65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج7.شفاء الغرام

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في أخبار مكة للأزرقي قدم "تباغض" على تحاسد وزاد "ولا نتباغى". ج / 1 ص -243- الله إليهم، فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله تعالى تحت العرش بيتا على أربع أساطين من زبرجد، وكساهن بياقوتة حمراء، وسمى البيت الضراح، ثم قال الله عز وجل للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش. قال: فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش، وصار أهون عليهم. وهو البيت المعمور الذي ذكره الله عز وجل يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا، ثم إن الله عز وجل بعث ملائكة فقال: ابنوا لي بيتًا في الأرض بمثاله وقدره، وأمر الله من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، فقال الرجل: صدقت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم1... انتهى. وروينا نحوه بالمعنى مختصرا في كتاب "النسب" للزبير بن بكار قاضي مكة. وروينا في "تاريخ الأزرقي" وغيره أخبارا أُخر تدل على طواف الملائكة بالبيت منها: ما رواه الأزرقي بسنده إلى وهب بن منبه قال: وقرأت في كتاب من الكتب الأولى ذكر فيه الكعبة، فوجد فيه، أنه ليس من ملك بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقضّ من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف سبعًا، ويركع في جوفه ركعتين ثم يصعد2. ومنها: ما رواه بسنده عن محمد بن المنكدر قال: كان أول شيء عمله آدم عليه السلام حين أهبط من السماء طاف بالبيت الحرام، فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم فإنا قد طفنا بهذا البيت قبلك بألفي سنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 22، 222، أخبار مكة للأزرقي 1/ 33، 34. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 39. ذكر طواف بعض الجن والدواب والطير بالكعبة: روينا في تاريخ الأزراقي خبرا فيه أن الجن طاف بالبيت سبعا، وصلى خلف المقام، ثم انقلب إلى أهله فقتله شاب من بني سهم، فثارت بمكة غيرة وفتنة بين الجن وبين بني سهم1. وروينا في تاريخ الأزرقي أيضا خبرًا فيه: أن أنمار وهي الحية الذكر طاف بالبيت سبعا وصلى ركعتين وراء المقام، ثم كوم برأسه كومة بطحاء فوضع ذنبه عليها، فسما إلى السماء فما رُئي. وروين في تاريخ الأزرقي: أن طيرا طاف على منكب بعض الحجاج أسابيع والناس ينظرون إليه وهو مستأنس منهم، ثم طار وخرج من المسجد الحرام، وذلك في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائتين2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 15، 19. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 17، 18، وإتحاف الورى 2/ 294، 295. ج / 1 ص -244- ما جاء من أن شرعية الطواف لإقامة ذكر الله: روينا في مسند الدارمي بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما جعل الطواف بالبيت، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، لإقامة ذكر الله، وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه1، وأخرج المحب الطبري في "القرى" عنها مرفوعا، وزاد بعد قوله: "ذكر الله تعالى": وإن لم يقترن بها ذكر بالقول، ثم قال: وينبغي للذاكر في الطواف والتالي أن لا يزيد في رفع صوته على إسماع نفسه لئلا يشوش على غيره، واستدل على ذلك بما يقوم به الحجبة، ثم قال: وفي معنى الطائف من كان في المسجد قريبا من الطواف، ينبغي له أن لا يرفع صوته بتلاوة ولا ذكر؛ لئلا يشوش على الطائفين2... انتهى باختصار، وهو كلام متجه، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه أبو داود "باب في الرمل 2/ 179 بلفظه"، والترمذي "ما جاء كيف يرمي الجمار" 3/ 246، ولفظه "إنما جعل رمي الجمار والحصى بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله" وقال الترمذي: "حسن صحيح". 2 القرى "ص: 312". ذكر ثواب النظر إلى الكعبة: تقدم في هذا المعنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في تنزل الرحمات، وفيه: "عشرون للناظرين". وروينا في تاريخ الأزرقي عن عطاء قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: النظر إلى الكعبة محض الإيمان1. وروينا فيه عن إبراهيم النخعي: أن حماد بن أبي سلمة قال: الناظر إلى الكعبة كالمجتهد في العبادة في غيرها. وروينا فيه عن يونس بن حبان قال: النظر إلى الكعبة عبادة فيما سواها من الأرض، عبادة الصائم القائم الدائم القانت2. وروينا فيه عن مجاهد قال: النظر إلى الكعبة عبادة3. وروينا عن سعيد بن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه4. وروينا عن أبي السائب المديني، قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا تحاتت عنه الذنوب كما يتحات الورق من الشجر5. وروينا فيه عن زهير بن محمد قال: الجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت6. وروينا فيه عن عطاء قال: النظر إلى البيت عبادة، والنظر إلى البيت كمنزلة الصائم القائم الدائم المخبت المجاهد في سبيل الله عز وجل7. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 6 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. 7 أخبار مكة للأزرقي 2/ 9. ج / 1 ص -245- ذكر ثواب الحج والعمرة: وروينا في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغيرهم أخبارا كثيرة مشهورة ثابتة، منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه، واللفظ للبخاري1. وفي رواية لمسلم: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه"2. ورواه النسائي3 فقال: "من حج أو اعتمر"... الحديث. والرفث: الجماع، قاله ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم. وقيل: اسم لكل لهو وخِنا وزُور وفجور بغير حق. والفسوق: المعاصي، قاله ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. ومنها: ما روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه4، ومعنى ليس له جزاء إلا الجنة: أنه لا يقتصر فيه على تكفير الذنوب بل لا بد أن يبلغ به الجنة. ومنها: ما رويناه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجة المبرورة تكفر خطايا سنة" أخرجه ابن حبان في صحيحه5. ومنها: ما رويناه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الحج يهدم ما قبله". رواه مسلم. ومنها: ما رويناه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه البخاري "1521"، ومسلم "1350"، وأحمد 2/ 484، والدارقطني "2519"، والبغوي في شرح السنة "1814"، والبيهقي 5/ 262، والطيالسي "2519"، وابن حبان "3694"، وابن ماجه "2889"، النسائي "2626". 2 أخرجه مسلم "الحج: 1349". 3 أخرجه النسائي 5/ 112، 115 في الحج باب "فضل الحج المبرور، وباب فضل العمرة". 4 أخرجه البخاري "باب العمرة" 3/ 2، مسلم 4/ 107. 5 أخرجه أحمد 2/ 258. ج / 1 ص -246- والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" رواه الترمذي، وصححه النسائي، وابن ماجه، في سننهما1. وفي رواية لابن أبي خيثمة والطبراني: "تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة ما بينهما يزيد في العمر والرزق"2. ومنها: ما رويناه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفد الله تعالى ثلاثة: الغازي، والحاجّ، والمعتمر" أخرجه النسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه على شرط مسلم، وزاد ابن حبان في بعض طرقه: "دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم"3. وفي رواية لابن ماجه: "الحاج والمعتمر وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم"4. ومنها: ما رويناه في سنن البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج" صححه الحاكم5 رضي الله عنهما. ومنها: ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" كذا رويناه عن الطبراني6، وقال الحاكم: إن هذه الرواية صحيحة على شرط البخاري ومسلم، والحديث في الصحيحين بغير لفظة: "معي" إلا أنه في طريق لمسلم: "عمرة في رمضان تقضي حجة. أو حجة معي"، والأخبار الواردة في فضل العمرة والحج كثيرة جدا فلا نطوّل عليها، وفيما ذكرناه من ذلك كفاية إذ القصد الاختصار، والله الموفق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: الترمذي "807"، أحمد 1/ 387، والنسائي "2630"، والطبراني في الكبير "10406"، وابن خزيمة "2512"، وأبو نعيم في الحلية 4/ 110، وابن ماجه "2886"، وابن حبان "3693". 2 أخرجه: الطبراني في الكبير 10/ 230، وابن ماجه "2887"، وأبو يعلى "4955"، والبيهقي في الشعب "4095"، وأخبار مكة للفاكهي "1/ 404، وأحمد 1/ 25، وابن عدي في الكامل 5/ 186، وذكره السيوطي في الكبير 1/ 463، وعزاه لأبي يعلى، والضياء المقدسي، وابن أبي عمر في مسنده. 3 أخرجه ابن حبان "3693". 4 أخرجه: ابن ماجه "2892"، وموارد الظمآن "ص: 240"، الحاكم في مستدركه 1/ 441، ووافقه الذهبي. 5 أخرجه: البيهقي في مسنده 5/ 261 من طريق الحاكم، والمستدرك 1/ 441. 6 أخرجه: الطبراني في الكبير "11299"، والبخاري "1782"، ومسلم 3/ 200، وابن ماجه "2992"، وأبو داود "1990"، وابن خزيمة "3077"، وابن حبان "3700". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -247- الباب الثالث عشر: في الآيات المتعلقة بالكعبة: للكعبة المعظمة آيات بينات، منها: بقاء بنائها الموجود الآن، وهو لا يقتضي أن يبقى هذه المدة على ما بلغني عن بعض مهندسي عصرنا، قال: وإنما بقاؤها آية من آيات الله تعالى... انتهى. ولعمري إنه لصادق، فإن من المعلوم ضرورة أن الريح والمطر إذا تواليا أياما على بناء تخرب، ومن المعلوم ضرورة أن الكعبة المعظمة ما زالت الرياح العاصفة، والأمطار الكثيرة المهولة، تتوالى عليها منذ بنيت وإلى تاريخه، وذلك سبعمائة سنة وخمسون سنة، ولم يحدث فيها بحمد الله تغير أدى إلى خللها، وغاية ما يحدث فيها انكسار فلقة من الركن اليماني، وتحرك البيت مرارا، لأن الشيخ شهاب الدين أبا شامة المقدسي قال في "ذيل الروضتين" له في أخبار سنة اثنين وخمسمائة: وفيها وقع من الركن اليماني قطعة، وتحرك البيت مرارا، وهذا شيء لم يعهد1... انتهى. وقال ابن الأثير في أخبار سنة خمس عشر وخمسمائة: فيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام زاده الله شرفا من زلزلة وانهدم بعضه2. وذكر مثل ذلك المؤيد صاحب حماه في أخبار سنة خمس عشرة وخمسمائة3. وذكر صاحب "مرآة الزمان": أنه في سنة سبع عشرة وأربعمائة تشعث البيت الحرام4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شذرات الذهب 4/ 308، والنجوم الزاهرة 6/ 139، وإتحاف الورى 2/ 562، والذيل على الروضتين "ص: 8" وفي الأخيرين: "وتجرد البيت مرارا". 2 الكامل لابن الأثير 10/ 226، والبداية والنهاية 12/ 188، وإتحاف الورى 2/ 498. 3 المختصر في أخبار البشر 2/ 235. 4 إتحاف الورى 2/ 454. ج / 1 ص -248- وقال أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك": وحدث جماعة: أن في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة انكسرت من الركن اليماني فلقة قدر أصبع، وغفل الناس عن شدها فصارت عند قوم من أهل مكة من الحسنيين، فوقع بمكة وباء عظيم عام، وموت، وكان لا يلبث المريض فوق ثلاثة أيام، وهلك من أهل الدار الذي اتهم أن الفلقة فيها ثمانية عشر إنسانا، فرأي بعض الصالحين المجاورين من أهل خراسان في نومه أن يتفقد ما ذهب من الكعبة ويرد فيرفع الله عنهم الوباء، فردت إلى موضعها فارتفع الوباء1. هذا ما علمته من التوهن الذي أصاب الكعبة، ولا تزال إن شاء الله باقية إلى أن ينفذ فيها أمر الله من تخريب الحبشي لها في آخر الزمان كما سبق بيانه في "الباب الثامن". ومن الآيات المتعلقة بالكعبة المعظمة على ما قال الحافظ: أنه لا يرى البيت الحرام أحد ممن لم يكن يره إلا ضحك أو بكى. ومنها: أن الفرقة من الطير من الحمام وغيره ليقبل حتى إذا كادت تبلغ الكعبة انفرقت فرقتين فلم يعْلُ ظهرها شيءٌ منها. ذكر ذلك الجاحظ، وقال: قالوا. وذكر ذلك أبو عبيد البكري جزما، لأنه قال: ومن عجائب مكة: أن الحمام وجميع الطير تمر في طيرانها، فإذا قارب أن تحاذي الكعبة أخذت يمينا وشمالا. ومنها: على ما قال الجاحظ: أنه لا يسقط على ظهر الكعبة من الحمام الذي قد أمن إلا وهو عليل أو مريض... انتهى. وذكر ابن الحاج معنى هذا، لأنه قال لما ذكر الآيات المتعلقة بالبيت: ومنها: أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ويعلوه مريضا للشفاء. وذكر ذلك أبو عبيد البكري، لأنه قال: ومن عجائب مكة أن الحمام وجميع الطير لا يعلوها البتة ولا ينزل على جدرها إلا أن يكون مريضا، فيفعل ذلك مستشفيا، والطير ينزل على سائر جدر المسجد، وقبة زمزم وغيرها. وذكر بعضهم أن الطير إذا نزل على الكعبة إما يشفى أو يموت لحينه، وذكر هذه الآية المحب الطبري قال: ولولا ذلك لكانت ستارته يعني البيت الحرام مملوءة من قذرهن كنجوها، مما يتعذر الجلوس عليه. ومنها: على ما ذكر ابن الحاج عن بعض المفسرين: أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان ناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان الخصب بجميع البلدان. وذكر ذلك أيضا المحب الطبري بمعناه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 4/ 460، ودرر الفراقد "ص: 54". ج / 1 ص -249- وذكر ذلك الجاحظ، إلا أنه خالف في بعض ذلك لأنه قال: وإذا أصاب في أول السنة المطر باب الكعبة من شق العراق كان الخصب تلك السنة بالعراق، وإذا أصاب شق الشام كان الخصب في تلك السنة في الشام، وإذا عم جوانب البيت عم الخصب الجميع. ومنها: أن مفتاح الكعبة إذا وضع في فم الصغير الذي ثقل لسانه عن الكلام يتكلم سريعا ذكر ذلك الفاكهي في "أخبار مكة"، لأنه قال: وكان من سنة المكيين وهم على ذلك إلى اليوم إذا ثقل لسان الصبي المولود وأبطأ كلامه عن وقته جاءوا به إلى حجبة الكعبة، فسألوهم أن يدخلوا مفتاح الكعبة في فمه، فيأخذونه1 الحجبة فيدخلونه خزانة الكعبة، ثم يغطون وجهه، ثم يدخل مفتاح الكعبة في فمه، فيتكلم وينطلق لسانه، ويتكلم سريعا بإذن الله تعالى وذلك مجرب بمكة إلى يومنا هذا... انتهى. وأهل مكة يفعلون ذلك إلى الآن. ومنها: أنها تفتح بحضرة خلق كثير إلى الغاية ويدخلها الجميع متزاحمين، ويصلون فيها أجمع، وتسعهم بقدرة الله تعالى، وما علمت أن أحدا مات من الزحام إلا خمسة وثلاثين نفرا ماتوا دفعة واحدة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة على ما ذكره أبو شامة في "الروضتين"2 نقلا عن ابن القادسي، عن الحجاج في هذه السنة، وذكر ذلك أيضا ابن البزوري في "ذيل المنتظم" وعزاه للحجاج. ومنها على ما قيل: إنها منذ خلقها الله تعالى لم تخل من طائف من الإنس أو الجن أو الملائكة، ذكر ذلك المحب الطبري وابن جماعة. وسبقهما إلى مثل ذلك السهيلي، وأفاد في ذلك خبرا غريبا، لأنه قال لما ذكر بناء ابن الزبير للكعبة، وفي الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد، فطاف الناس بتلك الأستار، فلم تخل قط من طائف، حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب، واشتغل الناس، فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها3... انتهى. ومنها: ما قال ابن الحاج: وذكر ابن أبي خيثمة قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا ثابت بن يزيد قال: حدثنا هلال بن حبان، عن عمرو بن ميمون قال: رأيت دخان البيت لا يشد يمينا ولا شمالا، ولا قدام ولا خلف، يصعد في السماء... انتهى. ولعل المراد بالدخان: دخان ما يجمر به الكعبة، والله أعلم. ومنها: وقع هيبتها في القلوب. ومنها: حفظها من الجبابرة وتذللهم لها، والانتقام ممن أرادها بسوء، كما جرى لتبع، والهذليين، وأصحاب الفيل، وغيرهم ممن أساء الأدب فيها. ونشير هنا لشيء من ذلك على سبيل الاختصار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، وهي لغة أكلوني البراغيث. 2 ينقل الفاسي هنا عن القسم المفقود من كتاب الروضتين، وهذا الخبر موجود في "العقد الثمين" 1/ 189، ودرر الفرائد "ص: 265"، وإتحاف الورى 2/ 554. 3 الروض الأنف 1/ 221. ج / 1 ص -250- ذكر خبر تبع والهذليين: لما أقبل تبع وهو معان أسعد الحميري ملك اليمن من الشرق وجعل المدينة النبوية على طريقه لقضاء وطر له بها، ثم توجه منها إلى مكة، لأنها طريقه لبلده، فلما كان بين أَمَج1 وعُسْفان2 لقيه نفر من هذيل من بني لحيان، فحسنوا له تخريب الكعبة، وأن يبني عنده بيتا يصرف إليه الحج، فعزم على ذلك، فدقت بهم دوابهم، وغشيتهم ظلمة شديدة وريح، فدعى أحبارا كانوا معه من أهل الكتاب فسألهم، فقالوا: هل هممت لهذا البيت بسوء؟ فأخبرهم بما قال له الهذليون، وما أراد أن يفعل، فقالوا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك من معك، هذا بيت الله لم يرده أحد بسوء إلا هلك، قال: فما الحيلة؟ قالوا: تنوي له خيرا أن تعظمه، وتكسوه وتنحر عنده، وتحسن إلى أهله، ففعل، فانجلت عنهم الظلمة، وسكنت عنهم الريح، وانطلقت بهم دوابهم وركابهم، فأمر تبع بالهذليين فضربت أعناقهم وصلبهم، وسار حتى قدم مكة فأقام بها أياما ينحر كل يوم مائة بدنة، وكسا البيت. هذا ملخص بالمعنى مختصر من كتاب الأزرقي. وذكر الفاكهي أخبارا من خبر تبع، منها: أنه قال: حدثني حسن بن حسين الأزدي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، عن هشام بن الكلبي قال: أخبرني جرير بن يزيد البجلي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: لما أقبل تبع يريد هدم البيت وصرف وجوه العرب إلى اليمن، فبات صحيحا، فأقبل وقد سالت عيناه على خديه، فبعث إلى الأحبار والسحرة والكهان والمنجمين فقال: ما لي؟ فوالله لقد بت ليلتي وما أجد شيئا، ثم صرت إلى ما ترون! فقالوا: لعلك حدثت نفسك لهذا البيت بسوء؟ فقال: نعم. قالوا: فحدث نفسك أن تصنع به وبأهله خيرا، ففعل، وقد رجعت عيناه فارتد بصيرا، وكسى البيت الخصف3... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أمج: بفتح الهمزة والميم، بلد من أعراض المدينة، وقيل: واد يأخذ من حرة بني سليم ويفرغ في البحر "معجم البلدان 1/ 250". 2 عسفان: بضم أوله وسكون ثانيه. من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة "معجم البلدان 4/ 121". 3 أخبار مكة للفاكهي 5م 160، 161. ج / 1 ص -251- وقال السهيلي: وروى نقلة الأخبار: أن تبعا لما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمي بداء تمحص منه رأسه قيحا وصديدا يثج ثجا، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح، وقيل: بل أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه وجلده، وأصابتهم ظلمة شديدة، حتى دفت خيلهم، فسمى ذلك المكان الدف1، فدعا بالجزاة2 والأطباء فسألهم عن ذلك3، فهالهم ما رأوا منه، ولم يجد له عندهم فرجا، فعند ذلك قال له الحبران: لعلك هممت بشيء في أمر هذا البيت؟ فقال: نعم، أردت هدمه، فقالا له: تب إلى الله مما نويت، فإنه بيت الله تعالى، وحرمه، وأمراه بتعظيم حرمته، ففعل ذلك فبرئ من دائه، وصح من وجعه. قال السهيلي: وأخلق بهذا الخبر أن يكون صحيحا فإن الله سبحانه عز وجل يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] أي: ومن هم فيه بظلم، ثم قال: وقال العتبي: كانت قصة تبع قبل الإسلام بسبعمائة عام4... انتهى. وهذا الذي ذكره العتبي لعله أن يكون موافقا لما ذكره ابن إسحاق في "السيرة"، لأنه قال: فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم... انتهى. ووجه موافقة ذلك لما ذكره العتبي: أن من ولاية جرهم إلى الإسلام المقدار الذي ذكره العتبي أو نحوه، فإن خزاعة ولوا البيت بعد جرهم خمسمائة سنة، وقيل دون ذلك على ما في خبرهم، وولاية قريش لأمر مكة قبل الإسلام ما يقصر عن مائة سنة، وربما كانت أزيد من ذلك، وأي ذلك كان فهو المقدار الذي ذكره العتبي أو غيره، ويعكر على ما في "السيرة" لابن إسحاق من أن قصة تبع مع الهذليين كانت في زمن جرهم على ما نقله الأزرقي عن إسحاق؛ لأنه قال في خبر تبع: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج: قال أخبرنا ابن إسحاق قال: سار تبع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها وتخريبها، وخزاعة يومئذ تلي البيت وأمر مكة، فقامت خزاعة دونه فقاتلت عنه أشد القتال حتى رجع، ثم تبع آخر فكذلك، ثم قال: فأما تبع الثالث الذي أراد هدم البيت فإنما كان في أول زمان قريش، قال: وكان سبب خروجه وسيره أن قوما من هذيل من بني لحيان جاءوه فقالوا: إن بمكة بيتا تعظمه العرب جميعا. فذكر القصة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الدف: موضع في جمدان من نواحي المدينة عسفان. 2 الحزاة: جمع حاز، وهو الذي يزجر الطير ويستدل بأصواتها ومرورها وأسمائها. 3 كذا في الأصل، وفي الروض الأنف 1/ 39: "دائه". 4 الروض الأنف 1/ 39، 40. ج / 1 ص -252- ونقل عن ابن جريج، وابن إسحاق عن تبع الثالث ما يوافق ذلك، لأنه قال في باب ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام وأمر مكة بعد خزاعة بعد أن روى بسنده السابق عن ابن جريج وابن إسحاق: وأما تبع الثالث الذي نحر له، وكساه، وجعل له غلقا، وأقام عنده أياما ينحر كل يوم بُدنة، إلى أن قال: إنما كان في عهد قريش1... انتهى. فبان بهذا الاختلاف كلام ابن إسحاق في زمن قدوم تبع إلى مكة، هل هو في زمن جرهم، أو في أول زمن قريش. وذكر السهيلي فوائد تتعلق بهذا الخبر يحسن ذكرها هاهنا، منها: أن اسم أحد الحبرين المشار إليهما في خبر تبع: "سحيت" والآخر "منبه"، وعزا ذلك لقاسم بن ثابت، قال: في رواية يونس عن ابن إسحاق قال: واسم الحبر الذي كلم الملك "بليامن". ومنها: أنه قال: ومعنى تبع في لغة اليمن الملك: المتبوع. وقال المسعودي: لا يقال لملك تبع حتى يملك اليمن، والشحر، وحضرموت. وأول التابعة الحارث الرائش... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 1/ 132. ذكر خبر أصحاب الفيل: ذكر هذا الخبر جماعة من العلماء مطولا ومختصرا، كما ذكرته في أصل هذا الكتاب، واقتصرت هنا من ذلك على ما ذكرته عن الإمام أبي القاسم الزمخشري لحسن اختصاره مع ما فيه من الفوائد، ونص كلامه: روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء، وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا، فأغضبه ذلك، وقيل: أججت رفقة من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمن الكعبة، فخرج من الحبشة ومعه فيل اسمه محمود، وكان فيلا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره، وقيل: ثمانية، وقيل: كان معه ألف فيل، وقيل: كان وحده، فلما بلغ المغمس1خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، وعبأ جيشه، فقدم الفيل، فكانوا إذا وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل الله إليه طيرا سوداء، وقيل: خضراء، وقيل: بيضاء، مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، ثم قال: فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المغمس: بفتح الميم الأولى وضمها، واد قريب من مكة من ناحية الشرق "الروض الأنف 1/ 68". ج / 1 ص -253- اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا في كل طريق وسهل، وأما أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع الحجر عليه فخر ميتا بين يديه، وذكر أن أهل مكة احتووا على أموال الحبشة، وأن عبد المطلب جمع من جواهرهم وذهبهم ما كان سبب يساره1... انتهى باختصار. وقال السهيلي: وكانت قصة الفيل في أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين2. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما الخوارزمي محمد بن موسى فقال: كان قدوم الفيل مكة وأصحابه لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم. قال: وقد قال ذلك غير الخوارزمي، وزاد: يوم الأحد، قال: وكان أول المحرم تلك السنة يوم الجمعة. ونقل الحافظ الدمياطي عن أبي جعفر محمد بن علي: أن قدوم الفيل كان في النصف من المحرم... انتهى. فيتحصل من هذا أن في تاريخ قدوم الفيل من شهر المحرم ثلاثة أقوال: هل هو أوله، أو نصفه، أو لثلاث عشرة ليلة بقيت منه؟ والله أعلم بالصواب. هلاك من أراد الكعبة بسوء3: وجاء في هلاك من أراد الكعبة بسوء أخبار أُخر: منها: ما رويناه عن أم المؤمنين أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليخسفن بقوم يؤمون البيت ببيداء من الأرض"4. ومن الأخبار الواردة في الانتقام ممن أساء الأدب في الكعبة أو حولها: ما رويناه في "السيرة" لابن إسحاق وغير ذلك عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين5، والله أعلم. ومن ذلك: ما رويناه في المعجم الكبير للطبراني عن حويطب بن عبد العزى قال: كنا جلوسا بفناء الكعبة في الجاهلية فأتت امرأة تعوذ بها من زوجها، فمد يده إليها فيبست، فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل6... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 68- 71. 2 الروض الأنف 1/ 71. 3 ما بين القوسين عنوان من وضع المحقق. 4 أخرج نحوه الأزرقي 2/ 23، وانظر مثير الغرام "ص: 291". 5 سيرة ابن هشام 3/ 291. 6 المعجم لكبير للطبراني 1/ 231، وعبد الرزاق "8866" لكن قال إن العائذ أَمَةٌ، وأن الذي جذبه سيدتها، والأزرقي 2/ 25. ج / 1 ص -254- ومن ذلك: ما رويناه في تاريخ الأزرقي في خبر ذكره عن ابن جريج فيه شيء من خبر الحمس وغيرهم، لأن فيه قال: وجاءت امرأة أيضا تطوف عريانة، وكان لها جمال، فرآها رجل فأعجبته، فدخل الطواف فطاف إلى جنبها لأن يسمها، فأدنى عضده من عضدها، فخرجا من المسجد من ناحية بنى سهم هاربين على وجوههما، فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش خارجا من المسجد فسألهما عن شأنهما، فأخبراه بقصتهما، فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابهما فيه ما أصابهما ليدعوان الله تعالى ويحلفان أن لا يعودا فرجعا إلى مكانهما فدعوا الله سبحانه وتعالى وأخلصا النية في أن لا يعودا، فافترقت أعضادهما، فذهب كل واحد منهما في ناحية1... انتهى. وذكر المحب الطبري هذا الخبر مختصرا وعزاه لابن الجوزي، وعزاه ابن الجوزي لغير ابن جريج، فنذكر ذلك كما هو مذكور في "القرى" ولفظه فيه: وعن مسعر، عن علقمة بن مرثد قال: بينما رجل يطوف بالبيت إذ برق له ساعد امرأة، فوضع ساعده على ساعدها متلذذا به، فلصقت ساعداهما، فأتى بعض الشيوخ فقال: ارجع إلى المكان الذي فعلت فيه فعاهد رب البيت ألا تعود، ففعل فخلي عنه2... انتهى. وذكر السهيلي هذا الخبر مختصرا، وفيه ما يفهم منه غير ما سبق، فاقتضى ذلك ما قاله، لأنه قال بعد أن ذكر شيئا من خبر الحمس والحلة وطواف الحلة بالبيت عراة، ومما ذكر من تعريهم في الطواف، أن رجلا وامرأة طافا كذلك، فانضم الرجل إلى امرأة تلذذا واستمتاعا، فلصق عضده بعضدها ففزعا عند ذلك، وخرجا من المسجد وهما ملتصقان، فلم يقدر أحد على فك عضده من عضدها حتى قال لهما قائل: توبا مما كان في ضميركما، وأخلصا لله التوبة. ففعلا، فانحل أحدهما عن الآخر3... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 177. 2 القرى "ص: 272"، ومثير الغرام "ص: 291" وأخرجه عبد الرزاق "8867". 3 الروض الأنف 1/ 232. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -255- الباب الرابع عشر: في ذكر شيء من أخبار الحجر الأسود: روينا في تاريخ الأزرقي" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن الله تعالى أنزل الركن يعني الحجر الأسود والمقام مع آدم عليه السلام ليلة نزل ليستأنس بهما، وأنه كان يأنس بالحجر1. وروينا فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا استلام هذا الحجر فإنه يوشك أن يفقد" وفيه ما يقتضي أنه يرفع إلى الجنة. وروينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يرفع الركن والمقام". وروينا فيه عن ابن إسحاق وغيره: أن الله عز وجل استودع الركن أبا قبيس حين غرق الأرض زمن نوح عليه السلام وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له، فلما بنى الخليل عليه السلام البيت جاءه جبريل عليه السلام بالحجر الأسود، فوضعه الخليل موضعه من البيت... انتهى. وقيل: إن إلياس بن مضر أول من وضع الحجر للناس بعد الغرق، ذكره الزبير بن بكار، وهذا يخالف ما سبق، والله أعلم. وقال ابن إسحاق بعد أن ذكر إخراج بني بكر بن عبد مناة بن كنانة وغبشان بن خزاعة لجرهم من مكة: فخرج عمرو بن الحارث بن مُضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنهما في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن. وذكر الزبير بن بكار معنى ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 342. ج / 1 ص -256- وقال القطب: وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقي في "مغازيه": عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها حدثت: أن جُرهما كانت أهل البيت، وهم العرب الذين كانوا يتكلمون بالعربية، ونكح إليهم إسماعيل عليه السلام فأحلوا حرم البيت، واقتتلوا، حتى كادوا يتفانون، فسلط الله عليهم العرب، فخرجوا من مكة إلى اليمن. وكان حول البيت غيضة، والسيل يدخله، ولم يُرفع البيت حينئذ، فإذا قدم الحاج وطئوه حتى يذهب الغيضة، فإذا خرجوا بنيت، فقدم قصي فقطع الغيضة، وابتنى حول البيت دارا، ونكح حبى بنت حُليل، فولدت له عبد الدار بن قصي، أول ما ولدت، فسماه عبد الدار، بداره تلك، وجعل الحجابة له، لأنه أكبرهم، وعبد مناف بمناف، وجعل السقاية له، والرفادة، ودار الندوة لعبد العزى، واللواء لعبد قصي، ويقال: عبد بن قصي. فقال قصي لامرأته قولي لجدتك تدل بنيك على الحَجَر، فلم يزل بها حتى قالت: إني أعقل أنهم حين خرجوا إلى اليمن سرقوه، ونزلوا منزلا وهو معهم، فبرك الجمل الذي عليه، فضربوه فقام، ثم سار فبرك فضربوه فقام، فبرك الثالثة، فقالوا: ما برك إلا من أجل الحجر، فدفنوه وذلك في أسفل مكة، وإني أعرف حيث برك. فخرجوا بالحديد، وخرجوا بها معهم، فأرتهم حيث برك أولا: وثانيا، وثالثا، فقالت: احفروا هاهنا، فحفروا حتى يئسوا منه، ثم ضربوا فأصابوه وأخرجوه، فأتي به قصي، فوضعه في الأرض، وكانوا يتمسحون به وهو في الأرض، حتى بنى قصي البيت، ومات قصي ودفن بالحجون... انتهى. وذكر هذا الخبر الإمام الفاكهي، ويبعد أن يكون صحيحا، لأنه يقتضي أن جرهما دفنوا الحجر في غير زمزم، والمعروف في دفنهم له أنه في زمزم كما سبق قريبا عن ابن إسحاق وغيره. والمعروف أن القصة التي في هذا الخبر في دفن الحجر اتفقت لبني إياد بن نزار حين خرجوا من مكة، وأن الحجر لم يستمر مدفونا إلى عهد قصي، لأن امرأة من خزاعة أبصرته حين دفن، وأخبرت بذلك قومها، فأعلم قومهم بذلك مضر، على أن تكون ولاية البيت لخزاعة، وهذا مذكور في خبر ذكره الفاكهي عن الكلبي، والزبير بن بكار، لأنه قال: فحدثنا الزبير بن بكار قال: لما هلك وكيع الإيادي واتضعت إياد، وهي إذ ذاك تلي أمر بيت الله الحرام، قاتلوهم وأخرجوهم وأجلوهم ثلاثا، يخرجون عنهم، فلما كانت الليلة الثالثة حسدوا مضرا أن تلي الركن الأسود، فحملوه على بعير فبرك، فلم يقم، فغيروه، فلم يحملوه على شيء إلا رزح وسقط، فلما رأوا ذلك بحثوا له تحت شجرة فدفنوه ثم ارتحلوا من ليلتهم، فلما كان بعد يومين افتقدت مضر الركن، فعظم في ج / 1 ص -257- أنفسها، وقد كانت شرطت على إياد كل امرأة متزوجة فيهم، فكانت امرأة من خزاعة فيما يقولون يقال لها: قدامه، متزوجة في إياد. ثم قال: فأبصرت إياد حين دفنت الركن -أجمع الزبير، وابن الكلبي في حديثهما كل واحد فيهم بنحو من حديث صاحبه فقالت لقومها حين رأت مشقة ذهاب الركن على مضر: خذوا عليهم أن يولوكم حجابة البيت، وأدلكم على الركن، فأخذوا بذلك عليهم. ثم قال: فدلتهم عليه، فابتحثوه فأعادوه في مكانه وولوهن فلم يبرح في أيدي خزاعة حتى قدم قصي بن كلاب، فكان من أمره الذي كان1... انتهى. وهذا الخبر أقرب إلى الصحة من الخبر الذي ذكره ابن عائذ، لما تقدم من أن المعروف في القصة التي ذكرها أنها اتفقت لإياد لا لجرهم، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 146، 147. ذكر ما أصاب الحجر الأسود في زمن ابن الزبير، وما صنع فيه من الفضة في زمنه وزمن هارون الرشيد: روينا في تاريخ الأزرقي خبر بناء ابن الزبير الكعبة، رواه الأزرقي عن جده، عن سليم بن سالم، عن ابن جريج، عن غير واحد من أهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير للكعبة، قال فيه: وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل بني شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة إلى تلك الشظية من أعلاه بين موضعها في أعلا الركن1.. انتهى. وروينا في تاريخ الأزرقي عن جده قال: كان ابن الزبير ربط الركن الأسود بالفضة لما أصابه من الحريق، وكانت الفضة قد تزلزلت ونزعت وتعلقت حول الحجر حتى خافوا عليه أن ينقض، فلما اعتمر هارون الرشيد وجاور في سنة تسع وثمانين ومائة أمر بالحجارة التي بينها الحجر الأسود، فنقبت بالماس من فوقها ومن تحتها، ثم أفرغ فيها الفضة2 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الخبر في أخبار مكة للأزرقي 1/ 208، 209. 2أخبار مكة للأزرقي 1/ 210. ذكر ما أصاب الحجر الأسود في فتنة القرمطي وأخذهم له: ذكر أهل التاريخ: أن عدو الله أبا طاهر القرمطي وافى مكة في سابع ذي الحجة، وقيل: في ثامنه، سنة تسع عشر وثلاثمائة، وفعل فيها هو وأصحابه أمورا منكرة، منها: أن بعضهم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره، ثم قلعه، وقيل: قلعه جعفر بن فلاح البناء بأمر أبي طاهر يوم الاثنين بعد الصلاة لأربع عشر خلت من ذي الحجة، وذهب به معه إلى بلاده هجر1، وبقي موضعه من الكعبة المعظمة خاليا يضع الناس فيه أيديهم للتبرك إلى حين رد إلى موضعه من الكعبة المعظمة، وذلك في يوم الثلاثاء يوم النحر من سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، على ما ذكره المسبحي، وذكر أن الذي وافى به مكة "سنبر بن الحسن القرمطي"، وأن "سنبرا" لما صار بفناء الكعبة ومعه أمير مكة أظهر الحجر من سفط، وعليه ضباب فضة قد عملت من طوله وعرضه، تضبط شقوقا حدثت عليه بعد انقلاعه، وأحضر معه جصًّا يشد به، فوضع "سنبر" الحجر بيده، وشده الصانع بالجص، وقال "سنبر" لما رده: أخذناه بقدرة الله تعالى ورددناه بمشيئته. ونظر الناس إلى الحجر فتبينوه وقبلوه واستلموه وحمدوا الله تعالى2. وكان رد الحجر الأسود في موضعه قبل حضور الناس لزيارة الكعبة يوم النحر، وكان مدة كينونته عند القرمطي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام. هذا معنى كلام المسبحي. وكان بجكم3 التركي مدبر الخلافة ببغداد بذل للقرامطة على رد الحجر الأسود خمسين ألف دينار فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، ولا نرده إلا بأمر. وقيل: إن المطيع العباسي اشتراه بثلاثين ألف دينار من القرامطة. وكلام القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" صريح في أن المطيع العباسي اشتراه بهذا القدر من أبي طاهر القرمطي4، وفيه نظر، لأن أبا طاهر مات قبل خلافة المطيع في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة على ما ذكره ابن الأثير وغيره5، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هي الأحساء حاليا. 2 إتحاف الورى 2/ 394، 395، والنجوم الزاهرة 3/ 302، ودرر الفرائد "ص: 242، وتاريخ الخلفاء "ص: 399". 3 انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات 1/ 77، 78. 4 هداية السالك 3/ 1358. 5 الكامل لابن الأثير 8/ 147 وما بعدها، والبداية والنهاية 11/ 207، ودرر الفرائد "ص: 242"، وإتحاف الورى 2/ 391. ج / 1 ص -258- ذكر ما صنعه الحجبة في الحجر الأسود بإثر رد القرامطة له: ذكر المسبحي: أن في سنة أربعين وثلاثمائة قلع الحجبة الحجر الأسود الذي نصبه "سنبر" وجعلوه في الكعبة خوفا عليه، وأحبوا أن يجعلوا له طوقا من فضة يشد به1، كما كان قديما حين عمله ابن الزبير، فأخذ في إصلاحه صانعان حاذقان، فعملا له طوقا من فضة وأحكماه. ونقل المسبحي عن محمد بن قانع الخزاعي: أن مبلغا ما على الحجر الأسود من الطوق وغيره: ثلاثة آلاف وسبعة وتسعون درهما ونصف على ما قيل... انتهى. وهذه الحلية غير حلية الحجر الآن؛ لأن داود بن عيسى بن فليتة الحسني- أمير مكة- أخذ طوق الحجر الأسود قبيل عزله من مكة في سنة خمس وثمانين وخمسمائة على ما ذكر أبو شامة في ذيل الروضتين2، وذكر ذلك غيره. ولم أتحقق أن الحجر الأسود قلع من موضعه بعد رد القرامطة له إلى يومنا هذا، غير أن بعض فقهاء المصريين أخبرني أن الحجر الأسود قلع من موضعه في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة لتحليته في هذه السنة من الحلي التي أبدلها أمير سودون باشا3. ورأيت غير واحد من المكيين ينكر ما ذكره لي هذا الفقيه المصري، وهو يثبت ذلك ويقول: إنه شاهده مقلوعا. وقد سمع ذلك منه قبلي غير واحد من فقهاء مكة، وأخبرني بعضهم بذلك عنه، فسألت المخبر له فأخبرني به وحققه، وكان إخباره لنا بذلك في موسم سنة أربع عشرة وثمانمائة، لما ورد إلى مكة قاضيا للركب المصري هو الفقيه نور الدين المنوفي، وله إلمام بالفقه ويستحضر فيه بعض المختصرات، والله أعلم بصحة ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 النجوم الزاهرة 3/ 305، وتاريخ الخلفاء "ص: 399". 2 لم تصلنا حوادث هذه السنة من كتاب أبي شامة، فهي في القسم المفقود. 3 تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 158"، وإتحاف الورى 3/ 334. ج / 1 ص -259- ذكر ما أصاب الحجر الأسود بعد فتنة القرامطة من بعض الملحدة مثلهم: ذكر أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي: أنه في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة يوم النفر الأول، قام رجل فقصد الحجر الأسود، فضربه ثلاث ضربات بدبوس، وتبخشن وجه الحجر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظايا مثل الأظفار، وتشقق، وخرج مكسره أسمر يضرب إلى صفرة محببا مثل الخشخاش، فأقام الحجر على ذلك يومين، ثم إن بني شيبة جمعوا الفتات وعجنوه بالمسك واللمك، وحشوا الشقوق وطلوها بطلاء من ذلك... انتهى باختصار. وذكر ابن الأثير هذه الحادثة في أخبار سنة أربع عشرة وأربعمائة1، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الكامل لابن الأثير 9/ 124، وفيه أن هذه الحادثة كانت في سنة 413هـ، وهي كذلك في النجوم الزاهرة 4/ 251، والمنتظم 918، ودرر الفرائد "ص: 253"، وإتحاف الورى 2/ 450. ج / 1 ص -260- ذكر صفته وقدره وقدر ما بينه وبين الأرض: ذكر المسبحي: أن أبا الحسن محمد بن نافع الخزاعي دخل الكعبة فيمن دخلها للنظر إلى الحجر الأسود لما كان في الكعبة بإثر رد القرامطة له، وأنه تأمل الحجر الأسود، فإذا السواد في رأسه دون سائره أبيض، قال: وكان مقدار طوله فيما حررت مقدار عظم ذراع، أو كالذراع المقبوضة الأصابع، والسواد في وجهه غير ماض في جميعه... انتهى. وما ذكره العلوي في صفة الحجر يخالف هذا، والله أعلم. وذكر ابن عبد ربه في "العقد" ما يوافق ما ذكره الخزاعي في صفة الحجر الأسود وما يخالفه في مقدار طوله، لأنه قال: وذكر أيضا عن بعض المكيين حديثا يرفعه إلى شيخه: أنه نظر إلى الحجر الأسود بعد هدم ابن الزبير البيت، وزاد فيه، فقدروا طوله ثلاثة أذرع، وهو ناصع البياض فيما ذكروا إلا وجهه الظاهر، واسوداده فيما ذكروا -والله أعلم- لاستلام أهل الجاهلية له، ولطخه بالدم1... انتهى بنصه. وذكر الأزرقي: أن ذرع ما بين الحجر الأسود إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع2. وذكر ابن جماعة فيما أخبرني به عنه خالي أن ارتفاع الحجر من أرض المطاف: ذراعان وربع وسدس ذراع، بذراع القماش المستعمل بمصر في زمنه3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 العقد الفريد 6/ 258. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 289. 3 هداية السالك 3/ 1334. ج / 1 ص -261- ذكر شيء من الآيات المتعلقة بالحجر الأسود: للحجر الأسود آيات بينات: منها: حفظ الله تعالى له من الضياع منذ أهبط إلى الأرض، مع ما وقع من الأمور المقتضية لذهابه، كالطوفان، ودفن بني إياد. وذكر ابن جماعة: أن الحجر الأسود أزيل من موضعه غير مرة، ثم رده الله إليه، قال: وقع ذلك من جرهم، وإياد، والعماليق، والقرامطة1، ولم أر ما ذكره عن العماليق، والله أعلم. ومنها: أنه على ما قيل هلك تحته لما حمله القرامطة أربعون جملا، فلما أعيد حمل على قعود هزيل فسمن. ذكر هذا القول الذهبي. وقيل: هلك تحته لما حمل إلى هجر ثلاثمائة بعير، وقيل: خمسمائة بعير، والله أعلم. ومنها: أنه يطفو على الماء. ومنها: أنه لا يسخن من النار، ذكر هاتين الآيتين ابن أبي الدم في "الفرق الإسلامية"، فيما حكاه عنه ابن شاكر الكتبي المؤرخ، ونقل ذلك عن بعض المحدثين، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وقد بسطنا ذلك في أصل هذا الكتاب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 3/ 1358. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -262- الباب الخامس عشر: ذكر الملتزم: الملتزم: هو ما بين الحجر الأسود والباب، على ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تاريخ الأزرقي ويقال له: المدعا والمتعوَّذ، على ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما في تاريخ الأزرقي أيضا. وروينا عنه حديثا مرفوعا في استجابة الدعاء فيه1، ورويناه مسندا في "الأربعين المختارة" لابن مسدي، ولفظ الحديث علي ما رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء، وما دعا عبد الله تعالى فيه إلا استجاب له"1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 347. ذكر المستجار: هو ما بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في دبر الكعبة، هكذا سماه ابن جبير في رحلته1، والمحب الطبري في "القرى" وسبقهما إلى تسميته بالمستجار: الفقيه محمد بن سراقة في كتابه "دلائل القبلة" لأنه قال: وبين الركن اليماني وبين الباب المسدود في ظهر الكعبة أربعة أذرع، ويسمى ذلك الموضع المستجار من الذنوب... انتهى. ويقال له: المتعوذ، ويقال له: الملتزم، على ما روي عن ابن الزبير رضي الله عنهما ويقال: ملتزم عجائز قريش، على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما روينا ذلك عنهما في "تاريخ الأزرقي". وروينا فيه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من قام عند ظهر البيت فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه2. قال المحب الطبري: ومثل هذا القول من معاوية رضي الله عنه لا يكون إلا عن تلق من لسان النبوة3... انتهى. وروينا في "مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا: عن الشعبي قال: إن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وأخاه مصعبا، وعبد الملك بن مروان، وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم دعوا في هذا الموضع فلم يذهب الشعبي من الدنيا حتى رأي كلا منهم قد أعطي ما سأل، وبشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بالجنة، ورتب له، وكان دعا بها. وكان يقف للدعاء والتعوذ فيه جماعة من كبار السلف منهم: عمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد رحمهما الله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 65". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 348. 3 القرى "ص: 318". ج / 1 ص -263- ذكر الحطيم: اختلف في الحطيم وفي سبب تسميته بذلك، فقيل: إنه ما بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم وحجر إسماعيل، وهو مقتضى ما حكاه الأزرقي عن ابن جريج1. وفي كتب الحنفية أن الحطيم الموضع الذي فيه الميزاب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الحطيم الجدار. قال المحب الطبري: يعني جدار حجر الكعبة، قال: وقد قيل: الحطيم هو الشاذروان، سمي بذلك: لأن البيت رفع وترك هو محطوما، فيكون فعيلا بمعنى مفعول، قال: وقد قيل: لأن العرب كانت تطرح فيه ما طافت فيه من الثياب، فيبقى حتى يتحطم من طول الزمان، فيكون فعيلا بمعنى فاعل2... انتهى. وقيل في سبب تسميته: إنه سمي بالحطيم لأن الناس كانوا يحطمون هنالك بالإيمان، فقل من دعا هنالك على ظالم إلا هلك، وقل من حلف هنالك آثما إلا عجلت له العقوبة، روينا ذلك عنه في تاريخ الأزرقي3. ومن فضائل الحطيم: ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: وحدثني أحمد بن صالح قال: حدثنا محمد بن عبد الله عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنهما ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 23. 2 القرى "ص: 314". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 24. ج / 1 ص -264- قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أي البقاع خير؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قالت: قلت: يا رسول الله كأنك تريد بين الركن والمقام؟ قال صلى الله عليه وسلم "صدقت، إن خير البقاع وأطهرها وأزكاها وأقربها من الله ما بين الركن والمقام، وإن فيها بين الركن والمقام روضة من رياض الجنة، فمن صلى فيه أربع ركعات نودي من بطنان العرش: أيها العبد غفر لك ما قد سلف منك فاستأنف العمل"1... انتهى. ومن فضائل الحطيم: أن فيه قبر تسعة وتسعين نبيا، لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: حدثني جدي قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط، يقول عبد الله بن حمزة السلولي يقول: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، جاءوا حجاجا فقبضوا هنالك". وحدثني مهدي بن أبي المهدي قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محمد بن سابط، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيتعبد فيها النبي ومن معه حتى يموت، فمات بها نوح، وصالح، وشعيب، وقبورهم بين زمزم، والحجر"2. وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن في الحطيم قبر تسعين نبيا، وسمى منهم في هذا الخبر غير من لم يسم في الخبر الذي رواه عن ابن سابط، لأنه قال: وأخبرني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج فذكر أخبارا، ثم قال: قال عثمان: وأخبرني مقاتل قال: في المسجد الحرام بين زمزم والركن قبر تسعين نبيا، منهم هود، وصالح، وإسماعيل، وقبر آدم، وإبراهيم، وإسحاق، ويوسف عليهم السلام في بيت المقدس3... انتهى. وذكر الأزرقي خبرا يقتضي أن قبر إسماعيل في الحجر، وسنذكر هذا الخبر وغيره من الأخبار الموافقة له والمخالفة له في أخبار الحجر، وذلك في الباب السابع عشر من هذا الكتاب. وذكر الأزرقي خبرا يوهم أن في الحطيم قبور عذارى بنات إسماعيل عليه السلام لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه: حدثنا جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري أنه سمع ابن الزبير رضي الله عنهما على المنبر يقول: إن هذا المحدودب قبور عذارى بنات إسماعيل عليه السلام، يعني مما يلي الركن الشامي من المسجد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 468. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 68، ومثير الغرام "ص: 438". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 68، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 468. ج / 1 ص -265- الحرام، قال: وذلك الموضع يسوي مع المسجد. فلا ينشب أن يعود محدودبا منذ كان1... انتهى. وإنما كان هذا الخبر موهما لما ذكرناه، لأنه يحتمل أن تكون القبور المشار إليها مما يلي الركن الشامي من جهة الحجر الأسود، وأن تكون مما يلي الركن الشامي مما يلي الحِجر بسكون الجيم فعلى الاحتمال الأول تكون القبور المشار إليها في الحطيم وعلى الثاني لا تكون فيه، وذلك على اعتبار بناء الكعبة على أساس إبراهيم من جهة الحجر، وأما على اعتبار بنائها اليوم فقد تكون القبور المشار إليها في الحطيم على كلا الاحتمالين، والله أعلم. وقد ذكر هذا الخبر الفاكهي في "أخبار مكة" بنحوه، وذكر الخبر الذي رواه الأزرقي عن عبد الله بن ضمرة. وفي خبر الفاكهي: أن ابن ضمرة يرويه عن كعب يعني كعب الأحبار وابن سابط راوي الخبر ليس بصاحبي. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن فيما بين دار الندوة وباب بني سهم يعني باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة قبور قوم صالح الذين آمنوا به ورحلوا معه إلى مكة وأقاموا بها حتى ماتوا. قال: وكذلك فعل هود ومن آمن معه، وشعيب ومن آمن معه، عزا هذا الخبر لوهب بن منبه، وهو في تاريخ الأزرقي2، إلا أن في الخبر الذي ذكره الأزرقي: فتلك قبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين دار بني هاشم، كذا رأيته في نسختين من "تاريخ الأزرقي": ودار بني هاشم وصوابه: وباب بني سهم كما في خبر الفاكهي، لأن به يستقيم الكلام، والله أعلم. وهذه القبور وإن لم تكن في الحطيم فذكرها في أخباره لمناسبة، وهي كون الموطنين في المطاف، فيجتمع بذكر ذلك في هذه الترجمة شيء من فضل المطاف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 66، وأخبار مكة للفاكهي 2/ 123، ومسند عبد الرزاق 5/ 120، ومثير الغرام ص: 439. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 73، وأخبار مكة للفاكهي 2/ 34، ومثير الغرام ص: 438. ج / 1 ص -266- ذكر بقية المواضع بمكة وحرمها التي قيل إن الدعاء فيها مستجاب: روينا عن الحسن البصري في "رسالته" المشهورة أنه قال: ويقال يستجاب الدعاء بمكة في خمسة عشر موضعا: أولها: عند الملتزم الدعاء فيه يستجاب، وتحت الميزاب يستجاب، وعند الركن اليماني يستجاب، وعلى الصفا يستجاب، وعلى المروة يستجاب، وبين الصفا والمروة يستجاب، وبين الركن والمقام يستجاب، وفي جوف الكعبة يستجاب، وبمنى يستجاب، وبجَمْع يستجاب، وبعرفات يستجاب، وعند الجمرات الثلاث يستجاب. هكذا وجدت في نسختي من هذه "الرسالة"، وهي تقتضي أن المواضع المشار إليها أربعة عشر موضعا، والظاهر أنه سقط منها موضع يحتمل أن يكون خلف المقام، ويحتمل أن يكون في الطواف، لأنه روي عن الحسن البصري عد هذين الموضعين في المواضع التي يستجاب فيها الدعاء بمكة، وليس في الرواية التي ذكر فيها هذين الموضعين ذكر الركن اليماني، وفيها لفظتان مخالفتان للرواية التي ذكرناها في اللفظ. أحدهما: "وعند زمزم" والله أعلم عوض قوله: "بين الركن والمقام". واللفظة الأخرى: "وفي المزدلفة" عوض قوله: "وبجمع". وهذه الرواية ذكرها المحب الطبري في "القرى" وقال فيه: وروي عن الحسن البصري أن الحجر الأسود يستجاب عنده الدعاء. فتصير المواضع ستة عشر، وقال: وسيأتي في فضل التعوذ عند ظهر الكعبة موضع سابع عشر1... انتهى. قلت: الموضع الذي أشار إليه المحب هو المستجار الذي تقدم ذكره. وقال المحب: والظاهر من عموم هذا اللفظ تعميم الإجابة في هذه الأماكن، سواء كان متلبسا بنسك أو لم يكن، وهو كذلك إن شاء الله تعالى، وتخصيص بعض دون بعض خلاف الظاهر، وإذا ثبتت الخصوصية لذات المكان عمت جميع الأحوال، والله أعلم. قلت: فيما ذكره الحسن البصري من استجابة الدعاء عند جمرة العقبة نظر، لأن الإنسان مطلوب بأن لا يقف عندها للدعاء في زمن الرمي، فكيف يستجاب للإنسان فيما نهي عن فعله؟ إلا أن يكون مراده بقوله: إن الدعاء يستجاب عندها، أي قربها، ويدعو الداع وهو مارّ فيه والله أعلم. وذكر شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي أحسن الله إليه في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى" مواضع أخر بمكة وحرمها يستجاب فيها الدعاء، لأنه نقل عن النقاش المفسر أنه قال في "منسكه"، ويستجاب الدعاء في ثبير، عني ثيبر الذي يلحقه مغارة الفتح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعبد فيه قبل النبوة، وأيام ظهور الدعوة، ولهذا جاورت به عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أيام إقامتها بمكة، قال: وفي مسجد الكبش، زاد غيره: وفي مسجد الخيف، زاد آخر: وفي مسجد النحر ببطن منى، زاد ابن الجوزي: وفي مسجد البيعة2 وهو من منى، وغار المرسلات، ومغارة الفتح، لأنها من ثبير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 317". 2 مثير الغرام "ص: 344_ 345"، وأخبار مكة للفاكهي 4/ 26. ج / 1 ص -267- يعني الموضع الذي يقال له صخرة عائشة بمنى قال: وقال النقاش: يستجاب الدعاء إذا دخل من باب بني شيبة، وفي دار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ليلة الجمعة، وفي مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين عند الزوال، وفي دار الخيزران عند المجتبى بين العشائين، وتحت السدرة بعرفة وقت الزوال، وفي مسجد الشجرة يوم الأربعاء، وفي المتكأ غداة الأحد، وفي جبل ثور عند الظهر، وفي حراء وثبير مطلقا، قيل: وفي مسجد النحر... انتهى. قلت: وقع فيما ذكره شيخنا القاضي مجد الدين أن مسجد البيعة من منى وهو غير مُسَلَّم، لأنه من وراء العقبة التي هي حد منى بمقدار غلوة أو أكثر، ولعل من قال إن مسجد البيعة من منى يوهم أنه المسجد الذي عند جمرة العقبة وليس كذلك، لأن المعروف في مسجد البيعة أنه المسجد الذي من وراء العقبة الذي يكون على يسار الذاهب إلى منى، وبينه وبين منى المقدار الذي ذكرناه، وفي جداره القبلي حجران مكتوب فيهما أنه مسجد البيعة، والله أعلم. ولم يبين شيخنا القاضي مجد الدين موضع السدرة بعرفة، ولا مسجد الشجرة، ولا المتكأ، وما عرفت أنا ذلك تحقيقا، وأظن أن المتكأ المشار إليه هو الموضع الذي ذكره الأزرقي، لأنه قال فيما رويناه عند السند المتقدم في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة وما فيها من آثار النبي صلى الله عليه وسلم وما صح من ذلك: ومسجد بأجياد1 وهو موضع فيه يقال له المتكأ، سمعت جدي أحمد بن محمد، ويوسف بن محمد بن إبراهيم يسألان عن المتكأ، وهل صح عندهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ فيه، فرأيتهما ينكران ذلك ويقولان: لم نسمع به من ثبت، قال لي جدي: سمعت الزنجي مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم القداح، وغيرهما من أهل العلم أن أمر المتكأ، ليس بالقوي عندهم، بل يضعفونه، غير أنهم يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأجياد الصغير، لا يثبت ذلك الموضع ولا يقف عليه. قال: ولم أسمع أحدا من أهل مكة يثبت أمر المتكأ2... انتهى. وبأجياد الصغير موضع يقال له الآن المتكأ، وهو دكة مرتفعة متسعة منورة ملاصقة لدار تنسب للشيخ يحيى بن علي بن بجير الحجبي شيخ الحجبة كان، ويعرف هذا البيت الآن بسعد الدويدار فتى الشريف أحمد بن عجلان صاحب مكة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أجياد: هي الموضع الذي كانت به الخيل التي سخرها الله لإسماعيل عليه السلام، ويقال: ما سمي أجياد أجيادا إلا لخروج الخيل الجياد، منه مع السميدع "انظر: معجم البلدان 1/ 105، أخبار مكة للأزرقي 1/ 82". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202. ج / 1 ص -268- وأخبرني بعض فقهاء مكة أنه رأى الشريف عجلان بن رميثة صاحب مكة ينكر على جماعة رآهم يلعبون في الموضع المشار إليه، وأمر باحترام هذا الموضع، وعلل ذلك بأن هذا الموضع ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم. وأخبرني بعض الحجبة عن بعض أقاربه أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي بهذا الموضع، وهو على يسار الذاهب إلى رباط ربيع قريبا منه. وفي كون المتكأ المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر، لأن الأزرقي ذكر ما يقتضي أن المتكأ في الشعب الذي فيه بئر عكرمة بأجياد الصغير، وإذا كان كذلك فليس المتكأ هذه الدكة، والله أعلم. وذكر الفاكهي المتكأ الذي بأجياد كما يوافق ما ذكره الأزرقي، وذكر فيه شيئا لم يذكره الأزرقي، لأنه قال في الترجمة التي ترجم عليها بقوله: ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة: ومنه الموضع الذي بأجياد الصغير، وهو الذي يقال له المتكأ1. وبعض الناس يقول: أول ما نزل القرآن في ذلك الموضع، نزل فيه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وهي أول سورة نزلت من القرآن... انتهى، وهذا غريب جدا2. ولذلك أوردناه، والله أعلم بصحته. وبقرب باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة موضع يقال له المتكأ ملاصق لبيت المرشدي قرب المدرسة الأرسوفية الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى، وفي طريق التنعيم المعتادة موضع يقال له المتكأ، وهذان الموضعان كلاهما غير المراد، ولعلهما سميا بذلك للراحة بالاتكاء عندهما من تعب السير إلى العمرة والله أعلم. وأما مسجد الشجرة المشار إليها فهو بالحديبية والشجرة المنسوب إليها هذا المسجد هي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان كما في القرآن العظيم، وكانت هذه الشجرة سمرة معروفة عند الناس، ثم غيبت لقطعها، لأن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أمر بقطعها حين بلغه أن الناس يأتون إليها ويصلون عندها ويعظمونها، ورأى أن هذا الفعل حدث، وهذا يروى عن ابن جريج في كتاب الفاكهي. وذكر الفاكهي شيئا من خبر هذا المسجد، لأنه قال لما ذكر مسجد الحديبية، وهذا المسجد عن يمين طريق جدة، وهو المسجد الذي يزعم الناس أنه الموضع الذي كان فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 202، وأخبار مكة للفاكهي 4/ 9، القرى "3: 665"، ومثير الغرام "ص: 345". 2 أخبار مكة للفاكهي 4/ 10، والصحيح أن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه في غار حراء، والمتكأ لا زال معروفا في شعب أجياد الصغير على ما قال البلادي في معجم معالم الحجاز 8/ 18. ج / 1 ص -269- رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو مسجد الكرز، وثَمَّ مسجدٌ آخر تصلي الناس فيه بناه يقطين بن موسى في الشق الأيسر1... انتهى. وهذان المسجدان والحديبية لا يعرفون اليوم، والله أعلم بذلك. ورأيت في جزء مترجم بالثاني من "فضائل مكة" للجندي من رواية أبي القاسم عبد الله بن علي بن عبد الله الطوسي المعروف بكركان: عن أبي منصور طاهر بن العباس بن منصور المروزي، عن المغيرة بن عمرو بن الوليد العدني، عن الجندي .... وفي آخره: سمعت أبا منصور طاهر بن العباس بن منصور يحكي عن أبي سهيل النيسابوري أن المواضع التي يزجى فيها استجابة الدعاء في المسجد الحرام خمسة عشر موضعا، وعد منها أربعة عشر: باب بني شيبة، وباب إبراهيم، وباب النبي صلى الله عليه وسلم، وباب الصفا، وزمزم، والمقام، والركن الأسود، والملتزم، ومجاور المنبر حيث يقف المحمدون، وعند الركن العراقي، وتحت الميزاب، والركن الشامي، وما بين الركن الشامي واليماني وهو المستجار وعند الركن اليماني. وقال غيره: إن المواضع التي يرجى فيها استجابة الدعاء في المسجد الحرام ثلاثون موضعا، ولم يعدها، ولم يذكر مواضعها... انتهى. وباب النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه هو الباب المعروف الآن بباب الجنائز، سماه بذلك الأزرقي في "تاريخه" لأنه لما ذكر صفته القديمة قال: وهو باب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج منه ويدخل فيه من منزله الذي في زقاق العطارين، يقال له: مسجد خديجة بنت خويلد رحمة الله تعالى ورضوانه عليها2... انتهى. وباب إبراهيم هو باب الزيارة الذي بالجانب الغربي من المسجد الحرام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 4/ 34. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 78، 87. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -270- الباب السادس عشر: في ذكر شيء من أخبار المقام "مقام الخليل عليه السلام": هذا المقام، هو الحجر الذي وقف عليه الخليل عليه السلام، حين بنى الكعبة، وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما. وقيل: وقف عليه حين أذن للناس بالحج، وقيل: وقف عليه حين غسلت زوجة ابنه إسماعيل عليه السلام رأسه لما جاء يسأل عن ولده إسماعيل، وهو في خبر طويل، ضعفه سعيد بن جبير، ويمكن الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الخليل عليه السلام وقف على ذلك لهذه الأمور كلها، والله أعلم. وقد ذكر صفته وقدره الأزرقي1 وابن جبير2 وابن جماعة، وذكرنا ذلك في أصل هذا الكتاب، واختصرنا هنا على ما ذكره ابن جماعة لأنه أبلغ في التحرير. أخبرني خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري قال: أخبرنا القاضي عز الدين بن جماعة قال: وقد ذكر الأزرقي أن ذرع المقام ذراع، وأن القدمين داخلان فيه سبعة أصابع. وحررت لما كنت مجاورا بمكة المشرفة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة مقدار ارتفاعه من الأرض، فكان نصف ذراع وربع ذراع وثمن ذراع، بالذراع المستعمل في زماننا بمصر في القماش، وأعلا المقام مربع من كل جهة: نصف ذراع وربع ذراع، وموضع غوص القدمين ملبس بفضة، وعمقه من فوق الفضة: سبعة قراريط ونصف قيراط من ذراع القماش3... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 228. 2 رحلة ابن جبير "ص: 62". 3 هداية السالك 3/ 135. ج / 1 ص -271- ذكر حلية المقام: أول ما حُلِّيَ المقام في خلافة المهدي1 العباسي، لأنه رفع فانثلم لرخاوة حجره، فكتب الحجبة إلى المهدي يعرفونه بذلك، وأنهم يخشون عليه أن يتفتت، فبعث المهدي بألف دينار أو أكثر، فضببوا بذلك المقام من أعلاه وأسفله، فلما كان في خلافة المتوكل2 زيد في تحليته بالذهب وجعل ذلك فوق حليته الأولى، وذلك في مصدر الحاج سنة ستٍّ وثلاثين ومائتين3. ثم إن جعفر بن الفضل العباسي عامل مكة، ومحمد بن حاتم قلعا حليته في خلافة المتوكل وضرباها دنانير ليستعينا بذلك على ما قيل في حرب إسماعيل بن يوسف العلوي الذي خرج من مكة وأفسد بها وبالحجاز في سنة إحدى وخمسين ومائتين4. ولم تزل حلية المهدي على المقام إلى أن قلعت عنه في سنة ست وخمسين ومائتين في المحرم، لأجل إصلاحه، لأن الحجبة ذكروا لعامل مكة علي بن الحسن العباسي أن المقام وَهَى، وتسللت أحجاره، ويخشى عليه، وسألوه في تجديده عمله وتضبيبه حتى يشتد، فأجابهم لسؤالهم وزادهم ذهبا وفضة على حليته الأولى، فعمل له طوقان من ذهب فيهما ألف مثقال إلا ثمانية مثاقيل، وطوق من فضة. وأحضر المقام إلى دار الإمارة وأذيبت له العقاقير بالزئبق، وشد بها شدا جيدا حتى التصق، وكان قبل ذلك سبق قطع قد زال عنها الإلصاق لما قلعت الحلية عنه في سنة ست وخمسين ومائتين لأجل إصلاحه5، وكان الذي شده بيده في هذه السنة: بشير الخادم مولى أمير المؤمنين المعتمد6 العباسي، وحمل المقام بعد اشتداده بالإلصاق وتركيب الحلية التي عملت له لشده أيضا عليه إلى موضعه، وذلك يوم الاثنين لثماني ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين ومائتين، وكان عمل حليته في المحرم وصفر من هذه السنة7. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو محمد المهدي بن المنصور، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه أبي جعفر المنصور صنة 158هـ، وظل في الخلافة حتى توفي سنة 169هـ. 2 هو جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد، تولى الخلافة بعد وفاة الواثق سنة 232هـ ظل في الخلافة حتى قتل سنة 247هـ. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 36، وإتحاف الورى 2/ 302. 4 البداية والنهاية 11/ 29، وإتحاف الورى 2/ 330. 5 العقد الثمين 6/ 152، وإتحاف الورى 2/ 333. 6 من المعروف أن المعتمد تولى الخلافة سنة 256هـ حتى توفي سنة 179هـ، فيكون الخليفة المقصود في التاريخ المذكور هو "المهتدي" وليس "المعتمد". 7 إتحاف الورى 2/ 333، والعقد الثمين 6/ 152. ج / 1 ص -272- وفي أوائل شهر ربيع الأول وسع الطوقان الذهب -المشار إليهما- لضيقهما ثم عملا عليه، ووضع في موضعه في التاريخ المتقدم ذكره. هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الفاكهي في خبر "حلية المقام" وكلامه أبسط من هذا، ونذكره كما ذكره في أصل هذا الكتاب. وذكر الأزرقي 1 حليته في زمن المهدي والمتوكل، ولم يذكر تاريخ حليته في زمن المهدي وهي سنة إحدى وستين ومائة، على ما ذكره الفاكهي2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 256 وما بعدها. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 165، وإتحاف الورى 2/ 201- 211. ذكر صفة الموضع الذي فيه المقام والمصلى خلفه: أما صفة الموضع المشار إليه: فإنه الآن قبة عالية من خشب ثابتة قائمة على أربعة أعمدة دقاق حجارة منحوتة بينها أربعة شبابيك من حديد من الجهات الأربعة، ومن الجهة الشرقية يدخل إلى المقام، والقبة مما يلي المقام منقوشة مزخرفة بالذهب، ومما يلي السماء مبيضة بالنورة. وأما موضع المصلى الآن: فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة، منها: عمودان عليهما القبة وهو متصل بها، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب، ومما يلي السماء مبيضة بالنورة. وأما موضع المصلى الآن: فإنه ساباط مزخرف على أربعة أعمدة، منها: عمودان عليهما القبة وهو متصل بها، وهو مما يلي الأرض منقوش مزخرف بالذهب، ومما يلي السماء مبيض بنورة. وأحدث وقت صنع فيه ذلك في شهر رجب سنة عشر وثمانمائة1. واسم الملك الناصر فرج صاحب الديار المصرية والشامية مكتوب فيه بسبب هذه العمارة، واسم الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي صاحب مصر مكتوب في الشباك الشرقي في هذا الموضع بسبب عمارته له في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة2. والمقام بين الشبابيك الأربعة الحديد في قبة من حديد ثابت في الأرض، والقبة التي عليها ثابتة أيضا في الأرض برصاص مصبوب، بحيث لا يستطاع قلع القبة الحديد التي فوقه إلا بالمعاول وشبهها، ولعل القبة الحديد التي في جوفها المقام الآن القبة الحديد التي كانت توضع عليها عند قدوم الحاج إلى مكة صونا لها، لكونا أحمل للازدحام والاستلام على ما ذكر ابن جبير3 وذكر ما يقتضي أن المقام كان عند رحلته إلى مكة غير ثابت وأنه يوضع ويرفع، ويجعل حينا في الكعبة في البيت الذي فيه الدرجة التي يصعد منها إلى السطح أي سطح الكعبة ويجعل أيضا في موضعه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 457. 2 إتحاف الورى 3/ 187. 3 رحلة ابن جبير "ص 63". ج / 1 ص -273- الذي هو به الآن في قبة من خشب، فإذا كان الموسم قلعت قبة الخشب، وجعلت عليه القبة الحديد، ذكر ذلك في موضعين من رحلته، ونص كلامه الدال على أن المقام غير مؤبد موضعه الآن قوله بعد أن ذكر اعتمار مُكْثِر بن عيسى بن فليته أمير مكة في شهر رجب من سنة تسع وسبعين وخمسمائة وهي السنة التي وصل فيها ابن جبير إلى مكة للحج فلما فرغ يعني مكثرا من الطواف صلى عند الملتزم، ثم جاء إلى المقام وصلى خلفه، وقد أخرج له من الكعبة، ووضع في قبته الخشبية التي يصلى خلفها، فلما فرغ من صلاته رفعت له القبة عن المقام فاستلمه وتمسح به، ثم أعيدت القبة عليه1... انتهى. وما عرفت متى جعل المقام ثابتا في القبة على صفته التي هو عليها الآن. وأما القبة التي فوق القبة الحديد التي المقام في جوفها: فأظن أن الملك المسعود صاحب اليمن ومكة أول من بناها، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص:109". ذكر ذرع ما بين المقام والحجر الأسود: وما بين المقام والركن الشامي الذي يقال له العراقي، وما بين المقام وبين جدار الكعبة وشاذروانها المقابل للمقام، وما بين المقام وحجرة زمزم وحرف بئر زمزم الطيبة المباركة: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم في تاريخه أنه قال: وذرع ما بين الركن الأسود إلى مقام إبراهيم عليه السلام تسعة وعشرون ذراعا وتسعة أصابع، وذرع ما بين جدار1 الكعبة من وسطها إلى المقام: سبع2 وعشرون ذراعا، وذرع ما بين شاذروان الكعبة إلى المقام: ستة3 وعشرون ذراعا ونصف، ومن الركن الشامي إلى المقام: ثمانية وعشرون ذراعا وسبع4 عشرة أصبعا ثم قال: ومن المقام إلى جدار حجرة زمزم: اثنان وعشرون ذراعا. ومن المقام إلى حرف5 بئر زمزم أربع6 وعشرون ذراعا وعشرون إصبعا7...انتهى. ثم قال القاضي عز الدين بن جماعة فيما أخبرني عنه خالي: ومن جدار الشباك الذي داخله المقام إلى شاذروان الكعبة: عشرون وثلثا ذراع وثمن ذراع، يعني بذراع الحديد المتقدم ذكره8. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في أخبار مكة 2/ 85: "جدر". 2 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة "سبعة". 3 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة "ستة". 4 في أخبار مكة: "تسع". 5 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "صرف". 6 كذا في الأصل، وفي أخبار مكة: "أربعة". 7 أخبار مكة 2/ 85 و68. 8 هداية السالك 3/ 1351. ج / 1 ص -274- وقد حررنا بعض ما حرره الأزرقي في هذا المعنى، فكان ما بين ركن الكعبة الذي فيه الحجر الأسود وبين الركن اليماني من أركان الصندوق الذي فيه المقام من داخل الشباك الذي فيه الصندوق، أربعة وعشرون ذراعا إلا سدس ذراع، وكان ذرع ما بين وسط جدار الكعبة الشرقي إلى وسط الصندوق المقابل له: اثنين وعشرين ذراعا إلا ربع ذراع، وكان ما بين ركن الكعبة الشامي الذي يلي الحجر بسكون الجيم وركن الصندوق الشامي: ثلاثة وعشرون ذراعا، وكان مما بين ركن الصندوق الشرقي إلى ركن البيت الذي فيه بئر زمزم المقابل له: خمسة عشر ذراعا إلا ثلث ذراع، وكل ذلك بذراع الحديد المتقدم ذكره. ذكر موضع المقام في الجاهلية والإسلام وما قيل في ذلك: ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه له إلى موضعه وهذا حين غيره السيل عنه: روينا عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي قال: حدثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام: هو هذا الذي هو به اليوم، وهو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجُعل في وجه الكعبة، حتى قدم عمر رضي الله عنه فرده بمحضر من الناس، وذكر الأزرقي ما يوافق قول ابن أبي مليكة في موضع المقام عن عمرو بن دينار، وسفيان بن عيينة1. وروى الفاكهي، عن عمرو بن دينار، وسفيان بن عيينة، مثل ما حكاه عنهما الأزرقي بالمعنى2. ونقل المحب الطبري في "القرى" عن مالك ما يخالف ذلك، لأنه قال: وقال: مالك في المدونة: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم، وكان أهل الجاهلية ألصقوه بالبيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر، فلما ولي عمر رضي الله عنه رده بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قيس بها حين أخروه... انتهى. ثم قال المحب: وفي هذا مناقضة ظاهرة لما ذكره الأزرقي عن ابن أبي مليكة، وسياق لفظ حديث جابر رضي الله عنه الصحيح الطويل، وما روي نحوه يشهد لترجيح قول ابن أبي مليكة، وذلك قوله: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 2/ 33. 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 454، 455. ج / 1 ص -275- مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين الكعبة، والمتبادر إلى الفهم عند سماع هذا اللفظ أنه لم يكن حينئذ ملصقا بالبيت، لأنه لا يقال في العرف تقدم إلى كذا فجعله بينه وبين كذا إلا فيما يمكن أن يقدمه أمامه وأن يخلفه خلفه، وإن كان ملصقا تعين التقديم لا غير1... انتهى باختصار. وقد ذكرنا في أصل هذا الكتاب بقية كلام المحب وكلاما لمالك رحمه الله في المعنى وبينا ما في الصواب، والله أعلم. وذكر موسى بن عقبة في "مغازيه"، وأبو عروبة في "الأوائل" له، والفاكهي في كتابه ما يوافق ما ذكره مالك في أن المقام كان في وجه الكعبة لاصقا، في الجاهلية. فأما موسى بن عقبة فإنه قال فيما رويناه عنه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا... انتهى. ذكر ذلك في خبر فتح مكة. وأما أبو عروبة: فإنه قال فيما رويناه عنه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه هذا... انتهى. ذكر ذلك في خبر فتح مكة. وأما أبو عروبة: فإنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت، وكانوا يخافون عليه من السيول، وكان الناس يصلون خلفه... انتهى باختصار لقصة رد عمر رضي الله عنه للمقام إلى موضعه الآن، وما كان بينه وبين المطلب بن أبي وداعة السهمي في موضعه الذي حرره المطلب. وقال أبو عروبة أيضا: حدثنا سلمة قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا ابن جريج قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر رضي الله عنه أول من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قُبُل الكعبة... انتهى. وأما الفاكهي فقال: حدثنا عبد الله بن أبي سلمة قال: حدثنا عبد الجبار بن سعيد، عن ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن نوفل بن معاوية الدئلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب ملصقا بالبيت مثل المهاة. وروى الفاكهي بسنده إلى عبد الله بن سلام خبرا فيه أذان إبراهيم على المقام للناس بالحج، وفيه: فلما فرغ أمر بالمقام فوضعه قبلته فكان يصلي إليه مستقبل الباب. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالكعبة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم2. وقال الفاكهي: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثنا يحيى بن محمد بن ثوبان، عن سليم، عن ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه قال: كان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 345، 346". 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 442. ج / 1 ص -276- المقام في وجه الكعبة، وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البنيان فأراد أن يشرف على البناء قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يطئوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان قدام الكعبة. وقال الفاكهي: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال عبد العزيز: أراه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى سقع البيت. قال الفاكهي: وقال بعض المكيين: كان بين المقام وبين الكعبة ممر العنز1... انتهى. وليس فيما ذكره مالك، وابن عقبة وأبو عروبة، والفاكهي من كون المقام كان عند الكعبة بيان موضعه عند الكعبة إلا أن في الخبر الذي رواه الفاكهي عن سعيد بن جبير ما يفهم منه تقريب بيان موضع المقام عند الكعبة، لأن فيه ما يقتضي أن موضعه الآن حذاء موضعه الذي كان به قدام الكعبة2. والمقام الآن في جوف الصندوق الذي في جوف الشبابيك الأربعة المتقدم ذكرها، ويحاذي الصندوق الذي فيه المقام من وجه الكعبة ذراعان بالحديد ونحو خمسة قراريط بذراع الحديد أيضا المتقدم ذكره، والذراعان هما نصف الحفرة المرخمة الملاصقة لشاذروان الكعبة، ونصف الحفرة المشار إليه هنا هو النصف الذي يلي الحجر بسكون الجيم وما زاد على الذراعين من القراريط التي هي كمال ما يحاذي الصندوق الذي فيه المقام وهي إلى طرف الحفرة مما يلي الحجر بسكون الجيم وإذا كان كذلك فيكون موضع المقام عند الكعبة تخمينا، والله أعلم. وفيما بين نصف الحفرة مما يلي الحجر بسكون الجيم والقراريط الزائدة على الذراعين، لأن ذلك يحاذي الصندوق الذي فيه المقام الآن، وإذا كان كذلك فهو يوافق قول من قال إن موضع المقام الآن حذاء موضعه عند الكعبة، والله أعلم. وذكر الفقيه محمد بن سراقة العامري في كتابه "دلائل القبلة" في موضع المقام عند الكعبة ما يخالف قول من قال إن موضعه اليوم بحذاء موضعه عند الكعبة، ونص ما ذكره ابن سراقة: ومن الباب يعني باب البيت إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه وأنزل الله عليه التوبة، وهو موضع الخلوق من إزار الكعبة: أرجح من تسعة أذرع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 455، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 35 من طريق: ابن أبي عمر، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، ولم يقل عن عائشة. وسقع البيت ناحيته. 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 454. ج / 1 ص -277- وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين وأنزل الله عليه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ثم نقله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو فيه الآن، وذلك على عشرين ذراعا من الكعبة لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف، حين كثر الناس وليدور الصف حول الكعبة ويرى الإمام من كل وجه، ثم حمله السيل في أيام عمر رضي الله عنه وأخرجه من المسجد، فأمر عمر رضي الله عنه برده إلى موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وبين موضع الخلوق وهو مصلى آدم وبين الركن الشامي: ثمانية أذرع ... انتهى. وقد سبق ما ذكرناه عن ابن سراقة في الباب الثامن من هذا الكتاب عند بيان مصلي آدم عليه السلام وهذا يقتضي اتخاذ موضع مصل آدم عليه السلام، وموضع الخلوق، وموضع المقام عند الكعبة، وهو على مقتضى ما ذكر ابن سراقة في ذرع ما بينه وبين ركن الكعبة الذي يلي الحجر بسكون الجيم ويكون على ذراعين وثلثي ذراع بالحديد طرف الحفرة إلى جهة الحجر بسكون الجيم وعلى هذا فيكون موضع المقام عند الكعبة خارجا عن الحفرة: في مقدار ذراعين وثلثي ذراع، وعلى مقتضى ما قيل من أن موضعه اليوم حذاء موضعه عند الكعبة، يكون موضعه عند الكعبة في مقدار نصف الحفرة التي تلي الحجر بسكون الجيم والله أعلم بالصواب. وأما الموضع الذي ربط فيه المقام في وجه الكعبة: بأستارها إلى أن حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرده، وذلك أن يصد الطائف من الحجر الشامي في حجارة شاذروان الكعبة إلى أن يبلغ الحجر السابع، فإذا بلغ الحجر السابع فهو موضعه، وإلا فهو التاسع من حجارة الشاذروان أيضا1... انتهى. وذكر الفاكهي في موضع آخر من كتابه ما يقتضي أن هذا علامة للموضع الذي ذكر عبد الله بن السائب المخزومي أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عنده يوم فتح مكة، وذكر الأزرقي مثل ذلك، والله أعلم. وما ذكره ابن سراقة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رد المقام إلى موضعه الآن، يشهد له ما ذكره ابن عقبة، وما ذكره يخالف ما ذكره سعيد بن جبير، وعطاء، وغيرهم من أن عمر رضي الله عنهم أول من رده إلى موضعه الآن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35. ج / 1 ص -278- وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن الولاة حولته إلى مكانه هذا، وهذا يفهم أن الذي رده غير عمر رضي الله عنه فيتحصل فيمن رده إلى موضعه الآن ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه عمر. والثالث: غبر عمر رضي الله عنه، والله أعلم. والمشهور أنه عمر، وردّ الخبر الذي ذكره الفاكهي عن سعيد بن جبير ما يفهم أن رد عمر رضي الله عنه للمقام إلى موضعه الآن لئلا تطؤه الناس، والمعروف أن رد عمر رضي الله عنه له إلى موضعه الآن لكون السيل المعروف بسيل أم نهشل أزاله عن موضعه الأول، والله أعلم. وذكر الفاكهي خبرا يقتضي أن رجلا من آل عائذ بن عبد الله بن مخزوم قال لعمر رضي لله عنه إنه يعلم موضع المقام الأول، والمعروف أن الذي قال ذلك لعمر هو المطلب بن أبي وداعة السهمي، كما ذكر الأزرقي1، والفاكهي، وغيرهما والله أعلم. وما ذكره ابن سراقة في ذرع ما بين موضع المقام الآن ووجه الكعبة لا يستقيم، لنقص ما ذكره ابن سراقة في ذلك عما ذكره الأزرقي، لأن فيه نقصا كثيرا، والذراع الذي حرر به ابن سراقة ذراع اليد، وكذلك الأزرقي، وفيما ذكره ابن سراقة نظر من غير هذا الوجه. وذكر ابن جبير في أخبار "رحلته" ما يقتضي أن الحفرة المرخمة التي في وجه الكعبة علامة موضع المقام في عهد الخليل عليه السلام إلى أن رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى2. وفي هذا نظر، لأن موضع المقام الآن هو موضعه في عهد الخليل عليه السلام من غير خلاف عُلِمَ في ذلك، وأما الخلاف ففي موضعه اليوم، هل هو موضعه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن أبي مليكة، أو لا كما قال مالك، والله أعلم. وفي كلام ابن جبير نظر من وجه آخر بيناه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم. ولم أر في تاريخ الأزرقي ذكر السَّنة التي رد فيها عمر رضي الله عنه المقام إلى موضعه هذا لما غيره عنه السيل3، وهو سنة سبع عشرة من الهجرة على ما ذكره ابن جرير، وكذا ابن الأثير في "كامله"4، وقيل: ثماني عشرة، ذكره ابن حمدون في "تذكرته"، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 33. 2 رحلة ابن جبير "ص: 62". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35. 4 تاريخ الطبري 4/ 68، وإتحاف الورى 2/ 7، والكامل لابن الأثير 2/ 227، والذهب المسبوك "ص: 14"، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 68، 69. ج / 1 ص -279- ذكر شيء من فضل المقام: لا شك أن فضل المقام مشهور ثابت بنص القرآن العزيز والسنة الشريفة الصحيحة، فأما القرآن فقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] الآية. والمراد بالمقام في هذه الآية هذا المقام على الصحيح المشهور، وقيل: المراد مناسك الحج كلها. وقيل: عرفة، وقيل: المزدلفة، وقيل الحرم كله. وأما السنة: فتقدم لنا في فضل الحجر الأسود حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب"1 وروينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: يأتي الركن والمقام يوم القيامة كل واحد منهما مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالموافاة2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: ابن حبان "3710"، والحاكم "1679"، والبيهقي "5/ 75، وابن خزيمة "2732"، والأصبهاني في الترغيب "1157"، وتحرفت فيه "نافع بن شيبة" إلى "مسافح بن شيبة". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 35. ج / 1 ص -280- ما جاء في هلاك من تعرض له بسوء: قال الفاكهي: وقال بعض الناس: إن رجلا كان بمكة يقال له جريج يهودي أو نصراني، فأسلم بمكة، فقصد المقام ذات ليلة فطلب فوجد عنده، وأراد أن يخرجه إلى ملك الروم، قال: فأخذ منه وضربت عنق جريج1... انتهى. وكان أبو طاهر القرمطي يريد أخذه فلم يظفر به، لأن سدنة المسجد غيبوه في بعض شعاب مكة. ولا يزال هذا المقام محروسا بحراسة الله تعالى إلى حين رفعه إلى الجنة، كما هو مقتضى حديث عائشة الذي رويناه في تاريخ الأزرقي، وقد سبق في فضل الحجر الأسود. وحكم المقام مخالف حكم الحجر الأسود في التمسح به، واستلامه، وتقبيله، فإن ذلك غير مطلوب في المقام على ما ذكره العلماء، وفي تاريخ الأزرقي، ومنسك القاضي عز الدين بن جماعة2 ما يدل لذلك، والخير في اتباع قول العلماء رضي الله عنهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 452. 2 هداية السالك 1/ 58-61. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام الباب السابع عشر: ذكر شيء من أخبار الحِجْر المُكَرَّم حِجْر إسماعيل عليه السلام: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن ابن إسحاق قال: في أثناء خبر بناء الخليل عليه السلام للكعبة: وجعل إبراهيم عليه السلام الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز، وكان زربا لغنم إسماعيل عليه السلام1... انتهى. وقد تقدم في خبر عمارة الكعبة أن قريشا أدخلت في الحجر أذرعا من الكعبة حين بنتها لما قصرت عليهم النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، وأن عبد الله بن الزبير أدخل ذلك في الكعبة حين عمرها، وأن الحجاج أخرج ذلك منها، ورده كما كان عليه في عهد قريش والنبي صلى الله عليه وسلم واستمر الحال على ذلك إلى الآن، وصار بعض الحجر من الكعبة وبعضه ليس منها. ويدل لذلك ما رويناه في الصحيحين، وغيرها من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة". وفي رواية: "فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبا من سبعة أذرع". أخرجاه2. وفي مسلم عن الوليد بن عطاء، فذكر شيئا من حريق الكعبة، وعمارة بن الزبير لها، ثم قال: قال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 64، 65. 2 أخرجه البخاري: "1583- 1568"، ومسلم "3/ 371- 372". ج / 1 ص -281- الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن الناس حديثو عهد بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع" قال عطاء: وزاد فيه: "خمسة أذرع من الحجر"، حتى أبدى أساسها ونظر إليه الناس، فبنى عليها البناء1... انتهى. وذكر الفاكهي حديثا فيه ما يقتضي أن الذي تركته قريش من الكعبة في الحجر أربعة أذرع، لأنه روى حديثا قال فيه: ولقد دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى بنيانه قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لولا حداثة قومك بالكفر لهدمته وبنيته على بناء إبراهيم، ولجعلت له بابين، ولأدخلت أربعة أذرع من الحجر فيه، وذلك أن أربعة أذرع من الحجر من البيت"2... انتهى. وفي إسناد هذا الحديث من لا أعرفه وإنما ذكرناه لغرابته، وسيأتي إن شاء الله في مقدار ما تركته قريش من الكعبة في الحجر وغير ذلك. والأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها تقتضي أن بعض الحجر من البيت لا كله، كما قال بعضهم فيما حكاه المحب الطبري، وتمسك قائل ذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر، أمن البيت؟ قال: "نعم". قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: "إن قومك قصرت بهم النفقة"3 الحديث... انتهى. وحديثها هذا لا يعارض أحاديثها التي ذكرناها، لأن حديثها هذا مطلق، وأحاديثها الأخرى مقيدة، والمطلق يحمل على المقيد، وقد أشار إلى ذلك هنا الشيخ محب الدين الطبري، لأنه قال: والأصح أن القدر الذي فيه من البيت سبعة أذرع، وقد جاء مصرحا به في الحديث عن عائشة رضي الله عنها فذكر عنها ما سبق بالمعنى مختصرا. ثم قال: فيحمل المطلق فيما تقدم على هذا، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المطلق فيما تقدم على هذا، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المستحسن، ذكر ذلك في "شرحه للتنبيه"، وقال في "القرى" بعد أن ذكر ما استدل به من يرى أن الحِجر من البيت، ومن يرى أن بعضه من البيت: وفي هذه الأحاديث دلالة على أن بعض الحجر من البيت، ومن يرى حمل المطلق على المقيد يقول: مطلق هذه الأحاديث المتقدمة في الفصل قبله منزلة على هذا، ومن لا يراه عمل بها4... انتهى. قلت: يدل لمجمل حديث عائشة رضي الله عنها المطلق على أحاديثها المقيدة: أن العلة في حديثها المطلق، هي العلة في أحاديثها المقيدة، وهي ترك قريش بعض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: مسلم "الحج: 1333". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 228، والحديث رواه البخاري 3/ 439، وفتح الباري 3/ 443. 3 أخرجه: البخاري "1584"، ومسلم "3/ 273، 4 القرى "ص: 510". ج / 1 ص -282- الكعبة في الحجر حين قصرت بهم النفقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المطلق: "ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أُدخِل الحِجرَ في البيت" ... الحديث، فإن حال من قال بأن الحجر كله من البيت لا يخلو من أمرين: إما أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله هذا إلى إدخال بعض الحجر في البيت، أو جميعه. فإن قال بالأول: فقد ناقض قوله: إن الحجر كله من البيت. وإن قال الثاني: ففي صحة ذلك نظر، لأن في رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، وأدخلت فيه ما أخرج منه، وجعلت له بابا شرقيا، وبابا غربيا، وبلغت به أساس إبراهيم"1. وهذه الرواية تقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يختار رد البيت إلى أساس إبراهيم عليه السلام وأساس إبراهيم عليه السلام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي أدخلته قريش في الحجر لقصور النفقة عليهم كما سبق بيانه، لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالتاريخ أن البيت كان مبنيا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم على أساس إبراهيم عليه السلام من جميع جوانبه، إلا من جهة الحجر كما سبق بيانه فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله هذا إلى أساس إبراهيم عليه السلام الذي أدخلته قريش في الحجر، وهو الأساس الذي بنى عليه ابن الزبير رضي الله عنهما كما تقدم في حديث عطاء في صحيح مسلم، وذكره الأزرقي في خبر بناء ابن الزبير للكعبة، لأن فيه فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلا في الحجر نحو ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل، آخذ بعضها بعضا كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، فحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم فأشهدهم على ذلك الأساس... ثم قال: ثم وضع البناء على ذلك الأساس2... انتهى. قلت: ويدل لذلك أيضا ما في بعض طرق الأحاديث أي أحاديث عائشة رضي الله عنها المطلقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى عائشة مقدار ما تركته قريش من الكعبة في الحجر ولو كان من البيت لم يكن لإيرائه صلى الله عليه وسلم ذلك لعائشة ... رضي الله عنها فائدة، والله أعلم. واختلاف الروايات عنها في قدر ما في الحجر من الكعبة لا يقتضي ترك العمل بما روي عنها من أن بعض الحجر من البيت، وإنم يقتضي أن يعمل في مقدار ما في الحجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه البخاري "1584". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 206، 207. ج / 1 ص -283- من الكعبة، فأكثر الروايات في ذلك، وهي نحو سبعة أذرع كما في الصحيحين، والله أعلم. وإنما نبهنا على ذلك، لأن كلام الشيخ تقي الدين بن الصلاح يوهم خلاف ذلك على ما نقله عنه النووي في "الإيضاح" ونص كلامه: وأما حديث عائشة: فقد قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمة الله عليه فقد اضطربت فيه الروايات ففي رواية في الصحيحين: "الحجر من البيت" وروي: "ستة أذرع من الحجر من البيت"، وروي: "ستة أذرع أو نحوها"، وروي: "خمسة أذرع"، وروي: "قريبا من سبع". قال: وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها؛ ليسقط الفرض بيقين... انتهى. وهذا من ابن الصلاح والنووي على أن الطواف لا يصح إلا من وراء الحجر جميعه. وذكر النووي أن هذا المذهب هو الصحيح، وعليه نص الشافعي قال: وبه قطع جماهير العلماء من أصحابنا وهذا هو الصواب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر، وهكذا الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم من بعدهم... انتهى. قلت: يمكن الانفصال عن استدلال النووي بطواف النبي صلى الله عليه وسلم خارج الحجر على وجوب الطواف من خارج الحجر، وذلك أن الأفعال الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم في حَجِّهِ لا تخلو من أمرين: أحدهما: أن يكون فعلُها مطلوبا على سبيل الوجوب، والإخلالُ بشيء منها مبطلٌ للحج. والآخر: أن يكون فعلها مطلوبا، ولكن بعضها يطلب وجوبا، وبعضها يطلب ندبا، وتمييز الواجب من المندوب دليل خارج والأول لا سبيل إليه، والثاني حق. وإذا تقرر ذلك فطواف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لا يكون دليلا على وجوب الطواف هكذا لما وقع من التزام أن بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج واجب، وبعضها ليس بواجب، ولا يمكن أن يقوم دليل على وجوب الطواف خارج الحجر إذا قطع النظر عن الاستدلال بطواف النبي صلى الله عليه وسلم هكذا إلا أن يكون حديث عائشة رضي الله عنه "الحجر من البيت" وفي الاستدلال به نظر، لما تقدم بيانه من أنه مطلق حمل على أحاديثها المقيدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقدار ما في الحجر من البيت كما سبق بيانه، فبان بهذا الانفصال عن استدلال النووي على وجوب الطواف من خارج الحجر بطواف النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا لعدم نهوض الدلالة من فعله صلى الله عليه وسلم. ج / 1 ص -284- هذا ويحتمل والله أعلم أن يكون طواف النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لأمرين: أحدهما: أن في ذلك حسما لمادة فساد يقع في طواف كثير من الطائفين، وذلك أن البيت من جهة الحجر لم يكن على قواعد إبراهيم عليه السلام، لترك قريش جانبا من البيت في الحجر، والواجب على الطائف الخروج عنه، فلو طاف النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر خارجا عما فيه من البيت لاقتدى به في ذلك من لا يعرف مقدار ما في البيت من الحجر، فيفسد عليه طوافه لكونه طاف من البيت ولم يطف به. والأمر الثاني: أن لو جوزنا السلامة من هذا المحذور لمعرفة جميع الخلق بمقدار ما في الحجر من البيت، لكان في طوافه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر حكمة حسنة من وجهين: أحدهما: الراحة من تسور الحجر، فإن قريشا أحاطت عليه جدارا كما في خبر بنائهم للكعبة. والآخر: أن في ذلك حسما لمادة فساد، وهو أن النساء يتسورن الحجر في الطواف كالرجال، وفي تسورهن كشف لهن، وهن مأمورات بالصيانة، فرأى صلى الله عليه وسلم أن يطوف من وراء الحجر لما في ذلك من الراحة لأمته دينا ودنيا، ومثل هذا يقال في طواف الخلفاء وغيرهم من وراء الحجر، وإذا تقرر أن طوافه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر لهذا المعنى فيكون الطواف هكذا مطلوبا ندبا متأكدا لا وجوبا، لعدم نهوض الدلالة على وجوبه هكذا في طوافه صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه، فإن خالف الإنسان وتسور جدار الحجر، وطاف في الحجر فيما ليس فيه من الكعبة خصوصا على رواية سبعة أذرع أو نحوها، أو ستة أذرع ففي الجزم بفساد طوافه نظر كثير لا ينهض عليه دليل. وقد قال بصحة طواف من طاف في الحجر وجعل بينه وبين الكعبة ستة أذرع جماعة من كبار العلماء منهم: أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والبغوي، وذكر الرافعي أن هذا المذهب هو الصحيح، وقال به اللخمي من أصحابنا المالكية وجزم به الشيخ خليل الجندي في مختصره الذي صنفه لبيان ما به الفتوى، وتلميذه شيخنا القاضي تاج الدين بهرام المالكي في "شامله" ويدل لذلك رواية عائشة رضي الله عنها التي فيها: أن ستة أذرع من الحجر من البيت، وهي في الصحيحين كما سبق بيانه، والله أعلم. ج / 1 ص -285- ذكر موضع الحجر وصفته: وأما موضع الحجر: فهو ما بين الركن الشامي الذي يقال له العراقي والركن الغربي. وأما صفته: فهو عرضة مرخمة لها جدار مقوس على صورة نصف دائرة. وأما خبر عمارته: فذكر الأزرقي: أن المنصور العباسي لما حج دعا زياد بن عبيد الله الحارثي أمير مكة فقال: إني رأيت الحِجر حجارته بادية، فلا أصبحن حتى يصير جدار الحجر بالرخام. فدعا "زياد" بالعمال، فعملوه على السرج قبل أن يصبح، وكان قبل ذلك مبنيا بحجارة بادية ليس عليه رخام1. قال: ثم كان المهدي بعد ذلك قد جدد رخامه. وذكر الأزرقي أن رخام الحجر الذي عمل في زمن المهدي لم يزل فيه حتى رث في خلافة المتوكل، فقلع وألبس رخاما حسنا، وذكر أن ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائتين2 وأن ترخيمه في زمن المهدي في سنة إحدى وستين ومائة3 ولم يذكر السنة التي أمر المنصور بعمل رخامه فيها. وأرخ ذلك بالسنة التي حج فيها المنصور، وهذا لا يفيد معرفة السنة التي فعل فيها ذلك، لأن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات على ما ذكر العتيقي في تسمية "أمراء الموسم" في سنة أربعين ومائة4، ثم في سنة أربع وأربعين ومائة5، ثم في سنة سبع وأربعين ومائة6، وتوجه إلى الحج في سنة ثمان وخمسين، فمات قبل أن يدخل مكة بعد أن أشرف عليها7. وإن كان حج بالناس في الثلاث السنين المتقدمة، لم يكن تعريف عمارته بالسنة التي حج فيها تعريفا تاما، والظاهر والله أعلم أن ذلك وقع في سنة أربعين ومائة، لأن في هذه السنة كان الفراغ من عمارة المسجد التي أمر بعملها المنصور على يدي زياد المذكور كما ذكره الأزرقي في ذلك8. وعمر المعتضد العباسي الحجر أيضا في خلافته في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، على ما ذكره إسحق بن أحمد الخزاعي راوي تاريخ الأزرقي وألحقه فيه9. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 177. 2 إتحاف الورى 2 315. 3 إتحاف الورى 2/ 208، وأخبار مكة للأزرقي 1/ 313، 314. 4 إتحاف الورى 2/ 177، والمحبر "ص: 35"، وتاريخ الطبري 9/ 173، والكامل لابن الأثير 5/ 202، والنجوم الزاهرة 1/ 340. 5 إتحاف الورى 2/ 180- 186، وسمط النجوم العوالي 3/ 253، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 91- 95". 6 إتحاف الورى 2/ 188، وتاريخ الطبري 9/ 275، ومروج الذهب 4/ 401، والكامل 5/ 235. 7 يذكر أن المنصور حج أيضا سنة 152هـ. "مروج الذهب 4/ 402، والكامل لابن الأثير 5/ 245، وإتحاف الورى 2/ 191، والمحبر ص: 35". 8 إتحاف الورى 2/ 177، 178. 9 إتحاف الورى 2/ 353، وأخبار مكة للأزرقي 1/ 321. ج / 1 ص -286- وعُمِّرَ أيضا في أول خلافة الناصر العباسي، وذلك في سنة ست وسبعين وخمسمائة1. وعمرَّه أيضا المستنصر العباسي. وكذلك الملك المظفر صاحب اليمن. وكذلك الملك الناصر محمد بن قلاوون، واسم هذين الملكين، واسم المستنصر العباسي مكتوب في رخام في أعلى الحجر. وفي الرخامة التي فيها خبر عمارة الملك الناصر أن ذلك سنة عشرين وسبعمائة2. وعمر أيضا في دولة الملك المنصور علي بن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بأمر الأميرين: بركة، وبرقوق، مدبري دولته، في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة3. ثم عمر في سنة إحدى وثمانمائة في العمارة التي أمر بعملها الملك الظاهر برقوق، واسمه مكتوب بسبب ذلك، وذلك في رخامة في أعلى الحجر، وفي فتحة الحجر الشرقية، وفي الفتحة الأخرى ذكر بعض ألقابه في تاريخ العمارة وهو مستهل شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة4. وعمر في سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة كثير من رخامه عمارة جيدة بالجبس، لتداعي ذلك إلى السقوط، وذلك في رجب وشعبان من هذه السنة، وغالب ذلك في جُدُرِ الحِجر5، ثم عمر كثير من رخامه في جداره في ظاهره، وباطنه، وأعلاه وفي أرض الحجر، وذلك في المحرم سنة ستة وعشرين وثمانمائة عمارة حسنة بالجص، بأمر متولي العمارة صاحبنا الأمير زين الدين مقبل القُدَيْدِي أثابه الله تعالى6. وقد خفي علينا شيء كثير من خبر عمارة الحجر من دولة المعتضد العباسي إلى خلافة الناصر، فإنه لا يبعد أن يخلو في هذا الزمن الطويل من عمارة، والله أعلم. وممن عمره الوزير جمال الدين المعروف بالجواد، وذلك في عشر الخمسين وخمسمائة7 ظنا والله أعلم. وأما ذرعه: فقد ذكره الأزرقي وابن جماعة، فقال الأزرقي فيما رويناه عنه بالسند المتقدم: عرضه من جدار الكعبة من تحت الميزاب إلى جدار الحجر: سبعة عشر ذراعا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 544. 2 إتحاف الورى 3/ 172. 3 إتحاف الورى 3/ 334. 4 إتحاف الورى 3/ 412. 5 إتحاف الورى 3/ 566. 6 إتحاف الورى 3/ 598ز 7 إتحاف الورى 2/ 516. ج / 1 ص -287- وثمانية أصابع، وذرع ما بين بابي الحجر: عشرون ذراعا، وعرضه: اثنان وعشرون ذراعا، وذرع الجدار من داخله في السماء: ذراع وأربعة عشر إصبعا، وذرعه مما يلي، الباب الذي يلي المقام: ذراع وعشرة أصابع، وذرع جدار الحجر الغربي في السماء: ذراع وعشرون إصبعا، وذرع طول الحجر من خارج مما يلي الركن الشامي، ذراع وستة عشر إصبعا، وطوله من وسطه في السماء: ذراعان وثلاثة أصابع1، وعرض الجدار: ذراعان إلا إصبعين2، وذرع باب الحجر الذي يلي المشرق مما يلي المقام: خمس أذرع وثلاثة أصابع، وذراع باب الحجر الذي يلي المغرب: سبعة أذرع، وذرع تدوير الحجر من داخله، ثمانية وثلاثون ذراعا، وذرع تدوير الحجر من خارج: أربعون ذراعا وستة أصابع3... انتهى كلام الأزرقي. وأخبرني خالى عن ابن جماعة قال: ذرع دائر الحجر من داخله من الفتحة إلى الفتحة: واحد وثلاثون وثلث. ومن خارجه من الفتحة إلى الفتحة: سبعة وثلاثون ونصف وربع وثمن، ومن الفتحة إلى الفتحة على الاستواء: سبعة عشر ذراعا .. ومن صدر دائر الحجر من داخله إلى جدار حجر البيت تحت الميزاب: خمسة عشر ذراعا. وعرض جدار الحجر: ذراعان وثلث ذراع وثمن ذراع. وارتفاعه عن أرض المطاف مما يلي الفتحة التي من جهة المقام: ذراع وثلثا ذراع وثمن ذراع. وارتفاعه مما يلي الفتحة الأخرى، ذراع ونصف وثلث وثمن. وارتفاعه من وسطه: ذراع وثلثا ذراع. وسعة ما بين جدار الحجر والشاذروان عند الفتحة التي من جهة المقام: أربعة أذرع وثلث. والخارج من جدار الحجر في هذه الجهة عن مسامته الشاذروان: نصف ذراع وثمن. وسعة الفتحة الأخرى: أربعة أذرع ونصف. والخارج من جدار الحجر في هذه الجهة عن مسامته الشاذروان: نصف ذراع وثلث ذراع. كل ذلك حرر بذراع القماش المستعمل في زماننا بمصر4... انتهى. وقد حررنا أمورا تتعلق بالحجر، فكان ما بين وسط جدار الكعبة الذي فيه الميزاب إلى مقابله من جدار الحجر: خمسة عشر ذراعا، وكان عرض جدار الحجر من وسطه: ذراعين وربع. وسعة فتحة الحجر الشرقية: خمسة أذرع. وكذلك سعة الغربية بزيادة قيراط. وسعة ما بين الفتحتين من داخل الحجر، سبعة عشر ذراعا وقيراطان، وارتفاع جدار الحجر من داخله عند الفتحة الشرقية: ذراعان إلا قيراطا. ومن خارجه عندها: ذراعان وقيراطان. وارتفاع جدار الحجر داخله ومن وسطه: ذراعان إلا ثلث. ومن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 يضيف الأزرقي هنا قوله: "الرخام من ذلك: ذراع وأربعة عشر إصبعا". 2 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 320، 321، إضافات اختصرها "الفاسي" هنا. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 320ن 321. 4 هداية السالك 3/ 1334، 1335. ج / 1 ص -288- خارجه: ذراعان وقيراطان، وارتفاع جدار الحجر من داخله عند الفتحة الغربية: ذرعان إلا قيراطا. ومن خارجه عندها: ذراعان وثمن ذراع، كل ذلك بذراع الحديد. وذكر ابن خرداذبه في ذرع دور الحجر ما يستغرب، لأنه قال: وذرع دور الحجر: خمسون ذراعا1... انتهى. وإنما كان هذا مستغربا لمخالفته ما ذكره الأزرقي في ذلك2، فإن ما ذكره ابن خرداذبه يزيد على ما ذكره الأزرقي عشرة أذرع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المسالك والممالك "ص: 133". 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 321. ذكر ما جاء في الحجر والصلاة فيه: قال الفاكهي: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثني محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "يا أبا هريرة إن على باب الحجر ملكا يقول لمن دخل فصلى ركعتين: مغفورا لك ما مضى، فاستأنف العمل. وعلى باب الحجر الآخر ملك منذ خلق الله الدنيا إلى يوم يرفع البيت، يقول لمن صلى وخرج: مرحوما لك إن كنت من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقيا"1 ... انتهى. وروينا في "تاريخ الأزرقي" عن ابن عباس رضي الله عنهما: صلوا في مصلى الأخيار ... وسئل عن ذلك ابن عباس فقال: تحت الميزاب2... انتهى. وحكم الصلاة فيما في الحجر من الكعبة حكم الصلاة في الكعبة، في كونه من الكعبة، فلا تصح فيه على المشهور من مذهب مالك الفرض ولا النفل المؤكد، كالسنن، والوتر، وركعتي الطواف، وركعتي الفجر والطواف الواجب، ويصح فيه النفل غير المؤكد، ويستحب ذلك فيه كبقية الحجر، ويصح في بقية الحجر الفرض من غير كراهة. ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة: جواز جميع الصلوات في جميع الحجر. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 137. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 318. ج / 1 ص -289- ذكر ما جاء في الدعاء في الحجر تحت الميزاب: روينا في "تاريخ الأزرقي" عن عطاء قال: من قام تحت ميزاب الكعبة فدعا استجيب له، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وقد تقدم مثل ذلك عن الحسن البصري في الباب الخامس عشر، وفي رواية عنه: من قام تحت مثغب الكعبة، يعني ميزابها1. وروينا عن الحسن البصري في "رسالته" المشهورة قال: وسمعت أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أقبل ذات يوم، فقال لأصحابه: ألا تسألوني من أين جئت؟ قالوا: من أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت قائما على باب الجنة، وكان قائما تحت الميزاب يدعو الله عنده... انتهى. ومن فضائل الحجر: أن فيه قبر إسماعيل عليه السلام روينا عن ابن إسحاق في سيرته تهذيب ابن هشام، وروايته عن زياد البكائي عن ابن إسحاق قال: وكان عمر إسماعيل عليه السلام فيما يذكرون مائة سنة وثلاثين سنة، ثم مات رحمة الله وبركاته عليه فدفن في الحجر مع أمه هاجر، رحمهما الله2... انتهى. وقال الأزرقي: حدثني جدي، قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، قال: أخبرني ابن إسحاق: فذكر شيئا من خبر إسماعيل عليه السلام وذكر أولاده، ثم قال: وكان من حديث جرهم وبني إسماعيل، أن إسماعيل لما توفي دفن في الحجر مع أمه، وزعموا أنها دفنت فيه حين ماتت2. وذكر صاحب "الاكتفاء" أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر، وأن قبره مما يلي باب الكعبة. وقد اختلف في قبر إسماعيل عليه السلام فقيل: إنه في الحجر، وهو قول ابن إسحاق، وقيل: إنه في الحطيم، وقد سبق نقل الأزرقي له عن مقاتل في أخبار الحطيم، ونقله الفاكهي عن كعب الأحبار، وعن ابن سابط. وقال الفاكهي في "فضائل مكة": حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط أنه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود، وشعيب، وصالح، وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة. وقيل: إنه حيال الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود. وهذا القول ذكره المسعودي، لأنه قال: وقبض إسماعيل وله من العمر مائة وسبع وثلاثون سنة، فدفن في المسجد الحرام حيال الموضع الذي كان فيه الحجر الأسود3... انتهى. كذا وجدت في النسخة التي رأيتها من "تاريخ المسعودي" في الموضع الذي كان فيه الحجر، وأظن أن لفظة "كان" زيادة من الناسخ، لأن إثباتها لا يستقيم به معنى والله أعلم. وما ذكره المسعودي في قدر عمر إسماعيل عليه السلام يخالف ما ذكره فيه ابن إسحاق، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 318. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 313. 3 مروج الذهب 2/ 48. ج / 1 ص -290- وينبغي توقي النوم فيه، والاحتراز فيه من بدعتين، أحدثهما الناس لا أصل لهما على ما ذكره ابن جماعة فيما أخبرني به عنه خالي: إحداهما: وقوفهم في فتحتي الحجر للصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم. والأخرى: استقبالهم جهة النبي صلى الله عليه وسلم في فتحتي الحجر للدعاء، واستدبارهم للكعبة، والمعروف في آداب الدعاء استقبالها، هذا معنى كلامه. قال: والله تعالى يوفقنا لاجتناب البدعة، واتباع السنة بمنه وكرمه... انتهى. ذكر المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة: قد ذكر المحب الطبري هذه الأماكن بدلائلها في كتاب "القرى"1، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا الكتاب، ونشير هنا لشيء من تلك المواضع: الموضع الأول: خلف مقام إبراهيم عليه السلام. الثاني: تلقاء الحجر الأسود، على حاشية المطاف كما في النسائي، وابن حبان، من حديث المطلب بن أبي وداعة السهمي. الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحجر بسكون الجيم كما في مسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داود من حديث عبد الله بن السائب2. الرابع: عند باب الكعبة كما في تاريخ الأزرقي، وفوائد تمام الرازي3 من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمَّنِي جبريل عليه السلام عند باب الكعبة مرتين"4. الخامس: تلقاء الركن الذي يلي الحجر من جهة المغرب جانحا إلى جهة المغرب قليلا، بحيث يكون باب المسجد، الذي يقال له اليوم: باب العمرة خلف ظهره، كما في مسند أحمد بن حنبل، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث المطلب بن أبي وداعة: أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه5. وفي إسناده مجهول. وباب بني سهم هو باب العمرة المشار إليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 496". 2 مسند أحمد 6/ 399، سنن أبي داود "باب في مكة 2/ 211". 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 268. 4 أخرجه: الترمذي "أول الصلاة" 1/ 278، وأبو داود 1/ 107، والدارقطني 1/ 258، والحاكم 1/ 193. 5 أخرجه: أحمد في مسنده 1/ 237، 311، 5/ 208، سنن أبي داود 2/ 211، ابن ماجه "باب الركعتين بعد الطواف" 2/ 986. ج / 1 ص -291- السادس: في وجه الكعبة، كما في الصحيحين، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبل البيت ركعتين، وقال: "هذه القبلة"1 أخرجاه. وقال النسائي: سبح في نواحيه كلها وكبر ولم يصل، ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: "هذه القبلة"2. قال المحب الطبري: وجه الكعبة يطلق على بابها، ولهذا قيل للمحاذي له خلفها: دبر الكعبة، ثم قال: ويطلق على جميع الجانب الذي فيه الباب، وهو المتعارف، ثم قال: والظاهر أن هذا الموضع تلقاء المقام في فناء الكعبة، بحيث يكون المقام خلف المصلي فيه، وقال: ويحتمل على بُعد أن يكون هذا الموضع هو الموضع الرابع محل إمامة جبريل، وجوز فيه "المحب" وجها آخر، وهو أن يكون الموضع الأول هو خلف المقام، لأنه يقال فيه: وجه الكعبة، ثم قال: وقد ورد تفضيل وجه الكعبة على غيرها من الجهات. الموضع السابع: بين الركنين اليمانيين، وذكره ابن إسحاق في "سيرته" في قصة طويلة. الموضع الثامن: الحجر واستدل له بحديث خنق عقبة بن أبي معيط النبي صلى الله عليه وسلم في الحجر، كما في الصحيحين3 وذكر في هذا الفصل: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ثم قال: وورد أن آدم عليه السلام ركع إلى جانب الركن اليماني ركعتين وعزاه "لليقين" لابن أبي الدنيا، وتاريخ الأزرقي4، ثم قال: فصارت المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم يقينا وتخمينا تسعة مواضع. العاشر: مصلى آدم عليه السلام... انتهى كلام المحب الطبري5 وفيه أمور: منها: أن ذكره في هذا الفصل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لا يلائم الترجمة التي ذكرها، لأنه ترجم على هذا الفصل بقوله: ذكر مواضع حول البيت روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، وهذه الترجمة تقتضي أن يذكر فيها المواضع التي صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيها حول البيت، لا صلاته في البيت، والله أعلم. ومنها: أن ذكره في هذه الترجمة مصلى آدم عليه السلام غير ملائم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: البخاري 3/ 375 "باب: الحج، من كبر في نواحي الكعبة"، مسلم "الحج: 1330". 2 أخرجه النسائي 5/ 219، 220. 3 البخاري "فضائل الصحابة 5/ 4". 4 أخبار مكة 1/ 44. 5 القرى "ص: 348- 352". ج / 1 ص -292- ومنها: أن ذكره في هذه الترجمة مصلى آدم عليه السلام فيه احتمال، لأن آدم عليه السلام يحتمل أن يكون صلى عند الركن اليماني مما يلي الحجر الأسود، ويحتمل أن يكون صلى عند الركن اليماني مما يلي الباب المسدود في المستجار، وهذا أقرب، والله أعلم، لما سبق من قول الفاكهي. وقال بعض الناس: إن الموضع الذي تاب الله تعالى فيه على آدم عليه السلام عند الباب الذي فتحه ابن الزبير من دبرها عند الركن اليماني... انتهى. ومنها: أن ما ذكره من مصلى آدم عليه السلام عند الركن اليماني يخالف ما ذكره ابن سراقة، وابن جماعة من أنه في جهة الكعبة الشرقية، وقد سبق في "الباب الثامن" من هذا الكتاب أن مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية، وأن بينه وبين الحجرة المرخمة في هذه الجهة: ثلاثة أذرع إلا ثلث بالحديد، والله أعلم بالصواب. ومنها: أن "المحب" لم يعين الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين، لأنه يحتمل أن يكون صلى إلى وسط الجدار، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى وسط الجدار، ويحتمل أن يكون مائلا عن الوسط إلى جهة الحجر الأسود، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى وسط هذا الجدار، وتحريره بالوسط من هذا الجدار بأنه الرخامة التي في شاذروان الكعبة المكتوب فيها: "أن الملك المنصور لاجين أمر بعمارة المطاف". ومنها: أن المحب الطبري لم يبين أيضا الموضع الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة، وهو يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون صلى وجاه الباب. والثاني: أن يكون صلى في الحفرة المرخمة التي عند باب الكعبة على يمينه. والثالث: أن يكون صلى في الملتزم. وفي هذا الوجه بُعد. والوجه الأول أقرب، لأنه عند الباب حقيقة بخلاف الوجهين الآخرين، فإنه إنما يصدق عليهم عند باب الكعبة لقربهما منه، والله أعلم. وإنما نبهنا على ذلك، لأنه وقع لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام الشافعي، وشيخ اليمن أحمد بن موسى بن العجيل ما يقتضي أن مصلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليهوسلمي هو الحفرة المرخمة، ولم أقف على كلام ابن العجيل، وإنما بلغني أن الرضي الطبري إمام المقام وشيخ شيوخنا سأل الشيخ أحمد بن موسى بن العجيل عن تحقيق ذلك بطريق الكشف، فأخبره أن الحفرة المشار إليها هي مصلى جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم. ج / 1 ص -293- وأما كلام ابن عبد السلام فذكره عنه ابن جماعة في "منسكه"، لأنه قال: وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: إن الحفرة الملاصقة للكعبة بين الباب والحجر هي المكان الذي صلى فيه جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس حين فرضها الله تعالى على أمته، ولم أر ذلك لغيره، وفيه بعد، لأنه لو كان صحيحا لنبهوا عليه بالكتابة في الحفرة، ولما اقتصروا على من أمر بعمل المطاف، والله أعلم... انتهى كلام ابن جماعة1، وقد أخبرني بذلك عنه خالي رحمه الله. وفي خبر المقام عن سعيد بن جبير2 رحمه الله أن موضعه اليوم حذاء موضعه في هذا الباب: الصندوق الذي فيه المقام، إلا أن يجاوز الحفرة مما يلي الحِجر بسكون الجيم، فعلى هذا يكون المقام عند الكعبة في نصف الحفرة الملاصق للكعبة المشار إليها، وإذا كان هذا موضع المقام عند الكعبة، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه بعد خروجه من الكعبة، لأن النسائي روى عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من البيت ركع قبل البيت ركعتين، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين خلف المقام3، وهو وقبل البيت واحد، لأن المقام كان عند الكعبة على ما قيل، والله أعلم. ومنها: أن كلام المحب الطبري يقتضي أن المصلى الذي ذكره ابن السائب غير المصلى الذي ذكره أسامة لعَدِّه ذلك مصليين، وفي ذلك نظر، لأن حديث ابن السائب في المصلى الذي ذكره موافق لحديث أسامة رضي الله عنه في المصلى الذي ذكره ويظهر ذلك بذكر حديثهما، فلفظ حديث ابن السائب عند الأزرقي: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن محمد بن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن ابن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح في وجه الكعبة حذو الطرفة البيضاء، ثم رفع يديه فقال: "هذه القبلة"4... انتهى. ولفظ حديث أسامة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قبل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة" أخرجاه5. وقال النسائي: سبح في نواحيه وكبر ولم يصل، ثم خرج وصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: "هذه القبلة"6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 1/ 74. 2 رحلة ابن جبير "ص: 62". 3 أخرجه: النسائي 5/ 291. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 351. 5 البخاري 3/ 375، 8/ 14، ومسلم الحج: 1330، 1331". 6 أخرجه: النسائي 5/ 219. ج / 1 ص -294- ولا منافاة بين قول أسامة رضي الله عنه في الحديث الأول: "ركع قبل البيت"، وبين قوله في الحديث الثاني: "وصلى خلف المقام ركعتين"، لأن المقام كان في وجه الكعبة، على ما ذكر ابن عقبة في "مغازيه" وغيره، ويكون قوله: صلى خلف المقام: مفسرا لقوله: ركع قبل البيت لينتفي التعارض بين حديثيه، وهذا أولى من حمل قوله على أنه صلى خلف المقام في موضعه، لأنه إذا حمل على ذلك يفهم منه التناقض بين الحديثين، والله أعلم. وإذا كان حديث ابن السائب يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند الكعبة في يوم فتح مكة وقال: "هذه القبلة"، واقتضى ذلك أيضا حديث أسامة رضي الله عنه، ففي ذلك دليل على اتحاد المصلى الذي ذكره أسامة وابن السائب، ويتجه به النظر الذي أشرنا إليه في ما ذكره المحب الطبري، من أن المصلى الذي ذكره أسامة رضي الله عنه غير المصلى الذي ذكره ابن السائب، ولا يقال الحديث الذي استدل به المحب الطبري على المصلى الذي ذكره ابن السائب، غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن المحب الطبري قال في "القرى" لما ذكره في المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة: "الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحِجر، عن عبد الله بن السائب أنه كان يقود ابن عباس عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحِجر مما يلي الباب، فيقول له ابن عباس: عند الشقة الثالث: أثبتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ههنا؟ فيقول: نعم، فيقوم فيصلي، أخرجه أحمد، وأبو داود... انتهى. وقوله في هذا الحديث "أثبتَ" هو بنصب التاء لا برفعها، لأنه يلزم على رفعها أن يكون الحدث من رواية ابن السائب عن ابن عباس، ولا يعرف لابن عباس في هذا المعنى حديث، والله أعلم. وقوله: أثبت بألف، يعني "همزة الاستفهام"، ثم ثاء مثلثة، ثم باء موحدة، ثم تاء مثناة، من الثبات الذي بمعنى التحقيق للشيء، كأنه يقول له: تحققتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الموضع المشار إليه؟ فيقول: نعم. والله أعلم. وإنما لا يقال الحديث الذي استدل به المحب غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن الحديث الذي ذكره المحب يقتضي أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل ابن السائب عن موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الكعبة، والحديث الذي ذكره الأزرقي يقتضى إخبار ابن السائب بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة في وجه الكعبة، وأنه رفع يديه، وقال: "هذه القبلة" وبيَّن المصلى بقوله: "عند الطواف"، وذلك لا ينافي إثباته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الشقة الثالثة مقابلة الركن الشامي، لإمكان أن يكون موضع النظر فيه موضع الشقة الثالثة، فعرفه بالوجهين، واختصر في إخباره ابن عباس رضي الله عنه بعض القصة، والله أعلم. ج / 1 ص -295- ووجدت بخط مفتي الحرم رضي الدين محمد بن أبي خليل العسقلاني ما يقتضي أن للنبي صلى الله عليه وسلم مصلى بين هذه الحفرة وبين الحِجر بسكون الجيم، لأني وجدت بخط الرضي المذكور ما نصه: أخبرني الشيخ عثمان بن عبد الواحد العسقلاني المكي، عن بعض مشيخة مكة المتقدمين، أن المقام المحمدي: الحَجَر المشَوْبَر الذي عند الحفرة التي عند الكعبة على جانبها مما يلي حجر إسماعيل، وهو الحَجَر الذي إلى جانب هذه الحفرة المذكورة، والدعاء عنده مستجاب. وأخبرني المفتي عماد الدين بن عبد الرحمن بن محمد المذكور أن من يدعو خلفه بهذا الدعاء: يا واجد، يا واحد، يا ماجد، يا بر، يا رحيم، يا غني، يا كريم، أتمم عليّ نعمتك، وألبسني عافيتك، أُستجيب له... انتهى. والحفرة المشار إليها هي السابقة، والحَجَر المشَوْبَر: الذي هو علامة هذا المصلى لا يعرف الآن، وهو الموضع الثالث الذي ذكره المحبّ، لأنه ليس بين الحفرة المشار إليها والركن الشامي مصلى للنبي صلى الله عليه وسلم غير المصلى الثالث، والله أعلم. والحفرة المشار إليها جدد رخامها الذي هو بها الآن في سنة إحدى وثمانمائة، وقد حررنا أمورا تتعلق بذرعها، فكان طولها من الجهة الشامية إلى الجهة اليمانية، أربعة أذرع، وعرضها من الجهة الشرقية إلى جدار الكعبة: ذراعان وسدس، وعمقها: نصف ذراع كل ذلك بذراع الحديد والحفرة المشار إليها لم ترخم إلا بعد قدوم ابن جبير إلى مكة، وكان قدومه في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، لأنه ذكر هذا الموضع في أخبار رحلته، وذكر أنه علامة موضع المقام في عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى، وأنه مفروش برملة بيضاء1... انتهى بالمعنى. فدل ذلك على أنه لم يكن ترخيما حين رآه ابن جبير، وقد نبهنا فيما سبق على عدم استقامة قوله: إن هذا الموضع موضع المقام في عهد إبراهيم عليه السلام والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 62". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -296- الباب الثامن عشر: في ذكر شيء من أخبار توسعة المسجد الحرام وعمارته: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: أخبرني جدي قال: أنبأنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج قال: كان المسجد الحرام ليس عليه جدارات محاطة به، إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب، غير أن بين الدور أبوابا يدخل منها الناس، فاشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورا فهدمها، وهدم على من قرب من المسجد دورهم، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن، وتمنع من البيع، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارا قصيرا، وقال لهم عمر رضي الله عنه: إنما نزلت على الكعبة فهو فناؤها ولم تنزل عليكم. ثم كثر الناس في زمن عثمان رضي الله عنه، فوسع المسجد، فاشترى من قوم، وأبى آخرون فهدم عليهم1... انتهى باختصار. ولم يذكر الأزرقي السنة التي وسع فيها عمر رضي الله عنه المسجد الحرام، وهي سنة سبع عشرة من الهجرة2، ولا السنة التي وسعه فيها عثمان رضي الله عنه، وهي سنة ست وعشرين من الهجرة3، على ما ذكره ابن جرير وابن الأثير في تاريخ توسعتهما4. وذكر الأزرقي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وسع المسجد من جانبه الشرقي، وهو أعلاه مما يليه من جانبه الشامي، ومن جانبه اليماني. وكان مما وسع به في الجانب الشرقي نصف دار الأزرقي جد الأزرقي، اشترى ذلك ببضعة عشر ألف دينار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 68، 69. 2 تاريخ الطبري 4/ 206، والكامل لابن الأثير 2/ 227، الذهب المسبوك "ص: 14". 3 تاريخ الطبري 5/ 47، والكامل لابن الأثير. 3/ 36. 4 تاريخ الطبري 4/ 206، والكامل لابن الأثير 3/ 36. ج / 1 ص -297- ثم وسعه أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس من جانبه الشامي ومن جانبه الغربي إلى أن أوصله إلى ما هو عليه اليوم، إلا أنه بلغ فيما وسعه من الجانب الغربي إلى باب بني جمح، الذي هو فيه الآن في محاذاته فيما أحسب الزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم، ولم يجعل فيما وسعه من الجانبين إلا رواقا واحدا، وكان ابتداء عمل ذلك في المحرم سنة سبع وثلاثين ومائة1، والفراغ منه في ذي الحجة سنة أربعين ومائة. وكان الذي زاد فيه المنصور الضعف مما كان عليه قبل2. ثم وسعه المهدي بن أبي جعفر المنصور، من أعلاه ومن الجانب اليماني، ومن الموضع الذي انتهى إليه أبوه في الجانب الغربي، حتى صار على ما هو عليه الآن، خلا الزيادتين فإنهما أحدثتا بعده، كما سيأتي في خبرهما إن شاء الله تعالى. وكان توسعته له في نوبتين: الأولى في سنة إحدى وستين ومائة3، وفيها زيد فيما زاد أبوه في المسجد رواقان، والثانية في سنة سبع وستين، وكان أمر بها لما حج حجته الثانية في سنة أربع وستين، ولم تكمل هذه الزيادة إلا في خلافة4 ابنه موسى الهادي لمعاجلة المنية للمهدي بالاخترام، وكان مما عمل بعد موته بعض الجانب اليماني وبعض الغربي، وذلك من الأساطين الحجارة في الجانب اليماني إلى الموضع الذي انتهى إليه عمل المنصور في الجانب الغربي. وأنفق المهدي في توسعة المسجد الحرام وعمارته أموالا عظيمة المقدار، لأن ثمن كل ذراع مكسر دخل في المسجد الحرام خمسة وعشرون دينارا، وثمن كل ذراع مكسر دخل في الوادي، خمسة عشر دينارا، ونقل إليه أساطين الرخام من الشام وغيرها، حتى أنزلت بجدة، وحملت منها على العجل إلى مكة، إلى غير ذلك من الأمور التي عظمت فيها نفقته، ولم يكن له في ذلك نظير، عظم الله له الأجر واسمه الآن مكتوب في مواضع من المسجد الحرام، منها: قرب المنارة المعروفة بمنارة باب علي التي فيها الميل، وما ذكرناه من حال المسجد الحرم في ابتدائه وتوسعته حتى صار إلى ما هو عليه الآن، خلا الزيادتين، فهو ملخص بالمعنى، مختصر مما ذكره الأزرقي في هذا الأمر. وذكر في أخبار عمارته من غير توسعة فيه، أن عبد الملك بن مروان رفع جدرانه وسقفه بالساج، وجعل في رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا ذهبا، وعمره عمارة حسنة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 173، وذكر أن ذلك كان في سنة 138هـ، وهو كذلك في أخبار مكة للأزرقي 2/ 72، وفي المنتظم ذكر ذلك في حوادث سنة 139هـ. 2 تاريخ الطبري 9/ 217، ومروج الذهب 4/ 401، والكامل لابن الأثير 5/ 197، ودرر الفرائد "من: 209". 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 76، وإتحاف الورى 2/ 208. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 360: "في زمن ابنه موسى". ج / 1 ص -298- وأن ابنه الوليد بن عبد الملك نقض عمل أبيه وعمله عملا محكما، وسقفه بالساج المزخرف، وأزر المسجد من داخله بالرخام، وجعل له شرفا، وجعل على رأس الأساطين الذهب على صفائح الشبه1 من الصفر، وجعل في وجوه الطبقات من أعلاه الفسيفساء، وهو أول من عمله في المسجد الحرام، وأول من نقل إليه أساطين الرخام. وذكر أنه عمر في زمن المتوكل العباسي، هذا معنى ما ذكره الأزرقي في عمارة المسجد الحرام من غير توسعة. وذكر السهيلي في عمارة المسجد الحرام شيئا يستغرب، فنذكر ذلك، ثم نبين ما فيه، ونص كلام السهيلي: فلما كان زمن ابن الزبير رضي الله عنهما زاد في إتقانه لا في سعته، وجعل فيه عمدا من الرخام، وزاد في أبوابه وحسنها، فلما كان عبد الملك بن مروان، زاد في ارتفاع حائط المسجد، وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة، واحتملت من جدة على العجل إلى مكة2... انتهى. وما ذكره السهيلي من أن ابن الزبير رضي الله عنهما لم يوسع المسجد الحرام فيه نظر، لمخالفته ما هو المشهور في ذلك، ومن حفظ حجة على مَن لم يحفظ، وما ذكره من أن ابن الزبير رضي الله عنهما جعل في المسجد عمدا من الرخام، وأن عبد الملك حمل إليه السواري، يخالف أيضا ما ذكره الأزرقي من أن الوليد بن عبد الملك أول من نقل إليه الأساطين الرخام، لكن وقع للأزرقي ما يفهم خلال ذلك؛ لأنه قال: حدثني جدي، قال حدثنا سفيان بن عيينة، عن سعيد بن فروة، عن أبيه قال: كنت على عمل المسجد في زمن عبد الملك بن مروان، قال: فجعلوا في رءوس الأساطين خمسين مثقالا من ذهب، في رأس كل أسطوانة3... انتهى. ووجه مخالفة ذلك لما سبق أن عمل الذهب في رءوس الأساطين يقتضي وجودها حين عمل فيها ذلك، وإذا كانت موجودة فهي ما عمله عبد الملك أو ابن الزبير، وأي الأمرين كان فهو يخالف ما ذكره الأزرقي من أن الوليد بن عبد الملك أول من حمل إليه ذلك، والله أعلم بالصواب. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا بالأصل. 2 الروض الأنف 1/ 224. 3 أخبار مكة للأزرقي 2/ 71. ج / 1 ص -299- ذكر شيء من خبر توسعة المسجد الحرام بعد الأزرقي ومن خبر عمارته بعده: اعلم أنه لم يزد في المسجد الحرام بعد الأزرقي، إلا أن الزيادتين المعروفة إحداهما بزيادة دار الندوة بالجانب الشمالي، والثانية الزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم بالجانب الغربي، ولم يزد فيه بعد المهدي غير هاتين الزيادتين، فأما قول الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه" في أخبار سنة إحدى وسبعين ومائة: أن الخيزران أم الرشيد خرجت إلى مكة فأقامت بها حتى شهدت الحج1، وقد اشترت الدار المشهورة لها بمكة المشرفة المعروفة بدار الخيزران فزادتها في المسجد الحرام2 فهو غير مستقيم لأن الدار المشهورة بالخيزران بمكة إنما هي عند جبل الصفا، وبينها وبين المسجد الحرام طريق مسلوك يزيد على مائة ذراع على مقتضى ما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين باب المسجد المعروف بباب الصفا. والصفا هو مبدأ السعي، وهو قرب هذه الدار، فدخولها في المسجد الحرام غير ممكن، وأيضا فإنه لو وقع منها ذلك لاشتهر كما اشتهر توسعة غيرها من المسجد الحرام، ولذكره الأزرقي في "تاريخه" كما ذكر ما وقع من غيرها في هذا الأمر، والله أعلم3. وأيضا النقل، فإن إسحاق بن أحمد الخزاعي قال في خبر زيادة دار الندوة: أن الساعي فيها كتب إلى وزير المعتضد العباسي4 يحسن له جعل ما بقي من دار الندوة مسجدا ويقول له إن هذه تكرمة لم تهيئ لأحد من الخلفاء بعد المهدي، وذكر إسحاق الخزاعي شيئا من خبر هذه الزيادة وملخص ذلك أن الساعي فيها سأل قاضي مكة محمد بن أحمد المقدمي وأميرها "عج بن حاج" مولى أمير المؤمنين يعني المعتضد العباسي أن يكتبا فيها بمثل ما كتب، فكتبا، فعرضت كتبهم على المعتضد، فأمر المعتضد بعمارة دار الندوة مسجدا يوصل بالمسجد الكبير، وأخرج لذلك مالا عظيما، فحمل إلى قاضي بغداد يوسف بن يعقوب، فأنفذ بعضه صفائح، وأنفذ بعضه على يد ابنه عبد الله بن يوسف في وقت الحج، وقدم معه برجل يقال له أبو الهياج الأسدي، فوكله بالعمل، وخلف معه عمالا وأعوانا لذلك، فأخرجت القمائم من دار الندوة، وهدمت، ثم أنشئت مسجدا من أساسها بأساطين وطاقات وأروقة مسقفة بالساج المذهب المزخرف، ثم فتح لها في جدار المسجد الكبير اثنا عشر بابا: ستة كبار سعة كل باب خمسة أذرع، وارتفاعه إلى السماء أحد عشر ذراعا، وجعل بين الستة الأبواب الكبار ستة أبواب صغار، سعة كل باب منها ذراعان ونصف، وارتفاعه في السماء ثمانية أذرع وثلثا ذراع، وجعل سوى ذلك: ثلاثة أبواب شارعة في الطريق التي حولها، منها: بابان طاقان، وباب طاق واحد، وسوى جدرها وسقوفها بالمسجد الحرام، وجعل لها منارة وشرفا، وفرغ منها في ثلاث سنين، ولم يبين إسحاق الخزاعي السنة التي فرغ منها في عمارة هذه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 البداية والنهاية 10/ 112. 2 هذه المعلومة ليست عند ابن كثير. 3 ذكر هذه المعلومة ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 325، وانظر: الإعلام "ص: 112، 113"، ودرر الفرائد "ص: 220". 4 هو: عبيد الله بن سليمان بن وهب، وقد استمر وزيرا للمعتضد العباسي حتى سنة 288هـ. ج / 1 ص -300- الزيادة حين أنشئت، ولعل ذلك في سنة أربع وثمانين ومائتين على مقتضى ما ذكره من أنه كتب إلى المعتضد سبب إنشائها في سنة إحدى وثمانين ومائتين1. وذكر أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي ابن أخي إسحاق الخزاعي أن القاضي محمد بن موسى لما كان إليه إمرة البلد، غير الطاقات التي كانت في جدر المسجد الكبير حين عمرت هذه الزيادة وقد تقدم ذكرها وجعل ذلك بأساطين حجارة مدورة، عليها مصعد من ساج بطاقات معقودة بالآجر الأبيض والجص، ووصله بالمسجد الكبير وصولا أحسن من العمل الأول، حتى صار من في دار الندوة من مصل ومستقبل يستقبل القبلة فيراها كلها. عمل ذلك في سنة ست وثلاثمائة2. وأما الزيادة التي بالجانب الغربي المعروفة بزيادة باب إبراهيم، فذكر أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي شيئا من خبرها عند ذكر الأزرقي لباب بني جمح، ونص كلامه: قد كان هذا على ما ذكر الأزرقي، حتى كانت أيام جعفر المقتدر بالله أمير المؤمنين العباس. وكان يتولى الحكم بمكة محمد بن موسى، فغير هذين البابين، المعروف أحدهم بالحناطين، والآخر ببني جمح، وجعل ما بين دار زبيدة مسجدا أوصله بالمسجد الكبير، وعمله بأروقة وطاقات وصحن، وجعله شارعا على الوادي الأعظم بمكة، فانتفع الناس به وصلوا فيه، وذلك كله في سنة ست وسبع وثلاثمائة3... انتهى. ذكر صفة هذه الزيادة: أما صفة هذه الزيادة: فإنها تخالف الزيادة السابقة، لأنه ليس لها رواق غربي، وإنما لها رواق شرقي وشمالي وجنوبي، وموضع الغربي أبواب، وبينهما باب الزيادة، وكل رواق منها شقة واحدة، وغالب الجنوبي مما يلي الجهة الشرقية محوط ببيت فيه شبابيك من خشب، وهو السبيل المنسوب لملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي، وكانت عمارته في آخر عشر الستين وسبعمائة على ما بلغني، ولها صحن، هذا ملخص مختصر من خبر ما زيد في المسجد الحرام بعد الأزرقي. وأما ما وقع فيه من العمارات بعده فكثيرة، وقد شرحنا في أصل هذا الكتاب شيئا من خبرها واقتصرنا على أعظم ما وقع فيه من العمارة بعد الأزرقي وسببها، وذلك أن في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ذكر هذا ابن فهد في إتحاف الورى 2/ 352، وانظر: أخبار مكة للأزرقي 2/ 110. 2 إتحاف الورى 2/ 366، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 113. 3 إتحاف الورى 2/ 336. ج / 1 ص -301- ليلة السبت الثامن والعشرين1 من شوال سنة اثنين وثمانمائة، ظهرت نار من رباط رامشت بالجانب الغربي من المسجد الحرام، ولم يكن غير لحظة حتى تعلقت بسقف المسجد وعمت بالحريق الجانب الغربي منه، وبعض الرواقين المقدمين من الجانب الشامي بما في ذلك من السقوف والأساطين الرخام وصارت قطعا، وانتهى الحريق إلى محاذاة باب دار الصحابة، وسبب ذلك أن النار لم تجد شيئا تتعلق به لخلو باب دار الصحابة، وسبب ذلك: أن النار لم تجد شيئا تتعلق به لخلو ذلك الموضع، وهو عمودان عليهما عقود وسقف بعد سقوطه لتخربه في السيل المهول الذي كان بمكة في هذه السنة أيضا، فصار ما احترق من المسجد الحرام أكواما عظاما تمنع من الصلاة في موضعها ومن رؤية الكعبة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قدر الله تعالى عمارة ذلك في مدة لطيفة على يد الأمير بيسق الظاهري2 أعزه الله تعالى، وكان قدومه لذلك في موسم سنة ثلاث وثمانمائة، فلما رحل الحاج من مكة في هذه السنة شرع في شيل تلك الأكوام العظيمة، حتى فرغت، ثم أخذ في العمارة حتى عاد ذلك كما كان. إلا أن الأساطين التي بالجانب الغربي حجارة منحوتة، وكذلك الأساطين التي في الجانب الشامي خلا أساطين يسيرة في مقدمة الجانب المذكور، فإنها رخام مكسر ملصق بالحديد، وكان الفراغ من عمارة ذلك في العشر الأخير من شعبان سنة أربع وثمانمائة3. وعجب الناس كثيرا من سرعة عمارة ذلك في هذه المدة، لأن من رأى ذلك قبل عمارته كان يقطع بأن هذه العمارة إنما تنهض في مدة سنين، باعتبار العادة في العمارات، فلله الحمد على نعمه التي لا تحصى ولم يبق من ذلك محتاجا إلى العمارة إلا سقف الجانب الغربي، والذي أوجب تركه أنه لم يوجد بمكة خشب ساج يسقف به، ولو وجد بمكة لما جاء الموسم من سنة أربع وثمانمائة إلا وجميع ذلك فارغ بقدرة الله تعالى. ولما كان المحرم مفتتح شهور سنة سبع وثمانمائة، قدم إلى مكة الأمير بيسق المذكور أحسن الله إليه، لعمارة هذا السقف وغيره مما تشقق من المسجد الحرام، ونهض أيضا في مدة لطيفة بقدرة الله لأن الأمير بيسق المشار إليه جرى على عادته في علو الهمة وعني من حين وصوله بتحصيل الأخشاب، ثم بتهيئتها لعمل السقف، ثم بتركيبها في محلها، والخشب الذي سقف به ذلك يقال له خشب العرعر4، جيء به إلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في إتحاف الورى 3/ 420: "ثامن عشر"، وانظر أيضا: السلوك للمقريزي 3/ 3: 1019، ونزهة النفوس 2/ 61، ودرر الفرائد "ص: 316، 317". 2 هو "بيسق الشيخي" مات سنة 821هـ، انظر ترجمته في "الضوء اللامع 3/ 22، 23". 3 إتحاف الورى 3/ 423، والسلوك 3/ 3: 1064. 4 "العرعر": شجر من أشجار الصنوبريات، وأنواعه كثيرة. ج / 1 ص -302- مكة من جهة الطائف، وأصلح الأمير المذكور في هذه السنة مواضع أخرى كانت متشققة بالمسجد الحرام وسقوفا فيه، فلله الحمد على ذلك1. ثم عمرت أماكن من المسجد الحرام في سنة خمس عشرة وثمانمائة، فمن ذلك: عقدان على أسطوانة واحدة في الصف الأول من الرواق اليماني، مقابل المدرسة البنجالية، وأماكن في سقف المسجد الحرام كثيرة، وكان المتولي لأمر هذه العمارة شيخنا قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشي المخزومي المكي2 من مال تطوع به بعض أهل الخير أثابهم الله3. ثم كثر الشعث والخراب بالمسجد الحرام بعد ذلك، وسقط كثير من سقوفه، ومن ذلك: أماكن بالجانب الغربي، وموضع بالجانب اليماني يقابل العقدين المشار إليهما. ومن ذلك: سقف بالجنب الشرقي في موضع يقال له باب العباس، قريبا من سقف عقدين. ومن ذلك: ما يقابل باب الجنائز، ورباط المراغي، والسدة: نحو أربعة عقود. ومن ذلك: بالجانب الشامي سقف عقد بقرب باب الدريبة، وموضع آخر بهذا الجانب يقابل رباط أم الخليفة الناصر العباسي المعروف بالعطيفية. ومن ذلك: سقف ستة عقود في محاذاة زيادة دار الندوة في الرواق الذي يليها. ومن ذلك: سقف عقد مقابل باب دار العجلة. ومن ذلك: سقف عقدين بالرواق الغربي من زيادة دار الندوة. ومن ذلك: ما فوق أحد بابي الجنائز الذي يلي رباط المراغي المعروف بالقيلاني إلى آخر جدار المسجد الحرام الذي يلي رباط المراغي، وقد عمر من ذلك باب الجنائز عمارة حسنة، مع جدار المسجد الحرام الذي يلي رباط القيلاني، وكان ما بين بابي الجنائز قائما لم يسقط قبل عمارته، وإنما تخرب4، فهدم ذلك حتى بلغ الأرض، وأزيلت أسطوانتان من رخام كانتا متصلتان5 بالبناء الذي بين البابين، وبين بابي الجنائز تبرة كبيرة بحجر منحوت من ظاهرها فيما يبدو للناس وباطنها بحجر غشيم، حتى ارتفعت عن الأرض نحو أربعة أذرع بالعمل، وبني فوقها عقدان عليها وعلى جدار المسجد الحرام إلى المدرسة الأفضلية، وجدار المسجد الحرام إلى رباط القيلاني. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 430. 2 مات سنة 817هـ، انظر ترجمته في "الضوء اللامع 8/ 92- 95 رقم 194". 3 إتحاف الورى 3/ 485. 4 كذا وردت بالأصل. 5 كذا وردت، والصحيح "متصلتين". ج / 1 ص -303- وهذان العقدان مبنيان بحجارة منحوتة مما يلي المسعى، وفيه رخام وشيء فوق أسقفة البابين مما يلي بطن المسجد، وفوق الدرج عقدان من آجر بالنورة، وفي كل عقد عقد لطيف، واستحسنت عمارة ذلك وكتب بسبب هذه العمارة في لوح من رخام: أن ذلك عمر في سنة خمس وعشرين وثمانمائة في ذي القعدة، بأمر صاحب مصر الملك الأشرف برسباي على يد الأمير زين الدين مقبل القديدي صاحبنا1، ونصبت الأخشاب في المواضع الساقطة من هذا الجانب أعني الشرقي وفي الجانب اليماني، وفي الجانب الغربي، وفي الجانب الشامي بقرب باب الدريبة، وقبالة العطيفية، وبقي سقف ذلك الأعلى وإتقانه بالجص والدلك. وكان بالجانب الشامي في محاذاة باب دار العجلة في الرواق الأوسط أسطوانة من رخام مشدودة بالحديد والرصاص، فأزيلت وعوض عنها بأسطوانة صحيحة من رخام، هي إحدى الأسطوانتين اللتين كانتا بظاهر باب الجنائز، وبني في هذا الجانب في الصف الأول الذي يلي بطن المسجد سبعة عقود، وبني في هذا الجانب عدة عقود في مؤخرة عقد فوق الدكة المنسوبة للفقيه أبي السعود بن ظهيرة، وعقود أخر تلي ذلك إلى باب دار العجلة، وزيد بناء يشد العقود المذكورة في عرض ما تحتها وطوله، واستحسن جميع ذلك. ومما بني في هذا الجانب، ثمانية عقود في العقد الثاني، وثلاثة عقود في الصف الذي يليه بعد إحكام الأساطين الذي2 تحت ذلك الحملة المبني من العقود سبعة في الصف الذي يلي بطن المسجد، وثمانية في التي تليه، وثلاثة في المؤخرة، وبني عقدان قبالة باب الجنائز، وبترة بين باب المجاهدية. وجددت أبواب المسجد الحرام، منها: بابان لباب الجنائز، وثلاثة لباب العباس، والباب الأوسط من باب الصفا، وباب الصحابة، وباب الزيادة المفرد، وأصلحت مواضع في أبواب المسجد، وعمرت سقوفه، ونورت أو أكثرها بالنورة، وذلك في سنة ست وعشرين وثمانمائة، إلا قليلا، في سنة خمس وعشرين وذلك على يد الأمير زين الدين مقبل المذكور، أثابه الله تعالى3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الإعلام بأعلام بيت الله الحرام "ص: 207، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 233، وإتحاف الورى 3/ 587. 2 كذا بالأصل. 3 إتحاف الورى 3/ 597، والعقد الثمين 1/ 50. ج / 1 ص -304- ذكر ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين: وبالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: ذرع المسجد الحرام مكسرا مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع، وذراع المسجد الحرام طولا من باب بني جمح إلى باب بني هاشم الذي عنده العلم الأخضر بمقابل دار العباس بن عبد المطلب أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، مع جدر به تمر في بطن الحجر لاصقة1 بجدر الكعبة، وعرضه من باب دار الندوة إلى الجدار الذي يلي الوادي عند باب الصفا لاصقا بوجه الكعبة: ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرع عرض المسجد الحرام من المنارة التي عند المسعى إلى المنارة التي عند باب بني شيبة الكبير: مائتا ذرع وثمان وسبعون ذراعا، وذرع عرض المسجد الحرام من منارة باب أجياد إلى منارة باب بني سهم: مائتا ذراع وسبعون ذراعا2... انتهى. قلت: باب بني جمح لا أثر له الآن، وموضعه فيما أظن بعض الأساطين المتقدمة في زيادة باب إبراهيم التي في وزان جدار المسجد من هذا الجانب، والله أعلم. وباب بني سهم: هو باب المسجد المعروف الآن بباب العمرة. وقد حررنا ذرع طول المسجد الحرام وعرضه فكان طوله من جداره الغربي إلى جداره الشرقي المقابل له: ثلاثمائة ذراع وستة وخمسين ذراعا وثمن، بذراع الحديد، ويكون ذلك بذراع اليد: أربعمائة ذراع وسبعة أذرع، وذلك من وسط جداره الغربي الذي هو جدار رباط الخوزي إلى وسط جداره الشرقي عند باب المسجد المعروف بباب الجنائز، يمر به في الحجر ملاصقا لجدار الكعبة الشامي، وكان عرضه من جداره الشامي إلى جداره اليماني: مائتي ذراع وستة وستين ذراعا بذراع الحديد، ويكون ذلك بذراع اليد: ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وذلك من وسط جداره القديم عند العقود التي يدخل منها إلى زيادة دار الندوة إلى وسط جدار المسجد اليماني، فيما بين مقام إبراهيم والكعبة، وهو إلى المقام أقرب، حرر لذلك جماعة معتمد عليهم من أصحابنا أثابهم الله وكان تحرير ذلك في ليلة الخمس السابع عشر من ربيع الأول سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد طابق ما حررناه في ذرع عرض المسجد الحرام ما ذكره في ذراعه من وسطه. وذكره ابن خرداذبه في ذرع المسجد طولا وعرضا ما يخالف ذلك، لأنه قال: وطول المسجد الحرام ثلاثمائة وسبعون ذراعا، وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعا3... انتهى. وهذا غريب، لذلك ذكرناه. وذكر القاضي عز الدين بن جماعة في مقدار المسجد الحرام وجها آخر، لأنه قال ومساحة المسجد الحرام ستة أفدنة ونصف وربع، والفدان عشرة آلاف ذراع بذراع العمل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 2/ 82: "مع جدرية يمر في بطن الحجر لاصقا". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 81، 82. 3 المسالك والممالك "ص: 132". ج / 1 ص -305- المستعمل في البنيان بمصر، وهو ثلاثة أشبار تقريبا1... انتهى. أخبرني بذلك عن ابن جماعة خالي، رحمهما الله. وذكر الأزرقي رحمه الله مقدار المسجد الحرام في زمان ابن الزبير رضي الله عنهما لأنه قال حدثني جدي قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن زادان بن فروخ قال: مسجد الكوفة تسعة أجربة، ومسجد مكة سبعة أجربة وشيء. قال أبو الوليد: قال جدي: وذلك في زمن ابن الزبير2... انتهى. ونذكر مقدار الجريب لما في ذلك من زيادة الفائدة في بيان مقدار المسجد الحرام في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما، وقد ذكر ذلك الماوردي في الأحكام السلطانية"، والنووي، والقلعي، وصاحب "الوافي" فأما الماوردي فقال: إنه عشر قصبات في عشر قصبات ذرع كل قصبة ستة أذرع3، قال ابن الرفعة بعد ذكره لكلام الماوردي: فإذا ضربت ذلك بالتكسير بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة، وأما النووي والقلعي وصاحب "الوافي" فقالوا: إنه أرض مربعة كل قائمة منها ستون ذراعا، قال ابن الرفعة بعد ذكره لذلك: وأنت إذا ضربت ذلك في مثله بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة ذراع، وقال ابن يونس: الجريب ستة آلاف ذراع وأربعمائة ذراع... انتهى. وعلى ما ذكره الماوردي ومن وافقه في مقدار الجريب، يكون المسجد الحرام في زمان ابن الزبير رضي الله عنهما خمسة وعشرين ألف ذراع ومائتي ذراع، لأن ذلك مقدار سبعة أجربة، ويزيد مقداره على ذلك بزيادة على السبعة الأجربة التي قيلت في مقداره. وعلى ما ذكره ابن يونس في مقدار الجريب يكون المسجد الحرام في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما خمسة وأربعين ألف ذراع ينقص مئتي ذراع، لأن ذلك مقدار السبعة الأجربة على هذا القول، ويزيد مقدار المسجد على ذلك بزيادة على السبعة الأجربة، وأظن أن ما قيل من أن مسجد مكة سبعة أجربة وشيء في زمان ابن الزبير رضي الله عنهما، يكون مقدار هذا بعد أن وسَّعه ابن الزبير رضي الله عنهما لا قبل أن يوسعه، والله أعلم. وقد ذكر الأزرقي في حد المسجد الحرام وجها آخر، لأنه قال فيما رُوِّينا عنه: حدثني جدي قال: أخبرنا أبا مسلم بن خالد قال: سمعت محمد بن الحارث بن سفيان يحدث عن علي الأزدي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إنا لنجد في كتاب الله عز وجل أن حد المسجد الحرام من الحَزْوَرَة إلى المسعى وحدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا هشام بن سليمان، عن عبد الله بن عكرمة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد، وقال: والمهدي وضع المسجد على المسعى4... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 3/ 1334، 1335. 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 71. 3 الأحكام السلطانية "ص: 152". 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 62. ج / 1 ص -306- ذكر ذرع زيادة دار الندوة: ذرعها طولا: أربعة وسبعون ذراعا بتقديم السين إلا ربع ذراع، بذراع الحديد المتقدم ذكره، وذلك من جدار المسجد الكبير إلى الجدار المقابل له الشامي، وعنده باب منارتها، وذرعها عرضا من وسط جدارها الشرقي إلى وسط جدارها الغربي: سبعون ذراعا -بتقديم السين- ونصف، وذرع صحنها طولا من الأساطين التي في مقدم الجانب الجنوبي إلى الأساطين التي في مقدم الجانب الشمالي: سبعة وثلاثون ذراعا، وذرع عرض صحنها كذلك بزيادة سدس ذراع، كل ذلك بذراع الحديد. ذكر ذراع زيادة باب إبراهيم: أما ذرعها طولا: سبعة وخمسون ذراعا إلا سدس ذراع، وذلك من الأساطين التي في وزان جدار المسجد الكبير، إلى العتبة التي فيها باب هذه الزيادة. وأما ذرعها عرضا: فاثنان وخمسون ذراعا وربع، وذلك من صدر حائط رباط الخوزي إلى جدار رباط رامشت، المقابل له من جدار دار زبيدة إلى جدار رباط رامشت أيضا، إلا أنه ينقص من هنا عن الأول ربع ذراع، وذرع صحنها طولا: ستة وثلاثون ذراعا وربع وثمن وذلك من الأساطين التي تلي صحنها إلى عتبة باب القبة وذرع صحنها عرضا: ثلاثة وثلاثون ذراعا ونصف، كل ذلك بذراع الحديد المشار إليه، وكان تحرير ذرع هاتين الزيادتين بحضوري1. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ينبغي أن يعلم القارئ العزيز أن المسجد الحرام لم يطرأ عليه أية زيادة تذكر منذ عهد الخليفة العباس "المقتدر بالله" سنة "306هـ" وحتى عام 1375"هـ حتى قام جلالة الملك "سعود بن عبد العزيز آل سعود" رحمه الله بتوسعة المسجد الحرام وإنما كان كل ما ذكر بعد زيادة الخليفة "المقتدر" عبارة عن بعض التجديدات والترميمات على البناء الذي كان موجودا، وقد أولى العثمانيون الحرم المكي اهتماما كبيرا فقام السلطان سليم بعمل عمارة توازي ما شيده المهدي العباسي، ثم أجرى السلطان سليم عمارة الحرم الشريف في عام "972هـ" جدد خلالها سطح الكعبة المشرفة وفرش والمطاف وأهدى المسجد الحرام منبرا مطعما بالمرمر، وأنشأ منارة عظيمة الارتفاع واختير أحمد بك كتخذا للإشراف على هذه العمارة التي حلت فيها القباب محل السقف الخشبي وأنشئت نتيجة لذلك العديد من الأعمدة الرخامية. واستخدمت الأعمدة التي تبقت من = ج / 1 ص -307- . ....................  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ = عمارة المهدي وقد أصبح عدد الأعمدة بعد هذه العمارة "589" عمودا موزعة على جميع جهات المسجد والعقود "881" عقدا. وفي المسجد "152" قبة موزعة على جهات المسجد الأربع. و"232" طاجنا بجوار القباب، وعدد الأبواب "26" بابا، وبلغت مساحة المسجد الحرام في العمارة العثمانية التي تمت في سنة "984"هـ "28003". أمتار مربعة. وبذلك تقل عن مساحة المسجد الحرام بعد عهد المهدي العباسي وقد بدأت هذه العمارة في عهد السلطان سليم. وأتمها خليفته السلطان مراد. وهذه العمارة أجريت عدة ترميمات وإصلاحات لها. منها: عمارة السلطان محمد خان سنة "1005هـ" وترميم السلطان عبد العزيز سنة "1278هـ" والسطان عبد الحميد سنة "1314هـ" والسلطان محمود رشاد سنة "1327هـ". حتى جاء عصر الملك "سعود الذي بلغت الزيادة التي قام بها "153000" م2 وأصبحت بذلك مساحة المسجد الحرام "180850"م2 ومن بعده بفترة التجديدات والتوسعات الضخمة التي تمت بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك "فهد بن عبد العزيز آل سعود". والذي بلغت في عهده التوسعات أقصى درجة لها، حيث بلغت المساحة الإجمالية للمسجد الحرام "256850م2" بعد أن كانت "180850م2" وبتلك الزيادت تكون التوسعة السعودية الأولى والثانية قد ضاعفت مساحة المسجد الحرام حوالي 9 أمثال المساحة القديمة للحرم حتى توسعة الخليفة المقتدر. المصدر: خرائط ورسوم واردة بآخر كتاب: الزيادات في الحرم المكي الشريف من العصر النبوي إلى العصر السعودي". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -308- الباب التاسع عشر: ذكر عدد أساطين المسجد الحرام غير الزيادتين وصفتها: رُوِّينا عن الأزرقي بالسند

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...