65-استكمال مكتبات بريد جاري

مشاري راشد في سورة الأحقاف

Translate

Translate

الأربعاء، 14 فبراير 2024

ج1. آثار البلاد وأخبار العباد*{زكريا بن محمد القزويني}

 
** 

 بسم الله الرحمن الرحيم
    العزّ لك، والجلال لكبريائك، والعظمة لثنائك، والدوام لبقائك، يا قديم الذات ومفيض الخيرات. أنت الأوّل لا شيء قبلك، وأنت الآخر لا شيء بعدك، وأنت الفرد لا شريك لك. يا واهب العقول وجاعل النور والظلمات، منك الابتداء وإليك الانتهاء، وبقدرتك تكوّنت الأشياء، وبإرادتك قامت الأرض والسموات، أفض علينا أنوار معرفتك، وطهّر نفوسنا عن كدورات معصيتك، وألهمنا موجبات رحمتك ومغفرتك، ووفقنا لما تحبّ وترضى من الخيرات والسعادات، وصل على ذوي الأنفس الطاهرات والمعجزات الباهرات، خصوصًا على سيّد المرسلين وإمام المتقين، وقايد الغرّ المحجلين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، أفضل الصلوات، وعلى آله وأصحابه الطيّبين والطيّبات، وعلى الذين اتبعوهم بإحسان من أهل السنة والجماعات.
    يقول العبد زكريا بن محمد بن محمود القزويني، تولّاه الله بفضله، بعد حمد الله حمدًا يرضيه، ويوجب مزيد فضله وأياديه: إني قد جمعت في هذا الكتاب ما وقع لي وعرفته، وسمعت به وشاهدته من لطايف صنع الله تعالى، وعجايب حكمته المودعة في بلاده وعباده؛ فإن الأرض جرم بسيط متشابه الأجزاء، وبسبب تأثير الشمس فيها، ونزول المطر عليها، وهبوب الرياح بها، ظهرت فيها آثار عجيبة، وتختصّ كلّ بقعة بخاصّية لا توجد في غيرها: فمنها ما صار حجرًا صلدًا، ومنها ما صار طينًا حرًا، ومنها ما صار طينة سبخة. ولكل واحد منها خاصّية عجيبة وحكمة عجيبة وحكمة بديعة، فإن الحجر الصلد يتولّد فيه الجواهر النفيسة كاليواقيت والزبرجد وغيرهما، والطين الحر ينبت الثمار والزروع بعجيب ألوانها وأشكالها وطعومها وروايحها، والطينة السبخة يتولّد منها الشبوب والزاجات والاملاح بفوايدها وكذلك الإنسان حيوان متساوي الآحاد بالحدّ والحقيقة لكن بواسطة الالطاف الإلهيّة تختلف آثارهم فصار أحدهم عالمًا محقّقًا والآخر عابدًا ورعًا والآخر صانعًا حاذقًا. فالعالم ينفع الناس بعلمه والعابد ببركته والصانع بصنعته ؛ فذكرت في هذا الكتاب ما كان من البلاد مخصوصًا بعجيب صنع الله تعالى ومن كان من العباد مخصوصًا بمزيد لطفه وعنايته فإنّه جليس أنيس يحدثك بعجيب صنع الله تعالى ويعرّفك أحوال الأمم الماضية وما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومآثر الآداب ويفصح بأحوال البلاد كأنّك تشاهدها ويعرب عن أخبار الكرام كأنّك تجالسهم:
    جليسٌ أنيسٌ يأمن الناس شرّه
    ويذكر أنواع المكارم والنّهى
    ويأمر بالإحسان والبرّ والتّقى
    وينهى عن الطّغيان والشرّ والأذى
    ومن انتفع بكتابي هذا وذكرني بالخير جعله الله من الأبرار ورفع درجاته في عقبى الدار. وأسأل الله تعالى العفو عمّا طغى به القلم أو همّ أوسها بذلك أو لمّ إنّه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. ولنقدّم على المقصود مقدّمات لابدّ منها لحصول تمام الغرض والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
    ==============
    المقدمة الأولى
    في الحاجة الداعية إلى احداث المدن والقرى، اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان على وجه لا يمكنه أن يعيش وحده كسائر الحيوانات بل يضطرّ إلى الاجتماع بغيره حتى يحصل الهيئة الاجتماعيّة التي يتوقف عليها المطعم والملبس فإنّهما موقوفان على مقدّمات كثيرة لا يمكن لكلّ واحد القيام بجميعها وحده. فإن الشخص الواحد كيف يتولّى الحراثة فإنّها موقوفة على آلاتها، وآلاتها تحتاج إلى النجّار، والنجّار يحتاج إلى الحداد، وكيف يقوم بأمر الملبوس، وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف والغزل والنسج وتهيئة آلاتها، فاقتضت الحكمة الإلهيّة الهيئة الاجتماعيّة وألهم كلّ واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدّمات حتى ينتفع بعضهم ببعض فترى الخبّاز يخبز الخبز، والعجّان يعجنه، والطحّان يطحنه، والحرّاث يحرثه، والنجّار يصلح آلات الحرّاث، والحدّاد يصلح آلات النجّار، وهكذا الصناعات بعضها موقوفة على البعض.
    وعند حصول
      كلّها يتمّ الهيئة الاجتماعيّة ومتى فقد شيء من ذلك فقد اختلّت الهيئة الاجتماعيّة كالبدن إذا فقد بعض أعضائه فيتوقف نظام معيشة الإنسان.
    ثمّ عند حصول الهيئة الاجتماعيّة لو اجتمعوا في صحراء لتأذّوا بالحرّ والبرد والمطر والريح ولو تستروا بالخيام والخرقاهات لم يأمنوا مكر اللصوص والعدوّ ولو اقتصروا على الحيطان والأبواب كما ترى في القرى التي لا سور لها لم يأمنوا صولة ذي البأس فألهمهم الله تعالى اتّخاذ السور والخندق والفصيل فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار.
    ثمّ إن الملوك الماضية لمّا أرادوا بناء المدن أخذوا آراء الحكماء في ذلك فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في البلاد وأفضل مكان في الناحية وأعلى منزل في المكان من السواحل والجبال ومهبّ الشمال لأنّها تفيد صحّة أبدان أهلها وحسن أمزجتها واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض فإنّها تورث كربًا وهرمًا.
    واتّخذوا للمدن سورا حصينًا مانعًا وللسور أبوابًا عدّة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه.
    واتّخذوا لها قهندزا لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمّامات ومراكض الخيل ومعاطن الإبل ومرابض الغنم وتركوا بقيّة مساكنها لدور السكان فأكثر ما بناها الملوك العظماء على هذه الهيئة فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيّبة وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة واعتبر ذلك بمن مسكنه لا يكون كذلك مثل الديالم والجيل والأكراد والتركمان وسكان البحر في تشويش طباعهم وركاكة عقولهم واختلاف صورهم.
    ثمّ اختصّت كلّ مدينة لاختلاف تربتها وهوائها بخاصيّة عجيبة وأوجد الحكماء فيها طلسمات غريبة ونشأ بها صنف من المعادن والنبات والحيوان لم يوجد في غيرها وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات فلنذكر ما وصل إلينا من خاصيّة بقعة بقعة إن شاء الله تعالى.
    ===================
    المقدمة الثانية في خواص البلاد
    وفيها فصلان
    الفصل الاول في تأثير البلاد في إسكانها
    قالت الحكماء : إن الأرض شرق وغرب وجنوب وشمال فما تناهى في التشريق وتحجّ منه نور المطلع فهو مكروه لفرط حرارته وشدّة إحراقه فإن الحيوان يحترق بها والنبات لا ينبت وما تناهى في التغريب أيضا مكروه لموازاته التشريق في المعنى الذي ذكرناه وما تناهى في الشمال أيضا مكروه لما فيه من البرد الشديد الذي لا يعيش الحيوان معه وما تناهى في الجنوب أيضا كذلك لفرط الحرارة فإنّها أرض محترقة لدوام مسامتة الشمس إيّاها.
    فالذي يصلح للسكنى من الأرض قدر يسير هو أوساط الإقليم الثالث والرابع والخامس وما سوى ذلك فأهلها معذّبون والعذاب عادة لهم وقالوا أيضا : المساكن الحارّة موسّعة للمسام مرخية للقوى مضعفة للحرارة العزيزيّة محلّلة للروح فتكون أبدان سكّانها متخلخلة ضعيفة وقلوبهم خائفة وقواهم ضعيفة لضعف هضمهم.
    وأمّا المساكن الباردة فإنّها مصلبّة للبدن مسددة للمسام مقوية للحرارة العزيزيّة فتكون أبدان سكّانها صلبة وفيهم الشجاعة وجودة القوى والهضم الجيّد. فإن استيلاء البرد على ظاهر أبدانهم يوجب احتقان الحرارة العزيزيّة في باطنهم.
    وأمّا المساكن الرطبة فلا يسخّن هواؤهم شديدا ولا يبرد شتاؤهم قويّا وسكّانها موصوفون بالسحنة الجيّدة ولين الجلود وسرعة قبول الكيفيّات والاسترخاء في الرياضات وكلال القوى.
    وأمّا المساكن اليابسة فتسدّد المسام وتورث القشف والنحول ويكون صيفها حارّا وشتاؤها باردا وأدمغة أهلها يابسة لكن قواهم حادّة.
    وأمّا المساكن الحجريّة فهواؤها في الصيف حارّ وفي الشتاء بارد وأبدان أهلها صلبة وعندهم سوء الخلق والتكبّر والاستبداد في الأمور والشجاعة في الحروب.
    وأمّا المساكن الآجاميّة والبحريّة فهي في حكم المساكن الرطبة وأنزل حالا وقد جرى ذكر المساكن الرطبة.
    الفصل الثاني في تأثير البلاد في المعادن والنبات والحيوان
    أمّا المعادن فالذهب لا يتكوّن إلّا في البراري الرملة والجبال الرخوة والفضّة والنحاس والرصاص والحديد لا يتكوّن إلّا في الأحجار المختلطة بالتراب اللين والكبريت لا يتكوّن إلّا في الأراضي الناريّة والزيبق لا يتكوّن إلّا في الأراضي المائية والأملاح لا تنعقد إلّا في الأراضي السبخة والشبوب والزاجات لا تتكوّن إلّا في التراب العفص والقار والنفط لا يتكوّن إلّا في الأراضي الدهنة أمّا تولّد الأحجار التي لها خواص فلا يعلم معادنها وسببها إلّا الله تعالى. وأمّا النبات فإنّ النخل والموز لا ينبتان إلّا بالبلاد الحارّة وكذلك الأترج والنارنج والرمان والليمون وأمّا الجوز واللوز والفستق فلا ينبت إلّا بالبلاد الباردة والقصب على شطوط الأنهار وكذا الدلب والمغيلان بالأراضي الصلبة والبراري القفار والقرنفل لا ينبت إلّا بجزيرة بأرض الهند والنارجيل والفلفل والزنجبيل لا ينبت إلّا بالهند وكذلك الساج والآبنوس والورس لا ينبت إلّا باليمن والزعفران بأرض الجبال بروذراورد وقصب الذريرة بأرض نهاوند والترنجبين يقع على شوك بخراسان.
    وأمّا الحيوان فإنّ الفيل لا يتولّد إلّا في جزائر البحار الجنوبيّة وعمرها بأرض الهند أطول من عمرها بغير أرض الهند وأنيابها لا تعظم مثل ما تعظم بأرضها والزرافة لا تتولّد إلّا بأرض الحبشة والجاموس لا يتولّد إلّا بالبلاد الحارّة قرب المياه ولا يعيش بالبلاد الباردة وعير العانة ليس له سفاد في غير بلاده كما يكون ذلك في بلاده ويحتاج أن يؤخذ من حافره ولا كذلك في بلاده والسنجاب والسمور وغزال المسك لا يتولّد إلّا في البلاد الشرقيّة الشماليّة والصقر والبازي والعقاب لا يتفرّخ إلّا على رؤوس الجبال الشامخة والنعامة والقطا لا يفرّخان إلّا في الفلوات والبطوط وطيور الماء لا تفرّخ إلّا في شطوط الأنهار والبطائح والآجام والفواخت والعصافير لا تفرّخ إلّا في العمارات والبلابل والقنابر لا تفرّخ إلّا في البساتين والحجل لا يفرّخ إلّا في الجبال هذا هو الغالب فإن وقع شيء على خلاف ذلك فهو نادر.
    والله الموفق للصواب.
    =====================
    المقدمة الثالثة في أقالیم الارض
    قال أبو الريحان الخوارزمي : إذا فرضنا أن دائرة معدل النهار تقطع كرة الأرض بنصفين : يسمّى أحد النصفين جنوبا والآخر شمالا. وإذا فرضنا دائرة تعبر عن قطبي معدّل النهار وتقطع الأرض صارت كرة الأرض أربعة أرباع : رربعان جنوبيّان وربعان شماليّان فالربع الشمالي المكشوف يسمّى ربعا مسكونا والربع المسكون مشتمل على البحار والجزائر والأنهار والجبال والمفاوز والبلدان والقرى على أن ما بقي منها تحت قطب الشمال قطعة غير مسكونة من افراط البرد وتراكم الثلوج وهذا الربع المسكون قسموه سبعة أقسام كلّ قسم يسمّى إقليما كأنّه بساط مفروش من الشرق إلى الغرب طولا ومن الجنوب إلى الشمال عرضا وإنّها مختلفة الطول والعرض فأطولها وأعرضها الإقليم الأوّل فإن وله من المشرق إلى المغرب نحو من ثلاثة آلاف فرسخ وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من مائة وخمسين فرسخا وأقصرها طولا وعرضا الإقليم السابع فإن طوله من المشرق إلى المغرب نحو من ألف وخمسماية فرسخ وعرضه من الجنوب إلى الشمال نحو من خمسين فرسخاً.
    وأما سائر الاقاليم فمختلف طولها وعرضها وهذه صورة كرة الارض بأقاليمها.💥💥💥💥💥💥

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/e/e8/%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A97_-%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF_%D9%88%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF.png
     
    وهذه القسمة ليست قسمة طبيعية لكنها خطوط وهمية وضعها الاولون الذين طافوا بالربع المسكون من الأرض ليعلموا بها حدود الممالك والمسالك مثل افريدون النبطي واسكندر الرومي واردشير الفارسي وإذا جاوزو الاقاليم السبعة فمنعهم من سلوكها البحار الزاخرة والجبال الشامخة والهوية المفرطة التغير في الحر والبرد والظلمة في ناحية الشمال تحت مدار بنات النعش فإن البراد هناك مفرط جداً لن ستة أشهر هناك شتاء وليل فيظلم الهواء ظلمة شديدة ويجمد الماء لشدة البرد فلا حيوان هناك ولا نبات.
    وفي مقابلتها من ناحية الجنوب تحت مدار سهيل يكون ستة أشهر صيفاً نهاراً كله فيحمى الهواء ويصير نارا سموما يحرق كلّ شيء فلا نبات ولا حيوان هناك.
    وأمّا جانب المغرب فيمنع البحر المحيط السلوك فيه لتلاطم الأمواج. وأمّا جانب المشرق فيمنع البحر والجبال الشامخة فإذا تأمّلت وجدت الناس محصورين في الأقاليم السبعة وليس لهم علم بحال بقية الأرض. فلنذكر ما وصل إلينا بقعة بقعة في إقليم إقليم مرتبة على حروف المعجم والله الموفق للسداد والهادي إلى سواء الصراط.
    =====================





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور

  ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...