== الله عنهما، أنه سأل بلالا رضي الله عنه: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ فقال: نعم، ركعتين بين الساريتين. وروينا ذلك في "سنن الدارقطني" من رواية زهير بن معاوية عن ابن الزبير عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث ابن الزبير، فسألت بلالا -رضي الله عنه- فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شرح معاني الآثار 1/ 391. 2 مسند أحمد 6/ 15. ج / 1 ص -191- وروينا في الصحيحين ما يقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما نسي أن يسأل بلالا عن قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وذلك من جملة حديث أخرجه البخاري عن شريح بن النعمان، عن فليج عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم عن قتيبة بن سعيد وأبي الربيع والزهري وأبي كامل الجحدري كلهم، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وروينا ذلك أيضا في سنن ابن ماجه، وفي رواية ابن ماجة: ثم لمت نفسي أن لا أكون سألته يعني بلالا كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكون هذه الأحاديث معارضة للأحاديث التي تقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما سأل بلالا رضي الله عنه عن قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هذه. وقد سبق ذكر هذه الأحاديث. وذكر شيخنا العراقي في الجمع بين هذه الأحاديث ثلاثة احتمالات، واستبعد منها اثنين وسكت عن الثالث وهو على ما قال فما أنبأني به، ويحتمل أن ابن عمر وإن كان سمع من بلال أنه صلى ركعتين لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما، لأن من صلى أربعا أو أكثر يصدق عليه أنه صلى ركعتين، على القول بأن مفهوم العدد ليس بحجة كم هو المرجح في الأصول فلعل الذي نسي أن يسأل عنه بلالا رضي الله عنه في أنه هل زاد على الركعتين شيئا أم لا؟ والله أعلم. ذكر من روى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة من الصحابة ومن نقلها منهم، رضي الله عنهم: روى هذه الصلاة بلال، وجابر بن عبد الله، وشيبة بن عثمان الحجبي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس على ما قيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن صفوان القرشي، وعثمان بن طلحة الحجبي، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وعائشة. ونفاها أسامة على المعروف عنه والفضل بن عباس وأخوه عبد الله بن عباس على ما صح عنه وليس في حديث أكثر الصحابة المثبتين لهذه الصلاة والنافين لها في أن ذلك وقع في يوم فتح مكة، وإنما ذلك مبين في حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وحديث جابر رضي الله عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وغيره، فيحمل على ذلك حديث من لم يقع في حديثه بيان زمن الصلاة المشار إليه، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، والمجمل منها يرد إلى المبين، وقد أشار إلى ذلك النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم، ولما تكلم على قوله في حديث ابن عمر رضي ج / 1 ص -192- الله عنهما: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ونزل بفناء الكعبة. هذا دليل على أن المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيه كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع... انتهى. ويتأيد ذلك بما رويناه في تاريخ الأزرقي قال: حدثني جدي قال: سمعت سفيان يعني ابن عيينة يقول: سمعت غير واحد من أهل العلم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج ولم يدخلها1... انتهى. وإذا تقرر ذلك فنشير إلى شيء من أحاديث الصحابة المشار إليهم رضي الله عنهم. فأما حديث بلال رضي الله عنه: فرويناه في شرح معاني الآثار" للطحاوي قال: حدثنا فهد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، عن مغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: دخل النبي البيت يوم الفتح فصلى فيه ركعتين. وأما حديث شيبة: فرويناه في "معجم ابن قانع" ولفظه: حدثنا خليد بن محمد، حدثنا القواريري: حدثنا محمد بن حمدان، وحدثنا أبو بشر، عن مسافع بن شيبة، عن أبيه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة فصلى فيها ركعتين ورأى فيها تصاوير فقال: "يا شيبة اكفني هذا"، فاشتد ذلك على شيبة فقال له رجل: اطله بزعفران، ففعل. وسيأتي إن شاء الله تعالى لشيبة في الباب الذي بعده حديث آخر في المعنى. ورويناه أيضا في "شرح الآثار" للطحاوي2 ونصه: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم، عن هرمز، عن عبد الرحمن بن الزجاج، قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان إن ابن عباس يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، قال: بلى، صلى ركعتين عند العمودين المقدمين، ألزق بهما ظهره. وحدثنا فهد قال: حدثنا محمد بن سعيد، أخبرنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الله بن مسلم، فذكره. وأما حديث ابن الزبير رضي الله عنه فرويناه في مسند أحمد بن حنبل، ولفظه: حدثنا عثمان قال: حدثنا حماد عن عبد الله بن أبي مليكة قال: إن معاوية قدم إلى مكة فدخل الكعبة، فبعث إلى ابن عمر يسأله أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: صلى بين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 273. 2 شرح معاني الآثار 1/ 392 "باب الصلاة في الكعبة". ج / 1 ص -193- الساريتين بحيال الباب، فجاء ابن الزبير فرج الباب رجا شديدا ففتح له، فقال لمعاوية: أما أنك قد علمت أني كنت أعلم مثل الذي تعلم ولكنك حسدتني. وأما حدث ابن عباس: فرويناه في "سنن الدارقطني" ولفظه: حدثنا الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا عيسى بن أبي حرب الصفار قال: حدثني يحيى بن أبي بكير، عن عبد الغفار بن القاسم قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم دخل مرة أخرى، وقام فيه يدعو، ثم خرج ولم يصل. وكتب الدارقطني على حاشية هذا الحديث: عبد الغفار ضعيف... انتهى. وروينا هذا الحديث في "معجم الطبراني الكبير" وفي إسناد أبو مريم، روي عن صغار التابعين، وبقية رجاله وثقوا، وفي بعضهم كلام. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل لذلك أيضا في مسند بلال للحسن بن محمد الصباح الزغفراني، ولفظه: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا عبد الله المؤمل قال: سمعت ابن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وكان بلال والفضل على الباب، فقال بلال: سجد، وقال الفضل: إنما كان يركع. وأما حديث عبد الله بن عمر: من غير ذكر بلال رضي الله عنهم: فأخبرني به الحافظ أبو أحمد بن الحسين الحاكم إجازة- إن لم يكن سماعا- قال: أخبرنا به محمد بن أزبك البدري بقراءتي عليه بظاهر دمشق في الرحلة الثالثة قال: أنبأنا محمد بن عبد المؤمن الصوري قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن قدامة، قال أنبأنا أحمد بن المقرب الكرخي، ونفيسة بنت أبي غلب البزار قالا: أنبأها طراد بن محمد القرشي قال: أنبأنا أحد بن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي قال: حدثنا محمد بن عمرو بن البحتري قال: حدثنا أحمد بن عبيد الجشمي قال: حدثنا غارم أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد بن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف البيت. هكذا رواه، عن غارم، عن حماد، وخالفه قتيبة، لأنه رواه عن حماد فزاد في إسناده بلالا، ورواية قتيبة أخرجها الترمذي عنه، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار"1: حدثنا أبو مرزوق قال: حدثنا وهب هو ابن جرير قال: حدثنا شعيب، عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، وسيأتي من ينهاك فلا تسمع قوله يعني ابن عباس .... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 شرح معاني الآثار 1/ 391 "باب الصلاة في الكعبة". ج / 1 ص -194- وقال أيضا: حدثنا فهد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: لا تجعل سائر البيت خلفك وائتم به جميعا. وسمعت ابن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. وأما حديث عبد الرحمن بن صفوان: فرويناه في "معجم الطبراني الكبير" ولفظه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت قال: صلى ركعتين بين الأسطوانتين عن يمين البيت. ورجال الطبراني رجال الصحيح على ما ذكر شيخنا أبو الحسن الحافظ. ورويناه في "مسند البزار"، ولفظه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي- وكانت داري على الطريق، فذكر الحديث إلى أن قال: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت من كان معه: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ركعتين عند السارية الوسطى عن يمينها. ورويناه في "سنن أبي داود السجستاني". ورويناه عن شيوخه عن جماعة لم يسموه في "شرح معاني الآثار للطحاوي قال: حدثنا ربيع الحبري قال: حدثنا عبد الله بن الحميدي قال: حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن يزيد بن أبي الزناد، عن مجاهد، عن ابن صفوان أو عبد الله بن صفوان قال: سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قد قدم، فجمعت علي ثيابي، فوجدته قد خرج من البيت، فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ قالوا: تجاهك، قلت: كم صلى؟ قالوا: ركعتين. وأما حديث عثمان بن طلخة: فهو في "صحيح مسلم" على الشك، لأنه روى بسنده إلى ابن عمر قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، ثم قال: فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة. ووقع في بعض نسخ مسلم على ما قال النووي بلال وعثمان بن طلحة، ويعضد ذلك رواية في مسلم يأتي ذكرها ولكن فيها علة، وهي أن بعض رواتها نسب فيها إلى الوهم. وروينا حديث عثمان بن طلحة في المعنى من غير شك في مسند أحمد بن حنبل، ولفظ حديثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت وجاهك حين تدخل بين الساريتين. ورجال أحمد رجال الصحيح. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" أيضا. ورويناه أيضا في "معجم ابن قانع" ولفظه: حدثنا محمد بن يونس قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عثمان بن طلحة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في البيت بين الساريتين. ج / 1 ص -195- ورويناه أيضا في "شرح معاني الآثار للطحاوي، ونصه: حدثنا علي بن عبد الرحمن، حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا هشام بن عروة، عن عروة، عن عثمان بن طلحة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت فصلى فيه ركعتين وجاهك بين الساريتين. وحسن شيخنا أبو الفضل الحافظ الحديث الذي من رواية ابن قانع. وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فرويناه في "سنن أبي داود السجستاني" ولفظه: حدثنا زهير بن حرب قال: حدثني عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب، كيف صنع رسول الله حين دخل الكعبة قال: صلى ركعتين1. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" فقال: حدثنا معلى بن شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: أنبأنا جرير فذكره بلفظه، إلا أنه قال: قال ابن أبي الزناد ولم يقل الخطاب، وقال أيضا: حدثنا ابن أبي داود، حدثنا أبو الوليد، حدثنا جرير بن عبد الحميد، فذكره بإسناده مثله، غير أنه قال: عبد الله بن صفوان2. وأما حديث أبي هريرة: فرويناه في "مسند البزار" ولفظه قال: لما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم عثمان بن طلحة أن ابعثي بالمفتاح أي مفتاح الكعبة فقالت: لا، والله والعزى لا أبعث به إليك، فقال قائل: ابعث إليها قسرًا، فقال ابنها عثمان: يا رسول الله إنها حديثة عهد بكفر فابعثني إليها حتى آتيك به، قال: فذهب، فقال: يا أمتاه إنه قد جاء أمر غير الذي كان، وإنه إن لم تعط المفتاح قتلت، قال: فأخرجته فدفعته إليه، فجاء به يسعى، فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر المفتاح بين يديه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فجئنا عليه بثوبه فأخذه، ثم جاء إلى الباب -أحسبه قال: ففتحه ثم قام عند أركان البيت وأرجائه يدعو، ثم صلى ركعتين بين الأسطوانتين. في إسناد هذا الحديث في "مسند البزار" زيد بن عوف وهو ضعيف. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرويناه في "سنن البيهقي" ولفظه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد بن الجبار بن مالك اللخمي بتنيس قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي: حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، أن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ج1/ 391 "باب الصلاة في الكعبة". 2 شرح معاني الآثار 1/ 393. ج / 1 ص -196- وأخرج هذا الحديث الحاكم في "المستدرك" بهذا الإسناد، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه1. وأما حديث أسامة: الموافق لهم في إثبات الصلاة فرويناه في "شرح معاني الآثار" للطحاوي أيضا قال: حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا ابن شريح قال: أخبرني محمد بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن قال: كنت مع أبي فلقيت عبد الله بن عمر فسأله أبي وأنا أسمع: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل البيت؟ فقال ابن عمر: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بين أسامة وبلال، فلما خرجا سألتهما أين صلى؟ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: على جهته. حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أحمد بن أشكاب، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن أبي الشعثاء، عن ابن عمر، قال: رأيته دخل البيت حتى إذا كان بن الساريتين مضى حتى لزق بالحائط، فقام فصلى، فجئت فقمت إلى جنبه، فصلى أربعا فقلت: أخبرني أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت؟ فقال: ههنا، أخبرني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى2. فهذه أحاديث الصحابة المثبتين لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة. وأما أحاديث الذين نفوها: حديث أسامة منها رويناه في "سنن النسائي" ولفظه: أخبرنا حاجب بن سليمان المنبجي، عن عبد المجيد بن أبي رواد، حدثنا ابن جريج، عن عطاء3، عن أسامة بن زيد قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فسبح في نواحيها وكبر ولم يصل، ثم خرج فصلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: هذه القبلة. ورويناه في "صحيح" من رواية عطاء عن عبد الله بن عباس عن أسامة. وأما حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما في نفي الصلاة: فرويناه في كتاب "الطبقات" لمحمد بن سعد كاتب الواقدي ولفظه: حدثنا موسى بن داود، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن الفضل قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت فكان يسبح ويكبر ويدعو ولا يركع. قال شيخنا أبو الفضل الحافظ بعد إخراجه لهذا الحديث من هذا الطريق: ورجاله رجال مسلم، إلا أن موسى بن داود الصيتي قاضي طرطوش تكلم فيه، وقد قيل: إنه تفرد عن حماد بن سلمة. وأخرجه أيضا شيخنا أبو الفضل الحافظ من معجم ابن قانع ثم قال بعد إخراجه له من طريقه: هذا حديث غريب من هذا الوجه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 المستدرك على الصحيحين 1/ 479. 2 شرح معاني الآثار 1/ 391. 3 هو عطاء بن أبي رباح. ج / 1 ص -197- ورويناه في "مسند أحمد بن حنبل" ولفظه" عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الفضل بن عباس أخبر أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة ولكنه لما خرج نزل فركع ركعتين عند باب البيت. ورواه الطبراني بمعناه في "الكبير"، ورجاله رجال أحمد، ورجال الصحيح. وأما حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في نفي الصلاة من غير إسناده ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل: فرويناه في صحيحي البخاري ومسلم، أما البخاري: فأخرجه عن إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها. والمشهور عن عبد الرزاق بهذا الإسناد عن ابن عباس عن أسامة، وكذا رواه النسائي وغيره. وأما مسلم: فقال: أخبرنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا همام قال: حدثنا عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. ذكر ترجيح رواية من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية من نفاها، وما قيل في الجمع بين ذلك: قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: رواية ابن عمر عن بلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أولى من رواية ابن عباس عن أسامة أنه لم يصل، لأنها زيادة مقبولة، وليس قول من قال من لم يفعل بشهادة إلى آخر كلامه. وقال السهيلي في "الروض الأنف" وأما دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيها فحديث بلال أنه صلى فيها، وحديث ابن عباس أنه لم يصل فيها وأخذ الناس بحديث بلال، لأنه أثبت الصلاة، وابن عباس نفاها، وإنما يؤخذ بشهادة المثبت لا بشهادة النافي، ومن تأول قول بلال رضي الله عنه أنه صلى أي دعا فليس بشيء، لأن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى فيها ركعتين، ولكن رواية ابن عباس، ورواية بلال، صحيحتان، لأنه عليه الصلاة والسلام دخلها يوم النحر فلم يصل، ودخلها من الغد فصلى فيها، وذلك في حجة الوداع، وهو حديث مروي عن ابن عمر بإسناد حسن أخرجه الدارقطني وهو من فوائده1 ... انتهى. وقال الشيخ محيي الدين النووي: أجمع أهل الحديث علي الأخذ برواية بلال رضي الله عنه لأنه مثبت، فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه قال: وأما نفي أسامة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 4/ 4. ج / 1 ص -198- رضي الله عنه فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى: أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال رضي الله عنه لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء، وكانت صلاته خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب، مع بعده واشتغاله بالدعاء وجائز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها، والله أعلم ... انتهى من شرح مسلم. وقال في "المجموع" وهو "شرح المهذب": قال العلماء: الأخذ برواية بلال رضي الله عنه في إثبات الصلاة أولى لأنه مثبت وقدم على النافي، فإن بلالا رضي الله عنه كان قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى معه، وراقبه في ذلك فرآه يصلي، وكان أسامة رضي الله عنه متباعدا مشتغلا بالدعاء والباب مغلق ولم ير الصلاة، فوجب الأخذ برواية بلال رضي الله عنه، لأنه معه زيادة علم ... انتهى. وقال المحب الطبري: وقد اختلف بلال وأسامة رضي الله عنهما في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت، وحكم العلماء بترجيح حديث بلال، لأنه أثبت، وضبط ما لم يضبطه أسامة رضي الله عنه والمثبت مقدم على النافي، ثم قال: ويحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. وقد روى ابن المنذر عن أسامة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأي صورا في الكعبة، فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به الصور. فأخبر أنه كان خرج لنقل الماء، وكان ذلك في يوم الفتح، وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة إنما كانت يوم الفتح لا في حجة الوداع. وقال أبو حاتم بن حبان: والأشبه عندي أن يحتمل الخبران على دخولين متغايرين أحدهما: يوم الفتح وصلى فيه. والآخر: في حجة الوداع ولم يصل فيه من غير أن يكون بينهما تضاد... انتهى. وقال القاضي عز الدين بن جماعة في هذا المعنى فيما أخبرني به خالي عنه: قال يعني أحمد بن حنبل حدثنا هشيم، قال: أنبأنا عبد الملك، عن عطاء، قال: قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه، وكبر، وهلل، وخرج ولم يصل، ثم دخلت معه في اليوم الثاني، فقام ودعا، ثم صلى ركعتين، ثم خرج فصلى ركعتين خارجا من البيت مستقبل وجه الكعبة، ثم انصرف وقال: هذه القبلة. وكذلك رواه أحمد بن منيع في مسنده، والدارقطني وغيرهم، وهو كلام شاف كاف في الجمع بين الأحاديث، فنحمد الله على التوفيق للجمع به، فإن ذلك من أجلّ الفوائد. ج / 1 ص -199- فإن بعض كبار العلماء قال: يحتمل أن يكون أسامة رضي الله عنه غاب عنه صلى الله عليه وسلم بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته. ثم قال ابن جماعة بعد أن ذكر كلاما للنووي في "المجموع" في الجمع بين حديث بلال وأسامة سبق ذكرنا له: وهذا يحتاج إلى نقل ولم أقف عليه، ولا ضرورة تعدو إليه، والله أعلم. ثم قال بعد أن ذكر كلام ابن حبان السابق في الجمع بين اختلاف بلال وأسامة رضي الله عنها وكلامه وكلام الشيخ محيي الدين يعني النووي ومن نقل عنهم يدل على أنهم لم يطلعوا على ما جمعنا به ... انتهى. وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" فإن كان هذا الباب يؤخذ من طريق تصحيح تواتر الأخبار فإن الأخبار قد تواترت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى في الكعبة ما لم يتواتر بمثله أنه لم يصل، وإن كان يؤخذ بأن أسامة بن زيد الذي حكى عنه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة خرج منها ولم يصل، فقد روى عنه ابن عمر، عن أسامة، فذلك أولى مما تفرد به ابن عباس عن أسامة، وقال الطحاوي أيضا: فكان ينبغي لما تضادت الروايات عن أسامة وتكافأت أن يرفع، ويثبت ما روي عن بلال إذا كان لم يختلف عنه في ذلك. هذا ما رأيته للناس من ترجيح حديث بلال رضي الله عنه في إثبات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على حديث من خالفه في ذلك، وما قيل في الجمع بين هذا الاختلاف وما ذكروه من الترجيح يتجه، ومما لعله أن يكون مرجحا لذلك أيضا من حيث المعنى على ما ظهر لي: أن الكعبة المعظمة كالمسجد الحرام في استحباب التحية لمن دخلها، والتحية للمسجد الحرام كالطواف لمريده والصلاة فيه، والطواف بالكعبة من داخلها غير مشروع، فلم يتبق لنا تحية إلا الصلاة فيها، كتحية سائر المساجد، فكيف يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصلي فيها مع بعد عهده من دخولها، فإنه من حين هاجر إلى المدينة لم يدخلها، وبين هجرته ودخوله هذا ثماني سنين، ومع طول مكثه صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا، فإن في مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أنهم لبثوا في البيت مليا قال النووي: أي طويلا. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما من رواية نافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث نهارا طويل في الكعبة حين دخلها يوم الفتح، وطول المكث بمكان يستدعي الجلوس فيه غالبا، ويبعد كل البعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس في الكعبة في دخوله هذا، أو أن يجلس فيها بغير صلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه الداخل إلى المسجد عن الجلوس فيه. ج / 1 ص -200- من غير صلاة، وما يؤيد كونه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة في دخوله هذا: إغلاق الباب عليه فيها كما في الصحيحين1 وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما للحكمة التي ذكرها العلماء في إغلاق الباب في دخوله هذا، وهي لئلا يكثر الناس عليه، فلا يتمكن من الصلاة في الكعبة على ما يريد صلى الله عليه وسلم وقيل: الحكمة في ذلك ليصلي صلى الله عليه وسلم إلى كل جهة من الكعبة، فإن الباب إذا كان مفتوحا وليس أمامه قدر مؤخرة الرحل لم تصح الصلاة إليه لعدم استقبال شيء من الكعبة، وذكر هذين القولين المحب الطبري في "القرى" واستظهر القول الأول، وذكر أنه يتأيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة أكثر من ركعتين على ما صح عنه. وأما الأوجه التي نقلناها عن العلماء في الجمع بين اختلاف خبر بلال، وأسامه، وابن عباس رضي الله عنهم في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فإن أقربها إلى الصواب ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة ليأتيه بماء يمحو به الصور التي رآها في الكعبة، فرأى ذلك بلال رضي الله عنه فأثبت الصلاة، ولم يره أسامة فنفاها، وإنما كان هذا الوجه أقرب إلى الصواب من الوجوه الأخر لقيام الدليل على ما يؤيده، وهو الحديث الذي رويناه في "مسند أبي داود الطيالسي" ولفظه: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال: حدثني عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". قلت: رجال هذا الحديث ثقات، فإن ابن أبي ذئب: هو محمد بن عبد الرحمن الإمام المشهور، وشيخه عبد الرحمن بن مهران وثقه النسائي، وابن سعد، وابن حبان، وشيخه عمير روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ويتأيد هذا الحديث بالحديث الذي رواه ابن المنذر في هذا المعنى ولم أر سنده فيه، والله أعلم. وأما الوجه الذي ذكره النووي في الجمع بين الاختلاف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فإنه وإن جاز وقوعه، ففيه بعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة هو وأسامة، وبلال رضي الله عنهما ومن دخل معه، إما أن يكون اشتغل بعد دخوله بالصلاة فيه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 راجع البخاري 3/ 371, 372 في "الحج، باب إغلاق البيت وباب الصلاة في الكعبة"، وفي "القبلة، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى}، وفي "المساجد، باب الأبواب والغلق. للكعبة والمساجد"، وفي "سترة المصلي، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة" وفي "التطوع: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى"، في "الجهاد: باب الردف على الحمار"، وفي المغازي: باب حجة الوداع"، ومسلم "1329" في "الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره". ج / 1 ص -201- قبل اشتغاله بغيرها مما صنعه في الكعبة، أو بدأ قبل الصلاة بالذكر والدعاء ونحو ذلك مما صنعه في الكعبة، فإن كان الأول: فكيف يخفى على أسامة رضي الله عنه؟ وإن كان الثاني وهو مقتضى كلام النووي فالحال يقتضي أن أسامة رضي الله عنه يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتدي به فيما يسمعه من دعواته الخيرية الجامعة النافعة، وحسن ثنائه على الله تعالى، وأن لا ينفرد عنه بمكان في الكعبة يدعو فيه ويذكر حتى لا يعلم ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وأما الوجه الذي ذكره ابن حبان في الجمع بين الاختلاف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فإن فيه نظرا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم فتح مكة، ودخل معه يومئذ أسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة والفضل بن عباس رضي الله عنهم، على خلاف في الفضل، وحديث دخول الفضل معهم في مسند أحمد بن حنبل وسنن النسائي. ولفظ أحمد: حدثنا هشيم قال: أنبأنا غير واحد، وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه الفضل بن العباس وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، وبلال .... الحديث. وإسناد هذا الحديث صحيح، ولكن في صحيح مسلم ما يخالفه، على ما سيأتي بيانه. وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن بلالا رضي الله عنه أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما دخلها يوم فتح مكة، وثبت من حديث أسامة والفضل رضي الله عنهما نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وليس في حديثهما التصريح بالزمن الذي نفيا فيه الصلاة، في حجة الوداع، لما قال ابن حبان، والأول أشبه بالصواب، لأنه إذا دار الأمر بين حمل حديثهما من نفي الصلاة على زمن ثبت دخولهما فيه إلى الكعبة، وبين حمل ذلك على زمن لم يثبت لهما فيه دخوله، فحمله على الزمن الذي ثبت دخولهما فيه أولى، وفي حمله على الوجه الذي ذكره ابن حبان إشكال، لأن ذلك يستلزم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، ودخول أسامة رضي الله عنه ومن نفى معه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ولم يرد خبر يشعر بذلك، فكيف يحمل على ذلك حديث من نفى الصلاة في الكعبة كما قال ابن حبان. ولا يعارض ذلك حديث عائشة رضي الله عنها لدخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع. ولفظه: قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس فرجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن دخلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي". لأن في إسناد هذه الحديث من نسب إلى ج / 1 ص -202- الضعف، وهو إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير1 المكي راوه عن ابن أبي مليكة عن عائشة قال: فيه ابن معين وأبو حاتم ليس بالقوي. ورواه ابن مهدي. وقال يحيى القطان: تركته ثم كتبت عن سفيان عنه، نقل هذا كله الذهبي في "الميزان" وذكر له هذا الحديث. وحديث آخر له عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أيضا: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه حتى يبدو ضبعاه إلا لعثمان بن عفان إذا دعى له". وذكره لهذين الحديثين مشعر بأن في صحتهما نظر، وذلك والله أعلم لكون الترمذي صحح هذا الحديث وحسنه وكذا الحاكم لأنه أخرجه في "مستدركه على الصحيحين، ومما يقوي النظر في صحة هذا الحديث: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في حجته نقلت بأسانيد صحيحة لا وهن فيها، ولم يذكر فيما نقل من أفعاله صلى الله عليه وسلم في حجته بمثل ذكر دخوله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في حجته، ولو وقع ذلك لذكر كما ذكر بالإسناد الصحيح مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى زمزم وإرادته النزع منها وشربه من السقاة، ودخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجته لو وقع أولى بالذكر من هذه الأمور، ولا يعارض ما أشرنا إليه ما ذكره البخاري في صحيحه في باب الزيارة يوم النحر، لأنه قال: ويذكر عن أبي حسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى، لأن زيارة البيت لا تستلزم دخوله، ويصدق على الطواف به، وأيضا فإن هذا تعليق بصيغة التمريض، والاحتجاج به يتوقف على ثبوته، والله أعلم. ومما يقوي النظر في حديث عائشة رضي الله عنها المشار إليه، إنكار غير واحد من أهل العلم دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجته على ما ذكر منهم سفيان بن عيينة، والله أعلم. وبتقدير صحته فليس فيه ما يشعر بأن من نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، حتى يكون من نفى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة محمولا على هذا الزمن كما قال ابن حبان، ولا ينبغ التعارض بين حديث من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وحديث من نفاها، بالتوفيق الذي ذكره ابن حبان لفقد دليل يدل على ما ذكره من أن الزمن الذي أثبت فيه بلال رضي الله عنه ومن وافقه الصلاة في الكعبة غير الزمن الذي نفى فيه أسامة رضي الله عنه ومن وافقه الصلاة، وقيام الدليل على أن الزمن الذي أثبت فيه بلال ومن وافقه الصلاة والزمن الذي نفى فيه أسامة ومن وافقه الصلاة به متجه، وهو يوم فتح مكة، كما سبق بيانه، ويتعارض حينئذ خبر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، انظر: التاريخ لابن معين 2/ 35، الجرح والتعديل 1/ 186، التاريخ الكبير 2/ 317، المعرفة والتاريخ 3/ 108، المجروحين 1/ 121، ميزان الاعتدال 1/ 237، الإكمال 5/ 187، الكاشف 1/ 75، تهذيب الكمال 3/ 141، المغني في الضعفاء 1/ 85، تهذيب التهذيب 1/ 396، تقريب التهذيب 1/ 72، العقد الثمين للتقي الفاسي 3/ 301. ج / 1 ص -203- بلال رضي الله عنه ومن وافقه وخبر أسامة رضي لله عنه ومن وافقه في ذلك ويضاف إلى الترجيح أو التوفيق بما هو متجه كما سبق بيانه. وبالجملة فقد خولف ابن حبان فيما نحا إليه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع، كما ذكر سفيان بن عيينة، وفي كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة لما دخلها في حجة الوداع، كما ذكر البيهقي، والله أعلم بالصواب. وأما الوجه الذي ذكره السهيلي1 في الجمع بن اختلاف حديث بلال وابن عباس في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ففيه نظر من أوجه. الأول: أن كلامه يقتضي حمل حديث بلال رضي الله عنه في إثبات الصلاة على زمن، وحمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما في نفيها على زمن غيره، وفي ذلك من النظر مثل النظر الذي فيما ذكره ابن حبان، وهو حمل حديث من أثبت الصلاة على زمن، وحديث من نفاها على زمن، لاتحاد الزمان الذي وقع فيه ذلك. والوجه الثاني: أن كلام السهيلي يقتضي أن إثبات الصلاة ونفيها في زمنين في حجة الوداع، ووجه النظر في ذلك أنه لا ريب في أن إثبات بلال رضي الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة كان يوم الفتح كما روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما وابن عباس رضي الله عنهما إن كان المراد به الفصل فنفيه للصلاة محمول على الزمن الذي ثبت فيه دخوله، وهو زمن الفتح. وإن كان المراد به عبد الله بن عباس رضي الله عنهم: فلم يثبت له دخول في الفتح ولا في حجة الوداع فيكون نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة مستندا إلى قول أخيه الفضل، وأسامة رضي الله عنهما؛ فإنه روى عنهما ذلك، وقد سبق أن نفيهما على الزمن الذي ثبت فيه دخولهما إلى الكعبة، وهو زمن الفتح، فيكون كذلك نفي عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وإذا تقرر ذلك لم يستقم ما ذكره السهيلي من أن إثبات بلال رضي الله عنه للصلاة في الكعبة، ونفي ابن عباس رضي لله عنهما لها في حجة الوداع، وأنى يستقيم ما ذكره وهو يقتضي إثبات دخولين للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى الكعبة، وفي إثبات دخوله إليها مرة واحدة في حجة الوداع نظر سبق بيانه فكيف بدخوله فيها مرتين وليس في الحديث الذي أشار إليه السهيلي في الجمع لما ذكر ما يقتضي أن ذلك في الزمن الذي ذكر ويظهر ذلك بلفظ الحديث، ولفظه في كتاب الدارقطني: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا وهب بن منبه، عن خالد، عن ابن أبي ليلى، عن عكرمة بن خالد، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 4/ 104. ج / 1 ص -204- عمر رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج وبلال خلفه، فقلت لبلال: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، فلما كان الغد دخل، فسألت بلالا: هل صلى؟ قال: نعم ركعتين، استقبل الجذعة وجعل السارية الثانية عن يمينه. وكتب الدارقطني على حاشية هذا الحديث: ابن أبي ليلى ليس بالحافظ... انتهى. فهذا الحديث كما ترى لس فيه بيان من دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فإن حملنا الحديث علي أن ما فيه من الدخولين والصلاة في أحدهما جرى في حجة الوداع في يوم النحر، ومن الغد كما فهم السهيلي، لم ينهض من الحديث دلالة على ذلك، لاحتمال أن يكون اليومان اللذان دخل فيهما النبي صلى الله عليه وسلم، وجرى فيهما ما ذكر في الحديث هما: يوم النحر، ويوم النفر الأول، أو يوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني، أو هما فيما بين قدومه مكة، وخروجه منها للوقوف بعرفة، وكان قدومه بمكة صبيحة الرابع من ذي الحجة، وليس في الحديث الذي ذكره الدارقطني على تقدير حمله على حجة الوداع ما يمنع من هذه الاحتمالات: إلا أن في البخاري ما يمنع الاحتمال الأخير، وإن احتمله الحديث الذي ذكره الدارقطني، لأنه في صحيحه: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل، حدثنا موسى بن عقبة قال: أخبرني كريب، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة. وروى البخاري ذلك أيضا في موضع آخر في صحيحه بهذا الإسناد مع أمور أخر تتعلق بحجة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا امتنع الاحتمال الأخير نفي ما عداه، مع احتمال آخر، وهو ما ذكره السهيلي، وكون ما ذكره هو الواقع، مع تجويزه غيره يحتاج إلى دليل ترجيح ما ذكره وهو متعدد. والله أعلم. وإن حملنا الحديث الذي ذكره الدارقطني على أن ما فيه من الدخولين، والصلاة في إحداهما جرى في زمن الفتح لم يستقم ما ذكره السهيلي من أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في يوم النحر وصلى بها فيه، لكون ذلك يخالف مقتضى ما يحمل عليه الحديث، من أن ما فيه جرى في زمن الفتح، ويخالف أيضا ما صح عن بلال رضي الله عنه من كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما دخلها يوم فتح مكة كما سبق. الوجه الثالث: أن كلام السهيلي يقتضي أن إسناد الحديث الذي أشار إليه حسن، وذلك لا يستقيم لضعف في إسناد الحديث، وفيه علة أخرى وهي النكارة في متنه، لأنا إذا حملناه على زمن الفتح فإنه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة حين دخلها يوم فتح مكة، وإنما صلى فيها حين دخلها في اليوم الثاني، وذلك يخالف ما صح عن ابن عمر رضي لله عنهما من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في يوم فتح مكة وصلاته بها في هذا ج / 1 ص -205- اليوم- من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في يوم فتح مكة وصلاته بها في هذا اليوم على ما أخبر به بلال رضي لله عنه كما هو مقتضى الحديث السابق، وهو في صحيح مسلم". وروينا مثل ذلك من حديث أيوب السختياني عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما في مسند الحميدي"1 وعن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب في "سنن البيهقي" وإذا كان كذلك فالحديث الذي أخرجه الدارقطني منكر، لمخالفته ما رواه الأئمة الثقات عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. أما الضعف الذي في إسناد الحديث الذي أخرجه الدارقطني فلأجل محمد بن أبي ليلى2 بسبب سوء حفظه، واضطراب حديثه، وكثرة أخطائه فيه، وإن كان صدوقا، قال عنه شعبة: ما رأيت أحدأ أسوأ حفظا من ابن أبي ليلى. وقال أحمد بن حنبل: كان سيئ الحفظ، مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم3 كان سيئ الحفظ، شغل بالقضاء فساء حفظه، ولا يتهم بشيء من الكذب، وإنما ينكر عليه كثرة الخطأ، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان4: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ، فكثر الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: غالب أحاديثه مقلوبة... انتهى. ومن كان في الحفظ بهذه الصفة فالحجة به غير ناهضة، فيما يرويه من الحديث، فكيف إذا عارض ما يرويه حديثا صحيحا كما في هذه المسألة، وحينئذ إنما يحتج بالحديث الصحيح، لأن له مزية توجب الترجيح، على أني لم أر ما يدل لرواية ابن أبي ليلى عن عكرمة بن خالد، ولا لرواية عكرمة عن يحيى بن جعدة، ولا لرواية يحيى عن ابن عمر رضي الله عنهما، والله أعلم بصحة ذلك. ومن أوجه النظر فيما ذكره السهيلي من الجمع، ما أشار إليه من حمله حديث ابن عباس رضي الله عنهما في النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، على أنه نفى ذلك في يوم النحر من حجة الوداع، لكونه لم يرد عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشعر بدخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بل ورد عن ابن عباس ما يقتضي خلاف ذلك على ما رويناه في "معجم الطبراني" ولفظ الحديث الوارد عنه في ذلك: حدثنا محمد بن حاجهان. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مسند الحميدي1/ 82 رقم 149. 2 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ولي القضاء لبني أمية ثم لبني العباس مات سنة 148هـ. 3 الجرح والتعديل 7/ 322. 4 كتاب المجروحين 2/ 243. ج / 1 ص -206- الجنديسابوري، قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا زهير عن جابر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت في الحج ودخل عام الفتح فلما نزل صلى أربع ركعات -أو قال: ركعتين- بين الحجر والباب مستقبل الكعبة، وقال: "هذه القبلة". وجابر هو الجعفي1 ضعفه جماعة ووثقه شعبة. وأما الوجه الذي ذكره ابن جماعة في الجمع بين اختلاف حديث بلال وأسامة رضي لله عنهما فإن في استقامته نظرا، لأن الحديث الذي جمع به يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة مرتين، فصلى في الثانية، ولم يصل في الأولى، ومحمول على أن ذلك كان في زمن الفتح، لما سبق من كلام النووي رحمه الله، وإذا كان كذلك فالصلاة التي نفاها أسامة رضي الله عنه في اليوم الأول إن كانت هي الصلاة التي أثبتها بلال رضي الله عنه في يوم فتح مكة، على ما ذكر ابن عمر رضي الله عنهم: فأسامة وبلال رضي الله عنهما مختلفان في هذه الصلاة، وينتفي اختلافهما فيها بإثبات أسامة رضي الله عنه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غير اليوم الأول لا في اليوم الثاني، وإنما كان يتجه الجمع بالحديث الذي جمع به ابن جماعة، لو ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الصلاة التي أثبتها بلال رضي لله عنه كانت في زمن الفتح، من غير تعرض لبيان اليوم الذي وقعت فيه، وأما مع تبيين ابن عمر رضي الله عنه لليوم الذي أثبت بلال رضي الله عنه فإن الجمع بالحديث المشار إليه لا يستقيم والله أعلم. وقد روي عن أسامة رضي الله عنه خبر يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة في دخوله إليها يوم الفتح، ورويناه في مسند بلال رضي الله عنه للحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وفي صحيح مسلم، ولفظ مسلم: وحدثني حميد بن مسعدة قال: حدثنا خالد يعني ابن الحرث قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنه انتهى إلى الكعبة، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي. مات سنة 28هـ. وكان شيعيا. انظر عنه: الطبقات الكبرى 6/ 345، التاريخ لابن معين 2/ 76، تاريخ خليفة "ص: 378"، طبقات خليفة "ص: 263"، التاريخ الكبير 2/ 210، الضعفاء للبخاري "ص: 255"، المعرفة والتاريخ 1/ 297، 539، تاريخ أبي زرعة 1/ 296، الضعفاء للنسائي "ص: 287"، الجرح والتعديل 2/ 497، الكاشف 1/ 177، المغني في الضعفاء 1/ 126، تاريخ الإسلام 5/ 52، تهذيب الكمال 4/ 465، تهذيب التهذيب2/ 46. ج / 1 ص -207- وبلال وأسامة، وأجاف عليهم عثمان بن طلحة الباب، قال: فمكثوا فيه مليا، ثم فتح الباب، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فرقيت الدرجة ودخلت البيت فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ههنا: وأنسيت أن أسألهم كم صلى؟ وهذا الحديث يقتضي أن ابن عمر رضي الله عنهما سأل بلالا وأسامة وعثمان رضي الله عنهم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا، وأنهم جميعا أخبروا ابن عمر بها، وذلك وهم من بعض رواة هذا الحديث، لأن القاضي عياض نقل عن الدارقطني أنه قال: وهم ابن عوان هنا، وخالفه غيره، فأسندوا عن بلال وحده، قال القاضي: وهذا هو الذي ذكر مسلم في باقي الطرق، فسألت بلال، فقال: إلا أنه وقع في رواية حرملة عن ابن وهب، فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة، هكذا هو عند عامة شيوخنا. وفي بعض النسخ: وعثمان بن أبي طلحة. قال: وهذا يعضد رواية ابن عون. والمشهور انفراد بلال رضي الله عنه برواية ذلك. والله أعلم..... انتهى. وقد طال الكلام في ترجيح خبر بلال على خبر أسامة رضي الله عنهما، وما قيل من الجمع بين ذلك، ولكن لموجبات اقتضاها الحال، واشتمل ذلك على فوائد يغتبط بها من له على تحصيل العلم إقبال. وأما ترجيح خبر بلال على خبر الفضل بن عباس رضي الله عنهم المعارض بخبر بلال رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة يوم فتح مكة، فصحة حديث بلال رضي لله عنه في ذلك عند أهل الحديث من غير اختلاف بينهم في ذلك، واختلافهم في صحة حديث الفضل، لاختلاف حديث ابن عمر رضي الله عنهم في دخول الفضل الكعبة يوم فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة رضي لله عنهم فإنا رويناه في صحيح مسلم من حديث ابن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، ولم يدخله معهم أحد، ثم أغلقت عليهم. وذكر بقية الحديث. وهذا يقتضي أن الفضل لم يدخل مع المذكورين الكعبة. وفي مسند أحمد بن حنبل ما يعارض ذلك، لأنه قال فيما رويناه عنه: حدثنا هشيم، أخبرنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، ولم يدخله معهم أحد، ثم أغلقت عليهم. وذكر بقية الحديث. وهذا يقتضي أن الفضل لم يدخل مع المذكورين الكعبة. وفي مسند أحمد بن حنبل ما يعارض ذلك، لأنه قال فيما رويناه عنه حدثنا هشيم، أخبرنا غير واحد وابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه الفضل بن عباس وأسامة بن زيد .... وذكر الحديث. وروى ذلك النسائي، لأنه قال فيما رويناه عنه: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا هشيم، عن ابن عون: فذكره. ج / 1 ص -208- وهذا الإسناد وإن صح ففيه نظر، لأن رواية هشيم له شهادة على ما ذكر شيخنا الحافظ العراقي عن بعض مشايخه، ونقل عنه تضعيف حديث الفضل، وأيضا، فإن للحديث الذي يرويه مسلم مزية في الصحة على ما يرويه غيره من الأحاديث الصحيحة غير ما في صحيح البخاري، فإنه أميز في الصحة مما في مسلم عند محققي أهل الحديث، وعلى تقدير ثبوت دخول الفضل رضي الله عنه الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذكر معه، وثبوت حديثه في نفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله إليها يوم الفتح، فلا معارضة بين حديث الفضل وبلال في الصلاة المشار إليها، لأن نفي الفضل رضي الله عنه له إنما هو باعتبار كونه لم يرها لا باعتبار كونها لم تقع، لأنا روينا في تاريخ الأزرقي، عن عبد المجيد بن أبي داود: أن الفضل رضي الله عنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بذنوب من ماء زمزم ليطمس به الصور التي في الكعبة1. قال عبد المجيد: فصلى خلافه ولذلك لم يره صلى. وروينا فيه أيضا ما يؤيد ذلك، لأن فيه من حديث الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح، وأرسل الفضل بن عباس فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبل الماء، فأمر بطمس تلك الصور1... انتهى. فتكون صلاته صلى الله عليه وسلم كانت في الكعبة يوم الفتح حين غاب الفضل رضي الله عنه- للأمر الذي ندبه إليه، ويتفق بذلك خبره مع خبر بلال، والله أعلم. وأما ترجيح خبر بلال رضي الله عنه على خبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما- في نفيه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فلأن بلالا رضي الله عنه حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى، وشاهد صلاته، وأخبر بها، وابن عباس رضي الله عنهما- لم يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم واعتمد في كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة على خبر أسامة رضي الله عنه- له بذلك كما ثبت في صحيح مسلم، ورواية من حضر القصة مقدمة على من غاب عنها، وقد أشار إلى ترجيح خبر بلال على خبر الفضل بن عباس وأخيه عبد الله رضي الله عنهم بما ذكره شيخنا الحافظ العراقي رحمة الله عليه. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي1/ 165. ج / 1 ص -209- ذكر عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة الشريفة بعد هجرته إلى المدينة وأول وقت دخل الكعبة فيه بعد هجرته: أما عدد دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته: فروينا في ذلك أخبارا يتحصل من مجموعها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة بعد هجرته أربع مرات، وهو يوم فتح مكة، وفي ثاني يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وفي عمرة القضية، وفي كل من هذه الدخلات خلاف، إلا الدخول الذي في يوم الفتح، ونشير إلى الأخبار الواردة في هذه الدخلات. فأما دخوله يوم الفتح فرويناه في صحيح مسلم وغيره، كما سبق في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظ حديثه عن مسلم: قدم رسول الله صلى عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة وأرسل إلى عثمان بن طلحة فجاء بالمفتاح ففتح الباب، قال: ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، وذكر الحديث. ولا تضاد بين حديث ابن عمر رضي لله عنهما هذا، وحديثه في صحيح مسلم الذي قال فيه: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح"..... الحديث في قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته فيها لأن المراد بعام الفتح في هذا الحديث يوم الفتح كما في الحديث السابق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضان والمجمل منها يرد إلى المبين. وقد أشار الإمام النووي رحمه الله إلى اتفاق الخبرين، لأنه قال في شرح مسلم قوله: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة. هذا دليل على أن هذا المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم، وصلاته فيها كان يوم الفتح، وهذا لا خلاف فيه، ولم يكن يوم حجة الوداع... انتهى. وفي هذا الدخول وقع الاختلاف في كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في ثاني يوم الفتح: ففي مسند أحمد بن حنبل ما يدل له، لأنه قال: حدثنا هشيم قال: أنبأنا عبد الملك عن عطاء قال: قال أسامة بن زيد رضي لله عنهما: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، وخرج ولم يصل، ثم دخلت معه في اليوم الثاني، فقام ودعا ...... الحديث، وقد سبق في هذا الباب بكماله. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: فرويناه في سنن أبي داود وابن ماجه، وجامع الترمذي، والمستدرك للحاكم، من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصغير عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها وسبق ذلك في الترجمة التي قبل هذه الترجمة مع بيان ما في الحديث من الوهن، والله أعلم بالصواب. وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فذكر المحب الطبري في "القرى" عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب ما يقتضي ذلك، لأنه قال في باب العمرة، وهو الثامن والثلاثون في ترجمة ترجم عليها بما جاء في عمرة الحديبية وعمرة القضية: وعن هشام، وعن أبيه قال: إن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة ثم دخل البيت. ج / 1 ص -210- وعن سعيد بن المسيب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بالظهر على ظهر الكعبة، وأقام رسول لله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا، فلما كان ظهر اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو بن حويطب بن عبد العزى، ورسول الله جالس في مجلس من الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فقال: يا محمد قد انقضى أجلك فاخرج عنا، وكان صلى الله عليه وسلم قد تزوج بميمونة الهلالية في طريقه، وذكر مناشدة سهيل النبي صلى الله عليه وسلم إلى "سرف" وتعريسه فيه بميمونة، ولم يذكر المحب الطبري من خرج هذا الخبر ولا الخبر الأول، وهما يقتضيان دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرة القضية، وخبر سعيد بن المسيب أصرح، لما فيه من القضايا التي وقعت في عمرة القضية على ما جاء في غير هذا الخبر، وهو تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، وسؤال سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من مكة وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له على نحو ما في هذا الخبر، ولست واثقا بصحة ما فيه من دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وأذان بلال رضي لله عنه الظهر عليها، وعلى تقدير صحتها فإنهما يخالفان ما رويناه في الصحيحين، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرته؟ فقال: لا انتهى. والمراد بهذه العمرة عمرة القضية على ما قال العلماء، كما قال النووي عنهم في شرح مسلم وغيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرة القضية، كما هو مقتضى هذين الخبرين، وإنا ذكرناهما لغرابتهما. وأما دخوله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح وحجة الوداع: فهو رأي أبي حاتم بن حبان، لأنه جمع بذلك بين اختلاف بلال وأسامة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ونص كلامه والأشبه عندي أن يحمل الخبران على دخولين متغايرين، أحدهما يوم الفتح وصلى فيه، والآخر في حجة الوداع ولم يصل فيه... انتهى. وقد وافق ابن حبان على ما ذكره من دخول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: البيهقي، لأنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في داخل الكعبة في حجة الوداع، حكى ذلك عن البيهقي: ابن جماعة في منسكه. وأما دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في ثاني يوم فتح مكة: كما هو مقتضى حديث أسامة رضي الله عنه الذي جمع به ابن جماعة: فلم أر أحدا من أهل العلم قال به إلا ابن جماعة في منسكه، والله أعلم. ج / 1 ص -211- وأما أول وقت دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة بعد هجرته: فيوم فتح مكة، لأنه لم يدخلها في عمرة القضية على مقتضى حديث ابن أبي أوفى السابق ذكره في الصحيحين، ولا يعارض ذلك الخبران المقتضيان لدخول النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، لأنهما لو صحا لكان ما في الصحيحين مقدما عليهما، فكيف وفى صحتهما نظر والله أعلم. وأما السبب الذي لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم لأجله الكعبة في عمرة القضية: فذكر النووي فيه كلاما لغيره لا يخلو من نظر، لأنه قال لما تكلم على حديث ابن أبي أوفى: قال العلماء: وسبب عدم دخوله صلى الله عليه وسلم: ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه لتغييرها، فلما فتح الله تعالى عليهم مكة دخل البيت وصلى فيه، وأزال الصور قبل دخوله، والله أعلم... انتهى. قلت: في هذا الكلام ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة يوم فتح مكة حتى أخرج منها ما كان ينبغي إخراجه من الصور وغير ذلك، ووقع في مسند أبي داود السجستاني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل لذلك. وقد روينا ما يخالف ذلك؛ لأن أبا داود الطيالسي قال في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران قال: حدثني عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، ورأى صورا فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". ورجال هذا الحديث يحتج بهم، وهو يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في الفتح والصور فيها، وأنه أزالها بعد دخوله، ويدل لذلك أيضا ما رويناه في تاريخ الأزرقي عن عبد العزيز1 بن أبي داود، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الفضل بن عباس رضي لله عنهما- بعد دخوله معه الكعبة ليأتيه بماء ليطمس به الصور في الكعبة2. ويدل لذلك أيضا: قول ابن إسحاق في السيرة في قصة الفتح: فلما قضى- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له. فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها... انتهى. وهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة وفيها الصور، وأنه دخل الكعبة حين فتحت له في هذا التاريخ، ولم يشتغل صلى الله عليه وسلم بشيء سوى ذلك، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هكذا وردت بالأصل، وهو يشير إلى الرواية التي وردت وهي عن عبد المجيد بن أبي رواد لا عن عبد العزيز. 2 أخبار مكة 1/ 165. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -212- الباب العاشر: في ثواب دخول الكعبة المعظمة: أخبرني أحمد بن عمر البغدادي بقراءتي عليه بالقاهرة، والقاضي المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي بقراءتي عليه بطيبة، كلاهما عن الحافظ أبي الحجاج المزي، قال: أخبرنا الدرجي، قال: أنبأنا الصيدلاني، قال: أخبرتنا فاطمة الجوزدانية قالت: أخبرنا ابن ريذة، قال: أخبرنا الطبراني، قال: حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي عن عبد الله بن المؤمل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل البيت فصلى فيه دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له"1. وفي لفظ: "من دخل البيت خرج مغفورا له"2. وروى الفاكهي أخبارا في فضائل دخول الكعبة والصلاة فيها، لأنه قال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عمر، في دخول البيت دخول في حسنة وخروج من سيئة مغفورا له. حدثنا محمد بن أبي عمر حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، وحدثنا أبو بشر، حدثنا ابن أبي الصيف، حدثنا إسماعيل بن كثير أبو هاشم جميعا عن مجاهد، قال: دخول البيت حسنة وخروجه خروج من سيئة مغفورا له3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: البيهقي في سننه 5/ 158. 2 رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفي سنده "عبيد الله بن المؤمل" منفرد به "وثقه ابن سعد وغيره، وفيه ضعف" ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد3/ 293، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير، والمناوي في الفيض 6/ 124. 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292، وذكره السيوطي في الجامع الكبير عن ابن عباس، وعزاه للطبراني والبيهقي في السنن. ج / 1 ص -213- وقال الفاكهي أيضا: حدثني أحمد بن محمد القرشي، عن يوسف بن خالد، قال: حدثنا غالب القطان، عن هند بن أوس قال: حججت فلقيت ابن عمر، فقلت: إني أقبلت من الفج العميق أردت البيت العتيق، وأنه ذكر لي أن من أتى بيت المقدس يصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال ابن عمر: رأيت البيت من دخله فصلى فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه1. وقال الفاكهي: حدثنا سلمة بن شبيب، قال: حدثنا الغازيان، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج، عن عطاء قال: لأن أصلي ركعتين في البيت أحب إلي من أن أصلي أربعا في المسجد الحرام2. وقال الفاكهي: حدثنا أحمد بن حميد، عن الحسين بن الوليد، قال: حدثنا عباد بن راشد، عن الحسن قال: الصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة... انتهى. وروينا عن الحسن البصري في رسالته المشهورة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل الكعبة، دخل في رحمة الله عز وجل، وفي حمي الله تعالى، وفي أمن الله عز وجل، ومن خرج خرج مغفورًا له"... انتهى. وما أحسن ما أنشده الحافظ أبو طاهر السلفي لنفسه بعد دخول الكعبة: أبعد دخول البيت والله ضامن بنفي قبيح، والخطايا الكوامن فحاشاه، كلا، بل تسامح كلها ويرجع كل، وهو جذلان آمن وقد اتفق الأئمة الأربعة على استحباب دخول البيت، واستحسن مالك كثرة دخولها، لأن في مناسك ابن الحاج قال ابن حبيب: وأخبرني مطرف، عن مالك: أنه سئل عن الصلاة في البيت وعن دخوله كلما قدر عليه الداخل، فقال له: ذلك واسع حسن... انتهى. وروينا ذلك في "تاريخ الأزرقي" عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- أحد الفقهاء السبعة بالمدينة على ما قيل وصدقة بن يسار، ووردت أخبار استدل بها بعض العلماء على عدم استحباب دخول الكعبة، وقد ذكرها المحب الطبري مع الجواب عنها في كتاب "القرى"3، وذكرنا ذلك بنصه في أصل هذا الكتاب، ونشير هنا لشيء من ذلك: أنبأنا عمن أنبأه المحب الطبري قال: "باب دخول الكعبة" وهو الباب الثامن والعشرون من كتابه "القرى"، حجة من قال: لا يستحب، عن عائشة قالت: خرج رسول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 90. 2 أخبار مكة للفاكهي 2/ 292. 3 القرى "ص: 494". ج / 1 ص -214- الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، ثم رجع إلى وهو حزين، فقلت له: فقال: "إني دخلت الكعبة ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أتعبت أمتي من بعدي". أخرجه أحمد، والترمذي وصححه، وأبو داود1. وقد استدل بهذا الحديث من كره دخول البيت، ولا دلالة فيه، بل نقول دخوله صلى الله عليه وسلم دليل على الاستحباب، وتمنيه عدم الدخول فقد علله بالمشقة والشفقة على أمته، وذلك لا يرفع حكم الاستحباب. ثم قال المحب: وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس، قال له رجل: أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة؟ قال: لا. أخرجاه وبوب عليه البخاري، "باب من قال: لم يدخل الكعبة"، وأجاب المحب الطبري عن هذا الحديث بأن عدم دخول النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في عمرته هذه يجوز أن يكون لعذر، قال: ولعله تركه شفقة على أمته، كما دل عليه الحديث المتقدم2... انتهى. قلت: هذا الاحتمال بعيد، والاحتمال الأول هو الصواب، لموافقته ما ذكره العلماء في سبب كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل الكعبة في عمرته المشار إليها، وهو عدم تمكنه صلى الله عليه وسلم من أن يزيل من الكعبة ما كان فيها من الأوثان والصور، لكون مكة في أيدي المشركين وحكمهم إذا ذاكروا، والله أعلم. وأما ما يطلب في الكعبة من الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم فهو: التكبير والتسبيح والتهليل والتحميد والثناء على الله عز وجل، والدعاء والاستغفار، لأحاديث وردت في ذلك، منها: ما رويناه عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع قِبَل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة"، أخرجه البخاري ومسلم3. وفي مسلم عن ابن جريج قلت لعطاء: ما نواحيه؟ أفي زواياه؟ قال: بل في كل قبلة من البيت. وعند النسائي في هذا الحديث: سبح في نواحيه وكبر4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: أحمد في مسنده 6/ 153، والترمذي "3/ 223"، وابن ماجه "306"، المستدرك 1/ 479، والبيهقي في السنن 5/ 159. 2 القرى "ص: 495، 496". 3 أخرجه: البخاري "2/ 50"، ومسلم "استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره: 4/ 96". 4 سنن النسائي " "، مسند أحمد 1/ 210، 4/ 2. ج / 1 ص -215- وقوله: قِبل البيت، وهو بضم القاف والباء الموحدة، ويجوز إسكان الباء كما في نظائره، ومعناه على ما قيل: ما استقبلك فيها، وقيل: مقابلها. وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "هذه القبلة" ثلاثة احتمالات: أولها: أن معنى ذلك أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم وصلوا إليه أبدا. والاحتمال الثاني: أن معنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم سنة موقف الإمام، وأنه يقف في وجه الكعبة دون أركانها وجوانبها، وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزية، وهذان الاحتمالان أبداهما الإمام أبو سليمان الخطابي... الخ. والاحتمال الثالث: أبداه الإمام النووي في "شرح مسلم" بعد ذكره لهذين الاحتمالين، وهو أن معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لا كل الحرم ولا مكة، ولا كل المسجد الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها فقط، والله أعلم... انتهى. ومعنى قول عطاء: بل في كل قبلة من البيت: أي في كل قبلة من البيت قبلة، أو كل موضع من البيت قبلة، ذكر ذلك المحب الطبري، قال: ويكون قد دار النبي صلى الله عليه وسلم في البيت جميعه داعيا ذاكرًا1. ومن الأحاديث الواردة في المعنى الذي أشرنا إليه: ما رويناه في "سنن النسائي" أيضا من حديث أسامة بن زيد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم البيت، فمضى يعني النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بين الأسطوانتين اللتين يليان باب الكعبة جلس فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم قام حتى أتى ما استقبل من دبر البيت فوضع وجهه وخده عليه، فحمد الله وأثنى عليه وسأله واستغفره، ثم انصرف إلى كل ركن من أركان الكعبة فاستقبله بالتكبير والتهليل والتسبيح والثناء على الله والمسألة والاستغفار ثم خرج، انتهى باختصار. وروينا من حديثه أيضا في "سنن النسائي" قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله وأثنى عليه وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها، ثم خرج... انتهى باختصار، وأخرجه أحمد أيضا. وروينا عن ابن عباس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وفيها ست سوار، فقام عند كل سارية فدعا ولم يصل. أخرجه البخاري ومسلم2 وأحمد بن حنبل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص 499، 500". 2 صحيح البخاري 1/ 375 كتاب الحج، مسلم "الحج: 1330". ج / 1 ص -216- وروينا في مسنده1 عن الفضل بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الكعبة وسبح وكبر ودعا الله عز وجل واستغفر ولم يركع ولم يسجد. وروينا عن الفضل أيضا: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة، قال: فلم يصل فيها ولكنه لما دخلها وقع ساجدًا بين العمودين ثم جلس يدعو... انتهى. ولا تضاد بين قوله في هذا الحديث: "وقع ساجدا"، وبين قوله في الحديث الذي قبله: "ولم يسجد" لاحتمال أن يكون أراد بقوله: ولم يسجد، أي: في صلاة، ويؤيده قوله: "ولم يركع" والركوع إنما يكون في صلاة، ويكون سجود النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على تقدير ثبوت الحديث المتضمن لذلك شكرا لله تعالى، وقد أشار المحب الطبري، إلى التوفيق بين هذين الحديثين بما ذكرناه2، والله أعلم. ومن الأمور التي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم صنعها في الكعبة، صبه الماء على جسده صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: حدثنا سلمة بن شبيب أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: سمعت أبا قدامة عامر الأحول يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدلو من ماء فصبه عليه في الكعبة... انتهى. وهذا غريب جدا، ولذا ذكرناه، والله أعلم بصحته، ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال باستحبابه3، والله أعلم. ومن الأمور التي صنعها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على ما قيل: إنه ألصق بها بطنه وظهره كما رويناه في معجم ابن قانع، لأنه قال: أخبرنا حسين بن اليماني، قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن عبد الرحمن الزجاج قال: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان، زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فلم يصل، فقال: كذبوا لقد صلى بين العمودين ركعتين ثم ألصق بها بطنه وظهره... انتهى. وقد أشار شيخنا الحافظ العراقي إلى استحباب هذا الفعل في الكعبة، وبدل لذلك ما رويناه في "مسند الشافعي" عن عروة بن الزبير أنه كان إذا طاف بالبيت استلم الأركان كلها وألصق بطنه وظهره وجنبه بالبيت... الخ. ورأيت لغير واحد من العلماء ما يقتضي عدم استحباب ذلك، لأن المحب الطبري قال في "القرى": ما جاء في كراهية أن يلصق ظهره إلى الكعبة:" عن عطاء، وقد سئل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مسند أحمد 1/ 210. 2 القرى "ص: 501". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 234. ج / 1 ص -217- عن ذلك فكرهه، وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون أن يسند ظهره، أخرجهما سعيد بن منصور... انتهى. ورأيت أيضا لإمامنا ما يقتضي أن ذلك غير مطلوب، لأنه قال: لا يعتنق شيئا من أساطينه، يعني البيت، وقد دخله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع أنه اعتنق شيئا من أساطينه1... انتهى. والدلالة من كلام مالك على كراهيته ذلك ظاهرة، لأن اعتناق أساطين الكعبة كإلصاق البطن والظهر بها، والله أعلم. وأما ما سوى ذلك من الأمور التي صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة هو مذكور في هذه الأحاديث، فلا أعلم بين أهل العلم اختلافا في استحبابه، إلا سجدة الشكر في الكعبة، كما هو مقتضى حديث الفضل، ففيها خلافا بين أهل العلم، فإن مشهور مذهب مالك أن سجود الشكر مكروه من حيث الجملة، ومقتضى ذلك أن لا يفعل في الكعبة، على أن حديث الفضل الذي في هذه السجدة مختلف في ثبوته، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 318". ذكر حكم الصلاة في الكعبة: استحب جمهور العلماء الصلاة في الكعبة، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ومنع طائفة من العلماء منهم ابن عباس كما حكاه عنه القاضي عياض ونقله النووي عن جماعة من العلماء في شرح مسلم" لأنه قال: وقال محمد بن جرير، وأصبغ المالكي وبعض أهل الظاهر: لا تصح فيها صلاة أبدا لا فريضة ولا نافلة، قال: ودليل الجمهور حديث بلال... انتهى. واختلف المستحبون للصلاة في الكعبة، فبعضهم قال بذلك في الفريضة والنافلة بشرط يأتي ذكره في الفريضة، وبعضهم قصر ذلك على النفل غير المؤكد، وهذا مذهب الإمام مالك، ولم أر فيما وقفت عليه من كتب المالكية ما يشهد لصحة ما نقله النووي عن أصبغ بن الفرج أحد أئمة المالكية، والذي رأيته منقولا عنه في كتب المذهب: أن من صلى الفريضة في الكعبة أعاد أبدا من غير نظر إلى كون المصلي فيها عامدا أو ناسيا، وقد اختلف المذهب، وصحح صلاة الفريضة في الكعبة ابن عبد الحكم، واستحب أشهب ألا تصلى الفريضة في الكعبة، فإن صليت فيها صحت، وصوب هذا القول اللخمي، لأنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة النافلة وجب مساواة الفريضة لها، فإن أمرهما في الحضر واحد من جهة الاستقبال، ومشهور المذهب أن صلاة الفريضة لا ج / 1 ص -218- تصح في الكعبة، وإن صلاها فيها أعاد الصلاة، واختلف شيوخ المذهب في الإعادة هل تكون في الوقت أو أبدا؟ وهو مقتضى قول أصبغ، واخُتلف في الإعادة في الوقت هل هي في حق الناسي، وهو قول ابن حبيب ورأي ابن يونس وجماعة وقيل: إن ذلك في حق العامد والناسي وهو رأي القاضي عبد الوهاب واللخمي وابن عتاب، ويلحق بالفريضة النوافل في كونها لا تصلى في الكعبة، وهي السنن كالعيدين والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب، فإن صليت هذه النوافل في الكعبة فلا تجزئ على المذهب المشهور، وتجزئ على رأي أشهب وابن عبد الحكم. واختلف الحنابلة في صحة صلاة الفريضة في الكعبة، والأصح عندهم أنها لا تصح فيها، وكذلك عندهم النذر المطلق قالوا: فإن نذر الصلاة في الكعبة صحت فيها، وعندهم خلاف في صحة النافلة في الكعبة، والأصح عندهم فيها الصحة، وعندهم في كونها في الكعبة مستحبة أو جائزة روايتان. ولم يخالف مذهب الشافعي في جواز الصلاة في الكعبة، سواء كانت فريضة أو نافلة، ومقتضى مذهبه إن فعل النافلة في الكعبة أفضل من فعلها في المسجد خارج الكعبة، وكذلك الفريضة بشرط أن لا يرجو المصلي مجيء جماعة خارج الكعبة. قال الشافعي: ما فريضة تفوتني في جماعة فأصليها في موضع أحب إليه منه -يعني البيت الحرام- لأن البقاع إذا فضلت بقربها منه فبطنه أفضل منها. ومذهب أبي حنيفة: جواز صلاة النافلة والفريضة في الكعبة، وأن النافلة في الكعبة مستحبة، وحيث صحت الصلاة في الكعبة فللإنسان أن يصلي في جوفها إلى أي جوانبها شاء، هكذا في "النوادر" من كتب أصحابنا المالكية، وفيه أحب إلى أن يجعل الباب خلف ظهره، ثم يصلي إلى أي موضع شاء بعد أن يستدبر الباب، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم... انتهى، وهذا مذهب الشافعي. وعند الحنابلة أن الصلاة إلى الباب صحيحة إذا كانت له عتبة شاخصة، وعندهم وجهان فيما إذا صلى إلى سترة في لبن منظوم أو شبهه غير متصل اتصال البناء، وصحح أبو البركان الصحة في هذه الصور. وإذا أقيمت الجماعة في الكعبة فلمن ائتم بالإمام فيها خمسة أقوال في الوقت: الأول: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام. الثاني: أن يكون ظهره إلى ظهره. الثالث: أن يكون وجه المأموم إلى ظهر الإمام. الرابع: أن يكون بجنبه غير متقدم عليه. الخامس: أن يكون ظهر المأموم إلى وجه الإمام. فيصح في جميع الأحوال غير الحالة الخامسة فلا يصح فيها على الأصح من مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة كمذهب الشافعي. ج / 1 ص -219- وعند الحنابلة وجهان في صحة صلاة المأموم إذا تقابل هو والإمام، وقاس أبو البركات -من الحنابلة- المنع على ما إذا كان قفاء المأموم في وجه الإمام. وإذا حفرت في الكعبة حفرة وصلى فيها إنسان صحت صلاته فيها كما قال بعض الشافعية فيما نقل "مجلي" في "ذخائره"، قال مجلي: وذلك إذا لم تجاوز الحفرة قواعد البيت، فإن جاوزتها بحيث لا تحاذي ببدنه شيئا منها لم يصح، وإلا فهو كالصلاة على ظهرها إلى السترة القصيرة، وذكر ابن الرفعة أن فيما قاله "مجلي" نظر، وذكر أنه لا فرق بين أن يتجاوز القواعد إلى سترة أو لا كما أطلقه الأصحاب. قال ابن جماعة: وعندي ينبغي أن يفصل فيقال: إن صلى في الحفرة ولم يحاذ ببدنه شيئا من الكعبة أو قواعدها وكان قادرا على إصابة عين البناء لم تصح الصلاة، وإلا صحت1، والله أعلم... انتهى. واختلف العلماء أيضا في الصلاة على سطح الكعبة، والمشهور من مذهب مالك منع الصلاة على ظهرها، وأنه أشد من منعها في بطنها، وذلك لأن المصلي في بطنها يعيد في الوقت والمصلي على سطحها يعيد أبدا. وقيل: إن الصلاة على سطحها كالصلاة في بطنها فتعاد في الوقت، وهذا القول حكاه ابن محرز عن أشهب. وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح ولا إعادة على من فعل ذلك، وهذا القول حكاه اللخمي عن أشهب، وهو قول ابن عبد الحكم. وقيل: إن الصلاة على سطحها تصح إن أقام المصلي شيئا يقصده، وهذا تأويل القاضي عبد الوهاب على المذهب. وقيل: تصح الصلاة على سطحها إذا كان بين يدي المصلي قطعة من السطح. وهذا الاختلاف في الفريضة، وأما النافلة على سطح الكعبة فلا تصح على مقتضى مشهور المذهب إذا كانت الصلاة متأكدة كالسنن والوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف الواجب، لمساواة هذه النوافل للفريضة في حكم الصلاة في جوف الكعبة، وفي صحة النفل غير المؤكد على سطح الكعبة نظر على مقتضى رأي أكثر أهل المذهب في حملهم النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على سطح الكعبة. وأما على رأي ابن عبد الحكم ومن وافقه فيصح النفل مطلقا على سطح الكعبة، وحديث النهي الوارد عن الصلاة فيها رويناه في مسند عبد بن حميد بالسند المتقدم إليه في ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 938، 939. ج / 1 ص -220- الباب التاسع، ولفظه: حدثنا عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا يحيى بن أيوب، عن زيد بن جبيرة، عن داود بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله عز وجل" أخرجه الترمذي1 عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن محمد بن إبراهيم الدمشقي، كلاهما عن المقري. فوقع لنا بدلا لهما عاليا بدرجة بالنسبة إلى روايتنا العالية لكتابيهما بدرجتين بالنسبة إلى روايتنا لهما المتصلة بالسماع، وزيد بن جبيرة2 متروك الحديث. وروينا هذا الحديث من غير طريقه في سنن ابن ماجه بإسناد يقوم بمثله الحجة، ولفظه: حدثنا علي بن داود ومحمد بن أبي الحسن قالا: أخبرنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر بن الخطاب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبع مواطن لا يجوز فيها الصلاة ظاهر بيت الله والمقبرة والمزبلة والمجزرة والحمام ومعاطن الإبل ومحجة الطريق"... انتهى. ومذهب الشافعي صحة صلاة الفريضة والنافلة على سطح الكعبة بشرط أن يكون بين يدي المصلي شاخص قدر ثلثي ذراع تقريبا من نفس الكعبة، هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وفي مذهبه وجه أيضا: يصح في السطح وإن لم يكن الشاخص قدر ثلثي ذراع، وقيل: إنما تصح فيه بشرط أن يكون الشاخص قدر قامة المصلي طولا وعرضا. ومذهب الحنفية: أن الصلاة على السطح جائزة وإن لم يكن بين يدي المصلي سترة، فإن الصلاة في السطح مكروهة لما فيه من ترك التعظيم، وعندهم أن الصلاة على جدار الكعبة صحيحة إذا كان المصلي متوجها إلى سطحها، ولا تصح إذا جعل السطح وراءه. ومذهب الحنابلة: أن صلاة الفريضة لا تصح في سطح الكعبة، وأن النافلة فيه تصح، وأن حكم النافلة على سطحها حكم الفريضة في بطنها إذا كان الباب مفتوحا ومقتضى ذلك أنها لا تصح في السطح إلا إذا كان هناك شاخص. وقد حررنا ارتفاع الشاخص في سطح الكعبة وهو ذراع إلا ثمن ذراع في الجهة الشرقية وفي جهة الحجر بسكون الجيم ذراع وثمن، وفي جهة المغرب ذراع، وفي جهة اليمن ثلثا ذراع، وقد سبق تحريرنا لذلك طولا وعرضا في الباب الثامن، وقد أثبتنا فيما يتعلق بالصلاة في وجه الكعبة وعلى سطحها بما فيه كفاية في ذلك، ويوجد به من الفوائد ما لا يوجد مجتمعا في تأليف، ونسأل الله التوفيق لكل خير. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الترمذي "346". 2 انظر عنه: التاريخ الكبير 3/ 390 رقم 1299، الجرح والتعديل 3/ 559، رقم 2528، المعرفة والتاريخ 3/ 138، المغني في الضعفاء 1/ 245 رقم 2264، الكاشف 1/ 264 رقم 744 ميزان الاعتدال 2/ 99 رقم 299. ج / 1 ص -221- آداب دخول الكعبة: وأما آداب دخول الكعبة فكثيرة منها: الاغتسال لما رويناه عن عبد الكريم بن أبي المخارق. ومنها: نزع الخف والنعل، لما روينا في سنن سعيد بن منصور عن عطاء وطاوس ومجاهد، وكره مالك دخولها بالخفين والنعلين، وهو قول الحنابلة. ومنها: أنه لا يرفع بصره إلى السقف، لحديث في ذلك رويناه عن عائشة أخرجه الحاكم في "المستدرك"1 وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقد تقدم هذا الحديث في الباب التاسع، وإنما كره رفع البصر في الكعبة، لأنه يولد الغفلة واللهو عن القصد، أشار بذلك المحب الطبري في "القرى". ومنها: أن لا يزاحم زحمة شديدة يتأذى بها أو يؤذي بها أحدا، أشار إلى ذلك النووي وغيره. ومنها أن لا يكلم أحدا إلا لضرورة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. ومنها: أن يلزم قلبه الخشوع والخضوع وعينيه الدموع إن استطاع ذلك وإلا حاول صورتها، ذَكَرَ هذين الأمرين المحب الطبري، وهذا لفظه2. ومنها: أن لا يسأل مخلوقا، لما رويناه عن سفيان بن عيينة قال: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: سلني حاجتك. قال: أستحي من الله أن أسأل في بيته غيره3. وذكر الفاكهي ما يقتضي أن التارك لسؤال هشام في الكعبة غير سالم بن عبد الله، لأنه قال: حدثنا محمد بن أبي عمر قال: قال سفيان بن عيينة سمعت بعض من يذكر أن هشام بن عبد الملك أو غيره دخل الكعبة عام حج فلم يدع في الكعبة غير منصور الحجبي، فقال له هشام: سل حاجتك، قال منصور: ما كنت لأسأل غير الله في بيته، فلم يسأله شيئا... انتهى. وحكم النساء في دخولهن الكعبة حكم الرجال من غير خلاف أعلمه في ذلك. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مستدرك الحاكم 1/ 479. 2 القرى "ص: 501". 3 القرى "ص: 501، 502". شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -222- الباب الحادي عشر: ذكر شيء من فضائل الكعبة: لا شك أن فضل الكعبة مشهور لوروده في القرآن العظيم في غير ما آية، ووروده في السنة الشريفة الصحيحة، وإنما أردنا بذكره ههنا للتبرك، فمن الآيات الواردة في ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 و97]. واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس على قولين: أحدهما: أنه أول بيت وضع للعبادة، وكان قبله بيوت لغيرها، وهذا يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والآخر: أنه أول بيت كان في الأرض. قال المحب الطبري: وقوله {مُبَارَكًا} أي كثير الخير لما يحصل لمن حجه، أو اعتمره، أو عكف عنده وطاف حوله من الثواب، وقوله: {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} أي متعبدهم وقبلتهم وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} مقام عطف بيان على آيات، وبَيَّنَ الجمع بالواحد لاشتماله على آيات أثر قدميه في الصخرة، وبقاؤه وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين. واختلف في أمن الداخل، فقيل: من دخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك، وقيل: من دخله لقضاء النسك، معظما لحرمته عارفا بحقه، متقربا إلى الله عز وجل كان آمنا يوم القيامة، كما جاء: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"1، يعني نهار يوم القيامة، وقيل معناه: أمن من دخله، أي لا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 انظر: كشف الخفا ومزيل الإلباس 2587. ج / 1 ص -223- يقتص منه، كما هو مذهب أبي حنيفة، ويُلجأ إلى الخروج منه. وقيل: معناه غير ذلك. ومن الآيات: قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] قال المحب الطبري: أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم، فلا يزال في الأرض دين ما حجت، وعندها المعاش والمكاسب، قال: والمراد بتحريم البيت، سائر الحرم، ونقل عن الضحاك أنه قال: قياما للناس: قياما لدينهم ومعالم حجهم، قال: ويروى نحوه عن السدي، وقال: قال عكرمة: قياما للناس: مكانا لهم. ومن الأحاديث الواردة في ذلك ما رويناه عن الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن الزنجي، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا البيت دعامة الإسلام، ومن خرج يؤم هذا البيت من حاج، أو معتمر كان مضمونا على الله عز وجل إن قبضه أن يدخله الجنة، وإن رده أن يرده بأجر وغنيمة"1. ومنها: ما ورد في تنزيل الرحمات على الكعبة كما في "المعجم الكبير" للطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "إن الله ينزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة، ينزل على هذا البيت ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين"2، ورواه في "الأوسط" إلا أنه قال: "تنزل على هذا المسجد مسجد مكة"3، وفي رواية: "وأربعون للعاكفين" بدل "المصلين". وأخرجه الأزرقي في تاريخه4، بمعنى رواية الطبراني في الكبير. ووقع لنا عاليا جدا أخبرني به ابن الذهبي بقراءتي عليه، قال: أنبأنا عيسى المعلم حضورا وإجازة قال: أنبأنا ابن اللتي، قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لبنى قالت: أنبأنا ابن شريج، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا عبد الله بن عمران العابدي المخزومي بمكة قال: حدثنا يوسف بن الفيض قال ابن صاعد: هكذا كان يسميه وإنما هو يوسف بن السفر أبو الفيض عن الأوزاعي، عن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير وهو متروك "مجمع الزوائد 3/ 209" ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن داود بن المحبر، وهو متروك. "المطالب 2/ 325". 2 أخرجه: الطبراني في الكبير "11/ 124، 125" رقم "1248". 3 ذكره الزركشي في إعلام الساجد "ص: 111" وعزاه الطبراني في الأوسط، وذكره الهندي في كنز العمال 5/ 53، 54، وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في تاريخ بغداد. 4 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8. ج / 1 ص -224- عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل هذا البيت، فستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين"1. وذكر الشيخ محب الدين الطبري أنه لا تضاد بين الرواية التي فيها أن الرحمات تنزل على هذا البيت، وبين الرواية التي فيها أنها تنزل على مسجد مكة، لأنه يجوز أن يريد بمسجد مكة البيت، ويطلق عليه مسجد بدليل قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144]، ويجوز أن يريد مسجد الجماعة وهو الأظهر، ويكون المراد بالتنزيل على البيت التنزل على أهل المسجد، وكذلك قسمت الرحمات على أنواع العبادات الكائنة في المسجد. قال: وقوله: "فستون للطائفين..." إلى آخره، تحتمل في من تأول القسم بين كل فريقين وجهين: الأول: قسمة الرحمات بينهم على المسمى بالتسوية لا على العمل بالنظر إلى قلته وكثرته وضعفه، وما زاد على المسمى فله ثواب من غير هذا الوجه، ونظير هذا الكلام: أعطي الداخلين بيتي مائة دينار، فدخل واحد مرة وآخر مرارا، فلا خلاف في تساويهما في القسم. الوجه الثاني: وهو الأظهر قسمها بينهم على قدر العمل، لأن الحديث ورد في سياق الحث والتخصيص، وما هذا سبيله لا يستوي فيه الآتي بالأقل والأكثر، واستدل المحب الطبري على ذلك بأمور معنوية ظاهرة2... انتهى. ومنها: ما رويناه في "معجم الطبراني الكبير" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نَظَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، فقال: لا إله إلا الله ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، إن الله جعلك حراما، وحرَّم من المؤمن ماله ودمه وعرضه، وأن يظن به ظنا سيئا". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: ابن عدي في الكامل 7/ 2620، والخطيب في تاريخ بغداد 2/ 472، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 89، 99، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان 3/ 116 وابن أبي حاتم في العلل 1/ 287، وابن حبان في المجروحين، وابن الجوزي في العلل، والزركشي في إعلام الساجد "ص: 111" وعزاه للطبراني في الأوسط. 2 القرى "ص: 657". ج / 1 ص -225- ذكر شيء من فضائل الحجر الأسود وما جاء في كونه من الجنة: روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن طُمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب"1 أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والترمذي في جامعه، وقال: حديث غريب. ونقل السهيلي عن الترمذي هذا الحديث إلا أنه قال فيه: "إن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان" وذكر بقية الحديث بالمعنى، وما نقله السهيلي من أن في هذا الحديث والركن اليماني غير معروف، والمعروف فيه: الحجر الأسود والمقام، ولعل ذلك من السهيلي سَبَقُ قَلم، وقد رأيت ما نقلناه عنه في غير نسخة من تأليفه، قال بعد ذكره لهذا الحديث: وفي رواية غيره ولإبراء من استلمهما من الخرس والجذام والبرص... انتهى. وروينا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح2. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود من الجنة" أخرجه النسائي3. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا ما طبع الله من الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها لاشتفي به من كل عاهة، ولألفاه كهيئته يوم خلقه الله تعالى، وإنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، وإنها لياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة"4. قلت: ذكر شيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب المقرئ في كون الحجر الأسود من ياقوت الجنة دون غيره من جواهرها حكمة حسنة، لأنه قال فيما أنبأنا به: فإن قلت ما الحكمة في كونه من ياقوتها ولم يكن من غيره من جواهرها؟ قلت: له سر غريب نبهت عليه في كتاب "الرموز" في كشف أغطية الكئوس" وأنا ضنين بذلك، ولكن ألوح بشيء هنا من قشوره، وذلك أن الشمس في الفلك الرابع المتوسط. لو لم يكن وسط الأشياء أحسنها ما اختارت الشمس من أفلاكها الوسطى وهي الممتدة لما فوقها وما تحتها من الأفلاك والمعدة في الفلك الرابع من الأنفس، وهي الممتدة لما فوقها وتحتها ويقصرها على النار، ولهذا قال: رسول ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه: ابن حبان "3710"، الحاكم "1679". 2 أخرجه الترمذي "877"، وأحمد "1/ 307، 329، والبيهقي في الشعب "4034". 3 أخرجه النسائي 5/ 226، وابن خزيمة 4/ 220، والحديث إسناده حسن. 4 أخبار مكة للأزرقي 1/ 323، القرى "ص: 293". ج / 1 ص -226- الله صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء"1، وما خلق الله فيها عينا نباعة تحض معينة على الهضم والتبريد. ومكة في الفلك المتوسط من الدنيا، وهي محل النار، وهي الممتدة للدنيا، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] أي قواما لدينهم ودنياهم، وجعل الحجر من ياقوت الجنة الذي لا يبالي بالنار ويحصل منه التبريد المعنوي والحسي. وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت ثم سر آخر وهو: أنه نقطة الدائرة الياقوتية، وهذه نكتة من كشف أغطية الكونين، من أراد كشفهما فليصغ أسمعه من ذلك من الميراث النبوي ما لا يسمعه من غيري في هذا الزمان، والله الموفق... انتهى!! ذكر ما قيل من الحكمة في اسوداد الحجر الأسود بعد بياضه: قال السهيلي بعد أن ذكر شيئا مما يتعلق بالحجر الأسود، وأشار هنا إلى الحكمة في أنه سودته خطايا بني آدم دون غيره من حجارة الكعبة وأستارها، وذلك أن العهد الذي فيه بمعنى الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله، فكل مولود يولد على الفطرة، وعلى ذلك فلولا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى ليسود قلبه بالشرك لما حاد من العهد، فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد والميثاق، وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق قياسا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما حاد عما كان ولد عليه من ذلك العهد، واسود الحجر بعد ابيضاضه، وكانت الخطايا سببا في ذلك، حكمة من الله سبحانه... انتهى. وقال المحب الطبري: وقد اعترض بعض الملاحدة، فقال: كيف يسود الحجر خطايا أهل الشرك ولا يبيضه توحيد أهل الأيمان؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: ما تضمنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم آنفا: أن الله عز وجل إنما طمس نوره ليستر زينته عن الظلمة، وكأنه لما تغيرت صفته التي كانت كالزينة له بالسواد كان ذلك السواد له كالحجاب المانع من الرؤية وإن رؤي جرمه، إذا يجوز أن يطلق عليه أنه غير مرئي، كما يطلق على المرأة المستترة بثوب أنها غير مرئية. الثاني: أجاب به ابن حبيب، فقال: لو شاء الله لكان ذلك، وكما علمت أيها المعترض من أن الله تعالى أجرى العادة بأن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ. والثالث: وهو منقاس: أن يقال إن بقاءه أسود والله أعلم إنما كان للاعتبار ليعلم أن الخطايا إذا أثرت في الحجر فتأثيرها بالقلوب أعظم2... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 لا يصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه صحيحا، وينسب للحارث بن كلدة. 2 القرى "ص: 295": وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة "ص: 289". ج / 1 ص -227- ذكر ما رؤي من البياض في الحجر الأسود بعد اسوداده: ذكر ابن جبير في خبر رحلته: أن في الحجر الأسود نقطة بيضاء صغيرة مشرقة1 ولم يذكر سواها، وكانت رحلته في سنة تسع وسبعين وخمسمائة. وقال الفقيه سليمان بن خليل العسقلاني في "منسكه" بعد ذكر الشيء يتعلق بالحجر الأسود: قلت أنا: ولقد أدركت في الحجر الأسود ثلاث مواضع2 بيض في الناحية التي تلي باب الكعبة المعظمة، إحداها: وهي أكبرهن، في قدر حبة الذرة الكبيرة. والأخرى: إلى جنبها، وهي أصغر منها. والثالثة: إلى جنب الثانية، وهي أصغر من الثانية فإنها في قدر حبة الدخن. ثم إني أتلمح تلك النقطة، فإذا هي كل وقت في نقص... انتهى. ونقل القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" كلام ابن خليل هذا، وذكر أنه رأى الحجر الأسود في سنة ثمان وسبعمائة وفيه نقطة بيضاء ظاهرة، وأنه لم يرها في سنة ست وثلاثين إلا بعد جهد3... انتهى. وكنت ذاكرت بهذا الأمر من نحو خمس عشرة سنة بعض مشايخنا فذكر لي أن في الحجر الأسود نقطة بيضاء خفية جدا... انتهى. ولم يذكر لي موضعها من الحجر، ولعلها النقطة الموجودة فيه الآن، فإن في جانبه مما يلي باب الكعبة من أعلاه نقطة بيضاء قدر حبة سمسمة على ما أخبرني به ثلاثة نفر يعتمد عليهم من أصحابنا الفقهاء المكيين في يوم الجمعة خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، إلا أن بعضهم لم يخبرني بذلك إلا في يوم السبت ثاني تاريخه، وأخبرني الثلاثة أنهم رأوا ذلك في يوم الجمعة المذكور، وشكرت لهم، فالله يثيبهم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 67". 2 هكذا وردت بالأصل، والصواب "ثلاثة مواضع". 3 هداية السالك 1/ 59. ج / 1 ص -228- ما جاء في شهادة الحجر الأسود يوم القيامة لمن استلمه بحق: روينا في مسند الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليبعثن الله الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق"1. وفي رواية "على من استلمه بحق"2. أخرجه الترمذي وابن حبان وقال: "له لسان وشفتان". وروينا ما يدل لذلك من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وروينا ذلك من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه موقوفا عليه. ما جاء في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم للحجر الأسود واستلامه له: وروينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن استلام الحجر، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، أخرجه البخاري3 ومسلم4. ما جاء في السجود عليه: وروينا في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر من حديث عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وغيرهما ما جاء في السجود - عليه. وروينا في الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر5. وروينا في سنن البيهقي عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا6. وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما في "مسند الإمام الشافعي" أنه قبل الركن وسجد عليه ثلاث مرات7. وروينا ذلك أيضا عن طاوس في تاريخ الأزرقي والبيهقي وغيرهما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الدارمي "1839"، أحمد 1/ 247، والبيهقي في السنن 5/ 75، والأزرقي في أخبار مكة 1/ 23. 2 أخرجه الترمذي "961" وأحمد 1/ 26،وابن حبان "37" وابن ماجه "2944" وأبو يعلى "2711". 3 أخرجه البخاري 3/ 379. 4 أخرجه مسلم "الحج: 1267. 5 أخرجه: الترمذي "862" وأحمد 1/ 257، 309، والنسائي "3918، 3119". 6 أخرجه البيهقي في سننه "5/ 74"، وابن حبان "3821". 7 مسند الإمام الشافعي "ص: 126". ج / 1 ص -229- ولم ير الإمام مالك السجود على الحجر وقال: هو بدعة، وخالفه الجمهور في ذلك، والله أعلم. ما جاء في الإكثار من استلامه: روينا في "تاريخ الأزرقي" بالسند المتقدم إليه: قال حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج قال: أخبرني زهير بن محمد، عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي، عن أمه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا استلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله تعالى لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة"1. ما جاء في مفاوضة الحجر الأسود: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن" أخرجه ابن ماجه. قال المحب الطبري: وقوله: فاوض أي لامس وخالط، من مفاوضة الشريكين وتفويض كل منهما إلى صاحبه2... انتهى. ما جاء في أن الحجر الأسود يمين الله يصافح بها عباده واستجابة الدعاء عنده: روينا في تاريخ الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن أبي إسماعيل، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي حسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الركن يمين الله عز وجل- يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده ما من امريء مسلم يسأل الله تعالى عنده شيئا إلا أعطاه إياه3... انتهى. وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبي 4 عبد القاسم بن سلام روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". ورواه أبو طاهر المخلص في "فوائده" في الجزء الثاني من التاسع وزاد: "فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح الحجر الأسود بيده فقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 342، 343. 2 سنن ابن ماجه "2/ 985" القرى "ص: 279، 280"، وابن عدي في الكامل 2/ 690 والحديث إسناده ضعيف. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 326. 4 هكذا بالأصل، والصواب: "لأنه أبا عبيد". ج / 1 ص -230- قال المحب الطبري: ومعنى الحديث والله أعلم أن كل ملك إذا قُدِمَ عليه قُبِلَت يمينه، ولما كان الحاج والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله نزل منزلة يمين الملك ويده، ولله المثل الأعلى، وكذلك من صافحه كان له عند الله عهد، كما أن الملوك تعطي العهد بالمصافحة، والله أعلم1. أنشدني العلامة بدر الدين أحمد بن محمد بن الصاحب المصري إجازة لنفسه قوله: للحجر الأسود كم لاثم وساجد مرغ فيه الجباه تزدحم الأفواه في ورده كأنه ينبوغ ماء الحياة وقوله فيما أنبأنا به: في الحجر الأسود كم أودعت أسرار أنس من علوم الغيوب تزدحم الأفواه في لثمه كأنه يلفظ قوت القلوب وقوله فيما أنبأنا به: للحجر الأسود سر خفي وقد بدا للعين منه شهود قد ضمت قلوب الورى كأنه قلب سواد الوجود وقوله فيما أنبأنا به: أقول وقد زوحمت عن لثم أسود من البيت إن تحجب فما السر يحجب فإنك مني بالمحل الذي به محل سواد العين، أو أنت أقرب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 280" عزاء المحب الطبري لأبي عبد القاسم بن سلام، وأبي طاهر المخلص في فوائده وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن. ذكر فضل الركن اليماني وما جاء في تقبيله ووضع الخد عليه روينا في "سنن الدارقطني" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه1. وروينا في تاريخ البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 سنن الدارقطني 2/ 290 والبيهقي في سننه 5/ 76، والحاكم في المستدرك "1675" وصححه ووافقه الذهبي، وعبد الله بن هرمز: قال عنه أبو زرعة الرازي: ليس بالقوي، وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ليس بالقوي "جامع الجرح والتعديل: 2325". 2 أخبار مكة للفاكهي 1/ 122، وأحمد في المسند 1/ 54. ج / 1 ص -231- وروينا في تاريخ الأزرقي عن مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن ويضع خده عليه1. قلت: تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم الركن اليماني ووضع خده عليه، لا يثبت، وأما استلامه له فثابت. ما جاء في استلام النبي للركن اليماني: روينا في مسند أحمد بن حنبل وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوافه، وكان هو يفعله، أخرجه أبو داود2 والنسائي. وقال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث: وفيه دلالة على استحباب التقبيل والاستلام في كل طواف، واستحبه بعضهم في كل وتر، وروي ذلك عن الشافعي وطاوس3... انتهى. وقوله: وفيه دلالة على استحباب التقبيل، يعني في الحجر الأسود لا في الركن اليماني والاستلام فيها، والله أعلم. ما جاء في المزاحمة على استلام الركن اليمان والحجر الأسود وأن مسحهما كفارة للخطايا: وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يزاحم على الركنين، فقيل له في ذلك، فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما كفارة للخطايا" أخرجه الترمذي4. وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحط الخطايا حطا" أخرجه أحمد بن حنبل وابن حبان في صحيحه5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 2 أخرجه أبو داود "1874"، النسائي "5/ 231". 3 القرى "ص: 281". 4 أخرجه الترمذي 4/ 181، "كتاب الحج: باب ما جاء في استلام الركنين"، وعبد الرزاق في مصنفه 5/ 29، والأزرقي في أخبار مكة 1/ 331، والطبراني في الكبير 12/ 390. 5 مسند أحمد بن حنبل 3/ 89، 95، ابن حبان في موارد الظمآن "ص: 247" وابن خزيمة 4/ 227، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 127. ج / 1 ص -232- ما جاء في عدم استحباب ذلك للنساء بحضره الرجال: روينا عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لامرأة: "لا تزاحمي على الحجر، إن رأيت خلوة فاستلمي، وإن رأيت زحاما فكبرى وهللي إذا حاذيتِ، ولا تؤذي أحدًا" أخرجه سعيد بن منصور. وروينا عن عائشة بنت سعد أنها قالت: كان أبي يقول: إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن وإلا فكبرن وامضين. أخرجه الإمام الشافعي. وفي البخاري: عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها ما يقتضي ترك استلام الحجر للنساء، وهو محمول على ما إذا حضر الرجال كما هو مقتضى الخبر الذي رواه سعيد بن منصور في "سننه" والله أعلم. ما جاء في إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من استلامه واستغفار الملائكة لمن استلمه: روينا في تاريخ الأزرقي عن عطاء قال: قيل: يا رسول الله: تكثر من استلام الركن اليماني؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ما أتيت عليه قط إلا وجبريل عليه الصلاة والسلام قائم عنده يستغفر لمن استلمه"1. ما جاء في تأمين الملائكة على الدعاء عنده واستجابة الدعاء عنده: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وُكِّلَ به سبعون ملكا -يعني: الركن اليماني- فمن قال: اللهم إن أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قالوا: آمين" أخرجه ابن ماجه وغيره2. وروينا في تاريخ الأزرقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: على الركن اليماني ملكان يؤمنان على دعاء من مر بهما، وإن على الحجر الأسود من الملائكة ما لا يحصى3. وروينا فيه عن مجاهد قال: من وضع يده على الركن اليماني ثم دعا استجيب له4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 2 سنن ابن ماجه "2958" بلفظ "سبعون ملكا" والديلمي في الفردوس "7332"، وابن عدي في الكامل 4/ 275، والفاكهي في أخبار مكة 1/ 183. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338. 4 سنن ابن ماجة "2957". ج / 1 ص -233- وسيأتي في خبر المستجار وهو عند الركن اليماني شيء من هذا المعنى. ما جاء في أن الركن اليماني باب من أبواب الجنة: روينا في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: يا بنيّ أَدْنِنِي من الركن اليماني، فإنه كان يقال: إنه باب من أبواب الجنة1. وروينا نحوه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وذكر السهيلي شيئا من سبب تسمية الركن اليماني بالركن اليماني، لأنه قال: وأما الركن اليماني فسمي باليماني فيما ذكر القتبي، لأن رجلا من اليمن بناه اسمه أبي بن سالم وأنشد: لنا الركن اليماني2 من البيت الحرام وراثة بقية ما أبقى أُبَيّ بن سالم3 ... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 338، وسنن ابن ماجه "2887". 2 "اليماني" ليست في الروض الأنف 1/ 224. 3 الروض الأنف 1/ 224. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -234- الباب الثاني عشر: ذكر ما ورد في ثواب الطواف عموما من غير تقييد بزمن: أخبرني ابن أبي المجد الخطيب، عن الدشتي قال: أخبرنا ابن خليل الحافظ قال: أنبأنا الداراني قال: أنبأنا الحداد، قال: أنبأنا أبو نعيم الحافظ قال: أنبأنا ابن فارس قال: أنبأنا يونس بن حبيب قال: أخبرنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا همام، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من طاف بهذا البيت سبعا يحصيه كتب له بكل خطوة حسنة، ومحيت عنه سيئة، ورفعت له درجة، وكان له عدل رقبة" أخرجه الترمذي وحسنه1. وأخرج النسائي بعضه، ولفظه: "من طاف بالبيت سبعا فهو كعدل رقبة"2 وكذلك أخرجه ابن ماجه، إلا أنه قال: "من طاف بالبيت وصلى ركعتين"3 وفي بعض طرق الحديث: "خلف المقام". ومعنى يحصيه: أي يتحفظ فيه لئلا يغلط، قاله ابن وضاح وغيره. وروينا في صحيح ابن حبان وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما عليه، ودعوا له دعاء حسنا، ثم قالا: جئناك يا رسول الله نسألك... الحديث بطوله، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصاري: "وأما طوافك بالبيت: فإنك لا تضع قدما ولا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخرجه الترمذي "2/ 292 استلام الركنين، والبيهقي في الشعب "4041". 2 أخرجه النسائي "5/ 21". 3 أخرجه ابن ماجه "2956". ج / 1 ص -235- ترفعها إلا كتب الله تعالى لك بها حسنة، ومحا بها عنك خطيئة، ورفعك بها درجة، وأما ركعتيك1 بعد الطواف فكعتق رقبة. وأما طوافك بالبيت بعد ذلك يعني الحج: فإنك تطوف ولا ذنب عليك"2. وأنبأني أبو بكر بن محمد بن عبد الرحمن المزي ابن أخي الحافظ أبي الحجاج المزي، أن أحمد بن أبي طالب الصالحي الحجار أخبره سماعا، وأخبرني المفتي أبو بكر بن الحسين الشافعي سماعا بطيبة، عن أحمد بن أبي طالب إذنا قال: أنبأنا أحمد بن يعقوب المارستاني قال: قال أنبأنا ابن النحاس، عن أبي القاسم بن التسري قال: أنبأنا ابن النحاس، عن أبي القاسم بن التسري قال: أنبأنا أبو طاهر قال: حدثنا يحيى هو ابن صاعد قال: حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا ابن يحيى بن يمان، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" أخرجه الترمذي عن سفيان بن وكيع فوقع لنا موافقة له عليه، وقال: حسن غريب3... انتهى. والمراد بالخمسين مرة: خمسون أسبوعا، لأنا روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت خمسين أسبوعا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وهذه الرواية في معجم الطبراني، وساقها عنه المحب الطبري بسنده، وعزا ذلك أيضا لمصنف عبد الرزاق وقال: قال أهل العلم: وليس المراد أن يأتي بها متوالية في آن واحد، وإنما المراد أن يوجد في صحيفة حسناته ولو في عمره كله4... انتهى. وذكر المحب الطبري أن بعض أهل العلم ذكر أن لعدد الطواف سبع مراتب: الأول: خمسون أسبوعا في اليوم والليلة، للحديث المتقدم. الثاني: إحدى وعشرون، فقد قيل: سبعة أسابيع بعمرة، ورود ثلاث عمر بحجة. الثالث: أربعة عشر، فقد ورد عمرتان بحجة، وهذا في غير عمرة رمضان، لأن العمرة فيه كحجة. الرابع: اثنا عشر أسبوعا، خمسة بالنهار، وسبعة بالليل كما تقدم من فعل آدم عليه السلام، وفعل ابن عمر رضي الله عنهما. الخامس: سبعة أسابيع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في الأصل، والصحيح: "ركعتاك". 2 وأخرجه الأزرقي 2/ 5، والأصبهاني في الترغيب "1060، 1036"، وسنده قوي. 3 سنن الترمذي 3/ 219، ورسالة الحسن البصري. 4 القرى "ص: 324". ج / 1 ص -236- السادس: ثلاثة أسابيع. السابع: أسبوع واحد، والله أعلم. نقل هذا عن المحب الطبري: القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه"، وهذا لفظه بحروفه1. والأحاديث الواردة في فضل الطواف أكثر من هذا، وإنما اقتصرنا على هذه الأحاديث الثلاثة، لأنها أجود إسنادا من غيرها، وفي "أخبار مكة " للأزرقي، وأخبارها للفاكهي، وفضائلها للجندي، ورسالة الحسن البصري، جمل كثيرة من فضائل الطواف، وقد ذكرنا بعض ذلك في أصل هذا الكتاب وفيما ذكرناه هنا كفاية. ما جاء في فضل الطواف في الحر: روينا في "أخبار مكة" للجندي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من طاف حول البيت سبعا في يوم صائف شديد حره، وحسر على رأسه، وقارب بين خطاه، وقل التفاته، وغض بصره، وقل كلامه إلا بذكر الله تعالى، واستلم الحجر في كل طواف من غير أن يؤذي أحدا، كتب الله له بكل قدم يرفعها ويضعها سبعين ألف حسنة، ويعتق عنه سبعين رقبة، ثمن كل رقبة عشرة آلاف، ويعطيه الله سبعين ألف شفاعة إن شاء في أهل بيته من المسلمين، وإن شاء في العامة، وإن شاء عجلت له في الدنيا، وإن شاء أخرت له في الآخرة" هذا حديث ضعيف الإسناد جدًّا2. ما جاء في الطواف في المطر: أخبرني ابن الذهبي قال: أنبأني المطعم حضورا وإجازة، قال: أنبأنا ابن اللَّتِّي قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لُبنى قالت: أنبأنا ابن أبي شريح قال: حدثنا يحيى هو ابن صاعد قال حدثنا عبد الله بن عمر أن العايدي قال: حدثنا داود بن عجلان، عن أبي عقل قال: طفت مع أنس بن مالك رضي الله عنه في يوم مطير، فقال أنس رضي الله عنه: طفت مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مطير، فقال: "ائتنفوا3 للعمل فقد كُفِيتُم ما مضى" أخرجه ابن ماجه، وأخرجه الأزرقي عن جده، وابن أبي عمر عن داود. فوقع لنا بدلا له عاليا بدرجتين، وهو حديث ضعيف الإسناد جدا، لمكان أبي عقال وهو هلال بن يزيد4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية المسالك 1/ 56، القرى "ص: 323". 2 أخرجه الأصبهاني في الترغيب "1041" وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بتحقيقنا "ص: 284"، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 4. 3 في أخبار مكة للأزرقي 2/ 21، "استأنفوا". 4 سنن ابن ماجه 2/ 1041، وأخبار مكة للأزرقي 2/ 21. ج / 1 ص -237- ما جاء في الطواف إذا وقع بعد صلاة الصبح أو العصر وانقضى مع طلوع الشمس أو غروبها: روينا في تاريخ الأزرقي بالسند المتقدم إليه قال: حدثني جدي، عن عبد الرحمن بن زيد العمي عن أبيه، عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوافان لا يوافقهما عبد مسلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فيغفر له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت: طواف بعد صلاة الصبح وفراغه مع طلوع الشمس، وطواف بعد صلاة العصر وفراغه مع غروب الشمس"1. قال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث: ويحتمل أن يريد بالبعدية ما بعد الطلوع والغروب ولو بلحطة لتسع أسبوعا، ويحتمل أن يريد استيعاب الزمنين بالعبادة ولعله الأظهر، وإلا لقال طواف قبل الطلوع وقبل الغروب، وعلى هذا فيكون حجة، على من كرهه في الوقتين2... انتهى. وقال المحب الطبري لما ترجم على هذا الحديث: "ما جاء في فضل الطواف عند طلوع الشمس وغروبها"، وهكذا ترجم عليه الأزرقي: "ما جاء في تفضيل الطواف على الصلاة". قال الفاكهي: حدثنا محمد بن نصر المصري قال: حدثنا أيوب بن سويد الرملي قال: حدثنا محمد بن جابر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان أحب الأعمال إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم مكة الطواف بالبيت3... انتهى. وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يدل على تفضيل الطواف على الصلاة ولكن الحديث لا تقوم به حجة لضعف إسناده، فإن فيه يوسف بن السفر وهو متروك4. وقد تقدم هذا الحديث في الباب الحادي عشر، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على أهل البيت، فستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين"5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 1/ 253، والأزرقي 2/ 22، والحديث إسناده ضعيف جدا، وفيه عبد الرحيم بن زيد العمي، وهو متروك الحديث، والقرى "ص: 33" والجامع الأزهر للمناوي 2/ 11 وعزاه للطبراني في الكبير. 2 القرى "ص: 330". 3 أخبار مكة للفاكهي 2/ 238، والحديث ذكره المحب الطبري في القرى "ص: 323" وعزاه لأبي ذر، وكذلك في هداية المسالك 1/ 55. 4 الجرح والتعديل 9/ 223. 5 أخبار مكة للأزرقي 2/ 8. ج / 1 ص -238- وقد استدل به على تفضيل الطواف على الصلاة: الماوردي، وسليمان بن خليل. وقال المحب الطبري لما تكلم على هذا الحديث بعد أن ذكر كيفية قسمة الرحمات بين كل فريق: إذا تقرر ذلك، فالتفضيل في الرحمات بين المتعبدين بأنواع العبادات الثلاث أدل دليل على أفضلية الطواف على الصلاة، والصلاة على النظر إذا تساووا في الوصف، هذا هو المتبادر إلى الفهم عند سماع ذلك فيختص به1. ومما ورد من الأحاديث المتقدمة في ذكر فضل الطواف عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، "الصلاة خير موضوع". أو يقول: الطواف نوع من الصلاة بشهادة ما تقدم من الأحاديث في أركان الشروط، فيكون داخلا في عموم حديث تفضيل الضلاة على سائر أعمال البدن، ولا ينكر أن بعض الصلاة أفضل من بعض، وأورد على ذلك سؤالا وأجاب عنه، ثم قال: ووجه تفضيل هذا النوع من الصلاة وهو الطواف على غيره من الأنواع: ثبوت الأخصية له بمتعلق الثلاثة، وهو البيت الحرام ولا خفاء بذلك، ولذلك بدأ في الذكر هنا وفي قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} في الآيتين، ولما كانت الصلاة على تنويعها لم تشرع إلا عبادة، والنظر قد يكون عبادة إذا قصد التعبد به، وقد لا يكون، وذلك إذا لم يقترن به قصد التعبد به تأخر في المرتبة. وقولنا: إذا تساووا في الوصف يحترز مما إذا اختلف وصف المتعبدين، فكان الطائف ساهيا غافلا، والمصلي والناظر خاشعا يعبد الله كأنه يراه، أو كأن الله يراه، كان المتصف بذلك أفضل من غير المتصف به، إذ ذلك الوصف لا يعد له عمل جارحة خاليا منه وهو المشار إليه -والله أعلم- في قوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الأعراف: 170]. وسئل صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وكثير من العلماء يذهب في توجيه اختلاف القسم بين الطائفين، والمصلين، والناظرين: بأن الرحمات المائة والعشرين قسمت ستة أجزاء، فجعل جزء للناظرين، وجزآن للمصلين، لأن المصلي ناظر في الغالب، فجزء للنظر، وجزء للصلاة، والطائف لما اشتمل على المعاني الثلاثة، كان له ثلاثة أجزاء: جزء للنظر، وجزء الصلاة وجزء للطواف، وهذا القائل لا يثبت للطواف أفضلية على الصلاة وإنما يثبت بقوله: "كثرة الرحمات له"! بسبب اشتماله على الصلاة وما ذكرناه أولى، وفيما ذكره نظر، فإن الطائف الأعمى، وكذلك المصلي ينالهما ما يثبت للطائف والمصلي، وإن لم ينظرا، وكذا المتعمد ترك النظر فيها لا ينتقص قسمه بسبب ذلك، فدل ذلك على أن المراد صلاة غير ركعتي الطواف. فإن كثرة الطواف منسوبة إليه إما وجوبا أو ندبا، فهي منه. وأما النظر فيه: فإن لم يقترن بقصد التعبد فلا أثر له، وإن قصد به التعبد، فالظاهر أنه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 326". ج / 1 ص -239- ينال به أجر الناظر زائدا على أجر الطواف، والله أعلم... انتهى كلام المحب الطبري1 وهو كلام نفيس متجه شاف في هذه المسألة. وفرق فيها بعض العلماء بين الغرباء وأهل مكة فقال: إن الطواف للغرباء أفضل، لعدم تأتيه لهم كل وقت، والصلاة لأهل مكة أفضل لتمكنهم من الأمرين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغير واحد من العلماء والله أعلم. ما جاء في تفضيل الطواف على العمرة: روينا بالسند المتقدم إلى الأزرقي قال: حدثنا جدي، قال: حدثنا الزنجي، عن ابن جريج قال: أخبرني قدامة بن موسى بن قدامة بن مظعون قال: إن أنس بن مالك رضي الله عنه قدم المدينة، فركب إليه عمر بن عبد العزيز، فسأله عن الطواف للغرباء أفضل أم العمرة؟ فقال: بل الطواف2. قال المحب الطبري بعد إخراجه لهذا الحديث ومراد أنس والله أعلم أن تكرار الطواف أفضل من العمرة، ولا يريد به طواف أسبوع واحد، فإنه موجود في العمرة. وقد ذهب قوم من أهل عصرنا إلى تفضيل العمرة عليه، ويرون الاشتغال بها أفضل من تكراره والاشتغال به، ويستفرغون وسعهم فيها بحيث لا يبقى في أحدهم من يستعين بها على الطواف، وذلك خطأ ظاهر، وأول دليل على خطئه: مخالفة السلف الصالح في ذلك قولا وفعلا، إذ لم ينقل تكرارها والإكثار منها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، واستدل على ذلك المحب الطبري ثم قال: وقد أفردنا الكلام في هذه المسألة تأليفا، وبسطنا القول فيه على أن لا يدعى كراهة تكرارها بل يقول: إنها عبادة كثيرة الفضل، عظيمة الخطر، لكن الاشتغال بتكرار الطواف في مثل مدتها أفضل من الاشتغال بها3، والله أعلم... انتهى كلام المحب الطبري. وتأليفه المشار إليه هو المسمى: "عواطف النصرة في تفضيل الطواف على العمرة". وقال القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه" بعد أن ذكر كلام المحب الطبري هذا: وهو حسن، ثم قال: وكيف يكون حال من يجعل نفسه قصيا متعبدا لينال فضيلة القصد والزيارة، أفضل من حال من هو بالحضرة مشاهد مقيم يتردد حول المقصود والمزار بخطوات ترفع الدرجات، وتكسب الحسنات، وتمحو الأوزار؟ ولهذا كان رأي السلف الصالح تعهد العمرة دون الإشتغال بها عن الطواف بحيث لا تصير مهجورة، والله أعلم.والخير في اتباعهم... انتهى كلام ابن جماعة4. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 327: 328". 2 أخبار مكة للأزرقي 2/ 3. 3 القرى "ص: 334-336". 4 هداية السالك "2/ 927. ج / 1 ص -240- وقد أخبرني عنه خالي سماعا، وقد جنح إلى ذلك أيضا على ما بلغني بعض العلماء المعاصرين لابن جماعة وهو العلامة شمس الدين أبو أمامة محمد بن علي المعروف بابن النقاش الشافعي، وألفيت بخط بعض أصحابنا أن لأبي أمامة بن النقاش هذا تأليفا جليلا في المنع في العمرة من مكة لمن هو مقيم بها... انتهى. وأستبعد أن يكون لأبي أمامة تأليف في منع المقيم بمكة من العمرة، فإنه لا وجه لذلك، ولعل تأليفه في عدم استحباب تكرار العمرة، والله أعلم. وللإمام الكبير تقي الدين ابن تيمية كلام يقتضي عدم استحباب تكرار العمرة من مكة وإنكاره؛ لأنه قال: ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان، ولا في غير رمضان والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من اعتمر بعد الحج إلا عائشة رضي الله عنها ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين... انتهى. وخالف في ذلك من أهل عصره على ما بلغني خطيب دمشق: جمال الدين محمود بن جملة الشافعي، والشيخ العلامة الولي العارف عبد الله اليافعي، وصنف في ذلك كتابا سماه: الدرة المستحسنة في تكرار العمرة في السنة". وسئل شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني عن العمرة والطواف أيهما أفضل؟ وما الذي يفتي به في ذلك؟ فقال: والمفتى به في ذلك: أن تكرار العمرة أفضل ولا سيما في رمضان انتهى. وكذلك قال تلميذه العلامة زين الدين الفارسكوري، وصنف في ذلك كتابا سماه "الإنصاف في تفضيل العمرة على الطواف". وسمعت بعض مشايخنا يحكي عن بعض العلماء أن المعتمر يمتاز عن الطائف بأمرين: أحدهما: الدخول في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين والمقصرين. والآخر: دعوته صلى الله عليه وسلم للحاج والمعتمر بزيادة التشريف والتكريم والتعظيم والبر. هذا معنى ما سمعته من مشايخنا، وهو كلام متجه، لأنه كلما اعتمر فاز بذلك، ويعظم الفوز بذلك بتكراره، والله أعلم. ولعل محل الخلاف فيما إذا اشتغل إنسان بالعمرة حتى فرغ منها، وآخر بالطواف مدة اشتغال المعتمر بالعمرة، وليس في محل الخلاف الاشتغال عن الطواف بالعمرة في جميع الزمن أو أكثره بأن يكرر الخروج للتنعيم للعمرة في اليوم الواحد أو الليلة فلا يبقى فيه بعد ترويح بدنه للطواف إلا نشاط قليل، ولا سيما إن كرر ذلك في الأيام والليالي كما يصنع كثير من الناس في شهر رمضان، حتى أن بعضهم يخرج إلى التنعيم للعمرة في اليوم الواحد ثلاث مرات، ويحكى عن بعضهم أكثر من ذلك، وكل هذا لا ج / 1 ص -241- يعرف مثله عن السلف المقتدى بهم فهذا سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أقاموا بمكة بعد أن فتح الله عليهم، بضع عشرة ليلة، أولها العشر الأخير من رمضان، فما نقل أخباري عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه خرج في هذه المدة إلى التنعيم للاعتمار، ولو وقع ذلك لنقل كما نقل غيره من أفعالهم، ولم ينقل عمن كان بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين تكرار الخروج في اليوم الواحد إلى التنعيم، ولا الخروج إليه للعمرة في كل يوم إلا ما يروى عن علي وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يعتمران في كل يوم، وهذا عنهما في بعض كتب الفقه فيما ذكره القاضي عز الدين بن جماعة في "منسكه الكبير" قال: وليس لذلك أصل في كتب الحديث1... انتهى. والذي صح عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: الخروج إلى التنعيم للعمرة من غير تكرار، فالاقتصار على فعل مثل ما نقل عنهم أولى، لأنهم أعرف الناس بأفضل العبادات، وأشدهم حرصا على فعل أفضلها، والله أعلم بالصواب. ما جاء في فضل الطائفين: أخبرني ابن الذهبي بقراءتي عليه قال: أنبأنا الأمين بن النحاس حضورا إجازة قال: أنبأنا الساوي قال: أنبأنا السلفي قال: أنبأنا العلاف قال: أنبأنا ابن بشر قال: أنبأنا الأجري قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن يحيى الحلواني قال: حدثنا يحيى بن أيوب العابد قال: حدثنا محمد بن صبيح بن السماك، عن عائذ بن بشير، عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يباهي بالطائفين"2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكرم سكان السماء على الله تعالى: الذين يطوفون حول عرشه، وأكرم سكان الأرض الذين يطوفون حول بيته" ذكر هذا الحديث هكذا سليمان بن خليل في "منسكه"، ورويناه في "رسالة الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروينا فيها من قول الحسن: وإن الله عز وجل ليباهي بالطائفين ملائكته، ولو أن الملائكة صافحت أحدا لصافحت الطائفين حول بيت الله3... انتهى باختصار. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هداية السالك 2/ 927. 2 أخرجه: أبو يعلى "4589"، والبيهقي في الشعب "4097" وابن عدي في الكامل "2/ 2992"، والأصبهاني في الترغيب "1062"، وأخبار مكة للفاكهي 1/ 194، وذكره السيوطي في الجامع الكبير 1/ 182، وعزاه لأبي نعيم في الحلية. 3 هداية السالك 1/ 53. ج / 1 ص -242- قلت: إذا كان الطائف بهذه المزية، فينبغي له إخلاص النية، وحفظ اللسان عما يؤدي إلى النقصان، وما أحسن قول الشيخ محب الدين الطبري: واعلم أن التحدث في الطواف على غير النحو المتقدم في الفصل قبله خطأ كبير وغفلة عظيمة، ومن لابس ذلك فقد لابس ما يمقت عليه، خصوصا أنه صدر ممن ينسب إلى العلم والدين فإنه إذا أنكر على من دونه واحتج به فصار فتنة لكل مفتون، ومن أمر محادثة المخلوق في أمر الدنيا، والإقبال عليه، والإصغاء لحديثه على ذكر خالقه، والإقبال عليه وعلى ما هو متلبس به عبادته، فهو عين الرأي، لأن طوافه بجسده، وقلبه لاه ساه، وقد غلب الخوض فيما لا يعنيه حتى استرسل في عبادته، كذلك فهو إلى الخسران أقرب منه إلى الربح، ومثل هذا خليق بأن يشكوه إلى الله عز وجل وإلى جبريل عليه السلام ولعل الملائكة تتأذى به، وكثير من الطائفين يتبرءون منه، فعلى الطائف أن يبذل جهده في مجانبة ذلك1... انتهى. وقال سليمان بن خليل: وليحذر أن يكون ممن وصفه بعض العلماء العاملين فقال: يا من يطوف ببيت الله بالجسد والجسم في بلد والروح في بلد! ماذا فعلت وماذا أنت فاعله؟ بهرج في اللقا للواحد الصمد إن الطواف بلا قلب ولا بصر على الحقيقة لا يشفي من الكمد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 324، 325". ذكر بدء الطواف بهذا البيت العظيم وما ورد من طواف الملائكة: روينا في تاريخ الأزرقي أن بعض أهل الشام سأل بمكة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن بدء الطواف بهذا البيت، فقال له علي بن الحسين: أما بدء الطواف بهذا البيت: فإن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. قالت الملائكة: يا رب، أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتنازعون؟ أي رب اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتحاسد ولا نتباغض1 ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ونطيعك ولا نعصيك. قال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] قال: فظنت الملائكة إنما قالوا ردًّا على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رءوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا لغضبه، وطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر ـــــــــــــــ
65-استكمال مكتبات بريد جاري
مشاري راشد في سورة الأحقاف
Translate
Translate
الاثنين، 27 نوفمبر 2023
ج5.تابع شفاء الغرام
ذراع، وعرض هذا الجدار من الركن اليماني إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود ثمانية عشر ذراعا وسدس ذراع. ذكر ذرع سطح الكعبة: من وسط جدارها الشرقي إلى وسط جدارها الغربي أربعة عشر ذراعا وربع ذراع وثمن ذراع، ومن وسط جدارها الشامي إلى وسط جدارها اليماني ثمانية عشر ذراعا إلا ثمن ذراع، وارتفاع الشاخص في الجهة الشرقية ذراع إلا ثمن، وعرضه ذراعان إلا سدس، وارتفاع الشاخص في الجهة الشامية ذراع وثمن، وعرضه ذراعان إلا ثمن، وارتفاع الشاخص في الجهة الغربية ذراع، وعرضه ذراع ونصف وثمن، وارتفاع الشاخص في الجهة اليمانية ثلثا ذراع، وعرضه ذراع ونصف قيراط. وما ذكرناه من ذرع عرض الكعبة من داخلها وخارجها ينقص عما ذكره ابن جماعة في ذلك، وما ذكرناه في طولها من خارجها ينقص عما ذكره ابن جماعة في ذلك، لأن ما ذكرناه ينقص في طولها من خارجها ثلثي ذراع وقيراطا، وينقص في ذرع كل من جدارها الشرقي من خارجها ذراعين إلا قيراطين، وينقص في عرضه من داخلها نصفا وقيراطا، وينقص في ذرع عرض جدارها الشامي من خارجها ذراعا، وينقص في عرضه من داخلها ذراعا وسدسا، وينقص في ذرع عرض جدارها الغربي من خارجها ذراعا وثلث ذراع، وينقص في عرضه من داخلها ثلث ذراع وثمن ذراع، وينقص في ذرع عرض جدارها اليماني من خارجها ذراعا وقيراطين وينقص في عرضه من داخلها ثلثي ذراع، وكل ذلك بذراع الحديد. ج / 1 ص -155- ذكر شاذروان الكعبة وحكمه وشيء من خبر عمارته: أما شاذروان الكعبة: فهو الأحجار اللاصقة بالكعبة التي عليها البناء المسنم المرخم في جوانبها الثلاثة: الشرقي، والغربي، واليماني. وبعض حجارة الجانب الشرقي لا بناء عليه، وهو شاذروان أيضا. وأما الحجارة اللاصقة بجدار الكعبة الذي يلي الحجر فليست شاذروانا، لأن موضعها من الكعبة بلا ريب كما سبق بيانه. والشاذروان هو ما نقصته قريش من عرض جدار أساس الكعبة حين ظهر على الأرض كما هو عادة الناس في الأبنية، أشار إلى ذلك الشيخ أبو حامد الأسفراييني وابن الصلاح، والنووي، ونقل ذلك عن جماعة من الشافعية وغيرهم، والمحب الطبري1، وذكر أن الشافعي أشار إلى ذلك في "الأم"2، ونقل عنه أنه قال: إن طاف عليه أعاد الطواف... انتهى. وقد اختلف العلماء في حكم الشاذروان، فذهب الشافعي وأصحابه إلى وجوب الاحتراز منه وعدم إجزاء طواف من لم يحترز منه، وهو مقتضى مذهب مالك على ما ذكر ابن شاش، وابن الحاجب، وشارحه الشيخ خليل، وتلميذه صاحب "الشامل" وغيرهم من متأخري المالكية، وأنكر ذلك بعض متأخري المالكية، ولم يثبته في المذهب. ومذهب الحنابلة: أن الاحتراز منه مطلوب، إلا أن عدم الاحتراز يفسد الطواف. ومذهب أبي حنيفة: أنه ليس من البيت على مقتضى ما نقل القاضي شمس الدين السروجي من الحنفية عنهم. وهو اختيار جماعة من محققي العلماء على ما ذكر القاضي عز الدين بن جماعة. قلت: ينبغي الاحتراز منه، لأنه إن كان من البيت- كما قيل فالاحتراز منه واجب، وإلا فلا محذور في ذلك، كيف والخروج من الخلاف مطلوب، وهو هنا قوي، والله أعلم. وبعض الناس يعارض القول بأن الشاذروان من البيت، بكون ابن الزبير رضي الله عنهما بنى البيت على أساس إبراهيم عليه السلام كما جاء في خبر بنيانه، وهذا المعارض لا يخلو من حالتين: أحدهما: أن يدعي أن ابن الزبير، رضي الله عنهما استوفى البناء على جميع أساس جدران البيت بعد ارتفاعها عن الأرض، والآخر: أن يدعي أن البناء إذا نقص من عرض أساسه بعد ارتفاعه عن الأرض لا يكون مبنيا على أساسه، والأول لا يقوم عليه دليل، لأن ما ذكر من صفة بناء ابن الزبير رضي الله عنهما البيت لا يقتضي أن يكون بناء البيت مستوفيا على جميع أساس جدرانه بعد ارتفاعها عن الأرض، ولا ناقصا عن أساسها، ووقوع هذا في بيانه أقرب من الأول، لأن العادة جرت بتقصير عرض أساس الجدار بعد ارتفاعه لما في ذلك من مصلحة البناء، وإذا كان هذا مصلحة فلا مانع من فعله، في البيت لما بني في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى: ص 349. 2 الأم: 2/ 170. ج / 1 ص -156- نعم في بناء ابن الزبير رضي الله عنهما له على أساس إبراهيم دليل واضح على أنه أدخل في البيت ما أخرجته منه قريش في الحجر، فإنه بنى ذلك على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا أساس قريش. والثاني: غير مسلم، لأن الجدار إذا اقتصر من عرضه بعد ارتفاعه عن الأرض لا يخرجه ذلك عن كونه مبنيا على أساسه. وهذا مما لا ريب فيه، وإنكاره مكابرة، والله أعلم. ولم أدر متى كان ابتداء البناء في الشاذروان، ولم يبن مرة واحدة وإنما بنى دفعات، منها: في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة1، ولم أدر ما بني منه في هذه السنة، ومنها في سنة ست وثلاثين وستمائة، وعلى ما ذكر ابن خليل في "منسكه"، وينص2 لما بين ستة وثلاثين. وذكر أن في هذه السنة ختم الشاذروان عند الحجر الأسود، ومنها: في آخر عشر الستين وستمائة، أو في أوائل عشر السبعين وستمائة، لأن القاضي بدر الدين بن جماعة ذكر أنه رأى الشاذروان في سنة ست وخمسين وستمائة، وهي مصطبة يطوف عليها بعض العوام، ورآه في سنة إحدى وستين. وقد بني عليه ما يمنع من الطواف عليه على هيئة اليوم. هكذا نقل عنه ولده القاضي عز الدين، فيما أخبرني به عنه خالي، رحمهم الله تعالى. وذكر القاضي عز الدين بن جماعة فيما أخبرني عنه خالي أيضا، أن ارتفاع الشاذروان عن أرض المطاف في جهة باب الكعبة: ربع ذراع وثمن ذراع، وعرضه في هذه الجهة نصف وربع. وذكر الأزرقي أن طول الشاذروان في السماء ستة عشر أصبعا،وعرضه ذراع ... انتهى3. وقد نقص عرضه كما ذكر الأزرقي في بعض الجهات، وأفتى المحب الطبري عالم الحجاز في وقت بوجوب إعادة مقداره على ما ذكره الأزرقي، وله في ذلك تأليف نحو نصف كراس سماه "استقصاء البيان في مسألة الشاذروان". ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 510. 2 هكذا بالأصل ولا معنى لها. 3 أخبار مكة 1/ 309. ج / 1 ص -157- ذكر حلية الكعبة المعظمة ومعاليقها: أول من حلاها في الجاهلية على ما قيل عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم بالغزالين الذهب اللذين وجدهما في زمزم حين حفرها. ذكر ذلك الأزرقي واضطرب كلامه في أول من حلاها في الإسلام، فنقل عن جده أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أول من ذهب البيت في الإسلام، وذكر في موضع آخر ما يخالف ذلك، لأنه قال: وبعث عبد الملك بن مروان بالشمسيتين، وقدحين من قوارير، وضرب على الأسطوانة الوسطى الذهب من أسفلها إلى أعلاها صفائح... انتهى1. وذكر المسبحي ما يقتضي خلاف ما ذكره الأزرقي في أول من حلى الكعبة في الإسلام، لأنه قال في أخبار سنة خمس وستين من الهجرة: وفيها استتم ابن الزبير رضي الله عنهما بناء الكعبة، ويقال: إنه بناها بالرصاص المذوب المخلوط بالورس، وجعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتحها ذهب2... انتهى. نقلت ذلك هكذا من خط الحافظ رشيد الدين ابن الحافظ ركن الدين المنذري في اختصاره لتاريخ المسبح، وإنما ذكر ذلك بنصه لما فيه من إفادة تاريخ عمارة ابن الزبير رضي الله عنهما للكعبة، ولما فيه من أنه بناها بالرصاص مع الورس، وذلك مما لم يذكره الأزرقي في خبر عمارته، والله أعلم. وقال الفاكهي في الأوليات بمكة: وأول من عمل الذهب على باب الكعبة في الإسلام: عبد الملك بن مروان... انتهى3. وذكر الفاكهي أن الوليد بن عبد الملك أول من جعل الذهب على ميزاب الكعبة4... انتهى. وذكر الأزرقي صفة الحلية التي عملت بأمر الوليد ومقدارها، لأنه قال: فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسري بستة وثلاثين ألف دينار فضرب منها على بابي الكعبة صفائح الذهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في باطنها، وعلى الأركان في جوفها5. وذكر الأزرقي أن الأمين محمد بن هارون الرشيد الخليفة العباسي أرسل إلى سالم بن الجراح عامل له على موانئ مكة بثمانية عشر ألف دينار؛ ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح، وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليها الصفائح التي هي عليه اليوم يعني في زمنه والمسامير، وحلقتي باب الكعبة، وعلى الفياريز، والعتب6. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 1/ 2104، 224. 2 إتحاف الورى 2/ 77، وفيه أن ذلك كان سنة "74هـ"، الكامل لابن الأثير 4/ 87، ودرر الفرائد "ص: 198". 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 237. 3 أخبار مكة للفاكهي 3/ 237. 4 أخبار مكة للفاكهي 3/ 242، العقد الثمين 3/ 390. 5 أخبار مكة 1/ 212، 213. 6 أخبار مكة 1/ 212. ج / 1 ص -158- وذكر الأزرقي أن الحجبة كتبوا إلى الخليفة المتوكل العباسي رقعة ذكروا فيها أن زاويتين من زوايا الكعبة من داخلها ملبستين1 ذهبا وزاويتين فضة، وأن ذلك لو كان ذهبا كله كان أحسن وأزين، وأن قطعة مركبة على بعض جدران الكعبة شبه المنطقة فوق الإزار الثاني من الرخام، وذكروا أنه لو كان بدل تلك القطعة فضة في أعلا إزار الكعبة في تربيعها كان أبهي وأحسن. وذكر الأزرقي أن المتوكل أنفذ لعمل ذلك، ولعل ما كتب به إليه إسحاق بن سلمة الصائغ. قال: وعمل إسحاق الذهب على زاويتي الكعبة من داخلها، فكان ما كان هنالك من الفضة ملبسا، وكسر الذهب الذي كان على الزاويتين الباقيتين وأعاد عمله، فصار ذلك أجمع على مثال واحد منقوشة مؤلفة ثابتة، وعمل منطقة من فضة، وركبها فوق إزار الكعبة في تربيعها كلها منقوشة متصلا بهذه المنطقة. ثم قال: وفي أعلا2 هذه المنطقة رخام منقوش، فألبس ذلك الرخام ذهبا رقيقا، من الذهب الذي يتخذ للسقوف. قال: وكان في الجدار الذي في ظهر الباب يمنة من داخل الكعبة: رزة كلاب من صفر يشد به الباب إذا فتح بذلك الكلاب، لئلا يتحرك عن موضعه، فقلع ذلك الصقر، وصير مكانه فضة، وألبس ما حول باب الدرجة فضة مضروبة. قال: وكانت عتبة الباب السفلي قطعتين من خشب الساج قد رثتا ونخرتا من طول الزمان عليها، فأخرجهما وصير مكانهما قطعة واحدة من خشب الساج، وألبسها صفائح فضة. قال الأزرقي: وأخبرني إسحاق بن سلمة الصائغ أن مبلغ ما كان في الزوايا من الذهب والطوق الذي حول الجزعة: نحوا من ثمانية آلاف مثقال، وأن ما في منطقة الفضة، وما كان على عتبة الباب السفلى من الصفائح، وعلى كرسي المقام من الفضة نحوا من سبعين ألف درهم، وما ركب من الذهب الرقيق على جدران الكعبة وسقفها نحوا من مائة حق يكون في كل حق خمسة مثاقيل، هذا ما ذكره الأزرقي من خبر حلية الكعبة3. وأفاد السهيلي في تحلية الوليد بن عبد الملك للكعبة أمرا لم يفده الأزرقي، وفي كلامه ما يقتضي أنه ليس أول من حلاها في الإسلام، ولنذكر كلامه لإفادة ذلك، ونصه: ثم كان الوليد بن عبد الملك، فزاد في حليتها، وصرف في ميزابها وسقها ما كان في مائدة سليمان عليه السلام من ذهب وفضة، وكانت قد احتملت على بغل قوي فتفسخ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 كذا في لأصل، والصحيح "ملبستان". 2 كذا في الأصل. 3 أخبار مكة للأزرقي 1/ 301. ج / 1 ص -159- تحتها، فضرب منها الوليد حلية الكعبة، وكانت قد احتملت إليه من طليطلة من جزيرة الأندلس، وكانت لها أطواق من ياقوت وزبرجد1.... انتهى. ولنذكر ما علمناه من خبر حليتها بعد الأزرقي على الترتيب، فمن ذلك: أن وفد الحجبة كتبوا إلى الخليفة المعتضد العباسي يذكرون أن بعض عمال مكة كان قد قلع ما على عضادتي باب الكعبة من الذهب فضربه دنانير، واستعان به على حرب وأمور كانت بمكة بعد العلوي الخارجي بها في سنة إحدى وخمسين ومائتين2 فكانوا يسترون العضادتين بالديباج، وأن بعض العمال بعده قلع مقدار الربع من أسفل ذهب بابي الكعبة في سنة اثنتين وستين ومائتين3، وجعل ذلك فضة مضروبة مموهة بالذهب، على مثال ما كان عليها، فإذا تمسح به في أيام الحج بدت الفضة، حتى تجدد تمويهها في كل سنة وأن المعتضد أمر بعمل ذلك وعمل ما رفع إليه، فعمل ذلك. ومن ذلك: أن أم المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤ بأن يلبس جميع الأسطوانة الأولى التي تلي باب الكعبة الذهب، لأن التي تليها كانت ملبسة بصفائح الذهب، وبقيتها مموهة، وذلك في سنة عشر وثلاثمائة4. ومن ذلك: أن الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور المعروف بالجواد وزير صاحب مصر أنفذ في سنة تسع وأربعين وخمسمائة رجلا من جهته يقال له الحاجب، ومعه خمسة آلاف دينار لعمل صفائح الذهب والفضة في داخل الكعبة وفي أركانها5. وممن حلاها: الملك المظفر صاحب اليمن، وحليته لبابها، وقد تقدم مقدار الحلية التي كانت على الباب الذي صنعه لها. وحلاها حفيده الملك المجاهد صاحب اليمن، وأخبرت عمن رأى: اسم الملك المجاهد مكتوب6 بقلم غليظ في أعلى الحائط الذي فوق باب الكعبة من داخلها. وقد تقدم أن الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي صاحب مصر حلى باب الكعبة الذي عمله لها بخمسة وثلاثين ألف درهم وثلاثمائة درهم، وأن حفيده الملك الأشرف شعبان بن حسين حلى باب الكعبة في سنة ست وسبعين وسبعمائة7، فهذا ما علمته من حلية الكعبة بعد الأزرقي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الروض الأنف 1/ 224. 2 إتحاف الورى 2/ 329. 3 إتحاف الورى 2/ 338. 4 إتحاف الورى 2/ 368، أخبار مكة للأزرقي 1/ 291. 5 إتحاف الورى 2/ 514، العقد الثمين 2/ 212. 6 كذا بالأصل والصحيح "مكتوبا". 7 إتحاف الورى 3/ 2321، العقد الثمين 1/ 52، 5/ 10. ج / 1 ص -160- ذكر معاليق الكعبة وما أهدي إليها في معنى الحلية: قال المسعودي في أخبار الفرس: وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالا في صدر الزمان وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا، فدفن في زمزم، وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذلك كان لجرهم حين كانت بمكة، وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها، ويحتمل أن يكون لغيرها1، والله أعلم... انتهى. ويقال: إن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة، ذكر ذلك صاحب "المورد العذب الهني". وذكر الأزرقي رحمه الله أشياء أهديت للكعبة، لأنه قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي، عن أشياخه قال: لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدائن كسرى كان مما بُعث إليه هلالان، فبعث بهما من يعلقهما في الكعبة، وبعث عبد الملك بن مروان بالشمسيتين وقدحين من قوارير، ثم قال: وبعث الوليد بن عبد الملك بقدحين، وبعث الوليد بن يزيد بالسرير الزينبي وبهلالين، ثم قال: بعث أبو العباس يعني السفاح بالصفحة الخضراء، وبعث أبو جعفر يعني أخاه المنصور بالقرورة الفرعونية وبعث المأمون بالياقوتة التي تعلق كل سنة في وجه الكعبة في الموسم بسلسلة من ذهب، وبعث أمير المؤمنين جعفر المتوكل بشمسية عملها من ذهب، مكللة بالدر الفاخر، والياقوت الرفيع، والزبرجد، وسلسلة تعلق في وجه الكعبة في كل موسم. وقال الأزرقي: حدثني سعيد بن يحيى البلخي قال: أسلم ملك من ملوك التبت2 وكان له صنم من ذهب يعبده في صورة إنسان، وكان على رأس الصنم تاج من ذهب مكلل بخرز الجوهر، والياقوت الأحمر والأخضر، والزبرجد، وكان على سرير مربع مرتفع على الأرض على قوائم، والسرير من فضة، وعلى السرير فرشة الديباج، وعلى أطراف الفرش أزرار من ذهب وفضة مرخاة، والأزرار3 على قدر الكرسي في وجه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مروج الذهب 1/ 242. 2 في أخبار مكة 1/ 225: "التبت". 3 في أخبار مكة 1/ 225: "أزرار". ج / 1 ص -161- السرير، فلما أسلم ذلك الملك، أهدى السرير والصنم إلى الكعبة، هذا ما ذكره الأزرقي في معاليق الكعبة، وما أُهدي إليها في معنى الحلية. ومما أُهدي لها من هذا القبيل في عهد الأزرقي، ولم يذكره: قفل فيه ألف دينار، أهداه إليها المعتصم العباسي، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: ذكر قفل الكعبة، وقال بعض المكيين: إن أمير المؤمنين المعتصم بالله بعث إلى الكعبة بقفل فيه ألف دينار في سنة تسع عشرة ومائتين، وعلى مكة يؤمئذ صالح بن العباس، فأرس صالح إلى الحجبة فدعاهم ليقبضهم القفل فأبى الحجبة أن يأخذوه، فأجبرهم على ذلك، وأراد أن يأخذ قفلها الأول ويرسل به إلى الخليفة، فكلموه فتركه عليهم، وأذن لهم في الخروج إليه، فخرجوا إليه فكلموه فيها فترك قفلها هذا الذي عليها، وأعطاهم القفل الذي كان بعث إليها، فقسموه بينهم1... انتهى. وذكر المسبحي هذا القفل، وفيما ذكره ما يفهم منه غير ما ذكره الفاكهي، لأنه قال في أخبار سنة تسع عشرة ومائتين وفيها وصل طاهر بن عبد الله بن طاهر حاجا في عدد كثير من الجن بقفل فيه ألف مثقال من ذهب، فقفل به البيت ونزع قفله الذي كان عليه، وكان مطليا، ويقال إن الحجاج عمله... انتهى. نقلت ذلك من خط الرشيد بن المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي. ومما أُهدي لها من هذا القبيل في عهد الأزرقي أو بعده بقليل: طوق من ذهب مكلل بالزمرد والياقوت وغير ذلك، مع ياقوتة خضراء كبيرة ذكره الفاكهي، لأنه قال: وأسلم ملك من ملوك السند في سنة تسع وخمسين ومائتين فبعث إلى الكعبة بطوق من ذهب فيه مائة مثقال مكلل بالزمرد والياقوت والماس، وياقوته خضراء وزنها أربعة وعشرون مثقالا فدفعها إلى الحجبة، فكتبوا في أمرها إلى أمير المؤمنين المعتمد على الله، وأخذوا الدرة فأخرجوها وجعلوها في سلسلة من ذهب، وجعلوا في وسط الطوق مقابله الياقوت والزمرد، فجاء كتاب أمير المؤمنين بتعليقها، فعلقت مع معاليق الكعبة في سنة تسع وخمسين ومائتين... انتهى. ومما علق في الكعبة في عهد الأزرق أو بعده بقليل، قصبة من فضة فيها كتاب، فيه بيعة جعفر بن المعتمد وبيعة أبي أحمد الموفق، ذكر ذلك الفاكهي، لأنه قال: ثم قدم الفضل بن عباس الهاشمي مكة في موسم سنة إحدى وستين، ومعه كتاب فيه بيعة جعفر ابن أمير المؤمنين المعتمد، وبيعة أبي أحمد الموفق بالله أخي أمير المؤمنين، وما عقد له أمير المؤمنين المعتمد، وبيعة أبي أحمد الموفق بالله أخي أمير المؤمنين، وما عقد له أمير المؤمنين المعتمد على الله، فعمل لذلك قصبة من فضة، فيها ثلاثمائة وخمسون. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أخبار مكة للفاكهي 5/ 236. ج / 1 ص -162- درهما فضة ثم أدخل الكتاب فيه، وجعل على رأس القصبة ثلاث رزات، وجعل للرزات ثلاث سلاسل من فضة، ثم دخل الكعبة يوم الاثنين لأربع ليال خلون من صفر، ومعه محمد بن يحيى صاحب شرطته، وهو يومئذ على الخراج والبريد والصوافي، فأقاما فيها حين علقت هذه القصبة مع معاليق الكعبة، وذلك في صفر سنة اثنين وستين ومائتين1.... انتهى. وأفاد الفاكهي في صفة الياقوتة التي بعثها المأمون ما لم يفده الأزرقي، وهي أنها أكبر من الدرة اليتيمة، لأنه قال: وبعث أمير المؤمنين المأمون بالياقوتة التي كانت تعلق كل سنة في وجه الكعبة بسلسلة من ذهب، وهي أكبر من الدرة اليتيمة. حدثني حسن بن حسين الأزدي قال: حدثنا إسماعيل بن مجمع قال: وزنت الدرة اليتيمة، فإذا وزنها مثالان ونصف وربع وعشر... انتهى. ومما أُهدي لها من هذا القبيل بعد الأزرقي: قناديل بعث بها المطيع العباسي2، كلها فضة، خلا قنديلا منها كان ذهبا، زنته ستمائة مثقال، ذلك في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة3. ومن ذلك قناديل ومحاريب أهداها إلى الكعبة صاحب عمان، على ما ذكر أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك" ونص كلامه: وقد أهدى صاحب عمان إلى الكعبة بعد العشرين وأربعمائة محاريب مبنية زنة المحراب أزيد من قنطار، وقناديل في نهاية الإحكام، وسمرت المحاريب في الكعبة مما يل بابها.... انتهى. ومن ذلك: قناديل ذهب وفضة، أهداها للكعبة الملك المنصور عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن في سنة اثنين وثلاثين وستمائة. ومن ذلك: قفل ومفتاح أهداه إليها الملك الظاهر بيبرس4 صاحب مصر، وركب عليها القفل المذكور. ومن ذلك: حلقتان من ذهب مرصعتان باللؤلؤ والبلخش، كل حلقة وزنها ألف مثقال، وفي كل حلقة ست لؤلؤات فاخرات، وبينها ست قطع بلخش فاخر، بعث بذلك الوزير علي شاه وزير السلطان أبي سعيد بن خرابنده ملك التتر على يد الحاجي مولا واخ، في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، ولما أراد تعليق ذلك بباب الكعبة منعه منه أمير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للفاكهي 5/ 236، 237. 2 تولى الخلافة سنة 334 وبقي إلى سنة 363هـ. 3 إتحاف الورى 2/ 407، المنتظم 7/ 53، الجامع اللطيف "ص 112، درر الفرائد "ص: 245". 4 ولي السلطنة في مصر سنة 658هـ" وظل بها حتى توفي "676هـ" شذرات الذهب 5/ 350. ج / 1 ص -163- الركب المصري في هذه السنة، وقال: هذا لا يمكن إلا بإذن السلطان يعني صاحب مصر إذا ذاك وهو الناصر محمد بن قلاون فقال الحاجي مولا واخ: إن الوزير علي شاه كان نذر متى ظفر بخواجه رشيد الدولة وقتله أن يعلق على باب الكعبة حلقتين، فيقال إنه أذن له في تعليقهما زمنا قليلا، ثم رفعتا، وأخذهما إذ ذاك رميثة بن أبي نُمَى من آل قتادة1. ومن ذلك: ما أخبرني به بعض فقهاء مكة: أربعة قناديل كبار، كل قنديل منها على ما ذكر في مقدار الدورق: اثنان منها ذهب واثنان فضة، والمهدي لذلك هو السلطان شيخ أويس صاحب بغداد، وذلك في أثناء عشر السبعين وسبعمائة على ما ذكر، وذكر أن ذلك علق في الكعبة زمنا قليلا، ثم أزيل، وأخذه أمير مكة عجلان بن رميثة... انتهى بالمعنى. وأهدى الناس بعد ذلك للكعبة قناديل كثيرة، والذي في الكعبة الآن من المعاليق ستة عشر قنديلا، منها ثلاثة فضة، وواحد ذهب، وواحد بلور، واثنان نحاس، والباق زجاج حلبي، وهو تسعة بتقديم التاء. وليس في الكعبة الآن شيء من المعاليق التي ذكرها الأزرقي ولا مما لم يذكره مما ذكرنا سوى الستة عشر قنديلا، ولس فيها شيء من حلية الذهب والفضة التي كانت في أساطينها وجدرانها، وسبب ذلك توالي الأيدي عليه من الولاة وغيرهم على ما ذكر الأزرقي في تاريخه، ووقع ذلك أيضا بعده، فمن ذلك ما وقع لأبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي2 حين خرج عن طاعة الحاكم بأمر الله، ودعا لنفسه بالإمامة وتلقب بالراشد، لأنه أخذ من حليتها وضربه دنانير ودراهم. وهي التي تسمى الفتحية، وأخذ بعد ذلك المحاريب التي أهداها للكعبة صاحب عمان. ومن ذلك: ما وقع لمحمد بن جعفر المعروف بابن أبي هاشم الحسيني3، لأنه في سنة اثنتين وستين وأربعمائة أخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب لما لم يصله شيء من جهة المستنصر4 العبيدي صاحب مصر لاشتغاله عنه بما هو فيه من القحط الذي كاد بسببه أن يستولي الخراب على إقليم مصر5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 160و 161، السلوك للمقريزي 2/ 1: 190، درر الفرائد "ص: 296". 2 هو أمير مكة، تولاها مرتين، الأولى سنة 384- 401، والثانية سنة 403- 420هـ "انظر عنه الكامل في التاريخ 9/ 331- 332، وفيات الأعيان 2/ 174، 175، العقد الثمين 4/ 69". 3 ولي مكة سنة 461 إلى سنة 487هـ "إتعاظ الحنفاء- 2/ 269". 4 تولى خلافة مصر من سنة 427 إلى سنة 487هـ "إتعاظ الحنفاء 2/ 184، 185". 5 إتحاف الورى 2/ 472، العقد الثمين1/ 440- 443، الكامل لابن الأثير 10/ 22، البداية والنهاية 12/ 99، النجوم الزاهرة 5/ 84، تاريخ الخلفاء "ص: 421"، درر الفرائد "ص: 256". ج / 1 ص -164- وقد ذكر الأزرقي في عقوبة من اجترأ على ذلك، وفي التحذير منه أخبارا، منها: ما نقله عن جده أحمد بن محمد الأزرقي، عن عبد الله بن زرارة: أنه كان مال الكعبة يدعى الأبرق، ولم يخالط مالا قط بحقه، ولم يزرأ منه أحد إلا بأن النقص في ماله، وأدنى ما يصيب صاحبه أن يشدد عليه الموت. ومنها أن فتى من الحجبة حضرته الوفاة فاشتد عليه النزع جدا، حتى مكث أياما ينتزع نزعا شديدا، فقال له أبوه لعلك أصبت من الأبرق شيئا يعني مال الكعبة فقال: أربعمائة دينار، فأشهد أن عليه للكعبة أربعمائة دينار فسري عن الفتى، ثم لم يلبث أن مات1. هذا معنى الخبرين باختصار، وبالجملة فلا يجوز أخذ شيء من حلية الكعبة لا للحاجة ولا للتبرك، لأن ما جعل للكعبة وسُبِّلَ لها يجري مجرى الأوقاف، ولا يجوز تغييرها عن وجوهها، أشار إلى ذلك المحب الطبري في "القرى"، قال: وفيه تعظيم للإسلام وترهيب على العدو2... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 1/ 247. 2 القرى "ص: 638". ذكر كسوة الكعبة المعظمة: كسيت الكعبة في الجاهلية والإسلام أنواعا من الكسى، منها: الخصف، والمعافر، والملاء، والوصائل، والعصب1، كساها ذلك تبع الحميري، على ما ذكر ابن إسحاق2. وذكر ابن جريج أنه كساها العصب، وأنه أول من كسى الكعبة كسوة كاملة. وذكر السهيلي أنه كساها المسوح والأنطاع3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 العصب: برود يمانية، والوصائل: جميع وصيلة وهي ثوب أحمر مخطط يماني، والملاء، جمع ملاءة وهي ثوب لين رقيق، والمعافر: اسم بلد سميت به الثياب المعافرة التي تصنع فيه، والخصف: جمع خصفة وهي الثوب الغليظ. 2 روى ابن هشام نقلا عن ابن إسحاق أن تبعا أول من كسا البيت وأوصى به ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره. وجعل له بابا ومفتاحا. 3 المسوح: جمع مسح، وهو ثوب من الشعر غليظ، والأنطاع: جمع نطع، وهو بساط من الجلد. وقد ذكر الفاسي رواية السهيلي مقتضبة وتكملتها: أنه كساها بالخصف ثم كساها بالمسوح والأنطاع، ثم كساها بالملاء والوصائل، ومن قوله حين كسى البيت: وكسونا البيت الذي حرم الله ملاء معضدا وبرودا فأقمنا به من الشهر عشرا وجعلنا لبابه إقليدا ونحرنا بالشعب ستة ألف فترى الناس نحوهن ورودا ثم سرنا عنه نؤم سهيلا فرفعنا لواءنا معقودا والقصيدة طويلة. "الروض الأنف 1/ 40، 41". ج / 1 ص -165- ومنها على ما ذكرت أم زيد بن ثابت الأنصاري: مطارف خز خضر وصفر، وكرار، وأكسية من أكسية الأعراب، وسقاف شعر. ومنها على ما ذكر عمر بن الحكم السلمي: وصائل، وأنطاع، وكرار خز، ونمارق عراقية. ومنها: حبرات يمانية، كساها ذلك: أبو ربيعة المخزومي، وكساها ذلك: قريش حين بنوا الكعبة كما في خبر أبي نجيح وفي رواية أنهم كسوها حينئذ الوصائل. ومنها أنماط فهذه كسوتها في الجاهلية على ما ذكره الأزرقي1. وأما كسوتها في الإسلام على ما ذكر الأزرقي: فثياب يمانية كساها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقباطي من مصر كساها ذلك عمر، وعثمان رضي الله عنهما وكساها عثمان أيضا برودا يمانية، وهو أول من ظاهر لها بين كسوتين. وكساها عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما كان يحلي به بدنه من القباطي، والحبرات والأنماط. وكساها معاوية رضي الله عنه الديباج، والقباطي، والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان للفطر2. وكساها يزيد بن معاوية: الديباج الخسرواني، وكساها الديباج أيضا ابن الزبير رضي الله عنهما وعبد الملك بن مروان، ويقال في كل من هؤلاء الثلاث إنه أول من كسى الكعبة الديباج. وكساها ابن الزبير رضي الله عنهما حين فرغ من بنائها القباطي. وكساها المأمون ثلاث كسى: الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض الذي أحدثه يوم سبع وعشرين من رمضان للفطر. وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي. وكساها حسين الأفطس العلوى كسوتين: من قز رقيق، إحداهما صفراء، والأخرى بيضاء أمر بعملهما أبو السريا، هذا ملخص بالمعنى مما ذكره الأزرقي في كسوة الكعبة في الجاهلية والإسلام. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة 1/ 249 وما بعدها. 2 ذكر ابن هشام أن أول من كسى الكعبة بالديباج: الحجاج بن يوسف، وأنها كانت تكسى قبل ذلك بالقباطي والبرود 1/ 132، وانظر: أخبار مكة 1/ 253، و254. ج / 1 ص -166- وممن ذكر الأزرقي في أنه كسى الكعبة: أبو بكر الصديق: رضي الله عنه ولم يذكر صفة كسوته، ولا وقت كسوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كسى الكعبة1 ولم أر من صرح بأنه كساها. ولعله اشتغل عن ذلك بحروبه في تمهيد أمر الدين مع الخوارج، والله أعلم. ووقع فيما ذكره الأزرقي من كسوة الكعبة ذكره القباطي، والوصائل، والحبرات، والعصب، والأنماط. فأما القباطي: فهي جمع قبطية بالضم، وهو ثوب من ثياب مصر رقيق أبيض، كأنه منسوب إلى القبط وهم أهل مصر، والضم فيها من تغيير النسب، وهذا في الثياب، وأما في الناس فقبطي بالكسر لا غير. وأما الوصائل: فثياب حمر مخططة يمانية. وأما الحبرات: فجمع حبرة، وهو ما كان من البرود مخططا يقال له برد حبرة، وبرد حبر على الوصف وعلى الإضافة، وهو ثياب اليمن. وأما العصب فهو برود يمانية يعصب غزلها: أي: يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج، بنأي: موشى ببقايا عصب، منه أبيض، ثم يأخذه صبغ يقال له برد عصب وبرود عصب بالتنوين والإضافة. وأما الأنماط: فضرب من البسط، وإحداها نمط، ذكر تفسير ذلك كله على ما ذكرنا من يعتمد من العلماء رحمهم الله تعالى. وممن كسى الكعبة على ما قيل ولم يذكره الأزرقي: إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام أخبرني خالي عن ابن جماعة قال: وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسى الكعبة إسماعيل النبي عليه الصلاة والسلام والله أعلم بذلك... انتهى باختصار. ومنهم: عدنان بن أد: وهو أول من كساها على ما قيل لأن الزبير بن بكار قال في كتابه "النسب": ويقال: إن عدنان بن أد خاف أن يدرس البيت، فوضع أنصابه، فكان أول من وضعها، وأول من كسى الكعبة أو كسيت في زمانه... انتهى. ومنهم: خالد بن جعفر بن كلاب على ما ذكر السهيلي2 نقلا عن الماوردي، ونص كلام السهيلي بعد أن ذكر شيئا في كسوة الكعبة، ويزيد هنا ما ذكره الماوردي3. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 راجع أخبار مكة 1/ 253. 2 الروض الأنف 1/ 224. 3 الأحكام السلطانية "ص: 162". ج / 1 ص -167- قال: أول من كسى الكعبة الديباج: خالد بن جعفر بن كلاب وجد لطيمة تحمل البر1، ووجد فيها أنماطا فعلقها على الكعبة 2... انتهى. وسبقهما إلى ذلك الفاكهي، لأنه قال: وحدثنا محمد بن أبي عمر وعبد الجبار بن العلاء، يزيد أحدهما على صاحبه، قالا: حدثنا سفيان، عن مسعر، عن خشرم، قال: أصاب خالد بن جعفر لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج، فأرسل به إلى الكعبة وبسط عليها3... انتهى. ومنهم: أم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنها كستها الحرير والديباج، على ما ذكر أبو عبيدة فيما نقله عنه ابن الحاج في منسكه، ونقل عن أبي عبيدة أن سبب كسوتها للكعبة أنها أضلت العباس رضي الله عنه صغيرًا، فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة، فلما وجدته كستها ذلك، وهي أو عربية كست الكعبة الديباج على ما ذكر السهيلي وغيره، وذكر الزبير بن بكار أن الذي أضلته أم العباس رضي الله عنها ونذرت أن تكسو البيت إن رده الله عليها: ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس رضي الله عنه وذكر أنها كانت تنشده بأبيات، ثم قال: فأتاها به رجل من جذام، فكست البيت ثيابا بيضا، والله أعلم. وكسيت الكعبة بعد الأزرقي أنواعا من الكساء، فمن ذلك: الديباج الأبيض الخراساني، والديباج الأحمر الخراساني، على ما ذكر ابن عبد ربه في "العقد"، ولنذكر كلامه بنصه لإفادته ذلك وغيره من أمر كسوة الكعبة، قال بعد أن ذكر شيئا من خبرها: والبيت كله مستوف إلا الركن الأسود فإن الأستار تفرج عنه مثل القامة ونصف،وإذا دنا وقت الموسم كسي القباطي، وهو ديباج أبيض خراساني، فيكون في تلك الكسوة ما دام الناس محرمين، فإذا أحل الناس وذلك يوم النحر حل البيت فكسي الديباج الأحمر الخراساني، وفيه دارات مكتوب فيها حمد الله وتسبيحه وتكبيره وتعظيمه، فيكون كذلك إلى العام القابل، ثم يكسى أيضا على حال ما وصفت، فإذا كثرت الكسوة فخشي على البيت من ثقلها خفف منها، فأخذ ذلك سدنة البيت وهم بنو شيبة... انتهى كلام صاحب العقد بنصه4. وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة على ما ذكره الذهبي في "العبر"5 وغيرها. ورأيت في كتابه "العقد" ما يقتضي أنه عاش بعد ذلك سنين كما بيناه في أصل هذا الكتاب، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 وفي الأحكام السلطانية: "أصاب لطمة في الجاهلية، وفيها نمط ديباج فناطه بالكعبة". 2 الأحكام السلطانية "ص: 162". 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 231، فتح الباري 3/ 459، وفيه: من "جرة" بدلا من "حشرم". 4 العقد الفريد 6/ 257، 258. 5 العبر في خبر من غير 2/ 211، 212. ج / 1 ص -168- ومن ذلك الديباج الأبيض في زمن الحاكم العبيدي، وفي زمن حفيده المستنصر العبيدي، كساها ذلك الصليحي صاحب اليمن ومكة، وكساها أبو النصر الأستراباذي كسوة بيضاء من عمل الهند في سنة ست وستين وأربعمائة1، وكسيت في هذه السنة الديباج الأصفر، وهذه الكسوة عملها السلطان محمود بن سبكتكين، ثم ظفر بها نظام الملك وزير السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان السلجوقي، فأرسل بها إلى مكة، وجعلت فوق كسوة أبي النصر2. وكسيت أيضا كسوة خضراء، وذلك في مبدأ خلافة الناصر العباسي، ولعلها كنت تكسى ذلك من قبل، والله أعلم. وكسيت في زمنه أيضا كسوة سوداء، وفيها طراز أصفر، وكان قبل ذلك أبيض واستمرت فيما أحسب تكسى الديباج الأسود إلى الآن، إلا أن في سنة ثلاث وأربعين وستمائة كسيت ثيابا من القطن مصبوغة بالسواد، كساها ذلك: العفيف منصور بن منعة البغدادي شيخ الحرم بمكة، لما تمزقت كسوتها من الريح الشديدة التي وقعت بمكة في هذه السنة، ووجدت بخط الميورقي ما يقتضي أن هذه الريح كانت في سنة أربع وأربعين وستمائة3، والله أعلم. ولما عريت الكعبة من هذا التاريخ أراد صاحب اليمن الملك المنصور أن يكسوها، فقال له ابن منعة: لا يكون هذا إلا من جهة الديوان يعني الخليفة العباسي ولم يكن عند ابن منعة شيء لأجل ذلك، فاقترض ثلاثمائة مثقال، واشترى بها الثياب المشار إليها، وصبغها بالسواد، وركب فيها الطرز القديمة التي كانت في كسوة الكعبة، وكساها بذلك. وفي سنة عشر وثمانمائة أحدث في كسوة الجانب الشرقي من الكعبة جامات منقوشة بالحرير الأبيض4 وصنع ذلك في سنة إحدى عشر، وفي سنة اثنتي عشرة وفي سنة ثلاث عشرة، وفي سنة أربع عشرة، وترك ذلك في سنة خمس عشرة وثمانمائة وجعلت كسوة هذا الجانب كلها سوداء من غير جامات كما كانت أولا، وكذلك في سنة ست عشرة وثمانمائة، وفي سنة سبع عشرة وثمانمائة، وفي سنة ثماني عشرة وثمانمائة، ثم جعلت في كسوة الجانب الشرقي جامات منقوشة بالحرير الأبيض فيما تحت الطراز إلى أسفل الكسوة في كل شقة من هذا الجانب، وذلك في سنة تسع عشرة وثمانمائة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 2/ 475، العقد الثمين 3/ 261. 2 إتحاف الورى 2/ 476، النجوم الزاهرة 5/ 95. 3 إتحاف الورى 3/ 62، 63، البداية والنهاية 3/ 171، 172، درر الفرائد "ص: 277". 4 إتحاف الورى 3/ 459، درر الفرائد "ص: 318". ج / 1 ص -169- وعمل في هذه السنة لباب الكعبة ستارة عظيمة الحسن أحسن من الستائر الأولى التي شاهدناها1. والجامات المشار إليها مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، بالبياض، وكان ذلك مكتوبا في الشقاق التي أحدثت سنة عشرة وثمانمائة وذلك دوائر. واستمرت الجامات اليض المشار إليها خمس سنين متوالية بعد سنة تسع عشرة وثمانمائة، ثم أزيلت وعوض عنها بجامات سود في سنة خمس وعشرين وثمانمائة2. وفي كسوة الكعبة طراز من حرير أصفر، وكان قبل ذلك أبيض على ما أدركناه، وأول ما عمل أصفر قبل سنة ثمانمائة بسنة أو سنتين، وفي الطراز مكتوب آيات من القرآن العظيم في الجانب الشرقي قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97] وفي الجانب الغربي: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128] وفي الجانب اليماني: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [المائدة: 79] وفي الجانب الشامي اسم صاحب مصر وأمره بعمل هذه الكسوة، وهذا الطراز المذكور في نحو الربع الأعلى من البيت. وذكر بعض العلماء حكمة حسنة في سواد الكعبة؛ لأنا روينا عن ابن أبي الصيف مفتي مكة أن بعض شيوخه قال له: يا محمد تدري لم كسي البيت السواد؟ فقال: لا، قال: كأنه يشير إلى أنه فقد أناسا كانوا حوله فلبس السواد حزنا عليهم، وهذا معنى كلام ابن أبي الصيف. ولمهلهل الدمياطي الشاعر في سواد كسوة الكعبة والقفل: يروق لي منظر البيت العتيق إذا بدت لطرفي في الإصباح والطفل كأن حليتها السواد قد نسجت من حبة القلب أو من أسود المقل3 وكسوتها في هذه السنة، وفيما قبلها من سبعين سنة من الوقف الذي وقفه السلطان الملك الصالح4 إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر أيام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 536. 2 إتحاف الورى 2/ 587، تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 261". 3 كذا ورد في الأصل. 4 هو أبو الفداء عماد الدين. تولى السلطنة من سنة 743- 746هـ "انظر عنه كتاب النور اللائح والدر الصادح في اصطفاء مولانا السلطان الملك الصالح، تأليف إبراهيم بن القيسراني، طبعة دار الإنشاء بطرابلس 1982. ج / 1 ص -170- سلطنته- على كسوة الكعبة في كل سنة، وعلى كسوة الحجرة النبوية والمنبر النبوي في كل خمس سنين مرة، وهذا الوقف قرية بضواحي القاهرة في طريق القليوبية مما يلي القاهرة اشتراها الملك الصالح من بيت المال ووقفها على ما ذكر فيها، ولم يكسها أحد من الملوك بعد ذلك إلا أخوه الملك الناصر حسن، إلا أن كسوته لم تكن لظاهر الكعبة، وإنما هي لباطنها، وهي الكسوة التي في جوفها الآن. وبلغني أنها كانت أطول من هذا بحيث تصل إلى الأرض، وهي الآن سائرة لمقدار النصف الأعلى وسقفها، وهي حرير أسود، وفيها جامات مزركشة بالذهب وهي الآن ساترة لمقدار النصف الأعلى وسقفها، وهي حرير أسود، وفيها جامات مزركشة بالذهب، ما خلا شقة من السقف بين الأسطوانتين اللتين تليان الباب، فإنها كمخة حرير حمراء، وفي وسطها جامة كبيرة مزركشة بالذهب،وكان إرسال السلطان حسن بهذه الكسوة في سنة إحدى وستين وسبعمائة1. وبلغني أنه كان في جوف الكعبة قبلها كسوة للملك المظفر صاحب اليمن، والملك المظفر أول من كسا الكعبة من الملوك بعد انقضاء دولة بني العباس من بغداد وذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة2 واستمر يكسوها عدة سنين مع ملوك مصر وانفرد بكسوتها في بعض السنين، وكان المتولي لذلك غالبا. وأول من كساها من ملوك مصر بعد بني العباس الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي. وأول سنة كسى فيها الكعبة سنة إحدى وستين وستمائة3. وممن كسا الكعبة من غير الملوك: الشيخ أبو القاسم رامشت صاحب الرباط بمكة، كساها من الحبرات، وغيرها، فكانت كسوته بثمانية عشر ألف دينار مغربية: على ما قال ابن الأثير4:، وقيل بأربعة آلاف دينارن وذلك في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة5. والكعبة تكسى في عصرنا هذا يوم النحر من كل سنة، إلا أن الكسوة في هذا اليوم تسدل عليها من أعلاها، ولا تسبل حتى تصل إلى منتهاها على العادة، وهي شاذوران الكعبة إلا بعد أيام من يوم النحر، ويأخذ سدنتها بنو شيبة يوم النحر ما بقي على الكعبة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 280، العقد الثمين 1/ 59. 2 العقد الثمين 7/ 489، العقود اللؤلؤية 1/ 133- 135 إتحاف الورى 3/ 84، غاية الأماني 1/ 450. 3 إتحاف الورى 3/ 87، درر الفرائد "ص: 280 العقد الثمين 1/ 59. 4 الكامل في التاريخ 11/ 615. 5 الكامل لابن الأثير 11/ 27، البداية والنهاية 12/ 212، إتحاف الورى 2/ 505، العقد الثمين 4/ 386 درر الفرائد "ص: 259". ج / 1 ص -171- من كسوتها القديمة، وهو مقدار نصفها الأعلى، وأخذهم للنصف الأسفل في سابع عشرين ذي القعدة من كل سنة. وذكر ابن جبير في أخبار رحلته ما يفهم أن كسوة الكعبة تشمر في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة، ولا تقطع، لأنه قال بعد أن ذكر فتح الكعبة في هذا اليوم فتحا عاما للسرور: "في هذا اليوم المذكور الذي هو السابع والعشرون من ذي القعدة شمرت أستار الكعبة المقدسة إلى نحو قامة ونصف من الجدار من الجوانب على العادة دائما في الوقت المذكور من الشهر1... انتهى. وفي هذا مخالفة لما يفعله الحجبة اليوم من وجهين، أحدهما: أنهم يشمرون كسوة الكعبة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة في كل سنة من جوانبها الأربعة، إلى عتبة الباب السفلي، وكانوا يصنعون ذلك بعد العصر في هذا اليوم، ثم صاروا يصنعونه في أول نهار. والوجه الثاني: أنهم في اليوم السابع والعشرين من ذي القعدة في كل سنة يقطعون كسوة الكعبة من فوق الباب مع ما شمروه من قبل. وكلام ابن جبير لا يقتضي قطع ذلك في السابع والعشرين، وإنما يقتضي تشميره فيه، ولعل ذلك لكون الحجاج الذين تكثر رغبتهم في تحصيل كسوة الكعبة بالشراء وغيره، وهم الحجاج العراقيون لا يصلون للحج غالبا، إلا موافين ليوم عرفة، ويقصدونها قبل مكة، خيفة فوات الوقوف، وإذا كان كذلك فلا فوت على الحجبة في ذلك الزمان في تأخيرهم قطع كسوة الكعبة في السابع والعشرين، وتأخير قطعها إلى أيام منى، أو أخذ الكسوة فيها جملة عند وصول الكسوة الجديدة. ولعل سبب قطع الحجبة لكسوة الكعبة في السابع والعشرين من ذي القعدة، كون الحجاج من مصر والشام صاروا يقدمون إلى مكة في أوائل العشر الأول من ذي الحجة، فإذا أخر الحجبة قطع ذلك، أو أخذ الكسوة جملة إلى أيام منى فاتت الحجبة بعض مقصودهم من بيع الكسوة في العشر الأول من ذي الحجة، والله أعلم. وذكر ابن جبير ما يقتضي أن الكعبة لا تكسى في يوم النحر، وإنما تكسى في يوم النقر الثاني، لأنه قال: وفي يوم النحر -المذكور- سيقت كسوة الكعبة المقدسة من محلة الأمير إلى مكة على أربعة جمال تقدمها القاضي الجديد بكسوة الخليفة السوادية والرايات على رأسه والطبول تهز2 وراءه، ثم قال: فوضعت الكسوة في السطح المكرم أعلى ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 143". 2 بمعنى: تصخب. ج / 1 ص -172- الكعبة، فلما كان يوم الثلاثاء: الثالث عشر من الشهر المبارك المذكور اشتغل الشيبيون بإسبالها خضراء يانعة تقيد الأبصار حسنا، ثم قال بعد وصفه للكسوة: فحملت كسوتها، وشمرت أذيالها الكريمة صونا لها من أيدي الأعاجم وشدة اجتذابها وقوة تهافتهم عليها وانصبابها1... انتهى. وهذا يخالف ما يفعل اليوم من إسدال الكسوة على الكعبة وتشميرها في يوم النحر، وما يفعل اليوم من كسوة الكعبة في يوم النحر يوافق ما ذكره ابن عبد ربه2، وفي هذا العصر من نحو أربع سنين لا يؤتى بكسوة الكعبة من منى في يوم النحر، وإنما يأتي أمير الحاج المصري ومعه أعلامه والدباب، والبوقات تضرب معه حتى يدخل المسجد ويخرج إليه كسوة الكعبة من جوفها، فتنتشر في المسجد في صحنه مما يلي الشق اليماني، فتبرز كسوة كل شق، ويرفعها أعوان الأمير مع الحجبة إلى أعلا الكعبة، حتى تكمل، وتسدل على الكعبة على الصفة السابقة، وموجب وضعها في الكعبة قبل الحج: صونها من السرقة، لأنه قبل ذلك سرق بعضها من محل الأمير بمنى، ثم عادت إليه بشيء بذله، وصار الأمراء بعده يصونونها في الكعبة عند توجههم من مكة إلى الموقف. وفي سنة ثماني عشر وثمانمائة كُسيت الكعبة في رابع ذي الحجة إسبالا على نصفها الأعلى3 ولم تُكس في سنة تسع عشر إلا في يوم النحر، على العادة القديمة التي أدركناها، وعشرين وثمانمائة وكسيت في ثلاث سنين متوالية بعد ذلك في هذا التاريخ، أو بعده قبل اليوم السادس من ذي الحجة، ثم كسيت في سنة خمس وعشرين وثمانمائة في يوم النحر ضحى4، 5. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 157، 158". 2 العقد الفريد "6/ 257". 3 إتحاف الورى 3/ 528، وتاريخ الكعبة المعظمة "ص: 268". 4 إتحاف الورى 3/ 587، تاريخ الكعبة المعظمة "ص: 261". 5 واستمرت الكسوة من مصر حتى بعد دخولها سنة 923 تحت حكم العثمانيين، الذين أخذوا على أنفسهم كسوة الحجرة النبوية وكسوة الكعبة من الداخل والطيب والعطور وزيت القناديل. وبقي الأمر كذلك حتى تولى محمد على باشا حكم مصر، وحل الوقف الخاص بالكسوة، وأنشأ إدارة حكومية لصنع الكسوة وتعهدت الحكومة المصرية آنذاك بالإنفاق على صناعة الكسوة. وفي اليوم الرابع من شهر المحرم سنة 1218م دخل الإمام سعود الكبير ابن الإمام عبد العزيز مكة المكرمة حرمها الله في عهد أبيه، ولم يدرك الحج ولا حفل كسوة الكعبة، ولكنه علم ما يصحب الكسوة من بدع فأراد منع تكراره فيما يأتي من أعوام. وانقطعت الكسوة سبع سنوات، كان الإمام سعود يتولى كسوة الكعبة، كساها سنة 1221هـ من القز الأحمر، ثم كساها فيما تلاها من أعوام بالديباج الأسود والقيلان الأسود، وجعل أزرار الكسوة وستارة الكعبة من الحرير الطبيعي الأحمر المطرز بالذهب والفضة. ثم عاد وصول الكسوة من مصر خلال الفترة من سنة 1333هـ إلى سنة 1341هـ حين عادت الكسوة التى أرسلتها مصر، واستعين بالكسوة التي صنعت بالأستانة، حتى دخل الملك عبد العزيز آل سعود مكة المكرمة في 8 جمادى الأولى عام 1343هـ وصار هو المسؤول عن المسجد الحرام، والكعبة المعظمة، والكسوة الشريفة. ج / 1 ص -173- ونختم هذه الترجمة بمسألة تتعلق بكسوة الكعبة، وهي أن العلماء اختلفوا في جواز بيع كسوة الكعبة، فنقل جواز ذلك عن عائشة، وابن عباس، وجماعة من الفقهاء الشافعية وغيرهم، ومنع من ذلك ابن القاضي وابن عبدان، من الشافعية. وذكر الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي1 الشافعي في قواعده: أنه لا يتردد في جواز ذلك الآن، لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها في كسوة الكعبة، والوقف بعد استقرار هذه العادة، والعلم بها، فينزل لفظ الواقف عليها. قال: وهذا ظاهر لا يعارضه المنقول المتقدم... انتهى باختصار. وكان أمراء مكة يأخذون من السدنة ستارة باب الكعبة في كل سنة، وجانبا كبيرا من كسوتها، أو ستة آلاف درهم كاملية عوضا عن ذلك، فسمح لهم بذلك الشريف عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي لما ولى إمرة مكة في آخر سنة ثمان وثمانين وسبعمائة2، وجرى على ذلك الأمراء من بعده في الغالب، ثم إن السيد حسن بن عجلان بعد سنين من ولايته لمكة صار يأخذ منهم ستارة باب الكعبة وكسوة مقام إبراهم ويهدي لمن يرجوه من الملوك وغيرهم، والله الموفق. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 راجع ترجمته في الدرر الكامنة 2/ 90- 92 رقم 1666. 2 إتحاف الورى 3/ 357، العقد الثمين 6/ 441. ذكر طيب الكعبة وأخدامها: روينا من تاريخ الأزرقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبوا البيت، فإن ذلك من تطهيره. وروينا فيه عنها رضي الله عنها قالت: لأن أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدِي ذهبا وفضة. وروينا فيه عن أبي نجيح قال: إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أجرى للكعبة وظيفة الطيب بكل صلاة، وكان يبعث لهما المجمر والخلوق في الموسم وفي رجب، وأخدمها عبيدا، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده1. وروينا في تاريخ الأزرقي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر، ويجمر الكعبة كل جمعة برطلين من مجمر2. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 254. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 257. ج / 1 ص -174- وقال المحب الطبري: المجمر ما يتجمر به وهو العود الرطب، وبالضم ما يتجمر به، والخلوق طيب معروف يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه الصفرة والحمرة. وقال: قال الإمام أبو عبد الله الحليمي: روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وقال: قال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر، ثم أخذه، ذكره ابن الصلاح في منسكه... انتهى. وذكر النووي أنه لا يجوز أخذ شيء من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره، ومن أخذ شيئا من ذلك لزمه رده، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده، فمسحها به ثم أخذه... انتهى. ذكر أسماء الكعبة المعظمة: للكعبة المعظمة أسماء شريفة منها: الكعبة، ومنها بكة: بالباء الموحدة ومنها: البيت الحرام، ومنها: البيت العتيق، ومنها: قادس، ومنها: نادر1، ومنها: القرية القديمة، وهذه الأسماء الثلاثة الأخيرة مذكورة في تاريخ الأزرقي. وسميت الكعبة بالكعبة: لتكعيبها وهو تدويرها. قال القاضي عياض في "المشارق" لما ذكر الكعبة قال: الكعبة هو البيت نفسه لا غير، سمي بذلك لتكعيبها وهو تربيعها، وكل بناء مرتفع مربع كعبة. وقال النووي: سميت بذلك لاستدارتها وعلوها، وقيل: لتربيعها في الأصل2... انتهى. وممن قال إنها سميت بالكعبة لكونها على حلقة الكعب: ابن أبي نجيح، وابن جريج. وسميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة، وقيل غير ذلك. واختلف في معنى البيت العتيق، فقيل: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة فلم ينله جبار قط، أو لم يقدر عليه جبار وقيل: غير ذلك، والصحيح الأول على ما ذكر ابن جماعة. ومن أسمائها: البنية بباء موحدة ونون وياء مثناة من تحت مشددة، ذكر هذا الاسم لها القاضي عياض في "المشارق" لأنه قال في حرف الباء لما ذكر البيت العتيق: والبنية اسم للكعبة... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 في أخبار مكة للأزرقي "ناذر" بالذال المعجمة "1/ 280". 2 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 2: 124. ج / 1 ص -175- وذكر ابن الأثير في "النهاية" ما يدل لذلك، لأنه قال: وفي حديث البراء بن معرور رضي الله عنه رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر يريد الكعبة وكانت تدعى بنية إبراهيم عليه السلام لأنه بناها وقد كثر قسمهم برب هذه البنية ... انتهى. وذكر الأزرقي ما يشهد لذلك، لأنه روى خبرا عن الواقدي فيه أذان بلال رضي الله عنه للظهر يوم فتح مكة على ظهر الكعبة، وسماع قريش لذلك، وإنكارهم له. وفيه: وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث الجلل أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بنية أبي طلحة1... انتهى. وأبو طلحة هو عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب حاجب الكعبة، ولذلك أضافها الحكم إليه، والله أعلم. ومن أسمائها: الدوار بضم الدال المهملة وفتحها وتشديد الواو وبعدها ألف وراء مهملة، ذكر ذلك ياقوت في مختصره لمعجم البلدان2، وذكر أن ابن القطان حكى الوجهين اللذين ذكرهما في ضبطه، وذكر أن دوار أيضا: شجر باليمامة، وضبطه بالوجهين أيضا، وذكر هذا الاسم شيخنا القاضي مجد الدين الشيرازي في كتابه "الوصل والمنى في فضل منى". ومن أسمائها: المسجد الحرام لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144] والمراد به الكعبة بلا خلاف. وقد ورد إطلاق المسجد الحرام على غير الكعبة، وبينا ذلك في الباب الخامس. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 275. 2 المشترك وضعا والمفترق صقعا "ص: 183". ذكر هدم الحبشي الكعبة في آخر الزمان: روينا في مسند أحمد بن حنبل1، وفي "المعجم الكبير" للطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصلع2 أقرع يضرب عليها بمساحته ومعوله". وروينا في تاريخ الأزرقي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه كان يقول: كأني به أصيلع أقيرع3 قائما عليها يهدمها بمسحاته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 مسند أحمد 2/ 220. 2 في الأصل أبدع. 3 في أخبار مكة للأزرقي 1/ 276: "أفيدع". ج / 1 ص -176- وروينا في تاريخ الأزرقي أيضا أنه قال: والذي نفس عبد الله بيده إن لأنظر إلى صفته في كتاب الله عز وجل أفيحج1 أصيلع، قائما يهدمها بمساحته2. وروينا في تاريخ الأزرقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني أنظر إليه حبشيا أصيلع أصيمع2 قائما عليها يهدمها بمساحته. وروينا فيه وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"3. وروينا في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كأني به أسود أفحج يقلعها حجرًا حجرًا"4. وجزم السهيلي بأن تخريب الحبشي للكعبة يكون بعد رفع القرآن، وذلك بعد موت عيسى عليه السلام على ما ذكر ابن جماعة قال: وصححه بعض العلماء المتأخرين، ونقل عن الحليمي أن ذلك في زمن عيسى عليه السلام، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أفيحج: تصغير أفحج، يقال: فحج في مشيته إذا تدانى صدور قدميه وتباعد عقباه فهو أفحج. 2 خبار مكة للأزرقي 1/ 276. 3 رواه البخاري 3/ 368 "الحج، باب هدم الكعبة"، "وباب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] ومسلم "2909" في "الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء". 4 أخرجه البخاري 3/ 368: "باب هدم الكعبة". ذكر وقت فتح الكعبة في الجاهلية والإسلام: روينا في تاريخ الأزرقي عن سعيد بن عمرو الهذلي عن أبيه قال: رأيت قريشا في الجاهلية يفتحون الكعبة يوم الاثنين والخميس1، وذكر ذلك الفاكهي، وذكر أيضا أنها كانت تفتح في الجاهلية يوم الجمعة لأنه قال: حدثنا أحمد بن صالح بن سعيد عن محمد بن عمرو السلمي، حدثني عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو عن أبيه قال: رأيت قريشا في الجاهلية يفتحون البيت يوم الاثنين ويوم الجمعة2... انتهى. وروينا فتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس: عن عثمان بن طلحة الحجبي من طريق ابن سعد. وذكر ابن جبير في أخبار رحلته وكانت سنة تسع وسبعين وخمسمائة أن الكعبة تفتح كل يوم اثنين ويوم جمعة إلا في رجب فتفتح كل يوم3... انتهى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/ 174. 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 233. 3 رحلة ابن جبير: "ص: 113. ج / 1 ص -177- قلت: وفتحها يوم الجمعة مستمر إلى الآن، وفتحها يوم الاثنين متروك، إلا أنه وقع في شهر رمضان، وشوال، وذي القعدة، من سنة إحدى وثمانمائة1، واختص النساء بدخولها في هذا اليوم لأمر أوجب ذلك. وتفتح الكعبة غير يوم الجمعة أيضا، وذلك في أوقات متعددة من كل سنة، منها: في بكرة اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل سنة، ومنها: في بكرة اليوم التاسع والعشرين من رجب من كل سنة، ويختص النساء بدخولها في هذا اليوم أكثر من الرجال، وذلك قبل غسلها. ومنها: في بكرة يوم عيد الفطر. ومنها: في بكرة السادس والعشرين من ذي القعدة، ولا يدخلها في هذا اليوم إلا الأعيان من الناس، وفتحها في هذا اليوم لأجل غسلها. ومنها: في زمن الموسم وذلك في بعض ليالي الثماني الأول من ذي الحجة من كل سنة، وفي بعض هذه الأيام. وفتحها في هذه الأوقات: لأجل البر الذي تأخذه الحجبة ممن يرغب في دخولها، ثم لا تفتح فتحا عاما إلا بعد انقضاء ذي الحجة في أول جمعة من السنة التي تلي ذلك، إلا أنهم في سنة أربع عشرة وثمانمائة فتحت الكعبة بعد سفر الحجاج من مكة، وقبل دخول سنة خمس عشرة وصنع مثل ذلك الحجبة في سنة خمس عشرة، وذلك للرغبة في أخذ البر من الداخلين إليها. وذكر ابن جبير من أوقات فتح الكعبة التي أشرنا إليها فتحها في اليوم التاسع والعشرين من رجب، وذكر أنها تغسل في ثاني هذا اليوم لأجل ما لعله أن يكون وقع من حدث الصغار الذين يدخلون مع أمهاتهم في اليوم التاسع والعشرين من رجب، وذكر أن للنساء احتفالا كثيرا في دخول الكعبة في هذا اليوم2. وذكر ابن جبير فتح الكعبة أيضا في يوم عيد الفطر بكرة3 ولم يذكر فتحها في السادس والعشرين من ذي القعدة، وذكر أنها تفتح في السابع والعشرين من ذي القعدة فتحا عاما، وأن في هذا اليوم شمرت كسوته من جوانبها الأربعة التشمير الذي يسمونه إحرام الكعبة، ثم قال: ولا تفتح من حين إحرامها إلا بعد الوقفة، ثم قال بعد أن ذكر أن كسوة الكعبة وضعت على سطحها في يوم النحر وأسبلت عليها في يوم الثلاثاء الثالث عشر من الشهر المذكور: وشمرت أذيالها صونا لها من أيدي الأعاجم، وفي هذه الأيام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 إتحاف الورى 3/ 412. 2 رحلة ابن جبير "ص: 113، 115". 3 رحلة ابن جبير "ص: 134". ج / 1 ص -178- يفتح البيت الكريم كل يوم للأعاجم العراقيين والخراسانيين، وسواهم من الواصلين مع الأمير العراقي1... انتهى. وفي هذا دلالة على أن الكعبة تفتح في أيام الموسم وهو في زمن ابن جبير بعد الحج، لأن الحجاج العراقيين ما يصلون غالبا إلا موافين ليوم عرفة. ولنختم هذه الترجمة بحكم سدانة الكعبة وبحكم ما يأخذه سدنتها ممن يدخلها، وللمحب الطبري في ذلك كلام شاف فنذكره: ونص كلامه: الحجابة منصب بني شيبة، ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، كما ولى السقاية للعباس رضي الله عنهم ثم قال: "وسدانة البيت خدمتهم"، وتولي أمره وفتح بابه وإغلاقه، يقال: سدن يسدن سدانة فهو سادن، والجمع سدنة، ثم قال: قال العلماء: لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم. قالوا: وهي ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم "مالك" رحمه الله تعالى أن يشرك معهم غيرهم2. قلت: ولا يبعد أن يقال هذا إذا حافظوا على حرمته ولازموا في خدمته الأدب، أما إذا لم يحفظوا حرمته فلا يبعد أن يجعل عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته، وربما تعلق الجاهل الغبي الرأي المعكوس الفهم بقوله: "وكلوا بالمعروف" فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، وأنه من أشنع البدع وأقبح الفواحش، وهذه اللفظة إن صحت رواية فيستدل بها على إقامة الحرمة، لأن أخذ الأجرة ليس من المعروف، وإنما الإشارة والله أعلم إلى ما يقصدون به من البر والصلة من بيت المال على ما يقومون به من خدمته، والقيام بمصالحه، فلا يحل لهم منه إلا قدر ما يستحقونه، والله أعلم. ثم قال بعد أن ذكر أحاديث تتعلق بالحجر بسكون الجيم: وفيها ما يقتضي أن سبب رفع قريش لباب الكعبة ليمنعوا من شاءوا ويدخلوا من شاءوا، وفي قوله: "فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا"، وقوله: "وألصق بابها بالأرض"، دلالة على أن الناس غير محجوبين عن البيت، وأنه لا يحل منعهم، وما يأخذه السدنة على ذلك لا يطيب لهم إلا بطيب نفس من الدافعين، وإنما تجب أجرتهم على ما يتولونه من القيام بمصالحه من بيت المال. قال أبو العالية الرياحي رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَه} [الأنفال: 41] قال: السهم المضاف إلى الله تعالى إنما هو لبيت الله تعالى، وأكثر أهل العلم على أنه أضاف الخمس إلى نفسه لشرفه، وسهم الله تعالى، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 رحلة ابن جبير "ص: 144". 2 القرى "ص: 506". ج / 1 ص -179- واحد ... انتهى. ذكر ذلك مفرقا في موطنين من الباب الثامن والعشرين من كتابه القرى1 وعزا المحب الطبري الخبر الذي فيه، "وكلوا بالمعروف" إلى سنن سعيد بن منصور، وهو في طبقات محمد بن سعد كاتب الواقدي من حديث عثمان بن طلحة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في الباب السابع والثلاثين من هذا الكتاب إن شاء الله. والأصل في غسل الكعبة لتطهيرها في الجملة، ذكر الفاكهي ما يدل له، لأنه قال في ترجمة ترجم عليها بقوله: ذكر أذان بلال بن رباح على الكعبة ورقيه فوقها يوم الفتح للأذان حدثني محمد بن علي المروزي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فرقي على ظهر الكعبة، فأذن الصلاة، وقام المسلمون فتجرروا في الأزر وأخذوا الدلاء، وارتجزوا على زمزم، فغسلوا الكعبة ظهرها وبطنها، فلم يدعوا أثرا من آثار المشركين إلا محوه وغسلوه2... انتهى. وإنما ذكرنا هذا الخبر في هذه الترجمة لما وقع فيها من غسل الحجبة للكعبة، ويكون هذا الخبر كالشاهد بذلك، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 القرى "ص: 508". 2 أخبار مكة للفاكهي 5/ 221. ذكر بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها: أخبرني بذلك خالي قاضي الحرمين محب الدين النويري سماعا عن القاضي عز الدين بن جماعة سماعا، أنه نقل من خط والده في الدائرة التي ذكر فيها صفة الكعبة، وما يحتاج إلى معرفة تصويره، وأن والده قال: إنه كتبها في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وستمائة، قال: جهة القبلة لأهل البصرة، والأهواز، وفارس وكرمان، وأصبهان، وسجستان، وشمالي بلاد الصين، وما على سمت ذلك وهو من باب الكعبة إلى الحجر الأسود، فمن جعل القطب على أذنه اليمنى والشولة إذا تدلت للغروب بين عينيه، ومشرق الصيف خلف كتفه الأيمن والدبور1 على خده الأيمن، والجنوب على خده الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الكوفة، وبغداد، وحلوان والقادسية، وهمدان، والري، ونيسابور، وخراسان، ومرو، وخوارزم، وبخارى، وفرغانة، والشاش، وماهان، وما كان على سمت ذلك: ما بين مصلى آدم إلى قرب باب الكعبة، فمن جعل بنات نعش2 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الدبور: هي الريح الغربية. 2 سبعة كواكب: أربعة منها نعش، لأنها مربعة وثلاث بنات نعش "تاج العروس 4/ 357". ج / 1 ص -180- الكبرى إذا طلعت خلف أذنه اليمنى، والهقعة1 إذا طلعت بين كتفيه إلى خلف أذنه اليسري، والقطب على كتفه الأيمن،وريح الصبا على الأيسر، والشمال على عاتقه الأيمن، والجنوب على خده الأيسر، استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الرها، والموصل، وملطية، وشميساط، وسيحان، والجزيرة، وديار بكر، وما كان على سمت ذلك: إلى القبلة يستقبلون من الركن الشامي إلى مصلى آدم، فمن جعل فيها القطب على أذنه اليمنى ومشرق الشتاء خلف أذنه اليسرى، وريح الصبا على كتفه الأيسر، والشمال على خده الأيمن، والجنوب على عينه اليسرى: استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الشام كلهم إلا ما ذكر عن اليمين، ودمشق في هذا القسم، وهي: حمص، وحماه، وحلب، ومنبج، وحران، وميافارقين، وما والاها من البلاد، وسواحل الروم: ما بين الميزاب والركن الشامي، موقفهم موقف أهل المدينة ودمشق كما تقدم، لكنهم يتياسرون شيئا كثيرا، والجهة شاملة للجميع إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل جانب الشام الغربي، ووسط غزة، والرملة، وبيت المقدس، والمدينة الشريفة، ودمشق، وفلسطين وعكا، وصيدا، وما ولى ذلك من السواحل على سمتهم، وهي من قبيل ميزاب الكعبة إلى دون الركن الغربي، فمن جعل بها سهيلا إذا طلع بين عينيه، وبنات نعش إذا غربت خلفه، والنسر الواقع إذا طلع على أذنه اليسرى، فقد استقبل هذا في الجانب من الشام، أما المدينة، ودمشق وما والاها من أواسط الشام. فمن جعل بنات نعش الكبرى إذا طلعت خلف أذنه اليسرى، والجدي على قفا ظهره مائلا إلى عينه قليلا، والهقعة إذا طلعت عن شماله، والصبا على خده الأيسر، والجنوب تلقاء وجهه: فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل مصر والصعيد الأعلى، وسواحلهما السفلى أسواق، وإسنا، وقوص، والفسطاط، والإسكندرية، والمحلة، ودمياط، وتنيس، وبرقة، وطرابلس، وصفد، وساحل المغرب، والأندلس، وما كان على سمته، وهو ما بين الركن الغربي والميزاب، فمن جعل بنات نعش إذا غربت خلف كتفه الأيسر، وإذا طلعت على خده الأيسر، والقطب على أذنه اليسرى، ومشرق الشتاء تلقاء وجهه، والدبور خلف كتفه الأيمن، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 الهقعة: بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين، ثلاثة كواكب منيرة قريب بعضها من بعض. فوق منكس الجوزاء كأنها الأثافي، وهي من منازل القمر. إذا طلعت مع الفجر اشتد حر الصيف "تاج العروس 5/ 588". ج / 1 ص -181- وجهة القبلة لأهل الشمال من بلاد البُحاة، والنوبة، وأواسط المغرب من جنوب الواحات إلى بلاد إفريقية، وأواسط بلاد البربر، وبلاد الجريد إلى البحر المحيط وهي جهة جدة، وعيذاب، وجنوب أسوان، وهي من دون الركن الغربي بثلث الجدار إلى الركن الغربي، فمن جعل بها الثريا إذا طلعت على عينه اليسرى، والصبا على عينه اليمنى فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل بلاد البجاة، وبلاد دهلك وسواكن، وبلاد البلين والنوبة إلى بلاد التكرور وما وراء ذلك، وما على سمته من بلاد السودان وغيرهم إلى البحر المحيط، وهي من دون الباب المسدود إلى ثلثي الجدار، فمن جعل بها الثريان إذا طلعت بين عينيه، والقطب على عينه اليسرى وخده الأيسر، والصبا على عينه اليمنى، والدبور خلف أذنه اليسرى، ومغرب الشولة خلف كتفه الأيمن ومشرق الشتاء على خده الأيمن، ومشرق الصيف على الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل الحبشة، والزنج، والزيلع، وأكثر بلاد السودان، وجزائر فرسان وما والاها من البلاد وكان على سمتها، وهي الركن اليماني إلى ثلثي الجدار وهو آخر الباب المسدود، فمن جعل بها الثريا إذا طلعت على جنبه الأيمن، والقطب على الأيسر، والصبا على خده الأيمن، والدبور على كتفه الأيسر، والجنوب على الأيمن، ومغرب الشولة خلف كتفه الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل اليمن بأسره: ظفار، وحضرموت، وصنعاء، وعمان، وصعدة، والشحر، وسبأ وما والاها وما كان على سمتها، وهي من دون الركن اليماني بسبعة أذرع إلى الركن اليماني، فمن جعل فيها القطب بين عينيه، وسهيلا إذا طلع خلف أذنه اليمنى، وإذا غرب خلف اليسرى، ومشرق الشتاء على أذنه اليمنى، ومغرب الشتاء على اليسرى، والشمال تلقاء وجهه، والجنوب خلف ظهره، والصبا على خده الأيمن، والدبور على الأيسر، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل بلاد السند، وجنوب بلاد الهند، وجنوب بلاد الصين، وأهل التهائم، والسندين، والبحرين، وما والاها وكان على سمتها، وهي من دون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلثي هذا الجدار، فمن جعل بنات نعش إذا طلعت على خده الأيمن، ومطلع النسر الواقع على أذنه اليمنى، ومغرب بنات نعش بين عينيه، فقد استقبل القبلة إن شاء الله تعالى. وجهة القبلة لأهل بلاد الصين، وأهل واسط، والهند والمرجان، وكابل، والهدبان والتتار، والمسفر، والقندهار، وما والاها وكان على سمتها، وهو من الركن الأسود إلى دون مصلى النبي صلى الله عليه وسلم فمن جعل بها بنات نعش الكبرى إذا طلعت على خده الأيمن ج / 1 ص -182- والقطب على عاتقه الأيمن، والصبا خلف أذنه اليمنى، فقد استقبل القبلة إن شاء تعالى... انتهى ما ذكره القاضي عز الدين بن جماعة عن أبيه من بيان جهة المصلين إلى الكعبة من سائر الآفاق، ومعرفة أدلة القبلة بالآفاق المشار إليها. ووجدت في الكتاب الذي ألفه الفقيه أبو عبد الله محمد بن سرقة العامري لمعرفة دلائل القبلة في جميع البلدان بابا في هذا المعنى وعرضته على ما ذكره ابن جماعة، فإن بين ما ذكره ابن سراقة وابن جماعة اختلاف كثير من اللفظ والمعنى والزيادة والنقص وغير ذلك، فرأيت أن ذكر ما ذكره ابن سراقة ليحيط بذلك علماء النظر في هذا الكتاب. أنبأني بكتاب ابن سراقة المسندان محمد بن محمد بن عبد الله، وإبراهيم بن أبي بكر بن عمر الصالحيان إذنا، ومكاتبة عن أبي القاسم شهاب بن علي المحسبي أن أبا محمد عبد الوهاب بن ظافر الأزدي أخبره سماعا قال: أنبأنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ قال: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي قال: أنبأنا أبو صالح محمد بن أبي عيسى بن الفضل السمرقندي بمصر قال: أنبأنا الفقيه محمد بن سراقة العامري قال: باب ذكر البلدان ومواقعها من جهات الكعبة، وما يستدل به هل كل بلد عليها: اعلم أن أهل القادسية، والكوفة، وبغداد وحلوان، وهمدان، والري، ونيسابور، ومرو، وخوارزم، وبخارى، والشاش، وفرغانة، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون الكعبة من مصلى آدم إلى بابها، فمن كان في إحدى هذه البلاد أو على خطها وأراد التوجه إليها جعل بنات نعش الكبرى إذا طلعت على أذنه اليمنى، والهقعة إذا طلعت بين كتفيه إلى خلف أذنه اليسرى، والقطب على كتفه الأيمن، وريح الصبا على كتفه الأيسر، والشمال على عاتقه الأيمن إلى قفاه، والدبور على صفحة خده الأيمن، والجنوب على خده الأيسر، فمن استدل ببعض هذه الدلائل في إحدى هذه البلدان أو فيما كان على سمتها من البلاد، من بر، أو بحر، أو سهل، أو جبل، فقد استقبل جهة الكعبة التي أمر باستقبالها. واعلم أن أهل البصرة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وكرمان، وسجستان، وبست إلى بلاد الصين، وما كان من البلاد على سمت ذلك، يستقبلون في صلاتهم من باب الكعبة إلى الركن العراقي، فمن كان في إحدى هذه البلاد وفيما كان على سمتها وأراد التوجه إلى الكعبة جعل القطب على أذنه اليمنى، والنسر الواقع خلفه والشولة إن نزلت للغروب بين عينيه، أو مشرق الصيف خلف كتفه الأيمن، ومهب الصبا على كتفه الأيسر، والشمال على أذنه اليمنى، والدبور على خده الأيمن، والجنوب على عينه اليسرى، فمتى فعل ذلك استقبل جهة الكعبة. ج / 1 ص -183- واعلم أن أهل السند، والمهرجان، وكابل، والقندهار، والنسان، وما كان على سمت ذلك من البلاد فهم يستقبلون في صلاتهم من الركن العراقي إلى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن جعل في إحدى هذه البلاد ومن كان من البلاد على سمتها بنات نعش إذا طلعت على خده الأيمن والقطب على عينه اليمنى، وربح الصبا خلف أذنه اليسرى والشمال على خده الأيمن، والدبور على خده الأيسر، والجنوب على كتفه الأيسر، فقد استقبل جهة الكعبة. وأعلم أن أهل اليمن، والسدير، والتهائم إلى عدن، والبحرين إلى عمان، وحضرموت، والشحر، وصنعاء، وهي نجدية، وصعدة وما كان على سمت ذلك من البلاد يستقبلون في صلاتهم من موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الركن اليماني، فمن كان في إحدى هذه البلاد فجعل القطب بين عينيه، وسهيلا إذا طلع على أذنه اليمنى، وإذا غرب خلف أذنه اليسرى، ومشرق الشتاء على أذنه اليمنى، والصبا على كتفه الأيمن، والشمال تلقاء وجهه، والدبور على جنبه الأيسر، والجنوب على كتفه الأيسر، فقد استقبل جهة الكعبة. واعلم أن أهل بلاد الحبشة، وجزائر، وفرسان، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من الركن إلى الباب المسدود، فمن كان في إحدى هذه البلاد أو فيما كان من البلاد على سمتها فجعل الثريا إذا طعلت بين عينيه، والشعرى والعيون إذا طلعت على جنبه الأيمن، أو القطب على أذنه اليسرى، أو ريح الصبا على عينيه، أو الشمال تلقاء وجهه والدبور عن شماله، أو الجنوب خلفه، كان مستقبلا لجهة الكعبة. وإن أهل بلاد النوبة والبجة إلى البحر المحيط، وما وراء ذلك من خلال بلاد السودان وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من الباب المسدود إلى دون الركن الغربي بسبعة أذرع، فمن جعل في إحدى هذه البلاد أو فيما كان على سمتها من البلاد العيون إذا طلع بين عينيه، أو الثريا على عينه اليمنى، أو الشولة إذا غربت بين كتفيه، أو القطب على صفحة خده الأيسر، أو مشرق الصيف قبالته، أو مغرب الشتاء خلفه أو ريح الصبا على عينه اليمنى، أو الشمال على حاجبه الأيسر، أو الدبور على أذنه اليسرى، أو الجنوب على كتفه الأيمن، فقد استقبل جهة الكعبة. وأعلم أن أهل الأندلس والمغرب من أهل إفريقية وطرابلس وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من دون الركن الغربي بسبعة أذرع إلى الركن الغربي، فمن جعل في إحدى هذه البلاد وما كان على سمتها الثريا إذا طلعت بين عينيه، والشعرى خلف ظهره، أو الشمال على كتفه الأيسر. أو الجنوب على كتفه الأيمن فقد استقبل جهة الكعبة. ج / 1 ص -184- واعلم أن أهل الإسكندرية ومصر إلى القيروان إلى تاهرت والسوس، والمغرب الأقصى إلى البحر الأسود، وما كان من البلاد على سمت ذلك، يستقبلون في صلاتهم من الركن الغربي إلى ميزاب الكعبة، فمن جعل إحدى هذه البلاد الأحمرة إذا طلعت بين عينيه، أو بنات نعش إذا غربت على كتفه الأيسر، وإذا طلعت على أذنه اليسرى، أو الشمال خلف أذنه اليسرى، أو ريح الصبا على جبينه الأيمن أو الشمال خلف أذنه اليسرى، أو الدبور خلفه، أو الجنوب على عينه اليمنى، فقد استقبل جهة الكعبة. واعلم أن أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الحجاز والرملة، وبيت المقدس، وفلسطين، وما كان على سمت ذلك من البلاد يستقبلون في صلاتهم ميزاب الكعبة، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلتين بالغائط أو بالبول لأن من كان بالمدينة واستقبل الكعبة فقد استدبر صخرة بيت المقدس، وقد كانت قبلته، ومن استدبر الكعبة فقد استقبل الصخرة، وكأن في نهيه عن استدبار القبلتين نهيا عن استقبال الكعبة واستدبارها، ثم قال: ولكن شرقوا أو غربوا لتكون الكعبة عن يمينه وبيت المقدس عن شماله أو الكعبة عن شماله وبيت المقدس عن يمينه فهذا خاص لأهل المدينة وما كان على سمتهم، فمن كان في إحدى هذه البلاد فجعل بنات نعش إذا غربت خلفه، أو سهيلا إذا طلع بين عينيه، أو النسر الواقع إذا طلع على أذنه اليسرى، وإذا غرب خلف أذنه اليمنى، أو ريح الصبا على عينه اليسرى، أو الشمال خلف أذنه اليسرى، أو الدبور خلف أذنه اليمنى، أو الجنوب على حاجبه الأيمن، فقد استقبل جهة الكعبة. واعلم أن الشمال كلها خلا الرملة، وبيت المقدس، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من ميزاب الكعبة إلى الركن الشامي، فمن جعل في إحدى هذه البلاد بنات نعش الكبرى إذا طلعت خلف أذنه اليسرى، أو الجدي إذا علا على منكبه الأيسر، أو الهقعة إذا طلعت عن شماله، أو الصبا على صفحة خده الأيسر، أو الشمال على مرجع الكتف الأيمن، أو الدبور على أذنه اليمنى إلى ما يلي قفاه، أو الجنوب تلقاء وجهه، كان مستقبلا لجهة الكعبة. واعلم أن أهل ملطية، وسمياط، والمرس، وأرمينيا إلى باب الأبواب، وما كان من البلاد على سمت ذلك يستقبلون في صلاتهم من الركن الشامي إلى مصلى آدم عليه السلام، فمن جعل في إحدى هذه البلاد، وما كان من البلاد، وعلى سمتها العيوق إذا طلع خلف أذنه اليسرى إلى قفاه، وإذا غرب على جنبه الأيمن، أو القطب على أذنه اليمنى إلى خلف قفاه، أو مشرق الشتاء على العظم الذي خلف أذنه اليسرى، أو ريح الصبا على كتفه الأيسر، أو الشمال على صفحة خده الأيمن. أو الدبور على عاتقه الأيمن أو الجنوب على عينه اليسرى، فقد استقبل جهة الكعبة. ج / 1 ص -185- ولا بد لمن أراد استعمال ما ذكرته في كتابي هذا أو العمل به من معرفة ما ذكرته من الكواكب، وهي يسيرة فيعرفها بأعيانها، وكذلك الرياح ومهابها فإنه يصل إلى بغيته ومراده إن شاء الله تعالى... انتهى. ووقع فيما ذكره ابن جماعة وابن سراقة ما يقتضي أن مصلى آدم عليه السلام في جهة الكعبة الشرقية فيما بين بابها والركن الشامي الذي يلي الحجر، بسكون الجيم، وأن مصلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود، وذلك يحتاج إلى زيادة بيان رجاء معرفته، ليحصل الفوز بالصلاة فيه، وليس في كلام ابن جماعة ما يقتضي ذلك، وفي كلام ابن سراقة ما يقتضي زيادة بيان في ذلك، لأنه قال في أوائل كتابه المذكور: ومن الباب يعني باب الكعبة إلى مصلى آدم عليه السلام حين فرغ من طوافه، وأنزل الله عز وجل عليه التوبة وهي موضع الخلوق من أرز الكعبة: أرجح من تسعة أذرع، وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين، ثم قال ابن سراقة: وبين موضع الخلوق وهي مصلى آدم عليه السلام وبين الركن الشامي ثمانية أذرع... انتهى. وقال ابن سراقة في بيان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بين الركن اليماني والحجر الأسود: وعرض جدارها -يعني الكعبة- الذي يلي اليمن، وهو فيما بين الركن اليماني والركن العراقي الذي فيه الحجر الأسود: عشرون ذراعا، وإلى وسط هذا الجدار كان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى المدينة... انتهى. والذراع الذي أشار إليه ابن سراقة في هو ذراع اليد، وهو ينقص عن ذراع الحديد ثمن ذراع كما سبق ذكره في حدود الحرام، وقد تحرر لي مما ذكره ابن سراقة في ذرع ما بين الركن الشامي ومصلى آدم عليه السلام أن يكون مصلى آدم ظنا بقرب الحفرة المرخمة التي في وجه الكعبة، بحيث يكون من المصلى إلى الحفرة ثلاثة أذرع إلا ثلث ذراع بالحديد. ويعرف أيضا مصلى آدم عليه السلام بأن بينه وبين الحفرة المشار إليها ست رخامات من الرخام الذي هو الآن في شاذروان الكعبة إلا أربع أصابع، وتحت الرخام ثلاثة أحجار صفر إلا أن الحجر الثالث يزيد على الست الرخامات فوقه قليلا، وكان تحريري لذلك مع من يعتمد عليه من أصحابنا في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة وثمانمائة، بعد أن اعتبرنا ما ذكره ابن سراقة في ذلك، فوافق لأنا ذرعنا مقدار ثمانية أذرع بالبلد، ووضعنا عند طرف ركن الكعبة الشامي، ومددناه إلى حيث انتهى من جدار الكعبة، ثم ذرعنا ذلك بذراع الحديد فجاء سبعة أذرع بتقديم السين وثمن ذراع بالحديد، فعرفنا بذلك أن موضع منتهى الثمانية أذرع باليد أو السبعة بتقديم السين والثمن ج / 1 ص -186- بالحديد موضع مصلى آدم عليه السلام ظنا، وهو الموضع الذي أشرنا إليه، والله أعلم. وحررنا في التاريخ المذكور موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم بين الركن اليماني والحجر الأسود، وعلى مقتضى ما ذكره ابن سراقة من أنه في وسط هذا الجدار، فإذا هو موضع الرخامة البيضاء المكتوب فيها: أمر بتجديد المطاف الشريف العبد الفقير الراجي عفو ربه الغفور الملك المنصور لاجين1 وبعد ذلك سطر مكشوط، وإنما كان هذا الموضع موضع مصلي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجهة على ما ذكر ابن سراقة في تحريره، لأنا ذرعنا ما بين الحجر الأسود وهذه الرخامة فوجدناه ثمانية أذرع وثمن بالحديد، وكذلك ما بين هذه الرخامة وبين الركن اليماني، فعرفنا بذلك أن هذه الرخامة وسط هذا الجدار، وأنها على مقتضى ما ذكر ابن سراقة موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجهة، والله أعلم. على أنى رأيت ما يدل بخلاف ما ذكره ابن سراقة في تحرير موضع مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية، وهو أيضا يخالف ما ذكره ابن جمعة في ذلك، لأن الأزرقي قال فيما رويناه عنه: حدثني محمد بن يحيى قال: حدثني هشام بن سليمان المخزومي عن عبد الله بن أبي سليمان المخزومي أنه قال: طاف آدم عليه السلام سبعا بالبيت حين نزل، ثم صلى وجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى الملتزم فقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، والرضا بما قضيت علي، قال: فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم قد دعوتني بدعوات فاستجبت لك، ولن يدعوني بها أحد من ولدك إلا كشفت غمومه وهمومه، وكففت عليه صنعته ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، وتجرت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة، وإن كان لا يريدها2. وروينا في "دلائل اليقين" لابن أبي الدنيا بسنده، عن عوف بن خالد قال: وجدت في بعض الكتب آن آدم عليه السلام ركع إلى جانب الركن اليماني ركعتين ثم قال: اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي رضيت بما قسمت لي، فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم إنه حق علي أن لا يلزم أحد من ذريتك هذا الدعاء إلا أعطيته ما يحب، ونجيته مما يكره، ونزعت أمل الدنيا والفقر من بين عينيه وملأت جوفه حكمة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 هو السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين سلطان الديار المصرية، تسلطن في عاشر صفر سنة 696هـ، وقتل في عاشر ربيع الآخر سنة 698هـ. 2أخبار مكة للأزرقي 1/ 44. ج / 1 ص -187- وهذا الخبران يقتضيان أن موضع مصلى آدم عليه السلام موضع الشقة الثالثة من كسوة الكعبة في وجهة الباب الذي يلي الركن الشامي عند باب الحجر. وقال بعض الناس إن الموضع الذي تاب الله فيه على آدم عليه السلام دبر الكعبة عند الباب الذي فتحه ابن الزبير رضي الله عنهما من دبرها عند الركن اليماني، والقول الأول أحب إليهم وأعجب من أجل الحديث... انتهى. وفيه دلالة لما ذكر ابن سراقة في موضع مصلى آدم عليه السلام في الجهة الشرقية والله أعلم. وللنبي مصليات أُخَر عند الكعبة في جهتها الشرقية وغيرها، يأتي التنبيه عليها في الباب السابع عشر إن شاء الله تعالى. شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج / 1 ص -188- الباب التاسع: ذكر بيان مصلى النبي في الكعبة: أخبرني إبراهيم بن محمد المؤذن سماعا بالمسجد أن أحمد بن أبي طالب الحجار الصالحي، أخبره عن ابن اللتي وابن بهروز قالا: أنبأنا أبو الوقت السجزي قال: أنبأنا أبو الحسن الداودي قال: أنبأنا أبو محمد بن حمدويه قال: أنبأنا إبراهيم بن خزيم قال: أنبأنا عبد بن حميد قال: حدثني سليمان بن حرب قال: حدثنا ابن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة، إلى عثمان بن طلحة وأسامة وبلال- رضي الله عنهم، فلما خرجوا ابتدرهم الناس، فقلت لبلال: أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال: بين العمودين المقدمين تلقاء وجهه. أخرجه مسلم في صحيحه1 عن قتيبة بن سعيد وأبي الربيع والزهري وأبي كامل الجحدري عن حماد. فوقع لنا بدلا له عاليا بدرجة. ووقع لنا أعلى من هذا بدرجة، من حديث إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي، عن نافع، عن ابن عمر، أخبرني به أبو هريرة ابن الحافظ الذهبي بقراءتي عليه بغوطة دمشق في الرحلة الأولى: أن عيسى بن عبد الرحمن بن المطعم أخبرهم سماعا في الثالثة وأجازه، والقاضي تقي الدين سليمان بن حمزة الحنبلي أجازه قالا: أنبأنا ابن اللتي قال: أنبأنا أبو الوقت قال: أخبرتنا لُبنَى بنت عبد الصمد الهرثمية قالت: أنبأنا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ورواه بروايات مختلفة "1329" في "الحج: باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها". ج / 1 ص -189- عبد الرحمن بن أبي شريح قال: أنبأنا أبو القاسم البغوي قال: حدثنا مصعب قال: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقها عليهم ومكث فيها، قال عبد الله بن عمر: فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره وثلاث أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى. هذا حديث متفق عليه على صحته وثبوته من حديث مالك رضي الله عنه ووقع لنا عاليا جدا من حديثه، وقد أوضح ابن عمر رضي الله عنه موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة إيضاحا أكثر مما في هذا الحديث، لأن البخاري قال فيما روينا عنه: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه حتى يدخل ويجعل الباب قبل الظهر، يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع، فيصلي بنواحي المكان الذي أخبره بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وليس على أحد بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء1. وروينا في تاريخ الأزرقي أن معاوية رضي الله عنه استدعى ابن عمر رضي الله عنه وهو في الكعبة فقال: يا أبا عبد الرحمن أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام دخلها؟ فقال: بين العمودين المقدمين، اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة2... انتهى باختصار. ولشيخنا الحافظ الحجة أبي الفضل العراقي كلام حسن في تعيين مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، لأنه قال فيما أنبأنا بعد ذكر الأحاديث الواردة في هذا المعنى فتلخص من هذه الطرق: أن مصلى النبي صلى الله عليه وسلم من البيت: أن الداخل من الباب يسير تلقاء وجهه حتى يدخل إلى أن يجعل بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع أو ذراعين أو ما بينهما لاختلاف الطرق فيه، قال: وينبغي أن لا يجعل بينه وبين الجدار أقل من ثلاثة أذرع، فإن كان الواقع أنهم ثلاثة فقد مصلاه، وإن كان ذراعين فقد وقع وجه المصلي وذراعاه في مكان قدمي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أولى من التقدم عنه، والله أعلم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ذكر ابن هشام ذلك في سيرته 2/ 275. 2 أخبار مكة للأزرقي 1/ 271. ج / 1 ص -190- ذكر قدر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة في دخوله هذا: أما قدر هذه الصلاة: فركعتان على ما رويناه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعن بلال من رواية ابن عمر رضي الله عنهما وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، كما روينا في "شرح معاني الآثار" للطحاوي1، وعن عمر رضي الله عنه أيضا كما روينا فيه عن عبد الرحمن بن صفوان رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه وجماعة ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وعن عثمان بن طلحة رضي الله عنه أيضا، كما رويناه فيه، وهو مقتضى حديث شيبة بن عثمان الحجبي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما ولا يثبت عنه، وعبد الرحمن بن صفوان القرشي، وعثمان بن طلحة الحجبي، وعمر بن الخطاب أمير المؤمنين كما سيأتي مبينا في الترجمة التي بعد هذه الترجمة، ونشير هنا لحديث ابن عمر، وبلال رضي الله عنهما لموجب اقتضى ذلك. فأما الحديث المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما في ذلك من غير ذكر بلال فيه، فإنا رويناه في مسند أحمد بن حنبل؛ لأن عبد الله بن أحمد بن حنبل2 قال في مسند أبيه وجدت في كتاب أبي: حدثنا يزيد قال: أنبأنا شعبة عن سماك يعني الحنفي قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ركعتين. وأما الحديث الذي رويناه عن بلال رضي الله عنه في ذلك من رواية ابن عمر رضي الله عنهما ففي صحيح البخاري، لأنه قال في كتاب الصلاة: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن سيف قال: سمعت مجاهدا قال: أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقيل له: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فقال ابن عمر: فأقبلت والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، فوجدت بلالا قائما بين الناس فسألت بلالا فقلت: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ فقال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين. وأخرجه النسائي أيضا فقال: أخبرنا سليمان قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سيف بن سليمان... فذكره. وروينا ذلك في سنن النسائي أيضا من رواية السائب بن عمر، عن ابن مليكة، عن ابن عمر رضي
كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي منصور
ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...
-
ال كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها{2 جزء} المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ) المحقق: فؤاد علي ...
-
فضائل بقية الصحابة لأحمد بن حنبل { فضائل بقية الصحابة } 1. فضائل عبد الرحمن بن عوف - فضائل الزبير بن العوام - فضائل أبي عبيدة بن ...
-
ج31.كتاب مفاتيح الغيب فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني أثقل وأغلظ على ...