65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج3. شفاء الغرام تابع



والثاني: ما خص به الله مكة المشرفة، فإنه جاء أن لا تحل غنائمها، ولا يلتقط لقطتها، وهي حرم الله وأمنه، فكيف تكون أرضها أرض خراج، فليس لأحد افتتح بلدا أن يسلك به سبيل مكة، فأرضها -إذا- ودورها لأهلها، ولكن أوجب الله عليهم التوسعة على الحجيج إذا قدموا، وأن لا يأخذوا منهم كراء في مساكنها، فهذا حكمها، فلا عليك بعد هذا فتحت عنوة أو صلحا، وإن كانت ظواهر الحديث أنها فتحت عنوة... انتهى. وإيجاب السكنى بمكة للحجيج وترك أخذ الأجرة منهم على ما ذكره السهيلي لا ينافي كون مكة مملوكة لأهلها؛ لأن الإنسان يجب عليه بذل ماله لحاجة غيره إليه في مسائل كثيرة، منها: بذل الخيط لخياطة جرح، وبذل فضل الطعام والماء لمن اضطر إلى ذلك لسقي زرع أو غيره، وبذل العمد والخشب لحفظ جدار الغير إذا خشي سقوطه، ويجب الضمان في ذلك على من منع منهم، وفي أخذهم الثمن عن ذلك خلاف، وإيجاب ذلك حق للمواساة، فينزل عليه ما قيل في دور مكة، والله أعلم. على أن كلام السهيلي -رحمه الله- لا يفهم أن ما ذكره من الحكم في دور مكة يكون في حق غير الحاج. ج / 1 ص -48- وقد وافق السهيلي على الاستدلال باشتراء عمر، وعثمان -رضي الله عنهما- الدور بمكة لتوسعة المسجد على أن دور مكة مملوكة لأهلها، لأنه قال: وفي اشتراء عمر، وعثمان، رضي الله عنهما- الدور التي زاداها دليل على أن رباع مكة مملوكة لأهلها يتصرفون فيها بالبيع، والشراء، والكراء، إن شاءوا، وفي ذلك اختلاف ... انتهى. وحكى ابن رشد في كراء دور مكة أربع روايات، وهي: إجازة ذلك، وهو الظاهر من مذهب ابن القاسم في "المدونة". ومنع ذلك، وهو ظاهر قول مالك في سماع ابن القاسم منه في كتاب الحج. والكراهة مطلقا. والكراهة في أيام الموسم خاصة، حكاه الداوودي عن مالك... انتهى بالمعنى من كتاب "المقدمات" لابن رشد. ونقل عنه ابن جماعة في "منسكه" ما يقتضي أنه حكاه في كتاب "البيان" الخلاف في بيع دور مكة وإجارتها لأنه قال: وذكر ابن رشد في "البيان والتحصيل" عن مالك ثلاث روايات: منع بيع دور مكة وكرائها، والإباحة، وكراهة كرائها في أيام الموسم خاصة1... انتهى. وليس في كلام ابن رشد في "البيان" ما يشعر بذكر خلاف في البيع كما فهم ابن جماعة، وليس في كلام ابن رشد -أيضا- ما يشعر ببيان القول الأرجح في الكراء. ونقل القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" عن القاضي أبي علي سند بن عنان المالكي الأزدي المالكي صاحب "الطراز" ما يقتضي ترجيحا في ذلك؛ لأنه قال عقب ما نقله ابن رشد: ونقل "سند" في "الطراز" أن مذهب مالك المنع، وفيه إن قصد بالكراء الآلات والأخشاب جاز، وإن قصد البقعة فلا خير فيه2 ... انتهى. وكلام ابن الحاج في "منسكه" يشعر بترجيح القول بجواز بيع دور مكة وإجارتها على المذهب، لاقتصاره على ذلك في النقل عن الإمام مالك، ولاستدلاله على صحة ما نسبوه لمالك، وكذلك ابن عطية لاقتصاره في النقل عن مالك، على أن لأهل دور مكة الامتناع بها والاستبداد، ولا يبعد ترجيح جواز ذلك على القول بأن مكة فتحت عنوة كما ذكرناه من فعل خيار السلف له، وفعل الخيار من الخلف له في كل عصر، وحيث جاز بيع دور مكة فيجوز فيها الكراء، والهبة، والوقف، والشفعة، والقسمة، وغير ذلك من ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 958، والبيان والتحصيل لابن رشد 3/ 405، 406. 2 هداية السالك 2/ 958، 959. ج / 1 ص -49- الأحكام التي تجوز في الأملاك، فإن قيل: يعارض ذلك بالنسبة إلى الشفعة قول مالك رحمه الله في المدونة ولا شفعة في أرض العنوة ولا يجوز بيعها ... انتهى. لأن هذا يقتضي أن يكون هو الحكم في مكة، لأنها عنده فتحت عنوة، فالجواب، أن مكة وإن كانت فتحت عنوة فقد منَّ النبي صلى الله عليه وسلم بها على أهلها، كما هو الراجح في ذلك، ففارقت بذلك غيرها من البلاد التي افتتحت عنوة، والله أعلم. ويفارق مكة -أيضا- غيرها من البلاد في كراء دورها، فإنه مع القول بجوازه لا يخلو من كراهته، خصوصا في أيام الموسم، لأجل التوسعة بذلك على الحجيج، وورد عن كثير من السلف كراهة كراء بيوت مكة، وعن بعضهم التخفيف في ذلك في حق المضطر إليه، والله أعلم. واختلف مذهب الإمام أبي حنيفة في أرض مكة، فروي عنه كراهة بيعها، فقيل: لا يجوز البيع، وذكر قاضيخان أنه ظاهر الرواية، وقيل: يجوز مع الكراهة، وأجاز ذلك صاحباه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وعليه الفتوى على ما قال الصدر الشهيد الحنفي، وبه جزم حافظ الدين النسفي في كتابه "الكنز". واختلف مذهب أبي حنيفة -أيضا- في إجازة أرضها، فروي عنه، وعن محمد بن الحسن عدم جواز ذلك. وروي عنهما جواز ذلك مع الكراهة. واختلف في ذلك -أيضا- مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فروي عنه جواز ذلك ومنعه، وذكر الموفق بن قدامة الحنبلي أن رواية الجواز أظهر في الحجة. وذكر ابن المُنْجا -من الحنابلة- أن رواية المنع هي المذهب. ولم يختلف مذهب الشافعي في جواز بيع دور مكة وإجارتها، لأنها عنده فتحت صلحا، وقال بعضهم عنه: فتحت بأمان، والأمان في معنى الصلح. وقال صاحب "الحاوي الكبير" القاضي أبو الحسن المعروف بالماوردي الشافعي: عندي أن أسفلها دخلها خالد بن الوليد -رضي الله عنه- عنوة، وأعلاها فتح صلحا ... انتهى. قال النووي: والصحيح الأول... انتهى. وفي صحته نظر، لأن الفتح صلحا إنما يكون بالتزام أهل البلد المفتتحة ترك القتال، ولم يلتزم ذلك أهل مكة عند فتحها، بل أعدوا جمعا لقتال المسلمين عند فتحها، ولم يقبلوا تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لهم، والدليل على ذلك ما رويناه في صحيح مسلم1 من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه؛ فذكر حديثا في فتح ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 صحيح مسلم "الجهاد: 1780". ج / 1 ص -50- مكة قال فيه: ووبشت قريش أوباشا1 لها. وأتباعا، فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سألنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، قال فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيحت2 خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"3 ... انتهى. باختصار. وفي هذا دلالة صريحة على ما ذكرناه من عدم التزام قريش ترك قتال المسلمين يوم فتح مكة، وفي ذلك -أيضا- دلالة على أن ذلك وقع منهم يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وما كان ذلك منهما بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمر الظهران لأنا روينا في مغازي موسى بن عقبة أن أبا سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام قالا للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلما بمر الظهران: يا رسول الله ادع الناس إلى الأمان، أرأيت إن اعتركت قريش وكفت أيديها آمنون هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "من كف يده وأغلق داره فهو آمن" قالوا: فابعثنا نؤذن فيهم بذلك، قال صلى الله عليه وسلم "انطلقوا فمن دخل دارك يا أبا سفيان، ودارك يا حكيم، وكف يده فهو آمن" قال: ودار أبي سفيان بأعلا مكة ودار حكيم بأسفل مكة. وروينا في سيرة ابن إسحق "تهذيب ابن هشام"، ورواته عن البكائي عنه أن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلام أبي سفيان بمر الظهران: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا، قال صلى الله عليه وسلم "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"4... انتهى. وروينا في هذين الكتابين ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى في تأمينه رجالا ونساء من أهل مكة أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، لجرائم لهم اقتضت ذلك. ومن الأحاديث الدالة على عدم التزام قريش بمكة ترك قتال المسلمين يوم فتحها، وعلى عدم قبولهم تأمين النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغهم تأمينه لهم، ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: حدثنا محمد بن إدريس بن عمر من كتابه قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، فذكر خبرا طويلا في قصة الفتح، وفيه قال: فقال أبو سفيان: واصباح قريش، فقال العباس -رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أذنت لي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 وبشت أوباشا: الأوباش: الجموع من قبائل شتى، والتوبيش: الجمع، أي جمعت لها جموعا من أقوام متفرقين في الأنساب والأماكن. 2 في الصحيح "أبيدت" أي استؤصلت وأهلكت. وخضراؤها: سوادها ومعظمها. 3 صحيح مسلم "الجهاد: 1780". 4 أخرجه أبو داود "3021، 3022". ج / 1 ص -51- فأتيت أهل مكة فدعوتهم وأمنتهم، وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به، قال: فانطلق العباس -رضي الله عنه- حتى ركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، فانطلق فقال صلى الله عليه وسلم: "ردوا على عمي فإن عم الرجل صنو أبيه" قال: فانطلق العباس حتى قدم على أهل مكة فقال: يا أهل مكة أسلموا تسلموا، قد استبطنتم بأشهب بازل، قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الزبير من قبل أعلا مكة، وبعث خالد بن الولد من قبل أسفل مكة، فقال لهم العباس: هذا الزبير من قبل أعلى مكة وخالد بن الوليد من قبل أسفل مكة، وخالد وما خالد، وخزاعة المخزعة الأنواف، قال: ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قال ثم جاء ر سول الله صلى الله عليه وسلم فتراموا بشيء من النبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليهم فأمن الناس إلا خزاعة عن بني بكر، قال وذكر أربعة: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح، وابن خطل، وسارة مولاة بني هاشم، قال حماد: وسارة لا أدري في حديث أيوب أو في حديث غيره. قال: فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار، فأنزل الله عز وجل: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا} [التوبة: 13] الآية والتي بعدها، ثم قال بعد قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين} [التوبة: 14] قال خزاعة: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِم} [التوبة: 15]، قال خزاعة: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15]، قال خزاعة 1... انتهى. وفي هذا الخبر مخالفة لما ذكره ابن عقبة، وابن إسحاق، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال من لم يقاتل يوم فتح مكة إلا من استثناهم، وسيأتي- إن شاء الله تعالى- ما يدل للخبر الذي ذكره الفاكهي، والله أعلم. ومن الأخبار الدالة على جمع قريش بمكة لقتال المسلمين يوم فتح مكة ما ذكره موسى بن عقبة في "مغازيه" لأنه قال في خبر الفتح: وبأسفل مكة: بنو بكر، وبنو الحارث بن عبد مناة، وهذيل، ومن كان معهم من الأحابيش استنصرت قريش بهم، فأمروهم أن يكونوا بأسفل مكة ثم قال: واندفع خالد بن الوليد رضي الله عنه -حتى دخل مكة من أسفلها، فلقيته بنو بكر بن وائل، فقاتلوا فهزموا، وقتل من بني بكر قريبا من عشرين، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا. وذكر ابن إسحاق في سيرته "تهذيب ابن هشام" ما يقتضي ترك التزام قريش لقتال المسلمين يوم فتح مكة؛ لأنه قال في خبر فتحها: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 213، 214. ج / 1 ص -52- كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، ثم قال ابن إسحق بعد ذكره خبر الحماس بن قيس: فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر أحد بني محارب بن فهر، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم حليف بني منقذ، وكانا في خيل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فشذا عنه، فسلكا طريقا غير طريقه، فقتلا، ثم قال ابن إسحق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح، وعبد الله بن أبي بكر قالا: وأصيب من جهينة سلمة بن الميلا من خيل خالد، وأصيب ناس من المشركين قريبا من اثني عشر أو ثلاثة عشر ثم انهزموا... انتهى. فإن قيل: ما ذكره ابن إسحاق من جمع سهيل وصفوان وعكرمة أناسا لقتال المسلمين بمكة يوم فتحها لا يقتضي نسبة ذلك لغيرهم من قريش، ويكون ذلك مبينا لما وقع مجملا في حديث أبي هريرة من جمع قريش أوباشا لقتال المسلمين يومئذ كما سبق ذكره. فالجواب أنه يبعد جدا أن يكون سهيل، وصفوان، وعكرمة، انفردوا بذلك عن قومهم مع كراهة قومهم لذلك، ولعل سبب نسبة ذلك إليهم دون من لم يذكر من قومهم كونهم الداعين إلى ذلك، ولو سلم كراهة غيرهم لذلك فلا يكفي ممن كره ذلك سكوته، بل لا بد من إنكاره بالقول والفعل بأن ينحاز عمن فعل ذلك ويعلم به الإمام، ولم يرد خبر تقوم به حجة تدل على أن أحدا من أهل مكة أنكر على سهيل، وصفوان، وعكرمة فعلهم هذا، ولا على التزام من كان بمكة من المشركين، ترك قتال المسلمين عند فتح مكة، ولو وقع ذلك لحفظ كما حفظ ما كان يشبه ذلك مما جرى في عام الحديبية، والله أعلم. وإذا لم يقم دليل على التزام أهل مكة ترك قتال المسلمين يوم فتحها، وقام الدليل على فعلهم بخلاف ذلك من جمعهم لقتال المسلمين: تعين أن يكون فتح مكة عنوة، كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، فمن ذلك قوله صلى الله عليهوسلم في حديث أبي هريرة السابق: "ترون أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، قال فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"1. وقال مسلم في بعض طرق هذا الحديث: حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا بهز، حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد، وزاد في الحديث، ثم قال بيديه بإحداهما على الأخرى: "احصدوهم حصدا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه مسلم "الجهاد: 1780". ج / 1 ص -53- ومن ذلك ما رواه مسلم1 بنسده إلى عبد الله بن رباح أنه قال: يا أبا هريرة لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رضي الله عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فجعل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير- رضي الله عنه- على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة- رضي الله عنه - على البياذقة وبطن الوادي، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ادع لي بالأنصار"2. فدعوتهم فجاءوا يهرولون، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش؟" قالوا: نعم، قال: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله وقال: "موعدكم الصفا" قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، قال: وصعد رسول الله صلى اللهعليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"، وذكر بقية الخبر. ومن ذلك ما ذكره أبو داود في سننه على ما رويناه عنه، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سلام بن مسكين قال: حدثنا ثابت البناني، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة سرح الزبير بن العوام، وأبا عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم- على الخيل وقال: "يا أبا هريرة اهتف بالأنصار" قال: "اسلكوا هذا الطريق، فلا يشرفن لكم أحد إلا أنمتموه"، فنادى مناد: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان3 فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن"4. وعمد صناديد قريش فدخلوا الكعبة فغصّ بهم، وطاف النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى خلف المقام، ثم أخذ بجنبتي الباب، فخرجوا فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام. ونشير إلى بيان موضع الدلالة على أن فتح مكة عنوة من حديث أبي هريرة هذا، فمن ذلك قوله فيه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بيديه بإحداهما على الأخرى: "احصدوهم حصدا" كذا في رواية مسلم عن عبد الله بن هاشم، عن بهز، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه". ومن ذلك قوله فيه قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" وأحفى بيديه ووضع يمينه على شماله، كذا في رواية مسلم عن الدارمي، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت بسنده. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 صحيح مسلم "الجهاد: 1780". 2 في صحيح مسلم: "الأنصار". 3 في سنن أبي داود "3024": من دخل دارا". 4 أخرجه أبو داود "3024". ج / 1 ص -54- ووجه الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وإشارته بيده أن ذلك ليتضمن الحث على قتال المشركين بمكة عند إرادته فتحها. ومن ذلك قوله فيه: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه؛ لأن معنى ذلك ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه، فوقع إلى الأرض، أو يكون المعنى: أسكتوه بالقتل كالنائم، قال: نامت الريح إذا سكنت، وضربه حتى سكت أي مات، ونامت الشاة وغيرها: ماتت، قال الفراء: النائمة الميتة، وقيل في معنى أناموه معنى يخالف ما ذكرناه، سنذكره فيما بعد مع بيان ما فيه من النظر. ومن ذلك قول أبي سفيان بن حرب: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم وفي رواية: أبيدت ومعناها كمعنى أبيحت، والمعنى في ذلك أي استؤصلت قريش بالقتل وأفنيت، وخضراؤهم بمعنى جماعتهم، ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة، ومنه السواد الأعظم، والإبادة على الوجه المشار إليه دليل على أن فتح مكة عنوة، لأن فتحها صلحا ينافي ذلك، والله أعلم. ومن ذلك سؤال أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ولمن ألقى سلاحه ولمن أغلق بابه، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم له إلى ما سأله. وجه الدلالة من هذا على أن فتح مكة عنوة أنه لو كان فتحها صلحا لم يسأل أبو سفيان أمانا مخصوصا مع الاستغناء عنه بالأمان العام الذي هو مقتضى الصلح، كيف وفي الحديث ما يدل على أن الموجب لسؤال أبي سفيان الأمان المخصوص هو ما رأى من إبادة المسلمين لجماعة قريش بالقتل يوم فتح مكة، ولا يفعل المسلمون ذلك بالمشركين إلا حيث لم يكن لهم ذمة، أو كانت لهم فنقضوها، وهذا أظهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة نحو التأمين الذي سأله فيه أبو سفيان حين سأله في ذلك العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- بمر الظهران، تكرمة لأبي سفيان، وقد سبق ذكرنا لذلك. وكان سؤال أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم في الأمان، وذكره له حال قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم على الصفا بعد فتح الله عليه مكة، لأن في حديث أبي هريرة قال: وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا: وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: يا رسول الله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؟ وذكر بقية الخبر، وقوله في الحديث الذي فيه هذا الكلام قبل ذكره: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، يرد على من قال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" أن ذلك كان قبل الفتح بيوم، ثم حصل الصلح في غده، لما تقدم من أن معنى قوله فما أشرف يومئذ أحد إلا أناموه، أي قتلوه، ولم يكن ذلك إلا في يوم فتح مكة. ج / 1 ص -55- وقد أشار الإمام المازري إلى الرد بذلك على قائل المقالة المشار إليها، وأيضا فلا يلزم من قوله: "إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا" أن يكون ذلك وقع قبل الفتح بيوم، لإمكان أن يكون ذلك وقع في آخر الليلة التي وقع الفتح فيها صبيحتها، وأيضا فما ادعاه قائل هذه المقالة من حصول صلح في يوم فتح مكة قبل حصول القتال في هذا اليوم لا يقوم عليه دليل، والله أعلم. ونشير إلى ضبط بعض الألفاظ في حديث أبي هريرة وهي: المجنبة، والبياذقة، فأما المجنبة: فبميم مضمومة وجيم مفتوحة ونون مكسورة. وأما البياذقة: فبباء موحدة ثم ياء مثناة تحتية وألف وذال معجمة وقاف، ووقع في بعض الطرق: الساقة بدل البياذقة، وقال بعض الرواة: الشارفة بشين معجمة وألف وراء مهملة وفاء، وفسره بالذين يشرفون على مكة، قال القاضي عياض: وليس هذا بشيء لأنهم أخذوا في بطن الوادي. والساقة: بسين مهملة بعدها ألف وقاف- وهم الذين يكونون آخر العسكر على ما قاله القاضي، والبياذقة هم الحسر، كما في رواية مسلم، عن شيبان، عن سليمان بن المغيرة؛ لأن المعنى فيهما واحد، لأنهم الرجال الذين لا دروع لهم، والبياذقة فارسي معرب -على ما قيل- وهم أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره، سموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم على ما قيل، والحسر: بحاء مهملة مضمومة وسين مشددة مهملة. ومن الدلائل على أن فتح مكة عنوة، ما رويناه عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه، فقال: "من هذه؟" قلت: أم هانئ بنت أبي طالب، قال: "مرحبا بأم هانئ" فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا أجرته: فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، قالت أم هانيء: وذلك ضحى. أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ مسلم في صحيحه1 وهو مما اتفق على صحته، ووجه الدلالة منه على أن مكة فتحت عنوة، وأنه لو كان فتحها صلحا لم يخف ذلك على علي بن أبي طالب- رضي الله عنه" لمكانه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أقدم على قتل من دخل من الأمان الذي هو مقتضى الصلح، فإن ذلك يغني عن جيرة أم هانيء، ولما سألت أم هانئ النبي صلى الله عليه وسلم إنفاذ جيرتها. وقد أشار الإمام المازري إلى نحو ما ذكرناه من الاستدلال بهذا الحديث علي أن فتح مكة عنوة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 السيرة لابن هشام 2/ 273، 274. ج / 1 ص -56- والرجل الذي أجارته أم هانئ كما في هذا الحديث قيل: إنه ابنها جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم المخزومي لأن الحافظ أبا القاسم السهيلي لما ذكر أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها- قال: ولها ابن من هبيرة آخر اسمه يوسف، وثالث وهو الأكبر اسمه جعدة، وقيل: إياه عنت في حديث مالك: زعم ابن أم علي أنه قاتل رجلا أجرته فلان ابن هبيرة1... انتهى. ونقل ذلك الحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيبه"2 عن الحافظ بن عبد البر، لأنه قال في ترجمة جعدة بن هبيرة هذا، وقال ابن عبد البر أيضا: يقال إنه الذي أجارته أم هانئ يوم الفتح فلان ابن هبيرة... انتهى. ولم أر كلام ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب" بعد تتبعي لذلك في ترجمة جعدة بن هبيرة، وفي ترجمة أمة أم هانئ في تراجمها الثلاث، ولعله ذكر ذلك في غير الاستيعاب، والله أعلم. وجاء حديث عنها أنها أجارت رجلين من بني مخزوم يوم الفتح، فتفلت علي رضي الله عنه- ليقتلهما، وهذان الرجلان هما الحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة المخزوميان، قال الخطيب البغدادي، وقيل: هما الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة، ذكره ابن أبي إسحق فيما حكاه ابن بشكوال، والله أعلم. ومما يدل لذلك أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة في خطبته بها، لما ذكره حرمة مكة: "وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار"، وذكر بقية الحديث، وهو مخرج في الصحيحين3 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال الخطابي: إنما أحل له في تلك الساعة إراقة الدماء لا دم صيد وغيره مما حرم بالحرم من قطع شجر وتنفير صيد. قال المحب الطبري: ويحتمل العموم، فإن انتشار العسكر لا يخلو من تنفير صيد، ودوس خلا، وقطعه، وغير ذلك، والعمد والخطأ فيه سواء، وقد استدل بهذا من قال إن فتح مكة عنوة4... انتهى. ومما يدل على أن مكة فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته بمكة يوم فتحها: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟" قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: "اذهبوا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الآنف 3/ 103 2 تهذيب الكمال 4/ 566 رقم 930، وليس فيه العبارة الواردة في المتن. 3 صحيح البخاري "1587" صحيح مسلم "الحج: 445"، والبيهقي في الشعب "4007" وأبو داود "2018"، والترمذي "1590" والنسائي "2874". 4 القرى "ص: 641". ج / 1 ص -57- فأنتم الطلقاء" وهذه الخطبة في "السيرة" لابن إسحاق تهذيب ابن هشام" وتظهر الدلالة من ذلك على أن فتح مكة عنوة ببيان معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "أنتم الطلقاء" ومعنى ذلك المطلوقون من الاسترقاق، أشار إلى ذلك ابن الأثير، في "نهاية الغريب" له لأن فيها قال في حديث حنين حين خرج إليها ومعه الطلقاء الذين خلا عنهم يوم الفتح - فتح مكة: أطلقهم ولم يسترقهم، وأحدهم طليق - فعيل، بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله، ومنه الحديث: "الطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف" كأنه ميز قريشا بهذا الاسم حيث هو أحسن من العتقاء... انتهى. وإذا كان هذا معنى الطلقاء، فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بهذا الخطاب يقتضي أنهم كانوا حين خوطبوا بذلك في الأسر المقتضي للاسترقاق لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم تفضل عليهم بالإطلاق، ولولا ذلك لم يكن لاستعلامه صلى الله عليه وسلم قريشا عن ما توقعونه منه محل لخطاب قريش بذلك بعد تأمينهم، وهذا من أظهر الدلائل على فتح مكة عنوة، ويبعد الانفصال عنه بجواب شاف إلا أن يقال إن ذلك مرسل، والمرسل لا يحتج به، ولو سلم ذلك، فالدلالة على فتح مكة عنوة ناهضة من غيره من الدلائل التي ذكرناها، والله أعلم. وقد ذكر الأزرقي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يوم فتحها بلفظ يقرب من لفظها السابق في المعنى وزيادة فيها، ونص ما ذكره الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم، حدثني جدي أحمد بن محمد وإبراهيم بن محمد الشافعي قالا: أنبأنا مسلم بن خالد، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وطاوس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة البيت فصلى فيه ركعتين، ثم خرج وقد لبط1 الناس حول الكعبة فأخذ بعضادتي الباب، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟" قالوا: نقول خيرا، ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت فاسمح، قال: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}" [يوسف: 92]... انتهى. باختصار2. ومما يدل على أن فتح مكة عنوة ما رويناه في مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأنه قال: حدثنا يحيى، عن حسين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر"، فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: "كفوا السلاح"، الحديث بطوله3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لبط: أي اجتمع، وتأتي أيضا بمعنى سعى، والمعنى الأول هو الأرجح. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 121. 3 مسند أحمد 2/ 212. ج / 1 ص -58- وذكره الفاكهي لأنه قال: حدثنا حسن بن حسين، أنبأنا ابن أبي عدي، حدثنا حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة عنوة قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، فأذن لهم حتى صلوا العصر، ثم أمرهم أن يكفوا السلاح، حتى إذا كان من الغد لقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر بالمزدلفة فقتله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا وظهره إلى الكعبة فقال: "إن أعتى الناس على الله -عز وجل- من عدا في الحرم، ومن قتل غير قاتله، ومن قتل بذحول1 الجاهلية"2... انتهى باختصار. ويحيى شيخ الإمام أحمد بن حنبل هو يحيى بن سعيد القطان، الإمام المشهور أحد الأعلام، وحسين: شيخه هو المعلم، وثقه غير واحد، وأخرج له الجماعة، وعمرو بن شعيب وإن لم يخرج له من الجماعة البخاري ومسلم فقد وثقه يحيى بن معين3، وإسحاق بن راهويه، وصالح حرره وغيرهم من الأئمة، وقد احتج به غير واحد من الأئمة؛ لأني وجدت بخط الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام4: قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، وإسحاق بن راهويه، يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، قال البخاري من الناس بعدهم، وقال الشيخ محيي الدين النووي: الصحيح المختار الاحتجاج به، وقال الدارقطني وغيره: قد ثبت سماع شعيب عن جده عبد الله بن عمرو... انتهى ما وجدته بخط الحافظ الذهبي. وإذا تقرر ذلك فيكون الحديث المشار إليه صحيح الإسناد. ووجه دلالته على أن فتح مكة عنوة أنه يقتضي إباحة القتال فيها يوم فتحها غالب هذا اليوم، وذلك ينافي أن يكون صلحا أو بأمان، والله أعلم. ومما يدل على أن فتح مكة عنوة، ولو لم يقع فيه قتال، أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه إليها من المسلمين كان على وجه القهر لأهلها لأنهم عدوا دخلوا صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عنوة على ما ذكره ابن إسحاق في السيرة، لأنه ذكر أن قريشا قالوا لبديل بن ورقاء الخزاعي ومن معه من خزاعة حين أبلغوهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته، ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا يحدث، وبذلك عنا العرب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الذحل: الوتر وطلب المكافأة والذحل تأتي بمعنى العداوة أيضا. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 219. 3 التاريخ، لابن معين 2/ 445، 446. 4 تاريخ الإسلام 4/ 285. ج / 1 ص -59- وذكر ابن إسحاق أيضا أن عروة بن مسعود الثقفي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما بعثته إليه قريش بالحديبية: إنها قريش خرجت معها العوذ1 المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا2... انتهى. وإذا كان دخول النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل مكة، مع كونه لم يقصد فيه قتالا، وإنما قصد أداء نسك العمرة التي أحرم بها، وعورض في هذا فكيف بدخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقت فتحها الله عليه؟ والقصد بدخوله يومئذ إظهار الإسلام بها، وإنقاذها من المشركين، ومعه من المسلمين في دخول مكة يوم الفتح أضعاف من كان معه من المسلمين يوم الحديبية؛ لأن عدد أصحاب الحديبية ألف وأربعمائة على ما في مسلم وغيره، وقيل: ألف وثلاثمائة، وعدد المسلمين يوم الفتح عشرة آلاف، وقيل: اثنا عشر ألفا، والله أعلم. وقد حاول النووي -رحمه الله- الجواب عما في حديث أبي هريرة، وحديث أم هانئ من الألفاظ التي تدل على أن فتح مكة عنوة، وفيما حاوله من الجواب نظر نشير إليه بعد ذكر كلامه، لأنه قال في الجواب عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحصد المشركين وقتل خالد رضي الله عنه لهم: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "احصدوهم"، وقتل خالد رضي الله عنه- من قتل فهو محمول على من أظهر من كفار مكة قتالا"... انتهى. وتأويل النووي لقوله صلى الله عليه وسلم: "احصدوهم" إما أن يقتضي أن المأمور بحصدهم لإظهار القتال معروفون بأسمائهم أو غير معروفين بأسمائهم، والأول لا يقوم عليه دليل، والثاني مسلم، وهو يقتضي أن المأمور بحصدهم غير محصورين، فيكون الأمر بالحصد عاما في جميع المشار إليهم، وهو دليل على الفتح عنوة، لأن الصلح لو وقع منع من ذلك، ولا يعارض كون الأمر بحصد المشار إليهم عاما في جميعهم الأمر الوارد بعدم مبادأة المشار إليهم بالقتال، كما هو مقتضى الخبر الذي رويناه في "مغازي موسى بن عقبة"، "وسيرة ابن إسحق"، ولفظ ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة... انتهى؛ لأن المنع في مبادأة المشار إليهم بالقتال لا يقتضي تخصيص أحد منهم بترك قتاله، وإنما عدم مبادأتهم بالقتال رفقا بهم أجمعين، رجاء إسلامهم، فيكثر بهم عدد المسلمين، ويحتمل أن يكون الأمر بعدم مبادأتهم بالقتال كان قبل أن يبلغ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 العوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ: وهي الحديثة النتاج من الإبل، والمطافيل التي معها أولادها. يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا ألبانها، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمدا. 2 تهذيب سيرة ابن إسحق "ص: 221". ج / 1 ص -60- النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش أنهم لم يقبلوا تأمينه، وجمعوا الأوباش لقتاله، كما هو مقتضي حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق في فتح مكة، لأن فيه: ووبشت قرش أوباشا لها وأتباعا فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، فإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا... انتهى. وأنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن قريش أمر بحصدهم، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه، ويتأيد ذلك بأن القتال المأذون فيه في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه أبلغ من القتال المأذون فيه في الخبر الذي ذكر ابن إسحاق، لقوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه: "احصدوهم حصدا" وذلك يقتضي الإبلاغ في القتل، وإذا حمل الخبران على ما ذكرناه لم يبق بينهما تعارض، والله أعلم. وقال النووي في الجواب عن تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل دار أبي سفيان، ومن ألقى سلاحه، وتأمين أم هانيء: وأما أمان من دخل دار أبي سفيان، ومن ألقى سلاحه، وأما أم هانيء، فكله محمول على زيادة الاحتياط لهم بالأمان... انتهى. وهذا الكلام يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة أمانا عاما، وخص منهم بالتأمين من دخل دار أبي سفيان، ومن ألقي سلاحه، ومن أجارته أم هانيء، فإن زيادة الاحتياط لهؤلاء بالأمان لا يكون إلا بأن يكون تأمين النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة وفي ذلك نظر، لأنه لم يرد خبر يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمن أهل مكة أمانا عاما، وإنما أمن من دخل دار أبي سفيان، ودار حكيم، ومن دخل المسجد، ومن أغلق بابه عليه، ومن ألقى سلاحه، على ما يتحصل من مجموع الأخبار التي سبق ذكرها، واستثنى من ذلك جماعة من الرجال والنساء بجرائم اقتضت ذلك. وقال النووي في الجواب عن هَمِّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقتل الرجلين اللذين أجارتهما أم هانيء: وأما هَمِّ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقتل الرجلين اللذين أجارتهما أم هانيء، فلعله تأول فيهما شيئا، أو جرى منهما قتال أو نحو ذلك... انتهى. وهذا الكلام يقتضي أن عليًّا أراد قتل الرجلين؛ لتأوله فيهما ما يوجب ذلك، أو لأنه جرى منهما قتال، وغاية ما يتأول علي -رضي الله عنه- فيهما أنهما مستحقان القتل لفعلهما ما يوجب ذلك من قبل، والأصل خلاف ذلك، ولو سلم فمستحق القتل لا يقتل بغير مؤامرة الإمام، والأصل -أيضا- أنه لم يجر منهما قتال في يوم فتح مكة، وإذا دار الأمر بين التأويل لسيدنا "علي" بشيء على خلاف الأصل، وبين التأويل له بما يوافق الواقع، فالتأويل له بالموافق أولى، وهو كون الفتح عنوة، ولا لوم في القتل فيهما، والله أعلم. ج / 1 ص -61- وقال النووي في الجواب عن قوله في حديث فتح مكة: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، ومن قال: فتحت صلحا -يعني مكة- يقول: أناموه أي ألقوه على الأرض من غير قتل إلا من قاتل، والله أعلم ... انتهى. وفي هذا التأويل نظر من أوجه، منها: أن القصد بالإلقاء إلى الأرض من غير قتل هو الإرهاب، وهو يحصل بدون ذلك، مثل الإشارة بالسيف وشبهه، فيجتزي بذلك إذا كان الفتح صلحا. ومنها: أن الإلقاء إلى الأرض يبعد وقوعه من غير زيادة عليه في حق كل من عارض المسلمين يوم فتح مكة بقتال، وإنما يتأتى ذلك من الراكب للراكب، ومن الماشي للراكب، ومن الماشي للماشي، وأما من الراكب للماشي فيبعد تأتيه في حق كل من عارض، إلا أن ينزل الراكب عن فرسه، وفي وقوع ذلك من كل راكب لكل ماش عارض بقتال بُعْدٌ، والله أعلم. ومنها: أن ما ذكره أبو سفيان من إثارة قريش واستباحتها يقتضي أن المفعول فيهم يومئذ أعظم من إلقائهم إلى الأرض من غير قتال، لأن ذلك لا يعبر عنه بما ذكره أبو سفيان، والله أعلم. وقد ذكر النووي -رحمه الله- حجة الشافعي -رضي الله عنه- على أن مكة فتحت صلحا، قال: واحتج الشافعي -رضي الله عنه- بالأحاديث المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخوله مكة... انتهى. وهذا الصلح المشار إليه لا يخلو من أمرين، أحدهما، أن يكون المراد به تأمين النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على الصفة التي سبق ذكرها، والآخر أن يكون عقد منهم عقد هدنة كما وقع في عام الحديبية، فإن كان الأول فإطلاق الصلح إنما يكون إذا انضم إليه التزام أهل مكة لموجب التأمين، وهو الكف عن قتال المسلمين يوم فتح مكة، ولا يقوم دليل على التزام أهل مكة لذلك، ويقوم الدليل على خلافه، لأن في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- السابق في خبر فتح مكة: أن قريشا جمعوا أوباشا وقالوا نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وأن أصيبوا أعطينا الدي سئلنا ... انتهى. والذي سئلوا هو الكف عن القتل، فدل ذلك على أنهم لم يلتزموه، ولم يرد خبر يشعر بأن أحدا من قريش أنكر على سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، جمعهم لقتال المسلمين يومئذ، ولا أن أحدا من قريش تبرأ ممن جمع لذلك، مشعر برضا الجميع بذلك، والله أعلم. وإن كان المراد الثاني، فهو غير معروف، فضلا عن أن يكون فيه أحاديث مشهورة، ويبعد جدا أن يكون في ذلك حديث مشهور، ويخفى ذلك حتى لا يعرف له ج / 1 ص -62- محل في كتب العلماء، وأيضا فعقد الهدنة إنما يكون بسؤال من اضطر إليها، والاضطرار إليها في الفتح للمشركين، لوفور قوة المسلمين يومئذ، ولم يسأل المشركون ذلك مشافهة ولا مراسلة، لأنه لم يحضر عند النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران- ممن كان على الشرك- غير أبي سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وكان معهما بديل بن ورقاء الخزاعي، ولم يكن حضورهم إليه لأداء رسالة عن قريش، وإنما قريش بعثتهم ليتحسسوا لهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما ذكره ابن إسحق، فإنها غيبت عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل- عند توجهه من المدينة أن تعمى الأخبار عن قريش حتى يبغتها في دارها، فاستجاب الله -عز وجل- دعوته، ولم يشعر بهم أحد من أهل مكة، إلا وهم بمر الظهران، وكانوا في وجل من النبي صلى الله عليه وسلم لنقضهم عهد الحديبية، لأن بعضهم قاتل ليلا مع كنانة خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، ورفد بعضهم كنانة بالسلاح1. وذكر موسى بن عقبة ما يقتضي أن بعض المسلمين أخذوا أبا سفيان ومن معه قهرا، وأحضروهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، وأن أبا سفيان وحكيما سألا النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لمن كف من قريش عن قتاله، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، والذي حملهم على ذلك الرغبة فيما يصلح لقومهما، ولم يكن لمن خرج مخرجهما أن يعقد على من وراءه، عقد هدنة إلا بعد إعلام من وراءه بما رأى، وأن يثق منهم في ذلك الرضا، وقد أنكر بعض العلماء أن يكون أهل مكة عقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلحا عند فتحها، لأنه ذكر أن حال أهل مكة جرى في أرضها، وفي أنفسهم، وفي أموالهم، مجرى حال أهل الصلح، لا أنهم عقدوا معه صلحا، إذا لم يأت أثر في شيء من هذا بمصالحتهم إياه، وبالله التوفيق... انتهى بلفظه إلا قليلا فبالمعنى، وهذا في شرح مسلم للإمام المازري، أو للقاضي عياض، على الشك مني لبعد العهد بذلك، والله أعلم. وقد ذكر النووي -رحمه الله- حجة الشافعي -رضي الله عنه- على جواز بيع دور مكة وإجارتها، فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". استدل به الشافعي وموافقوه على أن دور مكة مملوكة يصح بيعها وإجارتها، لأن أصل الإضافة إلى الآدميين يقتضي الملك وما سوى ذلك مجاز ... انتهى. وفي هذا الاستدلال نظر لأنه ليس في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان" إشعار بإضافة غيرها من دور مكة لأهلها من مسلمة الفتح، حتى تكون دورهم مملوكة لهم، كملك أبي سفيان، وإذا كان كذلك لم ينهض من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان" دلالة على ملك غير أبي سفيان من مسلمة الفتح لدورهم بمكة، لكون ذلك لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 2/ 263. ج / 1 ص -63- يدل لملك غيره، وهذا يخالف رأي من استدل به على أن دور مكة مملوكة لأهلها، ويبعد أن يقاس على دار أبي سفيان غيرها من دور مكة التي كانت لغيره من مسلمة الفتح، لأن ملك أبي سفيان لداره لا ينبغي أن يختلف فيه، لكونه أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة بمر الظهران، وبإسلامه أحرز نفسه وماله، ومثله في ذلك حكيم بن خزام، وبديل بن ورقاء الخزاعي، لأنهما أسلما معه بمر الظهران على خلاف في بديل، فإنه قيل: أسلم قبل الفتح، وغيره من مسلمة الفتح في ملكهم لدورهم بمكة خلاف بين أهل العلم سببه الخلاف في فتح مكة، هل هو عنوة أو صلح، وفي كونه صلحا نظر سبق بيانه، وأقرب ما يستدل به على ملك دور مكة، كون النبي صلى الله عليه وسلم منَّ بها على أهلها فلم يقسمها، والله أعلم. ورأيت في شرح مسلم المشار إليه ذكر السبب الذي لأجله قيل إن مكة فتحت صلحا، لأن فيه: وإنما شُبِّهَ على القوم لأجل أنه صلى الله عليه وسلم لم يستبح أموالها، ولا قسمها بين الغانمين، فلما رأى الشافعي رضي الله عنه- هذا، وخروجه عن الأصل اعتقد أنه صلح، وهذا لا تعلق له فيه، لأن الغنيمة لا يملكها الغانمون بنفس القتال على قول كثير من أصحابنا، وللإمام أن يخرجها عن الغانمين، ويمُنُّ على الأسرى بأنفسهم وحريمهم وأموالهم، وكأنه صلى الله عليه وسلم رأى من المصلحة بعد الفتح والاستيلاء عليهم أن يبقيهم لحرمة العشيرة وحرمة البلد، وما رجي من إسلامهم وتكثير عدد المسلمين بهم، فلا يرد ما قدمناه من الأدلة الواضحة بمثل هذا المحتمل، وفي شرح مسلم المشار إليه. وقال بعض أصحاب الشافعي بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صلحا، أي فعل فيها فِعْلَه في مَن صالحه، فمَلَّكَه نفسَه وماله وأرضه، لأنه لم يدخلها إلا بعد أن أمَّن أهلها كلهم، وهذا من قول أصحابه اعتذار من قوله الذي انفرد به، وميل إلى قول الجماعة من افتتاحها عنوة، وإنما من عليهم وعفا عنهم وملكهم أموالهم... انتهى. وقد رأيت ما يدل على أن الإمام الشافعي لم ينفرد بقوله: إن مكة فتحت صلحا، لأني رأيت في نسخة من "المهذب" للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، بخط سليمان بن خليل، حاشية بخطه أولها: ومذهب الشافعي -رحمه الله: أن رسول الله صلى الله عليهوسلمن فتح مكة صلحا بأمان قومه لهم قبل دخوله، وروي ذلك عن أبي بن عبد الرحمن، ومجاهد، وذكر بقية الحاشية، وفوقها مكتوب بخط ابن خليل أيضا، صورته من "الشامل" ... انتهى. وأظن أن "الشامل" المشار إليه هو الشامل للشيخ أبي نصر بن الصباغ1 الشافعي، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو الإمام أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ، توفى سنة 477هـ "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 5/ 122- 134"، وكتابه "الشامل" في فروع الشافعية مخطوط في دار الكتب المصرية برقم "139-141 فقه شافعي" ومعهد المخطوطات برقم 185-194 فقه شافعي". ج / 1 ص -64- وقد بيض ابن خليل بين أبي، وبين ابن عبد الرحمن، وما عرفت من المشار إليه بذلك، هل هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أو غيره؟ والله أعلم. وقد طال الكلام فيما يتعلق بتحقيق فتح مكة، ولكن يحصل بذلك من الفوائد ما لا يوجد مجتمعا في غير هذا المحل، وظهر بذلك رجحان كونها فتحت عنوة، والله أعلم. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -65- الباب الثاني: في أسماء مكة المشرفة: لمكة المشرفة أسماء كثيرة، وقد عني الناس بجمعها، ولم أر لأحد في ذلك مثل ما رأيت لشيخنا العلامة اللغوي قاضي اليمن، مجد الدين الشيرازي، ولكنه أغرب فيما ذكره، وفاته مع ذلك أسماء أخرى. أنبأني شيخنا الماضي مجد الدين الشيرازي -أحسن الله إليه- قال في كتابه "تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين" في باب النون: الناسة والناشة من أسماء مكة شرفها الله تعالى، فيما ذكره كراع النمل، في المنتخب من تأليفه، وهو من جهابذة اللغويين، ثم قال بعد شرح معنى هذين الاسمين: ومن أسماء مكة شرفها الله تعالى وعظمها: العروض، والسيل- مثال خيل ونيل- ومخرج صدق، والبنية، وهذه عن ياقوت. والمعاد، وأم رحم بالراء المهملة، وأم راحم، وأم زحم وهذه بالزاي، وأم صبح، وأم القرى، والبلد، والبلدة، والبلد الأمين، والبلد الحرام، والرتاج، والناسة، والناشة، وحرم الله تعالى، وبلد الله تعالى، وفاران، وهذه عن ياقوت الحموي. والباسة، والناسة والبساسة، والنساسة وطيبة، والقادس، والمقدسة، وقرية النمل، ونقرة الغراب، وقرية الحمس، وصلاح -كقطام منونة- والحاطمة، وكوشي، وسبوحة، والسلام، والعذراء، ونادرة، والوادي، والحرم، والنجز، والقرية، وبكة، ومكة، والعَرش، والعُرش، والعريش، والعروش، والحرمة -بالضم وبالكسر، وهذه النسبة عن ابن عديس، ذكره في كتابه "الباهر". قال شيخنا القاضي مجد الدين: وقد ذكرت في شرح صحيح الإمام البخاري -رحمه الله- ما يتعلق باشتقاق كل اسم منها، مقرونة بشواهد وفوائد، فَلْيُنْظَرْ إن شاء الله تعالى. ج / 1 ص -66- قلت: قرية النمل، ونقرة الغراب، علامتان لموضع زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، وعدهما بعضهم اسمين لزمزم مجازا، فإن كان شيخنا القاضي مجد الدين لحظ كونهما اسمين لزمزم، وسمى بهما مكة من باب تسمية الكل باسم البعض- وهو مجاز شائع- فيصح على هذا أن يذكر في أسماء مكة: الصفا، والمروة، والحزورة، وغير ذلك من المواضع المشهورة بمكة. وقوله: وقرية الحمس: إن كان لحظ في تسمية مكة بذلك أن الحمس كانوا سكان مكة قبل، فيصح على هذا أن يذكر في أسماء مكة: قرية العمالقة، وقرية جرهم لكونهما كانوا سكان مكة قبل الحمس، اللهم إلا أن يقال إن تسمية مكة بقرية النمل، ونقرة الغراب، وقرية الحمس، منقول عن أهل اللغة، فلا يقاس عليه غيره، والله أعلم. ومن أسماء مكة التي لم يذكرها شيخنا القاضي مجد الدين: بره، ومنها: بساق، ومنها: البيت العتيق، ومنها: الرأس، ومنها: القادسية، ومنها: المسجد الحرام، ومنها المعطشة، ومنها: المكتان، ومنها: النابية، ومنها: أم روح، ومنها: أم الرحمن، ومنها: أم كوثى، وسنذكر من ذكر هذه الأسماء من العلماء. ذكر معاني بعض أسماء مكة وعزو بعضها لأهل العلم: اختلف في مكة بالميم، وبكة بالباء، هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ والأول قول الضحاك فيما حكاه عنه المحب الطبري1، وقول مجاهد فيما حكاه عنه الماوردي2، واحتج ابن قتيبة لتصحيحه بأن الباء تبدل من الميم، كضرب لازم ولازب. واختلف القائلون بالثاني، فقيل: بكة بالباء، موضع البيت، ومكة بالميم: القرية، وهذا يروى عن إبراهيم النخعي. وقيل: بكة بالباء، موضع البيت، ومكة بالميم الحرم كله، وهذا يروى عن يحيى بن أبي أنيسة. وقيل: بكة بالباء ما بين الجبلين، ومكة، بالميم الحرم كله. وقيل: بكة بالباء الكعبة والمسجد الحرام، ومكة بالميم ذو طوى، وهذا يروى عن زيد بن أسلم، وقيل: بكة بالباء البيت، وما حواليه مكة بالميم، وهذا يروى عن مجاهد، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 650". 2 الأحكام السلطانية "ص: 157 وما بعدها". ج / 1 ص -67- وهذه الأقوال رويناها في تاريخ الأزرقي، ولم يبين فيه قائل القول الثالث من هذه الأقوال، والله أعلم بالصواب1. واختلف في معنى تسميتها مكة بالميم، فقيل: لأنها تمكُّ الجبارين: أي تذهب نخوتهم. وقيل: لأنها تملك الفاجر عنها أي تخرجه. وقيل: لأنها تجهد أهلها، من قولهم: تمككت العظم إذا أخرجت مخه. وقيل: لأنها تجذب الناس إليها، من قولهم: أمتك الفصيل ما في ضرع أمه إذا لم يبق فيه شيئا. وقيل: لقلة مائها. واختلف في معنى تسميتها بكة بالباء، فقيل: لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها، أي تدقها، والبك الدق، وقيل: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما. وقيل: لأنها تضع من نخوة المتكبرين، قاله الترمذي. وهذان الاسمان لمكة مأخوذان من القرآن العظيم، وأخذ منه عدة أسماء، منها: أم القرى، قاله الضحاك في تفسير قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الأنعام: 92]. واختلف في سبب تسميتها بذلك، فقيل: لأن الأرض دحيت من تحتها، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: لأنها أعظم القرى شأنا. وقيل: لأن فيها بيت الله تعالى، ولما جرت العادة بأن الملك وبلده مقدمان على جميع الأماكن سميت أُما؛ لأن الأم متقدمة. وقيل: لأنها قبلة تؤمها جميع الأمة. ومنها: القرية، قاله مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَان} [النخل: 112]. والقرية اسم لما تجمع جماعة كثيرة من الناس، من قولهم: قريت الماء في الحوض، إذا جمعته فيه، ويقال للحوض: مقراة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 650، 651". ج / 1 ص -68- ومنها: البلد، قال الله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} [البلد: 1] قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي مكة، وقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي مكة"، ذكر ذلك عنه الفاكهي1، ونقل عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إنها مكة... انتهى. والبلد في اللغة الصدر أي صدر القرى. ومنها: البلد الأمين، قال الله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} [التين: 3]. قال الفاكهي فيما رواه بسنده إلى ابن عباس في قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} قال: يعني مكة، وروى ذلك بسنده عن زيد بن أسلم2. ومنها: البلدة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَة} [النحل: 91]. قال الواحدي في "الوسيط": هي مكة، وقاله ابن برجان في تفسيره. وقال ياقوت في "معجم البلدان": باب البلدة: ثلاثة مواضع، الأول في قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور} [سبأ: 15] أراد بها مكة3. انتهى. وذكر الفاكهي ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: حدثنا أبو يحيى بن ميسرة قالك حدثنا خالد بن يحيى قال: حدثنا سفيان، قال: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، قال: هي منى، قال أبو يحيى: وكذلك العرب تسميها البلدة إلى اليوم... انتهى، والله أعلم. ومنها: معاد بفتح الميم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رض الله عنهما، لأنه قال: حدثنا محمد بن مقاتل قال: أخبرنا يعلى، قال: حدثنا سفيان العصفري، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما: لرادك إلى معاد، قال: إلى مكة4... انتهى. فهذه ثمانية أسماء لمكة مأخوذة من القرآن العظيم، ولم يذكر المحب الطبري من أسمائها المأخوذة من القرآن إلا خمسة، لأنه قال: سمى الله تعالى مكة بخمسة أسماء: مكة، وبكة، والبلد، والقرية، وأم القرى ... انتهى5. وأما تسمية مكة: الباسة بالباء الموحدة والسين المهملة، فقال مجاهد، لأنها تبس من ألحد فيها، أي تهلكه، أي تحطه، من قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] ذكره ابن جماعة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 280. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 281. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 251، وقال عنه محقق الكتاب: إسناده حسن، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور 5/ 119 من قول أبي العالية الرياحي، وعزاه لابن أبي حاتم. 4 هداية السالك 2/ 738. 5 القرى "ص: 650". ج / 1 ص -69- وأما تسميتها الناسة، بالنون والسين المهملة، فذكره الماوردي قال: ومعناه أي تنس من ألحد فيها، أي تطرده وتنفيه. وحكاه صاحب "المطالع" والنووي، وذكره ابن جماعة، قال: والناسة قيل: لأنها تنس الملحد، أي تطرده، وقيل: لقلة مائها، والنس اليبس1. وأما تسميتها النساسة، بالنون وتشديد السين الأولى، فهو مقتضى كلام "المطالع" والمعنى في ذلك- والله أعلم - كالمعنى في الناسة بالنون. وأما تسميتها الحاطمة، فذكره الأزرقي عن إبراهيم بن أبي يحيى، وصاحب "المطالع"، وابن خليل، والنووي، قالوا: لحطمها الملحدين. وأما تسميتها صلاح، بصاد مهملة مفتوحة وحاء مهملة، فحكاه مصعب الزبيري وقال: سميت بذلك لأمنها، وأنشد له قول أبي سفيان بن حرب بن أمية لابن الحضرمي: أبا مطر هلم إلى صلاح فيكفيك الندامى من قريش2 وتنزل بلدة عزت قديما وتأمن أن يزورك رب جيش وصلاح مبني على الكسر، كحزام وقطام ونظائرهما، وقد يصرف، واستدل على صرفه بقول أبي سفيان السابق. وأما تسميتها العرش، بعين مهملة مفتوحة وراء مهملة ساكنة، فذكره كراع كما حكاه عنه ابن جماعة، وأشار إلى ذلك صاحب "المطالع". وأما تسميتها العريش، بزيادة ياء مثناة من تحت، فذكره ابن سيده فيما حكاه عن ابن جماعة. وأم تسميتها القادس فذكره صاحب "المطالع"، قال: "والقادس من التقديس، لأنها تطهر من الذنوب. وأما تسميتها المقدسة فذكره صاحب "المطالع" والنووي3، والمعنى فيه كالذي قبله. وأما تسميتها كوثى فذكره الأزرقي4 عن مجاهد، والسهيلي ولم يعزه، وصاحب "المطالع" إلا أنه قال: باسم بقعة منها: منزل بني عبد الدار... انتهى. وأفاد الفاكهي أن كوثى في ناحية قعيقعان قال: وقيل: كوثى، جبل بمنى5... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية المسالك 2/ 738. 2 الأحكام السلطانية "ص: 158". 3 تهذيب الأسماء 290ق 2/ 156. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 281. 5 أخبار مكة للفاكهي 2/ 274. ج / 1 ص -70- وكوثى بكاف مضمومة وثاء مثلثة. وأما تسميتها الحرم بحاء وراء مهملتين، فذكره سليمان بن خليل في "منسكه". وأما تسميتها الرتاج، براء مهملة وتاء مثناة من فوق وألف وجيم، فذكره المحب الطبري في "شرح التنبيه" فيما نقله عنه ابن جماعة. وأما تسميتها أم رحم براء مهملة مضمومة، فذكره مجاهد فيما حكاه عن الماوردي، لأن الناس يتراحمون فيها ويتوازون. وأما زحم بزاي معجمة، من الازدحام فذكره الرشاطي1. وأما تسميتها أم صبح، فذكره ابن الأثير في كتابه "المرضع"2 على ما وجدت بخط قاضي طرابلس شمس الدين محمد بن أحمد النويري3. وأما تسميتها برة: فذكره سليمان بن خليل في منسكه ولم يعزه، ولم يذكر له معنى. وأما تسميتها بساق4، فذكره ابن رشيق في "العمدة" في تفسير قول أمية بن حرثان: سأستعدي على الفاروق ربا له عمد الحجيج إلى بساق ثم قال ابن رشيق: وقد قيل: إن بساق بلد بالحجاز... انتهى. وبساق بباء موحدة وسين مهملة وألف وقاف. وأما تسميتها البيت العتيق، فذكره الأزرقي5 عن إبراهيم بن أبي يحيى، وصاحب "المطالع"، وابن خليل، ولعل ذلك من تسمية مكة بأسماء الكعبة كلها إذا لحظ هذا المعنى. وأما تسميتها الرأس، فذكره السهيلي6 وصاحب "المطالع" والنووي7، وقال: لأنها أشرف الأرض كرأس الإنسان. وأما تسميتها القادسة، فذكره ابن جماعة ولم يعزه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ 4/ 99. 2 المرصع "ص: 220". 3 انظر ترجمته في الضوء اللامع 6/ 135، إنباء الغمر 3/ 538، قضاة دمشق "ص: 214" نزهة النفوس والأبدان للصيرفي 3/ 301. 4 العمدة لابن رشيق 1/ 31، ومعجم البلدان 2/ 413، وفيه: "بساق" بالضم. 5 أخبار مكة للأزرقي 1/ 280. 6 الروض الأنف 1/ 139. 7 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 156. ج / 1 ص -71- وأما تسميتها المسجد الحرام، فذكره ابن خليل في "منسكه" وفي القرآن الكريم ما يشهد له، وحكاه عبد الله بن عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد المرجاني عن ابن مسدي. وأما تسميتها المعطشة فذكره ابن خليل ولم يعزه، ولم يذكر له معنى. وأما تسميتها المكتان، فذكره شيخنا بالإجازة، أديب الديار المصرية برهان الدين القيراطي في ديوان شعره البديع، ولعله أخذ ذلك من قول ورقة بن نوفل الأسدي: ببطن المكتين على رجائي حديثك أن أرى منه خروجا وللسهيلي على ذلك كلام أحسن، لأنه قال بعد أن ذكر هذا البيت: ثنى مكة وهي واحدة، لأن لها بطاحًا وظواهر، ثم قال: وإنما مقصد العرب في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإشارة إلى أعلى البلد وأسفلها، فيجعلونها اثنتين على هذا المعنى... انتهى. وقال السهيلي في موضع آخر، بعد أن ذكر شيئا من حال عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، وهو الذي يقول في حصار عثمان بن عفان -رضي الله عنه: أرى الأمر لا يزداد إلا تفاقما وأنصارنا بالمكتين قليل وأسلمنا أهل المدينة والهوى إلى أهل مصر والذليل ذليل وأما تسميتها النابية، فذكره الشيخ عماد الدين بن كثير في "تفسيره" على ما وجدت بخط بعض أصحابنا في حاشية كتاب "تحبير الموشين "لشيخنا قاضي القضاة مجد الدين عند كلامه على أسماء مكة، ونص الحاشية "وذكر ابن كثير في تفسيره أن من أسماء مكة النابية بالنون والباء"1. وأما تسميتها أم رَوْح فذكره ابن الأثير في كتابه "المرصّع"2 على ما وجدت بخط شمس الدين النويري المقدم ذكره. وأما تسميتها أم الرحمن فذكره عبد الله بن عبد الملك المرجاني وعزاه لابن العربي. وأما تسميتها أم كوثى فذكره ابن المرجاني ولم يعزه، ولم يذكر له معنى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ليس في تفسير ابن كثير هذا الاسم ولعله خطأ من الناسخ، حيث قال ابن كثير لما ذكر أسماء مكة: فأبلغها إلى إحدى وعشرين اسمًا. قال: والناسة: بالنون وبالباء أيضا، ثم قال: والباسة، والثالثة: النساسة، حيث ذكر قبلها الناسة، والله أعلم. 2 المرصع "ص 186". ج / 1 ص -72- وقد بان لما ذكرناه في هذا التفصيل معرفة من ذكر الاثني عشر اسما التي ذكرناها في أسماء مكة ولم يذكرها شيخنا القاضي مجد الدين، مع معنى بعضها، وبأن به أيضا معرفة من ذكر بعض أسماء مكة التي ذكرها شيخنا القاضي مجد الدين مع بعض معانيها أيضا، وبعض الأسماء الغريبة التي لم أرها إلا في كلامه، المعنى فيها واضح، وهي أم راحم، وأم الرحم، فإن ذلك في معنى أم رحم بالراء المهملة، والبلد الحرام لحرمة مكة، وبلد الله لاختياره لها على غيرها، وطيبة لطيبها، وذكر هذا الاسم في أسماء مكة الحافظ علاء الدين مغلطاي في سيرته. وصلاحٍ منونة، لأنها من معنى صلاح بلا تنوين. والسلام من هذا المعنى. والوادي، من قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لنافع بن عبد الحارث الخزاعي عامله على مكة لما لقيه بعسفان، حين استخلف على أهل مكة مولاه عبد الرحمن بن أبزي: من استخلفت على أهل الوادي؟ ولم يذكر النووي من أسماء مكة إلا ستة عشر اسما، قال: ولا يعرف في البلاد بلدة أكثر أسماء من مكة والمدينة، لكونهما أشرف الأرض... انتهى. وقال عبد الله المرجاني في تاريخه للمدينة المسمى "بهجة الأسرار في تاريخ دار هجرة النبي المختار" بعد ذكره لأسماء مكة: ومن الخواص قيل: إذا كتبت بالدم على الجبين "مكة وسط الدنيا، والله رؤوف بالعباد" انقطع الدم... انتهى. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -73- الباب الثالث: ذكر الحرم وسبب تحريمه: أما حرم مكة فهو ما أحاط بها، وأطاف بها من جوانبها، جعل الله حُكمَه حُكمَها في الحرمة تشريفًا لها، أشار إلى ذلك الماوردي1، وابن خليل، والنووي2. واختلف في سبب تحريمه، فقيل: إن آدم -عليه السلام- لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشيطان، فاستعاذ بالله منه، فأرسل الله ملائكة حفوا بمكة من كل جانب، ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم عليه الصلاة والسلام، فصار ما بينه وبين موقف الملائكة حرما3. وقيل: لأن الخليل -عليه السلام- لما وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بناها، أضاء الحجر يمينا وشمالا، وشرقا وغربا؛ فحرم الله الحرم من حيث انتهى نور الحجر الأسود. وقيل: لأن الله -سبحانه وتعالى- حين قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] لم يجبه بهذه المقالة من الأرض إلا أرض الحرم، ولذلك حرمها. ذكر هذا القول السهيلي4، وذكر الأزرقي5 فيما يشهد للقولين الأولين، وقيل غير ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الأحكام السلطانية "ص: 157". 2 تهذيب الأسماء واللغات ج2 ق 2/ 156. 3 أخبار مكة للفاكهي 4/ 15. 4 الروض الأنف 1/ 222. 5 أخبار مكة للأزرقي "2/ 127. ج / 1 ص -74- ذكر علامات الحرم: للحرم علامات بينة، وهي أنصاب مبنية في جميع جوانبه خلا حده1 من جهة جدة، وجهة الجعرانة2 فإنه ليس فيهما أنصاب. وأول من نصب ذلك الخليل -عليه السلام- بدلالة جبريل عليه السلام له، ثم قصي بن كلاب. وقيل: نصبها إسماعيل -عليه السلام- بعد أبيه الخليل، ثم قصي، وهذا يروي عن ابن عباس، ذكره عنه الفاكهي، وغيره3. وقيل: إن عدنان بن أدّ أول من وضع أنصاب الحرم حين خاف أن يدرس الحرم، ذكره الزبير بن بكار. ونصبتها قريش بعد أن نزعوها، والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته، ونصبها النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان ثم معاوية- رضي الله عنهم- ثم عبد الملك بن مروان، ثم المهدي العباسي، ثم أمر الراضي العباسي بعمارة العلمين الكبيرين اللذين بالتنعيم في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة4، واسمه عليها مكتوب، ثم أمر المظفر صاحب إربل بعمارة العلمين اللذين هما حد الحرم من جهة عرفة في سنة ست وعشرين وستمائة، ثم الملك المظفر صاحب اليمن في سنة ثلاث وثمانين وستمائة5. ولم يذكر الأزرقي القول بتنصيب إسماعيل -عليه السلام- لأنصاب الحرم، ولا نصب عدنان، ولا نصب المهدي لها، ولا تاريخ السنة التي أمر فيها عمر وعثمان -رضي الله عنهما- بنصب ذلك، وكان أمر عمر عثمان بنصب ذلك في سنة سبع عشرة من الهجرة، وأمر عثمان -رضي الله عنه- بذلك في سنة ست وعشرين، على ما ذكره ابن الأثير فيهما6. وقال الأزرقي فيما رويناه بالسند المتقدم: أنصاب الحرم على رأس الثنية: ما كان في وجهها من هذا الشق، فهو حرم، وما كان في ظهرها فهو حل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 حده: منزل بين جدة ومكة من أرض تهامة في وسط الطريق، وهو واد فيه حصن نخل، وماء جار من عين، وهو موضع تنزه طيب، والقدماء يسمونه حداد، بالمد. "معجم البلدان 2/ 229". 2 الجعرانة: بكسر أوله، وهي ماء الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم هوازن عند مرجعه من غزوة حنين، وأحرم منها، وله فيها مسجد ... "معجم البلدان 2/ 142، 143". 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 273، بإسناد ضعيف، وانظر الإصابة 1/ 44، والقرى "ص: 652"، والاستيعاب 1/ 80. 4 أخبار مكة للفاكهي 2/ 275. 5 إتحاف الورى 3/ 117. 6 الكامل لابن الأثير 2/ 537، 3/ 87. ج / 1 ص -75- وذكر الأزرقي للحرم علامة أخرى، لأنه قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: وكل واد في الحرم فهو يسيل في الحل، ولا يسيل وادي الحل في الحرم إلا في موضع واحد عند التنعيم1، عند بيوت نفار2... انتهى. ذكر ذلك الأزرقي في آخر الترجمة التي ترجم بقوله: "ذكر الحرم وكيف حُرِّمَ". وذكر الفاكهي ما يقتضي أن سيل الحل3 يدخل إلى الحرم من عدة مواضع، لأنه قال: "ذكر ما يسكب من أودية الحل في الحرم"، وبين هذه المواضع، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 يقع وادي التنعيم في الشمال الغربي لمكة، وقد كاد عمران مكة يصل إليه. 2 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 130: "غفار"، وضبطه العيني في "عمدة القاري": "تِعار" 9/ 222. 3 الحل: مكان خارج هذه الأنصاب من جميع الجهات. ذكر حدود الحرم وضبط ألفاظ فيها: ذكر الأزرقي رحمه الله تعالى حدود الحرم من جهاته الست1، وذكرها غيره إلا أنه خالف الأزرقي في مقدار بعضها، وأخل بذكر بعضها، وقد تلخص لي مما رأيت للناس في حدود الحرم أن جميع حدوده مختلف فيها على ما سنبينه. فأما حده من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة2 ففيه أربعة أقوال: نحو ثمانية عشر ميلا على ما ذكره القاضي أبو الوليد الباجي، وأحد عشر ميلا على ما ذكره الأزرقي3، والفاكهي4، وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبة الخراساني في كتاب "المسالك والممالك"5، والمحب الطبري6 نقلا عن الأزرقي، وسليمان بن خليل، إلا أنه ذكره بصيغة التمريض. وتسعة أميال -بتقديم التاء، على ما ذكر شيخ المذهب أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني في كتاب "النوادر"، وسليمان بن خليل، وصدر به كلامه، والمحب الطبري بعد أن حكى ما ذكره الأزرقي. وسبعة أميال بتقديم -السين على الباء- على ما ذكره الماوردي في كتاب "الأحكام السلطانية"7 له، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "مهذبه"، والنووي في "إيضاحه"، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، 131. 2 نَمِرة: بفتح أوله، وكسر ثانيه. ناحية بعرفة نزل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: الحرم من طريق الطائف على طريق عرفة من نمرة على أحد عشر ميلا، وقيل غير ذلك. "معجم البلدان 5/ 304، 305". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 4 أخبار مكة للفاكهي 2/ 86 وما بعدها. 5 المسالك والممالك "ص: 132". 6 القرى "ص: 651، 652". 7 الأحكام السلطانية "ص: 164، 165". ج / 1 ص -76- و"تهذيب الأسماء واللغات1 له. وفيما قالوه نظر قوي يقتضي بُعْدَ استقامةِ قولهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وذكر النووي في "التهذيب" أن الأزرقي انفرد بما قاله في حد الحرم من طريق "الطائف"، وقال: إن الجمهور قالوا ستة2... انتهى بالمعنى. ولم ينفرد الأزرقي بقوله بموافقة ابن خرداذبه له على قوله، بل لا يعرف له فيما قاله مخالف قبله، ولا معاصر له، ولا بعده، غير الماوردي، وصاحب "المهذب"، ولو خالف الأزرقي غيرهما لنقل ذلك كما نقلت مخالفتهما للأزرقي، وقد تبعهما على ذلك النووي وغيره من المتأخرين، ولم يذكر ذلك سليمان بن خليل، ولا المحب الطبري، وذلك يشعر بعدم رضاهما لهذا القول، لأنهما ذكرا في حدود الحرم ما قاله ابن أبي زيد وغيره، وكان ذكرهما لذلك أولى، لكون قائله من الشافعية، ولا يقال لعل ذلك خفي عليهما، فإن ذلك مشتهر جدا، والله أعلم. وأما حده من جهة العراق: ففيه أربعة أقوال: أحدها: سبعة أميال -بتقديم السين- على ما ذكره الأزرقي. وثمانية أميال على ما ذكره ابن أبي زيد المالكي في "النوادر". وعشرة أميال على ما ذكره سليمان بن خليل. وستة أميال على ما ذكره أبو القاسم بن خرداذبه3. وذكر الأزرقي رحمه الله أن الحد في هذه الجهة على ثنية خل بالمقطع. فأما خل: فبخاء معجمة مفتوحة. وأما المقطع: فبضم الميم وفتح الطاء المشددة، على ما وجدت بخط سليمان بن خليل فيهما. ووجدت بخط المحب الطبري في "القرى" على الخاء من خل نقطة من فوق وعلى اللام شدة، ووجدت بخطه ضبط المقطع بفتح الميم وإسكان القاف4. ووجدت في غير موضع من تاريخ الأزرقي على الخاء من خل نقطة من فوقها، ورأيت في "الإيضاح" للنووي و"تهذيب الأسماء واللغات" له، عوض "خل": "جبل" بجيم وباء موحدة، ولا يبعد أن يكون ذلك تصحيفا، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 82. 2 تهذيب الأسماء واللغات 2 ق 2/ 83. 3 المسالك والممالك "ص: 132". 4 القرى "ص: 652". ج / 1 ص -77- وذكر الأزرقي أن سبب تسمية اسم المقطع بذلك: أنهم قطعوا منه أحجار الكعبة في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما. وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية إذا خرجوا من الحرم علقوا في رقاب إبلهم من قشور شجر الحرم، وإن كان رجل علق في رقبته، فأمنوا حيث توجهوا. ويقال: هؤلاء وفد الله تعظيما للحرم، فإذا رجعوا فدخلوا الحرم قطعوا ذلك، فسمي ذلك هناك المقطَّع1. وأما حده من جهة الجعرانة: ففيه قولان: تسعة أميال -بتقديم التاء- كما ذكره الأزرقي2، وبريد، وهو اثنا عشر ميلا على ما ذكر ابن خليل، وحكايته لهذا القول بصيغة التمريض بعد ذكره للقول السابق. والجِعرانة: بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء على ما هو الصواب في ضبطها وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وذكر الأزرقي أن حد الحرم من جهة الجعرانة: في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد3... انتهى. وعبد الله بن خالد بن أسيد المنسوب إليه هذه الشعب هو فيما أحسب ابن أخي عتاب بن أسيد بن العاص القرشي الأموي أمير مكة، لأنه كان لعبد الله المذكور بمكة شهرة لولايته لأمر مكة وغير ذلك، ونسب إليه بها مقبرة بأعلى مكة، وهي التي دفن فيها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والله أعلم. وذكر سليمان بن خليل أن عبد الله بن خالد المنسوب إليه هذا الشعب هو: عبد الله بن خالد بن أسيد الخزاعي. وذكر ابن جماعة ما يخالف ذلك أيضا، لأنه قال لما ذكر حد الحرم من هذه الجهة: ومن طريق الجعرانة في شعب آل عبد الله القسري... انتهى4. وما أشرنا إليه من نسبة هذا الشعب لعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص أشبه بالصواب من نسبته لغيره، لأن التعريف إنما يكون في الغالب بأشهر الأحوال، وليس لمن نسب إليه ابن الخليل هذا الشعب، ولا لمن نسبه إليه ابن جماعة من الشهرة، مثل ما لمن نسبناه إليه، والله أعلم بالصواب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 382، 383. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 3 هو: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، أخو عتاب بن أسيد، "انظر ترجمته في: أسد الغابة 3/ 221". 4 هداية السالك 2/ 708. ج / 1 ص -78- وحد الحرم من هذه الجهة لا يعرف موضعه الآن، إلا أن بعض أعراب مكة زعم أنه في مقدار نصف طريق الجعرانة، وسئل عن سبب معرفته لذلك فقال: إن الموضع الذي أشار إليه في محاذاة أعلام الحرم من جهة نخلة، وهي جهة العراق، والله أعلم بصحة ذلك. وأما حده من جهة التنعيم ففيه أربعة أقوال: ثلاثة أميال، على ما ذكره الأزرقي1، وابن خرداذبه2، والماوردي3، وصاحب "المهذب" وغيرهم. ونحو أربعة أميال، على ما ذكره ابن أبي زيد في "النوادر" عن غير واحد من المالكية. وأربعة أميال، على ما قال الفاكهي4. وخمسة أميال، على ما ذكره أبو الوليد الباجي، ونص كلامه: وأما التنعيم فإني أقمت بمكة، وسمعت أكثر الناس يذكرون أنها خمسة أميال، ولم أسمع في ذلك اختلافا مدة مقامي بها، ولو كان بين مكة والتنعيم أربعة أميال لوجب أن يكون بين مكة والحديبية -على هذا التعدي: قريب من خمسة عشر ميل، لأنها أزيد من ثلاثة أمثالها... انتهى. وفي هذا القول نظر، وكذا في القول الذي ذكره الفاكهي، والقول الذي ذكره ابن أبي زيد على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. ووقع فيما ذكره ابن أبي زيد في حد الحرم من هذه الجهة ما يقتضي أنه إلى منتهى التنعيم، لأنه قال: ومن غير الموازنة لغير واحد من أصحابنا أن حد الحرم مما يلي المدينة نحو أربعة أميال إلى منتهى التنعيم. انتهى. وذكر الأزرقي ما يخالف ذلك، لأنه قال: ذكر حدود الحرم: من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار3 على ثلاثة أميال5. انتهى. وذكر المحب الطبري في "شرحه للتنبيه" ما يرجح ما ذكره الأزرقي، لأنه ذكر أن التنعيم أمام الحل قليلا، وأن من فسره بطرف الحل أطلق اسم الشيء على ما قرب منه. انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 130، 131. 2 المسالك والممالك "ص: 132. 3 الأحكام السلطانية "ص: 164". 4 أخبار مكة للفاكهي "5/ 61، وقد نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/ 607، والمحب الطبري في القرى "ص: 623". 5 معجم البلدان 1/ 214. ج / 1 ص -79- وإذا كان من فسر التنعيم بطرف الحل متجوزا في تفسيره، فكيف بمن جعل منتهى التنعيم أول الحل من جهة المدينة كما هو مقتضى ما ذكره ابن أبي زيد؟! والله أعلم. "ونفار" المذكور في حد الحرم من هذه الجهة في كلام الأزرقي، بنون مكسورة وفاء وألف وراء مهملة، على ما ذكر غير واحد. وأما حده من جهة "جدة" ففيه قولان: عشرة أميال، على ما ذكر الأزرقي1، وابن أبي زيد. ونحو ثمانية عشر ميلا، على ما ذكر الباجي في مقدار ما بين مكة والحديبية، بتخفيف الياء الثانية على الصواب فيها، ومنتهاها حد الحرم من جهة جدة، كما نقل ابن أبي زيد في "النوادر". وذكر الأزرقي أن منتهى الحد في هذه الجهة منقطع الأعشاش2، والأعشاش جمع عش وبعضها في الحل، وبعضها في الحرم، وكذلك الحديبية على ما قال الشافعي وابن القصار. وقال الماوردي3: إنها في طرف الحل، وقال مالك: إنها في الحرم. وهي والأعشاش لا يعرفان اليوم، ويقال: إن الحديبية هي البئر التي تعرف ببئر شميس4 في طريق جدة، والله أعلم. وأما حده من جهة اليمن ففيه قولان: سبعة أميال بتقديم السين، على ما ذكره الأزرقي2 وابن أبي زيد، وسليمان بن خليل. وستة أميال، على ما وجدت بخط المحب الطبري في "القرى"5. ورأيت ذلك في ثلاث نسخ من "القرى"، وأخشى أن يكون وهما ولا يقال سَبْق قَلَم، لأنه في "القرى" بعد ذكره لذلك القول الذي ذكره الأزرقي وابن أبي زيد، والله أعلم. وموضع الحد في هذه الجهة طرف "أضاة لبن" في ثنية لبن، على ما ذكره الإمام الأزرقي6، وهذه الأضاة تعرف اليوم بأضاة ابن عقش، وفيها علامة مبنية لمعرفة حد الحرم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 20/ 130. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 3 الأحكام السلطانية "ص: 165". 4 معجم البلدان 3/ 365. 5 القرى "ص: 652". 6 جاء في معجم البلدان 1/ 28: أن أضأة لبن: حد من حدود الحرم على طريق اليمن. ج / 1 ص -80- والأضاة: مستنقع الماء، وهي بهمزة مفتوحة وضاد معجمة على وزن فتاة. ولبن، بكسر اللام وسكون الباء الموحدة، قال الحازمي، وضبطها سليمان بن خليل بتفح اللام والباء على ما وجدت بخطه في غير موضع من "منسكه" والله أعلم. هذا ما رأيته للناس في حدود الحرم بالأميال، ورأيت في ذلك لبعض الحنفية ما يستغرب جدا، لأن القاضي شمس الدين السروجي الحنفي حكى في "مناسكه"، عن أبي جعفر الهنداوي أنه قال: مقدار حد الحرم من جهة المشرق، ستة أميال، ومن الجانب الثاني: اثنا عشر ميلا. قال صاحب "المحيط": وفيه نظر، فإن ذلك هو التنعيم، قريب من ثلاثة أميال من مكة. ومن الجانب الثالث: ثلاثة عشر ميلا. ومن الرابع: أربعة وعشرون ميلا... انتهى. والظاهر والله أعلم أن قائل هذا الكلام أراد بحده من جهة المشرق جهة العراق، وبالحد الثاني: جهة التنعيم، وبالحد الثالث: جهة اليمن، وبالحد الرابع: جهة جدة، وإنما كان ما ذكره هذا القائل مستغربا لنقصه من حده من جهة المشرق، وكثرة الزيادة في حده من الجهات الثلاث، وإنما لم أذكر ذلك مع ما ذكره غيره في حدود الحرم، لعدم تصريح قائل ذلك بجوانب الحرم التي حددها، وقد اعتبرت بما قاله الناس في تحديد الحرم من جميع جهاته المعروفة الآن، وهي جهة الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة، "عرنة"، وطريق العراق، وطريق التنعيم، وطريق اليمن، وكان اعتبارنا لذلك بجبل مقدر على الذراع المعتبر في أميال مسافة القصر، وهو ذراع اليد على ما ذكره المحب الطبري في "شرحه للتنبيه"، وذكر أن مقداره أربعة وعشرون أصبعا، كل أصبع ست شعيرات مضمومة بعضها إلى بعض ... انتهى. كذا وجدت بخطه. وأشار إلى ذلك النووي في "تحرير التنبيه"، وغلط النووي "القلعي" في قوله: "إن الأصبع ثلاث شعيرات. ومقدار الذراع المشار إليه من ذراع الحديد المستعمل في القماش بمصر ومكة الآن: ذراع إلا ثمن ذراع، هكذا اعتبره جماعة من أصحابنا بذراع أيديهم، ثم اعتبروا ذلك بشعير معتدل مرصوص. فجاء كما قال المحب الطبري ومن وافقه، وكان اعتبارهم لذلك بحضوري. ج / 1 ص -81- ذكر تحديد حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من طريق نمرة: من حد باب بني شيبة إلى العلمين اللذين هما علامة لحد الحرم من جهة عرفة سبعة -بتقديم السين- وثلاثون ألف ذراع ومائة ذراع وعشرة أذرع وسبعا ذراع، بذراع اليد، يكون ذلك أميالا، عشرة أميال وثلاثة أخماس ميل وخُمس سُبع عشر ميل يزيد سُبعي ذراع، هذا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، وهو الذي ينبغي أن يعتبر في حدود الحرم، لكون غالبا أقرب إلى موافقة ما هو المشهور في قدرها، فإنها إذا اعتبرت على القول بأن مقدار الميل ألفا ذراع، يزيد مقدارها نحو مثل ما هو مشهور فيها، وإذا اعتبرت على القول بأن الميل ستة آلاف ذراع، ينقص مقدارها عما هو مشهور فيها نحو نصف ذلك، واعتبار ذلك على هذين القولين مشكل جدا لكثرة الزيادة وكثرة النقص، على أن اعتبار ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع لا يخلو من إشكال، إلا أن الأمر فيه قريب، لتأتي الجواب عنه، ويتأيد كون اعتبار ذلك على هذا القول أولى، لكونه أصح الأقاويل في مقدار الميل، على ما ذكره ابن عبد البر، والله أعلم. ولا يعكر على ما أشرنا إليه من ترجيح اعتبار هذا القول في حدود الحرم ما يقع في الاعتبار عليه من الزيادة والنقص المقتضيين مخالفة ما هو مشهور في حدود الحرم، لأن الزيادة والنقص يكونان في الغالب شيئا يسيرا، وربما كان ذلك لشدة المد في الحبل المقيس به وإرخائه، أو لأجل ارتفاع الأرض وانخفاضها، أو لأجل اعتبار غيرنا لذلك من موضع غير الموضع الذي اعتبرنا منه، مثل أن يكون اعتبارنا وقع من باب بني شيبة، والأزرقي اعتبر من موضع بينه وبين المعلاة في غير اعتباره لحد الحرم من جهة عرفة، ومن عتبة باب المعلاة إلى العلمين اللذين هما حد الحرم من هذه الجهة: خمسة وثلاثون ألف ذراع وثلاثة وثمانون ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، يكون ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: عشرة أميال وسبع سبع ميل وخمس سبع عشر ميل وخمس خمس سبع عشر ميل. ولم يعتبر الأزرقي حد الحرم في هذه الجهة من باب المعلاة، وإنما اعتبره من باب بني شيبة، ووقع له ما يوهم أن حد الحرم من هذه الجهة ينتهي إلى دون قبلة مسجد عرفة بخمسة وعشرين ذراعا؛ لأنه ذكر أن حد الحرم من هذه الجهة على أحد عشر ميلا، وذكر مواضع هذه الأميال إلى عرفة، فقال في موضع الميل الحادي عشر: وموضع الميل الحادي عشر في حد المكان الذي يدور حول قبلة مسجد عرفة مسجد إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وبينه وبين جُدُر المسجد: خمس وعشرون ذراعا ... انتهى. وذلك يقتضي أن يكون العلمان المشار إليهما في غير الحد. وذكر الأزرقي ما يوهم أن حد الحرم من هذه الجهة ينتهي إلى دون العلمين اللذين هما علامة حد الحرم من هذه الجهة، بمقدار ستمائة ذراع وواحد وستين ذراعا، لأنه قال: ومن حد الحرم إلى مسجد عرفة: ألف ألف ذراع وستمائة ذراع وخمس أذراع... انتهى. ج / 1 ص -82- وإنما كان حد الحرم من هذه الجهة ينتهي إلى دون العلمين المشار إليهما بالقدر الذي ذكرناه، لأنا اعتبرنا مقدار ما بين العلمين المشار إليهما والجدار القبلي من مسجد عرفة، فكان ذلك ألف ذراع وسبعمائة ذراع بتقديم السين وثلاثة أذرع بذراع الحديد، ويكون ذلك بذراع اليد ألف ذراع وتسعمائة ذراع بتقديم التاء وستة وأربعين ذراعا، وذلك يقتضي أن يكون العلمان المشار إليهما في غير الحد، والعلمان المشار إليهما: هما اللذان إلى مكة أقرب من العلمين اللذين إلى عرفة أقرب، وكون العلمين المشار إليهما علامة لحد الحرم من هذه الجهة، أشبه بالصواب من كون حد الحرم دونهما إلى مكة، أو أمامها إلى جهة عرفة قريبا من المسجد المنسوب إليهما، كما يوهم كلام الأزرقي في الموطنين، لأن في العلمين المشار إليهما حجرين، مكتوب في كل منهما: اللهم أيد بالنصر والظفر، عبدك لأنعمك، يوسف بن عمر، فهو الآمر بتجديد هذا العلم الفاصل بين الحل والحرم. وفيه مكتوب أيضا أن ذلك في سنة ثلاث وثمانين وستمائة. ويوسف بن عمر المشار إليه: هو الملك المظفر صاحب اليمن، والعادة جرت بأن بناء مثل ذلك لا يكون إلا عن أخبار مستفيضة، أو علامة قديمة كانت قبل ذلك، فخرجت، وجدد عوضها في محلها1، والله أعلم. وأما النظر الذي أشرنا إليه في قول من قال إن قدر الحرم من هذه الجهة على سبعة أميال بتقديم السين فبيانه أن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع تزيد على عشرة أميال، سواء اعتبرت المسافة من باب بني شيبة أو من باب المعلاة، ومجرى هذه الزيادة يظهر مما سبق قريبا، وأن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل أربعة آلاف ذراع يكون تسعة أميال بتقديم التاء وخمس ميل وعشر وربع عشر عشر ميل، يزيد سبعي ذراع، هذا إن اعتبرنا المسافة من باب بني شيبة. وإن اعتبرنا المسافة على هذا القول من باب المعلاة، يكون قدر الحرم من هذه الجهة: ثمانية أميال وثلاثة أرباع ميل وخمس عشر ميل وسبعة أسباع عشر عشر عشر ميل، يزيد سبعي ذراع. وأن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل ألفا ذراع، يكون ثمانية عشر ميلا وثلاثة أخماس ميل ونصف عشر عشر ميل، يزيد سبعي ذراع، هذا على اعتبار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ذكر في إتحاف الورى 3/ 17 أخبار تلك العمارة التي قام بها يوسف بن عمر، وذلك في أخبار سنة 683 هـ. ج / 1 ص -83- المسافة من باب بني شيبة، ويكون ذلك على هذا القول باعتبار المسافة من باب المعلاة: سبعة عشر ميلا ونصف ميل وخمس خمس وستة أسباع خمس عشر عشر ميل. وأن قدر الحرم من هذه الجهة على القول بأن الميل ستة آلاف ذراع يكون ستة أميال وخمس ميل وسدس عشر عشر ميل يزيد سبعي ذراع، هذا باعتبار المسافة من باب بني شيبة، ويكون ذلك باعتبارها من باب المعلاة على هذا القول: خمسة أميال ونصف ميل وثلث ميل وثلث خمس خمس ميل وخمسي سبع عشر عشر ميل. وإذا تقرر أن مقدار الحرم من هذه الجهة ما ذكرناه على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، ظهر بذلك بُعْدُ استقامة قول من قال: إن مقدار الحرم من هذه الجهة سبعة أميال بتقديم السين، لكون ذلك يخالف مقتضى هذه الأقوال باعتبار كثرة الزيادة على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل غير القول بأنه ستة آلاف ذراع، وباعتبار كثرة النقص على مقتضى القول بأن الميل ستة آلاف ذراع، فإن النقص يكون على مقتضاه أربعة أخماس ميل إلا عشرة أذرع باليد تقريبا، في اعتبار المسافة من باب بني شيبة، ويكون النقص على مقتضى هذا القول أيضا في اعتبار المسافة من عتبة باب المعلاة ميلا وقريبا من سدس ميل، والله أعلم. واعلم أنه وقع للنووي رحمه الله ما يقتضي أن حد الحرم من هذه الجهة على خلاف قوله إنه سبعة أميال بتقديم السين لأنه قال في "الإيضاح": واعلم أن بين مكة ومنى فرسخا. وذكر معنى ذلك في غيره من كتبه. وتظهر المخالفة بين ذلك وبين قوله: إن حد الحرم من هذه الجهة على سبعة أميال، بتقديم السين ببيان مقدار ما بين مكة ومنى، ومقدار ما بين منى والعلمين اللذين هما علامة حد الحرم من جهة عرفة. فأما مقدار ما بين مكة ومنى: فهو ثلاثة عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وثمانية وستون ذراعا، وذلك من جدار باب بني شيبة إلى طرف العقبة التي هي حد منى من أعلاها مما يلي جمرة العقبة. وأما مقدار ما بين منى والعلمين -المشار إليهما: فذلك ثلاثة وعشرون ألف ذراع وثمانمائة ذراع واثنان وأربعون ذراعا وسبعا ذراع، وذلك من طرف العقبة1 المشار إليها إلى العلمين المشار إليهما. وإذا تقرر ذلك، فالذي من عقبة منى إلى العلمين المشار إليهما، قدر ما بين مكة ومنى، باعتبار المسافة من باب بني شيبة مرتين ينقص ألفي ذراع وثمانمائة ذراع وثلاثة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كان في الأصل: "العقبة التي مشار". ج / 1 ص -84- وتسعين ذراعا بتقديم التاء ويلزم على مقتضى قول النووي: "أن بين مكة ومنى فرسخا" أن يكون ما بين طرف العقبة المشار إليه والعلمين المشار إليهما: خمسة أميال وثلث ميل يزيد سبعة وسبعين ذراعا باليد، ويضم مقدار ما بين عقبة منى والعلمين المشار إليهما إلى مقدار ما بين مكة وعقبة منى، فيصير جملة ذلك: ثمانية أميال وثلث ميل وسبعة وسبعين ذراعا، ويكون ذلك مقدار الحرم من هذه الجهة على مقتضى قول النووي: أن بين مكة ومنى فرسخا، ويتعارض ذلك مع قول للنووي: إن حد الحرم من جهة عرفة سبعة أميال بتقديم السين ويقوى به النظر الذي أشرنا إليه فيما ذكره في حد الحرم من جهة عرفة، والله أعلم. وربما كان مقدار حد الحرم من هذه الجهة على مقتضى قول النووي: أن بين مكة ومنى فرسخا أكثر من هذا المقدار، إذا كان الاعتبار لما بين مكة ومنى من باب المعلاة، لأن من عتبة باب المعلاة إلى طرف العقبة المشار إليه: أحد عشر ألف ذراع ومائتي ذراع وواحدا وأربعين ذراعا وسبع ذراع، ومقدار ما بين منى والعلمين بالنسبة إلى مقدار ما بين مكة ومنى مرتان، بزيادة ألف ذراع وثلاثمائة وستين ذراعا، يزيد، فيكون مقدار ما بين منى والعلمين المشار إليهما: ستة أميال وثلث ميل، بزيادة مائة ذراع وأربعة عشر ذراعا، إذا كان مقدار ما بين مكة ومنى فرسخا، وكان الاعتبار لذلك من باب المعلاة، ويضم مقدار ما بين منى والعلمين إلى مقدار ما بين مكة ومنى، فيصير جملة ذلك تسعة أميال وثلث ميل بزيادة مائة ذراع وأربعة عشر ذراعا، ويكون ذلك مقدار الحرم من هذه الجهة على مقتضى قول النووي: "إن بين مكة ومنى فرسخا"، والله أعلم. واعلم أن قول النووي أن بين مكة ومنى فرسخا، فيه إشارة إلى أنه لم يعتبر في ذلك قول من قال: إن الميل ستة آلاف ذراع، لأنه لو اعتبر ذلك لزم أن يكون ما ذكره في مقدار ما بين مكة ومنى غير مستقيم، لأن المسافة تنقص عن الثلاثة الأميال، وهي مقدار الفرسخ ميلا وثمن ميل وثمانية أذرع وستة أسباع ذراع، في اعتبار المسافة من باب المعلاة، وينقص في اعتبارها من باب بني شيبة، ثلاثة أرباع ميل وسدس ثمن ميل وستة أذرع وأربعة أسباع ذراع، وإذا كان الأمر بين حمل كلام النووي على وجه مستقيم، وحمله على وجه لا يستقيم، فحمله على الأول أولى، والله أعلم. ذكر تحديد حد الحرم من جهة العراق: من جدار باب بني شيبة إلى العلمين اللذين هما علامة حد الحرم في طريق العراق، وهما العلمان اللذان بحارة وادى نخلة: سبعة وعشرون ألف ذراع ومائة ذراع واثنان وخمسون ذراعا باليد، يكون ذلك أميالا، على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: سبعة أميال بتقديم السين وخمسة أسباع ميل وثلاثة أسباع عشر ميل يزيد ذراعين. ومن عتبة باب المعلاة إلى العلمين المشار إليهما: خمسة وعشرون ألف ذراع وخمسة وعشرون ذراعا باليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع، وخمسمائة ذراع: سبعة أميال بتقديم السين وسبع ميل ونصف سبع عشر ميل. وما ذكره الأزرقي في مقدار الحرم من هذه الجهة يمكن أن يتمشى على اعتبار المسافة من باب المعلاة ليسارة الزيادة على السبعة الأميال في اعتبار المسافة من باب المعلاة. وما ذكره ابن أبي زيد في كون مقدار الحرم من هذه الجهة ثمانية أميال يمكن أن يتخرج على اعتبار المسافة من باب بني شيبة ليسارة النقص عن الثمانية الأميال في اعتبار المسافة من باب بني شيبة. ويبعد تخريج ما ذكره ابن خرداذبه في أن مقدار الحرم من هذه الجهة ستة أميال، وأبعد من ذلك ما ذكره سليمان بن خليل في أن مقدار الحرم من هذه الجهة عشرة أميال، والله أعلم. ج / 1 ص -85- ذكر تحديد حد الحرم من جهة التنعيم وهي طريقة المدينة وما يليها: من جدار باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة إلى أعلام الحرم في هذه الجهة التي في الأرض لا التي على الجبل: اثنا عشر ألف ذراع وأربعمائة ذراع وعشرون ذراعا بذراع اليد، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وخُمْسَين ميل وسبع ميل وخمس خمس سبع ميل. ومن عتبة باب الشبيكة إلى الأعلام المشار إليها: عشرة آلاف ذراع وثمانمائة ذراع واثنا عشر ذراعا، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع: ثلاثة أميال وثلاثة أخماس سبع ميل وخمس عشر عشر ميل وسبع عشر عشر ميل. وما ذكره الأزرقي في مقدار حد الحرم من جهة التنعيم، لعله اعتبره من موضع باب الشبيكة أو ما قرب منه، فإن الزيادة يسيرة في اعتبار المسافة من هذا الموضع على مقدار ما ذكره في حد الحرم من هذه الجهة. وأما قول من قال: إن مقدار الحرم من هذه الجهة أربعة أميال فيبعد تخريجه على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، لأنا إن اعتبرنا المسافة من باب الشبيكة، كان النقص عن الأربعة أميال: أربعة أخماس ميل وعشر ميل وعشر ميل. ج / 1 ص -86- وثلاثة أذرع، وإن اعتبرناها من باب العمرة: نقصت المسافة نصف ميل إلا مائة وسبعين ذراعا. ويبعد أيضا تخريج ذلك على القول بأن الميل أربعة ألاف ذراع، لأن المسافة تنقص عن ذلك ميلا إلا عشر ميل ونصف عشر عشر ميل، على اعتبار المسافة من باب العمرة. وأما على اعتبارها من باب الشبيكة، فتنقص ميلا وأزيد من ربع ميل. وكذلك يبعد تخريج قول من قال: إن قدر الحرم من هذه الجهة نحو أربعة أميال، لأنه في معنى القول بالأربعة. وأبعد من هذا كله ما ذكره الباجي من أن مقدار الحرم من هذه الجهة على خمسة أميال، لأنه لا يتخرج إلا على القول بأن الميل ألفا ذراع، وفي التخريج عليه نظر، وعلى أن الاعتبار في ذلك من باب الشبيكة، ومع ذلك فتزيد المسافة على الخمسة أميال مقدار خمسي ميل. وأما على اعتبار المسافة من باب العمرة، فتزيد المسافة ميلا ونحو ربع ميل، وهذا هو النظر الذي أشرنا إليه في هذه الأقوال، والله أعلم. ذكر تحديد حد الحرم من جهة اليمن: من جدار باب المسجد الحرم المعروف بباب إبراهيم إلى علامة الحرم في هذه الجهة: أربعة وعشرون ألف ذراع وخمسمائة ذراع وتسعة أذرع -بتقديم التاء- وأربعة أسباع ذراع، يكون ذلك أميالا على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: سبعة أميال تزيد سبعة أذرع وأربعة أسباع ذراع. ومن عتبة باب مكة المعروف بباب الماجن إلى حد الحرم في هذه الجهة: اثنان وعشرون ألف ذراع وثمانمائة ذراع وستة وسبعون ذراعا بتقديم السين وأربعة أسباع ذراع. ومقدار ذلك من الأميال على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع: ستة أميال ونصف ميل وربع سبع ميل يزيد ذراعا وأربعة أسباع ذراع. وقد حررنا مقدار الحرم من جميع جهاته الأربع المعروفة على مقتضى الأقوال الأربعة في مقدار الميل، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب. واقتصرنا في هذا الكتاب على ذكر ذلك على القول بأن الميل ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع، لرجحانه، وطلبا للاختصار، وقد نظم بعضهم في حدود الحرم أبياتا، وهي: وللحرم التحديد من أرض طيبة ثلاثة أميال إذا رمت إتقانَهْ ج / 1 ص -87- وسبعة أميال عراق وطائف وجدة عشرٌ، ثم تسع جعرانهْ ومن يمن سبع بتقديم سينها فسل ربك الوهاب يرزقك غفرانهْ وقد زد في حد لطائف أربع ولم يرض جمهور لذا القول رجحانهْ والبيتان الأولان لا أعرف ناظمهما، والبيتان الآخران لجدي لأبي قاضي القضاة كمال الدين أبي الفضل محمد بن أحمد النويري الشافعي، قاضي مكة وخطيبها، وعالم الحجاز في عصره، تغمده الله برحمته، على ما وجدت في تأليف له بخط بعض مشايخنا يسمى "المعلم بدية الحر المسلم". وبعض الناس ينشد بيت جدي الأول على غير ما ذكرناه، فيقول: من يمن سبع بتقديم سينها وقد كملت فاشكر لربك إحسانهْ وهذا هو المشهور عند الناس. ويجمع بين هذا الاختلاف بأن يكون جدي قال ذلك على الوجهين، وكأن جدي رضي الله تعالى عنه قصد بالبيت الأول في نظمه إفادة حد الحرم من جهة اليمن، لكون ناظم البيتين الأولين لم يتعرض فيهما لحد الحرم من جهة اليمن، كما وقع للماوردي في "الأحكام السلطانية"1، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي في "مهذبه"، وكأن جدي رحمة الله عليه قصد بالبيت الثاني من نظمه أن يفيد في حد الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة، ما قيل من أنه أحد عشر ميلا، كما ذكره الأزرقي في تاريخه2، وأن الراجح في حد الحرم من هذه الجهة قول من قال إنه سبعة أميال بتقديم السين على الباب كما قال الماوردي3، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والنووي4، وقلدهم جدي في رجحان ذلك. وفي كون ذلك راجحا نظر لما سبق بيانه من بُعْدِ استقامة قولهم، خصوصا النووي رحمه الله لاضطراب كلامه في ذلك وسبب ذلك والله أعلم: تقليدهم في ذلك مع بعدهم عن المكان، وعدم اعتبارهم لذلك، ولو اعتبر كل من هؤلاء الأئمة هذا الأمر كما اعتبرناه لظهر له صحة ما قلناه، وإنما قلدوا في ذلك، فلم يستقم، وقد طال الكلام في هذا الأمر، ولكن الموجات اقتضت ذلك. وكان شيخنا العلامة المغني المصنف المفتي كمال الدين محمد بن موسى بن عيسى الدميري المصري المكي الشافعي رحمه الله ينشد عن جدي رحمة الله تعالى عليه قوله: ومن يمن سبع، البيت، ثم يقول: الأولى أن يقال: ومن يَمَنٍ سبع بتقديم سينها لذلك سيل الحل لم يَعْدُ بنيانه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الأحكام السلطانية "ص: 173". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 131. 3 الأحكام السلطانية "ص: 165". 4 تهذيب الأسماء واللغات 1 ق واللغات 1 ق 2/ 82. ج / 1 ص -88- وهذا الصنف الأخير له على ما ذكره لي صاحبنا الإمام صلاح الدين خليل بن محمد الأقفهسي1 أبقاه الله، وذكر لي أن شيخنا كمال الدين كان يعلل ذلك بما فيه من الفائدة في كون سيل الحل لا يدخل الحرم، بخلاف شطر بيت جدي فليس فيه إلا الدعاء. وهذه الفائدة ذكرها غير واحد من العلماء، إلا أنها معترضة بما ذكره الأزرقي من أن سيل الحل يدخل الحرم من جهة التنعيم فقط، وقد سبق كلام الأزرقي في هذا المعنى، ويعارضها أيضا ما ذكره الفاكهي، وقد سبق ذكره. وسمعت بعض أصحابنا ينشد بيت الشيخ كمال الدين هذا بتغيير في لفظه، لأنه نقل عن شيخنا الدميري أنه قال: ومن يمن سبع وكرز لها اهتدى لذلك سيل الحل لم يَعْدُ بنيانه وكرز المشار إليه: هو كرز بن علقمة الخزاعي2. وليس هو أول من نصبها في الإسلام، لأن جماعة من الصحابة سبقوه إلى ذلك، منهم: تميم بن أسد، عام الفتح، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم3. ومنهم في زمن عمر رضي الله عنه: حويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع، ومخرمة بن نوفل وأزهر بن عبد عوف الزهريان، كذا في الأزرقي4. والفاكهي5. وفي الفاكهي أيضا عن الزبير بن بكار: أن صبيحة بن الحارث بن جبلة بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم، أحد القرشيين اللذين بعثهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يجددون أنصاب الحرم. ومنهم في زمن عثمان رضي الله عنه حويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع وعبد الرحمن بن أزهر ونفر من قريش، وكان هؤلاء يجددونها في كل سنة، كذا في الأزرقي والفاكهي، وليس فيهما ذكر نصب كرز لأنصاب الحرم، وإنما ذكر ذلك ابن عبد البر6، وذكر أن ذلك وقع في زمن معاوية رضي الله عنه في ولاية مروان على مكة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ترجمته في الضوء اللامع 3/ 202 - 204 رقم 165. 2 الجرح والتعديل 7/ 170. 3 مثير الغرام الساكن "ص: 142. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 129. 5 أخبار مكة للفاكهي 2/ 273 ومناسك الحربي "ص: 472 ومثير الغرام "ص: 142". 6 الاستيعاب 3/ 311. ج / 1 ص -89- وما عرفت لأي معنى ذكر شيخنا الدميري نصب كرز دون غيره ممن هو أشهر منه، وكان الأولى أن يقول: ومن يمن سبع تميم لها اهتدى لذلك سيل الحل لم يعد بنيانه لكونه فعل ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما أثر للجاهلية، فإن للتجديد بعدها أثر، والله أعلم. ولم أر أحدا تعرض لمقدار الحرم إلا أبا القاسم بن خرداذبه الخراساني في كتابه "المسالك والممالك"1، لأنه قال: وطول الحرم حل مكة: سبعة وثلاثون ميلا، وهي التي تدور بأنصاب الحرم ... انتهى. وهي فائدة حسنة، إن صحت، والله أعلم بحقيقة ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المسالك والممالك "ص: 132"، وذكر ابن سراقة في كتاب "الأعداد" أن مساحته ستة عشر ميلا في مثلها. "إعلام الساجد ص: 64". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -90- الباب الرابع: في ذكر شيء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة مكة وحرمها: وشيء من الأحكام المختصة بذلك، وذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك، وفي فضل الحرم. روينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: إن هذا الحرم حرم حذاؤه من السماوات السبع والأرضين السبع، وروينا فيه عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حرم حياله إلى العرش1. وروينا في مسند الشافعي عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه وتعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس، ولا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرا، فإن ارتخص أحد فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله سبحانه أحلها لي ولم يحلها الناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس" ... انتهى باختصار، وأخرجه البخاري ومسلم بالمعنى2. وروينا في مسند أحمد بن حنبل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ما أحل لأحد فيه القتل غيري، ولا تحل لأحد بعدي فيه حتى تقوم الساعة، ما أحل لي منه إلا ساعة من نهار، فهو حرمة الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة، لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا لمعرف"3، قال: فقال العباس وكان من أهل البلد، قد علم الذي لا بد لهم منه: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 124، 125. 2 أخرجه البخاري 6/ 176، 177، ومسلم "الحج: 1354". 3 المعرف: هو الذي يعرف اللقطة ويحتفظ بها إلى أن يحضر صاحبها. ج / 1 ص -91- لهم منه، فإنه للقبور والبيوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر"، أخرجاه بالمعنى1. وروينا في مسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: "لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد"، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنما نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم : "إلا الإذخر" أخرجاه أيضا2. وفي لفظ لهما ولأحمد: "لا يعضد شجرها" بدل قول: "لا يختلى شوكها" وفي ألفاظ الأحاديث الواردة في هذا المعنى اختلاف. وقد اقتضت هذه الأحاديث أمورا، منها: منع اختلاء خلا مكة، والخلا مقصور: الكلأ الرطب، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم، ما خلا الإذخر، فإنه يجوز كما في الحديث للحاجة إليه في سقف البيوت والقبور والصباغة وما في معناه، وهو نبت مشهور طيب الرائحة، وفي معنى الإذخر: السنا للحاجة إليه في الدواء، كما في "المدونة" و"الموازية" من كتب أصحابنا المالكية، والصحيح من مذهب الشافعي حل أخذ نبات الحرم لعلف الدابة وللدواء. ومنها: منع عضد شجرة مكة أي قطعها وأرخص مالك في قطع العصا والعصاتين من شجر الحرم. ومنها: منع تنفير صيد مكة، أي لا يصاح عليه فينفر، قاله المحب الطبري، ونقل عن عكرمة أنه قال لرجل: أتدري ما تنفير صيدها؟ هو أن تنحيه من الظل وتنزل مكانه، ونقل معنى ذلك عن سفيان بن عيينة، قال: ولا خلاف أنه لو نفره وسلم فلا جزاء عليه، لكنه أثم بارتكابه النهي. ومنها: منع اصطياد صيد مكة. ومنها: أن لقطتها لا تملك كما هو الأصح من مذهب الشافعي، وهو رأي بعض المالكية، وعند الأئمة الثلاثة أن حكم مكة في لقطتها كغيرها من البلاد، وقد جاءت ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: البخاري "1587"، ومسلم "الحج: 445"، والبيهقي في الشعب "4007"، وأبو يعلى "5928"، وأبو داود "2018"، والنسائي "2874"، والترمذي "1590". 2 أخرجه: البخاري "الحج، فضل الحرم: 2/ 147 مختصرا، وأواخر الحج، "لا ينفر حين لحرم" "3/ 14" وآخر الجهاد إثم الغادر للبر والفاجر "4/ 104- 105"، ومسلم "الحج: تحريم مكة وصيدها". لا يعضد شوكه: لا يقطع شوكه، لا ينفر صيده: لا يتعرض له بالإزعاج، لا يختلى خلاها: الخلى بالقصر: الرطب من النبات أي لا يجز أي لا يحصد. ج / 1 ص -92- أحاديث تقتضي امتناع هذه الأمور بالمدينة النبوية، لكن لمكة في ذلك على المدينة مزية من ثلاثة أوجه: الأول: وجوب الجزاء في صيد مكة بالإجماع بخلاف المدينة ففيه خلاف. الثاني: وجوب الجزاء في شجر مكة عند الشافعي وابن حنبل رحمهما الله. الثالث: أنه لم يقل أحد من علماء الأمة فيما علمت بعدم تملك لقطة المدينة. ولمكة أيضا أحكام تخصها، وأحكام تشاركها المدينة فيها. فمن الأحكام التي تخص مكة: أن الصلاة فيها تضاعف على الصلاة في غيرها، لأحاديث صحيحة وردت في ذلك يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. ومنها: تضاعف ثواب القربات بها، الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: تضاعف السيئة بها، كما قال مجاهد، وأحمد بن حنبل فيما حكاه عنهما المحب الطبري في "القرى"1، ومثل ذلك نقل عن غيرهما، والصحيح من مذهب العلماء أن السيئة بمكة كغيرها، والله أعلم. ومنها: أن الإنسان يؤاخذ بهمه بالسيئة بمكة وإن كان نائيا عنها، كما هو مقتضي الحديث الذي رويناه في مسند الإمام أحمد بن حنبل من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولفطه في المسند حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة، عن السدي أنه سمع عبد الله رضي الله عنه قال شعبة: ورفعه لي ولا أرفعه للمنقول في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25] قال: لو أن رجلا هم فيه بإلحاد، وهو بعدن أبين2 لأذاقه الله عذابا أليما... انتهى. ووجه اختصاص مكة بهذا الحكم: أن غيرها من البلاد إذا هم الإنسان فيها بسيئة لا يؤاخذ بها إلا إذا عملها، كما هو مقتضى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في كتابه الحسنات والسيئات: "وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة" وهذا الحديث في الصحيحين، وهو بظهره يقتضي عموم البلاد في هذا الحكم، فيدخل في ذلك مكة، ولكن حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- المشار إليه يخصها، والله أعلم. وكنت غفلت عن ذكر هذه الخصوصية، فكتب إلى بعض علماء عصرنا ممن وقف على بعض هذ الكتاب يذكرها لي، ونص ما كتبه إلي: رأيت مختصر مولانا لأخبار ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 659". 2 عدن أبين: هي جزيرة باليمن أقام بها "أبين" رجل من حمير. ج / 1 ص -93- مكة، وذكرتم خصائص الحرم بأشياء، ولم تتعرضوا لمن همَّ فيه بسيئة، فإنهم ذكروا من خصائصه العقوبة على مريد السيئة ومن همَّ بها، وروينا في ذلك حديثا مرفوعا، وهو من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره1، وهو حديث إسناده صحيح، ثم قال: وهذه المسألة ذكرها ابن أبي حاتم في تفسيره، وبسط فيها القول... انتهى باختصار. وذكر ذلك -أيضا- أبو اليمن ابن عساكر في "فضل منى" عند الكلام على ما اختصت به مكة من الأحكام، ونص كلامه: وأن من أراد فيها الإلحاد ولم يعمل به أذاقه الله من أليم العذاب، وزاد أيضا من خصائصها عدم استباحة غنائمها. ومنها: أن صلاة النافلة التي لا سبب لها لا تكره بمكة في وقت الكراهة، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله لحديث من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولفظه عند الدارقطني: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يصلي عند هذا البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار"2. وأخرجه ابن حبان بمعناه، ولفظه عند أصحاب السنن الأربعة، وابن حنبل، وابن حبان أيضا: "يا بني عبد مناف، إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء ليل أو نهار"3. وجوز البيهقي في المراد بالصلاة احتمالين. أحدهما: أن يكون المراد بالصلاة صلاة الطواف خاصة، وقال: إنه هو الأشبه بالآثار. والاحتمال الآخر: أن يكون المراد جميع الصلوات4. ولفظ حديث الدارقطني يرد الاحتمال الأول الذي ذكره البيهقي أنه أشبه بالآثار، قال القاضي عز الدين بن جماعة: وتأول بعضهم الصلاة على الدعاء، وفيه بُعْدٌ، ومنع ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مسند أحمد 1/ 227، 310، 361، 2/ 234، 242. 2 أخرجه: الدارقطني 1/ 424، وهو في موارد الظمآن "ص: 165" لكن هذا الجواب لا يتمشى مع أصول الشافعية في حمل المطلق على المقيد، لأنهم لا يشترطون أن يكون المطلق والمقيد واردين في موضوع واحد لكي يحمل المطلق على المقيد. 3 أخرجه أحمد في مسنده 4/ 80، والترمذي في "الحج: الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف 3/ 22" النسائي "إباحة الطواف 5/ 223"، وابن ماجه 1/ 398، وموارد الظمآن "ص: 164- 165". 4 السنن الكبرى للبيهقي 5/ 292، أخرج الحديث، وليس فيه التأويل الذي ذكره المصنف، فلعله في كتاب آخر للبيهقي. ج / 1 ص -94- بعضهم الاستدلال بهذا الحديث لعموم النهي، كما هو مذهب المالكية والحنفية1، والله أعلم. ومنها: أن صلاة العيد تصلى بالمسجد الحرام لا في الصحراء كما في سائر البلاد. ومنها: وجوب قصدها في كل سنة على طائفة من الناس لإقامة شعائر الحج. ومنها: أنها لا تدخل إلا بإحرام على تفصيل في ذلك مقرر في كتب الفقه. ومنها: أنه لا يجوز إحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه، كما هو مذهب الشافعي، على ما نقل النووي في "الإيضاح"، وهذا لفظه. ومنها: اختصاصها بنحر هدايا الحج. ومنها: لزوم النحر بمكة لنادرة فيها. ومنها: اختصاص حكام مكة في الجزاء بشاة من غير حكم إذا أصيب في الحرم، كما هو مذهب مالك والشافعي. ومنها: أن الخارج يتبع الصيد، فإذا دخل الحرم تركه، ذكر ذلك ابن الحاج عن بعض المفسرين. ومنها: ائتلاف الظباء والسباع فيه، ذكره المحب الطبري2. ومنها: أمن الظباء والوحوش والسباع بها، حتى إن الطيور لتجوز الحد فيعرض لها من السباع ما لا يعرض لها إذا جاز شيء منها الحدود... انتهى. ذكر ذلك الحافظ، وقال: قالوا: ومنها: كون أهل مكة لا دم عليهم في التمتع والقران عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، لكونهم من حاضري المسجد الحرام، خلافا لأبي حنيفة. ومنها: أن أهلها لا يقاتلون إذا بغوا فيها عند بعض العلماء لكن يضيق عليهم حتي يرجعوا عن ذلك، بل قال: "القفال المروزي"، وهو من كبار الشافعية: أنه يمتنع قتال الكفار بمكة إذا تحصنوا فيها، وهو مقتضى مذهب مالك على ما ذكره ابن شاس وابن الحاجب. ففي "الجواهر" لابن شاس: ولا يجوز قتال الحاضر مسلما كان أو كافرا، وكذا في "مختصر ابن الحاجب". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 738. 2 القرى "ص: 661". ج / 1 ص -95- ومذهب أكثر العلماء: جواز قتال الكفار والبغاة بمكة تقديما لحق الله تعالى، لأن قتال الكفار من الحقوق التي لا يجوز إضاعتها، وصحح ذلك النووي، وأجاب عن الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم القتال بمكة بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم، بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصن كفار في بلد آخر، فإنه يجوز قتالهم على كل وجه بكل شيء، وقال: إن الشافعي نص على هذا التأويل. ومنها عند أبي حنيفة: أن القاتل عمدا إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل ما دام فيه، لكن يضيق عليه حتى يخرج منه ليقتل خارج الحرم. ومنها عنده: أن الزاني المحصن إذا لجأ إلى الحرم لا يقام عليه الحد ما دام فيه، بل يضيق عليه حتى يخرج منه ليقتل خارج الحرم. ومنها عنده: أن الحربي إذا لجأ إلى الحرم بغير أمان لا يقتل فيه، بل يضيق عليه حتى يخرج منه. ومذهب أبي حنيفة في هذه الثلاثة المسائل هو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، ومذهب مالك والشافعي: أن الحرم لا يمنع من استيفاء القصاص والحدود. ومنها: أن القاتل في الحرم يغلظ عليه الدية بزيادة ثلثها، سواء كان القتل عمدا، أو خطأ، عند الشافعية والحنابلة، على ما نقل عنهم ابن جماعة في "منسكه" وفيما نقله عن الشافعية1، لأن الصحيح عندهم: أن القاتل في الحرم يغلظ عليه الدية باعتبار التثليث، وهي أن تكون ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وذلك لا يفهمه نقل ابن جماعة، والله أعلم. ومنها: أنه يمنع من خالف دين الإسلام من دخول الحرم مقيما كان أو مارا كما هو مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء على ما نقل الماوردي2، وجوز ذلك أبو حنيفة إذا لم يستوطنوه، ويجوز عند مالك للكافر دخول الحرم مجتازا لتجارة وشبهها لا مستوطنا، والأصل في ذلك، ما رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"3. ووجه الدليل أن الحجاز هو نفس الجزيرة في قول طائفة من العلماء، وقال طائفة منهم: إن الحجاز بعض الجزيرة، وقالوا: إن المراد بما أطلقه من الجزيرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 730. 2 الأحكام السلطانية "ص: 167". 3 أخرجه: مسلم "الحج: النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة 4/ 111. ج / 1 ص -96- الحجاز بقوله: "أخرجوا المشركين واليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب"1. ومنها على ما قال ابن الصلاح من الشافعية: لا يجوز أخذ شيء من مساويك الحرم. وذكر ابن الحاج -من أصحابنا أنه لا بأس بأخذ السواك من الحرم. ومنها: أن المستنجي بحجارة الحرم مسيء على ما قال الماوردي، ويجزئه ذلك ومنها: أنه لا يحل حمل السلاح بمكة لغير ضرورة، عند مالك والشافعي، لحديث جابر -رضي الله عنه: "لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة" والحديث في الصحيحين2. ومنها: أنه لا يجوز استقبال الكعبة ولا استدبارها عند قضاء الحاجة في الصحراء إذا لم يكن ثَم ساتر، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في الصحيحين، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم وغيره. ومنها: أن الله تعالى أوجب على أهلها التوسعة على الحجيج إذا قدموا مكة، وأن لا يأخذوا منهم أجرًا على نزولهم في مساكنها، كما هو مفهوم من كلام أبي اليمن ابن عساكر في فضل منى، وتقدم من كلام السهيلي في الباب الأول ما يؤيد ذلك. ومنها: أنه يمتنع على المهاجر منها الإقامة بها إلا ثلاثة أيام بعد الصدر، كما روى العلاء بن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. ومن الأحكام التي تشارك المدينة فيها مكة: تحريم قطع الرطب من شجرها وحشيشها، وتنفير صيدها واصطياده، وإن كان لا جزاء في صيد المدينة كما سبق بيانه لأحاديث صحيحة في ذلك. ومنها: أنه يحرم دفن المشرك فيها، فإن دفن، نبش ما لم يتقطع، نقل ذلك عن النووي الشيخ خليل الجندي المالكي في "منسكه". ومنها: أنه يحرم إخراج ترابها وحجرها، على ما نقل الشيخ خليل الجندي عن ابن الصلاح، ونص كلامه لما ذكر خصائص الحرمين، قال ابن الصلاح: ويختصان بتحريم إخراج الحجر والتراب، ويكره إدخال ذلك من الحل، وخلط ذلك بمثله، ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: أحمد في مسنده 1/ 195، والدارمي 2/ 233، والبيهقي في سننه 9/ 208، كلهم من طريق: إبراهيم بن ميمون، وذكره البخاري في التاريخ الكبير 4/ 57، والهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 28 وعزاه للبزار، وقال: رجاله ثقات. 2 أخرجه البخاري "2/ 19"، مسلم "كتاب الحج: النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة 4/ 111". ج / 1 ص -97- يجوز اتخاذ المساويك من إراك الحرم، زاد النووي: ويختصان بتحريم دفن المشرك، ولو دفن نبش ما لم يتقطع... انتهى. وما ذكره ابن الصلاح من تحريم إخراج تراب الحرم وحجارته إلى خارجه نص عليه الشافعي في "الجامع الكبير"، وفي "الأم" وصححه النووي في "الروضة"، وإن كان نقل في "شرح المهذب" عن الأكثرين من الشافعية أن ذلك مكروه. وقال المحب الطبري: إن كراهية إخراج تراب الحرم إلى الحل كراهية تحريم عندنا1... انتهى. والواجب على من أخرج ذلك من الحرم رده إليه، ولا ضمان عليه في ترك الرد، وأما كراهية إدخال تراب الحل وأحجاره إلى الحرم فلئلا تحدث لها حرمة لم تكن لها. وما ذكره ابن الصلاح من كراهية إدخال الحل وأحجاره إلى الحرم نص عليه النووي في "روضته" و"مناسكه"، وذكر في "المجموع": أن الأصحاب متفقون على أن ذلك من باب الأولى، وفيه نظر، لأن صاحب "البيان" نقل عن الشيخ أبي حامد أنه قال: لا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم ... انتهى. والعلة في كراهية ذلك: لئلا يحدث لها حرمة لم تكن. ومذهب الحنابلة: كراهة إخراج تراب الحرم وحصاه إلى الحل، وإدخال ذلك من الحل إلى الحرم، والإخراج أشد على ما قال أحمد. وحكم حرم مكة في ذلك حكم مكة من غير خلاف. وقد اختلف العلماء في مكة وحرمها: هل صار ذلك حرما آمنا من الجبابرة، والخسوف، والزلازل بسؤال الخليل عليه السلام؟ أم لم يزل حرما آمنا منذ خلق الله السماوات والأرض؟ وهو الصحيح على ما ذكره النووي وغيره، لحديث ابن عباس، وأبي هريرة، وابن شريح الخزاعي رضي الله عنهم وإنما سأل الخليل عليه السلام ربه تبارك وتعالى أن يجعل ذلك آمنا من الجدب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، واحتج القائلون بالأول: بحديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة"2 .... الحديث كما في الصحيحين. وأجاب القائلون بالثاني عن هذا الحديث، بأن إبراهيم عليه السلام أظهر التحريم بعد أن كان مهجورا. والله أعلم بالصواب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 637". 2 أخرجه: البخاري 3/ 88 "البيوع: باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده"، ومسلم "الحج: 1360". وأحمد 4/ 40، والمنتخب من مسند عبد بن حميد "518". ج / 1 ص -98- ذكر شيء مما ورد في تعظيم الناس لمكة وحرمها وفي تعظيم الذنب في ذلك: روينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: حج الحواريون، فلما بلغوا الحرم مشوا تعظيما للحرم1. وروينا فيه عن ابن جريج قال: كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو ابنه في الكعبة، أو في الحرم، أو في الشهر الحرام فلا يعرض له2. وروى أبو علي بن السَّكَن في سننه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المُغَمْس3. ويروى أن الشيخ أبا عمرو الزجاجي أحد كبار مشايخ الصوفية في مكة أقام بمكة أربعين سنة لم يبل ولم يتغوط في الحرم. ويروى أن الإمام أبا محمد عبيد الله بن سعيد الشنتجالي جاور بمكة دهرا، وكان إذا أراد قضاء الحاجة خرج من الحرم. ومن الأخبار الواردة في تعظيم الذنب في الحرم: ما رويناه في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن عمرو بن العاج / 1 ص -رضي الله عنهما- أنه كان يقول: إن من الإلحاد في الحرم أن يقول: كلا والله، وبلى والله4. وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا أهل مكة لا تحتكروا الطعام، فإن احتكار الطعام بها للبيع إلحاد، وروينا مثل ذلك عن ابنه عبد الله بن عمر. وروينا عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: لأن أخطئ سبعين خطيئة بركبة أحب إلى من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة5... انتهى. "وركبة" محاذية لذات عرق ميقات أهل العراق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 137. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 140. 3 المغمس: هو السهل الفسيح الواسع الذي يبدأ من أرض الصفاح والشرائع العليا "حنين" إلى سهل عرفات، بل إن سهل عرفات كله ما هو إلا امتداد لأرض المغمس،ويقع في وسط أرض المغمس واد عرنة، وشق حديثا طريق ممهد يصل بين عرفات وبين طريق الطائف طوله "15" كم إذا سلكه تكون قد توسطت أرض المغمس. 4 أخبار مكة للأزرقي "2/ 132. 5 أخبار مكة للفاكهي 2/ 256، ورواه عبد الرزاق في مصنفه 5/ 28 من طريق ابن جريج به، وذكره في معجم البلدان 3/ 63 ونسبه لأبي سعيد المفضل الجندي في فضائل مكة. ج / 1 ص -99- وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاج / 1 ص -رضي الله عنهما: الإلحاد في الحرم ظلم الخادم. وقد جاء في هلاك من ظلم بمكة من الأمم أو استخف بحرمتها أخبار كثيرة سنذكر منها شيئا فيما بعد إن شاء الله تعالى. وجاء في النجاة من الذنب بالالتجاء إلى الحرم حديث رويناه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه قال: "لما عقرت ثمود الناقة وأخذتهم الصيحة، لم يبق تحت أديم السماء منهم أحد إلا أهلكته إلا رجلا واحدا كان في حرم الله عز وجل فمنعه الحرم". فقالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال: "أبو رغال أبو ثقيف، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه"، أخرجه أحمد في مسنده ومسلم، وأبو حاتم بن حبان في صحيحهما1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه أحمد في مسنده 3/ 296، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 122-133. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -100- الباب الخامس: في ذكر الأحاديث الدالة على أن مكة المشرفة أفضل من غيرها من البلاد: وأن الصلاة فيه أفضل من غيرها وغير ذلك من فضلها أخبرني إبراهيم بن محمد الصوفي سماعا بالمسجد الحرام، قال: أخبرنا أحمد بن أبي طالب الصالحي، عن أبي المنجا عبد الله بن عمر البغدادي وأبي بكر محمد بن مسعود بن بهروز الطيب، قالا: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السنجري، قال: أخبرنا الفقيه أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: أخبرنا إبراهيم بن حزيم، قال: أخبرنا عبد بن حميد الحافظ، قال: أخبرني يعقوب بن إبراهيم الزهري، قال: حدثني أبي عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه أخبره، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته بالحزورة بمكة يقول لمكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت"1. وأخبرتني الأصيلة أم أحمد فاطمة بنت العز محمد بن أحمد الجبلي قراءة عليها وأنا أسمع بدمشق في الرحلة الثانية، أن القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي أنبأها وتفردت عنه، قالت: أخبرنا الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: أخبرنا زاهر بن أحمد الثقفي، قال: أخبرنا غانم بن خالد، قال: حدثنا الليث بن عقيل، عن محمد بن مسلم أن أبا مسلمة أخبره عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته واقفا بالحزورة يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت"2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: الترمذي "3925"، وابن ماجه "3108"، وأحمد 4/ 305. 2 أخرجه ابن ماجه 3108"، والترمذي "3925"، وأحمد 4/ 305، وابن حبان "3708" والحاكم 3/ 431، والأزرقي 2/ 154، وعبد الرزاق "8868". ج / 1 ص -101- وأخبرتني عاليا أم محمد بنت المنجا سماعا عن القاضي أبي الفضل المقدسي، قال: أخبرنا الحافظ الضياء، قال: أخبرنا أبو جعفر الصيدلاني وفاطمة بنت سعد الخير قالا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله قالت: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو القاسم الطبراني، قال: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، قال: حدثنا أبو اليماني، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة. وبه قال الطبراني: وحدثنا عبد الرحمن بن جابر البحتري، قال: حدثنا بشر بن شعيب قال: حدثني أبي، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحزورة في شرقي مكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت"، أخرجه الترمذي والنسائي عن قتيبة بن سعيد عن الليث، وأخرجه ابن ماجه عن زغبة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن زغبة، وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن زغبة عن الليث، فوقع لنا به بدلا للترمذي والنسائي، وموافقته لابن ماجه وابن حبان1، مع العلو في ذلك، ولله الحمد. وأخرجه النسائي، عن إسحاق بن مسعود الكوسج، عن يعقوب بن أبي إبراهيم الزهري، فوقع لنا بدلا له عاليا، وقال الترمذي: إن حديث ابن الحمراء حديث حسن صحيح على ما نقله عن المحب الطبري في "القرى"2، ومن خطه نقلت ذلك، ولما ذكر هذا الحديث قال: وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء، ثم رأيت فوق الحمراء حفر باب، وفوق الضرب ما صورته الخيار وهذا عجب منه، فإن الحديث مشهور عن ابن الحمراء، والله أعلم، وقال الترمذي عقب حديث ابن الحمراء رواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وحديث الزهري عندي أصح3... انتهى. ورويناه في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري ابن أخي الزهري، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، عن محمد بن جبير، عن عبد الله بن عدي، وشذ ابن أخي الزهري في ذلك على ما قال صاحبنا الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أمتع الله بفوائده وما ذكره الترمذي من أن محمد بن عمرو رواه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، لم أره هكذا، وإنما رأيته عنه، عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، هكذا رويناه في الجزء الثاني من حديث علي بن حجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: الترمذي "3925"، وابن ماجه "3108"، وابن حبان "3708". 2 القرى "ص: 647". 3 الترمذي "3925". ج / 1 ص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...