.

__________

(1) أخرجه البخاري (6/593-ح3477)، وابن حبان في صحيحه انظر الاحسان (3/254-ح973)، والطبراني في الكبير (6/120-ح5694) وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح انظر المجمع (6/117) وله شاهد من حديث ابن مسعود عند احمد (1/380،427).

(2) ii]) أخرجه مسلم (4/2007-ح9952).

(3) iii])لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله.

(4) iv]) أخرجه البخاري (10/541-ح6128)، ومسلم (1/236،237-ح284،285).

(5) أخرجه البخاري (10/452-ح6010)، وأبو داود (1/103-ح380)، والترمذي (1/276-ح147).

(1/25)

تحريم التشبه

-----------------------

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

اللباس والزينة, الولاء والبراء

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 – خطر التشبه بأعداء الإسلام 2 – التشبه يؤدي إلى المحبة والألفة 3 – الإحتفال بالأعياد المحدثة 4 – صور في التشبه بالكفار 5 – التخنث في الإعلام

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون:

اتقوا الله تعالى، واعلموا أنه لا عز لنا ولا فلاح ولا نجاح إلا باتباع صراط الله المستقيم.

قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153].

واتباع الرسول فيما جاء به هو الوسيلة إلى الوصول إلى الصراط المستقيم، الذي لا يزيغ عنه إلا هالك مريض.

عباد الله!

لقد انتشر في زماننا هذا أمراض غريبة، جرف سيلها أكثر الناس، لا أقول: إنها أمراض جسمية؛ فتلك أخف، بل هي أمراض فكرية، والأمراض الفكرية أشد فتكاً من الأمراض الجسمية.

ألا وإن من تلك الأمراض: مرض التشبه بأعداء الإسلام.

والتشبه بالأعداء محرم؛ فعن ابن عمر، عن النبي ؛ أنه قال: ((من تشبه بقوم؛ فهو منهم)) (1).

فالتشبه بالكفار تنكر للإسلام، واستبدال لتعاليمه بغيره، وكفى بذلك إثماً.

فالمسلم الذي يتشبه بالكفار بأي نوع من أنواع التشبه الظاهر في لباسه أو عاداته أو حركاته؛ فإن ذلك يدل على أن لديه شعوراً باطنياً بمودة من يتشبه به؛ فإن التشبه إنما يصور عن إعجاب وإحساس بتفوق الآخرين عليه.

قال ابن القيم رحمه الله: (لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب أو نحو ذلك؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً ما لا يألفون غيرهم، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة؛ فكيف بالمشابهة في أمور دينية! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة تنافي الإيمان).

والنهي عن التشبه بالكفار يعم كل ما هو من سمات الكفار؛ فالمسلم منهي عن التشبه بما عليه الأمم الأخرى من حوله من عبادات وأعمال وعادات ضارة وأخلاق فاسدة.

ومما نهي عنه التشبه بالكفار في أعيادهم، ومسألة الأعياد والاحتفالات البدعية من أشد وأخطر ما تساهل فيه المسلمون بعد القرون الفاضلة؛ فقد سارع كثير منهم إلى التشبه بالأمم الأخرى في أعيادها واحتفالاتها، فأحدث بعضهم بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وتلك الأعياد الوطنية والقومية التي تزداد يوماً بعد يوم بين المسلمين، وغيرها من الأغلال والآصار التي ابتليت بها الأمة الإسلامية، ما أنزل الله بها من سلطان؛ فالله سبحانه وتعالى لم يشرع للمسلمين سوى عيدين، هما عيد الأضحى، وعيد الفطر، ومسألة الأعياد من المسائل الشرعية التعبدية التي لا يجوز الابتداع فيها ولا الزيادة ولا النقص؛ فلا يجوز إحداث أعياد غير ما شرع الله ورسوله.

قال ابن القيم: فكل اجتماع عام يحدثه الناس ويعتادونه في زمن معين أو مكان معين أو هما معاً؛ فإنه عيد، كما أن كل أثر من الآثار القديمة أو الجديدة يحييه الناس ويرتادونه؛ فإنه يكون عيداً، وذلك كأسواق الجاهلية وآثارها وأوثانها؛ فقد كان للناس قبل الإسلام أعياد زمانية ومكانية كثيرة، وكلها حرمها الإسلام وأماتها، وشرع للمسلمين عيدين فقط.

فإذا عرفنا ذلك وعرفنا أن ما شاع بين المسلمين من أعياد واحتفالات لم يكن يفعله الرسول بل نهى عنه، ولم يكن الصحابة ولا التابعون يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون ويحذرون من الوقوع فيه؛ فهذا يكفي للحكم على هذه الأعياد والاحتفالات المحدثة بأنها دسيسة من دسائس المبطلين، وغفلة وجهل من أكثر المسلمين، مهما بررها الناس ورضوها والتمسوا لها الفتاوى والتأويلات التي لا تستند إلى كتاب الله ولا سنة رسوله أصلاً، وكل أمر لم يعهد في عصر الصحابة والقرون المفضلة؛ فإنما قام على الباطل، ويقال لمن فعله أو أحله: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [النمل:64]. ولن يجدوا إلا قول من سبقوهم: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون [الزخرف:22].

فالأعياد والاحتفالات البدعية من شرائع الكفار؛ فلا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بما هو من خصائص الكفار وشعائرهم الباطلة؛ فهي إما مبتدعة في دينهم أصلا، وإما منسوخة بالإسلام.

وإذا فعل المسلمون القليل من الأعياد المبتدعة؛ فسيؤدي ذلك إلى فعل الكثير؛ لأن هذا أمر لا ضابط له إلا الشرع، ومن ثم تكثر الأعياد وتشغل المسلمين عن عبادتهم وعن أمور معاشهم ومصالحهم وهذا ما حدث فعلاً؛ فمعظم بلاد المسلمين لهم احتفالات وأعياد؛ فعيد لميلاد الرسول، وآخر لميلاد الرئيس أو اعتلائه على العرش، وثالث للوطن، ورابع للاستقلال، وسادس للمرأة، وسابع للطفل، وثامن للأم، وتاسع للربيع، وعاشر للنصر.

وهكذا إلى ما لا يحصى من الأعياد التي أولها قطر و آخرها طوفان، ويضاف إلى ذلك ما تستنزفه هذه الأعياد من الأموال والجهود والطاقات والأوقات التي تضيع هدراً على المسلمين!!

فهل يفطن أولئك الذين لا يزالوا يبيحون للمسلمين مثل هذه الأعياد ويشرعونها لهم ويوهمون بأن الإسلام لم يحرم هذا؟ فإذا كانت عميت أبصارهم وبصائرهم عن الدليل؛ فهل عميت عن الواقع؟! لكن؛ من لم يجعل الله له نوراً؛ فما له من نور.

ومن التشبه كذلك ما أحدثه الناس اليوم من أخلاق الجاهلية المذمومة وسماتها وأعرافها وتقاليدها وآثارها ونحو ذلك؛ مما يحاول الذين يقدسون الأوطان ونحوهم إحياءه ونشره بين المسلمين، تحت شعارات الأصالة والقومية والوطنية، وإحياء التراث، والتغني بالأمجاد، والفخر بالآثار ونحو ذلك من الشعارات التي لا مستند لها من كتاب الله وسنة رسوله ، كل هذا يدخل في النهي عن سنن الجاهلية المذمومة شرعاً، وإن ألبسوه لباس التقدم والمدنية.

وقسم آخر من التشبه، وهو التشبه بالشيطان؛ فقد ورد النهي عن التشبه بالشيطان وأحواله وأعماله؛ مثل الأكل بالشمال والشرب بها؛ فإن هذا من عمل الشيطان، ونحن منهيون عن كل ما هو من عمل الشيطان وإذا كان التشبه بالشيطان منهي عنه؛ فإن كل ما هو من خصال المتبعين للشيطان والغاوين من الفساق والمجرمين والظلمة ونحوهم يكون منهياً عنه، وذلك بحكم اتباعهم للشيطان ونحن نهينا عما هو من سبيل الشيطان وعمله.

فيجب على المسلم المتمسك بدينه أن يتجنب كل ما هو من شعارات هؤلاء، وأن يحذر من معاشرتهم، ويبتعد عن أماكن تجمعاتهم؛ لأنها مواطن شبهة.

ومن شعارات هؤلاء في عصرنا الألبسة الضيقة والطويلة، والتختم بالذهب، وحلق اللحى، وإسبال الثياب، وحمل الصور، واصطحاب الكلاب، والتدخين، والتعلق بالفن الساقط والطرب، وغير ذلك مما هو معروف في كل بلد من بلاد المسلمين؛ كما أن لهم سمات وملابس ومراكب ومجمعات يعرفها الناس في كل بيئة بحسب ما فيها من أعراف وعادات.

فيلزم كل مسلم أن يتجنب كل ما هو من خصائص هؤلاء الفساق، وأن تكون له شخصيته المميزة التي تلتزم بالآداب الشرعية، وأن لا يختلط بهذه الأصناف إلا بقدر الضرورة؛ كأن يريد دعوتهم للحق، وإنكار ما هم عليه من منكر، وأمرهم بالمعروف، واستصلاحهم، أو تضطره المعايشة لبيع وشراء ونحوه؛ بشرط أن لا يكون له معهم عشرة وود.

ومن أنواع التشبه بالكفار ما ابتلي به كثير من نساء المسلمين من التشبه بالكافرات في لباسهن وسمتهن، فيلبسن ثياباً لا تسترهن: إما لقصرها بحيث تظهر السيقان والأذرع والأعضاء والنحور والصدور، أو ثياباً ضيقة تصف حجم الجسم وتقاطيعه وتظهر مفاتنه، يضاف إلى ذلك التساهل عند كثير من النساء في كشف الوجوه أو سترها بساتر شفاف لا يخفي لونها ولا يستر جلدها، وكذلك ما يفعلن برؤوسهن من جمع شعورهن وربطها من فوق متدلية إلى القفا، يفعلن هذا تحت سمع وبصر الرجال الذين أمروا بأن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً، ولكنهم لم يعبؤا بهذه الأمانة التي سيسألون عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون.

وقد ثبت عن النبي ؛ أنه قال: ((صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا))(2).

عباد الله!

وبالرغم من أن عصرنا هذا من أسوأ العصور؛ فقد كثرت فيه البدع، إلا أننا لا نزال نجد طائفة تنكر هذه المبتدعات وتصدع بالحق، وتحذر المسلمين من الوقوع في البدع.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

أيها المسلمون!

اتقوا الله تعالى، وأطيعوه، وراقبوه في جميع تصرفاتكم وأفعالكم، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

واعلموا أن الشارع قد جعل لكل من الرجل والمرأة خصائص تناسبه ومجالاً يدور فيه، وحرم على كل واحد منهما التعدي على مجال الآخر، ومن ذلك أنه حرم تشبه الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل في لباس أو غيره في أي مجال من المجالات، وأكثر ما يحدث هذا في حالات التمثيل في الأندية وغيرها؛ حيث يقوم بعض الشباب بتمثيل دور امرأة في مسرحية، يلبس ثياب المرأة، ويضع الأصباغ التي تقربه من شكلها.

ومن العجب العجاب أن يقوم رجل فضله الله على المرأة وللرجال عليهن درجة [البقرة:228]. فينزل نفسه مختاراً إلى درجة المرأة؛ ليمثلها في لباسها وهيأتها وكلامها وهذا الشاب نفسه؛ لو قيل له: يا شبيه المرأة! لاستشاط غضبا، ورأى ذلك مسبة له!! فانظروا إلى هذا التناقض يغضب من قول يشبهه بالمرأة، ويراه مسبة له، ثم يحقق بنفسه تلك المشابهة، والفعل أبلغ من القول، ومن ثم، فإن المشاهدين لهذا الشخص سيسخرون منه.

فيا شباب الإسلام!

إن تمثيل الرجل لدور المرأة لن يحل مشكلة، وإصلاح المجتمع لا يكون بمثل هذه الطرق المحرمة؛ فالطرق المحرمة فاسدة بنفسها.

وهذا العمل أيضاً خطير من الناحية الشرعية؛ فقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال))(3).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: ((لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)).

ويدخل في هذا من فعل هذا الفعل من النساء والرجال، ولو لحظة؛ فإن بعض النساء حينما تكون في مناسبة، تتقمص شخصية رجل، وتلبس لباسه؛ لتضحك الحاضرات؛ فهي داخلة تحت هذا الوعيد.

واللعن هو الطرد والإبعاد عن مواقع الرحمة، وما أعظم خطره! فمن طرد وأبعد عن رحمة ربه؛ فهو خاسر في الدنيا وفي الآخرة.

قال عمر بن عبد العزيز: لقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض.

فاتق الله أيها الشاب في نفسك، واترك كل ما لا يليق بشهامة الرجال، ولا تشغل نفسك بما يضرك في دينك ودنياك، ولا يغرنك رفاق السوء الذين يزينون المعصية من جنود الشيطان، ولا تغرنك الحياة الدنيا فبعد الشباب هرم قريب أو موت أقرب، وبعد الموت بعث وجزاء، ثم تجد ما قدمت يداك: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

__________

(1) رواه أبو داود .

(2) رواه مسلم.

(3) أخرجه أبو داود في ( كتاب اللباس ، باب لبس النساء ) ، وإسناده حسن .

(1/26)

الابتلاء في الدنيا

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

أخلاق عامة, الفتن

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

خطورة اليأس والقنوط – وطبيعة الحياة الدنيا – المخرج من الأزمات يكون بالإيمان بالله والتوكل عليه وحسن الصبر – فضل الصبر وعاقبته , وخطورة الجزع وعاقبته - ضعف اليقين والثقة بالله سبب الجزع والقنوط

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: شر ما منيت به النفوس يأسٌ يميت القلوب، وقنوطٌ تظلم به الدنيا وتتحطم معه الآمال.

إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحناً وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع. كم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوامٍ. يشكو علة وسقماً، أو حاجة وفقراً. متبرمٌ من زوجه وولده، لوامٌ لأهله وعشيرته. ترى من كسدت تجارته وبارت صناعته، وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه.

إن من العجائب أيها المؤمنون: أن ترى أشباه الرجال قد أتخمت بطونها شبعاً ورياً، وترى أولي عزمٍ ينامون على الطوى(1)[1]. إن فيها من يتعاظم ويتعالى حتى يتطاول على مقام الربوبية والألوهية، وفيها من يستشهدون دفاعاً عن الحق وأهل الحق.

تلك هي الدنيا، تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت. شدةٌ ورخاءٌ، وسراءٌ وضراءٌ. دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:23].

تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [الأنبياء:35].

ولكن إذا استحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، فلا مخرج إلا بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وحسن الصبر. ذلك هو النور العاصم من التخبط، وهو الدرع الواقي من اليأس والقنوط.

إن من آمن بالله، وعرف حقيقة دنياه، وطَّن نفسه على احتمال المكاره وواجه الأعباء مهما ثقلت، وحسن ظنه بربه، وأمَّل فيه جميل العواقب وكريم العوائد. كل ذلك بقلبٍ لا تشوبه ريبةٌ، ونفسٍ لا تزعزعها كربةٌ، مستيقناً أن بوادر الصفو لا بد آتيةٌ: وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [آل عمران:186].

إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل. لا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصبَّارون أولو العزم من الناس. أصحاب الهمم العالية.

((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه))(2)[2] حديثٌ أخرجه الترمذي وغيره، وقال الترمذي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما والطبراني في الكبير والأوسط من معاجمه عن رسول الله قال: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده ثم صبر على ذلك، حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله عزَّ وجلَّ))(3)[3].

أيها المؤمنون: كم من محنة في طيها منحٌ ورحماتٌ. هاهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يضرب المثل في الرضا عن مولاه والصبر على ما يلقاه صبراً جميلاً، بعده صبرٌ أجمل مع الأخذ بالأسباب والقوة في الأمل يقول لأبنائه في حاله الأولى: بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون [يوسف:18].

ثم يقول في الحال الثاني وهو أعظم أملاً، وبربه أكثر تعلقاً بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم [يوسف:83].

كل ذلك من هذا الشيخ الكبير صاحب القلب الوجيع، ثم يقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون [يوسف:86].

ويقينه وقوة رجائه أن أمر أبناءه: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87].

إن المؤمن الواثق لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان، وإن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد.

أما الإنسان الجزوع فإن له من سوء الطبع ما ينفره من الصبر، ويضيِّق عليه مسالك الفرج إذا نزلت به نازلةٌ أو حلت به كارثةٌ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وتعجَّل في الخروج متعلقاً بما لا يضرُّه ولا ينفعه.

إن ضعف اليقين عند هؤلاء يصدهم عن الحق ويضلهم عن الجادة، فيخضعون ويذلون لغير ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب، يتملقون العبيد ويتقلبون في أنواع الملق ويكيلون من المديح والثناء ما يعلمون من أنفسهم أنهم فيه كذَبةٌ أفَّاكون، بل قد يرقى بهم تملقهم المقيت أن يطعنوا في الآخرين ويقعوا في البرآء من المسلمين. إن أي مخلوق مهما بلغ من عزٍّ أو منزلة فلن يستطيع قطع رزقٍ، أو ردَّ مقدورٍ، أو انتقاصاً من أجلٍ: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [الروم:40].

وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمَّهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا تردُّه كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط))(4)[4].

إن من فقد الثقة بربه اضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وضاقت عليه المسالك، وعجز عن تحمُّل الشدائد، فلا ينظر إلا إلى مستقبل أسود، ولا يترقب إلا الأمل المظلم.

أيها الإخوة في الله: هذه هي حال الدنيا، وذلك هو مسلك الفريقين، فعلام الطمع والهلع؟ ولماذا الضجر والجزع؟!.

أيها المسلم: لا تتعلق بما لا يمكن الوصول إليه، ولا تحتقر من أظهر الله فضلك عليه، واستيقن أن الله هو العالم بشؤون خلقه، يعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء. يخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، هو أغنى وأقنى، وهو أضحك وأبكى، وهو أمات وأحيا.

إن المؤمن لا تُبطره نعمةٌ، ولا تُجزعه شدةٌ.

((إن أمر المؤمن كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا لمؤمنٍ))(5)[5] ، بهذا صحَّ الخبر عن المصطفى .

فاتقوا الله يرحمكم الله واصبروا، واثبتوا، وأمِّلوا، واكلفوا من العمل ما تطيقون، ولا تطغينَّكم الصحة والثراء، والعزة والرخاء، ولا تضعفنَّكم الأحداث والشدائد ففرج الله آتٍ ورحمتُه قريبٌ من المحسنين.

اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى. وأحسن اللهم عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [فاطر 2-3].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله جعل لكل شيءٍ قدراً، وأحاط بكل شيءٍ خبراً، أحمده سبحانه وأشكره، فنعمه علينا تترى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله خُص بالمعجزات الكبرى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا ((أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط))(6)[1]، ((وإذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرَّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة))(7)[2]. بهذا جاءت الأخبار عن المصطفى المختار .

الابتلاءات في هذه الدنيا مكفراتٌ للذنوب، حاطةٌ للخطايا، تقتضي معرفتها الإنابة إلى الله، والإعراض عن خلقه. وهي رحمةٌ وهدى وصلواتٌ من المولى الكريم: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:157].

فاتقوا الله ربكم وأحسنوا الظنَّ به، وأمِّلوا فيما عنده، واعملوا صالحاً، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير.

__________

(1) الطوى: الجوع.

(2) أخرجه الترمذي (4/520-ح2398)، والنسائي في الكبرى (4/352-ح7481)، وابن ماجه (2/1334-ح4023)، وأحمد (1/172، 174).

(3) أخرجه أبو داود (3/183-ح3090)، وأحمد (5/272)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/374)، والطبراني في الكبير (22/318-ح801)، وأبو يعلى في مسنده (10/482،483-ح6095)، وابن حبان في صحيحه .انظر الإحسان (7/169-ح2908).

(4) حلية الأولياء لأبي نعيم (5/106) وإسناده ساقط : فيه محمد بن مروان السدي متهم بالوضع.

(5) أخرجه مسلم (4/2995-ح2999).

(6) أخرجه الترمذي (4/519-ح2396)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه (2/1338-ح4031)، وأحمد (5/427).

(7) أخرجه الترمذي (4/519-ح2396)، وقال: حديث حسن غريب.

(1/27)

تطبيق الحدود

-----------------------

فقه

الحدود

-----------------------

صالح الونيان

بريدة

جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1 – دور كل فرد في المحافظة على أمن وطمأنينة الأمة 2 – حال المجتمعات التي تركت شريعة الله 3 – دعوى منظمات حقوق الإنسان ضد الحدود الشرعية 4 – الحكمة من مشروعية الرجم 5 – تشريعات الإسلام المتكاتفة لإبعاد المجتمع من الرذيلة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: عباد الله!

اتقوا الله تعالى، وأطيعوه، واعلموا أن العدل، والمساواة، والتعاطف بين الناس، وإيقاف الظالم عند حده، والمحافظة على حق الضعيف، واستتباب الأمن، وحصول الاستقرار والطمأنينة، لا يحصل ولا يتصور أن يحصل على وجه، مهما بلغت الأمة من الرقي والتقدم في الحضارة والمدنية أو التنظيم، ومهما سما بها اقتصادها أو مجتمعها، ما لم تطبق التعاليم السماوية التى أنزلها الله ودعانا إليها.

قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون [الأنفال:24].

ومما دعانا الله ورسوله له: أن نقيم حدوده في الأرض ونطبقها على الناس.

فلقد شرع الله سبحانه وتعالى الحدود لحكم عظيمة ومنافع جمة غفيرة، ينعم بجناها المجتمع الإنساني، ويتفيأ ظلالها، وتعود عليه بالأمن والاستقرار والراحة والهناء والاطمئنان، فيعيش المرء أمنا في سربه، مرتاح الضمير، روحه مصونة فلا تزهق، ودمه محقون فلا يراق، ونسبه كريم صاف فلا يلوث ولا يعتدى عليه، وعرضة سليم فلا يقذف ولا يوصم به، وأمواله محفوظة فلا تصل إليها يد خائن مجرم ولا تمتد إليها يد سارق جشع اتخذ النهب حرفة، وعقله باق على جبلته التى ميزه الله بها، فلا يزيل نعمة الله عليه بالسكر، ودينه ثابت مستقيم قوي صلب لا تلعب به الأهواء ولا تزعزعه العواطف فتجده مذبذباً متردداً يسير على غير هدى ويخبط خبط عشواء، ولهذا جعل الشارع عقوبة المرتد القتل ((من بدل دينة فاقتلوه))(1).

فما دامت هذه فوائد الحدود، فهنيئا للذين يطبقون حدود الله في الأرض، حياة مستقرة سعيدة في الدنيا، وأجر ومغفرة من الله في الآخرة.

وبالمقابل، فما من أمة ضيعت أمر الله وحدوده إلا شاع فيها الذعر والفزع والاضطراب، وقل خيرها، وذهبت بركتها، وضاقت أرزاق أهلها، وكثرت فيها الأزمات والقلاقل.

ومصداق هذا من كتاب الله قوله تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً [الجن:16]. وقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض .

والواقع خير شاهد ودليل.

فانظروا إلى أولئك الذين استبدلوا بشريعة الله قوانين الكفر والضلال، كيف وصل حالهم؟! كيف فتكت الجرائم بمجتمعهم، فنشأ عن عدم تطبيق الحدود اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله؟! والله يغار أن تنتهك محارمه أو يعتدى على حماه، ولا أحد أغير من الله ومن يجترئ على حدود الله، يصير معاديا له ومحاداً لرسوله، ومن حاد الله ورسوله، وقع في إسار الذلة والهوان، إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين .

وباجتراء الناس على محارم الله وإمساك الأمة عن إقامة الحدود والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، تلحقهم اللعنة، كما لحقت بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.

وكذلك تكون الأمة من عنصرين: عصاة متمردون، وضعاف خائفون، لا يأمرون بخير ولا ينهون عن شر، وأي أمة تتألف من هذين الفريقين، لا يرجى لها فلاح، ولا يتحقق لها احترام ولا تقدير.

ونتيجة ذلك وقوع الأزمات الطاحنة والكوارث المدمرة والحروب بين الجماعات والطوائف.

وقد ينخدع بعض الناس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة وهم غافلون فيرون بعض العصاة أو الكفار في بحبوحة من الدنيا ورغد من العيش وقوة ومنعة، ولو أنهم أمعنوا النظر وأعملوا الفكر لأدركوا أن ذلك متاع ظاهري، مقرون بالقلق النفسي من ناحية، ومهدد بالزوال والتدمير من ناحية ثانية، ومتبوع بالعقاب والسخط الإلهي من ناحية ثالثة لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [الأعراف:96].

عباد الله!

إن إقامة الحدود الشرعية، وتطهير المجتمع من بذور الإجرام، قد أثار حقد أعوان الشيطان من القانونيين الكفرة، فبدؤوا يلقون الشبه حول تطبيق القوانين الوضعية، التى شقي بها معظم المجتمعات، فهم يريدون أن يعم الشقاء حيث زعموا أن إقامة الحدود ضربا عنيفا من القسوة العاتية التى تتنافى مع الإنسانية الرحيمة ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس والتي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية المهذبة!! إلى آخر ما قالوا من هذه العبارات الجوفاء الخاوية ونقول لهؤلاء: نعم إن في إقامة الحدود مظهرا من مظاهر الشدة التى تسمونها قسوة، ولا بد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر شدة أيا كانت وإذا لم تشتمل العقوبة على شيء من الشدة فأي أثر لها في الزجر والردع؟!

ثم، أسأل عقول هؤلاء – إن كانت لهم عقول -: ما الذي حمل على هذه القسوة في نظركم؟ وما الذي دفع القاضي أن يحكم بهذه القسوة؟

إن الذي دعا إلى هذا هو شيء أشد منه قسوة، ولو تركنا هذه العقوبة القاسية – فيما تزعمون، لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة وأقسى من موجبها، فمن الرحمة والشفقة أن تقيم الحد، ففيه رحمة بالمحدود، وبمن اعتدى عليه ألا ترون الطبيب الماهر الذي يستأصل بمبضعه جزء حيا من جسم أخيه الإنسان، أليست عملية البتر وضرب المبضع في اللحم الحي مظهرا من مظاهر القسوة؟ وهل يستطيع أن يمارس هذه العملية إلا قلب قوي يعد في نظركم أيها المترفون قلبا قاسيا؟! ولكنها – لو تعلمون – قسوة هي الرحمة بعينها، وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها.

فحرصا على سلامة المجتمع من سرطان الجريمة كان من الحزم الواجب استئصال العضو المريض الذي لا يرجى من بقائه إلا الفساد والإفساد.

فذا العضو الفاسد أغلق قلبه، فلم يقبل نصحا، وألغى إنسانيته فلم يعرف رحمة ولا شفقة، فكان الجزاء من جنس العمل جزاء وفاقا [النبأ:26]. من يعمل سوء يجز به [النساء:123].

فالقائلون بهذا القول نظروا إلى الحدود بعين واحدة، نظروا إلى الحدود ولم ينظروا إلى الجرائم، ينظرون إلى المجرم نظرة العطف ولا ينظرون إلى الضحايا نفس النظرة، والمجرم في الحد قد يكون واحدا، وقد تكون الضحية أكثر من واحد.

إن المجرم بمقارفته الحد يتحدى المجتمع كله، فكيف يصبر عليه؟! وكيف يعفو عنه؟!

ومن هذه الشبهة المتقدمة أنبت الشيطان وجنده شبهة ثانية، فقالوا: ولماذا كان القتل في حد المحصن رجما بالحجارة، أليس ذلك تحقيرا للإنسانية وازدراء لها؟! أليس هناك وسائل للقتل أرحم وأحسن وأسرع؟! فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة وأي إحسان في القتل بالرجم ؟! أليس الصعق مثلا أو الشنق أخف على المحدود؟! ونحن نقول لهؤلاء: على رسلكم أيها الرحماء – كما تزعمون -! إن هذا قتل لا يراد منه الإزهاق الروحي وكفى، وإنما المراد من هذا القتل الزجر والردع عن مقارفة الجريمة الشنعاء، فليكن القتل بطريقة تليق بمن اقترف هذا الإثم المستقذر البشع ومن الحكمة في حد المحصن أن يكون الرجم بالحجارة، ليتألم جميع بدنه كما تلذذ بشهوة الزنى، جزاء وفاقا فالذي فرض العقوبة وقدرها وبين كيف تكون، إنما هو العليم الخبير، الذى يعلم خبايا النفس البشرية، والله يعلم المفسد من المصلح .

ومن ثم أتى الشيطان وجنوده بشبهة أخرى وهى أن إقامة الحد تقتضي إزهاق الأرواح وتقطيع الأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيرا من الطاقات والقوى وينتشر فيها المشوهون والمقطعون الذين كانوا يسهمون في النتاج والعمل.

ونحن نقول لجنود إبليس: إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيقة محصورة، ولمن؟! إنه إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطل العمل والإنتاج وتضيع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم، مع ملاحظة أن إقامة الحدود إبقاء لآلاف الأطراف سليمة طاهرة عامله منتجة فالله تعالى يقول: ولكم في القصاص حياة [البقرة:179]. حيث إنه ليس انتقاما ولا إرواء للأحقاد، وإنما هو حياة، حيث يكف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء، فالذى يوقن أنه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد فالله جعل لهذه الحدود مصلحة ومنفعة، فهو العليم الخبير الحكيم، الذي يضع كل شيء في موضعه الطبيعي.

ولقد أورد إبليس وجنوده شبه أخرى حيث قالوا: إن إقامة الحدود تقهقر بالإنسانية الراقية ورجعة إلى عهد الظلام الدامس والقرون الوسطى!! وهل يستسيغ عاقل متمدن عاش في القرن العشرين الميلادى!! وفى المدن الراقية مثل لندن ومثل باريس ونحوها!! أن يأخذ بقانون نشأ بين جبال وأحراش الجزيرة وجلاميد الصحراء؟

كبرت كلمة تخرج من أفواهم إن يقولون إلا كذبا [الكهف:5]. قاتلهم الله أنى يؤفكون.

فهذه الشبهة زائفة، تحمل كفنها بين يديها، فنقول لهؤلاء: إن المعدن الأصيل لا يفقد ميزاته بالقدم، بل إن القدم مع الأصالة يشكلان أسباب نفاسته، شريعة الله مع قدمها لها هذه الأصالة، فلها من الثبات ما عجزت عنه تلك الأحكام التي يحتكمون إليها التي لا ترتكز على الجدة والقدم، فكم من قديم أسمى من جديد، وإنما الميزان هو النفع والضر، والطيب والخبيث وما أكثر الشبه!!

ولكن الله لا يصلح عمل المفسدين، فهم كناطح صخرة يوما ليوهنا.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

__________

(1) الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق رحمة للعاملين وحجة على المعرضين المعاندين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

أما بعد:

فيا عباد الله!

الحدود هى الحصن المنيع الذى يمنع من تحدثه نفسه بانتهاك السياج الذي يقي المجموعة الإسلامية بالسطو والجرأة على حرمات المسلم بالاستهتار بقتله أو حرمانه من حقه المشروع كسرقة ماله أو السطو على عرضه.

وإني أسأل الجميع لو لم تطبق الحدود أيأمن الواحد منا على عرض؟ أيأمن على نفس؟ أيأمن على مال؟ أيسير في الطريق آمنا؟! أيسافر آمنا؟!

فإقامة الحدود والأخذ بها شريعة مفروضة شرعها الإسلام لا يسمح بالأخلال بها أو التهاون في إقامتها أو التسامح وعدم العدل في إنزالها بالناس على حد سواء بحيث تنزل بالأمير والصعلوك والرجل والأنثى والحر والعبد والشريف والحسيب ومن كان من الدهماء وفي الإعراض عن إقامتها فساد في الأرض وجناية على المجتمع وسلب للأمن.

وينبغي أن يكون شعارنا قول رسول الله عندما شفع حبه أسامة بن زيد رضي الله عنه في المخزومية التي سرقت فقطع النبى يدها حيث قال: ((أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ولم يقيموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))(1).

عباد الله: لنعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أحاط المجتمع بسياج منيع وأغلق عليه منافذ الجريمة.

ففي الزنى مثلاً حرم الله كل وسيلة مقربة إليه ولا تقربوا الزنى فقد حرم الغناء وهو من الوسائل المساعدة على الزنى وحرم الله النظر إلى المرأة الأجنبية قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [الإسراء:32]. وقال : ((لك الأولى وليست لك الثانية)).

وهذا في نظر الفجأة ثم حرم كل ما من شأنه أن يثير شهوة الرجل أو المرأة على حد سواء من أفلام خليعة وغيرها فالإسلام أحاط المجتمع بسياج منيع من الأمور الوقائية حتى لا يقع الناس في جريمة الزنى.

فلننظر يا عباد الله في واقعنا: هل نحن أقمنا هذا السياج أم هتكناه فما من أمة تغفل عنه فلا تطبقه في المجتمع المسلم إلا كثر فيها الوبا يقول الشاعر:

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له

إياك إياك ان تبتل بالماء

فاحرصوا عباد الله على الوقوف عند حدود الله وتطبيقها والحذر من الوقوع فيها واحرصوا على إبعاد أولادكم ونسائكم عن كل ما من شأنه أن يدعوهم لإقتراف الجريمة فلا تسهلوا لهم المعاصي ولا تجلبوا لهم وسائل الفساد والإفساد واحرصوا على صلاحهم فبصلاحهم يصلح المجتمع بإذن الله وإذا فسدوا انهار البناء.

(1) رواه البخارى ومسلم.

(1/28)

الثبات في المحن ودروس من غزوة ُأحد

-----------------------

سيرة وتاريخ

غزوات

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

26/12/1415

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- البلاء والابتلاء سنة لله في مخلوقاته 2- اختلاف الناس أمام البلاء بين صابر وقانط 3- مصاب النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاء في أحد 4- بلاء الصحابة في سبيل الله في غزوة أحد 5- دروس غزوة أحد

-------------------------

الخطبة الأولى

اخوة الايمان ونحن نقف على نهاية أيام عام هجري يؤذن بالانصراف حري بنا أن نتأمل ونتفكر في أحداثه وعبره، وقد اشتمل على مسرات واحزان وتوفرت فيه الصحة لأقوام وأقعد المرض آخرين، وفيه من شارف على الهلكة ثم متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية واخترمه ريب المنون فيه، قدر ربك الغنى لقوم وأقنى الآخرين، وفيه أضحك ربك وأبكى وأمات وأحيا، وعليه النشأة الأخرى كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس وتشريد آخرين وإيذاء طوائف من المسلمين لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (1)

ايها المسلمون لا غرابة أن يقع هذا وغيره، فما هذه الدار بدار قرار، وليست خلوا من المنغصات والأكدار ويعلم العارفون أن هذه الدنيا لا يدوم على حال لها شأن، وأنها متاع الغرور، وأنها دار امتحان وابتلاء، ويخطئ الذين يغترون بزينتها فيفرحون بما أوتوا وإن كان فيه حتفهم، ويأسون على ما فاتهم وإن كان فواته خيرا لهم.

كذلك يوجه القرآن وما أسعد من يفقه توجيه القرآن: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (2)

إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصرا على جيل دون الآخر وليست خاصة بأمة دون أخرى بل هى عامة في الأولين والآخرين من بني الانسان وتشمل الصالحين والصالحات قال الله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد (3)

وقال تعالى: نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون

ولكن الذى يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا ونكدها فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة والرضى والتسليم بأقدار الله الجارية مع بذل الجهد في تحصيل الخير وتحقيق العدل ودفع المكروه والشر ورفع الظلم في الأرض فان سواهم يضيق به الصدر وتنقطع أوصاله بالحزن والقلق، ويصاب بالضيق والاحباط، وربما أودى بحياته تخلصا مما هو فيه، فانتقل إلى نكد مؤبد وإلى عذاب دائم ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .

إخوة الايمان: واقرؤوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، وستجدون أنهم نالوا من المصائب والمحن ما نالهم، ومنهم أزكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين وأنقاها، كل ذلك حتى يمتحن المؤمنون ويعلم الله الصابرين ويكشف زيف المنافقين وحتى يعلم هؤلاء وتعلم الأمة من ورائهم قيمة الثبات على الحق والصبر على الشدائد حتى يأذن الله بالنصر والفرج.

واذا كان الناس في حال الرخاء يتظاهرون بالصلاح والتقى ففي زمن الشدائد يميز الله الخبيث من الطيب ويثبت الله المؤمنين ويلقي الروع في قلوب آخرين.

قفوا، معاشر المسلمين عند غزوة احد واقرؤا بشأنها قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين وقوله: إذ تصعدون ولا تلووون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لاما أصابكم والله خبير بما تعملون

وقوله: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا الآية.

ولقد كانت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها تدرك هول المعركة وشدتها على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهى تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟

والواقع يشهد أن المسلمين حين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واختل ميزان المعركه أسقط في أيديهم وتساقط الشهداء منهم في ميدان المعركة، وفقدوا اتصالهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قتل، وفر من فر منهم، وأصابت الحيرة عددا منهم وآثر آخرون الموت على الحياة وخلص المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم عن وجهه وكان علي رضى الله عنه يسكب عليها الماء بالمجن، ولم يستمسك الدم حتى أحرقوا حصيرا، فلما كان رمادا ألصقوه بالجرح فاستمسك الدم كما في الحديث المتفق على صحته(4)

وفى هذه الأجواء الصعبة يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وينادي في المسلمين: ((إليّ عباد الله)) قال تعالى إذ تصعدون و لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم (5)

وفى ظل هذه الظروف العصيبة يتنادى المسلمون وتثبت طائفة من شجعان المؤمنين وتقاتل قتال الابطال دفاعا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخلص بعض المشركين الى النبي صلى الله عليه وسلم هو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فيقول عليه الصلاة والسلام: ((من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ فقاتلوا عنه واحدا واحداً حتى استشهدوا الأنصار السبعة(6) ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قاتل قتالا مشهورا حتى شلت يديه بسهم أصابهم(7) وقاتل سعد بن ابى وقاص رضي الله عنه وهو من مشاهير الرماة بين يدي الرسول صلى الله عليه سلم وهو يقول له: ارم فداك أبي وأمي))

وهكذا يكون حال المؤمنين حين تعصف بهم المحن: الصبر والثبات والجهاد والتضحية حتى يأذن الله بالنصر أو يفوزوا بالشهادة فينالوا المغنم في الدنيا ويحظون بالدرجات العليا في الآخرة.

وهاك فوق ما سبق نموذجا واعيا للثبات على الإسلام حتى آخر لحظة والوصية بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى آخر رمق، يمثله الصحابي الجليل أنس بن النضر رضي الله عنه الذي كان يحث المسلمين على الجهاد ويقول: (الجنة، ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد)

وعندما انجلت المعركة وجد في جسده بضعاً وثمانين من بين ضربة ورمية، وطعنة لم يعرفه أحد إلا أخته (الربيع) عرفته ببنانه، وحين أرسل النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت ليتفقده وجده وبه رمق، فرد سلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني أجد ريح الجنة وقل لقومي من الأنصار: (لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر طرف ودمعت عيناه)

وهاكم نموذجا آخر تمثله النساء وليست البطولات قصرا على الرجال، فالسمراء بنت قيس يصاب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه حتى إذا رأته وأطمأنت على حياته قالت كلمتها العظيمة: كل مصيبة بعدك جلل (أي صغيرة).

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين يحكم ما يشاء ويختار لا معقب لحكمته ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.

اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين .

أما بعد: فهذه إطلالة على نموذج من المحن والشدائد التى نزلت يوما من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفة عن بعض أحداث غزوة أحد.

ما أحرانا بتأملها والاستفادة من عبرها، ألا ما أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيبا على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين بشكل خاص، وقد نزل حول أحداث غزوة أحد ثمان وخمسون آية من سورة آل عمران ابتدأت بذكر أول مرحلة من مراحل الإعداد لهذه المعركة وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال

وتركت في نهايتها تعليقا جامعا على نتائج المعركة وحكمتها والله يقول: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب

اجل لقد تميز الناس على حقيقتهم في غزوة أحد، فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، واذا كان قد مر معنا خبر طائفة من المؤمنين ثبتت حول النبي صلى الله عليه وسلم تحوطه وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمة طائفة أخرى من المؤمنين حصل منهم ما حصل من تول وفرار واستذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا .. لكن الله عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضا عفا الله عنه كما قال تعالى: إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استذلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم .

فعادت شجاعة الإيمان الى مركزها ونصابها، وكذلك ينبغي أن يكون سلوك المؤمنين إذا وقعوا في الخطأ وذكروا: تذكروا فإذا هم مبصرون، واستغفروا لذنوبهم وعادوا الى قافلة المؤمنين.

أما الذين يستمرءون الخطأ ويصرون على المعاندة وإيذاء المؤمنين مع علمهم بالحق وأهله وبالباطل وجنده، فأولئك في قلوبهم مرض، وسيكشف الله أضغانهم وسيفضحهم في جوف بيوتهم .

إخوة الايمان: أما الطائفة الثالثة التى أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في غزوة أحد فهي طائفة المنافقين.

للإمام ابن القيم رحمه الله كلام جميل في الفصل الذى عقده للحكم والغايات المحمودة التى كانت في وقعة أحد، ومما قاله بشأن المنافقين: ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما اظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخابئهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحذروا منهم. قال تعالى:ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء

أي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الايمان من أهل النفاق _ كما ميزهم بالجنة يوم أحد _ ما كان الله ليطلعكم على الغيب الذى يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعمله، وهو سبحانه يريد تمييزا مشهودا، فيصبح معلوما وشهادة الأمر الذى كان غيبا .. وإن كان الله يجتبي من رسله من يطلعهم على ذلك(8).

إخوة الاسلام: وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلا لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين.

ومن الحكم الجليلة التى ذكرها ابن القيم رحمه الله لهذه الغزوة: استخراج عبودية أوليائه وجذبة في السراء والضراء، فيما يحبون ويكرهون، وفى حال ظفرهم أعدائهم بهم، فاذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون عبيده حقا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والعافية(9)

ومن هذه الحكم: (أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه وغير ذلك من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين ءامنوا منكم ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين

(1/29)

أحكام تتعلق بالمرأة

-----------------------

الأسرة والمجتمع, فقه

الزكاة والصدقة, المرأة

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

7/5/1414

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- شمولية أحكام الإسلام للعقيدة والأخلاق والعبادات ، وتداخل الأوامر بها في النصوص الشرعية. 2- أحكام تتعلق بصلاة المرأة. 3- أحكام للزكاة تتعلق بالرجل والمرأة. 4- زكاة الحلي وإعطاء الزوج من زكاتها. 5- أمر النساء بالاكثار من الصدقة.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون: وأطيعوا الله ورسوله إن كنت مؤمنين، ولا نزال أيها الإخوة في موضوع أخلاق المرأة المسلمة ولقد توقفنا عند قوله تعالى: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله. إلى آخر الآيات فأقول وبالله التوفيق.

فبعد أن أمر الله نساء النبي بالتقوى وعدم الخضوع بالقول والقول بالمعروف والمكث في البيت وعدم الخروج إلا لحاجة وإذا خرجن فلا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى بعد هذا التصحيح في السلوك الاجتماعي والأخلاقي في الحياة وبعد تهذيب النفس بهذه الآداب والفضائل كان لابد من صلة بالله يرتفع بها الفرد على عرف الناس وتقاليد المجتمع وضغط البيئة، ويشعر أنه أهدى وأعلى من الناس والمجتمع والبيئة، وأنه حري به أن يقود الآخرين إلى النور الذي يراه لا أن يقوده الآخرون إلى الظلمات وإلى أخلاق الجاهلية التي تغرق فيها الحياة كلما انحرفت عن طريق الله.

ولهذا كان الإسلام وحدة تجتمع فيه الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم كلها في نطاق العقيدة، ومن ثم كان الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله هو خاتمة التوجيهات الأخلاقية والسلوكية لأهل البيت ولأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة وكل ذلك لحكمة وقصد وهدف، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وهذا التطهير عن الرجس وعن الرذيلة لا يتم إلا بالتزام النساء المؤمنات لهذه الصفات التي أمر الله بها أمهات المؤمنين، والتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذها الناس أنفسهم ويحققونها في واقع الحياة العملي، وهذا هو طريق الإسلام، شعور وتقوى في الضمير وسلوك وعمل في الحياة يتم بهما معا تمام الإسلام وتتحقق بهما أهدافه واتجاهاته في الحياة.

يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية عند قوله: وأقمن الصلاة. . . : إن الله نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين وبالنسبة لقضية الصلاة لنا فيها عدة مسائل:

الأمر الأول: أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر شيئا من بدنها سوى الوجه والكفين حتى الشعر النازل على أذنيها يجب أن تغطيه أيضا ظهور قدميها وبهذا تكون قد سترت عورتها المطلوبة منها في الصلاة وذلك لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة فإن بدا شيء من بدنها بغير قصد في أثناء الصلاة يجب عليها تغطيته وإن طال كشف شيء من عورتها بطلت صلاتها وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار))، وفي لفظ: ((لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر)) وهذان الحديثان يدلان على وجوب تغطية المرأة لرأسها وجميع بدنها في صلاتها ما عدا الوجه والكفان فإذا بلغت وصارت مكلفة فصلّت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها، قال الترمذي: (العمل عليه عند أهل العلم أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من شعرها مكشوف لا تجوز صلاتها) أي أنه ينبغي لها أن تلبس الثوب السابغ الواسع تغطي به بدنها وقدميها ما عدا الوجه والكفان.

الأمر الثاني: إن نابها شيء في الصلاة فإنها لا تسبح بل تصفق.

الأمر الثالث: صلاتها مثل صلاة الرجل لما ورد عن النبي : ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).

الأمر الرابع: أنه لا يصح منها أذان ولا إقامة، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (ليس على النساء أذان ولا إقامة) فلا يجوز للمرأة أن تؤذن ولا يصح أذانها كذلك لا تصح إقامتها إن وجد ذكر بالغ، وإن لم يوجد بأن كانت بين نساء فإقامتها مستحبة.

الأمر الخامس: إمامة المرأة، فلا تصح إمامة المرأة للرجل مطلقا، ولكن تصح إمامة المرأة للنساء وتقف معهن في الصف وكانت أم سلمة تفعله، فلو كانت هناك دار واسعة وبها نساء كثيرات وأراد النسوة أن يصلين صلاة جماعة فيجوز ذلك بشرط ألا تتقدمهن من تصلي بهن بل تقف معهن في الصف ويجوز لها أن تجهر في الصلاة الجهرية إذا كانت بين النساء بحيث لا يسمعها الرجال.

الأمر السادس: حمل المرأة للصغير وهي تصلي، يجوز لها أن تحمل صغيرها إن بكى إن لم يكف عن البكاء إلا بحمله وصلاتها صحيحة وقد ورد ذلك عن النبي : ((أنه صلى وأمامه بنت زينب ابنة النبي على رقبته فإذا ركع وضعها وإذا قام من سجوده أخذها فأعادها إلى رقبته حتى انتهى من صلاته)).

الأمر السابع: يجوز للمرأة أن تذهب إلى المسجد لتصلي فيه إذا أذن لها زوجها ولكن بيتها خير لها كما ورد بذلك الحديث، فإن ذهبت إلى المسجد تخرج غير متبرجة بزينة ولا متعطرة ولا سافرة والحكمة في ذلك كما قال أهل العلم: لئلا تتسبب في إثارة الشهوة عند الرجال بطيبها ورائحتها، فإن أبت إلا أن تخرج متعطرة ومتزينة فإنها عاصية لله ورسوله، فإن دخلت المسجد فأين يكون موقفها من الرجال، فهي لا تقف أمام الرجال ولا قريبا منهم بل تصلي في مؤخرة المسجد وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها))، وإنما كان خيرها آخرها بالنسبة للنساء لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، وكلامنا هذا لا ينطبق على المكان المخصص بالنساء كما في بعض المساجد اليوم التي توجد بها مقصورات خاصة بالنساء وإنما نقصد المساجد التي لا توجد بها المقصورات الخاصة.

فإذا انتهت الصلاة يستحب للمرأة أن تتصرف من المسجد قبل خروج الرجال.

الأمر الثامن: يجوز للمرأة إذا كانت بالمسجد أن تصلي على الجنازة إن كانت هناك جنازة وقد أمرت عائشة أن يؤتى بسعد بن أبي وقاص لتصلي عليه عندما مات.

الأمر التاسع: يجب على المرأة أن تخرج لصلاة العيد سواء كانت بكرا أم ثيباً شابة أم عجوزا صغيرة أو كبيرة حتى الحائض ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة لحديث أم عطية: ((أمرنا رسول الله أن نخرج في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: لتلبسها أختها)) رواه البخاري. العواتق: جمع عاتق وهي التي بلغت الحلم وقاربت التزويج.

الأمر العاشر: المرأة المستحاضة وهي التي يخرج منها دم غير دم الحيض فإنها تتوضأ لكل صلاة وتصلي وإن قطر الدم أثناء صلاتها وصلاتها صحيحة، وتستثفر أي تضع قطنة على فرجها حتى لا تتسخ ولا يتضرر المكان.

المسألة الحادية عشرة: وهي إذا ما حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة فإنها تقضي هذه الصلاة بعد طهرها وكذا لو طهرت قبل خروج الوقت ولو بلحظة فإنه يجب عليها قضاء الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا مما يجب التنبه له.

المسألة الثانية عشرة: أن المرأة لا يجب عليها حضور صلاة الجمعة في المسجد بل تصلي في بيتها ظهرا أربع ركعات قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا جمعة على النساء، ولكن لو حضرت إلى المسجد وصلت الجمعة صحت صلاتها وأجزأتها عن صلاة الظهر.

ولعلنا بهذا قد أتينا على معظم مسائل الصلاة بالنسبة للمرأة هذا من الناحية الفقهية، وأما الحكم بوجوب محافظتها على الصلاة فهي كالرجل غير أنها لا تصلي في حال الحيض ولا تجب عليها صلاة الجماعة في المسجد بل بيتها خير لها.

فإن أصرت المرأة على ترك الصلاة فإنها تكفر لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم وفي رواية: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ويترتب على هذا إن ماتت مصرة على ترك الصلاة أن لا يصلى عليها ولا تدفن في مقابر المسلمين، ويجب على زوجها إن كانت متزوجة أن يفارقها إلا أن تتوب وتصلي، وأيضا لا يحق لها حضانة أولادها إن كانت لا تصلي فانتبهوا لهذا الأمر جيدا وأمروا نساءكم بالمحافظة على الصلاة في وقتها وعدم التفريط فيها فإنكم رعاة لهن وكل راع مسؤول عن رعيته.

المسألة الثالثة عشرة: يجوز للمرأة أن تصلي في ثوب حاضت فيه وإن أصابه شيء من دم حيضها إذا حاولت إزالته وبقي شيء يسير منه فقد روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فقصعته بظفرها) أي دلكته به، وهذا يدل على العفو عن يسير الدم لأن الدم لا يطهر بالريق.

ويجوز للمرضع أن تصلي بثوبها وإن تقيأ عليه الرضيع قال الإمام ابن القيم: (إن المراضع ما زلن من عهد رسول الله وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضع يتقيؤون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها، فلا يغسلن شيئا من ذلك).

المسألة الرابعة عشرة: تكره الصلاة للمرأة وللرجل أيضا في غرفة بها صورة لأي كائن حي ذي روح أما إذا كانت الصورة لغير ذي روح كما لو كانت لأشجار أو أنهار أو مدن فلا أثر لها في صحة الصلاة.

واعلموا أن المرأة المسلمة لا تستطيع أن تتخلق بالأخلاق التي ذكرناها حتى تصلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فالمرأة المصلية هي التي تتقي ربها وتخشاه وتحصن فرجها وتطيع زوجها وتحسن تربية أبنائها وما ذاك إلا لأن الصلاة هي قوام الدين وعماده وركنه الأساسي بعد الشهادتين ولهذا كان الأمر بالصلاة بعد تلك التوجيهات والنصائح لترتبط المرأة بربها وتتصل به في كل يوم وليلة خمس مرات لتزكي نفسها وتطهرها من كل إثم و رجس، فيطمئن قلبها ويستقر حالها، وتخرج من صلاتها وقد ملأ الإيمان قلبها فلا تفكر بحال فيما يغضب الله أو يسخطه وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى .

-------------------------

الخطبة الثانية

أما بعد:

أيها المسلمون: وبعد أن أمر الله عز وجل بالصلاة عقب مباشرة بالزكاة فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام وهي قرينة الصلاة في مواضع كثيرة من كتاب الله، وفي إخراجها إحسان إلى الخلق وتطهير للنفس وتزكية لها وطمأنينة وسكن، فهي تطهر من الذنوب والأخلاق الرذيلة وتزيد في الأخلاق الحسنة، والأعمال الصالحة وتزيد في الثواب الدنيوي والأخروي وتنمي الأموال وتطفيء غضب الرب وتدفع البلاء عن الإنسان وهي تقي الإنسان من نار جهنم كما ورد في الحديث: ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)).

والزكاة نوعان: أحدهما ما يتعلق بالبدن وهي زكاة الفطر وهي واجبة على الكل.

والثاني: ما يتعلق بالمال وهي المواشي والأثمان والزروع وعروض التجارة فكل هذه الأصناف تجب فيها الزكاة إذا مضى عليها الحول ما عدا الزروع فإن وقت زكاتها هو وقت حصادها لقوله تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده والمقصود بالزروع الحبوب التي يقتات الناس بها مما يكال ويدخر كالبر والشعير والذرة وغيرها إذا بلغت خمسة أوسق وهو ما يبلغ زنته ستمائة واثنا عشر كيلو غرام.

والمرأة كالرجل في وجوب الزكاة إذا تحققت شروط وجوب الزكاة وهي: كمال النصاب وتمام الحول وأظن أنه ليس للنساء شيء يختص بهن في الزكاة سوى المال المدخر فإذا حال عليها الحول أي السنة وجب فيه الزكاة وهو ربع العشر، أو الحلي فإن كان غير معد للزينة فهذا يجب فيه الزكاة إذا بلغ النصاب وهو عشرون دينارا والمراد بالدينار الإسلامي الذي يبلغ زنته مثقالا وزنة المثقال أربعة غرامات وربع فيكون نصاب الذهب خمسة وثمانين غراما ما يعادل أحد عشر جنيها سعوديا وثلاثة أرباع الجنيه. وأما نصاب الفضة فهو خمس أواق وهو ما يعاد خمسمائة وخمسة وتسعين غراما وتعادل ستة وخمسين ريالا عربيا من الفضة.

ومقدار الزكاة في الذهب والفضة هو ربع العشر.

وأما حلي المرأة المعد للزينة ففيه خلاف بين أهل العلم في زكاته والأحوط والله أعلم للمرأة أن تخرج زكاته، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل علي رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق (تعني من فضة) فقال لي: ما هذا؟ قلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبك من النار)) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وهو حديث صحيح.

ويجوز للمرأة أن تخرج زكاتها لزوجها إن كان فقيرا محتاجا لحديث أبي سعيد الخدري أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)) رواه البخاري. ومع إخراج المرأة للزكاة فقد حث النبي عليه الصلاة والسلام النساء بكثرة الصدقة وكثرة الإنفاق، والفرق بين الزكاة والصدقة: أن الزكاة فرض على مال الإنسان محاسب على تركها، وأما الصدقة فهي تطوع من الإنسان كعمل من أعمال الخير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير))، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام للنساء بالصدقة ليعلمهن أن في الصدقة تكفيرا لخطاياهن، فبالصدقة تتقي المرأة المسلمة من عذاب الله، فينبغي تنبيه النساء المسلمات لهذا الأمر وحثهن على الإنفاق وليعلمن أن ما ينفقن على الكماليات والزينة والأزياء فيها من الإسراف ما الله به عليم فلو خصصت كل أخت مبلغا من المال للإنفاق في سبيل الله ووجوه الخير لكان خيرا وأعظم أجرا.

ويجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها إن أذن لها أو إذا علمت رضاه وهذا يختلف باختلاف الناس ومما لا شك فيه أن الزوجة تعي تماما معدن زوجها وطبيعته وميوله فإن علمت رضاه جاز لها التصدق، أما إذا علمت غير ذلك فيحرم عليها الإنفاق ولكن يستثنى من ذلك الشيء القليل الذي جرت به العادة وتسمح النفوس دائما بإعطائه ودليل ذلك حديث أسماء رضي الله عنها أنها قالت للنبي : إن الزبير رجل شديد، ويأتيني المسكين فأتصدق عليه من بيته بغير إذنه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أرضحي ولا توعي فيوعي الله عليك)) متفق عليه. ومعنى أرضحي أي: تصدقي بالقليل، ومعنى لا توعي أي: لا تدخري المال فيمنعه الله عنك، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجر بما أنفقت، ولزوجها أجرة بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض)) رواه البخاري.

هذا ما تيسر لي جمعه في هذه المسألة وللحديث بقية نكمله في الجمعة القادمة.

(1/30)

موقف صدق (توبة صحابي)

-----------------------

سيرة وتاريخ

القصص, غزوات

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا , وحديث كعب

-------------------------

الخطبة الأولى

فاتقوا الله عباد الله، وعظموا أمره واجتنبوا نهيه.

أيها الإخوة: إن في الكتب لخبرا، وإن في السر لعبرا، قصةٌ من قصص المصطفى ، موقف صدق من مواقف الصحب البررة. قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين. قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات.. مواقف الصدق والصبر في صحب محمد مثال المتانة في البناء والصفاء في العنصر، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء. إنها قصة الثلاثة الذين خلِّفوا في غزوة تبوك حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.

آياتٌ وأحداثٌ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب. كان الإمام أحمد رحمه الله لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات، وحديث كعب بن مالك في تفصيل أخبارها.

أيها المسلمون: استنفرَ النبي المسلمين لملاقاة بني الأصفر حين بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام. إنها دولة الروم – إحدى أعظم دولتين في زمنها – حين أحسَّت بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقاً من بين جبالها، منطلقاً من صحاراها، فتحت مكة فأخذت الأفواج تلو الأفواج تدخل في دين الله، فتحركت الروم بعسكرها وفكرها ودسائسها.

استنفر النبي الأصحاب، فكان التهيؤ في أيامٍ قائظةٍ، وظروفٍ قاسيةٍ.. في جهدٍ مضنٍ، ونفقاتٍ باهظةٍ. إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة.

وصفها في كتاب الله استغرق آياتٍ طوالاً.. في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين. يجيء المعذرون ليؤذن لهم، ويتولَّى البكاؤون بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.

اسمعوا رحمكم الله إلى الوصف الصادق الدقيق لقصة الخطيئة والتوبة من كعب بن مالك أحد الثلاثة، رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين.

والقصة مثبتة في الصحيحين وغيرهما(1)[1]. يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: ((وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبُّوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ.. فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله. وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصْعَرُ – أي أميل وأرغب – فتجهزَّ رسول الله والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه فأرجع ولم أقضِ شيئاً.. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم فياليتي فعلت)).

أيها الإخوة: ويأخذ الندم من كعب مأخذه، وتبلغ المحاسبة مبلغها فتراه يقول: ((فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله يحزنني أني لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق أو رجلاً ممن عذر الله تعالى في الضعفاء)).

يستمرُّ رضي الله عنه في سرد القصة حتى قال: ((... فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي – أي شدة الحزن – فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل إن رسول الله قد أظلَّ قادماً راح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبداً فأجمعت صدقه)).

وقدم رسول الله وجاءه المخلفون بأعذارهم فقبل منهم، ووكل سرائرهم إلى الله. قال كعبٌ: حتى جئت فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: تعالَ ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ((ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً – أي اشتريت مركوباً؟ -)) قال: قلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أعطيت جدلاً، ولكنني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني ليوشكنَّ الله يُسخطك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه إني لأرجو فيه عقبى الله عزَّ وجلَّ. والله ما كان لي من عذرٍ. والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله : ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)).

ثم جاء إلى كعب رجالٌ من بني قومه يراودونه الاعتذار كما اعتذر المخلفون، قال كعبٌ: فلا زالوا بي حتى هممت أن أرجع فأُكذِّب نفسي عند رسول الله حتى علمت بخبر الرجلين الآخرين مرارة بن الربيع العَمْري وهلال بن أمية الواقفي وهما رجلان صالحان من أهل بدرٍ فيهما أسوةٌ، قال كعب: ((ونهى رسول الله عن كلامنا... فاجتنبَنا الناسُ... حتى تنكَّرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد..)).

وطالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء وضاقت المسالك حتى قصد ابن عمه أبا قتادة في حائطٍ له متسوِّراً عليه الحائط فناشده مكرراً المناشدة: هل تعلمني أحب الله ورسوله فكان الجواب: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينا كعب، ويشتد البلاء فإذا بنبطي من نبط الشام يسأل أهل السوق بالمدينة: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال كعب: ((فطفق الناس يشيرون إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان... فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء فتييمت بها التنور فسجرتها)).

أمة الإسلام: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل. وكم من أقدام في مثل هذا قد زلَّت، وكم من رجالٍ في مثل هذه الأوحال قد انزلقت. أما كعب فيمَّم بها التنور وسجرها، ولا يزال البلاء به رضي الله عنه حتى جاءه رسول الله يأمره باعتزال امرأته.

وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: ((فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت عليَّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت...)) تنزل التوبة وتأتي البشرى، بشرى حسن العقبة، بشرى العودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الخِلَعُ والجوائز.

يقول كعب: ((فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة)). فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمُّك)) فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله عزَّ وجلَّ)).

أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه خرجوا من مدرسة النبوة. صُدُقٌ في الحديث، وصُدُقٌ في الموقف صُبْرٌ عند اللقاء، واعترافٌ بالخطيئة، وقبولٌ في حال الرضا والغضب من غير تنميق عباراتٍ لأجل تلفيق اعتذارات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:117-119].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله فتح باب التوبة للمذنبين، ووعد بحسن العاقبة للصادقين، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلم تنته قصة كعب بعدُ لم تقف عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول. لقد جلس كعب بين يدي رسول الله وقال: يا رسول الله؛ إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) فأمسك سهمه الذي بخيبر. وقال: يا رسول الله؛ إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث أحداً إلا صدقاً ما بقيت. فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي والله ما أنعم الله عليّ نعمة قطُّ بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد. قال الله تعالى: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:95-96].

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، توبوا إلى ربكم واصدقوا، وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.

__________

(1) أخرجه البخاري (7/717-ح4418)، ومسلم (4/2120،2121،2122-ح2769).

(1/31)

الخصلتان الحبيبتان

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

مكارم الأخلاق

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

16/2/1416

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة 2- الحلم صفة الأنبياء 4- صفة الرفق والأناة 5- تبلد الأحاسيس ليس من الحلم والأناة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوه واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وتخلقوا بالأخلاق الفاضلة، وجاهدوا أنفسكم على الاتصاف بالصفات الحميدة فإنها سبيل إلى التقوى وطريق موصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

إخوة الإسلام: وتضطرب على الدوام أمور الحياة، وتكثر في هذه الدار المنغصات والمكدرات، ويصور الشاعر طرفا من هذه المعاناة حين يقول لبيد بن ربيعة العامري:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الديار بعدنا والمصانع

فلا جزع إن فرق الدهر بيننا فكل امرئ يوما له الدهر فاجع

وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وتغدو بلاقع

ويمضون ارسالا وتخلف بعدهم كما ضم إحدى الراحتين الأصابع

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وما المرء إلا مضمرات من التقى وما المال إلا عاريات ودائع

أليس ورائى إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع

.. القصيدة (1)

وأبلغ من ذلك قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد [البلد: 4 ]. وقوله جل ذكره: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران: 185] .

وأمام هذه الحقيقة الماثلة يحتاج المسلم – بل العامل – إلى نوع من التعامل يجنيه مزالق الطريق، ويجاوزه العقبات، وإلى نمط من الأخلاق يخفف عنه الصدمات ويسري عنه حين الشدائد والأزمات، ويرشد الإسلام – فيما يرشد – إلى الخروج من المأزق بالتزام الهدوء وعدم العجلة والطيش في التصرفات، ويهدي النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس ((إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة (2)).

وما أعز هاتين الخصلتين في الناس، وما أشد الحاجة إليها، أما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهى التثبت وترك العجلة (3).

والحلم أفضل من كظم الغيظ، لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أى تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ أي من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتيادا، فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلن يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعى.

وكذلك تدرب النفس على الحلم بالتحلم، كما حكاه الغزالي يرحمه الله(4).

معاشر المسلمين: ويكفى الحلم عزة ورفعة وعلو شأن أنه من أسماء الله وصفاته.

قال تعالى: واعلموا أن الله غفور حليم [ البقرة: 235 ].

ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم [ آل عمران: 155 ].

وصية من الله والله عليم حليم .[النساء: 12].

والحلم حلية أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، والخليل عليه السلام يصفه ربه بالحلم ويقول: إن إبراهيم لأواه حليم [التوبة :114]. إن إبراهيم لحليم أواه منيب [هود:75].

ويبشره ربه كذلك بابن حليم، ويكون الحلم من صفات إسماعيل عليه السلام. قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم [الصافات :101].

ويوصف شعيب عليه السلام بالحلم والرشد من قومه، وإن كان على سبيل التهكم والاستهزاء منهم، قال تعالى: إنك لأنت الحليم الرشيد [هود:87].

لكنه كذلك وإن رغمت أنوف الملأ ويكفيه حلما وعلما أن يقول لهم: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [هود:88].

أما صفوة الخلق وخيرة المرسلين، فيزكيه ربه بكمال الأخلاق ويقول: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].

ويجمع الله به القلوب بعد فرقتها، ويجمع به شمل النفوس بعد شرودها وضياعها، ويقول له ربه: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران :159].

أيها المسلمون: ويوصي الله بالحلم والرفق ومجاهدة النفس عليهما وبين آثارهما، ويقول تعالى: ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت :24-25].

قال ابن كثير رحمه الله: أى وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس .. ويقول جل ذكره: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].

ويعلق الإمام الطبري على الآية بقوله: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه، فلم ينتصر منه، وهو على الانتصار منه قادر ابتغاء وجه الله عز وجل وثوابه، إن ذلك لمن عزم الأمور، ندب الله إليها عباده، وعزم عليهم العمل به.

إخوة الإسلام: ونتيجة جهل الإنسان وضعفه، فقد يبدو له أحياناً أن أسلوب الشدة هو أقصر الطرق للوصول إلى هدفه، وأن ممارسة العنف قد تعجل له حصول النتائج التى يرنو إليها .. وليس الأمر كذلك فما يحصل بالحلم والرفق والأناة خير في الآخرة والأولى، كذلك يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته ويقول: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه(5)). بل يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الرفق والأناة سبب لكل خير، ويقول: ((إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه)).

ويحذر عليه الصلاة والسلام من فقد الرفق بفقد الخير كله وهو القائل: ((من يحرم الرفق يحرم الخير(6)). ومن ثم قيل:(الرفق في الأمور كالمسك في العطور(7). وقديماً قيل: الحلم سيد الأخلاق.

وما فتئ العارفون يتمثلون الحلم في حياتهم، والأناة في تصرفاتهم، ويهدون بها غيرهم، وقد ورد أن رجلاً سبّ ابن عباس رضى الله عنهما، فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى(8).

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لى(9).

وما أجمل ما قال الشافعي رحمه الله:

يخاطبنى السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا(10)

أخوة الإيمان: وإذا كانت الحاجة تدعو الحلم والأناة في كل حال في هذه الحياة الدنيا، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعف المرء إلا التثبت والأناة والحلم والرفق في المدلهمات، لكن ذلك محتاج إلى صبر ومصابرة، وتغليب حظوظ الآخرة على الدنيا، ويضرب ابن عمر رضى الله عنهما أروع الأمثلة في هدوئه وأناتة ورفقه وحلمه في الفتنة ويقول: ( دخلت على حفصة، ونسواتها تنطف – أى ذوائبها تقطر – قلت: قد كان من الناس ما ترين، فلم يجعل لى من الأمر شىء، قالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فنحن أحق به ومن أبيه، قال حبيب بن مسلم لابن عمر: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عنى غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: (حفظت وعصمت(11).

وسواء وقعت هذه الحادثة حين تفرق الحكمان في (صفين) فلم يتفقوا على أمير المؤمنين، أم كانت في زمن معاوية حين أراد أن يجعل ولاية العهد لابنه يزيد، فهي تصور أناة ابن عمر ورغبته في تسكين الأمور وعدم إثارة الفتن بين المسلمين، والحرص على جمع الكلمة، وهو ما وافقه عليه الصحابي حبيب بن مسلمة حين قال: حفظت وعصمت.

وكذلك ينبغى أن تكون الأناة والرفق والحلم منهجا للمسلم في كل حال، وتتحتم أكثر حين تكون الفتن والفرقة والخلاف، فتلك خير وسيلة لمراغمة الشيطان وجمع كلمة المسلمين، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله.

أقول ما تسمعون....

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين قدر أرزاق العباد، وقسم أخلاقهم، والمغبوط حقا من وفقه الله علما وحلما، قال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى(12).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعطى الدنيا من أحب ومن لم يحب، ولكن لا يعطى الدين إلا من أحب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، علم الأمة بسلوكه القولي والفعلي العلم والحلم والرفق والأناة، والخير كل الخير في اتباع سنته واقتفاء أثره.

أيها المسلمون: ولم يكن الأناة والرفق وتسكين الأمور في الفتن سلوكا خاصا بابن عمر رضي الله عنهم، بل كان ذلك ديدن الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضى الله عنهم، وهذا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه وهو أحد المبشرين بالجنة، ثبت عنه أنه قال لابنه حين حثه في القيام ببعض الأمور في الفتنة قال لابنه: (يا هذا! أتريد أن أكون رأسا في الفتنة، لا والله (13).

بل وصل الأمر بسعد رضى الله عنه إلى أن أعتزل الناس حين وقعت الفتنة.

ولا شك أن سعدا وابن عمر وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا سلوك الأناة والرفق والنظر في الأمور من محمد صلى الله عليه وسلم الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، وزكاه في محكم تنزيله لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [التوبة :128].

ومحمد صلى الله عليه وسلم لأناته وحسن تقديره لم يتعجل في تغيير بناء الكعبة، وهو القائل لعائشة رضي الله عنها: ((لولا حدثان قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين(14)).

والبخاري رحمه الله بوب على هذا الحديث بابا عظيما فقال: (باب من ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه).

معاشر المسلمين: وهل علمتم أن الحلم والأناة سبب للحفظ والبقاء، حتى وإن كان المحفوظ فاسقا أو كافرا؟

تأملوا في هذا الحديث الذى رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وقد جاء فيه أن المستورد القرشي رضى الله عنه – وعنده عمرو بن العاص رضى الله عنه – ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس! قال له عمرو: أبصر ما تقول، قال المستورد: ومالي أنا لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو: إن كان كذلك فلأن في الروم خصالا أربعا، وعد منها: أنهم أحلم الناس عند الفتنة، وإنهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة)) … وعد بقية الخصال الأربع.

قال أهل العلم: هذا كلام من عمرو بن العاص رضي الله عنه، لا يريد أن يثني على الروم والنصارى الكفرة .. كلا، ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أنهم أكثر الناس إلى أن تقوم الساعة، لأنهم عند وقوع الفتن أحلم الناس فهم لا يحملون ولا يعجلون ولا يغضبون، فيقوا أنفسهم ويقوا أصحابهم القتل (15).

ومن العجب أن يتساهل المسلمون فيما نص عليه دينهم ويتشبث بها من حرفت كتبهم ونسخت أديانهم؟

أيها المؤمنون، وتشتد الحاجة للحلم كذلك حين تستأثر المشاعر، فتحتاج إلى التهدئة والتسكين، وحين تشعر النفوس بالضيم، فتتطلع إلى الانتصار وحين يشيع المنكر، فترتفع أسهم الغيرة لدين الله.

لكنها يجب أن تضبط بميزان الشرع وأن تحكم بالعقل، وأن تحلى بالحلم، وأن تجمل بالرفق ( وما كان الرفق في شىء إلا وزانه ).

وعلى مسلمي اليوم أن يتذكروا أن الاستفزاز قديم، وأن العاقبة للمتقين إن هم صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا رب العالمين.

واقرؤوا القرآن الكريم وستجدون فيما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وإن كانوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً سُنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً [الإسراء:76-77].

وقال تعالى – في معرض الحديث عن صراع الحق والباطل بين موسى عليه السلام وفرعون – فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً [الإسراء :103-104].

أخوة الإسلام: ولا يعني الحلم والأناة تبلد الإحساس عن مصائب المسلمين، ولا موت المشاعر عن واقعهم المهين، ففئة تقتل أو تهجر – كما يحصل اليوم على أرض البوسنة والشيشان وغيرها – وربما مات الكثير من فقد الطعام والشراب، وفئة تؤذى أو تنفى أو تسجن أو تعذب كما في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين.

وليس من الحلم والأناة إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكاسل في الدعوى إلى الله بالحسنى، ولا القعود عن نصرة المظلومين، ومحبة المؤمنين، والبراءة من الكافرين، وبغض المنافقين، ولكن الحلم والأناة تريث وتعقل في الحركات، وتأن وعدم عجلة في التصرفات، ونظر محمود في العواقب، وتقدير وتغليب للمصالح والمفاسد، إنه كبح جماح، النفس والهوى، واستشارة لذوي العلم والفضل والنهى، بالحلم والأناة يسود العلماء، وبالحلم والأناة والرفق يصلح شأن الولاة والأمراء. ((اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به)).

كذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم(16).

وتأملوا في عظيم هذه الحكمة التى أسداها واحد من سادات الحكماء ومن يضرب بحلمه وسؤدده المثل.

إنه الأحنف بن قيس رحمه الله، الذي يقال أنه كلم مصعب بن الزبير في محبوسين، وقال: أصلح الله الأمير إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل يسعهم، وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم.

وهو القائل: لا ينبغى للأمير الغضب، لأن الغضب في القدرة لقاح السيف والندامة(17).

وبالحلم والرفق والأناة ينبغى أن يربى الأباء والأمهات البنين والبنات، وأن يكون جزءا مهما من وظيفة المربين، وأسلوبا عمليا للمعلمين، ونهجا متبعا للقادة والمسؤولين، اللهم هيء للمسلمين من أمرهم رشدا، وارزقهم الحلم والأناة والرفق في الأمور كلها.

__________

(1) أنظر مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق لابن حزم ص 83 ، 84 حاشية .

(2) الحديث رواه مسلم وغيره ( صحيح مسلم 1 / 48 ح 25 ) .

(3) كما ذكر لك الإمام النووى رحمه الله ( شرح مسلم 1 / 189 ) .

(4) الإحياء 9 / 1657.

(5) رواه مسلم ح 2593 ، 4 / 204 .

(6) روى الحديثين الإمام مسلم في صحيحه 4 / 2003 ، 2004 .

(7) الأخلاق الضائعة للعنبرى / ص 32 .

(8) إحياء علوم الدين 9 / 1661 .

(9) الإحياء 9 / 1661 .

(10) الأخلاق الضائعة / العنبرى / 34 .

(11) الحديث أخرجه البخارى وغيره ( انظر الفتح 7 / 403 ).

(12) الإحياء 9 / 1660 .

(13) صالح آل الشيخ ، الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ، ص 41.

(14) إخرجه البخارى في صحيحه .

(15) الضوابط الشرعية …. آل الشيخ / 17 ، 18 .

(16) رواه مسلم ( 1828 ) رياض الصالحين / 298 .

(17) سير أعلام النبلاء 4 / 94 .

(1/32)

صنائع المعروف

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

فضائل الأعمال

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

سعادة الناس تكون بالتعاون والتعاطف – من شكر النعمة والمحافظة عليها قضاء حوائج الناس- الأحاديث في فضل تفريج الكربات عن المسلم – من صور البر والمعروف – آداب البذل والمعروف

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في البشر أن جعل بعضهم لبعضٍ سُخريّاً، لا تتم لهم سعادتهم إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف وفشو المودة. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ. ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، ولا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يعترفون لغيرهم بحق.

معاشر الإخوة: عزيزٌ على النفس الكريمة المؤمنة أن ترى مسكيناً بليت ثيابه حتى تكاد تُرى عورته، أو تبصر حافيَ القدمين أدمت حجارة الأرض أصابعه وقطعت عقبيه، أو تلحظ جائعاً يمدُّ عينيه إلى شيءِ غيرِه فينقلب إليه البصر وهو حسير.

حين تفشو مثلُ هذه الأحوال، ثم لا يكترث القادرون، ولا يهتمُّ الموسرون فكيف يكون الحال؟ وأين وازع الإيمان؟!

ولكنَّ الله برحمته حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، وجَّههم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومن كثرت نعم الله عليه كثر تعلق الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال ثم انصرفت وجوه الناس عنه.

وقد ورد في الحديث: ((إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم))(1)[1].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمةً وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال))(2)[2].

وإن في دين الله – يا عباد الله – شرائع محكمةً لتحقيق التواصل والترابط، تربي النفوس على الخير، وترشد إلى بذل المساعدات وصنائع المعروف.

ففي الخبر الصحيح عنه : ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))(3)[3].

وفي الصحيحين أيضاً: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة))(4)[4].

ولعِظَم الأمر ودقَّتِه – أيها الإخوة – فقد قال أهل العلم: إن تفريج الكروب أعظم من تنفيسها؛ إذ التفريج إزالتها، أما التنفيس فهو تخفيفها، والجزاء من جنس العمل، فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته، والتنفيس جزاؤه تنفيس مثله.

والتيسير على المعسر في الدنيا جزاؤه التيسير من عسر يوم القيامة، وحسبك في يومٍ قال فيه ربُّ العزة: فذلك يومئذٍ يومٌ عسير على الكافرين غير يسير [المدثر:9-10].

وفي صحيح مسلم: ((من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه))(5)[5]، ((ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه))(6)[6].

والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً. وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده. وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.

ولقد قال بعض الحكماء: أعظم المصائب أن تقدر على المعروف ثم لا تصنعه.

والغبطة – أيها الأحبة – فيمن يسَّر الله له خدمة الناس وأعانه على السعي في مصالحهم.

يقول عليٌّ رضي الله عنه: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير!!! عجبت لرجلٍ يجيئه أخوه لحاجته فلا يرى نفسه للخير أهلاً!!! فلو كنا لا نرجو جنةً ولا نخاف ناراً ولا ننتظر ثواباً ولا نخشى عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق.. فإنها تدل على سُبُلِ النجاح؟؟ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين: أسمعته من رسول الله ؟ قال: نعم، وما هو خيرٌ منه: لقد أتينا بسبايا طيٍّ.. كان في الناس جاريةٌ حسناء تقدمت إلى رسول الله وقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت ألا تخلي عنِّي فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنتُ سيدِ قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذِّمار،ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردَّ طالب حاجة قط ، أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي : ((يا جارية هذه صفة المؤمن. خلُّوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق))(7)[7].

وإن دروب الخير – أيها المسلمون – كثيرة وحوائج الناس متنوعة؛ إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ.. عيادة مريضٍ، وتعليم جاهل.. وإنظار معسر، وإعانة عاجز، وإسعاف منقطع.. تطرد عن أخيك هماً، وتزيل عنه غماً.. تكفل يتيماً، وتواسي أرملة.. تكرم عزيز قومٍ ذلَّ، وتشكر على الإحسان، وتغفر الإساءة.. تسعى في شفاعة حسنة تفك بها أسيراً، وتحقن بها دماً، وتجرُّ بها معروفاً وإحساناً.

كل ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب.. وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل. فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمةٍ طيبةٍ وإلا.. فكُفَّ أذاك عن الناس.

أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة))(8)[8].

نعم أيها الإخوة: كل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفاً أو تقضي به حاجة وتدخر لك به أجراً فما هو إلا لوارث أو لحادث. وصنائع البر والإحسان تُستعبد بها القلوب.

والشحيح البخيل كالح الوجه يعيش في الدنيا عيشة الفقراء ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء، فلا تكن أيها الموسر القادر خازناً لغيرك.‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

أيها الإخوة الأحباب: إن صفو العيش لا يدوم، وإن متاعب الحياة وأرزاءها ليست حكراً على قومٍ دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير، وخذلان المسلم شيء عظيم.

والمسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة. عندما تستحكم الأنانيات وتستغلق المسالك على أصحاب الضوائق.

بل إن بعض غلاظ الأكباد وقساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين.. يزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي... فاستدار عزهم ذلاً، وغناهم فقراً، ونعيمهم جحيماً؟‍‍‍‍‍‍‍‍.

فاتقوا الله رحمكم الله وأصلحوا ذات بينكم، ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة وسارعوا إلى سداد عوز المعوزين، ومن بذل اليوم قليلاً جناه غداً كثيراً.. تجارة مع الله رابحة، وقرض لله حسن مردود إليه أضعافاً مضاعفة.. إنفاق بالليل والنهار والسر والعلن: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله عظيم الشأن قديم الإحسان، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من جزيل الفضل والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، واعرفوا فضل الله عليكم. فمن وفق لبذل معروف أو أداء إحسان فليكن ذلك بوجه طلق ومظهر بشوش، وليحرص على الكتمان قدر الإمكان ابتغاء الإخلاص، وحفاظاً على كرامة المسلم.

ويبلغ الأدب غايته حين يعلم باذل المعروف أن ما يقدمه هو حق لهؤلاء ساقه الله على يديه فلا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً. وقد روي أن رجلاً جاء لبعض أهل الفضل يستشفع به في حاجة فقضاها له، فأقبل الرجل يشكره، فقال له: علام تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة. أما من أتبع إحسانه بالمنِّ والأذى فقد محق أجره، وأبطل ثوابه. فاتقوا الله يرحمكم الله، وابذلوا الفضل والمعروف بوجه طلق وقصد حسن، تستقم الأحوال، وتتنزل البركات، ويحل التوفيق.

__________

(1) أخرجه الهيثمي في كتاب مجمع البحرين في زوائد المعجمين(5/211-ح2939) وفي مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه محمد بن حسان السمتي وثقه ابن معين وغيره، وفيه لين ولكن شيخه أبو عثمان عبد الله بن زيد الحمصي ضعفه الأزدي (8/192). وقال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في الكبير والأوسط ولو قيل بتحسين سنده لكان ممكناً. انظر: الترغيب والترهيب (3/391)، وحسنه الألباني بمجموع طرقه.انظر: السلسلة الصحيحة (4/264،265-ح1692).

(2) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. انظر: مجمع الزوائد (8/192).

(3) أخرجه مسلم (4/2074-ح2699).

(4) أخرجه البخاري (5/116/-ح2442)، ومسلم(4/1996-ح2580).

(5) أخرجه مسلم (3/1196-ح1563).

(6) أخرجه مسلم (4/2302-ح3006)، والترمذي (3/599-ح1306) وقال: حديث حسن صحيح غريب. واللفظ له.

(7) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (5/341)، وابن كثير في البداية والنهاية (5/77)، وقال: هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جداً، عزيز المخرج.

(8) أخرجه الترمذي (4/299-ح1956) وقال: حديث حسن غريب.

(1/33)

السحر حقيقته وحكمه ولماذا ينتشر ؟

-----------------------

التوحيد

نواقض الإسلام

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

1/5/1417

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- معنى السحر 2- أنواع السحر 3- حكم السحر 4- هل للسحر حقيقة 5- لماذا كان السحر كفرا 6- حكم الساحر

-------------------------

الخطبة الأولى

فأما بعد فاتقوا الله عباد الله وارجوا اليوم الآخر ولا يصدنكم الشيطان فينسيكم ذكر الله ..

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].

واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُوْلَئكَ حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [المجادلة:19].

أيها المسلمون: وبقي من الحديث عن نواقض الإسلام، الحديث عن السحر، ذلكم البلاء المستشري، والحقيقة المرة .

داء من أدواء الأمم قديما، ولسوء آثاره اتهمت به الأنبياء، وهم منه براء كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [الذاريات:52].

وهو مشكلة من مشكلات الزمن حديثا، وفى عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السحر والشعوذة نفوذا، وتجرى طقوسه فى أكثر شعوب العالم تقدما، وربما أقيمت له الجمعيات والمعاهد، أو نظمت له المؤتمرات والندوات (1) .

وهنا لابد من وقفة تجيب على عدة أسئلة، منها :

ما معنى السحر؟ وهل له حقيقة؟ وما جزاء السحرة؟ ولماذا يروج السحر فى بلاد المسلمين؟ وما حكم الذهاب للسحرة والعرافين؟ وما عقوبة الذاهبين؟ وما هي عوامل الوقاية وطرق الخلاص من السحرة والمشعوذين؟

إخوة الإسلام: أما معنى السحر فيطلق فى لغة العرب على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك قالوا " أخفى من السحر " (2) .

أما تعريفه فى الشرع فهو كما قال ابن قدامة :"عقد ورقى يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر فى بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له.

وهو أنواع مختلفة وطرائق متباينة، ولذا قال الشنقيطي رحمه الله : "اعلم أن السحر لا يمكن حده بحد جامع مانع، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينهما يكون جامعا له، مانعا لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء فى حده اختلافا متباينا "

ومن السحر: الصرف والعطف، والصرف هو صرف الرجل عما يهوى، كصرفه مثلا عن محبة زوجته إلى بغضها، والعطف عمل سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية .

والسحر محرم فى جميع شرائع الرسل عليهم السلام وهو أحد نواقض الاسلام _ كما علمت _ حتى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله: فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .

وقد دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة وأقوال أهل العلم على أن للسحر حقيقة، كيف لا؟ والله يقول ومن شر النفاثات فى العقد.

ويقول واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر. [البقرة:102].

ويقول عن موسى عليه السلام : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .[طه آيه 69].

وفى الحديث المتفق على صحته : عن عائشة رضي الله عنها قالت : ((سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشىء، وما يفعله .. الحديث )).

قال النووي:( والصحيح أن السحر له حقيقة وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة ) .

بل قال الخطابى بعد أن أثبت حقيقة السحر، ورد على المنكرين:( فنفي السحر جهل، والرد على من نفاه لغو وفضل ) .

إخوة الايمان: أما مكمن الخطر فهو في تعليمه، والعمل به، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر قال الله تعالى:وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة 102]

ويبين الشيخ السعدي _ يرحمه الله _ وجه إدخال السحر فى الشرك والكفر فيقول:( السحر يدخل فى الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب اليهم بما يحبون، ليقوموا بخدمته، ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله فى علمه، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، من شعب الشرك والكفر).

ويقول الذهبي:( فترى خلقا كثيرا من الضلال يدخلون في السحر، ويظنون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر ..)

أيها المسلمون: ولهذا جاء تحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السحر أكيدا شديدا، وجاء حكم الشريعة في السحرة صارما عدلا.

يقول عليه الصلاة والسلام: (( اجتنبوا السبع الموبقات ... فعد منهن: السحر))، والموبقات هي المهلكات)) .

وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام : (( ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر )) .

وفي حديث ثالث يبلغ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : (( ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )).

أما حكم السحرة وحدهم فيقول ابن تيمية رحمه الله :( أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله، وقد ثبت قتل الساحر عن(عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله ... ) .

وعن بجالة بن عبدة أنه قال: كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر )

وفي رواية عن أبي داود بسند صحيح عن بجالة بن عبدة قال: جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة : ( اقتلوا كل ساحر ... ) .

قال ابن قدامة معلقا على هذا الأثر : (وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا)، وإنما جاء حكم الشريعة بقتل الساحر لأنه مفسد في الأرض يفرق بين المرء وزوجه، ويؤذي المؤمنين والمؤمنات ويزرع البغضاء ويشيع الرعب، ويفسد على الأسر ودها، ويقطع على المتوادين حبهم وصفاءهم، وفي قتله قطع لفساده، وإراحة البلاد والعباد من خبثه وبلائه. والله لا يحب المفسدين .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكذبون [يونس:69-70].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، تضرع إلى ربه حين ناله الأشرار بسوء فكشف الضر عنه وعافاه ..

اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

أما بعد: فالسؤال المهم الذى ينبغي أن نشترك جميعا في الإجابة عليه: لماذا يروج السحر وتكثر السحرة في بلاد المسلمين ؟

وللإجابة عنه يمكن رصد عدد من الأسباب، ومنها :

1_ضعف الايمان فى نفوسنا أحيانا، إذ الإيمان دعامة كبرى، ووقاية عظمى من كل فتنة وشر ومكروه ومن يؤمن بالله يهد قلبه [التغابن:11].

وفى الحديث : ((إن الإيمان ليَخلََق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم (3)) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه ويهتز جانب التوكل على الله، والرضاء لما قدر، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنا على وهنهم، وتستلب أموالهم وعقولهم .

2_ الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد فى ذلك من ضرر على المعتقد والدين.

وهل يذهب إليهم من عرف وقدر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : (( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (4)) الحديث.

أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر، والخطر أعظم، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أتى عرفا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (5) )) وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضى الله عنه موقوفا قال : (( من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )).

3- سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السحرة والمشعوذين فتراهم يذهبون يستطبون عندهم، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع، تخرصات وأوهام وفصد للعروق تسيل منه الدماء وتمتمات وطلاسهم وكتابات وربط تباع بغالي الأثمان، وهي لا تساوي فلسا عند أولي الألباب .

بل ولو ذهبت ترقب أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح وإن نصبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ وحذاق الأطباء ؟

4- طغيان الحياة المادية المعاصرة قست له القلوب وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس ونتج عن ذلك العقد النفسية والمشكلات الوهمية وارتفاع مؤشر القلق، وزاد الطين بلة ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على أيدي السحرة والمشعوذين، فراحوا يطرقون أبوابهم ويدفعون أموالهم وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار (6).

5- وباتت بعض بيوت المسلمين مرتعاً للشياطين يقل فيها ذكر الله، وقلَّ أن يقرأ فيها كتاب الله أو تردد فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقر معها الشياطين، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع والصور العارية وغير العارية وألوان الكتب والمجلات السيئة، وقد لا تخلو من مأكول أو مشروب محرم، وهذه البيوت الخربة وإن كان ظاهرها العمران تصبح مأوى للشياطين وتصطاد أهلها وتصيبهم بالأدواء، فلا يجدون في ظنهم سبيلا للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة، وهكذا يسري الداء، وكلما ابتعد الناس عن الله ومنهجه عظمت حيرتهم وكثر بلاؤهم، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجا .

6- ضعف دور العلماء والمفكرين وأهل التربية في التحذير من السحرة وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرافين، وتلك وربي تستحق أن تعقد لها الندوات وأن تسلط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة حتى يتم الوعي ولا يؤخذ الناس بالدجل .

7- وإذا عطل أو قلّ تنفيذ حكم الله في السحرة أو ضعف المتابعة لهم انتشروا وراج دجلهم وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات وضعف تعاون الناس فى البلاغ، إذ من الناس من يقل أو ينعدم خوفه من الله، فيسعى في الأرض مفسدا إلا أن تردعه قوة أو يخاف الحد، ومن المعلوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقد جاء فى حديث يصح وقفه – دون رفعه – (( حد الساحر ضربة بالسيف (7) ))

وينبغي أن يتعاون الناس في الرفع للجهات المسئولة لمن يثبت تعاطيه السحر.

8- انتشار العمالة الوافدة بشكل عام ومن غير المسلمين بشكل أخص والحذر من السائقين والخدم. ففيهم من يتعاطى السحر أو يتعاون مع أهله.

ولهم على البيوت في ذلك أثار سيئة وينبغي التفطن لها.

ومن أعظم وسائلهم جمع الشَعر وإرساله وعقد السحر فيه، وكم هو جهد مشكور لموظف بريد أو رجل جوازات اكتشف شيئا من وسائل السحر والشعوذة، فأراح المسلمين أو غيرهم منها. وسلم الله المجتمع من أضرارها بسبب يقظته وشعوره بالواجب .

9- استمرار المرض وضيق الصدر. وقلة الصبر وضعف الاحتساب للأجر عند الله. وكل ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء. وإن لم يكن مقتنعا فى البداية.

وربما أقنع نفسه أو أقنعه غيره أن ذلك من فعل الأسباب.

و الإنسان لاشك مأمور بفعل الأسباب. ولكنها الأسباب المشروعة دون المحرمة.

10- والدعاية الكاذبة سبب للرواج وذهاب لهؤلاء الدجالين، فقد يكتب الله شفاء لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة.

فيطير بالخبر و ينشر في الآفاق الدعوة للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فتن، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أونظر في العواقب .

وهكذا يفتن الناس بعضهم بعضا. و يكونون أداة للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟

عباد الله هذه بعض الأسباب لرواج السحر و الذهاب للسحرة . وقد يكون هناك غيرها ..

ومن العدل و الإنصاف أن يقال : إنه على الرغم من انتشار السحر ووجود من يذهب إليهم . فثمة فئات من المسلمين يربؤون بأنفسهم ومن تحت أيديهم عن الذهاب لهؤلاء الدجالين من السحرة والكهنة والعرافين والمشعوذين، يحميهم الدين. ويبصرهم العقل. وملاذهم التوكل واليقين. وزادهم الصبر و احتساب الأجر من رب العالمين. و تلك شموع تضيء، وهي نماذج للعلم والعقل والدين. وجعلنا الله منهم وإخواننا المسلمين.

أيها المسلمون: ويبقى بعد ذلك حديث مهم عن عوامل الوقاية من هذا الداء وطرق الخلاص المشروعة لمن ابتلي بشيء من ذلك وأمور أخرى مهمة أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية فى ديننا ودنيانا، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واحفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا ...

__________

(1) العبد اللطيف، نواقض الإيمان / 501 .

(2) عالم السحر والشعوذة، الأشقر / 69 .

(3) رواه الطبرانى والحاكم وسنده صحصح ( صحيح الجامع 2/ 56 ).

(4) رواه مسلم ( ح 2230 ) .

(5) ؟عاام اليحر والشعوذه / الاشقر ص 8،88 .

(7) اخرجه الترمذى وقال : لا يسح رفعه والبيهقى والحاكم وصححه ووافقه الذهبى ( المستدرك 4/ 360، نواقض الايمان / 512

(1/34)

التوبة وسعة رحمة الله

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

التوبة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أعداء الإنسان ودورهم في إضلاله – رحمة الله بعباده ولطفه بهم وتوبته عليهم – فضل التوبة وشمولها – أهمية الأعمال الصالحة وأثرها في تكفير السيئات – أثر المصائب في تكفير السيئات - ضرورة المبادرة بالتوبة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا إليه واستغفروه.

أيها المؤمنون، يحيط بابن آدم أعداء كثير، من شياطين الإنس والجن، يحسنون القبيح، ويقبحون الحسن، ينضم إليهم النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والهوى، يدعونه إلى الشهوات، ويقودونه إلى مهاوي الردى. ينحدر في موبقات الذنوب صغائرها وكبائرها، ينساق في مغريات الحياة، وداعيات الهوى، يصاحب ذلك ضيق وحرج وشعور بالذنب والخطيئة فيوشك أن تنغلق أمامه أبواب الأمل، ويدخل في دائرة اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله.

ولكن الله العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم، الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؛ فتح لعباده أبواب التوبة، ودلهم على الاستغفار وجعل لهم من أعمالهم الصالحة كفارات، وفي ابتلاءاتهم مكفرات. بل إنه سبحانه بفضله وكرمه يبدل سيئاتهم حسنات: يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:27، 28].

أيها الإخوة في الله، لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأ حصيناً، يلجه المذنب معترفا بذنبه، مؤملاً في ربه، نادماً على فعله، غير مصرٍ على خطيئته، يحتمي بحمى الإستغفار، يتبع السيئة الحسنة ؛ فيكفر الله عنه سيئاته، ويرفع من درجاته.

التوبة الصادقة تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى الكفر والشرك قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38].

وقتلة الأنبياء ممن قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقالوا إن الله هو المسيح بن مريم -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا لقد ناداهم المولى بقوله: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74].

فتح ربكم أبوابه لكل التائبين، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وخاطبكم في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم))(1)[1] وفي التنزيل: قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:110]، ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء. كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمن الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف فصار صواماً قواماً قانتاً لله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.

أيها المؤمنون، من تدنس بشيء من قذر المعاصي فليبادر بغسله بماء التوبة والاستغفار؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.

جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا أذنب عبد فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين حتى قال في الرابعة: فليعمل ما شاء))(2)[2]، يعني مادام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه غير مُصر.

وجاء رجل إلى النبي وهو يقول: واذنوباه مرتين أو ثلاثاً فقال له النبي : ((قل اللهم مغفرتك أوسع لي من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، ثم قال له: أعد فأعاد، ثم قال له: أعد فأعاد فقال: قم فقد غفر الله لك)). أخرجه الحاكم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه(3)[3]، وأخرج أيضاً من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله: أحدنا يذنب، قال: ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه قال: ((يغفر له ويتاب عليه)). قال: فيعود فيذنب. قال: ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: ((يغفر له ويثاب عليه. ولا يمل الله حتى تملوا))(4)[4].

وسئل علي رضي الله عنه عن العبد يذنب؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل حتى متى؟ حتى يكون الشيطان هو المحسور.

وقيل للحسن رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا، فلا تملوا من الاستغفار.

إلى جانب التوبة والاستغفار ـ أيها الإخوة ـ تأتي الأعمال الصالحة من الفرائض والتطوعات تكفر بها السيئات، وترفع بها الدرجات. طهارة وصيام وصدقات وحج وجهاد وغيرها.

من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله يقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة(5)[5]، والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر(6)[6]. ومن توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وانصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام(7)[7]؛ أخرج كل ذلك مسلم في صحيحه من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا باب واسع لا يكاد يقع تحت حصر من طلب الرزق،وإطعام الطعام، وحسن الخلق، والسماحة في التعامل، وطلب العلم، وقضاء الحوائج، وحضور مجالس الذكر، والرحمة بالبهائم، وإماطة الأذى. فأبشروا وأملوا وأحسنوا الظن بربكم.

يضاف إلى ذلك يا عباد الله ما يصيب المسلم من البلايا في النفس والمال والولد، وما يعرض له من مصائب الحياة ونوائب الدهر، فهي كفارات للذنوب، ماحيات للخطايا، رافعات للدرجات.

في خبر الصحيحين: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله له بها حتى الشوكة يشاكها))(8)[8] وفي رواية: ((إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة))(9)[9].

وفي الموطأ والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))، وفي رواية الموطا: ((ما يزال المؤمن يضار في ولده وحامته ـ أي أقربائه وخاصته ـ حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة))(10)[10].

أيها المسلمون، إن العبد إذا اتجه إلى ربه بعزم صادق وتوبة نصوح موقنا برحمة ربه واجتهد في الصالحات دخلت الطمأنينة إلى قلبه، وانفتحت أمامه أبواب الأمل، واستعاد الثقة بنفسه، واستقام على الطريقة، واستتر بستر الله.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله المزيد من فضله وكرمه، عليه توكلت وإليه متاب. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار من أشرف الأنساب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ واعلموا أن من الناس من يخدعه طول الأمل، أو نضرة الشباب، وزهرة النعيم، وتوافر النعم، فيقدم على الخطيئة، ويسوف في التوبة، وما خدع إلا نفسه، لا يفكر في عاقبة، ولا يخشى سوء الخاتمة. ولقد يجيئه أمر الله بغتة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ [النساء:18].

ومن الناس من إذا أحدث ذنبا سارع بالتوبة، قد جعل من نفسه رقيبا يبادر بغسل الخطايا إنابة واستغفارا وعملا صالحا، فهذا حري أن ينضم في سلك المتقين الموعودين بجنة عرضها السماوات والأرض ممن عناهم الله بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين [آل عمران:135، 136].

فهذه حال الفريقين أيها المؤمنون، فاتقوا الله وأنيبوا إليه...

__________

(1) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2577).

(2) صحيح، صحيح البخاري: كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله ، حديث (7507)، وصحيح مسلم: كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب... حديث (2758).

(3) إسناده ضعيف، مستدرك الحاكم (1/544-545) وقال: رواته عن آخرهم مدنيون لا يُعرف واحد منهم بجرح. قلت: قال ذلك مع أنه قد تكلم في شيخه إسماعيل بن محمد الشعراني، انظر ميزان الاعتدال (1/408)، وفي إسناده من لم أجد له ترجمة. وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (4101)، والسلسلة الضعيفة (4062).

(4) إسناده حسن، مستدرك الحاكم (1/59)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (17/287)، قال الهيثمي في المجمع (10/200): إسناده حسن.

(5) صحيح، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا... حديث (666).

(6) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة – باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة... حديث (233).

(7) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الجمعة – باب فضل من استمع وأنصت... حديث (857).

(8) صحيح، صحيح البخاري: كتاب المرضى – ما جاء في كفارة المرض، حديث (5640)، وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب ثواب المؤمن فيما يصيبه... حديث (2572).

(9) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب ثواب المؤمن فيما يصيبه... حديث (2572).

(10) 10] إسناده صحيح، أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجنائز – باب الحسبة في المصيبة (1/236) بلاغاً، ووصله ابن عبد البر في التمهيد (24/180) عن مالك عن ربيعة الرأي عن أبي الحباب سعيد بن يسار عن أبي هريرة مرفوعاً به، وهو إسناد صحيح، ثم قال ابن عبد البر: لا أحفظه لمالك عن ربيعة عن أبي الحباب إلا بهذا الإسناد، وأما معناه فصحيح محفوظ عن أبي هريرة من وجوه. ثم ذكرها.

(1/35)

آداب الطريق

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- حديث في أدب الطريق. 2- النهي عن الجلوس في الطرقات سداً للذريعة. 3- مظاهر من الأذى في الطرقات 4- آداب السلام. 5- السلام على الكافر والفاسق والمبتدع. 6- القيام بواجب الأمر بالمعروف. 7- الترابط بين التقوى وحسن الخلق. 8- الدعوة لحسن الخلق.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى والزموا أوامره واجتنبوا نواهيه.

واعلموا أن هناك آدابا يجب على المسلم أن يتأدب بها وأن يتخلق بها حتى يصل إلى درجات من الكمال في الأدب وحسن الخلق.

ومن هذه الآداب إعطاء الطريق حقّه، ولربما سأل سائل: وكيف أعطي الطريق حقه؟ فأقول له: الجواب في قوله : ((إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله ما لنا بدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها، فقال : فإن أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) رواه البخاري ومسلم.

وفي نهيه عن الجلوس في الطرقات سد للذريعة إلى المحرم فإن الجلوس في الطرقات مظنة النظر إلى من يمر من النساء الأجنبيات وتعمد النظر إليهن حرام وذريعة إلى الافتتان بهن وهذا من علل النهي عن الجلوس في الطرقات، والطرقات تشمل أماكن عدة فمنها الجلوس على الأرصفة ومنها الجلوس على أبواب المحلات والدكاكين ومنها الجلوس في الأسواق أمام الذاهب والآيب، ومنها الجلوس على قارعة الطريق في الشوارع والأزقة، ومنها ركوب السيارة والدوران طوال النهار لمعاكسة النساء والمردان هذا أيضا منهي عنه ويدخل في معنى الجلوس في الطرقات.

واليوم تجد جميع هذه الطرقات والأمكنة مليئة بالشباب الضائع يتصيدون النساء وبالذات طالبات المدارس بعد انصرافهن فتجد الأرصفة ملأى بهؤلاء الشباب الذين لم يعطوا أي حق للطريق فمدوا البصر بدل غضه وآذوا النساء بدل كف الأذى وأمروا بالمنكر بدل أن يأمروا بالمعروف، فهؤلاء يحرم عليهم المكث في الطرقات ويأثموا ببقائهم فيها لأنهم لم يعطوا الطريق حقه وهنك بعض الذين يجلسون مثلا عند أبواب محلاتهم سواء كانت معارض أو مكاتب عقار أو بقالات فهؤلاء يؤذون جيرانهم بجلوسهم أمام بيوتهم يتابعون بنظراتهم الداخل والخارج وينظرون إلى نوافذ الجيران ويضحكون ويقهقهون بأعلى أصواتهم مما يؤذي جيرانهم وهم مع ذلك لا يكفون عن هذا الفعل الشنيع الذي نهى عنه النبي فالذي لا يستطيع أن يغض بصره عن المحارم ولا يكف أذاه عن الناس فليزم داره ولا يبرحه فهو خير له من الإثم والمقت.

وأحب أن أبين أن هذا الذي يتصيد طالبات المدارس أو هذا الذي يتصيد نساء الجيران وزوارهن، هو نفسه لا يرضى أن يفعل ذلك أحد مع أخته أو زوجته أو إحدى قريباته فكيف بالله يرضى ذلك على نساء المؤمنين ألا يتقي الله؟ ألا يعلم أن الجزاء من جنس العمل؟ وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)) رواه الترمذي وأحمد وأبو داود، فكما تدين تدان.

أيها المسلمون: إن هذه المجالس التي يجتمع فيها الناس ويتحدث فيها بعضهم إلى بعض في غالبها لا يذكرون الله تعالى، بل يكثر فيها الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والفحش والسباب وغير ذلك من المنكرات، وما اجتمع قوم في مكان لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة والبعض يجلس للعب الضومنة أو البلوت أو غير ذلك من الألعاب التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

وقد يحرم السير أحيانا فضلا عن الجلوس في بعض الشوارع التي لا يطرقها إلا الأراذل والسفهاء والمتهمون في أفعالهم وصفاتهم بالسوء وعدم الاحتشام في الحركة والسكون ويكون امنع بالذات للنساء والأحداث من المرد وحسان الخلقة خوفا عليهم من هؤلاء المجرمين من أن يتعرضوا لهم بالأذى.

وأما المراد بكف الأذى إماطته عن الطريق إن وجد من غيرك، وأن لا تتعرض لأحد بما يكره، ولا تذكر أحدا من الناس إلا بخير، ولا تهزأ بالمارة ولا تسخر براكب ولا ماش ولا تشر بيدك ولا عينك إلى رجل أو امرأة بسوء، ولا تحتقر ضعيفا، ولا تضحك من شيخ أحدب، ولا عجوز شوهاء، ولا تفعل ما يفعل الأراذل والسفهاء من قول فاحش ونقد لاذع، وتهكم مزرٍ، فهذا طويلا عملاق، وهذا قصير قزم، وهذا سمين مترجرج عبثت به الراحة والترف، وهذا نحيف برته الهموم والأحزان، وأكل لحمه ودمه البخل والتضييق على نفسه، وهذه امرأة جميلة، وغيداء وحسناء طويلة كالرمح، خصرها نحيل وخدها أسيل وطرفها كحيل، وتلك سمينة قصيرة، وقبيحة ونكرة، ثوبها رثيث، ومنظرها خبيث إلى غير ذلك، من كلمات يسمعها النساء في الطريق من الذين لا خلاق لهم ولا رادع من علم أو مروءة، ولا زاجر من عقل أو كرامة، وأولئك سقط المتاع وأضر شيء على المجتمع جدير بهم أن يصفعوا بالنعال وتنزل بهم العقوبات الصارمة.

ونحن لا نتألم إلا من شيء نحس به ونراه ونسمعه، ولا نتضرر إلا من الخبثاء المتعرضين على السبل للعفيفات الطاهرات الحرائر وهم كثيرون عندنا يجوبون الشوارع والطرقات وبكلامهم ونظراتهم تضيق ذرعا ونشكو إلى الله ثم إلى ولاة الأمور وأنصار الفضيلة ما نعانيه من الأوباش والأوغاد، ومن كل داعر وعاهر وما أدري كيف يرضى كثير ممن هذه صفاتهم من الخلق أسفله وأدناه فهم سفلة وهم أراذل وهم متمردون على كل أدب جم وخلق رفيع، رضوا أن يكونوا في هذه الحياة كالبهائم، بل هم أضل، تائهون جائرون فارغون.

ليس لهم هم سوى إشباع رغباتهم الشهوانية والجسدية قال تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ، وقال أيضا: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

فالواجب على كل منا أن يبحث عن دين الله يتعلمه ليعمل به، ويطبقه على نفسه وأهله ومجتمعه.

وأن يأخذ من كل خلق أرفعه ومن كل أدب أرمقه فهذا رسول الله ما بعث إلا ليتم مكارم الأخلاق، ولهذا ينبغي لكل مسلم أن يكون عضوا صالحا في مجتمعه قدوة للأجيال بعده، لا يكون عضوا فاسدا ومفسدا وقدوة سيئة للأجيال بعده، فينبغي التنبه لهذا.

ومن أصر بعد هذا كله على الجلوس في الطرقات أو لم يكن له بدٌّ إلا الجلوس فيها فليعط الطريق حقه من حفظ اللّقطة وإرشاد الضال ورد الباغي عن ظلمه وحسن المقابلة وإزالة المنكر وهداية الأعمى وإماطة الأذى عن الطريق وأن يدل المستدل على حاجته وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث فهذا كله صدقة منك على نفسك وتؤجر بهذا الفعل. وأما الأدب الثالث فهو رد السلام على من عرفت ومن لم تعرف وهو من حق المسلم على المسلم والابتداء به سنة مستحبة ورده واجب على الكفاية، ويكون من الصغير على الكبير ومن القائم على القاعد ومن الراكب على الماشي والقليل على الكثير، وتكره الإشارة بالسلام إلا مع التلفظ به بحيث يشير بيده ويتلفظ بفمه.

وأما كيفيته فالأفضل أن يقول المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، والأجر المرتب على هذه الكيفية من السلام هو ثلاثون حسنة كما ورد بذلك الحديث.

ويشترط أن يكون الجواب على الفور فإن أخره ثم رد لم يعد جوابا وكان آثما بترك الرد، والسنة أن يبدأ المسلم بالسلام قبل كل كلام لا كما يفعله الناس اليوم من أنواع التحية مثل صباح الخير أو مرحبا أو حياك الله أو نهارك سعيد وبعضهم تصل تحيتهم إلى السباب والشتم واللعن أحيانا وهذا من أمور الجاهلية التي يجب على المسلم تركها وأن يستبدل بدلا منها ما أمرنا به وهو السلام.

وينبغي أن يعلم أن الرجل غير المشهور بفسق ولا ببدعة أنه يسلم عليه وأما الفاسق أو المشهور ببدعة فهذا لا يسلّم عليه من باب التأديب له والزجر عما هو فيه حتى يتأدب ،أو من يكون في معصية كمن يشرب الدخان فهذا لا يسلم عليه حتى يقلع عن معصيته. وأما أهل الذمة من النصارى أو اليهود فلا يجوز ابتداؤهم بالسلام، لما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه))، وأما إذا بدأونا بالسلام فيكون الجواب عليهم بقولك: وعليكم، كما جاء بذلك الحديث، ولو اضطر المسلم إلى تحية النصراني فعلها بغير السلام فيقول له مثلا: هداك الله أو أنعم الله صباحك وأما إذا لم يحتج إليه فالإختيار أن لا يقول له شيئا.

وهنا تنبيه: وهو إذا مر واحد على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفار فالسنة أن يسلم عليهم ويقصد المسلمين أو المسلم لما رواه البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ((أن النبي مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فسلم عليهم النبي )).

هذه بعض مسائل السلام وأما ما ورد في فضل إفشاء السلام فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((أن رجلا سأل النبي : أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).

وروى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)).

وقال عمارة : (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم (أي للناس) والإنفاق من الإقتار).

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فهذا باب واسع جدا وهو واجب على الكفاية وينبغي لمن رأى منكرا أن ينكره حسب استطاعته فإن لم يستطع فبقلبه كما ورد بذلك الحديث: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))، فمن رأى مثلا امرأة متبرجة سافرة عن وجهها الحجاب مائلة مميلة فينكر عليها فعلها هذا ويأمرها بالحجاب الشرعي ويذكرها بما ورد من الوعيد في التبرج حتى تتعظ وتترك ما هي عليه.

وإن رأى شابا يتسكع في الطرقات ويجوب بسيارته الشوارع والأزقة ليبحث عن ضحية يؤذيها فهذا ينهى أيضا ويذكر بالله فإن لم ينتصح تبلّغ إحدى الدوريات لتقبض عليه وينال جزاء فعلته وجرمه وإيذائه لنساء المسلمين.

وإن رأى الشباب الذين يملئون الشوارع صراخا ولعبا في أوقات الصلوات فيجب أن ينهاهم عن هذا اللعب ويأمرهم بأن يؤدوا الصلاة في المسجد مع الجماعة ويبين أن الصلاة خير من اللهو واللعب وهكذا فمن تصدر للجلوس في الطرقات فهذه واجبات يمليها عليه دينه، فلو كان شأن الناس كلّهم هكذا غض للبصر وكف للأذى ورد للسلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر لتغيرت المجتمعات من الأسوأ إلى الأحسن ولما تجرأ أحد على معصية الله جهارا نهارا، ويتبين لنا من هذا الحديث أن الجلوس في الطرقات مسؤولية كبيرة لمن استوطنها وإن خالف ما أمر به نال من الله المقت والعقوبة جزاء عصيانه وتمرده.

ووالله يا إخوة ما كثرت المنكرات في المجتمع إلا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.

أما بعد:

أيها المسلمون: كثيرا ما يرد في الكتاب والسنة الجمع بين تقوى الله وحسن الخلق وذلك والله أعلم للتنبيه على أنهما متلازمان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.

فتقوى الله شجرة وحسن الخلق ثمرة وهي أساس وهو بناء وهي سر وهو علانية وحيث أنتفى حسن الخلق انتفت التقوى وضعفه دليل على ضعفها فهو برهانها والدليل عليها والشاهد الصادق لها، يذكر الله تعالى المتقين في مواضع من كتابه فيصفهم بأحسن الأخلاق ويبريء ساحتهم من النفاق وسيئ الأخلاق.

ولقد جاء عن النبي ، من الحث على حسن الخلق والوصية به ما يدفع كل ذي دين قويم وعقل سليم إلى التخلق به والمنافسة فيه طمعا في فوائده وانتظارا لكريم موائده في الدنيا والآخرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

وفي الصحيحين عن النبي قال: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقا)).

وفي الترمذي قال عليه الصلاة و السلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذيء))، وفي رواية: ((وإن الرجل ليدرك بحسن خلق درجة قائم الليل وصائم النهار)) وهو حديث صحيح.

وقد سئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)). رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد وهو حديث صحيح.

ويكفي المسلم في الرغبة في الخلق الحسن أن الله سبحانه أثنى على نبيه بقوله: وإنك لعلى خلق عظيم ، فأكمل المؤمنين إيمانا بالنبي وأعظمهم اتباعا له وأسعدهم بالاجتماع معه المتخلقون بأخلاقه المتمسكون بهديه وسنته لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا .

ومع هذا فالناس في حسن الخلق متفاوتون كما أنهم متفاوتون في الأرزاق قال : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من أحب)) حديث صحيح رواه الإمام أحمد.

فحسن الخلق يمن وسوء الخلق شؤم فمن حسن الخلق أن يتأدب المسلم بآداب القرآن ويأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه ولهذا كان خلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها فمن حسن الخلق التخلق بكل خلق حسن كالصدق، والحياء واللين، فحسن الخلق أن يكون المرء لين الجانب، طلق الوجه، قليل النفور، طيب الكلمة والجانب والبشاشة ورد السلام ولين الكلام وصلة الرحم وإكرام الضيف تدوم بين الناس محبته، وتتأكد مودته، وتقال عثرته، وتهون زلته، ويغتفر ذنبه ومن حسن الخلق إغاثة الملهوف والإعانة على نوائب الدهر ومن حسن الخلق أن تسلم على الأهل وتستر عيوبهم، فإن حسنت أخلاقه كثر ما صافوه، وقل ما عادوه، وتسهلت له الأمور ومن حسن الخلق معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء ومن ذلك أن يصل أصدقاء والده ويكرمهم ويجلّسهم ويسلم عليهم إذا لقيهم فإن ذلك من الإيمان ومن البر لوالده بعد موته، ومن ساءت أخلاقه، ضاقت أرزاقه، والناس منه في شؤم وبلاء، وهو من نفسه في تعب وعناء، وأما من ألان للخلق جانبه، واحتمل صاحبه، ولطفت معاشرته وحسنت، ومال إليه الخلق واتسع إليه الرزق، وهو من نفسه في راحة، والناس منه في سلامة وأدرك المطلوب ونال كل أمر محبوب، وقد بلغني أن رجلا يشتكي من أبناء صديق له قد توفي منذ زمن بأنهم لا يسلمون عليه ولا يوقرونه ولا يحبون محادثته، وهذا من العقوق ونوع من الكبر والغطرسة وهو من سوء الخلق وقد ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)).

ومع التزام المسلم لحسن الخلق ينبغي له أن يجتنب صفات الضد كالكذب والوقاحة وقلة الحياء والبذاء والجفاء، والكبر وعبوس الوجه والغيبة والنميمة وقول الزور وغير ذلك من سيء الأخلاق التي يجب على المؤمن أن يجتنبها إرضاءا لله وطاعة لرسوله ، ومن يطع الله ولرسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما .

(1/36)

السحر ( طرق الوقاية والعلاج )

-----------------------

التوحيد

نواقض الإسلام

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

8/5/1417

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- التوكل على الله وقاية من السحر 2- نشر العلم والعقيدة الصحيحة وقاية للمجتمع من السحر 3- ذكر الله وقاية من السحر 4- العجوة (نوع من التمر) وقاية بإذن الله من السحر 5- بعض الأذكار والآيات التي تعالج السحر

-------------------------

الخطبة الأولى

أيها المسلمون: وحيث سبق الحديث عن السحر وحقيقته وحكمه وجزاء السحرة والذهاب إليهم وأسباب رواج السحر في بلاد المسلمين، فإن حديث اليوم استكمالاً لما سبق وإذا كان ما سبق تشخيص للداء فحديث اليوم توصيف للدواء وتلمس مشروع للوقاية وطرق العلاج.

وليس يخفي أن اتقاء السحر قبل وقوعه أولى وأحرى من التعب في استخراجه بعد الوقوع ويحفظ الناس من مأثور الحكم: (الوقاية خير من العلاج).

وإليكم إخوة الإسلام شيئا من الطرق الوقائية للسحر قبل وقوعه، وما أحرانا جميعا بتأملها والعمل بها.

اولا: تجديد الإيمان في النفوس كلما أنس المرء من نفسه ضعفا، والاتجاء إلى الله كلما خاف المرء على نفسه عدوا، ومن يركن إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

وهذا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى تجديد إيماننا ويقول ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم))

وأي قوة مهما بلغت وأي عدو مهما كانت شراسته لا حول له أمام قوة الله وجبروته فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم

ومن لوازم الإيمان الاستمساك بشرع الله أمرا ونهيا علانية وسرا، وهل علمتم أن من أسباب انتشار السحر قديما وفساد بني اسرائيل خصوصا بُعدهم عن الشريعة التي أنزلت عليهم ونبذهم تعاليمها واتباعهم للشياطين الذين استدرجوهم إلى السحر وزينوه لهم، وسولت لهم أن تسخير الجن والإنس والطير والريح لسليمان عليه السلام من اتباع الشياطين :

واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .

ثانيا: نشر العلم بقضايا العقيدة والحرص على سلامتها، وبيان مايخدشها وتعميم الوعي بمخاطر السحر والشعوذة، وتحذير الناس منها بمختلف وسائل الاعلام وتوسيع دائرة الوعي بمدارس البنين والبنات، وبالطرق المناسبة واستخدام المحاضرة والندوة والمطوية أسلوبا من اساليب التوعية عن هذه الأدواء.

ثالثا: تشجيع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة على الرقابة الدقيقة لكل ما يرد أو يصدر لهذا البلد الآمن، والأخذ بحزم على كل من تسول لهم أنفسهم الإضرار بالآخرين، ولا بد من تعاون الناس مع هذه الجهات المسئولة وسرعة البلاغ عما يثبت من محاولات الإفساد والكشف عن أماكن التجمعات المشبوهة ورصد التحركات المريبة والله يقول: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان .

رابعا: إصلاح البيوت وعمارتها بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن، وفي الحديث ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة (1)). وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام موجها ومبينا أثر صلاة النافلة في البيت ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا(2))

قال النووي معلقا: (حث على النافلة في البيت لكونه أخفي وأبعد عن الرياء وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان(3)

ودونكم أثر السلام، وهو نوع من الذكر ندبنا الله إلى البدء به حين الدخول إلى البيوت فقال جل ذكره فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة [النور:61]. وأرشدنا إليه المصطفي صلى الله عليه وسلم واعتبره ضمانا على الله للحفظ والأمان فقال: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل، وذكر منهم رجلا دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى(4))

ولا تسأل عن أثر قراءة آخر ايتين من سورة البقرة، آمن الرسول .. ، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. . فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه(5)).

ومن المعاني الواردة في قوله (كفتاه) أي من الشيطان، ولهذا جاء في حديث آخر ((إن الله كتب كتابا وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرءان في دار فيقر بها الشيطان ثلاث ليال(6)).

فهل نحصن بيوتنا ونحفظ أنفسنا وأولادنا وأهلينا بذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن.. مع استبعاد كل ما يجمع الشياطين من الصور والكلاب والغناء ونحوها من المنكرات الأخرى. .. ذلكم لمن رام النجاة في الدنيا والاخرة.

خامسا: ومما يدفع الله به الإصابة من السحر، التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام:((من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يصبه سم ولا سحر(7)).

وقد اشترط كثير من أهل العلم في التمر أن يكون من العجوة _ كما في الحديث _ وذهب آخرون إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب، فلو تصبح بغيرها نفع، وهو قول قوي وإن كان تمر العجوة أكثر نفعا وتأثيرا. كذا قال أهل العلم والله أعلم(8).

سادسا: التنبه لمخاطر العمالة الوافدة، والاستغناء عن السائقين والخدم ما أمكن، وإذا لزم الأمر فلا بد من المراقبة الدقيقة لتصرفاتهم حتى لا يكونوا سببا في نشر السحر والشعوذة، والناس غافلون.

سابعا: ونظرا لسهولة انتشار السحر والشعوذة عند النساء أكثر منه في الرجال، فينبغي على المرأة أن تحفظ نفسها في بيتها، ولا تكثر من الخروج للأسواق، وألا ترتاد الأماكن المشبوهة، وعلى الأزواج أن يحافظوا على أهليهم في بيوتهم ويوفروا لهم حوائجهم.

ثامنا: أما الحصن الحصين والسبب الوافي المنيع _ بإذن الله _ من كل سوء ومكروه، فهو المحافظة على الأوراد الشرعية في الصباح والمساء، وهي صالحة للاستشفاء قبل وقوع السحر أو بعد وقوعه، وكيف لا؟ وهي الأدوية الإلهية كما يسميها ابن القيم رحمه الله، ومع مسيس حاجة الانسان لهذه الأذكار فما أكثر ما يقع التفريط فيها! وإليكم منها مع بيان أثرها:

( أ) (( فمن قرأ آية الكرسي حين يأوي إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتي يصبح)) كذلك صح الخبر(9).

(ب) ومن قرأ بالأيتين الاخرتين من سورة البقرة كفتاه، وقد سبق البيان.

(ج) وقراءة قل هو الله أحد و وقل أعوذ برب الفلق و وقل أعوذ برب الناس حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات، يكفيك من كل شئ(10) كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(د) وكان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكم كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق ((أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة(11)) والهامة ذات السموم، وقيل كل ماله سم يقتل، واللآمة كل داء وآفة تلمّ بالانسان من جنون وخبل(12).

(ه)(13) وصح في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتي يرتحل من منزله ذلك))

فهل يصعب عليك ذلك يا أخا الإسلام، وانت محتاج لحفظ الله لكثرة حلولك وارتحالك؟ وهل تعجز أن تقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم)) ثلاث مرات؟ وهي كفيلة بإذن الله أن لا يضرك شيء كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم(14)

أيها المسلمون: وكتب الأذكار مليئة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يدفع الله بها ويمنع من كل مكروه. . وحري بالمسلم أن يطالعها ويعمل بها ويحافظ على ورده منها صباحا ومساء، وأن يعلمها أهله وذويه، ومع المحافظة على الأذكار لابد من الصدق والإيمان والثفة بالله والاعتماد عليه وانشراح الصدر لما دلت عليه، فبذلك ينفع الله بهذه الأوراد ويدفع كما قرر أهل العلم(15).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوساً قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً [الإسراء:82-84].

نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد .

__________

(1) رواه مسلم في صحيحه ح 780 ، 1 / 539

(2) متفق عليه ( خ 1/ 528 فتح ، م 6 / 68 النووي )

(3) شرح مسلم 6 / 68 ، وقاية الانسان / 69

(4) رواه ابو داود بإسناد حسن كما قال النووي ( الأذكار 2 ، وقاية الانسان من الجن والشيطان ، وحيد بإلى / 363 )

(5) رواه البخاري ( الفتح 9/ 55 )

(6) اخرجه الحاكم وصححه .. ( انظر : الاشقر : عالم السحر والشعوذه / 212 ) .

(7) متفق عليه .

(8) انظر : احذروا السحر والسحره / العلوان / 3 .

(9) البخاري 4 / 487 ، الفتح

(10) رواه ابو داود 4/ 321 والترمذي 5/ 227 وحسنه النسائي وجود الالبان اسناده

(11) اخرجه الو داود وابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح ( الصحسح المسند في اذكار اليوم والحياه _ العدوي – 108 )

(12) قاله الخطابي ( انظر الصحيح المسند – لمصطفي العدوي / 108 )

(14) الصحسح المسند للعدوي / 94 .

(15) 1 انظر: رسالة في حكم السحر والكهانة / ابن باز ص 7.

(1/37)

اتبعوا ولا تبتدعوا

-----------------------

قضايا في الاعتقاد

الاتباع

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

إكمال الله عز وجل لدينه – لا يُقبل من العمل إلا ما وافق السنة – خطورة البدعة وأثرها في الخصومة والعداوة – طريقة أصحاب البدع في الاستدلال – اهتمام السلف بالاتباع وإنكارهم على المبتدعين

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا سنة نبيكم محمد تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المؤمنون، لقد أكمل الله هذا الدين ورضيه وأتمَّ به نعمته . . كتاب الله، وسنة رسوله محمد لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل، ولم يدعا مجالاً لمتشرِّع، العاقد عليهما بكلتا يديه، مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بخيري الدنيا والأخرى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

روى الطبراني بإسناد صحيح عن النبي أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه))(1)[1].

كل عبادات المتعبدين يجب أن تكون محكمة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه، موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))(2)[2]، ((ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))(3)[3]. بذلك صح الخبر عن الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام.

يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في السنن الراشدة: سن رسول الله وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.

أيها المؤمنون: إن غير سبيل المؤمنين نزعاتٌ وأهواءٌ، وضلالٌ عن الجادة، وشقٌ لعصا الطاعة، ومفارقةٌ للجماعة.

لقد رسم الشرع للعبادات والتكاليف طرقاً خاصة على وجوه خاصة زماناً ومكاناً، وهيئة وعدداً، وقصر الخلق عليها أمراً ونهياً، وإطلاقاً وتقييداً، ووعداً ووعيداً، وأخبر أن الخير فيها، والشر في تجاوزها وتعدِّيها وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

والرسل برحمة الله إلى خلقه مرسلون، ومن رام غير ذلك، وزعم أن ثمَّة طرقاً أُخَر، وعَبَدَ الله بمستحسنات العقول؛ فقد قدح في كمال هذا الدين، وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص.

يقول ابن الماجشون: سمعت مالكاً رحمه الله يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنةً؛ فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً.

الابتداع وتلمُّس المسالك والطرق معاندةٌ للشرع ومشاقةٌ له. وهو محض اتباع الهوى فليس ثمَّة إلا طريقان:

إما طريق الشرع، وإما طريق الهوى... يقول الله عزّ وجلَّ: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

لقد حصرت الآية الكريمة الحكم في أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة للمصطفى، وإما اتباع الهوى.

ولئن قصد صاحب البدعة ـ أيها الإخوة ـ ببدعته التقرب إلى الله والمبالغة في التعبد؛ فليعلم أن في هذا مداخل للشيطان عريضة في مسالك ملتوية ووسوسات مميلة، ولم يرضَ هذا المبتلى بما حدَّه الشارع وقدَّره؛ فخرج عن هذه الضوابط وتفلَّت من هذه القيود، وقد يصاحب ذلك عُجبٌ وحبٌّ في الظهور، مع ميول النفس بطبعها إلى قبول الجديد الذي لم تعهده قطعاً للسآمة والملل.

إن القيام بالتكاليف الشرعية فيه كُلفةٌ على النفس؛ لأن فيه مخالفةً للهوى، ومنازعةً للرغبات، فيثقلُ هذا على المبتدع، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها.

وكلُّ بدعة فإن للهوى فيها مدخلاً؛ لأنها راجعة إلى رغبات مخترعها ومبتدعها، ومتمشيةٌ مع هواه وميول نفسه ليست نابعةً من الشرع وأحكامه وأدلته.

ومن هنا فإنه قد يظهر من صاحب البدعة اجتهادٌ في العمل والعبادة، وما هذا إلا لخفة يجدها، ونشاطٍ يشعر به لما فيه من موافقة الهوى. ولقد كان الرهبان من النصارى ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير طريق الحق وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ [الغاشية:2، 3]. قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].

وإنَّ قصداً في السنة خير من اجتهاد في بدعة.

وبسبب البدع وأهلها – أيها المؤمنون – يكثر الجدل بغير الحق، وبغير التي هي أحسن، وتحصل الخصومة في الدين. وقد قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ [آل عمران:105]. قال: هم أهل البدع.

وقال بعض أهل العلم: كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ فهي من مسائل الإسلام.

وكل مسألة حدثت أو طرأت؛ فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة ليست من أمر الدين في شيء.

وأصحاب البدع يتبعون المتشابه، ويتعسفون في التأويل حتى فسِّر قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]. بأنهم أهل البدع والأهواء.

وحينما قال أهل التحكيم لعليٍّ رضي الله عنه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [الأنعام:57]. قال: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل.

وقد تأكد في الأخبار النبوية أنه ما قامت بدعة إلا وأميتت سنة.

أخرج أحمد والبزار من حديث غضيف بن الحارث مرفوعاً: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنةٍ خير من إحداث بدعة))(4)[4].

وأخرج أحمد أيضاً والطبراني والبزار من حديث غضيف عن النبي أنه قال: ((ما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة))(5)[5]، فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن في ظهور البدع انطماساً للسنن، فالسعيد من عضَّ على السنة بالنواجذ، فأحياها ودعا إليها، فردَّ الله بها مبتدعاً، وهدى بها زائغاً وأنقذ بها حائراً.

كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية: (أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارضَ لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصرٍ نافذٍ كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضلٍ كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلَّموا بما يكفي، وصفوا ما يشفي، فما دونهم مقصِّر، وما فوقهم محسِّر، لقد قصَّر فيهم قوم فجفَوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم)(6)[6].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً [الأحزاب:36].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اتبعوا رحمكم الله ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. يقول حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تعبَّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً.

أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود رضي الله عنهما جميعاً: (إني رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟؟ ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال:‍‍‍‍‍فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحَكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم؛ هؤلاء أصحابه متوافرون. وهذه ثيابه لم تبلَ، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه؟)(7)[1].

وروي أن رجلاً قال لمالك بن أنس: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله . قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يخص به رسول الله ؟!

فاتقوا الله – يرحمكم الله – وخذوا بالنهج الأول، وعليكم بالاتباع، وابتعدوا عن الابتداع.

__________

(1) صحيح، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: كتاب الجامع – باب القدر، حديث (20100)، وابن أبي شيبة: كتاب الزهد – باب ما ذكر عن نبينا في الزهد (8/129)، والطبراني في المعجم الكبير، حديث (1647)، قال الهيثمي في المجمع: ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة (8/264).

(2) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).

(3) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلح – باب إذا اصطلحوا على صلح جور... حديث (2697)، ومسلم: كتاب الأقضية – باب نقض الأحكام الباطلة... حديث (1718).

(4) ضعيف، مسند أحمد (4/105)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: وفيه أيضاً بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن. وانظر صلاح المساجد من البدع والعوائد للقاسمي بتعليق الألباني (ص49)، ولم أجده في المطبوع من مسند البزار.

(5) ضعيف، لم أجده في المسند ولم يعزه الهيثمي له حيث قال في المجمع: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو منكر الحديث (1/188)، قلت: أخرجه الطبراني في الكبير (18/99)، والبزار (131)، وفي إسناده أيضاً محمد بن عبد الرحيم ضعفه الدارقطني وشريح بن العمان، قال أبو حاتم: شبه المجهول، انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/334) وفيض القدير (5/471)، إصلاح المساجد للقاسمي بتعليق الألباني (ص13)، وضعيف الجامع (5155).

(6) أخرجه أبو داود في: السنة، باب: لوزم السنة (4612).

(7) إسناده حسن، أخرجه الدارمي في المقدمة – باب في كراهية أخذ الرأي، حديث (204) وهو حسن الإسناد لأن فيه الحكم بن المبارك قال فيه ابن حجر، صدوق ربما وهم، التقريب (1466).

(1/38)

سورة (ق)

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

البعث والنشور والجزاء والحساب أحد أركان الدين – سورة (ق) وخطبته بها صلى الله عليه وسلم والسر في ذلك – تفسير السورة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويبعث من في القبور، ويظهر المستور، يوم تبلى السرائر، وتكشف الضمائر، ويتميز البر من الفاجر.

أيها الأخوة في الله، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ [ص:27].

المكلفون مؤاخذون بأعمالهم، تكتب ألفاظهم، وتسجل ألحاظهم في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم.

أيها المسلمون والمسلمات، البعث والنشور والجزاء والحساب أحد أركان دين الله، جاءت به جميع الرسل، والغريب العجيب أنه ما من شيء في دعوة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام استبعده الكفار واستغربوه، وتعجبوا منه وأنكروه مثل إنكارهم اليوم الآخر.

والقرآن الكريم قد سجل على هذه الأجيال الكافرة جيلاً بعد جيل إصرارها وإنكارها؛ وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]. أَءذَا كُنَّا تُرَابًا أَءنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]. وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ [النحل:38]. وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً [مريم:66]. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:35-37]. بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاْوَّلُونَ قَالُواْ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ [المؤمنون:81-83].

أيها الإخوة، وبين أيدينا سورة عظيمة كأنها قد خصصت لمعالجة هذه القضية، سورة ذات دلالات عظيمة وآيات عميقة، تخاطب العقول، وتطبب أمراض الشكوك لا بالجدل العقلي العقيم؛ ولكن بالطريقة القرآنية الفريدة الصالحة لكل زمان ومكان. إنها السورة التي كان يقرؤها ، ويخطب بها على المنابر في الجُمَع والأعياد والمجامع الكبار، كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والقيامة والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.. تلكم هي سورة: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ [ق:1].

أخرج أحمد ومسلم من حديث أم هشام بنت حارثة قالت: (لقد كان تنورنا وتنور النبي واحداً سنتين أو سنة أو بعض السنة، وما أخذت ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ إلا على رسول الله كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس)(1)[1].

سورة عظيمة، جلية بحقائقها، ظاهرة في حججها، واضحة في بيانها، تأخذ على النفوس أقطارها، وتلاحق القلوب في خطراتها وحركاتها، تبرهن على عقيدة البعث والنشور؛ من المولد والوفاة، والمحشر والحساب، والثواب والعقاب، إيضاحٌ عجيبٌ، وبسطٌ دقيقٌ لصورة المحيا والممات، وصورة البلى والقيام لرب العالمين.

تبتدئ السورة الكريمة بتعجب الكفار واستبعادهم للمعاد بعد الهلاك، وتلك سذاجة في التفكير، وقصور في النظر. إنهم ينكرون إعادة الخلق، وقد خلقوا أول مرة. ويأتي الرد عليهم سهلاً سريعاً يسيراً، فالله الذي خلقهم وأماتهم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، يعلم أجزاءهم وأشلاءهم وذرَّاتهم، وكل ما تنتقصه الأرض منهم، وكل ذلك في كتاب حفيظ.

بسم الله الرحمن الرحيم: ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَىْء عَجِيبٌ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ [ق:1-5].

إن كل من كذب بالحق فهو في أمر مريج. السائر في غير درب الحق حاله مختلط، وأمره متخبِّط، تتقاذفه الأهواء، وتتخطفه الهواجس، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك، يضطرب سعيه، وتتأرجح مواقفه ذات اليمين وذات الشمال، فقلبه في اضطراب، ونفسه في خلجات. وهذا هو حال الكثيرين من الفلاسفة المتقدمين، والماديين المتأخرين، والشيوعيين والعلمانيين؛ كل هؤلاء وأولئك في أمر مريج، وليس ثمة معالجة لهذه الشكوك، ولا طريق يوصل إلى الحق إلا طريق القرآن، إنه التدبر في خلق الإنسان ومخلوقات الأرض والسماء، والنبات والماء، وكل مبثوث من الجماد والأحياء، ينضم إلى ذلك النظر في أحوال الغابرين، وعاقبة المكذبين، ومصائر المتشككين أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [ق:6-10].

ومن بعد ذلك تنتقل الآيات إلى طريق في البرهان آخر، ومشهد مألوف؛ ولكن كثيراً ما تغفل عنه النفوس، إنها لحظة الموت وسكراته، ويسبق ذلك بيان الرقابة الإلهية والإحاطة الربانية بهذا الإنسان، فهو في قبضة مولاه، النَّفَس معدود، والهاجس معلوم، واللفظ مكتوب، واللحظ محسوب. رقابة رهيبة لا يفوت فيها ظن، ولا يفلت منها وسواس.

يُذكر ذلك ـ أيها الإخوة ـ مصحوباً بوصف عجيب لحالة الموت والسكرات التي تمر على كل إنسان؛ براً كان أو فاجراً، مؤمناً كان أو كافراً. والموت هو أشد ما يحاول المخلوق البشري أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. ولكن الموت طالب مدرك، لا يبطئ ولا يخطئ ولا يتخلف له موعد، وها هي سكرات الموت قد جاءت بالحق الذي كان ينكره المنكرون، ولكن لا ينفع الاعتراف بعد فوات الأوان.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:16-19].

وبعد الموت وسكراته يأتي هول المحشر، ورهبة الحساب وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ

(1/39)

الصدقة الفاضلة

-----------------------

فقه

الزكاة والصدقة

-----------------------

سليمان بن حمد العودة

بريدة

8/9/1414

جامع الراشد

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- شهر رمضان شهر الأعمال الصالحات. 2-مضاعفة الأعمال الصالحات بفضل الله وكرمه. 3- مضاعفة الصدقات خصوصاً. 4- فوائد الصدقة للمؤمن في الآخرة. 5- فضل الصدقة من الفقير المحتاج. 6- الصدقة على الأرحام. 7- التحذير من المن في الصدقة. 8- التحذير من التصدق بالكسب الخبيث. 9- تنافس السلف في الإنفاق في سبيل الله.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد: إخوة الإسلام، اتقو الله واتلوا كتاب الله وأطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام.

أيها المسلمون: وإذا كانت النفقة والجود والإحسان والبر وصلة الأرحام تطيب في كل حال وزمان فهي تزكو وتتضاعف حسناتها في شهر رمضان شهر الجود والإحسان.

وما دمتم في شهر القران فتاملوا خاشعين وقفوا متفكرين في آيات النفقة في القرآن، والحق تبارك وتعالى يقول: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261].

قال سعيد بن جبير: (في سبيل الله ) يعني في طاعة الله وقال مكحول: يعني من الإنفاق في الجهاد … وقال ابن عباس: الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف(1).

وسواء أكان هذا أو ذاك، فهذا المثل التشبيهي محصلة سبعمائة ضعف، ولكن والله أعلم ذكر هذه الصيغة ليكون أبلغ في النفوس، إذ فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزراعة لمن بذره في الأرض الطيبة(2).

وجاء في صحيح السنة النبوية ما يؤكد مضاعفة الصدقة بل ومضاعفة كل عمل صالح يقول علية الصلاة والسلام في الحديث الذى رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه ((كل عمل ابن ادم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله، يقول الله: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي.... الحديث(3))

وهل تظن بربك يا ابن آدم إلا كل خير حين يختص بالصيام له؟ وهل يراودك شك أنه سيجزيك به أضعافا مضاعفة وهو الكريم الجواد؟ بل ويضاعف لك أجر الصدقات أضعافا مضاعفة كما قال تعالى في الآية الأخرى من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة

وتعال بنا لنقف سويا عند هذا الحديث الذى رواه أبو عثمان النهدي وتحمل في سبيله السفر حين يقول: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فقدم قبلي حاجاً وقدمت بعده، فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة))، فقلت: ويحكم والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث، قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد أنطلق حاجاً، فانطلقت إلى الحج أن ألقاه بهذا الحديث، فلقيته لهذا، فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال: وما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: أن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة، قال: يا أبا عثمان: وما تعجب من هذا والله يقول من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة [البقرة:245] ويقول تعالى: فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل [التوبة:38].والذي نفسى بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة(4)).

وإذا كان هذا ما نقله أبو هريرة رضي الله عنه في مضاعفة أجر الصدقة، فاسمع إلى ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الصدد أيضاً، وقد روى ابن أبى حاتم بسنده إلى ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل (5)…… [البقرة:261]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب زد أمتى، فنزلت من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة (6) [البقرة:245]. قال: رب زد أمتي، فنزل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10])).

إخوة الإيمان: إذا كان هذا في مضاعفة أجر الصدقة يوم القيامة، فللصدقة والإنفاق الخير بشكل عام آثار أخرى، تشمل الدنيا والأخرة، فثواب أصحابها محفوظ عند الله، وهم آمنون من مخاوف يوم القيامة حين يفزع الناس، وهم غير آسفين على ما خلفوا من الأموال والأولاد وزهرات الدنيا، لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير من ذلك كله، يقول تعالى: الذين ينفقون في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة:262].

وهل علمت أخا الإسلام أن الصدقة تظلل صاحبها في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى الظل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس(7)) .

وهل علمت أن الصدقة طريق إلى الجنة وسبب من أسباب دخولها، يقول الله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء …… الآية [آل عمران :133-134].

يا أخا الإسلام، أنفق ينفق الله عليك وأعط يعطك الله، وهل يغيب عنك أن الله يعوضك عما أنفقت، وملَكان يناديان مع بداية كل يوم، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفاً، ويقول الأخر: اللهم أعط ممسكا تلفاً.

أعط يا أخا الإسلام وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، فهنا تنفع النفقة، وهنا تقبل الصدقة، وهنا يكون الامتحان وتصعب المنافسة

أما إذا بلغت الروح الحلقوم وشعرت أنك ستخرج من الدنيا فهيهات وقد انتقل، أو قارب المال أن ينتقل إلى غيرك .. يقول عليه الصلاة والسلام موضحاً: ((أفضل الصدقة أن تصدق وأنت شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا(8)).

يا أخا الإيمان: ومهما كان فقرك وقلتك فحاول المساهمة في الصدقات مع المتصدقين، وابدأ بالأقربين وإن كان المتصدق به قليلاً، فذلك جهد المقل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول(9)).

أيها المسلمون: ولا يفوتن عليكم البدء في صدقاتكم لذوي الأرحام والأقربين، فإن الصدقة على المسكين البعيد صدقة، وهي على القريب المحتاج صدقة وصلة.

ومهما وقع بينكم وبين أرحامكم من خلاف فلا يمنعكم ذلك من صلتهم، والتصدق عليهم، وإليكم توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ يقول: ((أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح(10)).

والكاشح: العدو الذى يضمر عداوته ويطوي عليها. وكشحه باطنه، أو الذى يطوي عنك كشحه ولا يألفك (11).

يا أخا الإيمان: وإذا قدرك الله على شيء من النفقة فلا يخالطها شيء من المنّ بالعطية أو الأذى لمن تعطي فذلك مبطل للصدقة، كما يبطلها الرياء والسمعة، من أجل أن يقول الناس هو جواد أو كريم، يقول تعالى: يا أيها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر…الآية [البقرة:264].

وهل ترضى أن يعرض الله عنك يوم القيامة؟ والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزراه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب(12)).

وإياك إياك أن تأكل الحرام، أو تتصدق بالحرام، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وجاهد نفسك عن إنفاق الخبيث والرديء، وافقه قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد [البقرة:267].

وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((... ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث(13)).

أيها المسلمون: ولكم بمن سلف من صالحي الأمة مثل وعبرة، وقد استجابوا لله والرسول صلى الله عليه وسلم، فهذان الخيران: أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، يتنافسان في الصدقة، فيجىء عمر بنصف ماله، ويأتي أبو بكر بماله كله، ويكاد أن يخفيه من نفسه، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: وما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول: أبقيت لهما الله رسوله.

ثم يبكي عمر ويقول: بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. ويقال فيهما نزلت: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم … الآية [البقرة:271].

وهذا أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة… [التوبة:38].

قال يا رسول الله: وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: ((نعم يا أبا الدحداح)) قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي حائطي – وحائطه من سبعمائة نخلة – وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء إليهم ونادى: يا أم الحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل(14).

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وهو الغني الحميد، وأشهد أن لا إله إلا هو يجزي المتصدقين ويحب المحسنين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قدوة المتصدقين ونموذج أعلى للمحسنين، صلى الله عليه وعلى الأنبياء المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين إلى يوم الدين.

أيها المسلمون ولسنا – معاشر البشر – ملائكة براء من نزغ الشيطان، وأينا الذي لا يفكر ولا يتردد حين إخراج الصدقة، فنفسه المطمئنة بوعد الله في الثواب تدعوه لمزيد من الإنفاق وتطمئنه أن الله سيخلفه، وأن ما أنفق له وما أبقى فهو لغيره.

ونفسه الأمارة بالسوء وهواه يخوفانه عواقب الفقر، وقلة ذات اليد، ويذكرانه أن هذا المال لم يأتك إلا بعد كدح وكد وعرق جبين، أفتخرجه بهذه السهولة للفقراء والمحتاجين أو لذوي الأرحام والمساكين؟ هذه المعادلة صعبة.

وتلك الوعود بيانية أول من يعلمها في نفسك علام الغيوب، ولذلك أخبر عنها في كتابه العزيز وبيَن المخرج فقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم [البقرة:268].

وفي تفسير الآية ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم ((إن للشيطان لمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب الحق، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان، ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً(15)).

فاعلم – أخي المسلم – هذه اللمة، وافقه المخرج منها، فذلك عون لك بإذن الله على الإنفاق والإحسان، وطريق إلى الجنان بإذن الله.

إخوة الإسلام: ويتردد بعض المحسنين حين النفقة بين الإسرار بالصدقة أو الإعلان، والله تعالى امتدح الأمرين معا فقال: إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم والله بما تعملون خبير (16) [البقرة:271].

فمتى يكون الأسرار بالصدقة أفضل؟ ومتى يكون إعلانها أفضل؟

قال العلماء في الآية دليل على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن الرياء، إلاأن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية.

والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ((.. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه(17)) ..

وروى الترمذي والنسائي من حديث أبى ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم، فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه(18)).

وفى لفظ صحيح آخر ((والصدقة خفية تطفئ غضب الرب .. )). قال ابن كثير: والآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء مفروضة أو مندوبة، لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها فقال: بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها فقال: بخمسة وعشرين ضعفا(19).

أيها المسلمون: هذه بعض أحكام وآداب، وأجر النفقات والصدقات فتزودوا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.

وأذكركم ونفسي أخيرا بمغانم وآثار جليلة للنفقة صورها النبى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح فقال: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفية تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الأخرة(20)).

إخوة الإيمان: وليس يخفى عليكم أن هناك حاجات وهناك محتاجين، وهناك من يسألون الناس إلحافا، والله أعلم بما يقتتون .. فهلا مددتم يد العون لهؤلاء وأولئك أجمعين، وإذا تجاوزتم الداخل فهناك جراح المسلمين في الخارج تنزف دما، ويعز المطعم والمشرب، ويقل الملبس والكساء .. وهل يليق بنا أن نعيش آمنين مطمئنين وفي رغد العيش مترفين، وإخواننا في العقيدة والدين يعيشون المسغبة، ويجرعون كؤوس المآسي من أمم الكفر مجتمعين.

__________

(1) تفسير إبن كثير 1/467

(2) تفسير ابن كثير 1/ 467 .

(3) المسند 2/443 ومسلم الصيام 3/15 .

(4) الحديث رواه إبن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 1 / 42 .

(5) البقرة / 261 .

(6) البقرة / 245 .

(7) الحديث رواه أحمد والحاكم وسنده صحيح – صحيح الجامع 4 / 170 .

(8) الحديث متفق عليه .. صحيح الجامع 1 / 364 .

(9) رواه أبو داود والحاكم بسند صحيح – صحيح الجامع 1 / 364 .

(10) حديث صحيح رواه الامام أحمد والطبراني – صحيح الجامع 1 / 364 .

(11) ذكره إبن الأثير في النهاية 4 / 15 .

(12) الحديث رواه مسلم 1 / 71 ، 72 .

(13) المسند 1 / 387 ، تفسير بن كثير 1 / 473 .

(14) رواه بن أبي حاتم … تفسير بن كثير 1 / 441 ، 442 .

(15) رواه ابن أيي حاتم ، والترمذي وقال حسن غريب . تفسير ابن كثير 1 / 75 .

(16) البقرة / 271 .

(17) الحديث متفق عليه – انظر تفسير ابن كثير 1 / 477 .

(18) الحديث صححه الترمذي ، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وسنة محقق جامع الأصول 9 / 563 ، 564 .

(19) تفسير ابن كثير 1 / 478 .

(20) الحديث رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح ( صحيح الجامع 3 / 24 ) وفي لفظ عند الحاكم : = صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والمهلكات ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ( صحيح جامع ) .

(1/40)

الشيطان مداخل ومكائد(مداخل الشيطان)

-----------------------

الإيمان

الجن والشياطين

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

سبب عداوة الشيطان للأبوين – أهمية معرفة صور كيد إبليس ومداخله للنجاة منه - من خطوات الشيطان : الكفر , البدع والأهواء والشبهات , القول على الله بغير علم , البخل وخوف الفقر ,الغضب , الغلو والتفريط – سبل النجاة من كيد الشيطان - بعض التوجيهات والإرشادات في التحذير من مسالك الشيطان

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فإن لكل شيء حساباً، ولكل أجل كتاباً، وأنتم بأعمالكم مجزيون.

أيها المسلمون، يقول الله عزَّ وتبارك: يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27].

مارس الشيطان كيده وفتنته مبتدئاً بالأبوين الكريمين. ولقد كان بلاءً عظيماً، دافعه الغيظ والحسد: أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ [الإسراء:62]، دافعه الكبر والخيلاء: إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، ووسيلته الأيْمان الكاذبة: وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]. والمقاييس الفاسدة: أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [الأعراف:12].

فتنة عظمى، وبلية كبرى حين يعظم سلطان إبليس فيستفز القلوب والعقول والمشاعر في معركة صاخبة. تزمجر فيها الأصوات، وفيها إجلاب الخيل والرجال للمبارزات: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالأولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].

أيها الإخوة في الله، إن تبين صور هذا الكيد الإبليسي، والتأمل في هذا المكر الشيطاني، أمرٌ من الأهمية بمكان؛ من أجل النظر في سبيل الخلاص، وطريق النجاة. فالله قد هدى النجدين، وأوضح الطريقين.

معاشر الأحبة، مداخل الشيطان تأتي من قبل صفات الإنسان، فلإن كان الشيطان خرج من الجنة بالحسد، فإن آدم خرج منها ـ كما يقول العلماء ـ بالحرص والطمع.

وتترقى خطوات الشيطان التي يستدرج فيها ابن آدم حتى يتَّخذه معبوداً له من دون الله عياذاً بالله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:60]. ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً [مريم:44].

ويقع العبد في ذلك حين يسلم قياده لعدوه، ويفلت الزمام لشهواته، فيتبع كل شيطان مريد كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:4]. وفي الحديث: ((إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك، وآباء أبيك؟...))(1)[1].

ويأتي من بعد الكفر مسالك أخرى في خطوات البدع والأهواء والشبهات. فكم روَّج الزغل على بعض العارفين، وكم سحر ببهرجه بعض المتعبدين، حتى ألقاهم في تشعبات الآراء، ومسالك الضلال. منتقلاً بهم إلى حالة يقولون فيها على الله ما لا يعلمون: وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169].

نعم أيها الإخوة، القول على الله بلا علم خطوة من خطوات الشيطان، وهو الأصل في فساد العقائد، وتحريف الشرائع، ويخشى من ذلك على أقوام يخوضون في علوم لا يحسنونها، ويتجرءون على فتاوى لا يحيطون بها، وقد يجرهم في خطواتهم إلى الإفك والإثم، والتزوير والكذب، وحينئذٍ تتنزل عليهم الشياطين تنزلاً هل أنبئكم على من تنزل الشياطين

(1/41)

الذين هم في صلاتهم خاشعون(الخشوع في الصلاة)

-----------------------

الإيمان, فقه

الصلاة, خصال الإيمان

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

تفاضل العبادات بتفاضل ما في القلوب من الإيمان ولوازمه – أولى صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة – التحذير من التقصير في شأن الصلاة والإخلال بحقها – تعريف الخشوع وبيان لوازمه , وتفاوت مراتبه – أثر الخشوع في الصلاة في راحة النفس – الخشوع المذموم - الأمور المعينة على الخشوع

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعبدوه حق عبادته، وأخلصوا له، تقربوا إليه خوفاً وطمعاً.

أيها المسلمون، العبادات والقربات تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة والخشية والخشوع والإنابة.

والعابد حقاً والمتقرب لربه صدقاً، هو الذي تحقق في قلبه صدق الإمتثال للأوامر على وجهها، وابتعد عن المخالفات بجميع وجوهها، يجمع بين الإخلاص والحب والخوف وحسن الطاعة.

ومن أجل تبين هذا التفاضل وإدراك هذا التمايز، هذه وقفة مع أعظم فرائض الإسلام بعد الشهادتين؛ مع الصلاة عماد الدين.

صفات المؤمنين المفلحين مبدوءة بها، واستحقاقية ميراث الفردوس مختتمة بالمحافظة عليها: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزكاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11]. وفي استعراض آخر من كتاب الله للمكرمين من أهل الجنة تأتي المداومة على الصلاة في أول الصفات، وتأتي المحافظة عليها في خاتمتها إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:19-35].

أيها الإخوة، إنه ثناء على هؤلاء المصلين ما بعده ثناء، وإغراء ما بعده إغراء، لكن هذه الصلاة التي أقاموها صلاة خاصة، ذات صفات خاصة، صلاة تامة كاملة، صلاة خاشعة في هيئة دائمة، ومحافظة شاملة.

إنها صفات وعناصر إذا حصل خللٌ فيها أو نقصٌ؛ فقد حصل في صلاة العبد نقصٌ بقدر ذلك القصور، بل قد يتحول الوعد إلى وعيد، وينقلب رجاء الثواب إلى عرضة للعقاب، اقرءوا إن شئتم: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]. واقرءوا في صفات المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]. ... وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى.. [التوبة:54].

أيها الإخوة: إن روح الصلاة ولبها هو الخشوع وحضور القلب، حتى قال بعض أهل العلم: صلاة بلا خشوع ولا حضور جثة هامدة بلا روح.

إن الخشوع ـ أيها الأحبة ـ حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله وتوقيراً، وتواضعاً في النفس وتذللاً. لينٌ في القلب، ورقة تورث انكساراً وحرقة.

وإذا خشع القلب خشع السمع والبصر، والوجه والجبين، وسائر الأعضاء والحواس. إذا سكن القلب وخشع، خشعت الجوارح والحركات، حتى الصوت والكلام: وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108].

وقد كان من ذكر النبي في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي وعصبي)) (1)[1]، وفي رواية لأحمد: ((وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين))(2)[2].

وحينما رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة قال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

ويبين علي رضي الله عنه خشوع الصلاة فيقول: هو خشوع القلب، ولا تلتفت في صلاتك، وتلين كنفك للمرء المسلم. يعني: حتى وأنت تسوي الصفوف مع إخوانك، ينبغي أن يعلوَك الخشوع.

ويصف الحسن رحمه الله حال السلف بقوله: كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا له البصر في الصلاة.

عباد الله، إن القلب إذا خشع، سكنت خواطره، وترفعت عن الإرادات الدنيئة همته، وتجرد عن اتباع الهوى مسلكه، ينكسر ويخضع لله، ويزول ما فيه من التعاظم والترفع والتعالي والتكبر.

الخشوع سكون واستكانة، وعزوف عن التوجه إلى العصيان والمخالفة. والخاشعون والخاشعات هم الذين ذللوا أنفسهم، وكسروا حدتها، وعودوها أن تطمئنَّ إلى أمر الله وذكره، وتطلب حسن العاقبة، ووعد الآخرة، ولا تغتر بما تزينه الشهوات الحاضرة، والملذات العابرة.

إذا خشع قلب المصلي استشعر الوقوف بين يدي خالقه، وعظمت عنده مناجاته، فمن قدَرَ الأمر حق قدره، واستقرَّ في جنانه عظمة الله وجلاله، وامتلأ بالخوف قلبه، خشع في صلاته، وأقبل عليها، ولم يشتغل بسواها، وسكنت جوارحه فيها، واستحق المديح القرآني قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1،2].

رُوي عن مجاهد – رحمه الله – في قوله تعالى: وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. قال: القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح. قال: وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عزَّ وجلَّ عن أن يشد نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ما دام في الصلاة.

بالخشوع الحق، يكون المصلون مخبتين لربهم، منكسرين لعظمته خاضعين لكبريائه، خاشعين لجلاله: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ [الأنبياء:90].

ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الخشوع يتفاوت في القلوب بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع. وبمقدار هذا التفاوت يكون تفاضل الناس، في القبول والثواب، وفي رفع الدرجات، وحط السيئات. عن عبد الله الصنابحي – رضي الله عنه – قال: أشهد أني سمعت رسول الله يقول: ((خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن؛ كان له على الله عهدٌ أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه))(3)[3].

وفي خبر آخر عنه أخرجه مسلم وغيره قال: ((ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فأحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله))(4)[4].

وعن عثمان رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((... من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء؛ غفر له ما تقدم من ذنبه))(5)[5].

الصلاة الخاشعة هي الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة الواثقة بوعد ربها المؤمنة بلقائه.

أين هذا من نفوس استحوذ عليها الهوى والشيطان؟! فلا ترى من صلاتها إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً. أما قلوبها فخاوية، وأرواحها فبالدنيا متعلقة، ونفوسها بالأموال والأهلين مشغولة.

لما سمع بعض السلف قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُواْ الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [النساء:43]. قال: كم من مصل لم يشرب خمراً.. هو في صلاته لا يعلم ما يقول، وقد أسكرته الدنيا بهمومها.

أيها الإخوة، وهناك نوع من الخشوع حذر منه السلف، وأنذروا وسموه: خشوع النفاق. فقالوا: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قالوا: أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع. ولقد نظر عمر رضي الله عنه إلى شاب قد نكس رأسه فقال له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر خشوعاً على ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق.

وقال الحسن: إن أقواماً جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مداعج الصوف ـ أي: الصوف الأسود ـ واللهِ لأَحدُهم أشدُّ كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب الديباج في ديباجه.

فاتقوا الله – رحمكم الله- واحفظوا صلاتكم، وحافظوا عليها، واستعيذوا بالله من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء نبيكم محمد : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها))(6)[6].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45، 46].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على خلقه بجزيل النوال. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.

أما بعد:

أيها المسلمون، يذكر أهل العلم وجوهاً عدة، يتبين فيها حضور القلب، ويتحقق فيها حال الخشوع، وحقيقة التعبد.

من هذه الوجوه: الإجتهاد في تفريغ القلب للعبادة، والإنصراف عما سواها، ويقوى ذلك ويضعف بحسب قوة الإيمان بالله واليوم الآخر، والوعد والوعيد. ومنها: التفهم والتدبر لما تشتمل عليه الصلاة من قراءة وذكر ومناجاة؛ لأن حضور القلب والتخشع والسكون من غير فهم للمعاني لا يحقق المقصود.

ومنها: الإجتهاد بدفع الخواطر النفسية، والبعد عن الصوارف الشاغلة. وهذه الصوارف والشواغل عند أهل العلم نوعان: صوارف ظاهرة وهي ما يشغل السمع والبصر، وهذه تعالَج باقتراب المصلي من سترته وقبلته ونظره إلى موضع سجوده، والابتعاد عن المواقع المزخرفة والمنقوشة، والنبي لما صلى في خميصة(7)[1] لها أعلام وخطوط نزعها وقال: ((إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) متفق عليه من حديث عائشة(8)[2].

والنوع الثاني: صوراف باطنة من تشعب الفكر في هموم الدنيا وانشغال الذهن بأودية الحياة، ومعالجة ذلك بشدة والتفكر والتدبر لما يَقرأ ويَذكر ويُناجي. ومما يعين على حضور القلب، وصدق التخشع؛ تعظيم المولى جل وعلا في القلب، وهيبته في النفس، ولا يكون ذلك إلا بالمعرفة الحقة بالله عزَّ شأنه، ومعرفة حقارة النفس وقلة حيلتها، وحينئذٍ تتولد الاستكانة والخشوع والذل والإنابة.

أمرٌ آخر – أيها الإخوة – يحسن التنبيه إليه، وهو دال على نوع من الإنصراف والتشاغل، مع ما جاء من عظم الوعيد عليه، وخطر التهاون فيه، ذلكم هو مسابقة الإمام في الصلاة، فما جعل الإمام إلا ليؤتم به، فلا تتقدموا عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) متفق عليه من حديث أبي هريرة(9)[3]. وفي رواية: ((أو صورة كلب))(10)[4]. وانظروا إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم مع نبيهم وإمامهم محمد ، يقول البراء بن عازب: كان خلف النبي فكان إذا انحط من قيامه للسجود، لا يحني أحد منا ظهره حتى يضع رسول الله جبهته على الأرض ويكبر، وكان يستوي قائماً وهم لا يزالون سجوداً بعد. ورأى ابن مسعود – رضي الله عنه – رجلاً يسابق إمامه فقال له: لا وحدك صليت، ولا أنت بإمامك اقتديت.

فاتقوا الله – رحمكم الله - وأحسنوا صلاتكم، وأتموا ركوعها وسجودها، وحافظوا على أذكارها، وحسن المناجاة فيها، رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين وحسن العمل.

__________

(1) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل... حديث (771).

(2) إسناده صحيح على شرط الشيخين، مسند أحمد (1/119)، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة كتاب الصلاة – باب الدليل على ضد قول من زعم أن المصلي إذا دعى... حديث (607)، وابن حبان: كتاب الصلاة – باب صفة الصلاة – ذكر الإباحة للمرء أن يفوض الأشياء كلها... (1901).

(3) صحيح، أخرجه أحمد (5/317)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب في المحافظة على وقت الصلوات، حديث (425)، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها – باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس... حديث (1401). وصححه ابن حبان: كتاب الصلاة – باب فضل الصلوات الخمس – ذكر البيان بأن الحق... حديث (1732)، وحسن إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (8/32)، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم رقم (967).

(4) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، حديث (228).

(5) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، حديث (160). ومسلم: كتاب الطهارة – باب صفة الوضوء وكماله، حديث (226).

(6) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوّذ من شر ما عمل... حديث (2722).

(7) الخميصة: كساء مربع له علمان، انظر فتح الباري (1/576).

(8) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الصلاة – باب إذا صلى في ثوب له أعلام... حديث (373)، صحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، حديث (556).

(9) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الأذان – باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام، حديث (691)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة – تحريم سبق الإمام بركوع... حديث (427).

(10) إسناده حسن، أخرجه ابن أبي شيبة: كتاب صلاة التطوع والإمامة – باب من قال: ائتم بالإمام (2/225)، والطبراني في الكبير (9173)، وابن حبان: كتاب الصلاة – باب ما يُكره للمصلي وما لا يُكره – ذكر الزجر عن استعمال هذا الفعل الذي ذكرناه حذر أن يحول رأسه رأس كلب، حديث (2283). قال الهيثمي: رواه الطبراني فيالكبير بأسانيد منها إسناد رجاله ثقات. مجمع الزوائد (2/79).

(1/42)

المشتغلون بالذكر

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الدعاء والذكر

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

ميزان الرفعة والتكريم الحقيقي بين الأمم – مفهوم الذكر ومعناه الشامل – منزلة الذاكرين وفضلهم , وسر مباهاة الله ملائكته بأهل عرفة – كيف يقضي المسلم يومه – سر اقتران تضييع الصلوات باتباع الشهوات – عاقبة الغفلة عن الله وعن ذكره

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره، واجتنبوا زواجره.

أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202].

لكل أمة من الأمم ما تفاخر به في مفاهيم ضيقة، وأهداف محددة، وهمم قاصرة فلا رسالة كبرى ولا غايات عليا، لم يكن لهم رسالة في الأرض ولا ذكر في السماء.

وأمة العرب كانت من هذا القبيل، يجتمعون بعد حجهم في أسواقهم ومنتدياتهم؛ ليفاخروا بآبائهم، ويتعاظموا بأنسابهم.

جاء الإسلام فرفع الهمم، وأنار الفكر، وأنشأهم إنشاءً جديداً. سلك بأتباعه مسلك عز لا يطاول، وقادهم إلى مجد لا يضاهى، جاءهم الكتاب، وتنزل عليهم الوحي؛ فكان لهم الذكر والخلود: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44]. في هذا الذكر، وهذا الكتاب أعطاهم الميزان: يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]. فميزان الرفعة والتكريم، ومقياس المفاخرة والذكر، التقوى والصلة بالله، والتلبس بذكره وشكره، والعمل الصالح.

إذا كان الأمر كذلك، فمن أحق بالذكر والشكر من أهل الإسلام، الذين أتم الله عليهم نعمته وأكمل لهم دينه، وجعله مهيمناً على الدين كله؟! فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

وحقنا ـ نحن أهل الإسلام ـ أن نقف مع مفهوم الذكر، لنتبين معناه؛ لعلنا أن نقوم بحقه فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ [البقرة:200].

الذكر هنا ـ أيها الأحبة ـ ذو دائرة واسعة، لا تُحدُّ مجالاتها، في ميادين عريضة من القول والعمل، والفكر والاعتقاد. الذكر ليس ساعة مناجاة محدودة في الصباح أو المساء، في المسجد أو في المحراب، لينطلق العبد بعدها في أرجاء الأرض يعبث كما يشاء ويفعل ما يريد. الذاكر الحي والمتدين الحق يرقب ربه في كل حال، وحيثما كان، وينضبط مسلكه ونشاطه بأوامر ربه ونواهيه، يشعر بضعفه البشري، فيستعين بربه في كل ما يعتريه أو يهمه.

وفي هذا يقول سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ: كل عامل لله بطاعة فهو ذاكر لله تعالى.

ويقول عطاء: مجالس الذكر: الصلاة والصيام والحج، ومجالس الحلال والحرام: البيع والشراء، والنكاح والطلاق.

المسلم الذاكر يصحو وينام، ويقوم ويقعد، ويغدو ويروح، وفي أعماقه إحساس بأن دقات قلبه، وتقلبات بصره وحركات جوارحه كلها في قبضة الله وتحت قدرته، في أعماقه إحساس وإيمان بأن إدبار الليل وإقبال النهار، وتنفس الصبح وغسق الليل، وحركات الأكوان، وجريان الأفلاك .. كل ذلك بقدرة الله وأقداره الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:191].

لا يهنأ بالعيش، ولا يتذوق السعادة إلا امرؤ أحب الله، وأحب في الله، وأحب لله، واطمأن بذكره، وهش لمصالح خلقه، وتألم لآلامهم، وأعان على تحقيق آمالهم، لسانه الذاكر يقول: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر))(1)[1].

أيها الإخوة المسلمون، ملائكة الرحمن يسبحون الله لا يفترون، ولكن البشر يأكلون وينامون، ويعملون ويفترون، غير أنهم يضاهئون الملائكة. حين يقومون إلى عباداتهم ومعاشهم.. حين يزرعون ويحصدون ويكافحون ويكدحون، باسم الله ومن الله وإلى الله. أوقات البشر التي يصرفونها تعادل أوقات الملائكة في التسبيح والتحميد والتمجيد، إذا هم آمنوا بربهم، وساروا على نهجه، ولحظوا قدرته، وتفكروا في آلائه، واعترفوا بفضله في الإطعام، والكساء، والصحة، والإيواء، والأمن، والأمان.

الذاكرون المخبتون يعيشون لربهم مصلين، حامدين، مجاهدين، عاملين.

قطعوا إغراءات العاجلة، وجواذب الإخلاد إلى الأرض، وساروا في الطريق إلى مراضي الله، يبتغون وجهه، ويذكرون اسم الله في جميع أحيانهم وشؤونهم قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].

ويرقى الحال بهم إلى أن يباهي بهم ربهم ملائكته، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية رضي الله عنه قال: إن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك. قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة))(2)[2].

وقد علمتم ـ أيها الإخوة ـ بمباهاة الله ملائكته بالحجاج في موقف عرفة، وما ذلك إلا لما يعيشه أهل الموقف من ذكر، ودعاء، وتعبد، وحسن توجه لله رب العالمين.

المسلم الذاكر صاحب قلب سليم مستسلم لله، وهو في جانب آخر صاحب كدح شريف، قدماه مغبرتان، ويداه كالَّتان في ميدان العمل من غير جزع أو هوان، ومن غير ذلة ولا استكبار مبتهل إلى ربه: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات))(3)[3]، وفي رواية للبخاري: ((وضَلَع الدين وقهر الرجال)) واللفظ لمسلم من حديث أنس(4)[4].

أيها الإخوة، وهذه إلمامة تطبيقية لمسيرة يوم مع المسلم الذاكر لربه، المستمسك بالصحيح المأثور عن نبيه محمد اليوم الإسلامي يبدأ مع بزوغ الفجر أو قبيل ذلك، ليمتد النهار سبحاً طويلاً، متقلباً في الغدو والآصال، والعشي والإبكار، يستيقظ المسلم مع طلائع الصبح المتنفس مستفتحاً بهذا الذكر ((الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ علي روحي، وأذن لي بذكره))(5)[5]، من حديث أبي هريرة. ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين))(6)[6].

وفي أثناء ذلك ـ أيها الإخوة ـ يخترق حجاب الصمت، ويشقه صوت جهير جميل واضح الكلمات، ظاهر المعاني والمقاصد إنه صوت المؤذن ينادي بالتوحيد والفلاح في كلمات كلها ذكر ينادي بها بصوته الندي، ويرددها المسلمون من بعدهاليوم الإسلامي يبدأ بخطوات السكينة والوقار إلى المسجد مع غبش الصبح؛ ليقف المسلم متبتلاً خاشعاً بين يدي ربه خلال اليوم خمس مرات وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى [طه:14]. وَأَقِمِ الصلاةَ إِنَّ الصلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].

هذا المسلم الخاشع يقول عند خروجه إلى الصلاة: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وعظِّم لي نوراً)) واللفظ لمسلم(7)[7].

وإذا ازدلفت قدماه إلى المسجد لهج بذكر آخر، فقد قال رسول الله : ((إذا دخل أحدكم المسجد؛ فليسلم على النبي ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك))(8)[8]، وعن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)). قال: أَقَطّ؟ُ(9)[9] قلت: نعم. قال: ((فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم))(10)[10].

أخي المسلم، إذا تأملت كل ذلك أدركت السر في الاقتران بين تضييع الصلوات واتباع الشهوات.

أيها المسلمون، هذا اليوم الإسلامي يتخلله في سبحه الطويل أذكار للطعام والشراب، والسفر والإياب، والنوم والاستيقاظ، والمتاعب والمصاعب، والصحة والسقم، أذكار للدنيا وهمومها، والديون ومغارمها، في طلب المعاش، ومقاربة الأهل، وصلاح الذرية أذكار وتسبيحات ودعوات وابتهالات، مقرونة بتعاطي الأسباب، والكدح المشروع في هذه الدنيا؛ ليقوم المسلم بمهمة الاستخلاف على وجهها، إيمان وعمل، وعقيدة ومنهج، وانطلاق خاشع رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ [الرعد:28،29].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حق حمده، والشكر له حق شكره. أحمد وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأسأله العون على حسن عبادته وذكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله قام بحق ربه في سره وجهره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى آخر دهره.

أما بعد:

أيها الإخوة في الله، الذين جهلوا ربهم، ونسوا الذكر، وما كانوا إلا قوماً بوراً، يتصرفون بغير هدى، ويتقلبون في هذه الأرض بدوافع الهوى، يمكرون مكراً كُبَّاراً، ولا يرجون لله وقاراً ماذا جنَوا؟ وماذا كسبوا؟ انظروا إلى من أجهدوا أنفسهم من أذكياء الشرق ودهاة الغرب، استخرجوا من كنوز الأرض ما استخرجوا ظاهراً وباطناً، وعلموا من علوم الفضاء ما علموا، ولكن صرفت نتائج كل ذلك في أسلحة الدمار الشامل، أُورثوا خوفاً ورعباً في المستقبل ومن المستقبل. وأمم الأرض تلهث من ورائهم؛ تبتغي الضروري من لقمة العيش المضنية ذلكم هو شؤم الغفلة عن الله، ذلكم هو عاقبة نسيان الذكر مهما كان لصاحبه من الذكاء والعلم والدهاء، ومهما اكتسبوا وتدثروا بقشور من مظاهر الحضارة، وتقنيات المادة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى [طه:124].

كيف يكون الحال ـ أيها الإخوة ـ لو أن هذا الجهد المضني، والكد الكادح المبذول في تحصيل الأقوات وتأمين المعاش ماذا لو صاحبَه أدب مع الله، وحسن قصد في ابتغاء مراضيه، واقترن بحب الخير للناس؟ لو كان كذلك؛ لكسب صاحبه سعادة الدنيا، وفلاح الآخرة، وفي الحديث: ((من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة))(11)[1].

فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وقوموا بحق الله وذكره، وأمِّنوا على هذا الدعاء: اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً، اللهم بارك لنا فيما قدِّر لنا حتى لا نحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، ونسألك اللهم القصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين.

__________

(1) إسناده ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا أصبح، حديث (5073)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ثواب من قال حين يصبح وحين يمسي... حديث (9835)، وابن حبان: كتاب الرقائق -– باب الأذكار - ذكر الشيء الذي إذا قال المرء عند الصباح... حديث (861). وفي إسناده: عبد الله بن عنبسة لم يوثقه سوى ابن حبان (الثقات 5/53)، وقال فيه الذهبي: لا يكاد يُعرف. ميزان الاعتدال (2/469).

(2) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء ... جاب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ... حديث (2701).

(3) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب ما يتعوذ من الجبن، حديث (2823)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء... باب التعوذ من العجز... حديث (2706).

(4) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير – باب من غزا بصبي للخدمة، حديث (2893)، ولفظه: ((... وغلبة الرجال)).

(5) حسن، أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات – باب حدثنا ابن أبي عمر... حديث (3401)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ما يقول إذا انتبه من منامه، حديث (10702)، وفي عمل اليوم والليلة (1/496). وحسنه أيضاً السيوطي في الجامع الصغير (437) والألباني في صحيح سنن الترمذي (2707) والكلم الطيب (34).

(6) صحيح، أخرجه أحمد (3/406)، والدارمي: كتاب الاستئذان- باب ما يقول إذا أصبح، حديث (2688)، والنسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة – باب ذكر ما كان النبي يقول إذا أصبح، حديث (9829). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح (10/116). وصححه الألباني في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص97)، حاشية (32).

(7) صحيح، صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، حديث (763).

(8) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب ما يقول إذا دخل المسجد، حديث (713) دون ذكر التسليم على النبي ، وأخرجه تاماً أبو داود: كتاب الصلاة – باب فيما يقول الرجل عند دخوله المسجد، حديث (465)، وابن ماجه: كتاب المساجد والجماعات – باب الدعاء عند دخول المسجد، حديث (772).

(9) أقطّ: الهمزة للاستفهام... أي انتهى الحديث الذي بلغك عني (قلت: نعم) هذا الذي بلغني عنك . انظر بذل المجهود في حل أبي داود (3/308).

(10) 10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة – باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، حديث (466)، ورمز له السيوطي بالحسن، الجامع الصغير (6669)، ووافقه المناوي فيض القدير (5/129)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (441).

(11) صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة ... باب حدثنا هناد .. حديث (2465)، وابن ماجه: كتاب الزهد – باب الهم بالدنيا، حديث (4105)، والدارمي: المقدمة – باب في فضل العلم والعالم، حديث (331) بمعناه. قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (4/212). وقال المنذري: رواه ابن ماجه ورواته ثقات. الترغيب (4/56). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (949، 950).

(1/43)

المؤمن القوي

-----------------------

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة, فضائل الإيمان

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

في الحديث بيان جانب من منهاج القوة – أثر العقيدة الصحيحة على قوة الأعمال وجديتها ونماذج من القوة المنشودة : في الأخذ بالدين , في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضبط النفس , في أخذ العدة ضد العدو , في الصبر واليقين

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ ففي تقوى الله الفرج من كل هم، والمخرج من كل ضيق، وفيها صلاح أمر الدنيا والآخرة.

أيها الأحبة، أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان))(1)[1].

إنه حديث عظيم من كلامه يرسم فيه جانباً من منهاج القوة، وحرص المؤمن على ما ينفع، واقتران ذلك بالبعد عن العجز مع صدق التوكل والرضا بما يجري به القضاء.

أيها الإخوة في الله، ومن أجل مزيد تعليق على هذا التوجيه النبوي الكريم، فلتعلموا أن العقيدة حين تتمكن من القلوب فهي معين لا ينضب للنشاط المتواصل، والعمل الدؤوب، والحماس الذي لا ينقطع.

إن صدق العقيدة وصحتها تضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلِّها، فإذا تكلم كان واثقاً، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحاً، وإذا فكر كان مطمئناً. لا يعرف التردد ولا تميله الرياح. يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها: خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة:63]. يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]. فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا [الأعراف:145]. إنه أخذٌ بعزيمة لا رخاوة معها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء.

هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جدٌ وحقٌ، وصراحةٌ وصرامةٌ.

هذا جانب من القوة في رجل الإيمان، وجانبٌ آخر يتمثل في ثبات الخطى. حين يكون المؤمن مستنير الدرب، يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، ونأى بنفسه عن مسايرتهم، متمثلاً التوجيه النبوي: ((لا تكونوا إمَّعةً؛ تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا. ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا))(2)[2].

إنه توطين للنفس، وقسرٌ لها على المسار الصحيح، وإذا أردت أن تمتحن قوة الرجل في هذا فأستخبره أما الأعراف والتقاليد التي لا تستند إلى شرع: إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].

ينضمُّ إلى ذلك ـ أيها الإخوة ـ القوة في الحق، والقوة في المصارحة فيه. حين يبتعد المؤمن القوي عن المداهنة والمجاملة المذمومة؛ فتراه يواجه الناس بقلبٍ مفتوحٍ، ومبادئ واضحةٍ، لا يصانع على حساب الحق. ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالباطل. المؤمن القوي غنيٌّ عن التستر بستار الدجل والاستغلال. سيرته مبنية على ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.

ومن أجل هذا، فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي والقوة الإيمانية، وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكارهون ((لتأخذن على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطراً))(3)[3]، من حديث أبي عبيدة واللفظ للترمذي.

إنها قوة في مصارحة المخالفين وتنبيه الخاطئين، إنها نقد للعيوب المعلنة، لا خوف من وجيهٍ، ولا حياء من قريبٍ، ولا خجل من صديقٍ. وبعبارة جامعةٍ مانعةٍ: لا تأخذه في الله لومة لائم.

هذا ضرب من القوة محمود في معاصي معلنة، ومذنبين مجاهرين. ولا تكون قوة بصدق، خالصة بحق إلا حين تبتعد عن مشاعر الشماتة، وحب الأذى، وقصد التشهير.

ويقترن بذلك ـ أيها الإخوة ـ نوعٌ من القوة آخر، إنه القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال. كإباء الضيم، وعزة النفس، والتعفف، وعلوِّ الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادةٍ قويةٍ، ونفسٍ عازمةٍ. شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيدٌ عن الطمع والتذلل.

إن القوة في ضبط النفس، آخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر، ودروب النزاهة، والاستقامة على الجادة. أما الرجلُ الخربُ الذمةِ، الساقط المروءةِ فلا قوة له ولو لبس جلود السباع، ومشى في ركاب الأقوياء.

وقد قال هودٌ عليه السلام لقومه آمراً لهم بالاستغفار، والبعد عن مزالق الخاطئين: وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52]. وابن آدم إذا انحرف؛ فقد يتعرض للعنة أهل الأرض والسماء، ويكون في ضعفه وحقارته أقل من الذر والهباء.

ولمثل هذا جاء الحديث الصحيح: ((ليس الشديد بالصرعة. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))(4)[4].

وقد قال بعض أهل العلم في هذا الباب: إن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، وإذا ملك الإنسان نفسه فقد قسر شيطانه.

أما القوة العسكرية فمطلب في الشريعة معلوم: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60].

إنها القوة التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام، فلا يُصدون عن الإسلام ولا يُفتنون. قوةٌ ترهب أعداء الله فعلى ديار الإسلام لا يعتدون. قوة ترهب أعداء الله فلا يقفون في وجه الدعوة والدعاة. وهي قوةٌ كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين والمغلوب على أمرهم؛ ليظهر أمر الله، ويحق الحق ويبطل الباطل.

وفي جميع مجالات القوة – أيها الإخوة- يكون الخير والمحبة الإلهية: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)).

أما قوله : ((استعن بالله ولا تعجز)). فإنه يمثل صورةً أخرى من صور القوة. إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مآربه غير مستسلم للحظوظ: ((استعن بالله ولا تعجز)).

إن المرء مكلف بتعبئة قواه وطاقاته: لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه، فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد. وما وراء ذلك فيكله إلى ربه ومولاه.

أما التردد والاستسلام للهواجس، وتغليب جوانب الريب والتوجس. فهذا مجانب للقوة، وصدق العزيمة، فالقوة في الجزم، والحزم والأخذ بكل العزم.

ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة العجز، والكسل، والجبن، والبخل، إنها صورٌ من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعاً نبيكم محمد في دعاءٍ رفعه إلى مولاه، قائلاً: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال))(5)[5]. إنها كلها تصب في مصاب الضعف، والانهزام النفسي والعملي.

أما استعادة الأحزان، والتحسر على ما فات، والتعلق بالماضي، وتكرار التمني بـ (ليت) والتحسر في الزفرات بـ (لو) فليس من خلق المؤمن القوي؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس، والوساوس، فهو الوسواس الخناس. فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل.

فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واستمسكوا بعرى دينكم، وخذوا أمركم بقوة، وسيروا في درب الحق بعزيمة، متوكلين على ربكم، معتصمين بحبله؛ تكونوا من الراشدين.

نفعني الله وإياكم بهدي كتاب الله وبسنة محمد رسول الله ، وهدانا الصراط المستقيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله، له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، على نعمه الباطنة والظاهرة؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جمع الله به القلوب المتنافرة، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة في الله، لازلنا مع هذا الحديث العظيم وهو يرسم جانباً آخر من جوانب القوة إلى جانب قوة الأخذ بالأسباب وشد العزائم. إنها قوة اليقين، المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والغير: ((وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا)).

ثقةٌ بالله واعتمادٌ عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، وتنعقد الأجواء المدلهمة، ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأ ولا ملاذاً إلا إلى الله وبالله وعلى الله. ذلكم هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12].

وجماع ذلك ـ أيها الأخوة ـ أن القوة هي عزيمة النفس، وإقدامها على الحق في أمور الدنيا والآخرة. إنها إقدام على العدو في الجهاد، وشد عزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، واحتمال المشاق في ذات الله، واصطبار على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر المفروضات، ونشاط ودأب في طلب الخيرات، والمحافظة عليها، وهي ـ بعد ذلك ـ قوة في القيام بمهمة الاستخلاف في هذه الأرض واستعمارها كما طلب ربنا الذي أنشأنا فيها.

فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بحبل الله وتوكلوا عليه.

__________

(1) صحيح، أخرجه مسلم، كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز والاستهانة (2264).

(2) ضعيف: أخرجه الترمذي، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الإحسان والعفو (2007)، فيه محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال البخاري: رأيتهم مجتمعين على ضعفه، انظر (تاريخ بغداد 3/377) وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (8 – ت 578): ضعيف، يتكلمون فيه.

(3) ضعيف لانقطاعه، أبو عبيدة – وهو ابن عبد الله بن مسعود – لم يسمع من أبيه. وهو جزء من حديث أخرجه أحمد (1/391)، والترمذي كتاب: تفسير القرآن، باب: سورة المائدة (3047)، وأبو داود في: التلاحم، باب: الأمر والنهي (4336)، وابن ماجه في: الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4006)، وأبو يعلى (8 - 448/5035) وغيرهم.

(4) صحيح: أخرجه البخاري في: الأدب، باب: الحذر من الغضب (6114)، ومسلم في: البر والصلة والآداب، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب (2609).

(5) صحيح، أخرجه البخاري في: الدعوات، باب: الاستعاذة من الجبن والكسل (6369)، ومسلم في: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من العجز والكسل وغيره (2706) بنحوه.

(1/44)

لا تدخلوا حتى يؤذن لكم (آداب الاستئذان)

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

حرمة البيوت , وخطورة انتهاك حرمتها – أثر الاستئذان والمحافظة على آدابه وبعض هذه الآداب – لزوم الاستئذان لكل أحد ولو كان قريباً أعمى – آداب لازمة للصغار الذين لم يبلغوا الحلم داخل البيوت

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون، وعظموا أمر ربكم، واستغفروه ثم توبوا إليه وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ [الزمر:55].

عباد الله، لقد جعل الله البيوت سكناً يأوي إليها أهلها، تطمئن فيها نفوسهم، ويأمنون على حرماتهم، يستترون بها مما يؤذي الأعراض والنفوس، يتخففون فيها من أعباء الحرص والحذر.

وإن ذلك لا يتحقق على وجهه إلا حين تكون محترمة في حرمتها، لا يستباح حماها إلا بإذن أهلها. في الأوقات التي يريدون، وعلى الأحوال التي يشتهون: يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:27، 28].

إن اقتحام البيوت من غير استئذان؛ هتك لتلك الحرمات، وتطلع على العورات، وقد يفضي إلى ما يثير الفتن، أو يهيئ الفرص لغوايات تنشأ من نظرات عابرة.. تتبعها نظرات مريبة.. تنقلب إلى علاقات آثمة، واستطالات محرمة.

وفي الاستئذان وآدابه ما يدفع هاجس الريبة، والمقاصد السيئة.

أيها الإخوة المؤمنون، إن كل امرئ في بيته قد يكون على حالة خاصة، أو أحاديث سرية، أو شؤون بيتية، فيفجؤه داخل من غير إذن قريباً كان أو غريباً، وصاحب البيت مستغرق في حديثه، أو مطرق في تفكيره، فيزعجه هذا أو يخجله، فينكسر نظره حياءً، ويتغيظ سخطاً وتبرماً.

ولقد يقصِّر في أدب الاستئذان بعض الأجلاف ممن لا يهمه إلا قضاء حاجته، وتعجُّل مراده، بينما يكون دخوله محرجاً للمزور مثقلاً عليه.

وما كانت آداب الاستئذان وأحكامه إلا من أجل ألا يفرِّط الناس فيه أو في بعضه، معتمدين على اختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة، أو معولين على أوهامهم في عدم المؤاخذة، أو رفع الكلفة.

تأملوا أيها المؤمنون قوله سبحانه: حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ [النور:27].

إنه استئذان في استئناس، يعبر عن اللطف الذي يجب أن يكون عليه الزائر أو الطارق مراعاةً لأحوال النفوس وتهيؤاتها، وإدراكاً لظروف الساكنين في بيوتاتهم وعوراتهم.

وهل يكون الأُنس والاستئناس إلا بانتفاء الوحشة والكراهية ؟!

أدبٌ رفيع يتحلى به الراغب في الدخول لكي يطلب إذناً لا يكون معه استيحاش من رب المنزل، بل بشاشة وحسن استقبال.

ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين مستأنسين، فذلك عون على تأكيد روابط الأخوة الإسلامية.

ولقد بسطت السنة المطهرة هذا الأدب العالي، وازدان بسيرة السلف الصالح تطبيقاً وتبييناً.

فكان نبيكم محمد إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن، أو الأيسر، ويقول: ((السلام عليكم، السلام عليكم))(1)[1].

ووقف سعد بن عبادة مقابل الباب فأمره النبي أن يتباعد. وقال له: ((وهل الاستئذان إلا من أجل النظر؟!))(2)[2].

وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: اطلع رجل من جحرٍ في حُجَر النبي ومع النبي مدرى ـ أي: مشط ـ يحك به رأسه، فقال النبي : ((لو أعلم أنك تنظر؛ لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))(3)[3].

والمستأذن ـ أيها الإخوة ـ يستأذن ثلاث مرات فإن أُذن له وإلا رجع. وقد قيل: إن أهل البيت بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردُّون، لكن قال أهل العلم: لا يزيد على ثلاثٍ إذا سُمع صوته وإلا زاد حتى يعلم أو يظن أنه سُمع.

ويقول في استئذانه: السلام عليكم، أأدخل؟. فقد استأذن رجل على النبي وهو في بيته ((فقال: أألج؟ فقال النبي لخادمه: اخرج إلى هذا! فعلِّمه الاستئذان فقل له: قلْ: السلام عليكم، أأدخل ؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذن له النبي ، فدخل))(4)[4].

وله أن يستأذن بنداءٍ أو قرع أو نحنحة أو نحو ذلك.

تقول زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: كان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوَّت.

ويقول الإمام أحمد: يستحب أن يحرك نعله في استئذانه عند دخوله حتى إلى بيته؛ لئلا يدخل بغتة. وقال مرةً: إذا دخل يتنحنح.

ومن الأدب أن الطارق إذا سئل عن اسمه فليبينه، وليذكر ما يُعرف به. ولا يجيب بما فيه غموضٌ أو لبسٌ. يقول جابر رضي الله عنه: أتيت إلى النبي في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: ((من ذا؟)) فقلت: أنا، فقال النبي : ((أنا أنا !!!)) كأنه كرهها(5)[5].

وإذا قرع الباب فليكن برفق ولين من غير إزعاج أو إيذاء ولا ازدياد في الإصرار، ولا يفتح الباب بنفسه، وإذا أذن له في الدخول فليتريث، ولا يستعجل في الدخول، ريثما يتمكن صاحب البيت من فسح الطريق وتمام التهيؤ، ولا يرم ببصره هنا وهناك، فما جعل الاستئذان إلا من أجل النظر.

والاستئذان حقٌّ على كل داخل من قريب و بعيد من الرجل والمرأة، ومن الأعمى والبصير.

عن عطاء بن يسار، أن رسول الله سأله رجل فقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال: ((نعم)) قال الرجل: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله : ((استأذن عليها)). فقال الرجل: إني خادمها. فقال له رسول الله : ((استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟)) قال: لا. قال: ((فاستأذن عليها))(6)[6].

ويقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن.

والأعمى يستأذن كالبصير، فلربما أدرك بسمعه ما لا يدركه البصير ببصره.

((ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه، صُبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة))(7)[7] والآنك هو الرصاص المذاب.

أيها الإخوة في الله، وهناك أدب قرآني عظيم، لا يكاد يفقهه كثير من المسلمين. إنه قول الله عزَّ وجلَّ: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28].

إن من حق صاحب البيت أن يقول بلا غضاضة للزائر والطارق: ارجع. فللناس أسرارهم وأعذارهم، وهم أدرى بظروفهم، فما كان الاستئذان في البيوت إلا من أجل هذا.

وعلى المستأذن أن يرجع من غير حرج، وحسبه أن ينال التزكية القرآنية.

قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها. لقد طلبت أن أستأذن على بعض إخواني ليقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط. لقوله تعالى: وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]. ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره.

إن من الخير لك ولصاحبك أيها الطارق، أن يَعتذر عن استقبالك بدلاً من الإذن على كراهية ومضض، ولو أخذ الناس أنفسهم بهذا الأدب، وتعاملوا بهذا الوضوح؛ لاجتنبوا كثيراً من سوء الظن في أنفسهم وإخوانهم.

فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ والتزموا بدينكم، واستمسكوا بآدابه، وحافظوا على مشاعر الأخوة، وتخيروا في أوقات الزيارات، وقدروا لإخوانكم أحوالهم وظروفهم، والتمسوا لهم الأعذار، ودعوا الأعراف والتقاليد الخاطئة.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وأشكره، من توكل عليه كفاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اصطفاه واجتباه، وقرَّبه إليه وأدناه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.

أما بعد:

أيها المؤمنون، اتقوا الله واعلموا أن الإسلام كما شرع آداباً للاستئذان من خارج البيوت؛ فقد أوضح آداباً خاصة أدَّب بها الصغار الذين لم يبلغوا الحلم في أوقات خاصة في عورات ثلاث: من قبل صلاة الفجر، وفي أثناء الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، أوقات يخلو بها المرء في نفسه، أو مع زوجته يتخفف فيها من كثير من القيود، فللعمل وقته، وللراحة وقتها، فيعطي كل ذي حق حقه.

أيها الإخوة في الله، إن هذه التفاصيل الدقيقة في آداب الاستئذان تؤكد فيما تؤكد حرمة البيوت، ولزوم حفظ أهلها من حرج المفاجآت، وضيق المباغتات، والمحافظة على ستر العورات. عورات كثيرة تعني كل ما لا يُرغب الاطلاع عليه من أحوال البدن، وصنوف الطعام واللباس وسائر المتاع، بل حتى عورات المشاعر والحالات النفسية، حالات الخلاف الأسري، حالات البكاء والغضب والتوجع والأنين. كل ذلك مما لا يرغب الاطلاع عليه لا من الغريب ولا من القريب، إنها دقائق يحفظها ويسترها أدب الاستئذان. فهل يدرك هذا أبناء الإسلام؟!

__________

(1) صحيح، أخرجه أبو داود كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان (518)، والبخاري: في الأدب المفرد، باب: كيف يقوم عند الباب (1078)، ورمز له السيوطي في: الجامع الصغير (6523) بالصحة، وصححه الألباني في: الأدب المفرد (822).

(2) صحيح، أخرجه الطبراني في: الكبير (6-22/5386) واللفظ له. وقال الهيثمي في: المجمع (8-44): رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أبو داود في: الأدب، باب: في الاستئذان (5174)، وصححه الألباني في: صحيح أبي داود (4310).

(3) صحيح، البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر (6241)، ومسلم، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره (2156).

(4) صحيح، أخرجه أحمد (5/369)، وأبو داود في: الأدب، باب: كيف الاستئذان (5177)، وابن أبي شيبة (5-242/25672)، وجوّد إسناده الحافظ كما في: الفتح (11/3) وذكر عن الدارقطني أنه: صحيح.

(5) صحيح، أخرجه البخاري في: الاستئذان، باب: إذا قال من ذا، فقال: أنا (6250) واللفظ له، ومسلم في: الآداب، باب: كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل من هذا (2155).

(6) إسناده صحيح إلى مرسله، أخرجه مالك في: الموطأ، كتاب: الجامع، باب: الاستئذان (1796)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/42-17600)، وأبو داود في: المراسيل، كتاب: العلم، باب: في الاستذان (ص508/484)، قال ابن عبد البر في: التمهيد (16/229): مرسل صحيح.

(7) صحيح، جزء من حديث أخرجه في: التعبير، باب: من كذب في حلمه (7042).

(1/45)

الحجاب والجلباب

-----------------------

الأسرة والمجتمع

المرأة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

من أعظم مقاصد الدين إقامة مجتمع طاهر عفيف – عفة المؤمنة نابعة من دينها ظاهرة في سلوكها – الأمر بالحجاب وآدابه وأهميته – معنى الجلباب وإدنائه , ومعنى ( إلا ما ظهر منها ) وحكم ستر وجه المرأة – شبهات حول الحجاب – وظيفة المرأة ودورها

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فمن اتقى الله حفظه، ويسر له أمره، وهداه إلى رشده.

عباد الله، لقد بعث الله نبيه محمداً بالهدى ودين الحق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. فشمل دينه أحكاماً ووصايا، وأوامر وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباط الفضيلة بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها.

وإن من أعظم مقاصد هذا الدين؛ إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة.

ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة.

فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشاماً، ورفضاً للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.

فشرع الحجاب ليحفظ هذه العفة ويحافظ عليها، شرع ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرض.

وأحكام الحجاب في كتاب الله، وفي سنة رسوله صريحة في دعوتها، واضحة في دلالته، ليست مقصورة على عصر دون عصر، ولا مخصوصة بفئة دون فئة.

ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب:59].

تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما: ((لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من الأكسية))(1)[1].

والجلباب: كل ساتر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من ملاءة وعباءة، وكل ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها.

وإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاؤه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهها. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما: هوتغطية الوجه من فوق رأسها، فلا يبدو إلا عين واحدة.

وما خوطب به أمهات المؤمنين أزواج النبي مطالب به جميع نساء المؤمنين.

يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى [الأحزاب:32، 33].

فنهى عن الخضوع بالقول والتبرج؛ تبرج الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف من القول، ولزوم القرار في البيوت.

نساء المؤمنين في ذلك كنساء النبي ، بل هو في حق نساء المؤمنين آكد وأولى كما لا يخفى.

وما قوله سبحانه: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء [الأحزاب:32]. إلا تأكيداً لهذا؛ إذ المقصود بيان أنهن محل الأسوة والامتثال الأول، ومن بعدهن أسوتهن.

وفي هذا يقول أبو بكر الجصاص: وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي وأزواجه، فالمعنى فيه عام فيه وفي غيره.

وفي مقام آخر ـ أيها المؤمنون والمؤمنات ـ يقول الله عز وجل: وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور:31].

ولقد ذكر في الآية زينتان: إحداهما لا يمكن إخفاؤها وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولم يقل إلا ما أظهرن منها، فعُلم بهذا: أن المراد بالزينة الأولى زينة الثياب، أما الزينة الثانية، فزينة باطنة يباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ... إلخ الآية، وأنت خبير أيها المؤمن- وخبيرة أيتها المؤمنة- بأن ممن رخص في إبداء الزينة أمامهم: الأطفال، وغير أولي الإربة من الرجال. والوجه مجمع الحسن ومحط الفتنة، فهل يرخص كشفه للبالغين وأولي الإربة من الرجال. الأمر في هذا جلي.

وفي نفس الآية الكريمة: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31].

وهو ما يتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره، فإذا كان صوت الخلخال بريداً إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال والشباب والنضارة؟! وصوت الخلخال يصدر من فتاة وعجوز، ومن الجميلة والدميمة.

أما الوجه فلا يحتمل إلا صورة واحدة.

يقول صاحب الدر المختار في فقه أبي حنيفة رحمه الله: وتُمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال لخوف الفتنة كمسِّه، وإن أُمن الفتنة. ويقول عليه الشارح ابن عابدين رحمه الله: المعنى أنها تُمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النظر إليها بشهوة، وأما قوله: (كمسه) أي: كما يمنع من مس وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة؛ لأنه سبيل إلى الشهوة والفتنة، فكذلك يُغطى الوجه؛ لأنه طريق إلى الفتنة.

وقبله قال أبو بكر الجصاص: والمرأة الشابة مأمورة بستر وجهها، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع فيها أهل الريب.

وفي السنة أيها المؤمنون والمؤمنات حين أبيح للخاطب النظر من أجل الخطبة، فغير الخاطب ممنوع من النظر. والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه؛ ففيه يتمثل جمال الصورة.

وحينما قال عليه الصلاة والسلام: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة))، قالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع الناس بذيولهن؟ - أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء- قال: ((يرخين شبراً)) قالت: إذن تنكشف أقدامهن. قال: ((فيرخينه ذراعاً، ولا يزدن عليه))(2)[2].

فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة فلا يعدو أن يكون تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. والحكمة والنظر تأبيان ستر ما هو أقل فتنة، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنة.

أيها الإخوة والأخوات:

ومهما قيل في الحجاب، في كيفيته وصفته، فما كان يوماً عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حق، بل كان ولا يزال سبيلاً قويماً يمكِّن المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمةٍ وطهرٍ ونزاهةٍ على خير وجهٍ وأتم حال.

وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضْلَيات جمعن في الإسلام أدباً وحشمةً وستراً ووقاراً وعملاً مبروراً، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن، أو سابغ ثيابهن.

وإن في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات، متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السنة والكتاب قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خيرٌ ثم خير من قرينات لهن، شاردات كاسيات، عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، متبرجات بزينتهن تبرج الجاهلية الأولى.

وليعلم دعاة السفور، ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف، خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على غُفُلٍ ساذج، في فكره دخل، أو في قلبه مرض.

ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن، ومواقع الريب إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55، 56].

أيها الإخوة، إن وظيفة المرأة الكبرى، ومهمتها العظمى في بيتها وأسرتها وأولادها، وكل ما تتحلى به من علم ووعي يجب أن يكون موجهاً لهذه المهمة وتأهيلاً لهذه الوظيفة.

الرجل هو الكادح في الأسواق والمسؤول عن الإنفاق، والمرأة هي المربي الحاني، والظل الوارف للحياة، كلما اشتد لفحها، وقسا هجيرها.

وإن انسلاخ أحد الجنسين عن فطرته من أجل أن يلحق بجنس ليس منه؛ تمرد على سنة الله، واعوجاج عن الطريق المستقيم. ولن يفيد العالم من ذلك إلا الخلل والاضطراب، ثم الفساد والدمار. وما لُعن المتشبهون من الرجال بالنساء ولا المتشبهات من النساء بالرجال، إلا من أجل هذا.

وسوف تحيق اللعنة، ويتحقق الإبعاد عن مواقع الرحمة في كل من خالف أمر الله، وتمرد على فطرة الله.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد . أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على جزيل النعماء، والشكر له على ترادف الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المؤمنون، كما أُمرت المؤمنة بلزوم الحجاب عند خروجها ومقابلة غير المحارم فقد أمرت أن تقر في بيتها فبيتها خيرٌ لها، ووظيفتها في بيتها من أشرف الوظائف في الوجود، وما يُحسنها ولا يتأهل لها إلا من استكمل أزكى الأخلاق، وأنقى الأفكار.

إن من الخطأ في الرأي والفساد في التصور، الزعم بأن المرأة في بيتها قعيدة لا عمل لها، فما هذا إلا جهل مركب، وسوء فهم غليظ، سوء فهم بمعنى الأسرة، وجهلٌ بطبيعة المجتمع الإنساني، والتركيب البشري.

والأشد والأنكى: الظن بأن هذه الوظيفة قاصرة على الطهي والخدمة... إنها تربية الأجيال والقيام عليها؛ حتى تنبت نباتاً حسناً ذكوراً وإناثاً، إنها في الإسلام تعدل شهود الجُمَع والجماعات في حق الرجال، وتعدل حج التطوع والجهاد.

جاءت أسماء بنت السكن الأنصارية الأشهلية رضي الله عنها الملقبة بخطيبة النساء. جاءت إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن الله بعثك للرجال وللنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات، مقصورات مخدورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجُمَع والجماعات، وفضلتم علينا بشهود الجنائز، وعيادة المرضى، وفضلتم علينا بالحج بعد الحج، وأعظم من ذلك الجهاد في سبيل الله. وإن الرجل منكم إذا خرج لحجٍ أو عمرةٍ أو جهادٍ؛ جلسنا في بيوتكم نحفظ أموالكم، ونربي أولادكم، ونغزل ثيابكم، فهل نشارككم فيما أعطاكم الله من الخير والأجر؟ فالتفت النبي بجملته(3)[1] وقال: ((هل تعلمون امرأة أحسن سؤالاً عن أمور دينها من هذه المرأة؟)) قالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تسأل سؤالها. فقال النبي : ((يا أسماء، افهمي عني، أخبري من وراءك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لرغباته يعدل ذلك كله)) فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر وتردد: يعدل ذلك كله، يعدل ذلك كله(4)[2].

فهل يفقه هذا نساء المؤمنين؟!

__________

(1) صحيح، أخرجه أبو داود في: اللباس، باب: في قوله تعالى: يدنين عليهن من جلابيبهن (4101)، وصححه الألباني في: صحيح أبي داود (3456).

(2) صحيح، أخرجه أوله البخاري في: المناقب – باب: قول النبي : ((لو كنت متخذاً خليلاً)) (3665)، ومسلم في: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز (2085)، وتمامه عند الترمذي في: اللباس – باب: ما جاء في جر ذيول النساء (1731) وقال: حديث حسن صحيح، وكذا عند النسائي في: الزينة، باب: ذيول النساء (5336)، وصححه المناوي في: فيض القدير (6-113).

(3) أي: بجسده كله.

(4) أخرجه ابن عبد البر في: الاستيعاب (4-1788)، والبيهقي في: شعب الإيمان (8743)، وفي إسناده مسلم بن عبيد الراوي عن أسماء لم أجد له ترجمة.

(1/46)

ابن آدم: مرضت فلم تعدني

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

انتظام الإسلام كل وجوه البر – من محاسن الشريعة المحافظة على حقوق الأخوة وآدابها - عيادة المريض , أثرها وفضلها , وآدابها وحكمها – بعض العادات الخاطئة التي تعوق عن زيارة المريض

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ، فبتقوى الله تُنال الدرجات، وتزكو الأعمال، وأكثروا من ذكره وشكره، فبذكره تطمئن القلوب، وبشكره تحفظ النعم، وتزودوا من الصالحات فخير الزاد التقوى.

معاشر الإخوة، الخير في الإسلام ينتظم كل وجوه البر، ويشمل كل عمل صالح، ويتناول كل خلق كريم، طاعةً لله عزَّ وجلَّ، وحباً في الفضائل في إخلاصٍ وصدقٍ حسنٍ.

ففي الحديث قولٌ جميلٌ، وفي البلاء صبرٌ جميلٌ، وعند الخلاف صفحٌ جميلٌ.

أقوالٌ وأفعالٌ تغرس المحبة، وتورث المودة، وتوثق الروابط، نجدةٌ وإغاثة، وتراحمٌ وملاطفةٌ، وإخلاصٌ ووفاءٌ، مشاركةٌ في السراء، ومواساة في الضراء، كل ذلك من توجيهات الإسلام، ونواميس الأخلاق.

أيها الإخوة، ويتجلى صفاء الدين، وتظهر محاسن الشريعة، أكثر ما تتجلى في خلقٍ كريمٍ، وسلوكٍ مستقيم، ينتهجه المسلم مع إخوانه، القريب منهم والبعيد.

إنها أخلاقٌ كريمة، ولكنها في ذات الوقت حقوقٌ محفوظة، عُني الإسلام بها وحثَّ عليها، ودعا إليها، ورسم منهاجها، وأوضح آدابها.

وفي مثل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((حق المسلم على المسلم ستٌ)) قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّتْه، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبعه))(1)[1] في حقوق أخرى كثيرة حفلت بها سنة المصطفى قولاً وعملاً وتوجيهاً.

ولقد كان من أدب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إذا فقدوا أحداً من إخوانهم سألوا عنه، فإن كان غائباً دعوا له، وخلفوه خيراً في أهله، وإن كان حاضراً زاروه، وإن كان مريضاً عادوه.

يقول الأعمش رحمه الله: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضاً عدناه.

وفي عيادة المريض ـ أيها الإخوة ـ يتجلى سموُّ الخلق، وحفظ الحق حين يكون أخوك في حالةٍ من العجز، وانقطاعٍ عن مشاركة الأصحاب، حبيس المرض، وقعيد الفراش.

في عيادة المريض إيناسٌ للقلب، وإزالة للوحشة، وتخفيفٌ من الألم، وتسليةٌ للنفس والأقارب.

وفي توجيهات المصطفى حثٌّ عظيمٌ على حفظ هذا الحق، والالتزام بهذا الخلق، ومراعاة آدابه.

أخرج الإمام أحمد ومسلمٌ واللفظ له والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة حتى يرجع)) قيل: يا رسول الله، وما خُرفة الجنة؟ قال: ((جناها))(2)[2] – أي: ثمارها.

وفي حديث قدسي يقول الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: ((يا بن آدم مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟))(3)[3].

و((ما من مسلم يعود مسلماً غدوةً، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية، إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريفٌ في الجنة))(4)[4].

وفي موطأ مالك بلاغاً ومسند أحمد مسنداً واللفظ له، ورواته رواة الصحيح، والبزار، وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع، فإذا جلس اغتمس فيها))(5)[5] وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((من عاد مريضاً ناداه منادٍ من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً))(6)[6] أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللفظ له.

ومن أدب الزيارة أن يقف عند رأسه ويضع يده على جبينه أو على مكان الألم ويقول: ((لا بأس طهور إن شاء الله))(7)[7] فقد كان نبيكم محمد يفعل ذلك.

كما كان عليه الصلاة والسلام يرشد إلى ما يتعوذ به من الألم. يقول عثمان بن أبي العاص الثقفي قدمت على النبي وبي وجع قد كان يبطلني فقال لي النبي : ((اجعل يدك اليمنى عليه وقل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. سبع مرات)) فقلت ذلك فشفاني الله(8)[8].

وينبغي أن يجتهد له في الدعاء، ومما ورد في ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرار: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض))(9)[9].

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى جنازة))(10)[10]، وفي رواية((صلاة))(11)[11]. ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً))(12)[12].

وقد عاد جبريل النبي وقال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)) رواه مسلم من حديث أبي سعيد(13)[13].

ومن الآداب المرعية: ألا يطيل الزيارة، ولا يثقل بكثرة المساءلة، وإطالة الحديث، ولا يذكر له ما يحزنه، أو يزيده وجعاً إلى وجعه، ولا يذكر صديقاً له بما يكره، أو عدواً له بما يحب، ولا يتحدث عن أهله وأولاده إلا بكل خير، رفقاً به وملاطفةً له.

وإن في الإطالة إثقالاً على المريض، ومنعاً له من تصرفاتٍ قد يحتاج إليها.

قال بعض الظرفاء لقوم عادوه في مرضه، فأطالوا الجلوس: المريض يعاد، والصحيح يزار.

ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يعوده في مرضه فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: إن هذه العلة ما شفي منها فلان، ومات منها فلان. فقال عمر: إذا عدت مريضاً فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا. ويقول سفيان الثوري: حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقتٍ، ويطيلون الجلوس.

وإذا كان المريض يحب تكرار الزيارة، ولا مشقة عليه فلا بأس، ومردُّ ذلك إلى الطبائع ومقتضيات الأحوال، وقد يأنس ببعضٍ من قريب أو صديق حميم، ويملُّ آخرين. وإذا طمع الزائر في شفاء المريض صبَّره وبشَّره، وساعده في التمريض وإحضار الطبيب، وفي قضاء حوائجه التي يعجز عن الوصول إليها، وطيَّب نفسه وسعى في إدخال السرور عليه، وفتح أبواب الأمل لديه.

وقد وصف الحسن رحمه الله المريض فقال: أما والله ما هو بِشَرِّ أيام المسلم، قورب أجله، وذكِّر فيه ما نسي من معاده، وكُفِّر فيه عن خطاياه.

وكان إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: يا هذا، إن الله قد ذكَّرك فاذكره، وأقالك فاشكره.

فهذه الأسقام والبلايا كفاراتٌ للذنوب، ومواعظ للمؤمنين، يرجعون بها عن كل شرٍَ كانوا عليه.

ويقول الفضيل: إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد.

ليس كل من مرض مات. وعُدَّ من ذلك قوله تعالى: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].

وإذا يئس من حاله ذكَّره بالله، ورغَّبه فيما عنده، وحسَّن ظنه بربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.

ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة، ويفتح له أبواب التوبة، واغتنام الوقت بالذكر والقراءة والتسبيح والاستغفار، وكل ما يقرب إليه، ويذكره بالوصية، فهي لا تقطع أجلاً، وإنما تحفظ بها الحقوق، وتقضى بها الديون، ويَتوصل بها أهل الحقوق إلىحقوقهم.

لما طعن عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس ـ وكأنه يجزعه ـ: ((يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبابكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صحبتهم(14)[14] فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. قال: أمَّا ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منَّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جلَّ ذكره منّ به علي، وأما ما ترى من جزعي؛ فهو من أجلك وأجل أصحابك. والله لو أن لي طلاع الأرض(15)[15] ذهباً لافتديت به من عذاب الله عزّ وجلَّ قبل أن أراه)) رواه البخاري من حديث المسور بن مخرمة(16)[16].

وفي البخاري أيضاً من حديث القاسم بن محمد أن عائشة – رضي الله عنها – اشتكت؛ فجاء ابن عباس فقال: ((يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق، على رسول الله وعلى أبي بكر))(17)[17].

فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، قوموا بها على وجهها، راعوا آدابها، وحققوا مقاصدها، يعظمِ الأجر، ويصلحِ الشأن، ويفشُ الخير، وتَسُدِ المودة.

اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واغفر لنا حوبنا وخطايانا يا رب العالمين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله، ربط بين المؤمنين برابطة الإيمان، فكانوا إخوةً متحابين، يشد بعضهم بعضاً، كالمرصوص من البنيان. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

فاتقوا الله ـ معاشر المسلمين ـ واعلموا أن زيارة المريض مستحبةٌ، ولو كان مغمىً عليه، ((فقد زار النبي وأبو بكر – رضي الله عنه – جابر بن عبد الله، ووجداه مغمىً عليه))(18)[1]، وفي مثل هذه الزيارة جبرٌ لخاطر أهله مع ما يرجى من إجابة الدعاء.

مرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا دخل عليه يعوده – وهو مغمىً عليه – وقف عند رأسه ودعا له ثم يخرج؛ فيسأل مرافقه عن منامه وشرابه وطعامه، فلما أفاق يحيى، قال: ما عادني في مرضي إلا إسماعيل بن صبيح.

ومما ينبه إليه في هذا المقام ـ أيها الأخوة ـ أن بعض الناس يثقلون على أنفسهم؛ فيحملون إلى المريض هدايا وغيرها، وقد يحملون أموراً من عادات غير أهل الإسلام، وهذا ليس من آداب الزيارة في شيء، بل هو تكلُّف ظاهر، ومجاملات ثقيلة، تقليد أعمى، وهو قد يدفع من لا قدرة لهم إلى التقاعس عن الزيارة الشرعية التي أمر الله بها ورسوله.

وحاجة المريض إلى الدعاء، والكلمات الطيبة، والملاحظات الرقيقة أولى من هذه المحمولات.

أما ما كان صدقةً لفقير، أو مساعدة لمحتاج، فهذا له شأن آخر لا ينبغي أن يكون مربوطاً بالزيارة أو شرطاً فيها.

فاتقوا الله؛ يرحمكم الله؛ والتزموا بهدي نبيكم محمد فهو أقوم هديٍ وأسلم نهجٍ.

__________

(1) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجنائز – باب الأمر باتباع الجنائز، حديث (1240).

(2) صحيح، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل عيادة المريض، حديث (2568)، مسند أحمد (5/283).

(3) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل عيادة المريض، حديث (2569).

(4) صحيح، أخرجه أحمد (1/81)، والترمذي: كتاب الجنائز – باب ما جاء في عيادة المريض، حديث (969) وقال: حسن غريب، وأبو داود :كتاب الجنائز – باب في فضل العيادة على وضوء، حديث (3098) وقال: أُسند هذا عن علي عن النبي من غير وجه صحيح. وصححه الحاكم (1/341-342)، وصحح إسناده الضياء في الأحاديث المختارة (2/231)، وقال في المجمع: رجال أحمد ثقات (3/30).

(5) صحيح، موطأ مالك: كتاب العين – باب عيادة الريض والطيرة، حديث (1694)، مسند أحمد (3/304)، مسند البزار، حديث (620)، صحيح ابن حبان: كتاب الجنائز – باب المريض وما يتعلّق به – ذكر خوض عائد المريض الرحمة... حديث (2956)، وصححه الحاكم (1/349-350)، وصحح إسناده الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2/260).

(6) حسن، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في زيارة الإخوان، حديث (2008)، وقال: حسن غريب. سنن ابن ماجه: كتاب ما جاء في الجنائز – باب ما جاء في ثواب من عاد مريضاً، حديث (1443)، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (2/354)، وصححه ابن حبان (2961) وقوّاه الحافظ في الفتح وقال: له شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد. وحسنه الألباني، صحيح سنن الترمذي (1633).

(7) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب علامات النبوة في الإسلام، حديث (3616).

(8) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب السلام – باب استحباب وضع يده على موضع الألم... حديث (2202) دون قوله: ((فشفاني الله))، وأخرجه ثمامه: الترمذي: كتاب الطب – باب ما جاء في دواء ذات الجنب، حديث (2080)، وقال: حسن صحيح، وأبو داود: كتاب الطب – باب كيف الرقى، حديث (3891)، وابن ماجه: كتاب الطب – باب عَوّذ به النبي وما عُوّذ به، حديث (3522) واللفظ له.

(9) صحيح، أخرجه أحمد (1/239)، والترمذي: كتاب الطب – باب ما جاء في التداوي بالعسل، حديث (2083) وقال: حسن غريب. وأبو داود: كتاب الجنائز – باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3106)، وصححه ابن حبان (2975) من فعل النبي ، وصححه الحاكم (1/342) والسيوطي. الجامع الصغير (8106)، والألباني، صحيح سنن الترمذي (1698).

(10) 10] حسن، أخرجه أبو داود: كتاب الجنائز – باب الدعاء للمريض عند العيادة، حديث (3107)، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1304).

(11) 11] حسن، أخرجه أحمد (2/172)، وابن حبان: كتاب الجنائز – باب المريض وما يتعلق به – ذكر ما يستحب للمرء أن يدعو لأخيه العليل... حديث (2974)، والحاكم (1/344)، وانظر السلسلة الصحيحية للألباني (1304).

(12) 12] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب – دعاء العائد للمريض، حديث (5675)، ومسلم: كتاب السلام – باب استحباب رقية المريض (2191) واللفظ له.

(13) 13] صحيح، صحيح مسلم: كتاب السلام – باب الطب والمرض والرقى، حديث (2186).

(14) 14] أي أصحاب النبي وأبي بكر رضي الله عنه.

(15) 15] طلاع الأرض: أي ملء الأرض.

(16) 16] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب مناقب عمر بن الخطاب... حديث (3692).

(17) 17] صحيح، صحيح البخاري: كتاب المناقب – باب فضل عائشة رضي الله عنها، حديث (3771).

(18) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الوضوء – باب حب النبي وضوءه، حديث (194)، وكتاب تفسير القرآن – باب قوله: ((يوصيكم الله...)) حديث (4577)، ومسلم: كتاب الفرائض – باب ميراث الكلالة، حديث (1616).

(1/47)

طيب الكسب

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الزهد والورع

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

أهمية كسب الرزق الحلال وطلب العيش الطيب وفضله , والأمر به – ارتباط نزاهة اليد واللسان والقلب بالإيمان – التحذير من الكسب الخبيث وأثره على الفرد والمجتمع - أهمية الورع وترك المشتبه وحال السلف في ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه في أنفسكم وأهليكم، اتقوه في أعمالكم وأموالكم، اتقوه فيما تأكلون وما تدخرون: ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأرْضِ حَلَالاً طَيّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:168].

عباد الله، كسب الرزق وطلب العيش شيء مأمور به شرعاً، مندفعة إليه النفوس طبعاً، فالله قد جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً. أمرهم بالمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه. وقَرَنَ في كتابه بين المجاهدين في سبيله والذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله، يَضْرِبُونَ فِى الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]. وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ((ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري(1)[1]، ولقد قال بعض السلف: إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الهمُّ في طلب المعيشة. وفي أخبار عيسى عليه السلام أنه رأى رجلاً فقال: ما تصنع؟ قال: أتعبد. قال: ومن يعولك؟ قال: أخي. قال: وأين أخوك؟ قال: في مزرعة. قال: أخوك أعبد لله منك.

وعندنا – أهلَ الإسلام -: ليست العبادة أن تَصُفَّ قدميك، وغيرك يسعى في قوتك؛ ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد.

والاستغناء عن الناس ـ أيها الإخوة ـ بالكسب الحلال شرفٌ عالٍ وعزٌّ منيفٌ. حتى قال الخليفة المحدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي؛ أبيع وأشتري. ومن مأثور حكم لقمان: يا بنيَّ، استغن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحدٌ قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقةٌ في دينه، وضعفٌ في عقله، وذهاب مروءته.

إن في طيب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز.

ومن المعلوم ـ أيها الأحبة ـ أن المقصود من كل ذلك الكسب الطيب، فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر الله به المؤمنين كما أمر به المرسلين؛ فقال عزَّ من قائل: ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً [المؤمنون:51] وقال عزَّ شأنه: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].

ومن أعظم ثمار الإيمان طيب القلب، ونزاهة اليد، وسلامة اللسان. والطيبون للطيبات، والطيبات للطيبين. ومن أسمى غايات رسالة محمد أنه يُحلُّ الطيبات، ويحرم الخبائث.

وفي القيامة يكون حسن العاقبة للطيبين الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32].

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي : ((من أكل طيباً وعمل في سنَّة، وأمن الناس بوائقه دخل الجنة))(2)[2]. وأخرج أحمد وغيره بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفةٌ في طعمة))(3)[3].

إن طلب الحلال وتحريه أمرٌ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. إن حقاً على كل مسلم ومسلمة أن يتحرى الطيب من الكسب، والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالاً وينفق في حلال. انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يجيئه غلامه بشيء فيأكله فيقول الغلام: أتدري ما هو؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة: ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت. فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه(4)[4]، وفي رواية أنه قال: ((لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها. اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالطه الأمعاء)). وشرب عمر لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. وتوصي بعض الصالحات زوجها وتقول: يا هذا اتق الله في رزقنا فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار.

أولئك هم الصالحون يُخرجون الحرام والمشتبه من أجوافهم، وقد دخل عليهم من غير علمهم. وخَلَفَت من بعدهم خلوف يعمدون إلى الحرام ليملأوا به بطونهم وبطون أهليهم.

أيها المسلمون، أرأيتم الرجل الذي ذكره النبي : ((يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء؛ يا رب يا رب، ومطعمه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك))(5)[5]. لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، وتربت يداه، واشْعَثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول. أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبت لحمه من حرام، فردَّت يداه خائبتين.

بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟! لمثل هذا قال بعض السلف: لو قُمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك.

وإن العجب كل العجب ـ أيها الأخوة ـ ممن يحتمي من الحلال مخافة المرض ولا يحتمي من الحرام مخافة النار.

عباد الله، إن أكل الحرام يُعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويُظلم الفكر، ويُقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.

إن للمكاسب المحرمة آثاراً سيئة على الفرد والجماعة؛ تُنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث. أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.

أيها المسلمون، ويل للذين يتغذون بالحرام، ويُربون أولادهم وأهليهم على الحرام، إنهم كشارب ماء البحر كلَّما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشاً، شاربون شرب الهيم، لا يقنعون بقليل، ولا يغنيهم كثير. يستمرئون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة؛ رباً وقمارٌ، وغصبٌ وسرقةٌ، تطفيفٌ في الكيل والوزن والذرع، كتمٌ للعيوب، سحرٌ وتنجيمٌ وشعوذة، أكلٌ لأموال اليتامى والقاصرين، أيمان فاجرة، لهو وملاه، مكرٌ وخديعة، زور وخيانة، مسالك معوجة، وطرق مظلمة، في الحديث الصحيح عند البخاري والنسائي: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام))(6)[6]. زاد رزين: ((فإن ذلك لا تجاب لهم دعوة))(7)[7].

أيها العمال والموظفون، أيها التجار والصناع، أيها السماسرة والمقاولون أيها المسلمون والمسلمات، حقٌ عليكم تحري الحلال والبعد عن المشتبه، احفظوا حقوق الناس، أنجزوا أعمالهم، أوفوا بالعقود والعهود، اجتنبوا الغش والتدليس، والمماطلة والتأخير، اتقوا الله جميعاً، فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصلح به الأحوال، وتصحُّ به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.

اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، ونسألك اللهم الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، وبارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، استجب اللهم يا ربنا دعاءنا.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أحلَّ لنا الطيبات، وحرَّم علينا الخبائث، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأوفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون، خير سبيل للبعد عن المحرم ترك المشتبه، وسلوك مسالك الورع عند التردد، وفي الحديث: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس))(8)[1]. رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب، ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) جزء من حديث رواه البخاري، ومسلم واللفظ له من حديث النعمان بن بشير(9)[2]. ولقد قال الحسن البصري رحمه الله: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي العبد ربه؛ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً؛ حجاباً بينه وبين الحرام. ولتعلموا رحمكم الله أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها القلق والاضطراب الموجب للشك، والورِع هو الوقَّاف عند المشتبهات يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه.

فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ وأطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، واتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، اتقوا ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.

__________

(1) صحيح، صحيح البخاري: كتاب البيوع – باب كسب الرجل وعمله بيده، حديث (2072).

(2) ضعيف، أخرجه الترمذي: كتاب صفة القيامة – باب حدثنا هنّاد... حديث (2520)، وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث إسرائيل... وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث إسرائيل، ولم يعرف اسم أبي بشر. اهـ. قلت: أبو بشر هذا قال فيه الحافظ في التقريب: مجهول. وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط (3520)، والحاكم (4/104)، قال ابن الجوزي: قال أحمد: ما سمعتُ بأنكر من هذا الحديث. فيض القدير (6/86)، وضعّفه السيوطي، الجامع الصغير (8522).

(3) صحيح، أخرجه أحمد (2/177)، والحاكم (4/314) وسكت عنه، والبيهقي في شعب الإيمان (4801)، قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد والطبراني وإسنادهما حسن (2/345)، وكذا قال الهيثمي في المجمع (10/295)، والحديث وإن كان في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف إلا أن رواية عنه هو عبد الله بن وهب وروايته عنه صحيحه كما ذكر الحافظ في التقريب. ورمز له السيوطي بالحسن في صحيح الجامع (912)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (733).

(4) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – أيام الجاهلية، حديث (3842).

(5) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة من الكسب الطيب... حديث (1015).

(6) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب البيوع – باب من لم يبال من حيث كسب المال، حديث (2059).

(7) ذكر هذه الزيادة المنذري في الترغيب ()2/347) وسكت عنها.

(8) ضعيف، سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة... باب ما جاء في صفة أواني الحوض، حديث (2451)، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب الزهد – باب الورع والتقوى، حديث (4215). وفي إسناده عبد الله يزيد الدمشقي، وهو ضعيف كما في التقريب.

(9) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الإيمان – باب فضل من استبرأ لدينه، حديث (52)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة – باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث (1599).

(1/48)

آداب نبوية

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

8/4/1419

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- حديث فيه بعض الآداب النبوية. 2- فضيلة حسن الخلق. 3- النهي عن إحدى الصيغ في السلام. 4- كيفية السلام على أهل المقابر. 5- بعض آداب السلام وأحكامه. 6- الأمر بإنزال الحوائج بالله دون خلقه. 7- امتثال الصحابي كما سمعه من الهدي. 8- ذم اللعن والسب.

-------------------------

الخطبة الأولى

وبعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وتأدبوا بآداب الإسلام والتزموا بما أمر لعل الله أن يرحمكم، سوف أتحدث في هذه الخطبة عن جملة آداب وردت في حديث صحيح عن النبي حيث روى أبو داود في سننه والترمذي في جامعه بسند صحيح أن أبا جري جابر بن سليم، قال: رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله ، قلت :عليك السلام يا رسول الله، مرتين، قال: ((لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك، قال: قلت :أنت رسول الله ؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلّت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال: قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبّن أحدا قال: فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة، قال: ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه)).

إن هذا الحديث العظيم يشتمل على عدة آداب وكريم أخلاق وجميل شمائل يستحب لكل مسلم صادق أن يلتزم بها ويتخلق بأحسنها لأنه ليس شيء أثقل في موازين العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وفي الحديث الصحيح عن النبي أنه قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)). وقال أيضا: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة القائم الصائم)) رواه أبو داود وهو صحيح.

إذا علم هذا الأصل وهو محاولة تأديب المرء نفسه بالتزام أحسن الأخلاق واجتناب أسافل الأخلاق، نجد في هذا الحديث كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام أدب هذا الرجل من بداية لقيّه عندما سلّم عليه ولم يحسن السلام فدله على الصيغة الأفضل في تحية الإسلام، ولهذا في رواية الترمذي قال له عليه الصلاة والسلام: ((إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)).

وقد يشكل على البعض قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن عليك السلام تحية الميت)) أنه إذا ذهب إلى المقابر لزيارتها فإنه يسلم بقوله: عليك السلام وهذا فهم خاطيء ولكن النبي بين له أن هذه الصيغة تحية الموتى لما كان يفعله العرب فيما جرت به عادتهم في تحية الأموات إذ كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء كقول الشاعر:

عليك سلام الله قيس بن عاصم

ورحمته ما شاء أن يترحّما

وكقول لشمّاخ:

عليك سلام من أديم وباركت

يد الله في ذاك الأديم الممزّق

فالنهي هنا عن مشابهة هؤلاء القوم مع أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام عندما ذهب إلى المقبرة أنه قال: ((السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين)).

ولهذا فالسنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات بدليل هذا الحديث الذي ذكرناه .

قال ابن القيم رحمه الله: (وكان هديه في ابتداء السلام أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكان يكره أن يقول المبتدئ عليك السلام وبين أنها تحية الموتى وقد أشكل هذا الحديث على طائفة وظنوه معارضا لما ثبت عنه في السلام على الأموات بلفظ السلام عليكم بتقديم السلام فظنوا أن قوله عليك السلام تحية الموتى، إخبار عن المشروع في الإسلام عليهم في زيارتهم وغلطوا في ذلك وإنما عنى بذلك إخبار عن الواقع الذي اعتاده الناس والشعراء من تحيتهم للموتى بهذا اللفظ فكرهه لئلا يشابههم) أ.هـ. ولهذا بوّب الترمذي في جامعه: باب ما جاء في كراهية عليك السلام مبتدئا، والذي يجزيء من السلام: السلام عليكم، والسلام عليك أو سلام عليك فإن أتى المرء بأحد هذه الصيغ حصّل السلام وأجزأه.

والأفضل من هذه الصيغ أن يأتي بضمير الجمع وإن كان المسلّم عليه واحدا، ويقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ويأتي بواو العطف في قوله: وعليكم.

فإن حذف الواو فقال: عليكم السلام أجزأه ذلك وكان جوابا على أصح الأقوال وأقل الجواب أن يقول: وعليك السلام، أو وعليكم السلام فإن قال المسلم عليه وعليكم أو عليكم فقط لم يكن ذلك جوابا أورد للسلام.

والمستحب للمسلم أن يرفع صوته رفعا يسمعه المسلم عليه أو عليهم سماعا محققا وإذا تشكك في أنه لم يسمعهم زاد في رفعه.

ويكره السلام بالإشارة باليد أو الرأس ونحوهما بلا لفظ فإن جمع بين اللفظ والإشارة فلا يكره، وأما حكم السلام فإنه سنة مستحبة ليس بواجب.

وأما رد السلام فإن كان المسلم عليه واحدا وجب عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان رد السلام فرض كفاية عليهم، فإن رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، والسنة أن يبدأ الإنسان بالسلام قبل كل شيء لا كما يفعله كثير من الناس اليوم من التلاعن والشتم وقلة الأدب والحياء نتيجة بعدهم عن امتثال شرع الله وتطبيقه في معاملاتهم وعباداتهم في شئون حياتهم والبعض الآخر يبدأ بقوله: صباح الخير أو حياك الله أو هلا هلاَ أو مرحبا أو نهارك سعيد، وغير ذلك من تحية أهل الجاهلية التي أبدلنا الله خيرا منها وهو السلام ومما ينبغي أن يعلم أن الرجل المشهور بفسق وببدعة فهذا لا يسلم عليه من باب التأديب له والزجر عما هو فيه حتى يتأدب، ومن يكون متلبسا بمعصية كمن يكون شاربا للدخان حال المرور به فهذا لا يسلم عليه حتى يقلع عن معصيته.

هذه بعض آداب السلام ذكرتها للفائدة وللتخلق والتأدب بها.

نرجع للحديث: ثم قال هذا الصحابي: أنت رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا رسول الله)) أكد له وبين له حتى لا يرتاب ولا يشك بأنه رسول الله حقا وصدقا.

ولأن العرب كانوا يعبدون غير الله أراد أن يوقظ فيه حسن الفطرة وأن يدله على الواحد الأحد فقال له: وكما أني رسول الله فاعلم أن الإله الذي آمرك بعبادته وتوحيده وعدم الإشراك به هو الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك أي دفعه عنك، وإن أصابك عام سنة أي قحط وجدب فدعوته أنبتها لك بإنزال المطر لتصبح الأرض مخضرة وإذا كنت بصحراء فهربت راحلتك وضّلت وابتعدت عنك فدعوته ردّها عليك، كما ذكرنا في خطبة الأسبوع الماضي قصة صلة بين أشيم عندما هربت بغلته بثقلها فدعا الله أن يردها عليه فجاءت حتى وقفت عنده، من الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ إنه الله الواحد الأحد لا شريك له في ملكه ولا شبيه له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فكيف يليق بمن يعرف ربه بالقدرة التامة والملك الكامل والقوة المطلقة والغنى التام أن يدعو غيره وأن يلجأ لأحد سواه سواء كان من الأنبياء أو الأولياء المزعومين الذين نصبت على أضرحتهم القباب فصار الناس يدعونهم من دون الله في كشف ضر أو جلب نفع فأشركوا بالله وعبدوا معه غيره إذ أن حقيقة العبادة هي الدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) فنجد كثيرا من الناس اليوم ينزلون حوائجهم بعبد القادر الجيلاني أو الرفاعي أو التيجاني أو البدوي أو السيدة زينب أو الحسين أو غيرهم وهذا شرك أكبر مخرج من الملة لا ينفع صاحبه إن أتى به صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا . وقال أيضا: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار .

أيها المسلمون: الجئوا إلى الله في جميع حاجاتكم فإنه قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويكشف السوء.

أيها الإخوة: إن هذا الصحابي آمن مباشرة وعرف توحيد الله في كلمتين كما بينها له النبي عليه الصلاة والسلام لم يحتج إلى فلسفات كلامية ولم يقل: أحتاج إلى أدلة أكثر حتى أقتنع كما يفعل بعض متمسلمي هذا العصر، بل آمن دون تردد إيمان الصادق في مسألته، فبادر في الحال ليعمل، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: اعهد إلي، أي أوصني بما أنتفع به، فقال له: لا تسبن أحدا، قال: فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة. الله أكبر انظروا كيف الامتثال من صحابة رسول الله والتطبيق الفعلي لما أمروا به فلم يشتم هذا الصحابي أي شيء كائنا ما كان من إنسان وحيوان، فعلا إنهم كانوا يريدون الجنة فعملوا لها.

أما اليوم فالكل يتمنى الجنة ولكن دون عمل ولا تطبيق يسمعون الخطب والمواعظ والمحاضرات ولكن لا يتغير من سلوكهم المنحرف شيء، ليس لهم هم سوى اتباع رغباتهم وشهواتهم شهوات البطن والفروج ومشاهدة الأفلام الساقطة والدعايات الماجنة التي تبث عبر قناة البث المباشر وغيرها من وسائل الإعلام، لا يهتمون بدين ولا مروءة، أعدى أعاديهم الشباب الملتزم وأبغض داعيه إليهم هو الذي يطول عليهم بذكر الله فهو يجلس أمام شاشة التلفاز الساعات الطوال دون ملل ويثقل عليه سماع خطبة يوم الجمعة إن زادت على نصف الساعة، لقد قست القلوب، والسبب عدم الصدق مع الله والاستهتار بشعائر الدين ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .

أيها الإخوة: لقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي عن سب الناس أتدرون لماذا؟ لأن ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر))، كما ورد في الحديث المتفق عليه.

وقال في حديث آخر: ((لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً)) رواه الترمذي وهو صحيح.

وفي رواية أيضا: ((ليس المؤمن بالطعان (أي عيابا للناس) ولا اللعان (أي كثير اللعن) ولا الفاحش (أي فاعل الفحش وقائله بمعنى أنه الذي يشتم الشتم القبيح) ولا البذيء (وهو الذي لا حياء له بذيء اللسان لا يسلم منه أحد من شر لسانه) )).

وبين في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: ((أن من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه))، فمن خصال أهل الإيمان الحياء وعدم السباب ومواجهة الإساءة بالإحسان فقد قال : ((الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والجفاء شعبتان من النفاق)).

أيها المسلمون: ابتعدوا عن الشتائم والسباب واللعن واحفظوا ألسنتكم من السوء فمن أكثر من شيء عرف به، فإنه ليس بين الإنسان والشر إلا الخطوة الأولى، والانحدار يسير وهين ولكن الصعود صعب شديد وحسبنا أن نجتهد في إصلاح أنفسنا وعلى الله التوكل وهو الهادي إلى سواء الصراط. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

أيها الإخوة: إن شرف الأصل، وطيب المنبت، تأبى على المرء إلا التخلق بالمكارم والاتصاف بمعالي الأمور، اقتداء بآبائه الصالحين وتأسيا بأشراف قومه ولو أراد شرا، أو ارتكاب منكر، لأبت عليه أصوله وعاتبه ضميره وقال الناس: ما قالوا لمريم البتول حين اتهموها ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا والذهب لا يكون صفرا ولا نحسا والفضة لا تتحول رصاصا والمعتز بدينه وكريم نسبه لا يفعل إلا ما يشكر عليه شعاره قول الشاعر:

وينشأ ناشيء الفتيان منا

على ما كان عوده أبوه

أما الذي خبث أصله، ونبت جذره في الأوحال والأقذار، فلا يثمر إلا قبحا، ولا ينتج إلا خبثا، يفعل ما يشاء من سفاسف الأمور ومخازيها، وليس له زاجر من دين ولا حياء، يذكر لؤم أبيه وسفاهة أمه، فتهون عليه الرذيلة ولا يترفع عن كل نقيصه، لأنه تعود الذنوب و درج بين العيوب، وتخلق بكل مكروه، ونشأ منذ فتح عينيه، ومد يده، وحرك رجليه على ما كان أهله وذووه، يعيشون عليه ويعرفون به من خسّة طبع ودناءة نفس والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا والشيء من معدنه لا يستغرب:

تلك العصا من تلكم العصية

لا تلد الحية إلا حويّة

ولذلك نجد أحب الناس للدين وأصدقهم إيمانا في يقين وأثبتهم عقيدة وأحسنهم طريقا إلى الخير هم الذين تربوا على الطاعة من الصغر فرضعوا حب الله ورسوله مع حليب أمهاتهم وتوجيه آبائهم فلم تشق عليه التكاليف ولا أتعبتهم الواجبات ولا المندوبات ولا نفرت طبائعهم، كلا ولا ضاقت صدورهم عما جاء به الإسلام من آداب سامية وأخلاق فاضلة ولا بما نهوا عنه من الملذات، واتباع الشهوات بل كانوا سادة في الخير يتسابقون للظفر برضي الله ولهذا كانوا يمتثلون أوامر الله فيعملون بها ويجتنبون ما نهى الله ورسوله عنه كما في الحديث الذي ذكرناه في خطبتنا هذه وللحديث بقية لأنا لم ننته منه بعد، وقد بقي بعض الآداب لعلنا نكملها في الجمعة الأخرى إن مد الله لنا في العمر ونسّأ لنا في الأجل لعلنا ندرك فيه بعض الأمل ونرغّب الناس في العمل إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

(1/49)

حقوق الطريق وآدابه

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

شمول الإسلام لكافة شؤون الحياة – من مظاهر شمول الدين ما اشتمل عليه من آداب الطريق وحقوقه – فضل إماطة الأذى عن الطريق , وإثم من يتعمد إيذاء الناس , وجملة من حقوق الطريق وآدابه – من مظاهر أذية الناس في طريقهم – الاشتغال بذكر الله – آداب خروج المرأة

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وعظموا أمره، واشكروا نعمه. وأعظم هذه النعم وأجلها.. الهداية لهذا الدين بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ [الحجرات:17].

أيها الإخوة في الله: إن شرائع الإسلام استوعبت شتى جوانب الحياة وشؤونها. وانتظمت كل ما يعرض للمرء من مهده إلى لحده.

إن الدين الذي يبني أمة ذات رسالة لتبقى قائدة رائدة.. صالحة لكل زمان ومكان – إن ديناً هذا شأنه لا يدع مجالاً في السلوك العام، أو السلوك الخاص، إلا وجاء فيه بأمر السداد.

ومن هنا فلا غرو أن تدخل توجيهات الإسلام وأحكام الشريعة في تنظيم المجتمع، في دقيقه وجليله، في أفراده وجموعه، وفي شأنه كله. ولا تزال مدونات أهل الإسلام في الفقه والأخلاق مشحونة بالحكم والأحكام في فكر أصيل، ونظرٍ عميق، واستبحار في فهم الحياة، وشؤون الإنسان، وسياسة المجتمع، مع نماذج حية وسير فذة، وتطبيقات جليلة طوال تاريخ الأمة المجيد.

وإن مما يظهر فيه شمول هذا الدين، وجلاء حكمه وأحكامه، ما أوضحه الكتاب والسنة وآثار الأئمة.. من آداب الطريق، ومجالس الأسواق، وحقوق المارة، وأدب الجماعة. جاء في محكم التنزيل: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً [الفرقان:63]. وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ [القصص:55]. وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:36-38].

وفي السنة المطهرة من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال رسول الله : ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حقه؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر))(1)[1]. متفق عليه واللفظ لمسلم.

وفي حديث أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان عدَّ النبي من أبواب الخير: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة))(2)[2].

إن مصادر الشريعة الموثوقة قد طفحت بأمثال هذه النصوص مؤكدة هذه الحقوق، ومرشدة إلى هذه الآداب.

فعباد الرحمن: هم خلاصة البشر يمشون في الطريق هوناً، لا تصنُّع ولا تكلف، ولا كبر ولا خيلاء، مشية تعبر عن شخصية متزنة، ونفس سوية مطمئنة تظهر صفاتها في مشية صاحبها. وقارٌ وسكينةٌ، وجدٌّ وقوةٌ من غير تماوتٍ أو مذلة، تأسياً بالقدوة الأولى محمد فهو غير صخَّابٍ في الأسواق حين يمشي يتكفَّأ تكفؤاً، أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها، هكذا وصفه الواصفون، تلك هي مشيةُ أولي العزم والهمة والشجاعة، يمضي إلى قصده في انطلاقٍ واستقامةٍ لا يُصعر خده استكباراً، ولا يمشي في الأرض مرحاً. لا خفق بالنعال، ولا ضرب بالأقدام، لا يقصد إلى مزاحمة، ولا سوء أدب في الممازحة، يحترم نفسه في أدب جمٍّ، وخلقٍ عالٍ لا يسير سير الجبارين، ولا يضطرب في خفة الجاهلين. إنه المشي الهون المناسب للرحمة في عباد الرحمن، وحين يكون السير مع الرفاق فلا يتقدم من أجل أن يسير الناس خلفه، ولا يركب ليمشي غيره راجلاً.

أما غض الصوت وخفضه فهو من سيما أصحاب الخلق الرفيع، وذلك في الطريق، وأدب الحديث أولى وأحرى. إنه عنوان الثقة بالنفس، وصدق الحديث، وقوة الحجة يصاحب ذلك حلم وصفح، وإعراض عن البذاء من القول، والفحش من الحديث تجنباً لحماقة الحمقى، وسفاهة السفهاء.

ولا يرفع صوته من غير حاجة إلا سيء الأدب ضعيف الحجة، يريد إخفاء رعونته بالحدة من الصوت، والغليظ من القول.

يُضمُّ إلى ذلك أيها الإخوة، غض البصر، فذلك حق لأهل الطريق من المارة والجالسين.. تحفظ حرماتهم وعوراتهم، فالنظر بريد الخطايا، وإنك لترى في الطرقات والأسواق من يُرسل بصره محمَّلاً ببواعث الفتنة، ودواعي الشهوة، وقد يُتبع ذلك بكلمات وإشارات قاتلة للدين والحياء مسقطة للمروءة والعفاف.

وكف الأذى عن الطريق من أبرز الحقوق. والأذى كلمة جامعة لكل ما يؤذي المسلمين من قول وعمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس))(3)[3].

وحينما طلب أبو برزة – رضي الله عنه – من رسول الله أن يعلمه شيئاً ينتفع به قال: ((اعزل الأذى عن طريق المسلمين))(4)[4].

وفي خبر آخر: ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له؛ فغفر له))(5)[5].

أخرج ذلك كله مسلم في صحيحه رحمه الله.

وإذا كان هذا الثواب العظيم لمن يكف الأذى، فكيف تكون العقوبة لمن يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم ومجالسهم، ويجلب المستقذرات، وينشر المخلفات في متنزهاتهم، وأماكن استظلالهم.

أخرج الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد – رضي الله عنه – أن النبي قال: ((من آذى المسلمين في طرقهم؛ وجبت عليه لعنتهم))(6)[6] وقال: حديث حسن صحيح.

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: ((اتقوا اللعَّانين)) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلِّهم))(7)[7].

أما إفشاء السلام – أيها الإخوة – ابتداءً ورداً؛ فأدب كريم يتخلق به أبناء الإسلام، وحقٌ يحفظونه لإخوانهم، يغرس المحبة، ويزرع الألفة، ويغسل الأحقاد، ويزيل الإحن، ويستجلب به رضا الله وغفرانه، وفي الحديث: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم من حديث أبي هريرة(8)[8].

والجامع لهذه الآداب والحقوق – أيها المسلمون – هي تلك الكلمة الجامعة المانعة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يدخل في ذلك ما شئت من مكارم الأخلاق والآداب والمروءات.

فالحمل الثقيل ينوء به صاحبه فتعينه عليه.

تهدي ابن السبيل الضال بعبارة ملؤها الأدب، وإشارة كلها لطف ورقة من غير فظاظة ولا ملال، لا تقول هجراً ولا تنطق فحشاً، والبشاشة والتبسم في وجه أخيك من الصدقات.

تعين صاحب المتاع في حمل متاعه ورفعه ووضعه، وإن كنت تحمل شيئاً فاحترس أن تصيب أحداً بأذى. تفضُّ النزاع بين المتخاصمين، وتُصلح ذات البين، وتحفظ اللقطة، وتدلُّ على الضالة تعين على رد الحقوق لأصحابها، والذبِّ عن أعراض المسلمين، والأخذ على أيدي الظالمين، ونصرة المظلومين.

لا تعرض لأحدٍ بمكروه، ولا تذكر أحداً بسوء، لا تهزأ بالمارة، ولا تسخر من العابرين . . لا تشر ببنان، لا تستطل بلسان، ولا تحتقر صغيراً، ولا تهزأ من ذي عاهة. وإياك والجلوس في مضايق الطريق وملتقى الأبواب ومواطن الزحام، ويتأكد ذلك أثناء قيادة المركبات بأنواعها مع حفظٍ تامٍ لحقوق المشاة والراكبين والقاعدين، وإهمال ذلك يصيب المسلمين بفساد عريض.

أمة الأدب والخلق: إن من الناس من يتخذون من الطرق وأماكن البيع.. مقاعد وأندية ينشرون الأرائك والفرش ليتتبعوا العورات، ويمزقوا الأعراض، ويُحرجوا أهل الأدب والمروءة، فضوليون يدسُّون أنوفهم فيما لا يعنيهم.

يتناولون السابلة غمزاً بالأبصار، وطعناً باللسان: هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ [القلم:11-14].

إنه لا يحل لهؤلاء أن يجعلوا أماكنهم أوكاراً تمتد منها النظرات المحرمة، وطريقاً إلى الرذيلة والمقابلات المريبة. وقد ورد في الخبر أن النبي سئل عن قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت:29]. فقال: ((كانوا يحذفون أهل الطريق ـ أي: يرمونهم بالحجارة ـ ويسخرون منهم، فذاك المنكر الذي كانوا يأتون))(9)[9]، ذكره أحمد من حديث أم هانئ.

وإن أمثال هذه المجالس يترفع الفضلاء وذوو المروءات عن المرور بها، فضلاً عن الجلوس فيها، تلك أسواق لا يرتادها إلا الأراذل من الناس، الذين لا يتحرجون من البذاء ولا يعرفون الاحتشام.

أيها المسلمون: إن من لم يعط الطريق حقه يُتبع نفسه هواها، ويريد أن يملأ عينه بمناها، فيَذلُّ بعد عز، ويفسق بعد عفة، وينحدر بعد الكمال. إن هذه المواطن إن لم تُرْعَ فيها آداب الإسلام؛ فهي مرتع خصيب للغِيبة والنميمة والسخرية والكذب والإفك المبين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19].

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله على ما مََنَحَ من الإنعام وأسدى. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره من خطايا وذنوب لا تحصى عداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أعظم به رسولاً وأكرم به عبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا أمثل طريقة وأقوم وأهدى، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن من أولى الآداب وأكرم الأعمال الاشتغال بذكر الله كثيراً. ففيه الانبعاث على الخيرات، والعون على الطاعات، والقيام بالحقوق، وحفظ النفس من الشيطان.

جاء في حديث عند الترمذي وصححه واللفظ له، وأبي داود وغيره عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي أنه قال: ((من قال ـ يعني: إذا خرج من بيته ـ بسم الله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفيتَ ووقيتَ، وتنحى عنه الشيطان))(10)[1]. ولا ينبغي أن يغفل المسلم عن الدعاء المأثور عند خروجه من منزله: ((اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل أو أُزَل، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يجهل علي))(11)[2] رواه الأربعة، واللفظ لأبي داود.

والمرأة إن احتاجت إلى الخروج، فتخرجُ محتشمةً في لباسها، حييةً في مشيتها، بعيدةً عن حركات الريبة، ومواضع التهم، غير متعطرة ولا متلفتة، سريعة العودة إلى منزلها، بعد انقضاء حاجتها وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31].

فاتقوا الله ـ أيها المسلمون والمسلمات ـ والتزموا بآداب دينكم، واحفظوا حقوق إخوانكم.

__________

(1) صحيح، صحيح البخاري: كتاب المظالم والغصب – باب أفنية الدور والجلوس فيها... حديث (2465). صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة – باب النهي عن الجلوس في الطرقات... حديث (2121).

(2) حسن، ((الأدب المفرد)) رقم (891)، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في صنائع المعروف، حديث (1956) وقال: حسن غريب، صحيح ابن حبان: كتاب البر والإحسان – باب فصل من البر والإحسان – ذكر بيان الصدقة للمرء... حديث (529) وأخرجه أحمد (5/168) بنحوه، وحسنه الألباني، السلسلة الصحيحة (572).

(3) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل إزالة الأذى عن الطريق، حديث (1914).

(4) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل إزالة الأذى عن الطريق، حديث (2618).

(5) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإمارة – باب بيان الشهداء (1914)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب الأذان – باب فضل التهجير إلى الظهر، حديث (654).

(6) إسناده حسن، أخرجه الطبراني في الكبير (3050)، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب (1/81)، والهيثمي في المجمع (1/204)، والألباني في صحيح الترغيب(148).

(7) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الطهارة – باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، حديث (269).

(8) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، حديث (54).

(9) ضعيف الإسناد، مسند أحمد (6/341)، وأخرجه أيضاً الترمذي: كتاب التفسير – سورة العنكبوت، حديث (3190) وعنده ((أهل الأرض)). وفي إسناده أبو صالح باذام – ويقال باذان – مولى أم هانئ رضي الله عنها، ضعيف مدلس. كما في التقريب (639)، وانظر ضعيف الترمذي (623).

(10) صحيح، سنن الترمذي: كتاب الدعوات تابع لباب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (3426) وقال: حسن صحيح غريب. سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا خرج من بيته (5095)، وصححه ابن حبان (822)، والضياء في الأحاديث المختارة (4/373) والألباني، صحيح سنن الترمذي (2724).

(11) صحيح، أخرجه أحمد (6/306)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (5094)، والترمذي: كتاب الدعوات – تابع لباب ما يقول إذا خرج من بيته، حديث (3427)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (822) والضياء في المختارة (4/373)، والسيوطي، الجامع الصغير (6655)، والألباني، صحيح الترمذي (2725).

(1/50)

خطبة عيد الأضحى (وقفات مع خطبة الوداع)

-----------------------

العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

مشهد الحجيج ودلالته على انتماء أفراد الأمة إلى هدف واحد – حاجة الأمة في أيام محنتها إلى دروس من تاريخها , ومن ذلك حجة الوداع , وما فيها من خطب جامعة - في حجة الوداع تثبيت لأصول الديانة وقواعد الشريعة ومنها : 1- تأكيد النهي عن الشرك والتأكيد على التوحيد 2- تأكيد ميزان تفاضل الناس , وأنهم متساوون في التكاليف 3- التأكيد على حفظ النفوس والدماء 4- التأكيد على الوصية بالنساء 5- النهي عن الخلاف المذموم

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون، هاهم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله، ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح. قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلدٌ وتاريخٌ، قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، ديناً ودنيا، علماً وعملاً فقهاً وخلقاً.

أرضٌ طيبةٌ، وجوٌ عابقٌ، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد، حيةٌ نابضةٌ، تختلط فيه مشاعر العبودية، وأصوات التلبية، والإقبال على الربِّ الرحيم.

في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل، شعورٌ كريمٌ فياضٌ، بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ، إنها أمة محمد ، دينها دين الإسلام دين الله رب العالمين.

ما أحوج الأمة في أيام محنتها وشدائدها، وأيام ضعفها وتيهها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأملها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها، تستلهم منها العبر، ويتجدد فيها العزم على الجهاد الحق، ويصح فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد.

ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها، وتردُّ على من يريد القضاء على كيانها.

وإن في حجة نبيكم محمد الوداعية التوديعية لعبراً ومواعظ، وإن في خطبها لدروساً جوامع.

فلقد خطب عليه الصلاة والسلام خطباً في موقف عرفة، ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق – أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين. خطب الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام ديناً للإنسانية كلها، لا يقبل من أحدٍ ديناً سواه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

ألقى نبيكم محمد في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزةً، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين.

وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، ولا عارضي أساليب، فكلماتهم حق وأوعية معانٍ، وشفاءٌ لما في الصدور، ودواءٌ لما في القلوب.

في حجة الوداع ثبَّت النبي في نفوس المسلمين أصول الديانة، وقواعد الشريعة، ونبَّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى.

ولقد كانت عباراتٍ توديعيةً بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهدَ الناسَ فيها على البلاغ.

كان من خلال تبليغه كلمات ربه يمتلئ حباً ونصحاً وإخلاصاً ورأفةً: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].

لقد عانى وكابد من أجل إخراجهم من الظلمات إلى النور، حتى صنع منهم – بإذن ربِّه – أمةً جديدةً، ذات أهدافٍ واضحةٍ، ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقةٍ، وعلَّمهم بعد جهل.

أيها الإخوة في الله، إخواني حجاج بيت الله:

وهذه وقفات مع بعض هذه الأسس النبوية، والقواعد المصطفوية، والأصول المحمدية.

إن أول شيء أكد عليه في النهي من أمر الجاهلية الشرك بالله، فلقد جاء بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) شعار الإسلام وعلّم الملة، كلمة تنخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة.

فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور. هذا هو دليل التوحيد وطريقه: اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].

والأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

ومن القضايا المثارة في الخطاب النبوي التقرير بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقاً وواجباتٍ، لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية ضربٌ من الإفك والدجل.

ومن الواقع الرديء في عصرنا أن توصف حضارة اليوم بحضارة العنصريات والقوميات. والشعوب الموصوفة بالتقدم تضمر في نفسها احتقاراً لأبناء القارات الأخرى، ولم تفلح المواثيق النظرية، ولا التصريحات اللفظية، فإنك ترى هذا التمييز يتنفس بقوةٍ من خلال المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ويأتي نبينا محمد لينبه منذ مئات السنين على ضلال هذا المسلك، ويعلن في ذلك المشهد العظيم: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)). وفي رواية عند الطبراني عن العدَّاء بن خالد قال: قعدت تحت منبره يوم حجة الوداع، فصعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وقال: ((إن الله يقول: ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل إلا بالتقوى. يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم، وتجيء الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً. أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية(1)[1] الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان: رجل تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقي هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب))(2)[2] رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود وغيرهما. الله أكبر، الله أكبر. لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

معاشر الحجاج، أيها الأحبة، حفظ النفوس وصيانة الدماء قضية خطيرة يثيرها خطاب الرسول عليه السلام إلى الأمة في كلماته التوديعية التأصيلية: ذلكم أن حكم القصاص في النفس والجراحات، كان من حكمه التشريعية: زجر المجرمين عن العدوان.

وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم، وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها، حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين، واكتفت بعقوبات هزيلة بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين ذلك إلا عتواً واستكباراً في الأرض ومكر السيئ. ولكنه في شرع محمد محسوم بالقصاص العادل: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ [البقرة:179]. إن في القصاص حياة حين يكفُّ من يَهمُّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياةٌ حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حدٍّ لا في القديم ولا في الحديث. ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية، والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيلٍ، لا تكفُّ معه الدماء عن المسيل.

ويأتي حسمٌ عمليٌّ ومباشرة تطبيقية من محمد في هذا الموقف العظيم، وفي إلغاء حكم جاهلي في مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مُسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل))(3)[3].

أيها الإخوة، إن في القصاص والحدود وأحكام الجنايات في الشريعة، حياةً ورحمةً، حياةً أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، رحمة واسعة غير مقصورة على شفقة ورِقَّة تنبت في النفس نحو مستضعفٍ أو أرملةٍ أو طفلٍ، ولكنها رحمةٌ عامةٌ للقوي والضعيف والقريب والبعيد، والأمن المبسوط في بلاد الحرمين خير شاهد صدقٍ لقوم يتفكرون، الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

معاشر الإخوة، أما قضية المرأة، وما أدراك ما قضية المرأة، وكأنها قضية كل عصر وكل جيل وكل أمة، يأتي الخطاب النبوي في هذا الحشد الهائل ممن عاصر الجاهلية، ليضع الناس على الحق، والطريق المستقيم.

إن مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام احتقرت المرأة وازدرتها، بل لعلها رأت أنها شرٌ لابد منه، وفي أمم التقدم المعاصر أسلفَّت بها في شهواتها إلى مدىً منحطٍ. وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في قفص الاتهام ومظاهر الاستصغار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدةً لكل الآثام، ولكنَّ هدي محمد أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكلٍّ نصيبه: لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32]. في مسلك وسط، ومنهجٍ عدلٍ، فالنساء شقائق الرجال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]. وفي التوجيه النبوي: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف))(4)[4]. إن إصلاح عوج المرأة راجع إلى زوجها؛ ليمنع العوج والنشوز، وليعيد الاستقرار إلى جوانب البيت في معالجة داخلية.

الله أكبر لا إله إلا الله، والله اكبر الله أكبر ولله الحمد.

وثمة وقفةٌ نبويةٌ – أيها الإخوة – في هذا المشهد التوديعي العظيم. إنها قضية وحدة الأمة، وقضية الخلاف المذموم. يوقف فيها الرسول أمته على أمر حاسم، وموقف جازم: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده- إن اعتصمتم به- كتاب الله))(5)[5].

((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))(6)[6] متفق عليه من حديث جرير. ((ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم))(7)[7] رواه مسلم والترمذي واللفظ له.

إنه تحذير مبكر من الرؤوفٍ الرحيم بالمؤمنين من فناءٍ ذريع، إذا هي استسلمت للخلاف، واسترسلت في الغفلة عن سنن الله، والجهل بما يحيكه الشيطان وإخوان الشيطان من مؤامرات.

إنها وصايا أودعها النبي ضمائر الناس. لا تتضمن قضايا فلسفية ولا نظريات خيالية. مبادئ بسطها النبي الكريم المبلغ البليغ في كلماتٍ سهلة سائغة، وإنها على وجازتها أهدى وأجدى من مواثيق عالمية طنانةٍ لا واقع لها. ذلك أن قائلها وواضعها محمداً كان عامر الفؤاد بحب الناس، والحرص عليهم والرأفة بهم. شديد التأكيد على ربطهم بالله وسننه وإعدادهم للقائه.

وإذا كان الإسلام في العهد النبوي قد دفن النعرات الجاهلية، والعصبيات الدموية، والشيطان قد يئس أن يُعبد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدد آماله في هذه العصور المتأخرة. تتجدد آماله في الفرقة والتمزيق. فالعالم الإسلامي اليوم تتوزعه عشراتُ القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قوميات ذات توجهات مقيتة. ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار، والفرقة والتمزق.

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، حجاج بيت الله، أمة الإسلام: ما أحوج الأمة اليوم إلى مثل هذه الدروس النبوية، أما تتكرر الروح التي سادت حجة الوداع، لكي تتشبع هذه الكثرة العددية للمسلمين اليوم بكثافةٍ نوعيةٍ، وطاقات روحيةٍ؟ أما يحج المسلمون ليشهدوا منافع لهم تمحو فرقتهم، وتسوي صفوفهم، وترد مهابتهم؟!

إن الحج العظيم في معناه الكبير يكون فيه الشيطان وأعوانه أصغر وأحقر. فيغيظ أعداء الله ويرجعون خاسئين، ناكصين على أعقابهم مذمومين مدحورين، يغيظ الكفار حين يرون جموع هذه الأمة، وقد استسلمت لربها، وأطاعت نبيها، واجتمعت كلمتها.

فياأيها الناس: ((اعبدوا ربكم ـ كما أوصى نبيكم ـ وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم))(8)[8].

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

-------------------------

الخطبة الثانية

الله أكبر (سبعاً)، الله أكبرُ أوجدَ الكائنات بقدرته فأتقن ما صنع، الله أكبر شرع الشرائع فأحكم ما شرع، الله أكبر لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.

الحمد لله أهلِ الحمد ومستحقِّه، والصلاة والسلام على نبينا محمد مصطفاه من رسله، ومجتباه من خلقه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ضعف حال المسلمين، واضطراب أمورهم، لم يكن إلا من عند أنفسهم، تسلط الأعداء لا يكون إلا بسبب الأعمال والإهمال، فيا حكام الإسلام ويا ولاة أمور المسلمين، اتقوا الله فيما وُلِّيتم، وأقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، ارفعوا راية الكتاب والسنة، اتقوا الله في توجيه الرعية، وجِّهوهم إلى ما فيه ترسيخ الإيمان وحب الإسلام.

__________

(1) عُبِّيَّة الجاهلية: الكبر والفخر والنخوة.

(2) صحيح، سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن – باب سورة الحجرات، حديث (3270)، سنن أبي داود: كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116)، وأخرجه أيضاً أحمد (5/411)، والطبراني في الكبير (16)، وصححه ابن حبان (3828)، وحسّن أحد أسانيده المنذري في الترغيب (3/376)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (2700).

(3) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218).

(4) صحيح، أخرجه مسلم في الموضع السابق.

(5) صحيح، أخرجه مسلم في الموضع السابق.

(6) صحيح، صحيح البخاري: كتاب العلم – باب الإنصات للعلماء، حديث (121) صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان معنى قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً...))، حديث (65).

(7) صحيح، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة... باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه... حديث (2812)، سنن الترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في التباغض، حديث (1937)، وقال: حديث حسن.

(8) صحيح، أخرجه أحمد (5/251)، والترمذي ح (616) وقال: حسن صحيح، والحاكم (1/9) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.

(1/51)

تتمة آداب نبوية

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

11/7/1414

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- من أخلاق المسلم بسطة الوجه. 2- الصدقة بالكلمة الطيبة. 3- النهي عن الإسبال والكبر. 4- ازرة المسلم كما جاء في السنة. 5- الأمر ستر العورات. 6- دفع إساءة الناس بالإحسان والصفح. 7- سباب المسلم ولعنه. 8- النهي عن لعن المخلوقات والأموات.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وتأدبوا بآداب دينكم وتمسكوا بسنة نبيكم، واعلموا أنا لا نزال بصدد شرح حديث جابر بن سليم وقد وصلنا إلى وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف))، فالمعروف أبوابه كثيرة من مساعدة الضعفاء والمساكين والإحسان إليهم، والسعي في مصالحهم وكف الأذى عنهم وإدخال السرور عليهم وكشف كرباتهم وستر عوراتهم وغير ذلك مما هو مبين ومبسوط في موضعه وأقل شيء من المعروف هو طلاقة الوجه وهو أقل القليل الذي يستطيع الإنسان عمله بغير جهد منه ولا بذل طاعة، وهو أفضل شيء لكسب قلوب الآخرين، أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك دون أن تكون عبوسا قمطريرا، مكفهر الوجه، قاطب الجبين فإن ذلك ليس من أخلاق المؤمنين، قال لقمان لابنه: يا بني لتكن كلمتك طيبة ووجهك منبسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة.

وقد كان لا يواجه أحدا بما يكره في وجهه ولم يكن فاحشا متفحشا بل كان يقابل الكل الصديق والقريب والصاحب والعدو بوجد طليق حتى يظن كل أحد أنه أحب الناس إلى رسول الله .

قال جرير بن عبد الله البجلي: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم وكان ابن عمر ينشد:

بنيّ إن البر شيء هين

وجه طليق وكلام لين

وقال الشافعي رحمه الله:

يغطى بالسماحة كل عيب

وكم عيب يغطيه السخاء

فطلاقة الوجه وتبسم الإنسان في وجه أخيه ولين الكلام دليل على حسن خلق فاعله ودليل على علو درجة إيمانه فأحسن الناس خلقا أكملهم إيمانا. ورؤي بعض السلف في المنام فسئل عن بعض إخوانه فقال: وأين ذلك منا، رفع في الجنة بحسن خلقه، وليست هذه الأخلاق بالأخلاق الرياضية أو الدوبلوماسية كما يزعمون، إنما هي الأخلاق الإسلامية التي تنبع من هذا الدين يغضب لانتهاك حرمات الدين ولا يغضب لنفسه ويفرح لانتصار دين الإسلام ولا يفرح لغير ذلك من الانتصارات التافهة التي لا تقدم الأمة إلى الإمام بل تؤخرها إلى الوراء قرونا وهو يغلظ القول لمن يتجرأ على حدود الله ويلين القول على من وقعت منه هفوة أو هفوات وهو يحب المرء لا يحبه إلا في الله وإن أبغضه لا يبغضه إلا لله وإن أعطى يعطي لله وإن منع يمنع لله وهكذا فهو في جميع أمواله وأخلاقه وتعاملاته مرتبط بدينه لا يرتبط بشيء آخر سواه ولهذا كان كما قالت عائشة عنه: كان خلقه القرآن، ومما ورد في فضل طلاقة الوجه وطيب الكلام، عن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)) رواه مسلم. وفي رواية للترمذي: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة))، وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) متفق عليه.

فالذي ليس لديه شيء يتصدق به يقدم كلمة طيبة تنفعه في يوم الحشر وتبعده من النار، والكلمة الطيبة تتعدد أنواعها بحسب حال قائلها فمن ذلك ما روى الترمذي أن النبي قال ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك عن الطريق لك صدقة)). وهكذا فالكلمة بشتى أنواعها إن كانت طيبة من رجل طيب غير مشاكس ولا صاحب مشاكل يحب الخير للناس هذه الكلمة تكون صدقة يؤجر عليها، ولهذا كانت الكلمة الطيبة مع طلاقة الوجه سبب لدخول الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن في الجنة غرفا يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها))، فقال أبو مالك الأشعري لمن هي يا رسول الله، قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام، وبات قائما والناس نيام)) هذا فضل الكلمة الطيبة فيا أيها المؤمن: قل خير فتغنم أو اسكت فتسلم.

ونرجع للحديث، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: ((وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة))، وهذا توجيه نبوي كريم لكل من يسبل إزاره إلى تحت الكعبين لأن البعض إذا قيل له: إن ذلك لا يجوز، قال: أنا لا أفعل ذلك تكبرا، سبحان الله ففي هذا الحديث يبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك هو من الكبر حيث قال: فإن إسبال الإزار من المخيلة أي من الخيلاء والتكبر والدلالة على أن ذلك من الكبر أن ذلك المسبل لا يستطيع تقصير ثوبه إلى ما دون الكعبين ويشعر أن ذلك لا يليق به أو إلى غير ذلك من الأعذار الواهية والكبر كما بينه عليه الصلاة والسلام هو ((بطر الحق وغمط الناس))، بطر الحق أي عدم قبوله والالتزام به فمن علم أن الإسبال لا يجوز ثم يصر بعد ذلك فهذا فيه من خصال المتكبرين وإن لم يقصد ذلك فإن قصد فالجرم أعظم، إذاً فإن كل إسبال من المخيلة كما بين ذلك الحديث.

قال : ((بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)) رواه البخاري، وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: ((من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله عز وجل لا ينظر إليه يوم القيامة))، وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة أن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - قالها ثلاث مرات- قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) وفي رواية: ((المسبل إزاره)).

أيها المسلمون: ومع هذا الوعيد الشديد العظيم الوارد في المسبل إزاره نرى بعض المسلمين لا يهتم بهذا الأمر فيترك ثوبه أو بشته أو سراويله تنزل عن الكعبين وربما تلامس الأرض وهذا منكر عظيم وظاهر وأمر شنيع وكبيرة من كبائر الذنوب فيجب على من فعل ذلك أن يتوب إلى الله ويرفع إزاره وثيابه على الصفة المشروعة، واعملوا أن الله لا يحب من كان مطيلا لثيابه وسراويله تحت الكعبين كما في الحديث عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت رسول الله آخذ بحجزة سفيان بن أبي سهل: فقال: ((يا سفيان لا تسبل إزارك، فإن الله لا يحب المسبلين)) رواه ابن ماجه وابن حبان وهو حديث حسن.

وأما مقدار حد الإزار والمشروع إلى نصف الساق وهكذا كانت ثيابه عليه الصلاة والسلام إلى أنصاف ساقيه كما ثبت ذلك في صفة لباسه وكما ثبت في أمره بذلك فإن أحب المرء أن يطيل فإلى الكعبين ولا يجوز له أن يطيل أكثر من ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((أزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك فهو في النار)) رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وهو حديث صحيح.

وروى البخاري والنسائي عن أبي هريرة عن النبي قال: ((ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار)).

فاتقوا الله أيها المسلمون: ولا تستهتروا بقضية اللباس وارفعوا ثيابكم فوق الكعبين حتى تبتعدوا عن غضب ربكم وتنالوا رضاه وتجتنبوا سخطه.

وهناك فريق آخر غير المسبلين فريق من المستهترين وممن ضعف وقار الله في قلوبهم فهؤلاء يرفعون لباسهم فوق الركبتين فتبدوا أفخاذهم أو بعضها كما يفعله بعض من يلعبون الكرة وبعض العمال أيضا وهذا أيضا لا يجوز لأن الفخذين عورة يجب تغطيتها وسترها ويحرم مع ذلك كشفها، وقدر ورد عن النبي أنه قال: ((غط فخذك فإنها من العورة)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث حسن.

وروى الترمذي بسند حسن أن النبي قال لعلي: ((يا علي لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) وفي رواية: ((نهاني رسول الله عن كشف الفخذ وقال: لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)) حسن.

أيها المسلمون: يقول الله تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ، فالله سبحانه يمتن على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش والمراد به ستر العورات وهي السوءات والريش ما يتجمل به ظاهرا، فاللباس من الضروريات والريش من الكماليات ولما امتن سبحانه باللباس الحسي الذي يتخذ لستر العورة وتدفئة الجسم وتجميل الهيئة فيه نبه على لباس أحسن منه وأكثر فائدة وهو لباس التقوى الذي هو التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، ولباس التقوى هو الغاية وهو المقصود، ولباس الثياب معونة عليه ومن فقد لباس التقوى لم ينفعه لباس الثياب:

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى

تقلّب عريانا وإن كان كاسيا

ولباس التقوى يستر العبد فلا يبلى ولا يبيد، وهو جمال الروح والقلب وخشية الله في السر والعلن، ولباس الثياب إنما يستر العورة الظاهرة في وقت من الأوقات ثم يبلى ويبيد.

ولهذا كان لزاما على من لبس الثياب أو البنطلونات أن تكون ثيابه وفق السنة ووفق ما أمر به رسول الله ليس فيها إطالة تحت الكعبين وليس فيها تشبه بالكفار والمنافقين أعداء الدين.

أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا .

-------------------------

الخطبة الثانية

أيها المسلمون: ونختم وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام لجابر بن سليم في آخر الحديث حيث قال له: ((وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه))، وهذا من باب مقابلة الإساءة بالإحسان ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .

ولأن الشتم والسباب ليس من خصال أهل العلم والإيمان حذّر النبي عليه الصلاة والسلام هذا الصحابي وأدبه ودله على الفعل اللائق به، إن شتمك أي إنسان وإن كان ما يقوله الشاتم حقا وما ذاك إلا لأن هناك ملكا ينافح عن المشتوم ويدافع عنه كما في قصة أبي بكر عندما شتمه رجل عند رسول الله فلما أكثر عليه رد عليه أبو بكر ، فقام عليه الصلاة والسلام وذهب فلحقه أبو بكر وقال: يا رسول الله ألم تسمع ما يقول؟ فقال : ((لقد كان ملك ينافح عنك فلما رددت عليه دخل الشيطان فما أحببت أن أجلس)) بل قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا))، أي لا ينبغي لمن صدق في عبادته بقوله وعمله أن يكون كثير السب والغضب حتى لا تزلّ قدمه ويرديه لسانه. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) متفق عليه، والسباب: مصدر سب وهو من أبلغ السب وهو أن يقول فيمن يسبه بما فيه وما ليس فيه فبين عليه الصلاة والسلام أن ذلك فسوق أي خروج عن طاعة الله ورسوله. واللعن من أعظم الشتم فمن لعن أخاه فقد ارتكب أمرا عظيما حيث ذكر عليه الصلاة والسلام: ((أن لعن المؤمن كقتله)) متفق عليه، وعن سلمة بن الأكوع قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أنه قد أتى بابا من الكبائر. وقد روى أبو داود أن رسول الله قال: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً، وإلا رجعت إلى قائلها)).

بل نهى عن سب كل شيء فقد نهى مثلا عن شتم الحيوانات فمن ذلك الديك فقد روى ابن حبان بسند صحيح قال رسول الله : ((لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة)) ونهى عن سب المحدودين فعن أبي هريرة قال: أتى رسول الله بشارب، فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، فقال بعض القوم: أخزاك الله فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان)) رواه البخاري في صحيحه.

ونهى عن سب الريح فقال: ((إن الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها وسلوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها)) صحيح.

وفي رواية قال لرجل لعن الريح: ((لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه)) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وإسناده صحيح .

ونهى أيضا عن سب الأموات فقال: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)) رواه الترمذي بإسناد صحيح.

وروى الطبراني بإسناد جيد أن رسول الله قال: ((من ذكر امرئً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)).

وخلاصة القول ينبغي لكل واحد منا أن يحفظ لسانه عن النطق بالسباب والفحش فيه والبذاءة:

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى

إن البلاء موكل بالمنطق

بل ينبغي للمؤمن أن يكون عفيف اللسان غاض الطرف عن الناس وإيذاءهم يعمل هذا وهذا كل ذلك ابتغاء الأجر من الله سبحانه وتعالى ليس ذلك ضعفا ولا خورا بل ضبط للنفس وكبح لجماح الغضب وإمساك لزلة اللسان ولهذا نجد أن الصحابي الجليل جابر بن سليم عندما وصاه النبي عليه الصلاة والسلام استجاب فلم يشتم بعد ذلك شيئا، فيا ليت الناس اليوم يحفظون ألسنتهم من الشتم والتنقص لإخوانهم المسلمين، ويا ليتهم يعملون بهذه الوصية حتى يسود الوئام والألفة والمحبة بيننا معشر المؤمنين.

(1/52)

خطبة الاستسقاء

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

آثار الذنوب والمعاصي, التوبة, الصلاة

-----------------------

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

الحث على التوبة والاستغفار – فضل الاستغفار من الأمة , وارتباطه بدفع النقم والبلايا وقوة الأمة – أفضل الاستغفار وسبب ذلك

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. المتقون من عذاب الله هم الناجون: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]. ولِجنة الله هم الوارثون: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. والقبول في أهل التقى محصورٌ ومقصورٌ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

أيها المسلمون، تبارك اسم ربنا وتعالى جده، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده وله الحمد: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ويناديهم في ملئه الأعلى: ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم))(1)[1]. سبحانه وتقدس هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ونقصهم وتقصيرهم، فتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته. والأمل في مرضاته: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]. الرحمات من ربنا فياضة لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة لا ينقص عطاؤها. ومن ذا الذي يتألى على الله ألا يغفر ذنوب عباده: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ [آل عمران:135].

أيها الأخوة، إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب بربها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].

بالاستغفار تتنزل الرحمات: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].

أيها الأحبة، إن هناك صلة قوية بين طهارة الفرد والمجتمع من الذنوب والخطايا وقضاء الحاجات، وتحقيق الرغبات، وتوافر الخيْرات. هناك ارتباط متين بين الثروة والقوة وبين مداومة الاستغفار؛ اسمعوا إلى مناشدة نوح عليه السلام قومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].

وأفضل الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثَنِّي بالاعتراف بالنعم، ثم يقر لربه بذنبه وتقصيره، ثم يسأل بعد ذلك ربه المغفرة. كما جاء في حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء(2)[2] لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت))(3)[3]. قال أهل العلم: وقد كان سيد الاستغفار لأنه تضمن الاعتراف بربوبية الله سبحانه وإلهيته وتوحيده، والاعتراف بعجز العبد وتقصيره، واعترافه بأنه في قبضة مولاه، لا مهرب منه ولا مفر، وتضمن اجتهاد العبد بدخوله تحت عهد ربه ما استطاع وأطاق، لا بحسب حق الله وجلاله وعظمة مقامه، ولكنه جهد المقل.

أيها الإخوة المسلمون، لقد دعاكم إلى المبادرة مولاكم، وفتح باب الإجابة ثم ناداكم، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]. فاتقوا الله ربكم، واستغفروه ذنبكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.

بابه مفتوح للطالبين، وجنابه مبذول للمقبلين، وفضله ينادي: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].

سارعوا مسارعة الخائفين، واعترفوا اعتراف المقصرين: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].

لله در أقوام بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، عيونهم بالدمع مملوءة. وألسنتهم عن الزلات محفوظة، وأكفهم عن المحرمات مكفوفة، وأقدامهم بقيد المحاسبات موقوفة. يجأرون في ليلهم بالدعوات، يقطعون أوقاتهم بالصلوات.

صدقوا في المحبة والولاء، وصبروا على نزول البلاء، شكروا سوابغ النعماء، وأنفقوا في السراء والضراء، بذلوا ما عندهم لربهم بسخاء. ووقفوا بباب مولاهم بكل الأمل والرجاء يرجون وعد ربهم بجزيل العطاء: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الدهر:12،13].

عباد الله: إنكم مخلوقون اقتداراً، وكائنون رفاتاً، ومبعوثون أفراداً، فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، فرحم الله عبداً اقترف فاعترف، وحاذر فبادر، وعمِّر فاعتبر، وأجاب فأناب، ورجع إلى ربه وتاب، تزود لرحيله، وتأهب لسبيله.

عباد الله: هل ينتظر الشباب إلا الهرم؟ وهل يؤمِّل الصحيح إلا السقم؟ وماذا بعد طول البقاء إلا مفاجأة الفناء والفوت، وحلول الأجل، ونزول الموت؟

جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه، واستدرك في يومه ما مضى من أمسه، وأعاذنا الله وإياكم ممن ذهب عمره، وقلَّ عمله، واقترب أجله، وساء بربه ظنُّه.

ألا فاتقوا الله ربكم، وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا الظن، وجدوا في المحاسبة، واصدقوا في اللجوء؛ فمن صدق في اللجوء صحت عنده التوبة. جانبوا أهل الفحش والتفحش، ومجالسة ذوي الردى، ومماراة السفهاء. احفظوا للناس حقوقهم، ولا تبخسوهم أشياءهم. صلوا الأرحام، واسوا الأرامل والأيتام، وتصدقوا بالدرهم والدينار والمد والصاع، واتقوا النار ولو بشق تمرة. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].

واحذروا تقلبات الزمن، فما الدنيا إلا أملٌ مخترمٌ، سرورها بالحزن مشوب، وصفوها بالكدر مصحوب، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبُسطت لغيرهم اغتراراً.

تعجلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا، وبطهور الاستغفار تُستمطر السماء، وتُستدر الخيرات، وتُستنزل البركات.

وها أنتم عباد الله قد حضرتم في هذا المكان الطاهر بين يدي ربكم تشكون جدب دياركم، وتبسطون إليه حاجتكم، وذلكم بصالح العمل لديه، فأظهروا رقة القلوب، وافتقار النفوس والذل بين يدي العزيز الغفار، استكينوا لربكم، وارفعوا أكف الضراعة إليه، ابتهلوا وادعوا، وتضرعوا واستغفروا، فالاستغفار مربوط بما في السماء من استدرار.

وأكثروا من الصلاة والسلام على المصطفى الهادي البشير إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصلى على النبي كما جاء في الأثر؛ اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحاً مجللاً، عاماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تُحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع بذنوبنا فضلك.

سبحان الله على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعُري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.

اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم ادفع عنا الغلاء والبلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم من أرادنا وأراد بلادنا ومقدساتنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره، اللهم إنا ندرء بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم رد عنا كيد الكائدين وعدوان المعتدين واقطع دابر الفساد والمفسدين، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وأعزه بطاعتك، وأعز به دينك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله اقلبوا أرديتكم تأسياً بنبيكم محمد ، واجتهدوا في الدعاء، وألحوا في المسألة. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وأكثروا من الاستغفار والصدقة وصلة الأرحام، واحفظوا الحقوق، ولا تبخسوا الناس أشياءهم عسى ربكم أن يرحمكم فيغيث القلوب بالرجوع إليه والبلد بإنزال الغيث عليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد.

__________

(1) صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2577).

(2) ابوء: أي أقرّ وأعترف.

(3) صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب أفضل الاستغفار، حديث (6306).

(1/53)

أسباب الوقوع في الزنا

-----------------------

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

-----------------------

عبد الحميد التركستاني

الطائف

طه خياط

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

1- تحريم الخلوة بالأجنبية. 2- ركوب السيارة مع السائق. 3- حكم سفر المرأة بغير محرم. 4- فساد الجلسات المختلطة خاصة العائلية منها. 5- من أسباب الوقوع في الزنا غلاء المهور.

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها المؤمنون ومن أسباب الوقوع أيضا، في جريمة الزنا، خلو الرجل بالمرأة التي ليست من محارمه لأن ذلك مدعاة إلى إغراء الشيطان لهما بالفاحشة مهما بلغا من التقوى والدين، فإن من أخطر الأمور التي حذر الله منها المسلمين اختلاط الجنسين الرجل والمرأة حيث إنه من أكبر الأسباب الميسرة للفاحشة وأخطر من ذلك الخلوة بالمرأة من غير ذات المحارم فإن في ذلك مدخلا للشيطان ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم)).

فمن خلا بامرأة لا تحل له فقد عصى الله ورسوله وعرض نفسه للفتنة سواء خلا بها في بيت أو مكتب كما يفعل تلاميذ الغرب ومقلدوهم من تشغيل المرأة مع الرجل وخلوته بها في العمل والمكتب والمتجر، وكذا ركوب المرأة مع الرجل الأجنبي في السيارة خاليين كما يفعل بعض أصحاب سيارات الأجرة وبعض أصحاب الثروة والترف الذين يجعلون لنسائهم سائقين أجانب تركب إحداهن مع السائق وحدها ويذهب بها حيث شاءت وكذا ما يفعل بعضهم من جعل خادم في البيت من الرجال الأجانب يخلو مع النساء في البيت وترى الرجل يخرج من بيته وقد ترك زوجته مع الخادم الشاب الذي يتفجر حيوية ونشاطا وقوة لا يكون معهما أحد من الناس وهي لا تستتر منه وقد رفعت الكلفة بينهما وهي تأمره وتنهاه وتناديه وهو يجيب بحكم عمله والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، يحببه إليها ويحببها إليه حتى تقع الجريمة قال أحد السلف: (لو كنت خاليا بامرأة سوداء شمطاء خرقاء ما أمنت على نفسي منها)، فكيف بالله إذا كان السائق أو الخادم وسيما وقد يكون الزوج مسنا أو قبيحا أو ضعيفا فماذا تكون النتيجة إن لم يكن خوف الله مسيطر على الجانبين؟

وقد كان أحد الخدم يعمل لدى عائلة من كبار العائلات وكانت سيدته تأمره بمسدس تضعه في رأسه بأن يمارس معها الفاحشة وقد سأل هذا الخادم الشيخ عبد العزيز بن باز في محاضرة ضمن الأسئلة الموجهة إلى الشيخ ويقول: ماذا أعمل إذا كان جواز سفري لديها وهي تهددني بهذه الطريقة، فبكى الشيخ حفظه الله.

ومن الخلوة أيضا ما شاع لدى فئة من أتباع الغرب ممن لا يخافون الله ولا يرعون حرماته، من استقبال المرأة صديق زوجها في حال غيابه، والسماح له بالدخول إلى بيتها والجلوس معه ومؤانسته والتبسط معه في القول وممازحته وما إلى ذلك، إن هذه خلوة محظورة شرعا ولا يجوز التساهل بها بحجة الثقة بالصديق والزوجة ولا يمكن أن يرضى بها إلا إنسان مريض القلب فاقد الغيرة، عديم المروءة، ومثله وأشد منه أن تسافر المرأة وحدها أو مع السائق أو مع الخادم لأن في ذلك ضياعا لها وغيابا عن الرقيب من أوليائها والغيورين عليها وهي المرأة الضعيفة التي سرعان ما تخضع لافتراس الذئاب البشرية رغبة أو رهبة وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها))، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي يقول: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقال له رجل: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني كتبت في غزوة كذا وكذا فقال له : انطلق فحج مع امرأتك)).

إن المرأة التي تسافر وحدها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد قد خرجت على هذه التعاليم النبوية وأسخطت ربها عليها.

وأحب أن أنبه على أن سفر المرأة ولو كان بالطائرة إذا لم يكن معها محرم لا يجوز حتى لو كان في المدينة الأخرى من يستقبلها من محارمها وقد أفتى بذلك الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله.

وكذلك ذهاب المرأة إلى الطبيب وحدها فإنه يحقق بذلك خلوة محظورة فيكشف بحكم مهنته عن مواضع في جسدها فهذه خلوة لا تجوز أيضا بدون محرم وكذلك فإن الجلسات العائلية كما يسمونها التي يختلط فيها الرجال والنساء وهن في أتم زينه، وقد ألغين الحجاب وأظهرن المفاتن بحجة الصداقة وقد يكون في هذه الجلسات تبادل الحديث المبتذل والمزاح الهابط والنكتة اللاذعة والتعريض بأمور خاصة إن كل ذلك مما لا يجيزه دين الله وهو يعرض كيان الأسرة إلى الانهيار ويبدل الود بين الزوجين إلى تناحر فلقد تقوضت علاقات التراحم والانسجام العائلي في عدد من الأسر بسبب الاختلاط المستهتر.

قالت الكاتبة الإنجليزية (اللادي كوك) في جريدة الأيكو (إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وههنا البلاء العظيم للمرأة) أ. هـ.

ومن أعظم أنواع الخلوة التي تكون مع قريب الزوج كأخيه وابن عمه وابن خالته أو ابن عمها وابن خالتها وكذلك خلوة الرجل مع ابنة عمه وابنة خالته وهكذا فقد قال : ((إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال : الحمو الموت)) رواه البخاري ومسلم.

والحمو هو قريب الزوج قال القرطبي: ومعناه أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج وهذا القريب ليس من محارمها يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة.

ومعناه احذروا الاختلاط بالنساء والخلوة بغير المحارم.

وأعظم أنواع الخلوة أن يخلوا أقارب الزوج بزوجة قريبهم في سفره أو خروجه من البيت وبين الكصطفى أن ذلك كالموت لما يحدث فيه من أمور لا تحمد عقباها وقد ذكر أحد المشايخ مرة أنه أتاه رجل وقال له: إن أبناء أخي كلهم مني فاسترجع الشيخ وقال له: انظر ما تقول قال: هو ما أقول لك إني أسكن مع أخي في داره وأنا عاطل عن العمل فإذا خرج أخي إلى العمل تزينت لي زوجته ثم أزني بها وهكذا فكل أبنائه مني فما العمل؟ وهذا أيها الأحبة غيض من فيض فالشارع الحكيم لم يحرم شيئا إلا وفيه مصلحة للفرد والمجتمع ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

إن الإسلام لم يفرض الحجاب على المرأة إلا ليصونها عن الابتذال والتعرض للريبة والفحش وعن الوقوع في الجريمة.

فكيف يجوز لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخالف أمر الله وترفع الحجاب أمام رجل أجنبي عنها بحجة أنه خادم أو سائق أو طبيب أو بائع أو خياط أو صديق الزوج أو قريب له أو أستاذ سواء كان في درس خاص أو في قاعة المحاضرات أو ما إلى ذلك؟ وكيف يرضى امرؤ يتقي الله ويخشاه بأن تخلو زوجته أو ابنته مع رجل أجنبي عنها؟ إن الإسلام أيها الإخوة حذر من خطر الجريمة ومنع أسبابها المؤدية إليها لأن من فرط في الأسباب وقع في الجريمة ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.

فلنتنبه يا عباد الله، ولندرأ عن أنفسنا الوباء والخطر قبل حلوله لنحذر مكر الشيطان، فإن شره مسيطر على أنفسنا وعلى أهلينا وأمتنا ولنستجب لدعوة الله فنسعد في الدنيا والآخرة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب .

ومن الأسباب أيضا: المغالاة في المهور وهذا سبب رئيسي في إحجام كثير من الشباب عن الزواج مما يسبب الإكثار من النساء العوانس في البيوت والشباب طاقة تتوقد من الشهوة وكذلك الفتيات اللاتي لم يتزوجن فإذا كان الأب عائقا في زواج بناته فسوف يلجأن إن كن ضعيفات الدين إلى فعل الفاحشة والرذيلة وهناك سؤال أحب أن أطرحه هل تزويج الفتاة أفضل أم فعلها للفاحشة أفضل؟ بل الزواج أفضل وهو سنة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، لهذا يجب أن يعلم الأب الذي يعيق زواج ابنته أنه يجب عليه هو أن يكافئ خطيب ابنته لأنه أراد أن يعفها عن الحرام وأحب أن أذكر هذه القصة التي وقعت وذلك أن رجلا حضرته الوفاة وكانت جواره ابنته العانس فقالت لأبيها: قل آمين قال: آمين قالت، قل: آمين، قال: آمين، قل: آمين، قال: آمين، ثم قالت: أسأل الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج.

هل هذا يرضي الآباء أن يدعوا عليهم أبناؤهم من بعدهم.

فاتقوا الله يا أيها الآباء اتقوا الله في بناتكم ويسروا ولا تعسروا وسهلوا ولا تشددوا وكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.

-------------------------

الخطبة الثانية

لم ترد

الوصية

-----------------------

فقه

الفرائض والوصايا

  صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

المسجد الحرام

محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية

-------------------------

ملخص الخطبة

تقلب أحوال الإنسان في مراحل عمره وحاجته إلى الوصايا والتوجيه , والتوبة النصوح - مشروعية الوصية عند الموت – وتأكدها لمن عليه حقوق وديون – التحذير من وصية الإثم والمضارة بالوصية , وصور ذلك – آداب الوصية , ونموذج لوصية أوصى بها بعض السلف

-------------------------

الخطبة الأولى

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وعظموا أمره واجتنبوا مساخطه، وخذوا من أيامكم عبراً، واستوصوا بأنفسكم وأهليكم خيراً.

أيها المسلمون، ابنُ آدم يتقلب في هذه الحياة ـ ما أمد الله له من العمر ـ يتقلب مراحل وأطواراً من الطفولة والشباب، والكهولة والهرم، يمر خلالها بأحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى، والحزن والسرور، والصحة والمرض، والقوة والضعف، وهو في جميع هذه الأطوار، وفي كل تلك الأحوال بحاجة إلى التذكر والتذكير، والوصايا والتوجيه. بحاجةٍ إلى التوبة النصوح، والثبات على الحق، وتحري العدل، واحتساب الثواب، وإحسان الظن بربه، متقلباً بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ [الحجر:49،50]، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ [الزمر:9].

كل ابن آدم بحاجة إلى هذا.. غير أن هناك فئاتٍ من الغافلين والمرضى والعجزة والمسنين ذوي حقوقٍ وأموالٍ. قد ينسيهم حرصهم على حقوقهم، وتنميتهم أموالهم ـ ينسيهم ذلك ـ حقوق الآخرين من أصحاب الديون والودائع، أو ذوي الفقر والحاجة من الأقربين وغير الأقربين، فإذا ما أصابته مصيبةٌ أو أحسَّ بدنوِّ أجله؛ راجع نفسه، وندم على ما أسلف، ولقد علم الله اللطيف المنان ضعف هذا المخلوق، فهيأ له برحمته فسحة، وفتح له باب أمل من أجل أن يعمل صالحاً، وكما شرع له ميدان حسنات حال الحياة؛ فقد شرع له فرصاً بعد الممات، وفي مثل هذا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))(1)[1] رواه مسلم وغيره واللفظ له.

وفي حديث آخر: ((إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم))(2)[2] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة.

ولمثل هذا شرعت الوصية، وتكاثرت النصوص في الحث عليها. إذا وُجد مقتضيها: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106].

وفي الحديث الصحيح: عن ابن عمر - رضي الله عنهما – عن النبي أنه قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين))(3)[3] وفي رواية: ((ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)). قال عبد الله بن عمر: ((ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك، إلا وعندي وصيتي))(4)[4] متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي حديث آخر حسن الإسناد: ((المحروم من حرم وصيته))(5)[5]، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته. ((ومن مات وقد أوصى مات على سبيلٍ وسنة)) حديث عند ابن ماجه(6)[6].

معاشر الأحبة، من لزمته حقوق شرعية لله أو لعباد الله، من زكواتٍ وكفاراتٍ وديونٍ وودائع، فليسارع في أدائها، وليبادر إلى قضائها، ما دام قادراً على الأداء، متمكناً من القضاء. وإلا فليوصِ بذلك وصيةً واضحةً في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلةً في شهودها، من أجل أن تُحمد سيرتُه، وتُحفظ حقوقُه، ولا يبقى أهله من بعده في منازعات، ويلقى ربه وقد أدى ما عليه، وأبرأ ذمته، وابيضت صحيفته، وحسنت بإذن الله خاتمته، وخف في الآخرة حسابه، ومن قصَّر فقد تعرض لحرمان الثواب، وأهمل في براءة الذمة.

ومن لم تكن عليه حقوق، ولا تلزمه واجبات وله ورثة محتاجون وذرية ضعفاء، فليبدأ بهم، ولا يقدِّم عليهم وصيته؛ لأنهم أحق بماله وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9]. وقد قال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس)) متفق عليه(7)[7]، واللفظ للبخاري. وفي الخبر الآخر: ((ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)) أصل ذلك في الصحيحين(8)[8]. وأراد رجل أن يوصي فقال له علي – رضي الله عنه -: (إنك لم تترك مالاً طائلاً، إنما تركت شيئاً يسيراً فدعه لورثتك). وسأل رجل عائشة رضي الله عنها فقال: إن لي ثلاثة آلاف، وعندي أربعة أولاد أفأوصي؟ قالت: اجعل الثلاثة للأربعة. أما إذا فاض مال الله عندك، وبسط الله لك في الرزق، فلتدخر لنفسك عملاً صالحاً، وصدقة جارية، يمتد لك ثوابها، ولتبدأ بالأقربين من غير الوارثين، فهم أحق ببرك وأولى بفائض مالك، حتى لا يتعرضوا لمهانة الفقر، وذل الحاجة، وإنه لك في ذلك صدقة وصلةٌ، وليحزم المسلم أمره، ولا يؤخر إلى شهود أمارات الموت. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان..)) متفق عليه واللفظ للبخاري(9)[9].

وليُعلم ـ وفقكم الله ـ أن وجوه البر كثيرة، من فقراء الأقارب غير الوارثين، وعمارة المساجد وخدمتها، وبناء الأربطة والمساكن للمحتاجين من أهل العلم والفضل والصلاح، وقضاء ديون المعسرين، والصدقة على المحاويج، والإنفاق على طلبة العلم، وتعليم القرآن، وسقي الماء، وتعبيد طرق المسلمين، وطبع الكتب المفيدة ونشرها، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره، وهذا الباب بفضل الله واسع ووجوه البر فيه لا تنحصر.

ثم احذروا وصية الإثم والجَنف، وإياكم والمضارة بالوصية، وقد قال نبيكم محمد : ((إن الرجل ليعمل- والمرأة- بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار)) ثم قرأ أبو هريرة راوي الحديث: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:12، 13]. روى الحديث أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو عند ابن ماجة بلفظ مقارب(10)[10].

سبحان الله ـ يا عباد الله ـ كيف يتجرأ هذا المخذول ليضار في وصاياه، وهو في حالة إدبار الدنيا وإقبال الآخرة. في حال يصْدق فيها الكذوب، ويتوب فيها الفاجر، وأي قسوة أشد من هذه القسوة. فنعوذ بالله من الخذلان.

في الأوصية الجنف يغلب الجشعُ، ويحل الطمع، ويضيع الحلال، وإن ربك لبالمرصاد. ألا وإن من جار في وصيته وظلم؛ مات على جهالة، وسلك مسالك الضلالة.

إن من صور الإضرار بالوصية ـ عياذاً بالله ـ أن يقرَّ بكلِّ ماله أو بعضه لغير مستحقٍّ، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقة له من أجل أن يمنع الوارث من حقِّه، أو يبيع شيئاً بثمنٍ بخسٍ، أو يبيع بيعاً صورياً، أو يشتري بثمنٍ فاحشٍ من أجل أن يضر بالورثة ويمنعهم حقوقهم أو يبخسها، وتحرم الوصية للوارث، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم.

والوصية لا تصح في الأمور المبتدعة، والمسائل المحرمة كالنياحة، والتبذير، والبناء على القبور، والتكفين بالحرير والديباج والدفن في المسجد أو في بيت خاصٍ، إلا أن يجعل ذلك مقبرةً عامةً للمسلمين. ذكر ذلك فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم رحمة الله على الجميع.

ألا فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واتق الله يا عبد الله، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، رواه البخاري(11)[11]. ولقد قال الله في أقوام: مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس:49، 50]، أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------

الخطبة الثانية

الحمد لله إقراراً بوحدانيته، والشكر له على سوابغ نعمته، اختصَّ بها أهل الصدق والإيمان بصدق معاملته، ومنَّ على العاصي بقبول توبته، ومدَّ للمسلم عملاً صالحاً بوصيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المفضَّل على جميع بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن من أدب الوصية أن يوصيَ المسلم بنيه وأهله وأقاربه، ومن حضره واطَّلع على وصيته – يوصيهم بتقوى الله وطيب العمل، وإن لكم في إبراهيم وبنيه عليهم السلام أسوةً، وفي نبيكم محمد أعظم قدوة وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، وأوصى محمدٌ بكتاب الله، وقال: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم))(12)[1]، وحذَر من الفتن، وأمر بالطاعة ولزوم الجماعة، وأوصى بأصحابه السابقين وبالمهاجرين وأبنائهم، كما أوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها إذا هو مات أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

أيها الأخوة، وهذه صيغة مأخوذة من جملة ما أوصى به بعض أئمة الإسلام من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم. حيث رأوا أن يقول الموصي مخاطباً أهله، ومن حضره واطَّلع على وصيته: أوصى فلانٌ، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلهاً واحداً. فرداً صمداً. لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً. ولم يشرك في حكمه أحداً. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق وما أعده الله لأوليائه حقٌ، والنار حقٌ، وما أعده الله لأعدائه حقٌ، وهو قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، على ذلك يحيا، وعليه يموت إن شاء الله، ويشهد أن الملائكة حق، والنبيين حقٌ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

ثم يقول: اعلموا أني مفارقكم وإن طال المدى، فهذه أدوات السفر تُجمع، ومنادي الرحيل يُسمع، والمرء لو عُمِّر ألف سنة لا بدَّ له من هذا المصير كما ترون.

إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده. وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملاً يَابَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]. يابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. يابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:17، 18]. أعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، الله الله في الصلاة، فإنها خاصة الملة، وأم العبادة، والزكاة أختها الملازمة، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى، والحج مع الاستطاعة ركنٌ واجبٌ، هذه عُمُد الإسلام وفروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين. وتلقوا ربكم غير مبدلين ولا مغيرين. واسلكوا في الاعتقاد مسلك السلف الصالح وأئمة الدين، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه، وعليكم بالعلم النافع، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة، وشرطه الإخلاص والخشية لله مع الخيفة. وخير العلوم علوم الشريعة، وانبذوا العلوم المذمومة فإنها لا تزيد إلا تشكيكاً. وأطيعوا أمر من ولاه الله عليكم، واجتنبوا الفتن وأسبابها، ولا تدخلوا في الخلاف، والزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، والكذب عورة لا تُوارى، وحافظوا على الحشمة والصيانة، وأوفوا بالعهد، وابذلوا النصح، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تطغوا في النعم، ولا تنسوا الفضل بينكم، ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، وإذا أسديتم معروفاً فلا تذكروه، وإذا برز قبيحٌ فاستروه، وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا الظلم، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، واعرفوا حقَّ الأكابر، وارحموا الأصاغر، واحذروا التباغض والتحاسد، واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله، كان الله خليفتي عليكم في كل حال، وموعد الالتقاء دار البقاء، والسلام عليكم من حبيبٍ مودع، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع... ألا فاتعظوا أيها المسلمون.

__________

(1) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب ما يلحق الإنسان من الثواب... حديث (1631).

(2) حسن، سنن ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الوصية بالثلث، حديث (2709)، وأخرجه أيضاً أحمد (6/400)، والطبراني في الكبير (4129). قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. مجمع الزوائد (4/212). وحسنه الألباني إرواء الغليل (1641).

(3) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب الوصايا، حديث (2738)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا أبو خثيمة زهير بن حرب ... حديث (1627).

(4) صحيح، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب حدثنا هارون بن معروف... حديث (1627).

(5) ضعيف، أخرجه ابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2700)، وفي إسناده دُرُسْت بن زياد ويزيد بن أبان الرقاشي وهما ضعيفان، كما في التقريب (1825، 7683). وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5916).

(6) ضعيف، أخرجه ابن ماجه، كتاب الوصايا – باب الحث على الوصية، حديث (2701). قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية، وشيخه يزيد بن عوف لم أرَ من تكلم فيه (3/140)، وضعفه الألباني، ضعيف الجامع (5848).

(7) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الوصايا – باب أن يترك ورثته أغنياء ... (2742)، صحيح مسلم: كتاب الوصية – باب الوصية بالثلث، حديث (1628).

(8) صحيح، أخرجه مسلم بنحوه: كتاب الزكاة – باب الابتداع في النفقة بالنفس... حديث (997). وانظر صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى... حديث (1426)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى... حديث (1034).

(9) صحيح، صحيح البخاري: كتاب الزكاة – باب فضل صدقة الشحيح الصحيح... حديث (1419)، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة – باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، حديث (614).

(10) 10] ضعيف، أخرجه أبو داود: كتاب الوصايا – باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، حديث (2867)، والترمذي: كتاب الوصايا – باب ما جاء في الضرار في الوصية، حديث (2117)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب الحيف في الوصية، حديث (2704)، وأخرجه بلفظ ابن ماجه أحمد في مسنده (2/278)، ومدار إسناده على شهر بن حوشب، وهو ضعيف. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (6/147)، وضعيف الجامع (1457، 1458). وضعيف أبي داود للألباني (614).

(11) 11] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب قول النبي : ((كن في الدنيا كأنك غريب...)) حديث (6416).

(12) صحيح، أخرجه أحمد (3/117)، وأبو داود: كتاب الأدب – باب في حق المملوك، حديث (5156)، وابن ماجه: كتاب الوصايا – باب هل أوصى رسول الله ؟ حديث (2698). وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (6/158)، (7/35-37)، وقال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين (2/55)، وصححه الحافظ في الفتح (5/361).

(1/55)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...